فصل: سورة التوبة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن الكريم



.سورة التوبة:

بسم الله الرحمن الرحيم
وأما التثبيط:

.تفسير الآية رقم (46):

{وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)} والتثبيط رد الإنسان عن الشيء الذي يفعله.
قال ابن عباس: يريد خزلهم وكسلهم عن الخروج.
وقال في رواية أخري: حبسهم.
قال مقاتل: وأوحى إلى قلوبهم اقعدوا مع القاعدين. وقد بين سبحانه حكمته في هذا التثبيط والخذلان قبل وبعد، فقال: {إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ} [9: 45- 46] فلما تركوا الإيمان به وبلقائه، وارتابوا بما لا ريب فيه، ولم يريدوا الخروج في طاعة اللّه، ولم يستدعوا له، ولا أخذوا أهبة ذلك كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه. فإن من لم يرفع به وبرسوله وكتابه رأسا ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب خلقه إليه وأكرمهم عليه، ولم يعرف قدر هذه النعمة ولا شكرها، بل بدلها كفرا. فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله يكرهه سبحانه فثبّطه لئلا يقع ما يكره من خروجه، وأوحى إلى قلبه قدرا وكونا أن يقعد مع القاعدين ثم أخبر سبحانه عن الحكمة التي تتعلق بالمؤمنين في تثبيط هؤلاء عنهم:

.تفسير الآية رقم (47):

{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)}
والخبال: الفساد والاضطراب فلو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم. فأوقعوا بينهم الاضطراب والاختلال.
قال ابن عباس: ما زادوكم إلا خبالا: عجزا وجبنا. يعني يجبنوهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم، وتعظيمهم في صدورهم. ثم قال: {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} [9: 47] أي أسرعوا في الدخول بينكم للتفريق والإفساد.
قال ابن عباس: يريد أضعفوا شجاعتكم، يعني بالتفريق بينهم، لتفرق الكلمة فيجبنوا عن لقاء العدو.
وقال الحسن: لأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات البين.
وقال الكلبي: ساروا بينكم يبغونكم العيب.
قال لبيد:
أرانا موضعين لحتم عيب ** ونسحر بالطعام وبالشراب

أي مسرعين. ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
يتألهن بالعرفان لما عرفتني ** وقلن امرؤ باغ أكلّ وأوضعا

أي أسرع حتى كلت مطيته {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} قال قتادة وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم، وقال ابن إسحاق: وفيكم قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم. ومعناه على هذا القول: وفيكم أهل سمع وطاعة لهم لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم.
قلت: تتضمن {سماعون} معنى مستجيبين.
وقال مجاهد وابن زيد والكلبي: المعنى وفيكم ميول لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم، أي جواسيس والقول هو الأول. كما قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي قابلون له. ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين. فإن المنافقين كانوا مختلطين بالمؤمنين، ينزلون معهم ويرحلون ويصلون معهم، ويجالسونهم، ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم. فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة ولم يخالطها. وأرصد بينهم عيونا له. فالقول قول قتادة وابن إسحاق واللّه أعلم.
فإن قيل: انبعاثهم إلى طاعته طاعة له. فكيف يكرهها؟ وإذا كان سبحانه يكرهها فهو يحب ضدها لا محالة، إذ كراهة أحد الضدين تستلزم محبة الضد الآخر فيكون قعودهم محبوبا له، فكيف يعاقبهم عليه؟.
قيل: هذا سؤال له شأن، وهو من أكبر الأسئلة في هذا الباب.
وأجوبة الطوائف على حسب أصولهم.
فالجبرية: تجيب عنه بأن أفعاله لا تعلل بالحكم والمصالح. وكل ممكن فهو جائز عليه. ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبه ويرضاه وترك ما يبغضه ويسخطه والجميع بالنسبة إليه سواء.
وهذه الفرقة قد سدت على نفسها باب الحكمة والتعليل.
والقدرية: تجيب عنه على أصولها أنه سبحانه لم يثبطهم حقيقة ولم يمنعهم، بل هم منعوا أنفسهم، وثبطوها عن الخروج، وفعلوا ما لا يريد.
ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها اللّه سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله.
قالوا: وجعل سبحانه إلقاء كراهة الإنبعاث في قلوبهم كراهة مشيئة، من غير أن يكره هو سبحانه انبعاثهم. فإنه أمرهم به.
قالوا: وكيف يأمرهم بما يكرهه. ولا يخفى على من نوّر اللّه بصيرته فساد هذين الجوابين وبعدهما من دلالة القران.
فالجواب الصحيح: أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة ولأمره واتباعا لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، ونصرة له وللمؤمنين، وأحب ذلك منهم ورضيه لهم دينا، وعلم سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا الوجه، بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله وللمؤمنين، فكان خروجا يتضمن خلاف ما يحبه ويرضاه، ويستلزم وقوع ما يكرهه ويبغضه، فكان مكروها له من هذا الوجه، ومحبوبا له من الوجه الذي خرج عليه أو يساؤه. وهو يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه له. فكرهه وعاقبة على ترك الخروج الذي يحبه ويرضاه، لا على ترك الخروج الذي يبغضه ويسخطه.
وعلى هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة، حتى لو فعلوه لم يثبتهم عليه ولم يرضه معهم. وهذا الخروج المكروه له ضدان.
أحدهما: الخروج المضي المحبوب وهذا الضد هو الذي يحبه.
والثاني: التخلف عن رسوله والقعود عن الغزو معه. وهذا الضد يبغضه ويكرهه أيضا. وكراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه لا ينافي كراهته لهذا الضد.
فنقول للسائل: قعودهم مبغوض له، ولكن هاهنا أمران مكروهان له سبحانه. أحدهما: أكره له من الآخر. لأنه أعظم مفسدة. فإن قعودهم مكروه له، وخروجهم على الوجه الذي ذكره أكره إليه. ولم يكن لهم بد من أحد المكروهين إليه سبحانه. فدفع المكروه الأعلى بالمكروه الأدنى. فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه. فإن مفسدة قعودهم تختص بهم، ومفسدة خروجهم تعود على المؤمنين. فتأمل هذا الموضع.
فإن قلت: فهلا وفقهم للخروج الذي يحبه ويرضاه، وهو الذي خرج عليه المؤمنون؟.
قلت: قد تقدم الجواب مثل هذا السؤال مرارا. وأن حكمته سبحانه تأبى أن يضع التوفيق في غير محله. وعند غير أهله. فاللّه أعلم حيث يجعل هداه وتوفيقه وفضله. وليس كل محل يصلح لذلك. ووضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته.
فإن قلت: وعلى ذلك فهو جعل المحال كلها صالحة.
قلت: يأباه كمال ربوبية وملكه، وظهور آثار السماء وصفاته في الخلق والأمر وهو سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوبا له. فإنه يجب أن يذكر ويشكر ويطاع ويوحّد ويعبد، ولكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه بين استواء أقدام الخلائق في الطاعة والإيمان. وهو محبته لجهاز أعدائه والانتقام منهم وإظهار قدر أوليائه وشرفهم وتخصيصهم بفضله. وبذل نفوسهم له في معاداة من عاداه، وظهور عزته وقدرته وسطوته وشدة أخذه وأليم عقابه، وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق، ولو تناهوا في العلم والمعرفة. إلى الإحاطة بها. ونسبة ما عقلوه منها إلى ما خفي عليهم كنقرة عصفور في بحر.

.تفسير الآية رقم (103):

{خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)}
أصل هذه اللفظة في اللغة يرجع إلى معنيين. أحدهما: الدعاء والتبريك. والثاني العبادة.
فمن القول الأول: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [9: 103] وقوله تعالى في حق المنافقين: {وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ} [9: 84] وقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «إذا دعي أحدكم إلى الطعام فليجب، فإن كان صائما فليصل» فسر بهما.
قيل: فليدع لهم بالبركة، وقيل: يصلي عندهم بدل أكله.
وقيل: إن الصلاة في اللغة معناها الدعاء. والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة. والعابد داع، كما أن السائل داع. وبهما فسر قوله تعالى: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [40: 60] قيل: أطيعوني أثبكم.
وقيل: سلوني أعطكم. وفسر بهما قوله تعالى: {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ} [2: 186].
والصواب أن الدعاء يعم النوعين، وهذا لفظ متواطئ لا اشتراك فيه.
فمن استعماله في دعاء العبادة قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [34: 22] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [16: 20] وقوله تعالى: {قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لولا دُعاؤُكُمْ} [25: 77] والصحيح من القولين: لولا أنكم تدعونه وتعبدونه، أيّ شيء يعبؤه بكم لولا عبادتكم إياه. فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل.
وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} [7: 55، 56] وقال تعالى إخبارا عن أنبيائه ورسله: {إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً} [21: 90].
وهذه الطريقة أحسن من الطريقة الأولى، ودعوى الخلاف في مسمى الدعاء وبهذا تزول الإشكالات الواردة على اسم الصلاة الشرعية، هل هو منقول من موضعه في اللغة. فيكون حقيقة شرعية، أو مجازا شرعيا؟ فعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها في اللغة، وهو الدعاء. والدعاء دعاء عبادة ودعاء مسألة. والمصلي من حين تكبيره إلى سلامه بين دعاء العبادة ودعاء المسألة فهو في صلاة حقيقة لا مجازا، ولا منقولة، لكن خص اسم الصلاة بهذه العبادة المخصوصة كسائر الألفاظ التي يخصها أهل اللغة والعرف ببعض مسماها كالدابة والرأس ونحوها. فهذا غاية تخصيص اللفظ وقصره على بعض موضوعه ولهذا يوجب نقلا ولا خروجا عن موضوعه الأصلي واللّه أعلم.
فصل:
هذه الصلاة من الآدمي.
وأما صلاة اللّه سبحانه على عباده فنوعان: عامة وخاصة.
أما العامة: فهي صلاته على عباده المؤمنين، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} [33: 43] ومنه دعاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالصلاة وعلى آحاد المؤمنين كقوله: «اللهم صل على آل أبي أوفى».
وفي حديث آخر: «أن امرأة قالت له: صلّ عليّ وعلى زوجي. قال: صلّى اللّه عليك وعلى زوجك».
النوع الثاني صلاته الخاصة: على أنبيائه ورسله خصوصا على خاتمهم وخيرهم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم. فاختلف الناس في معنى الصلاة منه سبحانه على أقوال.
أحدها: أنها رحمة.
قال إسماعيل: حدثنا نصر بن علي قال حدثنا محمد بن سوار عن جويبر عن الضحاك قال (صلاة اللّه رحمته وصلاة الملائكة الدعاء).
وقال المبرد: أصل الصلاة الرحمة، فهي من اللّه رحمة، ومن الملائكة رحمة واستدعاء الرحمة من اللّه.
وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين.
والقول الثاني: أن صلاة مغفرته.
قال إسماعيل حدثنا محمد بن أبي بكر قال: حدثنا محمد بن سوار عن جويبر عن الضحاك (هو الذي يصلي عليكم، قال: صلاة اللّه مغفرته. وصلاة الملائكة الدعاء).
وهذا القول هو من جنس الذي قبله. وهما ضعيفان لوجوه.
أحدها: أن اللّه سبحانه فرق بين صلاته على عباده ورحمته. فقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [2: 155: 156: 157] فعطف الرحمة على الصلاة: فاقتضى ذلك فغايرهما. هذا أصل العطف.
وأما قولهم: وألفى قولها كذبا ومينا فهو شاذ نادر، لا يحمل عليه أفصح الكلام، مع أن المين أخص من الكذب.
الوجه الثاني: أن صلاة اللّه سبحانه خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين. وأما رحمته فوسعت كل شيء. فليست الصلاة مرادفة للرحمة، لكن الرحمة من لوازم الصلاة وموجباتها وثمراتها. فمن فسرها بالرحمة فقد فسرها ببعض ثمراتها ومقصودها. وهذا كثيرا ما يأتي في تفسير ألفاظ القرآن.
والرسول صلّى اللّه عليه وسلّم يفسر اللفظة بلوازمها وجزء معناها لتفسير الريب بالشك. والشك جزء من الريب. وتفسير المغفرة بالستر، فهو جزء من مسمي المغفرة.
وتفسير الرحمة بإرادة الإحسان. وهو لازم الرحمة. ونظائر ذلك كثيرة قد ذكرناها في أصول التفسير.
الوجه الثالث: أنه لا خلاف في جواز الرحمة على المؤمنين. واختلف السلف والخلف في جواز الصلاة على غير الأنبياء على ثلاثة أقوال، سنذكرها فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.
فعلم أنهما ليسا بمترادفين.
الوجه الرابع: أنه لو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقامت مقامها في امتثال الأمر وأسقطت الوجوب عند من أوجبها، إذا قال: اللهم ارحم محمدا وآل محمد. وليس الأمر كذلك.
الوجه الخامس: أنه لا يقال عن رحم غيره ورق عليه فأطعمه أو سقاه أو كساه أنه صلّى عليه. ويقال: إنه قد رحمه.
الوجه السادس: أن الإنسان قد يرحم من يبغضه ويعاديه، فيجد في قلبه له رحمة، ولا يصلي عليه.
الوجه السابع: أن الصلاة لابد فيها من كلام. فهي ثناء من المصلي على من يصلي عليه، وتنويه به وإشادة بمحاسنه وما فيه وذكره. ذكر البخاري في صحيحه عن أبي العالية قال: «صلاة اللّه على رسوله ثناؤه عليه عند الملائكة» وقال إسماعيل في كتابه حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا خالد بن يزيد عن أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: «ان اللّه وملائكته يصلون على النبي قال: صلاة اللّه عز وجل ثناؤه عليه، وصلاة الملائكة عليه: الدعاء».
الوجه الثامن: أن اللّه سبحانه فرق بين صلاته وصلاة ملائكته وجمعها في فعل واحد. وقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [33: 56] وهذه الصلاة لا يجوز أن تكون هي الرحمة. وإنما هي ثناؤه سبحانه وثناء ملائكته عليه.
ولا يقال: الصلاة لفظ مشترك، ويجوز أن يستعمل في معنييه معا.
لأن في ذلك، محاذير متعددة.
أحدها: أن الاشتراك خلاف الأصل، بل لا يعلم أنه وقع في اللغة من واضع واحد، كما نص على ذلك أئمة اللغة: منهم المبرد وغيره. وإنما يقع وقوعا عارضا اتفاقيا، بسبب تعدد الواضعين. ثم تختلط اللغة فيعرض الاشتراك.
الثاني: أن الأكثرين لا يجوزون استعمال اللفظ المشترك في معنييه، لا بطريق الحقيقة، ولا بطريق المجاز وما حكي عن الشافعي من تجويزه ذلك فليس بصحيح عنه. وإنما أخذ من قوله: إذا أوصى لمواليه، وله موال من فوق ومن أسفل تناول جميعهم. فظن من ظن أن لفظ المولى مشترك بينهما، وأنه عند التجرد يحمل عليهما. وهذا ليس بصحيح. فإن لفظ المولى من الألفاظ المتواطئة فالشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه يقولان بدخول نوعي الموالي في هذا اللفظ. وهو عنده عام متواطئ لا مشترك.
وأما ما حكى عن الشافعي أنه قال في مفاوضة جرت له في قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ} [5: 6] قد قيل له: وقد يراد بالملامسة الجامعة.
فقال: هي محمولة على الجس باليد حقيقة وعلى الوقاع مجازا فهذا لا يصح عن الشافعي، ولا هو من جنس المألوف من كلامه. وإنما هذا من كلام بعض الفقهاء المتأخرين. وقد ذكرنا على إبطال استعمال اللفظ المشترك في معنييه معا في بضعة عشر دليلا في مسألة القرء من كتاب التعليق على الأحكام.
فإذا كان معنى الصلاة هو الثناء على الرسول والعناية به، وإظهار شرفه وفضله وحرمته، كما هو المعروف من هذه اللفظة، لم يكن الصلاة في الآية مشتركا محمولا على معنييه، بل يكون مستعملا في معنى واحد. وهذا هو الأصل في الألفاظ وسنعود إن شاء اللّه تعالى إلى هذه المسألة في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [33: 56].
وأما الصرف فقال تعالى: {وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [9: 127] فأخبر سبحانه عن فعلهم، وهو الانصراف، وعن فعله فيهم، وهو صرف قلوبهم ان القرآن وتدبره، لأنهم ليسوا أهلا لها. فالمحل غير صالح ولا قابل. فإن صلاحية المحل بشيئين: حسن فهم، وحسن قصد.
وهؤلاء قلوبهم لا تفقه، وقصودهم سيئة. وقد صرح سبحانه بهذا في قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [8: 23] فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم، وأنهم لا خير فيهم يدخل الإيمان بسببه إلى قلوبهم. فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به، وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجته فسماع الفهم الذي سمعه به المؤمنون لم يحصل لهم. ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم، يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم. هذا السماع الخاص، وهو الكبر التولي والاعراض. فالأول: مانع من الفهم. والثاني: مانع من الانقياد والإذعان. فأفهامهم سيئة وقصودهم رديئة وهذه سمة الضلال وعلم الشقاء. كما أن سمة الهدى وعلم السعادة فهم صحيح، وقصد صالح. واللّه المستعان.
وتأمل قوله سبحانه: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} كيف جعل هذه الجملة الثانية سواء كانت خبرا أو إعادة- عقوبة لانصرافهم فعاقبهم عليه بصرف آخر غير الصرف الأول. فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لا قبالهم لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول، فلم ينلهم الإقبال والإذعان، فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن. فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير الصرف الأول، كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول، كما قال: {فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [61: 5] وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه جازاه بأن يعرض عنه، فلا يمكنه من الإقبال إليه. ولتكن قصة إبليس منكر على ذكر تنتفع بها أتم انتفاع. فإنه لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك عاقبه بأن جعله داعيا إلى كل معصية. فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى كل معصية وفروعها، صغيرها وكبيرها. وصار هذا الإعراض والكفر عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق. فمن عقاب السيئة السيئة بعدها. كما أن ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
فإن قيل: فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض عنه وقد قال تعالى: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وأَنَّى يُؤْفَكُونَ} وقال: {فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين ومأفوكين، فكيف ينعي ذلك عليهم؟
قيل: هم دائرون بين عدله وحجته عليهم، فمكنهم وفتح لهم الباب، ونهج لهم الطريق، وهيأ لهم الأسباب. فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، ودعاهم على ألسنة رسله. وجعل لهم عقولا تميز بين الخير والشر، والنافع والضار، وأسباب الردى وأسباب الفلاح. وجعل لهم أسماعا وأبصارا، فآثروا الهوى على التقوى، واستحبوا العمى على الهدى، وقالوا: معصيتك آثر عندنا من طاعتك، والشرك أحب إلينا من توحيدك، وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك. فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم، وانصرفت عن طاعته ومحبته. فهذا عدله فيهم، وتلك حجته عليهم. فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختيارا، فسده عليهم اضطرارا. فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم، وولاهم ما تركوه ومكنهم فيما ارتضوه، وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه. وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه، وهم معرضون. فلا أقبح من فعلهم، ولا أحسن من فعله. ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة. ولأنشأهم على غير هذه النشأة، ولكنه سبحانه خالق العلو والسفل، والنور والظلمة، والنافع والضار، والطيب والخبيث والملائكة والشياطين، والنساء والذباب، ومعطيها آلاتها وصفاتها وقواها وأفعالها ومستعملها فيما خلقت له. فبعضها بطباعها، وبعضها بإرادتها ومشيئتها. وكل ذلك جار على وفق حكمته، وهو موجب حمده، ومقتضي كماله المقدس، وملكه التام ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم بوجه ما. إن هو إلا كنقرة عصفور من البحر.