فصل: تفسير الآيات (10- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (10- 18):

{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا (18)}
يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقوله من كذبه من سفهاء قومه، وأن يهجرهم هجرًا جميلا وهو الذي لا عتاب معه. ثم قال له متوعدًا لكفار قومه ومتهددًا- وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شيء-: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} أي: دعني والمكذبين المترفين أصحابَ الأموال، فإنهم على الطاعة أقدر من غيرهم وهم يطالبون من الحقوق بما ليس عند غيرهم، {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا} أي: رويدا، كما قال: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24]؛ ولهذا قال هاهنا: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا} وهي: القيود. قاله ابن عباس، وعكرمة، وطاوس، ومحمد بن كعب، وعبد الله بن بريدة، وأبو عمران الجوني، وأبو مِجلَز، والضحاك، وحماد بن أبي سلمان، وقتادة والسدي، وابن المبارك والثوري، وغير واحد، {وَجَحِيمًا} وهي السعير المضطرمة.
{وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} قال ابن عباس: ينشب في الحلق فلا يدخل ولا يخرج.
{وَعَذَابًا أَلِيمًا يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ} أي: تزلزل، {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا} أي: تصير ككثبان الرمل بعد ما كانت حجارة صماء، ثم إنها تنسف نسفا فلا يبقى منها شيء إلا ذهب، حتى تصير الأرض قاعًا صفصفا، لا ترى فيها عوجًا، أي: واديا، ولا أمتا، أي: رابية، ومعناه: لا شيء ينخفض ولا شيء يرتفع.
ثم قال مخاطبًا لكفار قريش، والمراد سائر الناس: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} أي: بأعمالكم، {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا} قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، والثوري: {أَخْذًا وَبِيلا} أي: شديدا، أي فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول، فيصيبكم ما أصاب فرعون، حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، كما قال تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى} [النازعات: 25] وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم؛ لأن رسولكم أشرف وأعظم من موسى بن عمران. ويُروَى عن ابن عباس ومجاهد.
وقوله: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} يحتمل أن يكون {يَوْمًا} معمولا لتتقون، كما حكاه ابن جرير عن قراءة ابن مسعود: «فكيف تخافون أيها الناس يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم بالله ولم تصدقوا به؟» ويحتمل أن يكون معمولا لكفرتم، فعلى الأول: كيف يحصلُ لكم أمان من يوم هذا الفزع العظيم إن كفرتم؟ وعلى الثاني: كيف يحصل لكم تقوى إن كفرتم يوم القيامة وجحدتموه؟ وكلاهما معنى حسن، ولكن الأول أولى، والله أعلم.
ومعنى قوله: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} أي: من شدة أهواله وزلازله وبلابله، وذلك حين يقول الله لآدم: ابعث بعث النار. فيقول مِن كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة.
قال الطبراني: حدثنا يحيى بن أيوب العلاف، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا نافع بن يزيد، حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} قال: «ذلك يوم القيامة، وذلك يوم يقول الله لآدم: قم فابعث من ذريتك بعثا إلى النار. قال: من كم يا رب؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وينجو واحد». فاشتد ذلك على المسلمين، وعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال حين أبصر ذلك في وجوههم: «إن بني آدم كثير، وإن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، وإنه لا يموت منهم رجل حتى يرثه لصلبه ألف رجل. ففيهم وفي أشباههم جنة لكم».
هذا حديث غريب، وقد تقدم في أول سورة الحج ذكر هذه الأحاديث.
وقوله: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} قال الحسن، وقتادة: أي بسببه من شدته وهوله. ومنهم من يعيد الضمير على الله عز وجل. وروي عن ابن عباس ومجاهد، وليس بقوي؛ لأنه لم يجر له ذكر هاهنا.
وقوله تعالى: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا} أي: كان وعد هذا اليوم مفعولا أي واقعًا لا محالة، وكائنا لا محيد عنه.

.تفسير الآيات (19- 20):

{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}
يقول تعالى: {إِنَّ هَذِهِ} أي: السورة {تَذْكِرَةٌ} أي: يتذكر بها أولو الألباب؛ ولهذا قال: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا} أي: ممن شاء الله هدايته، كما قيده في السورة الأخرى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30].
ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} أي: تارة هكذا، وتارة هكذا، وذلك كله من غير قصد منكم، ولكن لا تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام الليل؛ لأنه يشق عليكم؛ ولهذا قال: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي: تارة يعتدلان، وتارة يأخذ هذا من هذا، أو هذا من هذا، {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أي: الفرض الذي أوجبه عليكم {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} أي: من غير تحديد بوقت، أي: ولكن قوموا من الليل ما تيسر. وعبر عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة سبحان: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي: بقراءتك، {وَلا تُخَافِتْ بِهَا}
وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة، رحمه الله، بهذه الآية، وهي قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} على أنه لا يتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن، ولو بآية، أجزأه؛ واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن».
وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت، وهو في الصحيحين أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خِدَاج، فهي خِدَاج، فهي خِدَاج، غير تمام». وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعًا: «لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بأم القرآن».
وقوله: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: علم أن سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار في ترك قيام الليل، من مرضى لا يستطيعون ذلك، ومسافرين في الأرض يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر، وآخرين مشغولين بما هو الأهم في حقهم من الغزو في سبيل الله وهذه الآية- بل السورة كلها- مكية، ولم يكن القتال شُرع بعد، فهي من أكبر دلائل النبوة، لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة. ولهذا قال: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي: قوموا بما تيسر عليكم منه.
قال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أبي رجاء محمد، قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه، ولا يقوم به، إنما يصلي المكتوبة؟ قال: يتوسَّدُ القرآن، لعن الله ذاك، قال الله تعالى للعبد الصالح: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68].
{وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} قلت: يا أبا سعيد، قال الله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}؟ قال: نعم، ولو خمس آيات.
وهذا ظاهر من مذهب الحسن البصري: أنه كان يرى حقًا واجبًا على حَمَلة القرآن أن يقوموا ولو بشيء منه في الليل؛ ولهذا جاء في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل نام حتى أصبح، فقال: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنه». فقيل معناه: نام عن المكتوبة. وقيل: عن قيام الليل. وفي السنن: «أوتِرُوا يا أهل القرآن».
وفي الحديث الآخر: «من لم يوتر فليس منا».
وأغرب من هذا ما حكي عن أبي بكر عبد العزيز، من الحنابلة، من إيجابه قيام شهر رمضان، فالله أعلم.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن سعيد بن فرقد الجُدّي، حدثنا أبو حمة محمد بن يوسف الزبيدي، حدثنا عبد الرحمن، عن محمد بن عبد الله بن طاوس- من ولد طاوس- عن أبيه، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} قال: «مائة آية».
وهذا حديث غريب جدًا لم أره إلا في معجم الطبراني، رحمه الله.
وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي: أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم، وآتوا الزكاة المفروضة. وهذا يدل لمن قال: إن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النّصب والمَخْرَج لم تُبَين إلا بالمدينة. والله أعلم.
وقد قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وغير واحد من السلف: إن هذه الآية نَسَخت الذي كان الله قد أوجبه على المسلمين أولا من قيام الليل. واختلفوا في المدة التي بينهما على أقوال كما تقدم. وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل: «خمس صلوات في اليوم والليلة». قال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا إلا أن تَطوّع».
وقوله تعالى: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} يعني: من الصدقات، فإن الله يجازي على ذلك أحسن الجزاء وأوفره، كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245].
وقوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} أي: جميع ما تقدموه بين أيديكم فهو خير لكم حاصل، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو خَيْثَمة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الحارث بن سُوَيد قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟». قالوا: يا رسول الله، ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه. قال: «اعلموا ما تقولون». قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله؟ قال: «إنما مال أحدكم ما قَدّم ومال وارثه ما أخر».
ورواه البخاري من حديث حفص بن غياث، والنسائي من حديث أبي معاوية، كلاهما عن الأعمش، به.
ثم قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: أكثروا من ذكره واستغفاره في أموركم كلها؛ فإنه غفور رحيم لمن استغفره.
آخر تفسير سورة المزمل ولله الحمد.

.سورة المدثر:

وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 10):

{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)}
ثبت في صحيح البخاري من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر أنه كان يقول: أول شيء نزل من القرآن: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}
وخالفه الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} كما سيأتي بيان ذلك هناك.
قال البخاري: حدثنا يحيى، حدثنا وَكِيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن، قال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} قلت: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}؟ فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، وقلتُ له مثل ما قلتَ لي، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاورت بحرَاء، فلما قضيت جواري هبطتُ فنُوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا، ونظرت أمامي فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا. فرفعت رأسي فرأيت شيئًا، فأتيت خديجة فقلت: دثروني. وصبوا علي ماء باردا. قال: فدثروني وصبوا علي ماء باردا قال: فنزلت {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}».
هكذا ساقه من هذا الوجه. وقد رواه مسلم من طريق عُقَيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي: «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري قبَلَ السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فَجَثَثْتُ منه حتى هَوَيتُ إلى الأرض، فجئت إلى أهلي، فقلت: زملوني زملوني. فزملوني، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} إلى: {فَاهْجُرْ}- قال أبو سلمة: والرجز: الأوثان- ثم حَميَ الوحيُ وتَتَابع».
هذا لفظ البخاري وهذا السياق هو المحفوظ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا، لقوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء»، وهو جبريل حين أتاه بقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ثم إنه حصل بعد هذا فترة، ثم نزل الملك بعد هذا. ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا حجاج، حدثنا لَيْث، حدثنا عُقَيل، عن ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: أخبرني جابر بن عبد الله: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثم فتر الوحي عني فترة، فبينا أنا أمشي سمعتُ صوتًا من السماء، فرفعت بصري قِبَل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء الآن قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فَجُثت منه فَرَقًا، حتى هَوَيت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت لهم: زملوني زملوني. فزملوني، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ثم حمي الوحي بعدُ وتتابع». أخرجاه من حديث الزهري، به.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار، حدثنا الحسن بن بشر البَجَلي، حدثنا المعافى بن عمران، عن إبراهيم بن يزيد، سمعت ابن أبي مُلَيْكة يقول: سمعت ابن عباس يقول: إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما، فلما أكلوا. قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر.
وقال بعضهم ليس بساحر.
وقال بعضهم: كاهن.
وقال بعضهم: ليس بكاهن.
وقال بعضهم: شاعر.
وقال بعضهم ليس بشاعر.
وقال بعضهم: بل سحر يُؤثر. فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزنَ وقَنعَ رأسه، وتَدَثَّر، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}.
فقوله {قُمْ فَأَنْذِرْ} أي: شمر عن ساق العزم، وأنذر الناس. وبهذا حصل الإرسال، كما حصل بالأول النبوة.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي: عظم.
وقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قال الأجلح الكندي، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه أتاه رجل فسأله عن هذه الآية: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}.
قال: لا تلبسها على معصية ولا على غَدْرَة. ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:
فَإني بحمد الله لا ثوبَ فَاجر ** لبستُ ولا من غَدْرَة أتَقَنَّعُ

وقال ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس في هذه الآية {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قال: في كلام العرب: نَقِي الثياب. وفي رواية بهذا الإسناد: فطهر من الذنوب.
وكذا قال إبراهيم، الشعبي، وعطاء.
وقال الثوري، عن رجل، عن عطاء، عن ابن عباس في هذه الآية: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قال: من الإثم.
وكذا قال إبراهيم النخعي.
وقال مجاهد: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قال: نفسك، ليس ثيابه. وفي رواية عنه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} عملك فأصلح، وكذا قال أبو رَزِين.
وقال في رواية أخرى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: لست بكاهن ولا ساحر، فأعرض عما قالوا.
وقال قتادة: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: طهرها من المعاصي، وكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد الله إنه لَمُدنَس الثياب. وإذا وفى وأصلح: إنه لمطهر الثياب.
وقال عكرمة، والضحاك: لا تلبسها على معصية.
وقال الشاعر:
إذا المرءُ لم يَدْنَس منَ اللؤم عِرْضُه ** فَكُلّ ردَاء يَرْتَديه جَميلُ

وقال العوفي، عن ابن عباس: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} يعني لا تك ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائب، ويقال: لا تلبس ثيابك على معصية.
وقال محمد بن سيرين: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: اغسلها بالماء.
وقال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر، وأن يطهر ثيابه.
وهذا القول اختاره ابن جرير، وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب، فإن العرب تطلق الثياب عليه، كما قال امرؤ القيس:
أفاطمَ مَهلا بعض هَذا التَدَلُّل ** وَإن كُنت قَد أزْمَعْت هَجْري فأجْمِلي

وَإن تَكُ قَد سَ ـاءتك مني خَليقَةٌ ** فَسُلّي ثِيَابي مِن ثيابك تَنْسُلِ

وقال سعيد بن جبير: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وقلبك ونيتك فطهر.
وقال محمد بن كعب القرظي، والحسن البصري: وخُلقَك فَحسّن.
وقوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَالرُّجْزَ} وهو الأصنام، فاهجر.
وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والزهري، وابن زيد: إنها الأوثان.
وقال إبراهيم، والضحاك: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} أي: اترك المعصية.
وعلى كل تقدير فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك، كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1] {وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142].
وقوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قال ابن عباس: لا تعط العطية تلتمس أكثر منها.
وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وأبو الأحوص، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم.
وروي عن ابن مسعود أنه قرأ: {ولا تمنن أن تستكثر}.
وقال الحسن البصري: لا تمنن بعملك على ربك تستكثره.
وكذا قال الربيع بن أنس، واختاره ابن جرير.
وقال خصيف، عن مجاهد في قوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قال: لا تضعف أن تستكثر من الخير، قال تمنن في كلام العرب: تضعف.
وقال ابن زيد: لا تمنن بالنبوة على الناس، تستكثرهم بها، تأخذ عليه عوضا من الدنيا.
فهذه أربعة أقوال، والأظهر القول الأول، والله أعلم.
وقوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} أي: اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عز وجل، قاله مجاهد.
وقال إبراهيم النخعي: اصبر عطيتك لله تعالى.
وقوله: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} قال ابن عباس، ومجاهد والشعبي، وزيد بن أسلم، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي، وابن زيد: {النَّاقُورِ} الصور. قال مجاهد: وهو كهيئة القرن.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أسباط بن محمد، عن مُطَرِّف، عن عطية العوفي، عن ابن عباس: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته، ينتظر متى يؤمر فينفخ؟» فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا».
وهكذا رواه الإمام أحمد عن أسباط، به ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب، عن ابن فضيل وأسباط، كلاهما عن مطرف، به.
ورواه من طريق أخرى، عن العوفي، عن ابن عباس، به.
وقوله: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} أي: شديد.
{عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} أي: غير سهل عليهم. كما قال تعالى {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 8].
وقد روينا عن زُرَارة بن أوفى- قاضي البصرة-: أنه صلى بهم الصبح، فقرأ هذه السورة، فلما وصل إلى قوله: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} شَهِقَ شهقة، ثم خر ميتا، رحمه الله.