فصل: تفسير الآيات (16- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (16- 25):

{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)}
هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه. فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه؛ ولهذا قال: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} أي: بالقرآن، كما قال: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
ثم قال: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} أي: في صدرك، {وَقُرْآنَهُ} أي: أن تقرأه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أي: إذا تلاه عليك الملك عن الله عز وجل، {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي: فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي: بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن أبي عَوَانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه- قال: فقال لي ابن عباس: أنا أحرك شفتي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه.
وقال لي سيعد: وأنا أحرك شفتي كما رأيت ابن عباس يحرك شفتيه- فأنزل الله عز وجل {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال: جمعه في صدرك، ثم تقرأه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فاستمع له وأنصت، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه.
وقد رواه البخاري ومسلم، من غير وجه، عن موسى بن أبي عائشة، به ولفظ البخاري: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى التيمي، حدثنا موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي يلقى منه شدة، وكان إذا نزل عليه عرف في تحريكه شفتيه، يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره، فأنزل الله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}
وهكذا قال الشعبي، والحسن البصري، وقتادة، ومجاهد، والضحاك، وغير واحد: إن هذه الآية نزلت في ذلك.
وقد روى ابن جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قال: كان لا يفتر من القراءة مخافة أن ينساه، فقال الله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا} أن نجمعه لك {وَقُرْآنَهُ} أن نقرئك فلا تنسى.
وقال ابن عباس وعطية العوفي: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} تبيين حلاله وحرامه.
وكذا قال قتادة.
وقوله: {كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} أي: إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة ومخالفة ما أنزله الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي الحق والقرآن العظيم: إنهم إنما همتهم إلى الدار الدنيا العاجلة، وهم لاهون متشاغلون عن الآخرة.
ثم قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} من النضارة، أي حسنة بَهِيَّة مشرقة مسرورة، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي: تراه عيانا، كما رواه البخاري، رحمه الله، في صحيحه: «إنكم سترون ربكم عَيَانا». وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح، من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها؛ لحديث أبي سعيد وأبي هريرة- وما في الصحيحين-: أن ناسا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: «هل تُضَارُّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سَحَاب؟» قالوا: لا. قال: «فإنكم تَرَون ربكم كذلك». وفي الصحيحين عن جرير قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: «إنكم تَرَون ربكم كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا» وفي الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جَنَّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فِضَّة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله إلا رِدَاء الكبرياء على وجهه في جنة عدن». وفي أفراد مسلم، عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهلُ الجنة الجنة» قال: «يقول الله تعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبَيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟» قال: «فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم، وهي الزيادة». ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
وفي أفراد مسلم، عن جابر في حديثه: «إن الله يَتَجلَّى للمؤمنين يضحك»- يعني في عرصات القيامة- ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم عز وجل في العرصات، وفي روضات الجنات.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الملك بن أبجر، حدثنا ثُوَير بن أبي فاختة، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه، ينظر إلى أزواجه وخدمه. وإن أفضلهم منزلة لينظر إلى وجه الله كل يوم مرتين».
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن شَبابة، عن إسرائيل، عن ثُوَير قال: سمعت ابن عمر... فذكره، قال: ورواه عبد الملك بن أبجر، عن ثُوَير، عن مجاهد، عن ابن عمر، قوله.
وكذلك رواه الثوري، عن ثُوَير، عن مجاهد، عن ابن عمر، لم يرفعه ولولا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن، ولكن ذكرنا ذلك مفرقا في مَواضِعَ من هذا التفسير، وبالله التوفيق. وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام. وهُدَاة الأنام.
ومن تأول ذلك بأن المراد بـ {إِلَى} مفرد الآلاء، وهي النعم، كما قال الثوري، عن منصور، عن مجاهد: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فقال تنتظر الثواب من ربها. رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد.
وكذا قال أبو صالح أيضا- فقد أبعد هذا القائل النجعة، وأبطل فيما ذهب إليه. وأين هو من قوله تعالى: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}؟ [المطففين: 15]، قال الشافعي، رحمه الله: ما حَجَب الفجار إلا وقد عَلم أن الأبرار يرونه عز وجل. ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة، وهي قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال ابن جرير:
حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا آدم، حدثنا المبارك عن الحسن: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} قال: حسنة، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال تنظر إلى الخالق، وحُقّ لها أن تَنضُر وهي تنظر إلى الخالق.
وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة باسرة. قال قتادة: كالحة.
وقال السدي: تغير ألوانها.
وقال ابن زيد {بَاسِرَةٌ} أي: عابسة.
{تَظُنُّ} أي: تستيقن، {أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} قال مجاهد: داهية.
وقال قتادة: شر.
وقال السدي: تستيقن أنها هالكة.
وقال ابن زيد: تظن أن ستدخل النار.
وهذا المقام كقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [أل عمران: 106] وكقوله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 38- 42] وكقوله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} إلى قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الغاشية: 2- 10] في أشباه ذلك من الآيات والسياقات.

.تفسير الآيات (26- 40):

{كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)}
يخبر تعالى عن حالة الاحتضار وما عنده من الأهوال- ثبتنا الله هنالك بالقول الثابت- فقال تعالى: {كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} إن جعلنا {كَلا} رداعة فمعناها: لست يا ابن آدم تكذب هناك بما أخبرت به، بل صار ذلك عندك عيانا. وإن جعلناها بمعنى حقا فظاهر، أي: حقا إذا بلغت التراقي، أي: انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك، والتراقي: جمع ترقوة، وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق، كقوله: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة: 83- 87].
وهكذا قال هاهنا: {كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} ويذكر هاهنا حديث بُسْر بن جِحاش الذي تقدم في سورة يس. والتراقي: جمع ترقوة، وهي قريبة من الحلقوم.
{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} قال: عكرمة، عن ابن عباس: أي من راق يرقى؟ وكذا قال أبو قلابة: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} أي: من طبيب شاف.
وكذا قال قتادة، والضحاك، وابن زيد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، حدثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي، حدثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} قال: قيل: من يرقى بروحه: ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ فعلى هذا يكون من كلام الملائكة.
وبهذا الإسناد، عن ابن عباس في قوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} قال: التفت عليه الدنيا والآخرة.
وكذا قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} يقول: آخر يوم في الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحم الله.
وقال عكرمة: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} الأمر العظيم بالأمر العظيم.
وقال مجاهد: بلاء ببلاء.
وقال الحسن البصري في قوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} هما ساقاك إذا التفتا. وفي رواية عنه: ماتت رجلاه فلم تحملاه، وقد كان عليها جوالا.
وكذا قال السدي، عن أبي مالك.
وفي رواية عن الحسن: هو لفهما في الكفن.
وقال الضحاك: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} اجتمع عليه أمران: الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه.
وقوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} أي: المرجع والمآب، وذلك أن الروح ترفع إلى السماوات، فيقول الله عز وجل: ردوا عبدي إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. كما ورد في حديث البراء الطويل. وقد قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 61، 62].
وقوله: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} هذا إخبار عن الكافر الذي كان في الدار الدنيا مكذبا للحق بقلبه، متوليا عن العمل بقالبه، فلا خير فيه باطنا ولا ظاهرا، ولهذا قال: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} أي: جَذلا. أشرا بَطرا كسلانا، لا همة له ولا عمل، كما قال: {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين: 34].
وقال {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} أي: يرجع {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق: 13- 15].
وقال الضحاك: عن ابن عباس: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} أي. يختال.
وقال قتادة، وزيد بن أسلم: يتبختر.
قال الله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وهذا تهديد ووعيد أكيد منه تعالى للكافر به المتبختر في مشيته، أي: يحق لك أن تمشي هكذا وقد كفرت بخالقك وبارئك، كما يقال في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]. وكقوله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات: 46]، وكقوله {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15]، وكقوله {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]. إلى غير ذلك.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا عبد الرحمن- يعني ابن مهدي- عن إسرائيل، عن موسى بن أبي عائشة قال: سألت سعيد بن جبير قلت: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}؟ قال: قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جهل، ثم نزل به القرآن.
وقال أبو عبد الرحمن النسائي: حدثنا إبراهيم بن يعقوب. حدثنا أبو النعمان، حدثنا أبو عَوَانة- (ح) وحدثنا أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان. حدثنا أبو عوانة- عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}؟ قال: قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنزله الله عز وجل.
قال ابن أبي حاتم: وحدثنا أبي، حدثنا هشام بن خالد، حدثنا شعيب عن إسحاق، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وعيد على أثر وعيد، كما تسمعون، وزعموا أن عدو الله أبا جهل أخذ نَبيّ الله بمجامع ثيابه، ثم قال: {أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى}. فقال عدو الله أبو جهل: أتوعدني يا محمد؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئا، وإني لأعز من مشى بين جبليها.
وقوله: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} قال السدي: يعني: لا يبعث.
وقال مجاهد، والشافعي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني لا يؤمر ولا ينهى.
والظاهر أن الآية تعم الحالين، أي: ليس يترك في هذه الدنيا مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث، بل هو مأمور منهي في الدنيا، محشور إلى الله في الدار الآخرة. والمقصود هنا إثبات المعاد، والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد، ولهذا قال مستدلا على الإعادة بالبداءة فقال: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى}؟ أي: أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من ماء مهين، يمنى يراق من الأصلاب في الأرحام. {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} أي: فصار علقة، ثم مضغة، ثم شُكّل ونفخ فيه الروح، فصار خلقا آخر سَويًا سليم الأعضاء، ذكرا أو أنثى بإذن الله وتقديره؛ ولهذا قال: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى}
ثم قال: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} أي: أما هذا الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة الضعيفة بقادر على أن يعيده كما بدأه؟ وتناولُ القدرة للإعادة إما بطريق الأولى بالنسبة إلى البداءة، وإما مساوية على القولين في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].
والأول أشهر كما تقدم في سورة الروم بيانه وتقريره، والله أعلم.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا شبابة، عن شعبة، عن موسى بن أبي عائشة، عن آخر: أنه كان فوق سطح يقرأ ويرفع صوته بالقرآن، فإذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}؟ قال: سبحانك اللهم فبلى. فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
وقال أبو داود، رحمه الله: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن موسى بن أبي عائشة قال: كان رجل يصلي فوق بيته، فكان إذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}؟ قال سبحانك، فبلى، فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تفرد به أبو داود ولم يسم هذا الصحابي، ولا يضر ذلك.
وقال أبو داود أيضا: حدثنا عبد الله بن محمد الزهري، حدثنا سفيان، حدثني إسماعيل بن أمية: سمعت أعرابيا يقول: سمعت أبا هُرَيرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم بالتين والزيتون فانتهى إلى آخرها: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}؟ فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فانتهى إلى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}؟ فليقل: بلى. ومن قرأ: {وَالْمُرْسَلات} فبلغ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}؟ فليقل: آمنا بالله».
ورواه أحمد، عن سفيان بن عيينة.
ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة. وقد رواه شعبة، عن إسماعيل بن أمية قال: قلت له: من حدثك؟ قال رجل صدق، عن أبي هريرة.
وقال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ذُكِر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: «سبحانك وبلى».
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس أنه مر بهذه الآية: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}؟، قال: سبحانك؛ فبلى.
آخر تفسير سورة القيامة ولله الحمد والمنة.