فصل: تفسير الآية رقم (25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (25):

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)}
يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أي: بالمعجزات، والحجج الباهرات، والدلائل القاطعات، {وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} وهو: النقل المصدق {وَالْمِيزَانَ} وهو: العدل. قاله مجاهد، وقتادة، وغيرهما. وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة، كما قال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [هود: 17]، وقال: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، وقال: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7]؛ ولهذا قال في هذه الآية: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} أي: بالحق والعدل وهو: اتباع الرسل فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به، فإن الذي جاؤوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} [الأنعام: 115] أي: صدقًا في الإخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي. ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوؤوا غرف الجنات، والمنازل العاليات، والسرر المصفوفات: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43].
وقوله: {وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي: وجعلنا الحديد رادعًا لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه؛ ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية، وكلها جدال مع المشركين، وبيان وإيضاح للتوحيد، وتبيان ودلائل، فلما قامت الحجة على من خالف شرع الله الهجرة، وأمرهم بالقتال بالسيوف، وضرب الرقاب والهام لمن خالف القرآن وكذب به وعانده.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود، من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن حسان بن عطية، عن أبي المنيب الجرشي الشامي، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُعِثتُ بالسيف بين يَدَي الساعة حتى يُعبَد الله وحده لا شريك له، وجُعِل رزقي تحت ظِلّ رُمْحي، وجعل الذلة والصِّغار على من خالف أمري، ومن تَشبَّه بقوم فهو منهم».
ولهذا قال تعالى: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} يعني: السلاح كالسيوف، والحراب، والسنان، والنصال، والدروع، ونحوها. {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أي: في معايشهم كالسكة والفأس والقدوم، والمنشار، والإزميل، والمجرفة، والآلات التي يستعان بها في الحراثة والحياكة والطبخ والخبز وما لا قوام للناس بدونه، وغير ذلك.
قال عِلْباء بن أحمد، عن عِكْرِمة، أن ابن عباس قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم: السندان والكلْبَتان والميقعَة- يعني المطرقة. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
وقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} أي: من نيته في حمل السلاح نصرة الله ورسله، {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي: هو قوي عزيز، ينصر من نصره من غير احتياج منه إلى الناس، وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعض.

.تفسير الآيات (26- 27):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)}
يخبر تعالى أنه منذ بعث نوحًا، عليه السلام، لم يرسل بعده رسولا ولا نبيًّا إلا من ذريته، وكذلك إبراهيم، عليه السلام، خليل الرحمن، لم ينزل من السماء كتابًا ولا أرسل رسولا ولا أوحى إلى بشر من بعده، إلا وهو من سلالته كما قال في الآية الأخرى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} يعني حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن مريم الذي بشر من بعده بمحمد، صلوات الله وسلامه عليهما؛ ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ}.
وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} وهم الحواريون {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} أي: رأفة وهي الخشية {وَرَحْمَةً} بالخلق.
وقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} أي: ابتدعتها أمة النصارى {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي: ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم.
وقوله: {إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} فيه قولان، أحدهما: أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، قال سعيد بن جبير، وقتادة. والآخر: ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله.
وقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام. وهذا ذم لهم من وجهين، أحدهما: في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله. والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله، عز وجل.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا إسحاق بن أبي حمزة أبو يعقوب الرازي، حدثنا السندي بن عبدويه حدثنا بُكَيْر بن معروف، عن مُقاتِل بن حَيَّان، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن جده بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ابن مسعود». قلت: لبيك يا رسول الله. قال: «هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة؟ لم ينج منها إلا ثلاث فرق، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم، عليه السلام، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقاتلت الجبابرة فقُتلت فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال، فقامت بين الملوك والجبابرة فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران، فصبرت ونجت. ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ولم تطق القيام بالقسط، فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت، وهم الذين ذكرهم الله، عز وجل: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}».
وقد رواه ابن جرير بلفظ آخر من طريق أخرى فقال: حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا داود بن المحبر، حدثنا الصَّعِق بن حَزْن، حدثنا عقيل الجعدي، عن أبي إسحاق الهمداني، عن سُوَيْد بن غفلة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اختلف من كان قبلنا على ثلاث وسبعين فرقة، نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم...» وذكر نحو ما تقدم، وفيه: «{فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} هم الذين آمنوا بي وصدقوني {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} وهم الذين كذبوني وخالفوني».
ولا يقدح في هذه المتابعة لحال داود بن المحبر، فإنه أحد الوضاعين للحديث، ولكن قد أسنده أبو يعلى، وسنده عن شيبان بن فَرُّوخ، عن الصَّعِق بن حَزْن، به مثل ذلك فقوي الحديث من هذا الوجه.
وقال ابن جرير، وأبو عبد الرحمن النسائي- واللفظ له-: أخبرنا الحسين بن حُرَيْث، حدثنا الفضل بن موسى، عن سفيان بن سعيد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: كان ملوك بعد عيسى، عليه السلام، بدلت التوراة والإنجيل، فكان منهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل، فقيل لملوكهم: ما نجد شيئًا أشد من شتم يشتمونا هؤلاء، إنهم يقرؤون: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، هذه الآيات، مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم، فادعهم فليقرؤوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما آمنا. فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل، إلا ما بدلوا منها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك؟ دعونا: فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم. وقالت طائفة: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا. وقالت طائفة: ابنوا لنا دورًا في الفيافي، ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم. وليس أحد من القبائل إلا له حميم فيهم، ففعلوا ذلك فأنزل الله، عز وجل: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} والآخرون قالوا: نتعبد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دورًا كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا القليل، انحط منهم رجل من صومعته، وجاء سائح من سياحته، وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدقوه، فقال الله، عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} أجرين بإيمانهم بعيسى ابن مريم والتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم قال {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28]: القرآن، واتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الذين يتشبهون بكم {أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
هذا السياق فيه غرابة، وسيأتي تفسير هاتين الآيتين الأخريين على غير هذا، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا عبد الله بن وهب، حدثني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء: أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير، وهو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر أو قريبًا منها، فلما سلم قال: يرحمك الله، أرأيت هذه الصلاة المكتوبة، أم شيء تنفلته؟ قال: إنها المكتوبة، وإنها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخطأت إلا شيئًا سهوت عنه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم». ثم غدوا من الغد فقالوا: نركب فننظر ونعتبر قال: نعم فركبوا جميعًا، فإذا هم بديار قفر قد باد أهلها وانقرضوا وفنوا، خاوية على عروشها فقالوا: تعرف هذه الديار؟ قال: ما أعرفني بها وبأهلها. هؤلاء أهل الديار، أهلكهم البغي والحسد، إن الحسد يطفئ نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه، والعين تزني والكف والقدم والجسد واللسان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعمُر، حدثنا عبد الله، أخبرنا سفيان، عن زيد العَمِّي، عن أبي إياس، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل».
ورواه الحافظ أبو يعلى، عن عبد الله بن محمد بن أسماء، عن عبد الله بن المبارك به ولفظه: «لكل أمة رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله».
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين- هو ابن محمد- حدثنا ابن عياش- يعني إسماعيل- عن الحجاج بن مروان الكلاعي، وعقيل بن مدرك السلمي، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رجلا جاءه فقال: أوصني فقال: سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبلك، أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض.
تفرد به أحمد.

.تفسير الآيات (28- 29):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}
قد تقدم في رواية النسائي عن ابن عباس: أنه حمل هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب، وأنهم يؤتون أجرهم مرتين كما في الآية التي في القصص وكما في حديث الشعبي عن أبي بُرْدَة، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مَوَاليه فله أجران، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران». أخرجاه في الصحيحين.
ووافق ابن عباس على هذا التفسير الضحاك، وعتبة بن أبي حكيم، وغيرهما، وهو اختيار ابن جرير.
وقال سعيد بن جبير: لما افتخر أهلُ الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله هذه الآية في حق هذه الأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} أي: ضعفين، وزادهم: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} يعني: هدى يُتَبَصَّر به من العمى والجهالة، ويغفر لكم. فضلهم بالنور والمغفرة.
ورواه ابن جرير عنه.
وهذه الآية كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].
وقال سعيد بن عبد العزيز: سأل عمر بن الخطاب حَبْرًا من أحبار يهود: كم أفضل ما ضعفت لكم حسنة؟ قال: كفل ثلاثمائة وخمسون حسنة. قال: فحمد الله عمر على أنه أعطانا كفلين. ثم ذكر سعيد قول الله، عز وجل: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} قال سعيد: والكفلان في الجمعة مثل ذلك. رواه ابن جرير.
ومما يؤيد هذا القول ما رواه الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال: من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ ألا فعملت اليهود. ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ ألا فعملت النصارى. ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذي عملتم. فغضبت النصارى واليهود، وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء. قال: هل ظلمتكم من أجركم شيئا؟ قالوا: لا. قال: فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء».
قال أحمد: وحدثناه مُؤَمَّل، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، نحو حديث نافع، عنه.
انفرد بإخراجه البخاري، فرواه عن سليمان بن حرب، عن حماد، عن أيوب عن نافع، به وعن قتيبة، عن الليث، عن نافع، بمثله.
وقال البخاري: حدثنى محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة، عن بَريد عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قومًا يعملون له عملا يومًا إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا إلى نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل. فقال لهم: لا تفعلوا، أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتَرَكُوا، واستأجر آخرين بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر قالوا: ما عملنا باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه. فقال أكملوا بقية عملكم؛ فإن ما بقي من النهار شيء يسير. فأبوا، فاستأجر قومًا أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس، فاستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور». انفرد به البخاري.
ولهذا قال تعالى: {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي: ليتحققوا أنهم لا يقدرون على رَدّ ما أعطاه الله، ولا على إعطاء ما منع الله، {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
قال ابن جرير: {لِئَلا يَعْلَمَ} أي: ليعلم وقد ذكر عن ابن مسعود أنه قرأها: {لكي يعلم}.
وكذا حطَّان بن عبد الله، وسعيد بن جبير، قال ابن جرير: لأن العرب تجعل لا صلة في كل كلام دخل في أوله وآخره جحد غير مصرح، فالسابق كقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12]، {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]، {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95].