فصل: سورة الكافرون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.سورة الكافرون:

وهي مكية.
ثبت في صحيح مسلم، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهذه السورة، وبـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في ركعتي الطواف.
وفي صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في ركعتي الفجر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب، بضعا وعشرين مرة- أو: بضع عشرة مرة- {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.
وقال أحمد أيضا: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم أربعا وعشرين- أو: خمسا وعشرين- مرة، يقرأ في الركعتين قبل الفجر، والركعتين بعد المغرب بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.
وقال أحمد: حدثنا أبو أحمد- هو محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري- حدثنا سفيان- هو الثوري- عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: رَمقتُ النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا، وكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.
وكذا رواه الترمذي وابن ماجه، من حديث أبي أحمد الزبيري وأخرجه النسائي من وجه آخر، عن أبي إسحاق، به وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وقد تقدم في الحديث أنها تعدل ربع القرآن، و{إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل ربع القرآن.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق، عن فروةَ ابن نَوفل- هو ابن معاوية- عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «هل لك في ربيبة لنا تكفلها؟» قال: أراها زينب. قال: ثم جاء فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عنها، قال: «ما فعلت الجارية؟» قال: تركتها عند أمها. قال: «فمجيء ما جاء بك؟» قال: جئت لتعلمني شيئًا أقوله عند منامي. قال: «اقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثم نم على خاتمتها، فإنها براءة من الشرك». تفرد به أحمد.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عَمرو القطراني، حدثنا محمد بن الطفيل، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن جبلة بن حارثة- وهو أخو زيد بن حارثة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} حتى تمر بآخرها، فإنها براءة من الشرك». والله أعلم وهو حسبي ونعم الوكيل.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفل، عن الحارث بن جبلة قال: قلت: يا رسول الله، علمني شيئا أقوله عند منامي. قال: «إذا أخذت مضجعَك من الليل فاقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فإنها براءة من الشرك».
وروى الطبراني من طريق شريك، عن جابر عن معقل الزبيدي، عن عباد أبي الأخضر عن خباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه قرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} حتى يختمها.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 6):

{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}
هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص فيه، فقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} شمل كل كافر على وجه الأرض، ولكن المواجهين بهذا الخطاب هم كفارُ قريش.
وقيل: إنهم من جهلهم دَعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون معبوده سنة، فأنزل الله هذه السورة، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية، فقال: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} يعني: من الأصنام والأنداد، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وهو الله وحده لا شريك له. ف {ما} هاهنا بمعنى من.
ثم قال: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي: ولا أعبد عبادتكم، أي: لا أسلكها ولا أقتدي بها، وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه؛ ولهذا قال: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي: لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئًا من تلقاء أنفسكم، كما قال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه، فإن العابد لابد له من معبود يعبده، وعبادة يسلكها إليه، فالرسول وأتباعه يعبدون الله بما شرعه؛ ولهذا كان كلمة الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله أي: لا معبود إلا الله ولا طريق إليه إلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله؛ ولهذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} كما قال تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41] وقال: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55].
وقال البخاري: يقال: {لَكُمْ دِينَكُمْ} الكفر، {وَلِيَ دِينِ} الإسلام. ولم يقل: ديني لأن الآيات بالنون، فحذف الياء، كما قال: {فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] و{يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] وقال غيره: لا أعبد ما تعبدون الآن، ولا أجيبكم فيما بقي من عمري، ولا أنتم عابدون ما أعبد، وهم الذين قال: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: 64].
انتهى ما ذكره.
ونقل ابن جرير عن بعض أهل العربية أن ذلك من باب التأكيد، كقوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6] وكقوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 6، 7] وحكاه بعضهم- كابن الجوزي، وغيره- عن ابن قتيبة، فالله أعلم. فهذه ثلاثة أقوال: أولها ما ذكرناه أولا. الثاني: ما حكاه البخاري وغيره من المفسرين أن المراد: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في الماضي، {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في المستقبل. الثالث: أن ذلك تأكيد محض.
وثم قول رابع، نصره أبو العباس بن تَيمية في بعض كتبه، وهو أن المراد بقوله: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} نفى الفعل لأنها جملة فعلية، {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} نفى قبوله لذلك بالكلية؛ لأن النفي بالجملة الاسمية آكد فكأنه نفى الفعل، وكونه قابلا لذلك ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضا. وهو قول حسن أيضا، والله أعلم.
وقد استدل الإمام أبو عبد الله الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} على أن الكفر كله ملة واحدة تورثه اليهود من النصارى، وبالعكس؛ إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به؛ لأن الأديان- ما عدا الإسلام- كلها كالشيء الواحد في البطلان. وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود وبالعكس؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتوارث أهل ملتين شتى».
آخر تفسير سورة قل يا أيها الكافرون ولله الحمد والمنة.

.سورة النصر:

وهي مدنية.
قد تقدم أنها تعدل ربع القرآن، و{إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل ربع القرآن.
وقال النسائي: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا جعفر، عن أبي العُمَيس (ح) وأخبرنا محمد بن سليمان، حدثنا جعفر بن عون، حدثنا أبو العُمَيس، عن عبد المجيد بن سهيل عن عُبَيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قال لي ابن عباس: يا ابن عتبة، أتعلم آخر سورة من القرآن نزلت؟ قلت: نعم، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قال: صدقت.
وروى الحافظ أبو بكر البزار والبيهقي، من حديث موسى بن عبيدة الرّبذي عن صدقة بن يَسَار، عن ابن عمر قال: أنزلت هذه السورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} على رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فَرحَلت، ثم قام فخطب الناس، فذكر خطبته المشهورة.
وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا الأسفاطي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد بن العوام، عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وقال: «إنه قد نُعِيت إليّ نفسي»، فبكت ثم ضحكت، وقالت: أخبرني أنه نُعيت إليه نفسُه فبكيت، ثم قال: «اصبري فإنك أول أهلي لحاقًا بي». فضحكت.
وقد رواه النسائي- كما سيأتي- بدون ذكر فاطمة.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عَوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: كان عمر يُدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وَجَد في نفسه، فقال:
لم يَْخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه ممن قد علمتم فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم، فما رُؤيتُ أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليُريهم فقال: ما تقولون في قول الله، عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نَحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفُتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا. فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فذلك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فقال عمر بن الخطاب: لا أعلم منها إلا ما تقول.
تفرد به البخاري.
وروى ابن جرير، عن محمد بن حُمَيد، عن مِهْران، عن الثوري، عن عاصم، عن أبي رَزِين، عن ابن عباس، فذكر مثل هذه القصة، أو نحوها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن فُضَيل، حدثنا عطاء، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نُعِيَت إليّ نفسي».. بأنه مقبوض في تلك السنة.
تفرد به أحمد.
وروى العوفي، عن ابن عباس، مثله.
وهكذا قال مجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وغير واحد: إنها أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نُعِي إليه.
وقال ابن جرير: حدثني إسماعيل بن موسى، حدثنا الحسين بن عيسى الحنفي عن مَعْمَر، عن الزهري، عن أبي حازم، عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إذ قال: «الله أكبر، الله أكبر! جاء نصر الله والفتح، جاء أهل اليمن». قيل: يا رسول الله، وما أهل اليمن؟ قال: «قوم رقيقة قلوبهم، لينة طباعهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية».
ثم رواه عن ابن عبد الأعلى، عن ابن ثور، عن معمر، عن عكرمة، مرسلا.
وقال الطبراني: حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا أبو كامل الجَحْدَريّ، حدثنا أبو عَوَانة، عن هلال بن خَبَّاب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} حتى ختم السورة، قال: نُعِيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حين نزلت، قال: فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادًا في أمر الآخرة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: «جاء الفتحُ ونصر الله، وجاء أهل اليَمن». فقال رجل: يا رسول الله، وما أهل اليمن؟ قال: «قوم رقيقة قلوبهم، لينة قلوبهم، الإيمان يمان، والفقه يَمان».
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رَزين، عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد نُعِيت إليه نفسه، فقيل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} السورة كلها.
حدثنا وَكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رَزِين: أن عمر سأل ابن عباس عن هذه الآية: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قال: لما نزلت نُعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه.
وقال الطبراني: حدثنا إبراهيم بن أحمد بن عُمَر الوكيعي، حدثنا أبي، حدثنا جَعفر بن عون، عن أبي العُمَيس، عن أبي بكر بن أبي الجهم، عن عُبَيد الله بن عَبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت من القرآن جميعًا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}.
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مُرّة، عن أبي البَختُري الطائي، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما نزلت هذه السورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها، فقال: «الناس حيز، وأنا وأصحابي حيز». وقال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية». فقال له مَرْوان: كذبت- وعنده رافع بن خَديج، وزيد بن ثابت، قاعدان معه على السرير- فقال أبو سعيد: لو شاء هذان لحدثاك، ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة. فرفع مروان عليه الدرة ليضربه، فلما رأيا ذلك قالا صدق.
تفرد به أحمد، وهذا الذي أنكره مروان على أبي سعيد ليس بمنكر، فقد ثبت من رواية ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: «لا هجرة، ولكن جهاد ونية، ولكن إذا استنفرتم فانفروا». أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
فالذي فسر به بعض الصحابة من جلساء عمر، رضي الله عنهم أجمعين، مِنْ أنه قد أمرنا إذا فتح الله علينا المدائن والحصون أن نحمد الله ونشكره ونسبحه، يعني نصلي ونستغفره- معنى مليح صحيح، وقد ثبت له شاهد من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقت الضحى ثماني ركعات، فقال قائلون: هي صلاة الضحى. وأجيبوا بأنه لم يكن يواظب عليها، فكيف صلاها ذلك اليوم وقد كان مسافرًا لم يَنْو الإقامة بمكة؟ ولهذا أقام فيها إلى آخر شهر رمضان قريبًا من تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة ويُفطر هو وجميع الجيش، وكانوا نحوًا من عشرة آلاف. قال هؤلاء: وإنما كانت صلاة الفتح، قالوا: فيستحب لأمير الجيش إذا فتح بلدًا أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات.
وهكذا فعل سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن، ثم قال بعضهم: يصليها كلها بتسليمة واحدة. والصحيح أنه يسلم من كل ركعتين، كما ورد في سنن أبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم يوم الفتح من كل ركعتين. وأما ما فسر به ابن عباس وعمر، رضي الله عنهما، من أن هذه السورة نُعِي فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه الكريمة، واعلم أنك إذا فتحت مكة- وهي قريتك التي أخرجتك- ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فقد فرغ شغلنا بك في الدنيا، فتهيأ للقدوم علينا والوفود إلينا، فالآخرة خير لك من الدنيا، ولسوف يعطيك ربك فترضى، ولهذا قال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}.
قال النسائي: أخبرنا عمرو بن منصور، حدثنا محمد بن محبوب، حدثنا أبو عوانة، عن هلال ابن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخر السورة، قال: نُعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسُه حين أنزلت، فأخذ في أشدّ ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: «جاء الفتح، وجاء نصر الله، وجاء أهل اليمن». فقال رجل: يا رسول الله، وما أهل اليمن؟ قال: «قوم رقيقة قلوبهم، لَيِّنة قلوبهم، الإيمان يَمانٍ، والحكمة يمانية، والفقه يمان».
وقال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جَرير، عن منصور، عن أبي الضحَى، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي» يتأول القرآن.
وأخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي، من حديث منصور، به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق قال: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قول: «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه». وقال: «إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره، إنه كان توابا، فقد رأيتها: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}».
ورواه مسلم من طريق داود- وهو ابن أبي هند- به.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو السائب، حدثنا حفص، حدثنا عاصم، عن الشعبي، عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد، ولا يذهب ولا يجيء، إلا قال: «سبحان الله وبحمده». فقلت: يا رسول الله، إنك تكثر من سبحان الله وبحمده، لا تذهب ولا تجيء، ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت: سبحان الله وبحمده؟ قال: «إني أمرت بها»، فقال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخر السورة.
غريب، وقد كتبنا حديث كفارة المجلس من جميع طرقه وألفاظه في جزء مُفرد، فيكتب هاهنا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عُبَيدة، عن عبد الله قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} كان يكثر إذا قرأها- ورَكَعَ- أن يقول: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم» ثلاثا.
تفرد به أحمد.
ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه، عن عمرو بن مُرّة، عن شعبة، عن أبي إسحاق، به.
والمراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولا واحدًا، فإن أحياء العرب كانت تَتَلَوّم بإسلامها فتح مكة، يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبي. فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجًا، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانًا، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام، ولله الحمد والمنة.
وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال: لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الأحياء تَتَلَوّمُ بإسلامها فتح مكة، يقولون: دعوه وقومه، فإن ظهر عليهم فهو نبي. الحديث وقد حَرّرنا غزوة الفتح في كتابنا: السيرة، فمن أراد فليراجعه هناك، ولله الحمد والمنة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن الأوزاعي، حدثني أبو عمار، حدثني جار لجابر بن عبد الله قال: قدمت من سفر فجاءني جابر بن عبد الله، فسلم عليّ، فجعلت أحدّثهُ عن افتراق الناس وما أحدثوا، فجعل جابر يبكي، ثم قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس دخلوا في دين الله أفواجًا، وسيخرجون منه أفواجًا».
آخر تفسير سورة إذا جاء نصر الله والفتح ولله الحمد والمنة.