فصل: تفسير الآيات (6- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (6- 7):

{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)}
يقول تعالى مبينًا لما الفيء وما صفته؟ وما حكمه؟ فالفيء: فكلّ مال أخذ من الكفار بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، كأموال بني النضير هذه، فإنها مما لم يُوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، أي: لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة، بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاءه الله على رسوله؛ ولهذا تصرف فيه كما شاء، فردّه على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله، عز وجل، في هذه الآيات، فقال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} أي: من بني النضير {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} يعني: الإبل، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: هو قدير لا يغالب ولا يمانع، بل هو القاهر لكل شيء.
ثم قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} أي: جميع البلدان التي تُفتَح هكذا، فحكمها حكم أموال بني النضير؛ ولهذا قال: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} إلى آخرها والتي بعدها. فهذه مصارفُ أموال الفيء ووجوهه.
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن عمرو ومَعْمَر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحَدَثان، عن عمر، رضي الله عنه، قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله إلى رسوله مما لم يُوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته- وقال مَرّة: قوت سنته- وما بقي جعله في الكُرَاع والسلاح في سبيل الله، عز وجل.
هكذا أخرجه أحمد هاهنا مختصرًا، وقد أخرجه الجماعة في كتبهم- إلا ابن ماجه- من حديث سفيان، عن عمرو بن دينار، عن الزهري، به وقد رويناه مطولا فقال أبو داود، رحمه الله:
حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن يحيى بن فارس- المعنى واحد- قالا حدثنا بشرِ بن عُمَر الزهراني، حدثني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس قال: أرسل إلىَّ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين تعالى النهار، فجئته فوجدته جالسًا على سرير مُفضيًا إلى رُماله، فقال حين دخلت عليه: يا مال، إنه قد دَفّ أهل أبيات من قومك، وقد أمرت فيهم بشيء، فاقسم فيهم. قلت: لو أمرتَ غيري بذلك؟ فقال: خذه. فجاءه يرفا، فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص؟ فقال: نعم. فأذن لهم فدخلوا، ثم جاءه يرفا فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في العباس وعلي؟ قال: نعم. فأذن لهم فدخلوا، فقال العباس: يا أمير المؤمنين، اقض بيني وبين هذا- يعني: عليًا- فقال بعضهم: أجل يا أمير المؤمنين، اقض بينهما وأرحهما. قال مالك بن أوس: خُيّل إليَّ أنهما قَدّما أولئك النفر لذلك. فقال عمر، رضي الله عنه: اتئدا. ثم أقبل على أولئك الرهط فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نُورَث، ما تركنا صدقة». قالوا: نعم. ثم أقبل على عليّ والعباس فقال: أنشدُكُما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة». فقالا نعم. فقال: فإن الله خص رسوله بخاصة لم يخص بها أحدًا من الناس، فقال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فكان الله أفاء إلى رسوله أموال بني النضير، فوالله ما استأثر بها عليكم ولا أحرزها دونكم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منها نفقة سنة- أو: نفقته ونفقة أهله سنة- ويجعل ما بقي أسوة المال. ثم أقبل عليَّ أولئك الرهط فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض: هل تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم. ثم أقبل على عليٍّ والعباس فقال: أنشدُكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض: هل تعلمان ذلك؟ قالا نعم. فلما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: «أنا وليّ رسول الله»، فجئت أنتَ وهذا إلى أبي بكر، تطلب أنت ميراثك عن ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر، رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث، ما تركنا صدقة». والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق. فوليها أبو بكر، فلما توفي قلتُ: أنا وَلِيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليّ أبي بكر، فَوليتها ما شاء الله أن أليها، فجئت أنت وهذا، وأنتما جَميع وأمركما واحد، فسألتمانيها، فقلت: إن شئتما فأنا أدفعها إليكما على أنّ عليكما عهد الله أن تلياها بالذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يليها، فأخذتماها مني على ذلك، ثم جئتماني لأقضي بينكما بغير ذلك. والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عَجَزتُما عنها فَرُدّاها إلي.
أخرجوه من حديث الزهري، به.
وقال الإمام أحمد:
حدثنا عارم وعفان قالا حدثنا معتمر، سمعت أبي يقول: حدثنا أنس بن مالك، عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل كان يجعل له من ماله النخلات، أو كما شاء الله، حتى فُتحَت عليه قريظة والنضير. قال: فجعل يَرُدّ بعد ذلك، قال: وإن أهلي أمروني أن آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله الذي كان أهله أعطوه أو بعضه، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه أمّ أيمن، أو كما شاء الله، قال: فسألتُ النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيهن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوبَ في عنقي وجعلت تقول: كلا والله الذي لا إله إلا هو لا يُعطيكَهُنّ وقد أعطانيهن، أو كما قالت، فقال نبي الله: «لك كذا وكذا». قال: وتقول: كلا والله. قال ويقول: «لك كذا وكذا». قال: وتقول: كلا والله. قال: «ويقول: لك كذا وكذا». قال: حتى أعطاها، حسبت أنه قال: عشرة أمثال أو قال قريبًا من عشرة أمثاله، أو كما قال.
رواه البخاري ومسلم من طُرُق عن معتمر، به.
وهذه المصارف المذكورة في هذه الآية هي المصارف المذكورة في خُمس الغَنيمة. وقد قدمنا الكلام عليها في سورة الأنفال بما أغنى عن إعادته هاهنا، ولله الحمد.
وقوله: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} أي: جعلنا هذه المصارف لمال الفيء لئلا يبقى مأكلة يتغلب عليها الأغنياء ويتصرفون فيها، بمحض الشهوات والآراء، ولا يصرفون منه شيئًا إلى الفقراء.
وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} أي: مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن العوفي، عن يحيى بن الجزار، عن مسروق قال: جاءت امرأة إلى ابن مسعود فقالت: بلغني أنك تنهى عن الواشمة والواصلة، أشيء وجدته في كتاب الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، شيء وجدته في كتاب الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: والله لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف فما وجدت فيه الذي تقول!. قال: فما وجدت فيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}؟ قالت: بلى. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الواصلة والواشمة والنامصة. قالت: فلعله في بعض أهلك. قال: فادخلي فانظري. فدخلت فَنَظرت ثم خرجَت، قالت: ما رأيتُ بأسا. فقال لها: أما حفظت وصية العبد الصالح: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم عن علقمة، عن عبد الله- هو ابن مسعود- قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمُتفَلجات للحُسْن، المغيرات خلق الله، عز وجل. قال: فبلغ امرأة في البيت يقال لها: أم يعقوب، فجاءت إليه فقالت: بلغني أنك قلت كيتَ وكيتَ. قال: ما لي لا ألعن من لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب الله. فقالت: إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته. فقال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه. أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}؟ قالت: بلى. قال: فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه. قالت: إني لأظن أهلك يفعلونه. قال: اذهبي فانظري.
فذهَبت فلم تر من حاجتها شيئا، فجاءت فقالت: ما رأيتُ شيئًا. قال: لو كانت كذلك لم تُجَامعنا.
أخرجاه في الصحيحين، من حديث سفيان الثوري.
وقد ثبت في الصحيحين أيضًا عن أبي هُرَيرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه».
وقال النسائي: أخبرنا أحمد بن سعيد، حدثنا يزيد، حدثنا منصور بن حيان، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عُمَر وابن عباس: أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن الدُّباء والحَنْتَم والنَّقير والمزَفَّت، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي: اتقوه في امتثال أوامره وترك زواجره؛ فإنه شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره وأباه، وارتكب ما عنه زجره ونهاه.

.تفسير الآيات (8- 10):

{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)}
يقول تعالى مبينًا حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} أي: خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أي: هؤلاء الذين صَدَقوا قولهم بفعلهم، وهؤلاء هم سادات المهاجرين.
ثم قال تعالى مادحًا للأنصار، ومبينًا فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حَسَدهم، وإيثارهم مع الحاجة، فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم.
قال عمر: وأوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم كرامتهم. وأوصيه بالأنصار خيرًا الذين تَبوّءوا الدار والإيمان من قبل، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم. رواه البخاري هاهنا أيضًا.
وقوله: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} أي: مِنْ كَرَمهم وشرف أنفسهم، يُحبّون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حميد، عن أنس قال: قال المهاجرون: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل ولا أحسن بذلا في كثير، لقد كَفَونا المَؤنة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله! قال: «لا ما أثنيتم عليهم ودَعَوتُمُ الله لهم».
لم أره في الكتب من هذا الوجه.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يُقطع لهم البحرين، قالوا: لا إلا أن تُقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها. قال: «إما لا فاصبروا حتى تلقوني، فإنه سيصيبكم بعدي أثرة».
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
قال البخاري: حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: لا. فقالوا: تكفونا المؤنَةَ ونَشرككُم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا.
تفرد به دون مسلم.
{وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} أي: ولا يجدون في أنفسهم حسدًا للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف، والتقديم في الذكر والرتبة.
قال: الحسن البصري: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} يعني: الحسد.
{مِمَّا أُوتُوا} قال قتادة: يعني فيما أعطى إخوانهم.
وكذا قال ابن زيد. ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن أنس قال: كنا جُلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة». فطلع رجل من الأنصار تَنظُف لحيته من وضوئه، قد تَعَلَّق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى. فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلتُ. قال: نعم. قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تَعارّ تقلب على فراشه، ذكر الله وكبر، حتى يقوم لصلاة الفجر. قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، لم يكن بيني وبين أبي غَضَب ولا هَجْر ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرَار: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة». فطلعت أنت الثلاث المرار فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملكَ فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما هو إلا ما رأيت. فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجدُ في نفسي لأحد من المسلمين غِشّا، ولا أحسدُ أحدًا على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا تطاق.
ورواه النسائي في اليوم والليلة، عن سُوَيد بن نصر، عن ابن المبارك، عن معمر به وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري، عن رجل، عن أنس. فالله أعلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} يعني {مِمَّا أُوتُوا} المهاجرون. قال: وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم من الأنصار، فعاتبهم الله في ذلك، فقال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال: وقال رسول الله: «إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم». فقالوا: أموالنا بيننا قطائع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو غير ذلك؟». قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «هم قوم لا يعرفون العمل، فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر». فقالوا: نعم يا رسول الله.
وقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يعني: حاجة، أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أفضلُ الصدقة جَهدُ المقلّ». وهذا المقام أعلى من حال الذين وَصَف اللهُ بقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8]. وقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177].
فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه. ومن هذا المقام تصدق الصديق، رضي الله عنه، بجميع ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟». فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. وهذا الماء الذي عُرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل أحوجَ ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثلث، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير، حدثنا أبو أسامة، حدثنا فُضيل بن غَزوان، حدثنا أبو حازم الأشجعي، عن أبي هُرَيرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصابني الجهدُ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا رجل يُضَيّفُ هذا الليلة، رحمه الله؟». فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضَيفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَدّخريه شيئًا. فقالت: والله ما عندي إلا قوتُ الصبية. قال: فإذا أراد الصبيةُ العَشَاء فنوّميهم وتعالى فأطفئي السراج ونَطوي بطوننا الليلة. ففعلَت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «لقد عجب الله، عز وجل- أو: ضحك- من فلان وفلانة». وأنزل الله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
وكذا رواه البخاري في موضع آخر، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق، عن فضيل بن غزوان، به نحوه. وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة، رضي الله عنه.
وقوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح.
قال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا داود بن قيس الفراء، عن عُبَيد الله بن مِقْسَم، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظلّم، فإن الظُّلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشُحَّ، فإن الشّحَّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سَفَكُوا دماءهم واستَحلُّوا محارمهم».
انفرد بإخراجه مسلم، فرواه عن القَعْنَبِيّ، عن داود بن قيس، به.
وقال الأعمش وشعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، عن زهير بن الأقمر، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظُّلْم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفُحْش، فإن الله لا يحب الفحش ولا التَّفَحُّشَ، وإياكم والشُّحَّ؛ فإنه أهلكَ من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا».
ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة، والنسائي من طريق الأعمش، كلاهما عن عمرو بن مُرّة، به.
وقال الليث، عن يزيد بن الهاد عن سُهَيل بن أبي صالح، عن صفوان بن أبي يزيد، عن القعقاع بن اللجلاج عن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخانُ جهنم في جوف عبد أبدًا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أخبرنا ابن المبارك، حدثنا المسعودي، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني أخاف أن أكون قد هلكت فقال له عبد الله: وما ذاك؟ قال: سمعت الله يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وأنا رجل شحيح، لا أكاد أن أخرج من يدي شيئًا! فقال عبد الله: ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله في القرآن، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلمًا، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل.
وقال سفيان الثوري، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير، عن أبي الهياج الأسدي قال: كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلا يقول: اللهم قني شح نفسي. لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، رواه ابن جرير.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن إسحاق، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا إسماعيل ابن عَيّاش، حدثنا مُجَمع بن جارية الأنصاري، عن عمه يزيد بن جارية، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَريء من الشح مَن أدى الزكاة، وقَرَى الضيف، وأعطى في النائبة».
وقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء، وهم المهاجرون ثم الأنصار، ثم التابعون بإحسان، كما قال في آية براءة: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [التوبة: 100] فالتابعون لهم بإحسان هم: المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية؛ ولهذا قال في هذه الآية الكريم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ} أي: قائلين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا} أي: بغضًا وحسدًا {لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وما أحسن ما استنبط الإمام مالك من هذه الآية الكريمة: أن الرافضي الذي يسبّ الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: أمروا أن يستغفروا لهم، فسبوهم! ثم قرأت هذه الآية: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ} الآية.
وقال إسماعيل بن عُلَية، عن عبد الملك بن عمير، عن مسروق، عن عائشة قالت: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فسببتموهم. سمعتُ نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها». رواه البغوي.
وقال أبو داود: حدثنا مُسَدَّد، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب، عن الزهري قال: قال عمر، رضي الله عنه: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} قال الزهري: قال عمر: هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، قُرى عربية: فَدَك وكذا وكذا، فما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل وللفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} فاستوعبت هذه الآية الناس، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق- قال أيوب: أو قال: حظ- إلا بعض من تملكون من أرقائكم. كذا رواه أبو داود، وفيه انقطاع.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن أيوب، عن عكرمة ابن خالد، عن مالك بن أوس بن الحَدَثان قال: قرأ عمر بن الخطاب: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} حتى بلغ {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]، ثم قال هذه لهؤلاء، ثم قرأ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الأنفال: 41]، ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} حتى بلغ للفقراء {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ} {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ثم قال: استوعبت هذه الآية المسلمين عامة، وليس أحد إلا له فيها حق، ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي- وهو بَسرو حِمير- نصيبه فيها، لم يعرق فيها جبينه.