فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (2):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)}
كل منهما إذا أفرد تضمن الآخر. فكل إثم عدوان، إذ هو فعل ما نهى اللّه عنه، أو ترك ما أمر اللّه به. فهو عدوان على أمره ونهيه. وكل عدوان إثم. فإنه يأثم به صاحبه، ولكن عند اقترانهما فهما شيئان، بحسب متعلقهما.
فالإثم ما كان محرم الجنس، كالكذب والزنا، وشرب الخمر، وغير ذلك.
والعدوان: ما كان محرم القدر والزيادة. فالعدوان تعدي ما أبيح منه إلى القدر المحرم، كالاعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه. إما بأن يتعدى على ماله، أو بدنه، أو عرضه. فإذا غصبه خشبة لم يرض عوضها إلا داره. وإذا أتلف عليه شيئا أتلف عليه أضعافه. وإذا قال فيه كلمة فيه أضعافها. فهذا كله عدوان وتعد للعدل.

.تفسير الآية رقم (3):

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)}
تأمل كيف وصف الدين الذي اختاره لهم بالكمال، والنعمة التي أسبغها عليهم بالتمام إيذانا في الدين بأنه لا نقص فيه ولا عيب ولا خلل، ولا شيء خارجا عن الحكمة بوجه، بل هو الكامل في حسنه وجلالته ووصف النعمة بالتمام إيذانا بدوامها واتصالها، وأنه لا يسلبهم إياها بعد إذ أعطاهموها بل يتمها لهم بالدوام في هذا الدار وفي دار القرار.
وتأمل حسن اقتران التمام بالنعمة وحسن اقتران الكمال بالدين، وإضافة الدين إليهم، إذ هم القائمون به المقيمون له. وأضاف النعمة إليه إذ هو وليها ومسديها والمنعم بها عليهم، فهي نعمة حقا، وهم قابلوها.
وأتى في الكمال باللام المؤذنة بالاختصاص، وأنه شيء خصوا به دون الأمم.
وفي إتمام النعمة بعلى المؤذنة بالاستعلاء والاشتمال والإحاطة فجاء {أتممت} في مقابلة {أَكْمَلْتُ} و{عليكم} في مقابلة {لَكُمْ} و{نعمتي} في مقابلة {دِينِكُمْ} وأكد ذلك وزاده تقريرا وكمالا وإتماما للنعمة بقوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [5: 3].
وأما عدم مشيئته سبحانه وإرادته، فكما قال تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [5: 41] وقال: {وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها} و{لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} وعدم مشيئته للشيء مستلزم لعدم وجوده، كما أن مشيئته تستلزم وجوده. فما شاء اللّه وجب وجوده، وما لم يشأ امتنع وجوده وقد أخبر سبحانه أن العباد لا يشاءون إلا بعد مشيئته، ولا يفعلون شيئا إلا بعد مشيئته فقال: {وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} وقال: {وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ}.
فإن قيل: فهل يكون الفعل مقدورا للعبد في حال عدم مشيئة اللّه له أن يفعله؟.
قيل: إن أريد بكونه مقدورا: سلامة آلة العبد التي يتمكن بها من الفعل، وصحة أعضائه، ووجود قواه، وتمكينه من أسباب الفعل، وتهيئة طريق فعله وفتح الطريق له. فنعم، هو مقدور بهذا الاعتبار. وإن أريد بكونه مقدورا: القدرة المقارنة للفعل، وهي الموجبة له التي إذا وجدت لم يتخلف عنها الفعل. فليس بمقدور بهذا الاعتبار.
وتقرير ذلك: أن القدرة نوعان: قدرة مصححة، وهي قدرة الأسباب والشروط وسلامة الآلة، وهي مناط التكليف. وهذه متقدمة على الفعل غير موجبة له. وقدرة مقارنة للفعل، مستلزمة له، لا يتخلف الفعل عنها. وهذه ليست شرطا في التكليف. فلا يتوقف صحته وحسنه عليها.
فإيمان من لم يشأ اللّه إيمانه، وطاعة من لم يشأ طاعته: مقدور بالاعتبار الأول، غير مقدور بالاعتبار الثاني.
وبهذا التحقيق تزول الشبهة في تكليف ما لا يطاق، كما يأتي بيانه في موضعه إن شاء اللّه تعالى.
فإذا قيل: هل خلق لمن علم أنه لا يؤمن قدرة على الإيمان أم لم يخلق له قدرة؟.
قيل: خلق له قدرة مصححة متقدمة على الفعل، هي مناط الأمر والنهي. ولم يخلق له قدرة موجبة للفعل مستلزمة له، لا يتخلف عنها. فهذه فضله يؤتيه من يشاء، وتلك عدله التي تقوم بها حجته على عبده.
فإن قيل: فهل يمكنه الفعل ولم يخلق له هذه القدرة؟.
قيل: هذا هو السؤال السابق بعينه. وقد عرفت جوابه. وباللّه التوفيق.
قول اللّه تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [5: 3].
النعمة نعمتان: نعمة مطلقة ونعمة مقيدة. فالنعمة المطلقة: هي المتصلة بسعادة الأبد، وهي نعمة الإسلام والسنة، وهي التي أمرنا اللّه سبحانه وتعالى أن نسأله في صلواتنا أن يهدينا صراط أهلها، ومن خصهم بها، وجعلهم أهل الرفيق الأعلى، حيث يقول تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً} [4: 69] فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة، وأصحابها أيضا هم المعنيون بقول اللّه تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} فأضاف الدين إليهم، إذ هم المختصون بهذا الدين القيم دون سائر الأمم.
والدين تارة يضاف إلى العبد، وتارة يضاف إلى الرب، فيقال: الإسلام دين اللّه الذي لا يقبل من أحد سواه ولهذا يقال في الدعاء: اللهم انصر دينك الذي أنزلت من السماء.
ونسب الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة، مع إضافتها إليه لأنه هو وليها ومسديها إليهم. وهم محل محض النعمة قابلين لها. ولهذا يقال في الدعاء المأثور للمسلمين واجعلهم مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها عليهم.
وأما الدين فلما كانوا هم القائمين به، الفاعلين له بتوفيق ربهم نسبه إليهم، فقال: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وكان الإكمال في جانب الدين والإتمام في جانب النعمة.
واللفظتان- وإن تقاربتا وتواخيتا- فبينهما فرق لطيف يظهر عند التأمل.
فإن الكمال أخص بالصفات والمعاني، ويطلق على الأعيان والذوات، ولكن باعتبار صفاتها وخواصها، كما قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد».
وقال عمر بن عبد العزيز إن للإيمان حدودا وفرائض، وسننا وشرائع، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان.
وأما الإتمام فيكون في الإيمان والمعاني، ونعم اللّه أعيان وأوصاف ومعان.
وأما دينه فهو شرعه المتضمن لأمره ونهيه ومحابه. فكانت نسبة الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة أحسن، كما كانت إضافة الدين إليهم والنعمة إليه أحسن. والمقصود: أن هذه النعمة هي النعمة المطلقة، وهي التي اختصت بالمؤمنين. وإذا قيل: ليس للّه على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو صحيح، والنعمة الثانية: النعمة المقيدة كنعمة الصحة والغنى وعافية الجسد وبسطة الجاه، وكثرة الولد والزوجة الحسنة، وأمثال هذه. فهذه النعمة مشتركة بين البر والفاجر، والمؤمن والكافر وإذا قيل: للّه على الكافر نعمة بهذا الاعتبار، فهو حق.
فلا يصح إطلاق السلب والإيجاب إلا على وجه واحد، وهو أن النعمة المقيدة لما كانت استدراجا للكافر، ومآلها إلى العذاب والشقاء، فكأنها لم تكن نعمة، وإنما كانت بلية، كما سماها اللّه تعالى في كتابه كذلك. فقال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ كَلَّا} [89: 15، 16] أي ليس كل من أكرمته في الدنيا ونعمته فيها فقد أنعمت عليه، وإنما كان ذلك ابتلاء مني له واختبار، ولا كل من قدرت عليه رزقه فجعلته بقدر حاجته بقدر فضلة أكون قد أهنته، بل أبتلي عبدي بالنعم كما أبتليه بالمصائب.
فإن قيل: كيف يلتئم هذا المعنى ويتفق مع قوله: {فأكرمه} فأثبت له الإكرام، ثم أنكر عليه قوله: {ربي أكرمن} وقال: {كلا} أي ليس ذلك إكراما مني هو ابتلاء، فكأنه أثبت له الإكرام ونفاه.
وقيل: الإكرام المثبت غير الإكرام المنفي، وهما من جنس النعمة المطلقة والمقيدة، فليس هذا الإكرام المقيد بموجب لصاحبه أن يكون من أهل الإكرام المطلق.
وكذلك أيضا إذا قيل: إن اللّه أنعم على الكافر نعمة مطلقة، ولكنه رد نعمة اللّه وبدّلها. فهو بمنزلة من أعطى مالا ليعيش به فرماه في البحر، كما قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} [14: 28] وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى} [41: 17] فهدايته إياهم نعمة منه عليهم، فبدلوا نعمة اللّه، وآثروا عليها الضلال.
فهذا فصل النزاع في مسألة: هل للّه على الكافر نعمة أم لا؟.
وأكثر اختلاف الناس من جهتين.
إحداهما: اشتراك الألفاظ وإجمالها والثانية من جهة الإطلاق والتفصيل.

.سورة الأنعام:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (8- 9):

{وَقالُوا لولا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)}
إن المشركين قالوا تعنتا في كفرهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [6: 8] يعنون ملكا نشاهده ونراه، يشهد له ويصدقه وإلا فالملك كان ينزل عليه بالوحي من اللّه. فأجاب اللّه تعالى عن هذا، وبين الحكمة في عدم إنزال الملك على الوجه الذي اقترحوه: بأنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا ولم يؤمنوا به ويصدقوه، لعوجلوا بالعذاب كما استمرت به سنته تعالى مع الكفار في آيات الاقتراح، وإذا جاءتهم ولم يؤمنوا بها. فقال: {وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} [6: 8] ثم بين سبحانه أنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا لما حصل به مقصودهم، لأنه إن أنزله في صورته لم يقدروا على التلقي عنه، إذ البشر لا يقدر على مخاطبة الملك ومباشرته. وقد كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وهو أقوى الخلق- إذا نزل عليه الملك كرب لذلك وأخذه البرحاء، وتحدّر منه العرق في اليوم الشاتي. وإن جعله في صورة رجل حصل لهم لبس: هل هو رجل أم ملك فقال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ} [6: 9] في هذه الحال ما {يَلْبِسُونَ} على أنفسهم حينئذ فإنهم يقولون: إذا رأوا الملك في صورة الإنسان لقالوا: هذا إنسان وليس بملك. هذا معنى الآية.
{وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} [6: 27- 28].
وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية، وما أوردوا ما يشفي.
فراجع أقوالهم تجدها لا تشفي عليلا، ولا تروي غليلا.
الآية معناها أجل وأعظم مما فسر وهابه. ولم يتفطنوا لوجه الإضراب ب {بل} ولا للأمر الذي بدا لهم، وكانوا يخفونه وظنوا أن الذي بدا لهم هو العذاب. فلما لم يروا ذلك ملتئما مع قوله: {ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} قدروا مضافا محذوفا، وهو خبر ما كانوا يحقون من قبل، فدخل عليهم أمر آخر، لا جواب لهم عنه. وهو: أن القوم لم يكونوا يخفون شركهم وكفرهم، بل كانوا يظهرونه، ويدعون إليه، ويحاربون عليه. ولما علموا أن هذا ورد عليهم، قالوا: إن القوم في بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا شركهم وجحدوه، وقالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} فلما وقفوا على النار بدا لهم جزاء ذلك الذي أخفوه.
قال الواحدي: وعلى هذا أهل التفسير.
ولم يصنع أرباب هذا القول شيئا. فإن السياق والإضراب ب {بل} والإخبار عنهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وقولهم: {واللّه ربنا ما كنا مشركين} لا يلتئم بهذا الذي ذكروه. فتأمله.
وقالت طائفة، منهم الزجاج: بل لاتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء، من أمر البعث. وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير، وفيه من التكليف ما ليس بخاف.
وأجود من هذا: ما فهمه المبرد من الآية، قال: كأن كفرهم لم يكن باديا لهم، إذا خفيت عليهم مضرته.
ومعنى كلامه: أنهم لما خفيت عليهم مضرة عاقبته ووباله، فكأنه كان خفيا عنهم، لم تظهر لهم حقيقته. فلما عاينوا العذاب ظهرت لهم حقيقته وشره.
قال: وهذا كما تقول لمن كنت حدثته في أمر قبل: قد ظهر لك الآن ما كنت قلت لك. وقد كان ظاهرا له قبل هذا. ولا يسهل أن يعبر عن كفرهم وشركهم الذي كانوا ينادون به على رؤوس الأشهاد ويدعون إليه كل حاضر وباد بأنهم كانوا يخفونه، لخفاء عاقبته عنهم. ولا يقال لمن أظهر الظلم والفساد، وقتل النفوس وسعى في الأرض بالفساد: إنه أخفى ذلك، لجهله بسوء عاقبته، وخفائها عليه.
فمعنى الآية- واللّه أعلم بما أراد من كلامه-: أن هؤلاء المشركين لما وقفوا على النار، وعاينوها وعلموا أنهم داخلوها، تمنوا أنهم يردون إلى الدنيا فيؤمنون باللّه وآياته، ولا يعودون إلى تكذيب رسله. فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك، وأنهم ليس في طبائعهم ولا سجاياهم الإيمان بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب وأنهم لو ردوا لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله. وأخبر أنهم كاذبون في زعمهم: أنهم لو ردوا لآمنوا وصدقوا.
فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبين معنى الإضراب ب {بل} وتبين معنى الذي بدا لهم، والذي كانوا يخفونه، والحامل لهم على قولهم: {يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا} فالقوم كانوا يعلمون أنهم في الدنيا على باطل، وأن الرسل صدقوهم فيما بلغوهم عن اللّه، وتيقنوا ذلك وتحققوه، ولكنهم أخفوه ولم يظهروه بينهم، بل تواصوا بكتمانه. فلم يكن الحامل لهم على تمني الرجوع والإيمان معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل، فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه. وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه من علمهم أنهم على باطل، وأن الرسل على الحق، فعاينوا ذلك عيانا، بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه. فلو ردوا لما سمحت نفوسهم بالإيمان، ولعادوا إلى الكفر والتكذيب. فإنهم لم يتمنوا الإيمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق، وأن الشرك باطل. وإنما تمنوه لما عاينوا العذاب الذي لا طاقة لهم باحتماله. وهذا كمن كان يخفي محبة شخص ومعاشرته، وهو يعلم أن حبه باطل، وأن الرشد في عدوله عنه. فيقال له: إن اطلع عليك وليه عاقبك، وهو يعلم ذلك ويكابر، ويقول: بل محبته ومعاشرته هي الصواب، فلما أخذه وليه ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة، تمنى أن يعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به بعد ذلك وفي قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاودة بعد معاينة العقوبة، بل بعد أن مسته العقوبة وأنهكته. فظهر له عند العقوبة ما كان يخفي من معرفته بخطئه، وصواب ما نهاه عنه. ولو رد لعاد لما نهى منه.
وتأمل مطابقة الإضراب لهذا المعنى، وهو نفي قولهم: إنا لو رددنا لآمنا وصدقنا. لأنه ظهر لنا الآن أن ما قاله الرسل هو الحق، أي ليس كذلك، بل كنتم تعلمون ذلك وتعرفونه، وكنتم تخفونه، فلم يظهر لكم شيء جديد لتكونوا عالمين به لتعذروا، بل ظهر لكم ما كان معلوما، وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه. واللّه أعلم.
وأما تقليب الأفئدة: