فصل: تفسير الآية رقم (278):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (278):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)}
فصدر الآية بالأمر بتقواه المضادة للربا، وأمر بترك ما بقي من الربا بعد نزول الآية، وعفا لهم عما قبضوه به قبل التحريم، ولولا ذلك لردوا ما قبضوه به قبل التحريم، وعلق هذا الامتثال على وجود الإيمان منهم. والمعلق على شرط منتف عند انتفائه. ثم أكد عليهم التحريم بأغلظ شيء وأشده. وهي محاربة المرابي للّه ورسوله.

.تفسير الآية رقم (279):

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)}
ففي ضمن هذا الوعيد: أن المرابي محارب للّه ورسوله، قد آذنه اللّه بحربه. ولم يجيء هذا الوعيد في كبيرة سوى الربا، وقطع الطريق، والسعي في الأرض بالفساد، لأن كل واحد منهما مفسد في الأرض قاطع الطريق على الناس: هذا بقهره لهم وتسلطه عليهم. وهذا بامتناعه من تفريح كرباتهم إلا بتحميلهم كربات أشد منها. فأخبر عن قطاع الطريق بأنهم يحاربون اللّه ورسوله. وأذن هؤلاء إن لم يتركوا الربا بحربه وحرب رسوله.
ثم قال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ} يعني إن تركتم الربا وتبتم إلى اللّه منه، وقد عاقدتم عليه، فإنما لكم رؤوس أموالكم لا تزدادون عليها فتظلمون الآخذ. ولا تنقصون منها فيظلمكم من أخذها. فإن كان هذا القابض معسرا فالواجب إنظاره إلى ميسرة. وإن تصدقتم عليه وأبرأتموه فهو أفضل لكم وخير لكم. فإن أبت نفوسكم وشحّت بالعدل الواجب أو الفضل المندوب فذكروها يوما ترجعون فيه إلى اللّه وتلقون ربكم، فيوفيكم جزاء أعمالكم أحوج ما أنتم إليه.
فذكر سبحانه المحسن وهو المتصدق ثم عقبه بالظالم وهو المرابي.
ثم ذكر العادل في آية التداين:

.تفسير الآية رقم (282):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}
ولولا أن هذه الآية تستدعي سفرا وحدها لذكرت بعض تفسيرها.
والغرض إنما هو التنبيه والإشارة، وقد ذكر أيضا العادل، وهو آخذ رأس ماله من غريمه بلا زيادة ولا نقصان.
ثم ختم السورة بهذه الخاتمة العظيمة، التي هي من كنز تحت عرشه.
والشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه، وفيها من العلوم والمعارف وقواعد الإسلام وأصول الإيمان، ومقامات الإحسان ما يستدعي بيانه كتابا مفردا.

.سورة آل عمران:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (18):

{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}
تضمنت هذه الآية الكريمة: إثبات حقيقة التوحيد، والرد على جميع هذه الطوائف- التي فصل عقائدها الباطلة قبل هذا- والشهادة ببطلان أقوالهم، ومذاهبهم. وهذا إنما يتبين بعد فهم الآية، ببيان ما تضمنته من المعارف الإلهية، والحقائق الإيمانية.
فتضمنت هذه الآية: أجل شهادة وأعظمها، وأعدلها وأصدقها من أجلّ شاهد، بأجل مشهود.
وعبارات السلف في {شهد} تدور على: الحكم والقضاء، والإعلام والبيان والإخبار.
قال مجاهد: حكم وقضى.
وقال الزجاج: بيّن. وقالت طائفة: أعلم وأخبر.
وهذه الأقوال كلها حق، لا تنافي بينها. فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد، وخبره وقوله: وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه. فلها أربع مراتب:
فأول مراتبها: علم ومعرفة، واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته.
وثانيها: تكلمه بذلك ونطقه به. وإن لم يعلم به غيره، بل يتكلم هو به مع نفسه، ويذكرها وينطق بها، أو يكتبها.
وثالثها: أن يعلم غيره بما شهد به، وبخبره به، ويبينه له.
ورابعها: أن يلزمه بمضمونها، ويأمره به.
فشهادة اللّه سبحانه لنفسه بالوحدانية، والقيام بالقسط: تضمنت هذه المراتب الأربع: علم اللّه سبحانه بذلك، وتكلمه به، وإعلامه، وإخباره خلقه به، وأمرهم وإلزامهم به.
أما مرتبة العلم: فإن الشهادة بالحق تتضمنها ضرورة، وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به.
قال اللّه تعالى: {شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [43: 86] وقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «على مثلها فاشهد» وأشار إلى الشمس.
وأما مرتبة التكلم والخبر: فمن تكلم بشيء وأخبر به فقد شهد به.
وإن لم يتلفظ بالشهادة.
قال تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [6: 150] وقال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ} [43: 19] فجعل ذلك منهم شهادة، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة، ولم يؤدوها عند غيرهم.
قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «عدلت شهادة الزور الإشراك باللّه»وشهادة الزور: هي قول الزور، كما قال تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ} [22: 31] وعند هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «عدلت شهادة الزور الإشراك باللّه» فسمى قول الزور شهادة. وسمى اللّه تعالى إقرار العبد على نفسه شهادة، قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} [4: 135]. فشهادة المرء على نفسه: هي إقرار المرء على نفسه. وفي الحديث الصحيح في قصة ماعز: «فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم».
وقال تعالى: {قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ} [7: 37].
وهذا وأضعافه يدل على أن الشاهد عند الحاكم وغيره لا يشترط في قبول شهادته أن يتلفظ بلفظ الشهادة، كما هو مذهب مالك وأهل المدينة، وظاهر كلام أحمد. ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراط ذلك.
وقد قال ابن عباس: شهد عندي رجال مرضيّون- وأرضاهم عندي عمر- أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس.
ومعلوم أنهم لم يتلفظوا بلفظ الشهادة، والعشرة الذين شهد لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وسلم بالجنة: لم يتلفظ في شهادته لهم بلفظ الشهادة، بل قال: «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة»- الحديث.
وأجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال: (لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه) فقد دخل في الإسلام، وشهد شهادة الحق، ولم يتوقف إسلامه على لفظ الشهادة. وقد دخل في قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «حتى يشهدوا: أن لا إله إلا اللّه» وفي اللفظ الآخر: «حتى يقولوا: لا إله إلا اللّه» فدل على أن قولهم: «لا إله إلا اللّه» شهادة منهم، وهذا أكثر من أن تذكر شواهده في الكتاب والسنة. فليس مع من اشترط لفظ الشهادة دليل يعتمد عليه. واللّه أعلم.
وأما مرتبة الإعلام والإخبار: فنوعان: إعلام بالقول، وإعلام بالفعل.
وهذا شأن كل معلّم لغيره بأمر: تارة يعلمه بقوله، وتارة بفعله. ولهذا كان من جعل دارا مسجدا وفتح بابها لكل من دخل إليها، وأذن بالصلاة فيها- معلما أنها وقف، وإن لم يتلفظ به. وكذلك من وجد متقربا إلى غيره بأنواع المسار- معلما له ولغيره: أنه يحبه، وإن لم يتلفظ بقوله. وكذلك بالعكس.
وكذلك شهادة الرب جل جلاله وبيانه وإعلامه: يكون بقوله تارة، وبفعله تارة أخرى.
فالقول: هو ما أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، مما قد علم بالاضطرار: أن جميع الرسل أخبروا عن اللّه أنه شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو. وأخبر بذلك. وأمر عباده أن يشهدوا به.
وشهادته سبحانه: أنه لا إله إلا هو معلومة من جهة كل من بلّغ عنه كلامه.
وأما بيانه وإعلامه بفعله: فهو ما تضمنه خبره تعالى عن الأدلة الدالة على وحدانيته التي تعلم دلالتها بالعقل والفطرة.
وهذا أيضا يستعمل فيه لفظ الشهادة، كما يستعمل فيه لفظ الدلالة، والإرشاد والبيان، فإن الدليل يبين المدلول عليه ويظهره، كما يبينه الشاهد والمخبر بل قد يكون البيان بالفعل أظهر وأبلغ. وقد يسمى شاهد الحال نطقا وقولا له وكلاما، لقيامه مقامه، وأدائه مؤداه. كما قيل:
وقالت العينان: سمعا وطاعه ** وحدّرتا بالدّر لمّا يثقّب

وقال الآخر:
شكا إليّ جملي طول السّرى ** صبرا جميلي، فكلانا مبتلى

وقال الآخر: امتلأ الحوض، وقال: قطني مهلا رويدا، قد ملأت بطني ويسمى هذا شهادة أيضا، كما في قوله تعالى: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [9: 17] فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلون من أعمال الكفر وأقواله، فهي شهادة بكفرهم، وهم شاهدون على أنفسهم بما شهدت بها عليهم.
والمقصود: أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه. فإن دلالتها إنما هي بخلقه وجعله، ويشهد بآياته القولية الكلامية المطابقة لما شهدت به آياته الخلقية، فتتطابقت شهادة القول وشهادة الفعل، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [41: 53] أي أن القرآن هو الحق. فأخبر أنه يدل بآياته الأفقية والنفسية على صدق آياته القولية الكلامية.
وهذه الشهادة الفعلية: قد ذكرها غير واحد من أئمة العربية والتفسير.
قال ابن كيسان: شهد اللّه بتدبيره العجيب، وأموره المحكمة عند خلقه: أنه لا إله إلا هو.
فصل:
وأما المرتبة الرابعة: وهي الأمر بذلك والإلزام به، وإن كان مجرد الشهادة لا يستلزمه، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه، وتتضمنه.
فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به، وقضى وأمر، وألزم عباده به كما قال تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [17: 23] وقال تعالى: {وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ} [16: 51] وقال تعالى: {وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [98: 5] وقال تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ} [17: 22] وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ} [26: 213] والقرآن كله شاهد بذلك.
ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك: أنه إذا شهد: أنه لا إله إلا هو فقد أخبر، وبين، وأعلم وحكم وقضى: أن ما سواه ليس بإله، وأن إلهية ما سواه أبطل الباطل، وإثباتها أظلم الظلم. فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره. وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلها، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها. وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلا يستفتي، أو يستشهد، أو يستطب من ليس أهلا لذلك، ويدع من هو أهل، فتقول له: هذا ليس بمفت، ولا شاهد، ولا طبيب، المفتي فلان، والشاهد فلان، والطبيب فلان. فإن هذا أمر منك ونهي.
وأيضا فإن الآية دلت أنه وحده هو المستحق للعبادة. فإذا أخبر أنه وحده المستحق للعبادة تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تعالى عليهم، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم. فإذا شهد سبحانه أنه لا إله إلا هو تضمنت شهادته الأمر والإلزام بتوحيده.
وأيضا: فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجمل الخبرية، ويقال للجمل الخبرية: قضية وحكم وقد حكم فيها بكيت وكيت.
قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [37: 151- 154].لكن هذا حكم لا إلزام معه، والحكم والقضاء بأنه لا إله إلا هو: متضمن للإلزام. واللّه سبحانه أعلم.
فصل:
وقوله تعالى: {قائِماً بِالْقِسْطِ}.
القسط هو العدل. فشهد سبحانه أنه قائم بالعدل في توحيده، وبالوحدانية في عدله. والتوحيد والعدل: هما جماع صفات الكمال. فإن التوحيد يتضمن تفرده سبحانه بالكمال والجلال، والمجد والتعظيم الذي لا ينبغي لأحد سواه. والعدل يتضمن وقوع أفعاله كلها على السداد والصواب، وموافقة الحكمة.
فهذا توحيد الرسل وعدلهم: إثبات حقائق الأسماء والصفات على ما يليق بالرب سبحانه، والأمر بعبادة اللّه وحده لا شريك له، وإثبات القدر، والحكم والغايات المحمودة بفعله وأمره، لا توحيد الجهمية والمعتزلة والقدرية. الذي هو إنكار الصفات، وحقائق الأسماء الحسنى، وعدلهم، الذي هو التكذيب بالقدر، أو نفي الحكم والغايات والعواقب الحميدة التي يفعل الرب لأجلها ويأمر.
وقيامه سبحانه بالقسط في شهادته: يتضمن أمورا.
أحدها: أنه قائم بالقسط في هذه الشهادة التي هي أعدل شهادة على الإطلاق، وإنكارها وجحودها أظلم الظلم على الإطلاق. فلا أعدل من توحيد الرسل، ولا أظلم من الشرك. فهو سبحانه قائم بالعدل في هذه الشهادة قولا وفعلا، حيث شهد بها وأخبر، وأعلم عباده وبيّن لهم تحقيقها وصحتها، وألزمهم بمقتضاها، وحكم به، وجعل الثواب والعقاب عليها، وجعل الأمر والنهي من حقوقها وواجباتها.
فالدين كله من حقوقها. والثواب كله عليها. والعقاب كله على تركها. وهذا هو العدل الذي قام به الرب تعالى في هذه الشهادة.
فأوامره كلها تكميل لها. وأمر بأداء حقوقها. ونواهيه كلها صيانة لها عما يهدمها ويضادها.
وثوابه كلها عليها. وعقابه على تركها، وترك حقوقها.
وخلقه السموات والأرض وما بينهما كان بها ولأجلها.
وهي الحق الذي خلقت به المخلوقات. وضدها: هو الباطل والعبث الذي نزه اللّه نفسه عنه، وأخبر أنه لم يخلق به السموات والأرض.
قال تعالى ردا على المشركين المنكرين لهذه الشهادة: {وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [38: 27] وقال تعالى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [46: 1- 3] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [10: 5] وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ} [30: 8] وقال تعالى: {وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ} [15: 85] وهذا كثير في القرآن.
والحق الذي خلقت به السموات والأرض، ولأجله: هو التوحيد وحقوقه: من الأمر والنهي. والثواب والعقاب، والشرع والقدر، والخلق، والثواب والعقاب: قائم بالعدل. والتوحيد صادر عنهما. وهذا هو الصراط المستقيم الذي عليه الرب سبحانه وتعالى.
قال تعالى حكاية عن نبيه هود أنه قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [11: 56] فهو سبحانه على صراط مستقيم في قوله وفعله. فهو يقول الحق ويفعل العدل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [6: 115] {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [33: 4].
فالصراط المستقيم الذي عليه ربنا تبارك وتعالى: هو مقتضي التوحيد والعدل.
قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [16: 76].
والصنم مثل العبد الذي هو كلّ على مولاه، أينما يوجهه لا يأت بخير.
والمقصود: أن قوله تعالى: {قائِماً بِالْقِسْطِ} هو كقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
وقوله: {قائِماً بِالْقِسْطِ}: نصب على الحال. وفيه وجهان.
أحدهما: أنه حال من الفاعل في {شهد اللّه} والعامل فيه معنى الفعل. والمعنى على هذا على هذا: شهد اللّه حال قيامه بالقسط: أنه لا إله إلا هو.
والثاني: أنه حال من قوله: {هو} والعامل فيها معنى النفي، أي لا إله إلا هو حال كونه قائما بالقسط.
وبين التقديرين فرق ظاهر. فإن التقدير الأول يتضمن أن المعنى: شهد اللّه متكلما بالعدل به، آمرا به، فاعلا له، مجازيا عليه: أنه لا إله إلا هو.
فإن العدل يكون في القول والفعل، والمقسط هو العادل في قوله وفعله.
فشهد اللّه قائما بالعدل قولا وفعلا: أنه لا إله إلا هو. وفي ذلك تحقيق لكون هذه الشهادة شهادة عدل وقسط. وهي أعدل شهادة، كما أن المشهود به أعدل الشيء، وأصحه وأحقه.
وذكر ابن السائب وغيره في سبب نزول الآية: ما يشهد بذلك. وهو: «أن حبرين من أحبار الشام قدما على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم. فلما أبصرا المدينة، قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بمدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان. فلما دخلا على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قالا له: أنت محمد؟ قال: نعم قالا: وأحمد؟ قال: نعم. قالا: نسألك عن شهادة. فإن أخبرتنا بها آمنا بك.
قال سلاني. قالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب اللّه فنزلت: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} الآية»
.
وإذا كان القيام بالقسط يكون في القول والفعل: كان المعنى: أنه كان سبحانه يشهد، وهو قائم بالعدل عالم به، لا بالظلم. فإن هذه الشهادة تضمنت قولا وعملا. فإنها تضمنت أنه هو الذي يستحق العبادة وحده دون غيره، وأن الذين عبدوه وحده هم المفلحون السعداء. وأن الذين أشركوا به غيره: هم الضالون الأشقياء. فإذا شهد قائما بالعدل المتضمن جزاء المخلصين بالجنة، وجزاء المشركين بالنار: كان هذا من تمام موجب الشهادة، وتحقيقها. وكان قوله: {قائما بالقسط} تنبيها على جزاء الشاهد بها والجاحد لها. واللّه أعلم.
فصل:
وأما التقدير الثاني- وهو أن يكون قوله: {قائما} حالا مما بعد {إلا}- فالمعنى: أنه لا إله إلا هو قائما بالعدل. فهو وحده المستحق الإلهية، مع كونه قائما بالقسط.
قال شيخنا: وهذا التقدير أرجح. فإنه يتضمن أن الملائكة وأولي العلم، يشهدون له بأنه لا إله إلا هو، وأنه قائم بالقسط.
قلت: مراده: أنه إذا كان قوله: {قائما بالقسط} حالا من المشهود به: فهو كالصفة له. فإن الحال صفة في المعنى لصاحبها. فإذا وقعت الشهادة على ذي الحال وصاحبها، كان كلاهما مشهودا به. فيكون الملائكة وأولوا العلم قد شهدوا بأنه قائم بالقسط، كما شهدوا بأنه لا إله إلا هو.
والتقدير الأول لا يتضمن ذلك. فإنه إذا كان التقدير: شهد اللّه قائما بالقسط: أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو- كان القيام بالقسط حالا من اسم اللّه وحده.
وأيضا: فكونه قائما بالقسط فيما شهد به أبلغ من كونه حالا من مجرد الشهادة.
فإن قيل: فإذا كان حالا من {هو} فهلا اقترن به؟ ولم فصل بين صاحب الحال وبينها بالمعطوف، فجاء متوسطا بين صاحب الحال وبينها؟.
قلت: فائدته ظاهرة. فإنه لو قال: شهد اللّه أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط والملائكة وأولو العلم- أو هم عطف الملائكة وأولي العلم على الضمير في قوله: {قائما بالقسط} ويحسن العطف لأجل الفصل. وليس المعنى على ذلك قطعا. وإنما المعنى على خلافه. وهو أن قيامه بالقسط مختص به كما أنه مختص بالإلهية. فهو وحده الإله المعبود المستحق للعبادة. وهو وحده المجازي المثيب المعاقب بالعدل.
قوله: {لا إله إلا هو} ذكر محمد بن جرير الطبري أنه قال: الأولى وصف وتوحيد. والثانية: رسم وتعليم، أي قولوا: لا إله إلا هو.
ومعنى هذا: أن الأولى تضمنت أن اللّه سبحانه شهد بها وأخبر بها.
والتالي للقرآن إنما يخبر عن شهادة اللّه، لا عن شهادته هو. وليس في ذلك شهادة من التالي نفسه، فأعاد سبحانه ذكرها مجردة ليقولها التالي. فيكون شاهدا هو بها أيضا.
وأيضا: فالأولى خبر عن الشهادة بالتوحيد. والثانية خبر عن نفس التوحيد وختم بقوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فتضمنت الآية توحيده وعدله، وعزته وحكمته.
فالتوحيد يتضمن ثبوت صفات كماله، ونعوت جلاله، وعدم المماثل له فيها، وعبادته وحده لا شريك له.
والعدل يتضمن وضعه الأشياء موضعها، وتنزيلها منازلها، وأنه لم يخص شيئا منها إلا بمخصص اقتضى ذلك، وأنه لا يعاقب من لا يستحق العقوبة، ولا يمنع من يستحق العطاء، وان كان هو الذي جعله مستحقا.
والعزة تتضمن كمال قدرته، وقوته وقهره.
والحكمة تتضمن كمال علمه وخبرته، وأنه أمر ونهي، وخلق وقدر، لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة التي يستحق عليها كمال الحمد.
فاسمه {العزيز} يتضمن الملك. واسمه {الحكيم} يتضمن الحمد.
وأول الآية يتضمن التوحيد، وذلك حقيقة لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
وذلك أفضل ما قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والنبيون من قبله.
و{الحكيم} الذي إذا أمر بأمر كان المأمور به حسنا في نفسه، وإذا نهى عن شيء كان المنهي عنه قبيحا في نفسه، وإذا أخبر بخبر كان صدقا، وإذا فعل فعلا كان صوابا. وإذا أراد شيئا كان أولى بالإرادة من غيره.
وهذا الوصف على الكمال: لا يكون إلا للّه وحده.
فتضمنت هذه الآية وهذه الشهادة وحدانيته المنافية للشرك، وعدله المنافي للظلم، وعزته المنافية للعجز، وحكمته المنافية للجهل والعيب.
ففيها: الشهادة له بالتوحيد والعدل والقوة، والعلم والحكمة، ولهذا كانت أعظم شهادة.
ولا يقوم بهذه الشهادة على وجهها من جميع الطوائف. إلا أهل السنة، وسائر طوائف أهل البدع لا يقومون بها.
فالفلاسفة أشد الناس إنكارا لها، وجحودا لمضمونها من أولها إلى آخرها.
وطوائف الاتحادية: هم أبعد خلق اللّه منها من كل وجه.
وطائفة الجهمية: تنكر حقيقتها من وجوه.
منها: أن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة له واشتياقا إليه، وإنابة.
وعندهم: أن اللّه لا يحبّ، ولا يحبّ.
ومنها: أن الشهادة كلامه وخبره عما شهد به. وهو عندهم: لا يقول ولا يتكلم، ولا يشهد ولا يخبر.
ومنها: أنها تضمنت مباينته لخلقه بذاته وصفاته وعند فرعونيهم: أنه لا يباين الخلق ولا يحايثهم، وليس فوق العرش إله يعبد، ولا رب يصلى له ويسجد. وعند حلوليتهم: أنه حال في كل مكان بذاته، حتى في الأمكنة التي يستحي من ذكرها. فهؤلاء الجهمية، وأولئك نفاتهم.
ومنها: أن قيامه بالقسط في أفعاله وأقواله. وعندهم: أنه لم يقم به فعل، في مقدوره ما يكون ظلما ولا قسطا، بل الظلم عندهم: هو المحال الممتنع لذاته. والقسط: هو الممكن. فنزه نفسه سبحانه- على قولهم- عن المحال الممتنع لذاته، الذي لا يدخل تحت القدرة.
ومنها: أن العزة هي القوة والقدرة. وعندهم: لا يقوم به صفة.
ومنها: أن الحكمة هي الغاية التي يفعل لأجلها، وتكون هي المطلوبة بالفعل، ويكون وجودها أولى من عدمها. وهذا عندهم ممتنع في حقه سبحانه وتعالى. فلا يفعل لحكمة، ولا غاية لفعله ولا أمره. وما ثم إلا محض المشيئة المجردة عن الحكمة والتعليل.
ومنها: أن الإله: هو الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلى. وهو الذي يفعل بقدرته، ومشيئته وحكمته. وهو الموصوف بالصفات والأفعال، المسمى بالأسماء التي قامت به حقائقها ومعانيها. وهذا لا يثبته على الحقيقة إلا أتباع الرسل، وهم أهل العدل والتوحيد على الحقيقة.
فصل:
فالجهمية والمعتزلة تزعم أن ذاته لا تحب. ووجهه لا يراد، ولا يلتذ بالنظر إليه، ولا تشتاق القلوب إليه، فهم في الحقيقة منكرون لإلهيته.
والقدرية: تنكر دخول أفعال الملائكة والجن والإنس وسائر الحيوان تحت قدرته ومشيئته وخلقه. فهم منكرون في الحقيقة لكمال عزته وملكه.
والجبرية: تنكر حكمته، وأن يكون له في أفعاله وأوامره غاية يفعل ويأمر لأجلها. فهم منكرون في الحقيقة لحكمته وحمده.
وأتباع ابن سينا والنصير الطوسي وفروخهما: ينكرون أن يكون ربهم ماهية غير الوجود المطلق، وأن يكون له وصف ثبوتي زائد على ماهية الوجود. فهم في الحقيقة منكرون لذات ربنا وصفاته وأفعاله، لا يتحاشون من ذلك.
والاتحادية: أدهى وأمرّ. فإنهم رفعوا القواعد من الأصل، وقالوا: ما ثم وجود خالق ووجود مخلوق، بل الخلق المشبّه هو عين الحق المنزه، كل ذلك من عين واحدة، بل هو العين الواحدة.
فهذه الشهادة العظيمة: كل هؤلاء هم بها غير قائمين. وهي متضمنة لإبطال ما هم عليه ورده، كما تضمنت إبطال ما عليه المشركون ورده. وهي مبطلة لقول طائفتي الشرك والتعطيل. ولا يقوم بهذه الشهادة إلا أهل التوحيد والإثبات الذين يثبتون للّه ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وينفون عنه مماثلة المخلوقات، ويعبدونه وحده لا يشركون به شيئا.
فصل:
وإذا كانت شهادته سبحانه تتضمن بيانه لعباده، ودلالتهم وتعريفهم لما شهد به، وإلا فلو شهد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها لم ينتفعوا بها، ولم يقم عليهم بها الحجة، كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة، ولم يبينها. بل كتمها: لم ينتفع بها أحد، ولم تقم بها حجة.
وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها، فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة: السمع، والبصر، والعقل.
أما السمع: فبسمع آياته المتلوة القولية، المتضمنة لإثبات صفات كماله. ونعوت جلاله وعلوه على عرشه فوق سبع سماواته، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لمن يشاء من عباده تكلما وتكليما، حقيقة لا مجازا.
وفي هذا إبطال لقول من قال: إنه لم يرد من عباده ما دلت عليه آياته السمعية: من إثبات معانيها، وحقائقها التي وضعت لها ألفاظها. فإن هذا ضد البيان والأعلام. ويعود على مقصود الشهادة بالإبطال والكتمان. وقد ذم اللّه من كتم شهادة عنده من اللّه. وأخبر أنه من أظلم الظالمين.
فإذا كانت عند العبد شهادة من اللّه تحقق ما جاء به رسوله من أعلام نبوته، وتوحيد مرسله، وأن إبراهيم وأهل بيته كانوا على الإسلام كلهم، وكتم هذه الشهادة- كان من أظلم الظالمين، كما فعله أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من اليهود الذين كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
فكيف يظن باللّه سبحانه أنه كتم الشهادة الحقّ التي يشهد بها الجهمية والمعتزلة والمعطلة، ولا يشهد بها لنفسه ثم يشهد لنفسه بما يضادها ويناقضها، ولا يجامعها بوجه ما؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
فإن اللّه سبحانه شهد لنفسه بأنه استوى على العرش، وبأنه القاهر فوق عباده، وبأن ملائكته يخافونه من فوقهم، وأن الملائكة تعرج إليه بالأمر، وتنزل من عنده به، وأن العمل الصالح يصعد إليه، وأنه يأتي ويجيء، ويتكلم ويرضى ويغضب ويحب وينادي، ويفرح ويضحك، وأنه يسمع ويبصر، وأنه يراه المؤمنون بأبصارهم يوم لقائه- إلى غير ذلك مما شهد به لنفسه، وشهد له به رسله، وشهدت له الجهمية بضد ذلك، وقالوا شهادتنا أصح وأعدل من شهادة النصوص، فإن النصوص تضمنت كتمان الحق، وإظهار خلافه. فشهادة الرب تعالى تكذب هؤلاء أشد التكذيب، وتتضمن أن الذي شهد به بيّنه وأوضحه وأظهره، حتى جعله في أعلى مراتب الظهور والبيان، وأنه لو كان الحق فيما يقوله المعطلة والجهمية لم يكن العباد قد انتفعوا بما شهد به سبحانه. فإن الحق الذي هو في نفس الأمر عندهم لم يشهد اللّه به لنفسه، ولم يظهره ولم يوضحه. فليس بحق، ولا يجوز أن يستفاد منه الحق واليقين.
وأما آياته العيانية الخلقية والنظر فيها، والاستدلال بها. فإنها تدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية. وآيات الرب: هي دلائله وبراهينه التي بها تعرف لعباده. فيها يعرفون أسماءه وصفاته، وتوحيده وأمره ونهيه.
فالرسل تخبر عنه بكلامه الذي تكلم به، وهو آياته القولية، ويستدلون على ذلك بمفعولاته التي تشهد على صحة ذلك، وهي آياته العيانية. والعقل يجمع بين هذه وهذه. فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتنفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة.
وهو سبحانه لكمال عدله ورحمته وإحسانه وحكمته ومحبته للعذر، وإقامته للحجة- لم يبعث نبيا من الأنبياء إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به.
قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [57: 35] وقال تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ} [16: 43، 44]وقال تعالى: {قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} [3: 183] وقال تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ} [35: 25] حتى إن من أخفى آيات الرسل: آيات هود حتى قال له قومه: {يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ} ومع هذا فبينته من أظهر البينات. وقد أشار إليها بقوله: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [11: 54] فهذا من أعظم الآيات: أن رجلا واحدا يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب، في غير جزع ولا فزع، ولا خور، بل هو واثق بما قاله جازم به. قد أشهد اللّه أولا على براءته من دينهم وما هم عليه، إشهاد واثق به، معتمد عليه، معلم لقومه أنه سبحانه وليه وناصره، وغير مسلطهم عليه، ثم أشهدهم إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة: أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون، ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتها، ثم أكد عليهم ذلك بالاستهانة بهم، واحتقارهم، وازدرائهم، وأنهم لو يجتمعون كلهم على كيده، وشفاء غيظهم منه، ثم يعاجلونه ولا يمهلونه، وفي ضمن ذلك: أنهم أضعف وأعجز وأقل من ذلك، وأنكم لو رمتموه لانقلبتم بغيظكم مكبوتين مخذولين.
ثم قرر دعوته أحسن تقرير، وبين أن ربه تعالى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه ووكيله، القائم بنصره وتأييده، وأنه على صراط مستقيم. فلا يخذل من توكل عليه، وآمن به، ولا يشمت به أعداءه، ولا يكون معهم عليه. فإن صراطه المستقيم الذي هو عليه في قوله وفعله: يمنع ذلك ويأباه.
وتحت هذا الخطاب: أن من صراطه المستقيم: أن ينتقم ممن خرج عنه، وعمل بخلافه، وينزل به بأسه. فإن الصراط المستقيم: هو العدل الذي الرب تعالى عليه. ومنه: انتقامه من أهل الشرك والإجرام، ونصره أولياءه ورسله على أعدائهم، وأن يذهب بهم ويستخلف قوما غيرهم، ولا يضره ذلك شيئا، وأنه القائم سبحانه على كل شيء: حفظا ورعاية وتدبيرا وإحصاء.
فأي آية وبرهان ودليل أحسن من آيات الأنبياء وبراهينهم وأدلتهم؟ وهي شهادة من اللّه سبحانه لهم، بينها لعباده غاية البيان، وأظهرها لهم غاية الإظهار، بقوله وفعله، وفي الصحيح عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتى من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه اللّه إليّ. فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».
ومن أسمائه تعالى (المؤمن) وهو في أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم. فهو الذي صدق رسله وأنبياءه فيما بلغوا عنه، وشهد لهم بأنهم صادقون بالدلائل التي دل بها على صدقهم، قضاء وخلقا. فإنه سبحانه أخبر، وخبره الصدق وقوله الحق، أنه لابد أن يرى العباد من الآيات الأفقية والنفسية: ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغه رسوله حق. فقال: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [تعالى41: 53] أي القرآن. فإنه هو المتقدم في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [41: 52] ثم قال: {أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [41: 53].
فشهد سبحانه لرسوله بقوله: أن ما جاء به حق، ووعده أن يرى العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضا.
ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك وأجل، وهو شهادته سبحانه على كل شيء. فإن من أسمائه (الشهيد) الذي لا يغيب عنه شيء، ولا يعزب عنه، بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له، عليهم بتفاصيله.
وهذا الاستدلال بأسمائه وصفاته. والأول: استدلال بقوله وكلماته، والاستدلال بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته.
فإن قلت: قد فهمت الاستدلال بكلماته، والاستدلال بمخلوقاته، فبين لي كيفية الاستدلال بأسمائه وصفاته. فإن ذلك أمر لا عهد لنا به في تخاطبنا وكتبنا.
قلت: أجل، وهو لعمر اللّه كما ذكرت، وشأنه أجل وأعلى. فإن الرب تعالى هو المدلول عليه وآياته هي الدليل والبرهان.
فاعلم أن اللّه سبحانه- في الحقيقة- هو الدال على نفسه بآياته. فهو الدليل لعباده في الحقيقة بما نصبه لهم من الدلالات والآيات. وقد أودع في الفطر التي لم تتنجس بالتقليد والتعطيل والجحود: أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته، وأنه الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل عيب ونقص.
فالكمال كله والجلال، والبهاء والعزة والعظمة والكبرياء: كله من لوازم ذاته، يستحيل أن يكون على غيره ذلك. فالحياة كلها له، والعلم كله له، والقدرة كلها له، والسمع، والبصر والإرادة، والمشيئة والرحمة، والغناء والجود، والإحسان والبر: كله خاص له، قائم به. وما خفي على الخلق من كماله أعظم وأعظم مما عرفوه منه، بل لا نسبة لما عرفوه من ذلك إلى ما لم يعرفوه.
ومن كماله المقدس: اطلاعه على كل شيء، وشهادته عليه. بحيث لا يغيب عنه وجه من وجوه تفاصيله، ولا ذرة من ذراته باطنا وظاهرا. ومن هذا شأنه، كيف يليق بالعباد أن يشركوا به غيره، وأن يعبدوا معه غيره، ويجعلوا معه إلها آخر؟ وكيف يليق بكماله أن يقرّ من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك، ويؤيده ويعلي كلمته، ويرفع شأنه ويجيب دعوته، ويهلك عدوه، ويظهر على يديه من الآيات والبراهين ما يعجز عن مثله قوى البشر؟ وهو مع ذلك كاذب عليه مفتر، ساع في الأرض بالفساد.
ومعلوم أن شهادته سبحانه على كل شيء، وقدرته على كل شيء، وحكمته وعزته وكماله المقدس: يأبى ذلك كل الإباء. ومن ظن ذلك به وجوزه عليه، فهو من أبعد الخلق عن معرفته، وإن عرف منه بعض صفاته كصفة القدرة، وصفة المشيئة.
والقرآن مملوء من هذه الطريق. وهي طريق الخاصة، بل خاصة الخاصة، هم الذين يستدلون باللّه على أفعاله، وما يليق به أن يفعله، وما لا يفعله.
وإذا تدبرت القرآن رأيته ينادي على ذلك. فيبديه ويعيده لمن له فهم، وقلب واع عن اللّه.
قال اللّه تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} [69: 44].أفلا تراه كيف يخبر سبحانه: أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل، بل أن يجعله عبرة لعباده. كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه.
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ} [42: 24] هاهنا انتهى جواب الشرط، ثم أخبر خبرا جازما غير معلق {وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ} أنه يمح الباطل ويحق الحق.
وقال تعالى: {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [6: 91] فأخبر أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره، ولا عرفه كما ينبغي، ولا عظمة كما يستحق فكيف من ظن أنه ينصر الكاذب المفترى عليه، ويؤيده ويظهر على يديه الآيات والأدلة؟ وهذا في القرآن كثير جدا يستدل بكماله المقدس، وأوصافه وجلاله على صدق رسله وعلى وعده ووعيده، ويدعو عباده إلى ذلك، كما يستدل بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك كما في قوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [59: 22- 23] وأضعاف أضعاف ذلك في القرآن.
ويستدل سبحانه بأسمائه وصفاته على بطلان ما نسب إليه من الأحكام والشرائع الباطلة، وأن كماله المقدس يمنع من شرعها، كقوله: {وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} [7: 28] وقوله عقيب ما نهى عنه وحرمه من الشرك والظلم والفواحش، والقول على اللّه بلا علم {كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [17: 38] فأعلمك أن ما كان سيئة في نفسه فهو سبحانه يكرهه، وكماله يأبى أن يجعله شرعا له ودينا، فهو سبحانه يدل عباده بأسمائه وصفاته على ما يفعله ويأمر به، ويحبه ويبغضه، ويثيب عليه ويعاقب عليه، ولكن هذه الطريقة لا يصل إليها إلا خاصة الخاصة. فلذا كانت طريقة الجمهور والدلالات بالآيات المشاهدة. فإنها أوسع وأسهل تناولا، واللّه سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض، ويرفع درجات من يشاء وهو العليم الحكيم.
فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره. فإنه الدعوة والحجة، وهو الدليل والمدلول عليه، وهو الشاهد والمشهود له، وهو الحكم والدليل، وهو الدعوى والبينة.
قال اللّه تعالى: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ} [11: 13] أي من ربه وهو القرآن.
وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله له: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} [29: 50، 51].
فأخبر سبحانه أن الكتاب الذي أنزله على رسوله يكفي من كل آية، ففيه الحجة، والدلالة على أنه من اللّه، وأن اللّه سبحانه أرسل به رسوله.
وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة والنجاة من العذاب. ثم قال: {قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} [29: 52] فإذا كان سبحانه عالما بجميع الأشياء كانت شهادته أصدق شهادة وأعدلها. فإنها شهادة بعلم تام محيط بالمشهود به. فيكون الشاهد به أعدل الشهداء وأصدقهم.
وهو سبحانه يذكر علمه عند شهادته، وقدرته وملكه عند مجازاته، وحكمته عند خلقه وأمره، ورحمته عند ذكره إرسال رسله، وحلمه عند ذكر ذنوب عباده ومعاصيهم، وسمعه عند دعائه ومسألته وعزته، وعلمه عند قضائه وقدرته.
فتأمل ورود أسمائه الحسنى في كتابه وارتباطها بالخلق والأمر والثواب والعقاب.
فصل:
ومن هذا قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} [14: 43].
فاستشهد على رسالته بشهادة اللّه له. ولا بد أن تعلم هذه الشهادة، وتقوم بها الحجة على المكذبين له.
وكذلك قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [6: 19].
وكذلك قوله: {لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً} [4: 166].
وكذلك قوله: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [33: 1- 3].
وقوله: {تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [2: 252] وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [63: 2] وقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [48: 29].
فهذا كله شهادة منه لرسوله. قد أظهرها وبينها، وبين صحتها غاية البيان، بحيث قطع العذر بينه وبين عباده. وأقام الحجة عليهم.
فكونه سبحانه شاهدا لرسوله معلوم بسائر أنواع الأدلة: عقليّها، ونقليّها، وفطريها، وضروريها، ونظريها.
ومن نظر في ذلك وتأمله علم أن اللّه سبحانه شهد لرسوله أصدق الشهادة وأعدلها وأظهرها، وصدقه بسائر التصديق: بقوله الذي أقام به البراهين على صدقه فيه، وبفعله وإقراره، وبما فطر عليه عباده، من الإقرار بكماله، وتنزيهه عن القبائح، وعما لا يليق به. وكل وقت يحدث من الآيات الدالة على صدق رسوله ما يقيم به الحجة، ويزيل به العذر، ويحكم له ولأتباعه بما وعدهم به من العز والنجاة، والظفر والتأييد. ويحكم على أعدائه ومكذبيه بما توعدهم به من الخزي والنكال، والعقوبات المعجلة، الدالة على تحقيق العقوبات المؤجلة {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً} [48: 28] فيظهره ظهورين: ظهورا بالحجة والبيان والدلالة، وظهورا بالنظر والغلبة والتأييد، حتى يظهر على مخالفيه ويكون منصورا.
وقوله: {لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [4: 166] فما فيه من الخبر عن علم اللّه الذي لا يعلمه غيره من أعظم الشهادة بأنه هو الذي أنزله، كما قال في الآية الأخرى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [11: 13: 14].
وليس المراد مجرد الإخبار بأنه أنزله، وأنه معلوم له، كما يعلم سائر الأشياء. فإن كل شيء معلوم له سبحانه: من حق وباطل- وإنما المعنى: إنزاله مشتملا على علمه.
فنزوله مشتملا على علمه هو آية كونه من عنده، وأنه حق وصدق.
ونظير هذا قوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} [25: 6] ذكر سبحانه ذلك تكذيبا وردا على من قاله: افتراه.
فصل:
ومن شهادته أيضا: ما أودعه في قلوب عباده: من التصديق الجازم، واليقين الثابت، والطمأنينة بكلامه ووحيه.
فإن العادة تحيل حصول ذلك بما هو من أعظم الكذب والافتراء على رب العالمين، والإخبار عنه بخلاف ما هو عليه من أسمائه وصفاته، بل يوقع أعظم الريب والشك، وتدفعه الفطر والعقول السليمة، كما تدفع الفطر التي فطر عليها الحيوان الأغذية الخبيثة الضارة، التي لا تغذى، كالأبوال والأنتان. فإن اللّه سبحانه فطر القلوب على قبول الحق، والانقياد له، والطمأنينة والسكون إليه، ومحبته. وفطرها على بغض الكذب والباطل، والنفور عنه، والريبة به. وعدم السكون إليه. ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره. ولهذا ندب اللّه عز وجل عباده إلى تدبر القرآن. فإن كل من تدبره أوجب له تدبّره علما ضروريا ويقينا جازما أنه حق وصدق، بل أحق كل حق، وأصدق كل صدق. وأن الذي جاء به أصدق خلق اللّه، وأبرهم، وأكملهم علما وعملا ومعرفة، كما قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [4: 82] وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} [47: 24] فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت علما ضروريا يكون عندها كسائر الأمور الوجدانية: من الفرح والألم، والحب والخوف- أنه من عند اللّه تكلم به حقا، وبلغه رسوله جبريل عنه إلى رسوله محمد.
فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد. وبه احتج هرقل على أبي سفيان حيث قال له فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقال: لا. فقال له: وكذلك الايمان، إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.
وقد أشار اللّه تعالى إلى هذا المعنى في قوله: {بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [29: 49] وقوله: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [34: 6] وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ} [22: 54] وقوله: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى} [13: 19]وقوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ} [13: 27].
يعني أن الآية التي يقترحونها لا توجب هداية، بل اللّه هو الذي يهدي ويضل ثم نبههم على أعظم آية وأجابها: وهي طمأنينة قلوب المؤمنين بذكر اللّه الذي أنزله. فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [13: 28] فطمأنينة القلوب الصحيحة، والفطر السليمة به. وسكونها إليها: من أعظم الآيات، إذ يستحيل في العادة: أن تطمئن القلوب وتسكن إلى الكذب والافتراء والباطل.
فإن قيل: فلم لم يذكر سبحانه شهادة رسله مع الملائكة. فقال: شهد اللّه أنه لا إله إلا هو والملائكة والرسل، وهم أعظم شهادة من أولي العلم؟.
قيل: في ذلك عدة فوائد:
أحدها: أن أولي العلم أعم من الرسل والأنبياء. فيدخلون هم وأتباعهم.
وثانيها: أن في ذكر أولي العلم في هذه الشهادة، وتعليقها بهم: ما يدل على أنها من موجبات العلم. ومقتضياته، وأن من كان من أولي العلم، فإنه يشهد بهذه الشهادة، كما يقال: إذا طلع الهلال، واتضح: كل من كان من أهل النظر يراه. وإذا فاحت رائحة ظاهرة: كل من كان من أهل الشم يشم هذه الرائحة.
قال تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى} [79: 36] كل من له رؤية يراها حينئذ عيانا.
ففي هذا بيان أن من لم يشهد له سبحانه بهذه الشهادة، فهو من أعظم الجهال وإن علم من أمور الدنيا ما لم يعلمه غيره. فهو من أولي الجهل، لا من أولي العلم.
وقد بينا أنه لم يقم بهذه الشهادة وأداها على وجهها إلا أتباع الرسل: أهل الإثبات. فهم أولو العلم. وسائر من عداهم أولو الجهل، وإن وسعوا القول وأكثروا الجدال.
ومنها: الشهادة من اللّه سبحانه لأهل هذه الشهادة: أنهم أولو العلم.
فشهادته سبحانه لهم أعدل وأصدق من شهادة الجهمية والمعطلة، والفرعونية لهم: بأنهم جهال، وأنهم حشوية، وأنهم مشبهة، وأنهم مجسمة، ونوابت ونواصب.
فكفاهم شهادة أصدق الصادقين لهم: بأنهم من أولي العلم، إذ شهدوا له بحقيقة ما شهد به لنفسه، من غير تحريف ولا تعطيل. وأثبتوا له حقيقة هذه الشهادة بكل مضمونها. وخصومهم نفوا عنه حقائقها، وأثبتوا له ألفاظها ومجازاتها.
فصل:
وفي ضمن هذه الشهادة الإلهية: الثناء على أهل العلم الشاهدين بها وتعديلهم. فإنه سبحانه قرن شهادتهم بشهادته، وشهادة ملائكته. واستشهد بهم جل وعلا على أجل مشهود به، وجعلهم حجة على من أنكر هذه الشهادة، كما يحتج بالبينة على من أنكر الحق. فالحجة قامت بالرسل على الخلق، وهؤلاء نواب الرسل، وخلفاؤهم في إقامة حجج اللّه على العباد.
فصل:
قد فسرت شهادة أولي العلم: بالإقرار. وفسرت بالتبيين والإظهار.
والصحيح: أنها تتضمن الأمرين. فشهادتهم إقرار وإظهار وإعلام، وهم شهداء للّه على الناس يوم القيامة.
قال اللّه تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [2: 142] وقال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ} [22: 78] فأخبر أنه جعلهم عدولا خيارا، ونوّه بذكرهم قبل أن يوجدهم، لما سبق في علمه من اتخاذه لهم شهداء يشهدون على الأمم يوم القيامة. فمن لم يقم بهذه الشهادة علما وعملا ومعرفة، وإقرارا ودعوة، وتعليما وإرشادا، فليس من شهداء اللّه. واللّه المستعان.