فصل: تفسير الآيات (240- 242):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (240- 242):

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)}
قال الأكثرون: هذه الآية منسوخة بالتي قبلها وهي قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}
قال البخاري: حدثنا أمية حدثنا يزيد بن زُرَيع عن حبيب عن ابن أبي مُلَيْكة، قال ابن الزبير: قلت لعثمان بن عفان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها- أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئاً منه من مكانه.
ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان: إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها، وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها؟ فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي، وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها فأثبتها حيث وجدتها.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة، فنسختها آية المواريث فجعل لهن الربع أو الثمن مما ترك الزوج. ثم قال: وروي عن أبي موسى الأشعري، وابن الزبير ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل بن حيان، وعطاء الخراساني والربيع بن أنس: أنها منسوخة.
وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله ثم أنزل الله بعد: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}
فهذه عدة المتوفي عنها زوجها إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها وقال: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة.
قال: وروي عن مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان، قالوا: نسختها {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}
قال: وروي عن سعيد بن المسيب قال: نسختها التي في الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49].
قلت: وروي عن مقاتل وقتادة: أنها منسوخة بآية الميراث.
وقال البخاري: حدثنا إسحاق بن راهويه، حدثنا روح حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قال: كانت هذه العدة، تعتد عند أهل زوجها واجب فأنزل الله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت وهو قول الله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فالعدة كما هي واجب عليها زعم ذلك عن مجاهد: رحمه الله.
وقال عطاء: وقال ابن عباس: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت وهو قول الله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت لقول الله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السكنى، فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها ثم أسند البخاري عن ابن عباس مثل ما تقدم عنه.
فهذا القول الذي عول عليه مجاهد وعطاء من أن هذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة كما زعمه الجمهور حتى يكون ذلك منسوخاً بالأربعة الأشهر وعشرا، وإنما دلت على أن ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات أن يمكنَّ من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا إن اخترن ذلك ولهذا قال: {وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ} أي: يوصيكم الله بهن وصية كقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} الآية [النساء: 11] وقال: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12] وقيل: إنما انتصب على معنى: فلتوصوا بهن وصية. وقرأ آخرون بالرفع {وَصِيَّةٌ} على معنى: كتب عليكم وصية واختارها ابن جرير ولا يمنعن من ذلك لقوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فأما إذا انقضت عدتهن بالأربعة الأشهر والعشر أو بوضع الحمل، واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} وهذا القول له اتجاه، وفي اللفظ مساعدة له، وقد اختاره جماعة منهم: الإمام أبو العباس بن تيمية ورده آخرون منهم: الشيخ أبو عمر بن عبد البر.
وقول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث إن أرادوا ما زاد على الأربعة أشهر والعشر فمسلم، وإن أرادوا أن سكنى الأربعة الأشهر وعشر لا تجب في تركة الميت فهذا محل خلاف بين الأئمة، وهما قولان للشافعي رحمه الله، وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج بما رواه مالك في موطئه عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرَة، عن عمته زينب بنت كعب بن عُجْرَة: أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أخبرتها: أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا، حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خُدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» قالت: فانصرفت، حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم- أو أمر بي فنوديت له- فقال: «كيف قلت؟» فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي. فقال: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا. قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته، فاتبعه وقضى به.
وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك به، ورواه النسائي أيضاً وابن ماجه من طرق عن سعد بن إسحاق به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما نزل قوله: {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] قال رجل: إن شئتُ أحسنت ففعلت وإن شئتُ لم أفعل. فأنزل الله هذه الآية: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة، سواء كانت مفوضة أو مفروضًا لها أو مطلقًا قبل المسيس أو مدخولا بها، وهو قول عن الشافعي، رحمه الله. وإليه ذهب سعيد بن جبير. وغيره من السلف واختاره ابن جرير. ومن لم يوجبها مطلقا يخصص من هذا العموم بمفهوم قوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} وأجاب الأولون: بأن هذا من باب ذكر بعض أفراد العموم فلا تخصيص على المشهور المنصور، والله أعلم.
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} أي: في إحلاله وتحريمه وفروضه وحدوده فيما أمركم به ونهاكم عنه بيَّنه ووضحه وفسره ولم يتركه مجملا في وقت احتياجكم إليه {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: تفهمون وتتدبرون.

.تفسير الآيات (243- 245):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}
روي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف وعنه: كانوا ثمانية آلاف.
وقال أبو صالح: تسعة آلاف وعن ابن عباس: أربعون ألفًا وقال وهب بن منبه وأبو مالك: كانوا بضعة وثلاثين ألفًا.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانوا أهل قرية يقال لها: داوردان.
وكذا قال السدي وأبو صالح وزاد: من قبل واسط.
وقال سعيد بن عبد العزيز: كانوا من أهل أذرعات، وقال ابن جريج عن عطاء قال: هذا مثل.
وقال علي بن عاصم: كانوا: من أهل داوردان: قرية على فرسخ من واسط.
وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب النهدي، عن المنهال بن عمرو الأسدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارًا من الطاعون قالوا: نأتي أرضًا ليس بها موت حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم موتوا فماتوا فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم، فذلك قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} الآية.
وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم وأصابهم بها وباء شديد فخرجوا فرارًا من الموت إلى البرية، فنزلوا واديًا أفيح، فملأوا ما بين عدوتيه فأرسل الله إليهم ملكين أحدهما من أسفل الوادي والآخر من أعلاه فصاحا بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد فحيزوا إلى حظائر وبني عليهم جدران وقبور وفنوا وتمزقوا وتفرقوا فلما كان بعد دهر مَرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل فسأل الله أن يحييهم على يديه فأجابه إلى ذلك وأمره أن يقول: أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض، ثم أمره فنادى: أيتها العظام إن الله يأمرك بأن تكتسي لحمًا وعصبًا وجلدًا. فكان ذلك، وهو يشاهده ثم أمره فنادى: أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره. فقاموا أحياء ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة، وهم يقولون: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت.
وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أي: فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} أي: لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم.
وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر وأنه، لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن هؤلاء فروا من الوباء طلبًا لطول الحياة فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعًا في آن واحد.
ومن هذا القبيل الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى أخبرنا مالك وعبد الرزاق أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم بن الخطاب عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس: أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فذكر الحديث فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبًا لبعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارًا منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه» فحمد الله عمر ثم انصرف.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به.
طريق أخرى لبعضه: قال أحمد: حدثنا حجاج ويزيد العمِّي قالا أخبرنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة: أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر، وهو في الشام عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارًا منه» قال: فرجع عمر من الشام.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث مالك عن الزهري بنحوه.
وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: كما أن الحذر لا يغني من القدر كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه لا يقرب أجلا ولا يباعده، بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه ولا ينقص منه كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168] وقال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 77، 78] وروينا عن أمير الجيوش ومقدم العساكر وحامي حوزة الإسلام وسيف الله المسلول على أعدائه أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه، أنه قال:- وهو في سياق الموت: لقد شهدت كذا وكذا موقفًا وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير! فلا نامت أعين الجبناء يعني: أنه يتألم لكونه ما مات قتيلا في الحرب ويتأسف على ذلك ويتألم أن يموت على فراشه.
وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} يحث تعالى عباده على الإنفاق في سبيله، وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع. وفي حديث النزول أنه يقول تعالى: «من يقرض غير عديم ولا ظلوم» وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال:
لما نزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدحداح» قال: أرني يدك يا رسول الله. قال: فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي. قال: وحائط له فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها. قال: فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح. قالت: لبيك قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل. وقد رواه ابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر مرفوعًا بنحوه.
وقوله: {قَرْضًا حَسَنًا} روي عن عمر وغيره من السلف: هو النفقة في سبيل الله. وقيل: هو النفقة على العيال.
وقيل: هو التسبيح والتقديس وقوله: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} كما قال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} الآية [البقرة: 261]. وسيأتي الكلام عليها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد أخبرنا مبارك بن فضالة عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي، قال: أتيت أبا هريرة فقلت له: إنه بلغني أنك تقول: إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة. فقال: وما أعجبك من ذلك؟ لقد سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة».
هذا حديث غريب، وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير، لكن رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال:
حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد المؤدب، حدثنا يونس بن محمد المؤدب، حدثنا محمد بن عقبة الرباعي عن زياد الجصاص عن أبي عثمان النهدي، قال: لم يكن أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني فقدم قبلي حاجا قال: وقدمت بعده فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة» فقلت: ويحكم، والله ما كان أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني، فما سمعت هذا الحديث. قال: فتحملت أريد أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجا فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا الحديث، فلقيته لهذا فقلت: يا أبا هريرة ما حديث سمعت أهل البصرة يأثرون عنك؟ قال: ما هو؟ قلت: زعموا أنك تقول: إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة. قال: يا أبا عثمان وما تعجب من ذا والله يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} ويقول: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} [التوبة: 38] والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة».
وفي معنى هذا الحديث ما رواه الترمذي وغيره من طريق عمرو بن دينار عن سالم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دخل سوقًا من الأسواق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة». الحديث.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعة حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن بسام حدثنا أبو إسماعيل المؤدب، عن عيسى بن المسيب عن نافع عن ابن عمر قال: لما نزلت {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة: 261] إلى آخرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رب زد أمتي» فنزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} قال: رب زد أمتي. فنزل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وروى ابن أبي حاتم أيضاً عن كعب الأحبار: أنه جاءه رجل فقال: إني سمعت رجلا يقول: من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] مرة واحدة بنى الله له عشرة آلاف ألف غرفة من در وياقوت في الجنة أفأصدق بذلك؟ قال: نعم، أو عجبت من ذلك؟ قال: نعم وعشرين ألف ألف وثلاثين ألف ألف وما يحصي ذلك إلا الله ثم قرأ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} فالكثير من الله لا يحصى.
وقوله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} أي: أنفقوا ولا تبالوا فالله هو الرزاق يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على آخرين، له الحكمة البالغة في ذلك {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: يوم القيامة.