فصل: تفسير الآيات (11- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (11- 30):

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)}
يقول تعالى متوعدا لهذا الخبيث الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا، فكفر بأنعم الله، وبدلها كفرا، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وجعلها من قول البشر. وقد عدد الله عليه نعَمه حيث قال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} أي: خرج من بطن أمه وحده لا مال له ولا ولد، ثم رزقه الله، {مَالا مَمْدُودًا} أي: واسعًا كثيرًا قيل: ألف دينار. وقيل: مائة ألف دينار. وقيل: أرضا يستغلها.
وقيل غير ذلك.
وجعل له {وَبَنِينَ شُهُودًا} قال مجاهد: لا يغيبون، أي: حضورا عنده لا يسافرون في التجارات، بل مَواليهم وأجراؤهم يتولون ذلك عنهم وهم قعود عند أبيهم، يتمتع بهم ويتَمَلَّى بهم. وكانوا- فيما ذكره السدي، وأبو مالك، وعاصم بن عمر بن قتادة- ثلاثة عشر.
وقال ابن عباس، ومجاهد: كانوا عشرة. وهذا أبلغ في النعمة وهو إقامتهم عنده.
{وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} أي: مكنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك، {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا} أي: معاندا، وهو الكفر على نعمه بعد العلم.
قال الله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} قال الإمام أحمد:
حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويل: واد في جهنم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره، والصَّعُود: جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا، ثم يهوي به كذلك فيه أبدا».
وقد رواه الترمذي عن عبد بن حُمَيد، عن الحسن بن موسى الأشيب، به ثم قال: غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن لَهِيعة عن دراج. كذا قال. وقد رواه ابن جرير، عن يونس، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج وفيه غرابة ونكارة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة وعلي بن عبد الرحمن- المعروف بعلان المصري- قال: حدثنا مِنْجاب، أخبرنا شريك، عن عمار الدُّهَنِيّ، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} قال: «هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده، فإذا وضع يده ذابت، وإذا رفعها عادت، فإذا وضع رجله ذابت، وإذا رفعها عادت».
ورواه البزار وابن جرير، من حديث شريك، به.
وقال قتادة، عن ابن عباس: صعود: صخرة في جهنم عظيمة يسحب عليها الكافر على وجهه.
وقال السدي: صعودا: صخرة ملساء في جهنم، يكلف أن يصعدها.
وقال مجاهد: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} أي: مشقة من العذاب.
وقال قتادة: عذابا لا راحة فيه. واختاره ابن جرير.
وقوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} أي: إنما أرهقناه صعودا، أي: قربناه من العذاب الشاق؛ لبعده عن الإيمان، لأنه فكر وقدر، أي: تَرَوَّى ماذا يقول في القرآن حين سُئل عن القرآن، ففكر ماذا يختلق من المقال، {وَقَدَّرَ} أي: تروى، {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} دعاء عليه، {ثُمَّ نَظَرَ} أي: أعاد النظرة والتروي. {ثُمَّ عَبَسَ} أي: قبض بين عينيه وقطب، {وَبَسَرَ} أي: كلح وكره، ومنه قول توبة بن الحُمَير الشاعر:
وَقَد رَابَني منها صُدُودٌ رَأيتُه ** وَإعرَاضُها عَن حاجَتي وبُسُورُها

وقوله: {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} أي: صُرف عن الحق، ورجع القهقرى مستكبرا عن الانقياد للقرآن، {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي: هذا سحر ينقله محمد عن غيره عمن قبله ويحكيه عنهم؛
ولهذا قال: {إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} أي: ليس بكلام الله.
وهذا المذكور في هذا السياق هو: الوليد بن المغيرة المخزومي، أحد رؤساء قريش- لعنه الله- وكان من خبره في هذا ما رواه العوفي، عن ابن عباس قال: دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة فسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش فقال: يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة. فوالله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذْي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله. فلما سمع بذلك النفرُ من قريش ائتمروا فقالوا: والله لئن صبا الوليد لتصْبُوَنَّ قريش. فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام قال: أنا والله أكفيكم شأنه. فانطلق حتى دخل عليه بيته فقال للوليد: ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال: ألستُ أكثرهم مالا وولدا. فقال له أبو جهل: يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه. فقال الوليد: أقد تحدث به عشيرتي؟! فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة، ولا عمر، ولا ابن أبي كبشة، وما قوله إلا سحر يؤثر. فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إلى قوله: {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ}
وقال قتادة: زعموا أنه قال: والله لقد نظرت فيما قال الرجل فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى، وما أشك أنه سحر. فأنزل الله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} الآية، {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} قبض ما بين عينيه وكلح.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، أخبرنا محمد بن ثور، عن مَعْمَر، عن عَبَّاد بن منصور، عن عكرمة: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له. فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام، فأتاه فقال: أي عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم؟ قال: يعطونكه، فإنك أتيت محمدًا تَتَعَرض لما قبله. قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يعلم قومك أنك منكر لما قال، وأنك كاره له. قال: فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من ذلك. والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى. وقال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فيه. فلما فكر قال: إن هذا سحر يأثره عن غيره. فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} قال قتادة: خرج من بطن أمه وحيدا حتى بلغ: {تِسْعَةَ عَشَرَ}
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد نحوا من هذا. وقد زعم السدي أنهم لما اجتمعوا في دار الندوة ليجمعوا رأيهم على قول يقولونه فيه، قبل أن يقدم عليهم وفودُ العرب للحج ليصدّوهُم عنه، فقال قائلون: شاعر.
وقال آخرون: ساحر.
وقال آخرون: كاهن.
وقال آخرون: مجنون. كما قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} [الإسراء: 48] كل هذا والوليد يفكر فيما يقوله فيه، ففكر وقدر، ونظر وعبس وبسر، فقال: {إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ}
قال الله عز وجل: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} أي: سأغمره فيها من جميع جهاته.
ثم قال {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}؟ وهذا تهويل لأمرها وتفخيم.
ثم فسر ذلك بقوله: {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} أي: تأكل لحومهم وعروقهم وعَصَبهم وجلودهم، ثم تبدل غير ذلك، وهم في ذلك لا يموتون ولا يحيون، قاله ابن بريدة وأبو سنان وغيرهما.
وقوله: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} قال مجاهد: أي للجلد، وقال أبو رَزين: تلفح الجلد لفحة فتدعه أسود من الليل.
وقال زيد بن أسلم: تلوح أجسادهم عليها.
وقال قتادة: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} أي: حراقة للجلد.
وقال ابن عباس: تحرق بشرة الإنسان.
وقوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} أي: من مقدمي الزبانية، عظيم خلقهم، غليظ خلقهم.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا ابن أبي زائدة، أخبرني حريث، عن عامر، عن البراء في قوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قال إن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم. فقال: الله ورسوله أعلم. فجاء رجل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فنزل عليه ساعتئذ: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} فأخبر أصحابه وقال: «ادعهم، أما إني سائلهم عن تُربَة الجنة إن أتوني، أما إنها دَرْمكة بيضاء». فجاؤوه فسألوه عن خزنة جهنم، فأهوى بأصابع كفيه مرتين وأمسك الإبهام في الثانية، ثم قال: «أخبروني عن تربة الجنة». فقالوا: أخبرهم يا ابن سلام. فقال: كأنها خُبزَة بيضاء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إن الخبز إنما يكون من الدّرمَك».
هكذا وقع عند ابن أبي حاتم عن البراء، والمشهور عن جابر بن عبد الله، كما قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا منده، حدثنا أحمد بن عَبدَة، أخبرنا سفيان ويحيى بن حكيم، حدثنا سفيان، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، غلبَ أصحابك اليوم. فقال: «بأي شيء؟» قال: سألتهم يَهُود هل أعلمكم نبيكم عدة خزنة أهل النار؟ قالوا: لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفغلب قوم سُئلوا عما لا يدرون فقالوا: لا ندرى حتى نسأل نبينا؟ عليَّ بأعداء الله، لكن سألوا نبيهم أن يريهم الله جهرة». فأرسل إليهم فدعاهم. قالوا: يا أبا القاسم، كم عدد خزنة أهل النار؟ قال: «هكذا»، وطبق كفيه، ثم طبق كفيه، مرتين، وعقد واحدة، وقال لأصحابه: «إن سئلتم عن تربة الجنة فهي الدَّرمك». فلما سألوه فأخبرهم بعدة خزنة أهل النار، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تربة الجنة؟» فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: خبزة يا أبا القاسم. فقال: «الخبز من الدَّرمك».
وهكذا رواه الترمذي عند هذه الآية عن ابن أبي عمر، عن سفيان، به وقال هو والبزار: لا نعرفه إلا من حديث مجالد.
وقد رواه الإمام أحمد، عن علي بن المديني، عن سفيان، فقص الدرمك فقط.

.تفسير الآيات (31- 37):

{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)}
يقول تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ} أي: خُزَّانها، {إِلا مَلائِكَةً} أي: زبانية غلاظا شدادا. وذلك رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة، فقال أبو جهل: يا معشر قريش، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم؟ فقال الله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً} أي: شديدي الخَلْق لا يقاومون ولا يغالبون. وقد قيل: إن أبا الأشدين- واسمه: كَلَدَة بن أسيد بن خلف- قال: يا معشر قريش، اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر، إعجابا منه بنفسه، وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينتزعوه من تحت قدميه، فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه. قال السهيلي: وهو الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصارعته وقال: إن صرعتني آمنت بك، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم مرارا، فلم يؤمن. قال: وقد نَسَب ابنُ إسحاق خبر المصارعة إلى ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب.
قلت: ولا منافاة بين ما ذكراه، والله أعلم.
{وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي: إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعةَ عشرَ اختبارًا منَّا للناس، {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي: يعلمون أن هذا الرسول حق؛ فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله.
{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} أي: إلى إيمانهم. بما يشهدون من صدق إخبار نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: من المنافقين {وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا}؟ أي: يقولون: ما الحكمة في ذكر هذا هاهنا؟ قال الله تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي: من مثل هذا وأشباهه يتأكد الإيمان في قلوب أقوام، ويتزلزل عند آخرين، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.
وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} أي: ما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو تعالى، لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط، كما قد قاله طائفة من أهل الضلالة والجهالة ومن الفلاسفة اليونانيين. ومن تابعهم من الملتين الذين سمعوا هذه الآية، فأرادوا تنزيلها على العقول العشرة والنفوس التسعة، التي اخترعوا دعواها وعجزوا عن إقامة الدلالة على مقتضاها، فأفهموا صدر هذه الآية وقد كفروا بآخرها، وهو قوله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ}
وقد ثبت في حديث الإسراء المروي في الصحيحين وغيرهما. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة البيت المعمور الذي في السماء السابعة: «فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه آخر ما عليهم».
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود، حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن مورق، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحُقَّ لها أن تَئط، ما فيها موضع أصابع إلا عليه ملك ساجد، لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا، ولا تَلَذّذتم بالنساء على الفُرُشات، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل». فقال أبو ذر: والله لوددتُ أني شجرة تُعضد.
ورواه الترمذي وابن ماجه، من حديث إسرائيل وقال الترمذي: حسن غريب، ويروى عن أبي ذر موقوفًا.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا خير بن عرفة المصري، حدثنا عُرْوَة بن مروان الرقي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم بن مالك، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما في السموات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم، أو ملك ساجد، أو ملك راكع، فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعا: سبحانك! ما عبدناك حَقَّ عبادتك، إلا أنا لم نشرك بك شيئًا».
وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا عمرو بن زرارة، أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن صفوان بن مُحْرِز، عن حكيم بن حزام قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إذ قال لهم: «هل تسمعون ما أسمع؟» قالوا: ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسمع أطيط السماء وما تلام أن تَئطّ، ما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك راكع أو ساجد».
وقال أيضا: حدثنا محمد بن عبد الله بن قهزاذ حدثنا أبو معاذ الفضل بن خالد النحوي، حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي، سمعت الضحاك بن مزاحم، يحدث عن مسروق بن الأجدع، عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما في السماء الدنيا موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم، وذلك قول الملائكة: {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصاقات: 164- 166]».
وهذا مرفوع غريب جدا ثم رواه عن محمود بن آدم، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي الضُّحى، عن مسروق، عن ابن مسعود أنه قال: إن من السماوات سماءً ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه قائما، ثم قرأ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}.
ثم قال: حدثنا أحمد بن سيار: حدثنا أبو جعفر محمد بن خالد الدمشقي المعروف بابن أمه، حدثنا المغيرة بن عثمان بن عطية من بني عمرو بن عوف، حدثني سليمان بن أيوب من بني سالم بن عوف. حدثني عطاء بن زيد بن مسعود من بني الحبلي، حدثني سليمان بن عمرو بن الربيع، من بني سالم، حدثني عبد الرحمن بن العلاء، من بني ساعدة، عن أبيه العلاء بن سعد- وقد شهد الفتح وما بعده- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما لجلسائه: «هل تسمعون ما أسمع؟» قالوا: وما تسمع يا رسول الله؟ قال: «أطَّتِ السماء وحقّ لها أن تَئط، إنه ليس فيها موضع قَدَم إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد، وقالَ الملائكة: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}». وهذا إسناد غريب جدا.
ثم قال: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا إسحاق بن محمد بن إسماعيل الفَروي، حدثنا عبد الملك بن قدامة، عن عبد الرحمن عن عبد الله بن ديناره، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر: أن عمر جاء والصلاة قائمة، ونفر ثلاثة جلوس، أحدهم أبو جحش الليثي، فقال: قوموا فصلوا مع رسول الله. فقام اثنان وأبى أبو جحش أن يقوم، وقال: لا أقوم حتى يأتي رجل هو أقوى مني ذراعين، وأشد مني بطشًا فيصرعني، ثم يَدس وجهي في التراب. قال عمر: فصرعته ودسست وجهه في التراب، فأتى عثمان بن عفان فحجزني عنه، فخرج عمر مغضبا حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما رَأيَكَ يا أبا حفص؟». فذكر له ما كان منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن رضى عمر رحمةٌ، والله لوددْتُ أنك جئتني برأس الخبيث»، فقام عمر يُوجّهُ نحوه، فلما أبعد ناداه فقال: «اجلس حتى أخبرك بغنى الرب عز وجل عن صلاة أبي جحش، إن لله في السماء الدنيا ملائكة خشوعًا لا يرفعون رءوسهم حتى تقوم الساعة. فإذا قامت رفعوا رءوسهم ثم قالوا: ربنا، ما عبدناك حق عبادتك، وإن لله في السماء الثانية ملائكة سجودًا لا يرفعون رءوسهم حتى تقوم الساعة فإذا قامت الساعة رفعوا رءوسهم، وقالوا: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك» فقال له عمر: وما يقولون يا رسول الله؟ فقال: «أما أهل السماء الدنيا فيقولون: سبحان ذي الملك والملكوت. وأما أهل السماء الثانية فيقولون: سبحان ذي العزة والجبروت. وأما أهل السماء الثالثة فيقولون: سبحان الحي الذي لا يموت. فقلها يا عمر في صلاتك». فقال عمر: يا رسول الله، فكيف بالذي كنت علمتني وأمرتني أن أقوله في صلاتي؟ فقال: «قل هذا مرة وهذا مرة». وكان الذي أمره به أن يقول: «أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخَطك، وأعوذ بك منك، جل وجهك» وهذا حديث غريب جدا، بل منكر نكارة شديدة، وإسحاق الفروي روى عنه البخاري، وذكره ابن حبان في الثقات، وضعفه أبو داود والنسائي والعقيلي والدارقطني.
وقال أبو حاتم الرازي: كان صدوقا إلا أنه ذهب بصره فرُبما لقن، وكتبه صحيحة.
وقال مرة: هو مضطرب، وشيخه عبد الملك بن قدامة أبو قتادة الجمحي: تكلم فيه أيضا. والعجب من الإمام محمد بن نصر كيف رواه ولم يتكلم عليه، ولا عَرَّف بحاله، ولا تعرض لضعف بعض رجاله؟! غير أنه رواه من وجه آخر عن سعيد بن جبير مرسلا بنحوه. ومن طريق أخرى عن الحسن البصري مرسلا قريبًا منه، ثم قال محمد بن نصر:
حدثنا محمد بن عبد الله بن قهزاذ، أخبرنا النضر، أخبرنا عباد بن منصور قال: سمعت عدي بن أرطاة وهو يخطبنا على منبر المدائن قال: سمعت رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تعالى ملائكة تُرعَد فرائصهم من خيفته، ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه إلا وقعت على ملك يصلي، وإن منهم ملائكة سجودًا منذ خلق الله السماوات والأرض لم يرفعوا رءوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وإن منهم ملائكة ركوعًا لم يرفعوا رءوسهم منذ خلق الله السماوات والأرض ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، فإذا رفعوا رءوسهم نظروا إلى وجه الله عز وجل، قالوا: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك».
وهذا إسناد لا بأس به.
وقوله: {وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} قال مجاهد وغير واحد: {وَمَا هِيَ} أي: النار التي وصفت، {إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}
ثم قال: {كَلا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} أي: ولى، {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} أي: أشرق، {إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ} أي: العظائم، يعني: النار، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وغير واحد من السلف. {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} أي: لمن شاء أن يقبل النّذارة ويهتدي للحق، أو يتأخر عنها ويولي ويردها.