فصل: الآية رقم ‏(‏ 69 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 61 ‏:‏ 62 ‏)‏

‏{‏وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا، قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم‏{‏ تقدم ذكر كون الشيطان عدو الإنسان، فانجر الكلام إلى ذكر آدم‏.‏ والمعنى‏:‏ اذكر بتمادي هؤلاء المشركين وعتوهم على ربهم قصة إبليس حين عصى ربه وأبى السجود، وقال ما قال، وهو ما أخبر الله تعالى في قوله تعالى‏{‏فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا‏{‏ أي من طين‏.‏ وهذا استفهام إنكار‏.‏ وقد تقدم القول في خلق آدم في ‏{‏البقرة‏{‏ و‏{‏الأنعام‏{‏ مستوفى‏.‏ ‏{‏قال أرأيتك‏{‏ أي قال إبليس‏.‏ والكاف توكيد للمخاطبة‏.‏ ‏{‏هذا الذي كرمت علي‏{‏ أي فضلته علي‏.‏ ورأى جوهر النار خيرا من جوهر الطين ولم يعلم أن الجواهر متماثلة‏.‏ وقد تقدم هذا في ‏{‏الأعراف‏{‏‏.‏ و‏{‏هذا‏{‏ نصب بـ ‏{‏أرأيت‏{‏‏.‏ ‏{‏الذي‏{‏ نعته‏.‏ والإكرام‏:‏ اسم جامع لكل ما يحمد‏.‏ وفي الكلام حذف تقديره‏:‏ أخبرني عن هذا الذي فضلته علي، لم فضلته وقد خلقتني من نار وخلقته من طين‏؟‏ فحذف لعلم السامع‏.‏ وقيل‏:‏ لا حاجة إلى تقدير الحذف؛ أي أترى هذا الذي كرمته علي لأفعلن به كذا وكذا‏.‏ ومعنى ‏{‏لأحتنكن‏{‏ في قول ابن عباس‏:‏ لأستولين عليهم‏.‏ وقاله الفراء‏.‏ مجاهد‏:‏ لأحتوينهم‏.‏ ابن زيد‏:‏ لأضلنهم‏.‏ والمعنى متقارب؛ أي لأستأصلن ذريته بالإغواء والإضلال، ولأجتاحنهم‏.‏ وروي عن العرب‏:‏ إحتنك الجراد الزرع إذا ذهب به كله‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لأسوقنهم حيث شئت وأقودنهم حيث أردت‏.‏ ومن قولهم‏:‏ حنكت الفرس أحنكه وأحنكه حنكا إذا جعلت في فيه الرسن‏.‏ وكذلك إحتنكه‏.‏ والقول الأول قريب من هذا؛ لأنه إنما يأتي على الزرع بالحنك‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

أشكو إليك سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا وأضعفت

واحتنكت أموالنا واجتلفت

‏{‏إلا قليلا‏}‏ يعني المعصومين، وهم الذين ذكرهم الله في قوله‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏}‏الإسراء‏:‏ 65‏]‏ وإنما قال إبليس ذلك ظنا؛‏.‏ كما قال الله تعالى‏{‏ولقد صدق عليهم إبليس ظنه‏}‏سبأ‏:‏ 20‏]‏ أو علم من طبع البشر تركب الشهوة فيهم؛ أو بنى على قول الملائكة‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم عليه السلام فلم يجد له عزما‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 63 ‏)‏

‏{‏قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال اذهب‏{‏ هذا أمر إهانة؛ أي اجهد جهدك فقد أنظرناك ‏{‏فمن تبعك منهم‏{‏ أي أطاعك من ذرية آدم‏.‏ ‏{‏فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا‏{‏ أي وافرا؛ عن مجاهد وغيره‏.‏ وهو نصب على المصدر، يقال‏:‏ وفرته أفره وفرا، ووفر المال بنفسه يفر وفورا فهو وافر؛ فهو لازم ومتعد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 64 ‏)‏

‏{‏واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏واستفزز‏{‏ أي استزل واستخف‏.‏ وأصله القطع، ومنه تفزز الثوب إذا انقطع‏.‏ والمعنى استزله بقطعك إياه عن الحق‏.‏ واستفزه الخوف أي استخفه‏.‏ وقعد مستفزا أي غير مطمئن‏.‏ ‏{‏واستفزز‏{‏ أمر تعجيز، أي أنت لا تقدر على إضلال أحد، وليس لك على أحد سلطان فافعل ما شئت‏.‏ ‏{‏بصوتك‏{‏ وصوته كل داع يدعو إلى معصية الله تعالى؛ عن ابن عباس‏.‏ مجاهد‏:‏ الغناء والمزامير واللهو‏.‏ الضحاك‏:‏ صوت المزمار‏.‏ وكان آدم عليه السلام أسكن أولاد هابيل أعلى الجبل، وولد قابيل أسفله، وفيهم بنات حسان، فزمر اللعين فلم يتمالكوا أن انحدروا فزنوا ذكره الغزنوي‏.‏ وقيل‏{‏بصوتك‏{‏ بوسوستك‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأجلب عليهم بخيلك ورجلك‏{‏ أصل الإجلاب السوق بجلبة من السائق؛ يقال‏:‏ أجلب إجلابا‏.‏ والجلب والجلبة‏:‏ الأصوات؛ تقول منه‏:‏ جلبوا بالتشديد‏.‏ وجلب الشيء يجلبه ويجلبه جلبا وجلبا‏.‏ وجلبت الشيء إلى نفسي واجتلبته بمعنى‏.‏ وأجلب على العدو إجلابا؛ أي جمع عليهم‏.‏ فالمعنى أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك وقال أكثر المفسرين‏:‏ يريد كل راكب وماش في معصية الله تعالى‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة‏:‏ إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس‏.‏ فما كان من راكب وماش يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس ورجالته‏.‏ وروى سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس قال‏:‏ كل خيل سارت في معصية الله، وكل رجل مشى في معصية الله، وكل مال أصيب من حرام، وكل ولد بغية فهو للشيطان‏.‏ والرجل جمع راجل؛ مثل صحب وصاحب‏.‏ وقرأ حفص ‏{‏ورجلك‏{‏ بكسر الجيم وهما لغتان؛ يقال‏:‏ رجل ورجل بمعنى راجل‏.‏ وقرأ عكرمة وقتادة ‏{‏ورجالك‏{‏ على الجمع‏.‏

قوله تعالى‏{‏وشاركهم في الأموال والأولاد‏{‏ أي اجعل لنفسك شركة في ذلك‏.‏ فشركته في الأموال إنفاقها في معصية الله؛ قاله الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ هي التي أصابوها من غير حلها؛ قاله مجاهد‏.‏ ابن عباس‏:‏ ما كانوا يحرمونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام‏.‏ وقاله قتادة‏.‏ الضحاك‏:‏ ما كانوا يذبحونه لآلهتهم‏.‏ والأولاد قيل‏:‏ هم أولاد الزنى، قاله مجاهد والضحاك وعبدالله بن عباس‏.‏ وعنه أيضا هو ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم من الجرائم‏.‏ وعنه أيضا‏:‏ هو تسميتهم عبد الحارث وعبد العزى وعبد اللات وعبد الشمس ونحوه‏.‏ وقيل‏:‏ هو صبغة أولادهم في الكفر حتى هودوهم ونصروهم، كصنع النصارى بأولادهم بالغمس في الماء الذي لهم؛ قال قتادة‏.‏ وقول خامس - روى عن مجاهد قال‏:‏ إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه، فذلك قوله تعالى‏{‏لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان‏{‏ وسيأتي‏.‏ وروى من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن فيكم مغرِّبين‏)‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، وما المغربون‏؟‏ قال‏:‏‏(‏الذين يشترك فيهم الجن‏)‏‏.‏ رواه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول‏.‏ قال الهروي‏:‏ سموا مغربين لأنه دخل فيهم عرق غريب‏.‏ قال الترمذي الحكيم‏:‏ فللجن مساماة بابن آدم في الأمور والاختلاط؛ فمنهم من يتزوج فيهم، وكانت بلقيس ملكة سبأ أحد أبويها من الجن‏.‏ وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏وعدهم‏{‏ أي منّهم الأماني الكاذبة، وأنه لا قيامة ولا حساب، وأنه إن كان حساب وجنة ونار فأنتم أولى بالجنة من غيركم يقويه قوله تعالى‏{‏يعديهم ويمنيهم وما بعدهم الشيطان إلا غرورا‏{‏ أي باطلا‏.‏ وقبل ‏{‏وعدهم‏{‏ أي عدهم النصر على من أرادهم بسوء‏.‏ وهذا الأمر للشيطان تهدد ووعيد له‏.‏ وقيل‏:‏ استخفاف به وبمن اتبعه‏.‏

في الآية ما يدل على تحريم المزامير والغناء واللهو؛ لقوله‏{‏واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم‏{‏ على قول مجاهد‏.‏ وما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يستحسنه فواجب التنزه عنه‏.‏ وروى نافع عن ابن عمر أنه سمع صوت زمارة فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول‏:‏ يا نافع‏!‏ أتسمع‏؟‏ فأقول نعم؛ فمضى حتى قلت له لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق وقال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت زمارة راع فصنع مثل هذا‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال، فكيف بغناء أهل هذا الزمان وزمرهم‏.‏ وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة (1)‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 65 ‏)‏

‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ هم المؤمنون‏.‏ وقد تقدم الكلام فيه‏.‏ ‏{‏وكفى بربك وكيلا‏{‏ أي عاصما من القبول من إبليس، وحافظا من كيده وسوء مكره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 66 ‏)‏

‏{‏ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما‏}‏

قوله تعالى‏{‏ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر‏{‏ الإزجاء‏:‏ السوق؛ ومنه قوله تعالى‏{‏ألم تر أن الله يزجي سحابا‏{‏‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بنى أسد ما هذه الصوت

وإزجاء الفلك‏:‏ سوقه بالريح اللينة‏.‏ والفلك هنا جمع، وقد تقدم‏.‏ والبحر الماء الكثير عذبا كان أو ملحا، وقد غلب هذا الاسم على الملح‏.‏ وهذه الآية توقيف على آلاء الله وفضله عند عباده؛ أي ربكم الذي أنعم عليكم بكذا وكذا فلا تشركوا به شيئا‏.‏ ‏{‏لتبتغوا من فضله‏{‏ أي في التجارات‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏{‏إنه كان بكم رحيما‏{‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 67 ‏)‏

‏{‏وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا مسكم الضر في البحر‏{‏ ‏{‏الضر‏{‏ لفظ يعم خوف الغرق والإمساك عن الجري‏.‏ وأهوال حالاته اضطرابه وتموجه‏.‏ ‏{‏ضل من تدعون إلا إياه‏{‏ ‏{‏ضل‏{‏ معناه تلف وفقد؛ وهي عبارة تحقير لمن يدعي إلها من دون الله‏.‏ المعنى في هذه الآية‏:‏ أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم أنها شافعة، وأن لها فضلا‏.‏ وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علما لا يقدر على مدافعته أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام، فوقفهم الله من ذلك على حالة البحر حيث تنقطع الحيل‏.‏ ‏{‏فلما نجاكم إلى البر أعرضتم‏{‏ أي عن الإخلاص‏.‏ ‏{‏وكان الإنسان كفورا‏{‏ الإنسان هنا الكافر‏.‏ وقيل‏:‏ وطبع الإنسان كفورا للنعم إلا من عصمه الله؛ فالإنسان لفظ الجنس‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 68 ‏)‏

‏{‏أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر‏{‏ بين أنه قادر على هلاكهم في البر وإن سلموا من البحر‏.‏ والخسف‏:‏ أن تنهار الأرض بالشيء؛ يقال‏:‏ بئر خسيف إذا انهدم أصلها‏.‏ وعين خاسف أي غارت حدقتها في الرأس‏.‏ وعين من الماء خاسفو أي غاز ماؤها‏.‏ وخسفت الشمس أي غابت عن الأرض‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ والخسيف البئر التي تحفر في الحجارة فلا ينقطع ماؤها كثرة‏.‏ والجمع خسف‏.‏ وجانب البر‏:‏ ناحية الأرض؛ وسماه جانبا لأنه يصير بعد الخسف جانبا‏.‏ وأيضا فإن البحر جانب والبر جانب‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم كانوا على ساحل البحر، وساحله جانب البر، وكانوا فيه آمنين من أهوال البحر، فحذرهم ما أمنوه من البر كما حذرهم ما خافوه من البحر‏.‏ ‏{‏أو يرسل عليكم حاصبا‏{‏ يعني ريحا شديدة، وهي التي ترمي بالحصباء، وهي الحصى الصغار؛ قاله أبو عبيدة والقتبي‏.‏ وقال قتادة‏:‏ يعني حجارة من السماء تحصبهم، كما فعل بقوم لوط‏.‏ ويقال للسحابة التي ترمي بالبرد‏:‏ صاحب، وللريح التي تحمل التراب والحصباء حاصب وحصبة أيضا‏.‏ قال لبيد‏:‏

جرت عليها أن خوت من أهلها أذيالها كل عصوف حصبه

وقال الفرزدق‏:‏

مستقبلين شمال الشام يضربنا بحاصب كنديف القطن منثور

‏{‏ثم لا تجدوا لكم وكيلا‏{‏ أي حافظا ونصيرا يمنعكم من بأس الله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 69 ‏)‏

‏{‏أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا‏}‏

قوله تعالى‏{‏أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى‏{‏ يعني في البحر‏.‏ ‏{‏فيرسل عليكم قاصفا من الريح‏{‏ القاصف‏:‏ الريح الشديدة التي تكسر بشدة؛ من قصف الشيء يقصفه؛ أي كسره بشدة‏.‏ والقصف‏:‏ الكسر؛ يقال‏:‏ قصفت الريح السفينة‏.‏ وريح قاصف‏:‏ شديدة‏.‏ ورعد قاصف‏:‏ شديد الصوت‏.‏ يقال‏:‏ قصف الرعد وغيره قصيفا‏.‏ والقصيف‏:‏ هشيم الشجر‏.‏ والتقصف التكسر‏.‏ والقصف أيضا‏:‏ اللهو واللعب؛ يقال‏:‏ إنها مولدة‏.‏ ‏{‏فيغرقكم بما كفرتم‏{‏ أي بكفركم‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏نخسف بكم‏{‏ ‏{‏أو نرسل عليكم‏{‏ ‏{‏أن نعيدكم‏{‏ ‏{‏فنرسل عليكم‏{‏ ‏{‏فنغرقكم‏{‏ بالنون في الخمسة على التعظيم، لقوله‏{‏علينا‏{‏ الباقون بالياء؛ لقوله في الآية قبل‏{‏إياه‏{‏‏.‏ وقرأ أبو جعفر وشيبة ورويس ومجاهد ‏{‏فتغرقكم‏{‏ بالتاء نعتا للريح‏.‏ وعن الحسن وقتادة ‏{‏فيغرقكم‏{‏ بالياء مع التشديد في الراء‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏الرياح‏{‏ هنا وفي كل القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ إن القاصف المهلكة في البر، والعاصف المغرقة في البحر؛ حكاه الماوردي‏.‏ ‏{‏ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا‏{‏ قال مجاهد‏:‏ ثائرا‏.‏ النحاس‏:‏ وهو من الثأر‏.‏ وكذلك يقال لكل من طلب بثأر أو غيره‏:‏ تبيع وتابع؛ ومنه ‏{‏فاتباع بالمعروف‏}‏البقرة‏:‏ 178‏]‏ أي مطالبة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 70 ‏)‏

‏{‏ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد كرمنا بني آدم‏{‏ الآية‏.‏ لما ذكر من الترهيب ما ذكر بين النعمة عليهم أيضا‏.‏ ‏{‏كرمنا‏{‏ تضعيف كرم؛ أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا‏.‏ وهذا هو كرم نفي النقصان لا كرم المال‏.‏ وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة، وحملهم في البر والبحر مما لا يصح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره‏.‏ وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس، وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم؛ لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب ويأكلون المركبات من الأطعمة‏.‏ وغاية كل حيوان يأكل لحما نيئا أو طعاما غير مركب‏.‏ وحكى الطبري عن جماعة أن التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوان بالفم‏.‏ وروي عن ابن عباس؛ ذكره المهدوي والنحاس؛ وهو قول الكلبي ومقاتل؛ ذكره الماوردي‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ كرمهم بالنطق والتمييز‏.‏ عطاء‏:‏ كرمهم بتعديل القامة وامتدادها‏.‏ يمان‏:‏ بحسن الصورة‏.‏ محمد بن كعب‏:‏ بأن جعل محمدا صلى الله عليه وسلم منهم‏.‏ وقيل أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب‏.‏ وقال محمد بن جرير الطبري‏:‏ بتسليطهم على سائر الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم‏.‏ وقيل‏:‏ بالكلام والخط‏.‏ وقيل‏:‏ بالفهم والتمييز‏.‏ والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف، وبه يعرف الله ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله؛ إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب‏.‏ فمثال الشرع الشمس، ومثال العقل العين؛ فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء‏.‏ وما تقدم من الأقوال بعضه أقوى من بعض‏.‏ وقد جعل الله في بعض الحيوان خصالا يفضل بها ابن آدم أيضا؛ كجري الفرس وسمعه وإبصاره، وقوة الفيل وشجاعة الأسد وكرم الديك‏.‏ وإنما التكريم والتفضيل بالعقل كما بيناه‏.‏ والله اعلم‏.‏

قالت فرقة‏:‏ هذه الآية تقتضي تفضيل الملائكة على الإنس والجن من حيث إنهم المستثنون في قوله تعالى‏{‏ولا الملائكة المقربون‏}‏النساء‏:‏ 171‏]‏‏.‏ وهذا غير لازم من الآية، بل التفضيل فيها بين الإنس والجن؛ فإن هذه الآية إنما عدد الله فيها على بني آدم ما خصهم به من سائر الحيوان، والجن هو الكثير المفضول، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول، ولم تتعرض الآية لذكرهم، بل يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل العكس، ويحتمل التساوي، وعلى الجملة فالكلام لا ينتهي في هذه المسألة إلى القطع‏.‏ وقد تحاشى قوم من الكلام في هذا كما تحاشوا من الكلام في تفضيل بعض الأنبياء على بعض؛ إذ في الخبر ‏(‏لا تخايروا بين الأنبياء ولا تفضلوني على يونس بن متى‏)‏‏.‏ وهذا ليس بشيء؛ لوجود النص في القرآن في التفضيل بين الأنبياء‏.‏ وقد بيناه في ‏{‏البقرة‏{‏ ومضى فيها الكلام في تفضيل الملائكة والمؤمن‏.‏

قوله تعالى‏{‏ورزقناهم من الطيبات‏{‏ يعني لذيذ المطاعم المشارب‏.‏ قال مقاتل‏:‏ السمن والعسل والزبد والتمر والحلوى، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم من التبن والعظام وغيرها‏.‏ ‏{‏وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا‏{‏ أي على البهائم والدواب والوحش والطير بالغلبة والاستيلاء، والثواب والجزاء والحفظ والتمييز وإصابة الفراسة‏.‏

هذه الآية ترد ما روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏احرموا أنفسكم طيب الطعام فإنما قوى الشيطان أن يجري في العروق منها‏)‏‏.‏ وبه يستدل كثير من الصوفية في ترك أكل الطيبات، ولا أصل له؛ لأن القرآن يرده، والسنة الثابتة بخلافه، على ما تقرر في غير موضع‏.‏ وقد حكى أبو حامد الطوسي قال‏:‏ كان سهل يقتات من ورق النبق مدة‏.‏ وأكل دقاق ورق التين ثلاث سنين‏.‏ وذكر إبراهيم بن البنا قال‏:‏ صحبت ذا النون من إخميم إلى الإسكندرية، فلما كان وقت إفطاره أخرجت قرصا وملحا كان معي، وقلت‏:‏ هلم‏.‏ فقال لي‏:‏ ملحك مدقوق‏؟‏ قلت نعم‏.‏ قال‏:‏ لست تفلح‏!‏ فنظرت إلى مزوده وإذا فيه قليل سويق شعير يسف منه‏.‏ وقال أبو يزيد‏:‏ ما أكلت شيئا مما يأكله بنو آدم أربعين سنة‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وهذا مما لا يجوز حمل النفس عليه؛ لأن الله تعالى أكرم الآدمي بالحنطة وجعل قشورها لبهائمهم، فلا يصح مزاحمة الدواب في أكل التبن، وأما سويق الشعير فإنه يورث القولنج، وإذا اقتصر الإنسان على خبز الشعير والملح الجريش فإنه ينحرف مزاجه؛ لأن خبز الشعير بارد مجفف، والملح يابس قابض يضر الدماغ والبصر‏.‏ وإذا مالت النفس إلى ما يصلحها فمنعت فقد قوومت حكمة البارئ سبحانه بردها، ثم يؤثر ذلك في البدن، فكان هذا الفعل مخالفا للشرع والعقل‏.‏ ومعلوم أن البدن مطية الآدمي، ومتى لم يرفق بالمطية لم تبلغ‏.‏ وروي عن إبراهيم بن أدهم أنه اشترى زبدا وعسلا وخبز حُوارى، فقيل له‏:‏ هذا كله‏؟‏ فقال‏:‏ إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال‏.‏ وكان الثوري يأكل اللحم والعنب والفالوذج ثم يقوم إلى الصلاة‏.‏ ومثل هذا عن السلف كثير‏.‏ وقد تقدم منه ما يكفي في المائدة والأعراف وغيرهما‏.‏ والأول غلو في الدين إن صح عنهم ‏{‏ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم‏}‏الحديد‏:‏27‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 71 ‏)‏

‏{‏يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏يوم ندعو كل أناس بإمامهم‏{‏ روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏{‏يوم ندعو كل أناس بإمامهم‏{‏ قال‏:‏ ‏(‏يدعي أحدهم فيعطي كتابه بيمينه، ويمد له في جسمه ستون ذراعا، ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول أبشروا لكل منكم مثل هذا - قال - وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له في جسمه ستون ذراعا على صورة آدم ويلبس تاجا فيراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من شر هذا‏!‏ اللهم لا تأتنا بهذا‏.‏ قال‏:‏ فيأتيهم فيقولون اللهم أخره‏.‏ فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا‏)‏‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن غريب‏.‏ ونظير هذا قوله‏{‏وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعي إلى كتابهم اليوم تجزون ما كنتم تعملون‏{‏‏.‏ والكتاب يسمى إماما؛ لأنه يرجع إليه في تعرف أعمالهم‏.‏ وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك‏{‏بإمامهم‏{‏ أي بكتابهم، أي بكتاب كل إنسان منهم الذي فيه عمله؛ دليله ‏{‏فمن أوتي كتابه بيمينه‏{‏‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ بالكتاب المنزل عليهم‏.‏ أي يدعي كل إنسان بكتابه الذي كان يتلوه؛ فيدعي أهل التوراة بالتوراة، وأهل القرآن بالقرآن؛ فيقال‏:‏ يأهل القرآن، ماذا عملتم، هل امتثلتم أوامره هل اجتنبتم نواهيه‏!‏ وهكذا‏.‏ وقال مجاهد‏{‏بإمامهم‏{‏ بنبيهم، والإمام من يؤتم به‏.‏ فيقال‏:‏ هاتوا متبعي إبراهيم عليه السلام، هاتوا متبعي موسى عليه السلام، هاتوا متبعي الشيطان، هاتوا متبعي الأصنام‏.‏ فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم، ويقوم أهل الباطل فيأخذون كتابهم بشمالهم‏.‏ وقاله قتادة‏.‏ وقال على رضى الله عنه‏:‏ بإمام عصرهم‏.‏ وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏{‏يوم ندعو كل أناس بإمامهم‏{‏ فقال‏:‏ ‏(‏كل يدعي بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم فيقول هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي عيسى هاتوا متبعي محمد - عليهم أفضل الصلوات والسلام - فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم، ويقول‏:‏ هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلالة إمام هدى وإمام ضلالة‏)‏‏.‏ وقال الحسن وأبو العالية‏{‏بإمامهم‏{‏ أي بأعمالهم‏.‏ وقاله ابن عباس‏.‏ فيقال‏:‏ أين الراضون بالمقدور، أين الصابون عن المحذور‏.‏ وقيل‏:‏ بمذاهبهم؛ فيدعون بمن كانوا يأتمون به في الدنيا‏:‏ يا حنفي، يا شافعي، يا معتزلي، يا قدري، ونحوه؛ فيتبعونه في خير أو شر أو على حق أو باطل، وهذا معنى قوله أبي عبيدة‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ يدعي أهل الصداقة من باب الصداقة، وأهل الجهاد من باب الجهاد‏.‏‏.‏‏.‏، الحديث بطوله‏.‏ أبو سهل‏:‏ يقال أين فلان المصلي والصوام، وعكسه الدفاف والنمام‏.‏ وقال محمد بن كعب‏{‏بإمامهم‏{‏ بأمهاتهم‏.‏ وإمام جمع آم‏.‏ قالت الحكماء‏:‏ وفي ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة؛ أحدها - لأجل عيسى‏.‏ والثاني - إظهار لشرف الحسن والحسين‏.‏ والثالث - لئلا يفتضح أولاد الزنى‏.‏

قلت‏:‏ وفي هذا القول نظر؛ فإن في الحديث الصحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيام يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان‏)‏ خرجه مسلم والبخاري‏.‏ فقوله‏{‏هذه غدرة فلان ابن فلان‏{‏ دليل على أن الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وهذا يرد على من قال‏:‏ إنما يدعون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك سترا على آبائهم‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فمن أوتي كتابه بيمينه‏{‏ هذا يقوي قول من قال‏{‏بإمامهم‏{‏ بكتابهم ويقويه أيضا قوله‏{‏وكل شيء أحصيناه في إمام مبين‏}‏يس‏:‏12‏]‏‏.‏ ‏{‏فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا‏{‏ الفتيل الذي في شق النواة‏.‏ وقد مضى في ‏{‏النساء‏{‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 72 ‏)‏

‏{‏ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن كان في هذه أعمى‏{‏ أي في الدنيا عن الاعتبار وإبصار الحق‏.‏ ‏{‏فهو في الآخرة‏{‏ أي في أمر الآخرة ‏{‏أعمى‏{‏ وقال عكرمة‏:‏ جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسألوه عن هذه الآية فقال‏:‏ اقرؤوا ما قبلها ‏{‏ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر - إلى - تفضيلا‏{‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ من كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى فهو عن الآخرة التي لم يعاين أعمى وأضل سبيلا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى من عمى عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى من كان في الدنيا التي أمهل فيها وفسح له ووعد بقبول التوبة أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا‏.‏ وقيل‏:‏ ومن كان في الدنيا أعمى عن حجج الله بعثه الله يوم القيامة أعمى؛ كما قال‏{‏ونحشره يوم القيامة أعمى‏{‏ الآيات‏.‏ وقال‏{‏ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم‏{‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى في قوله ‏{‏فهو في الآخرة أعمى‏{‏ في جميع الأقوال‏:‏ أشد عمى؛ لأنه من عمى القلب، ولا يقال مثله في عمى العين‏.‏ قال الخليل وسيبويه‏:‏ لأنه خلقة بمنزلة اليد والرجل، فلم يقل ما أعماه كما لا يقال ما أيداه‏.‏ الأخفش‏:‏ لم يقل فيه ذلك لأنه على أكثر من ثلاثة أحرف، وأصله أعمى‏.‏ وقد أجاز بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه؛ لأن فعله عمى وعشى‏.‏ وقال الفراء‏:‏ حدثني بالشام شيخ بصرى أنه سمع العرب تقول‏:‏ ما أسود شعره‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر وفي المخازى لكم أشباح أشياخ

أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم لؤما وأبيضهم سربال طباخ

وأمال أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف الحرفين ‏{‏أعمى‏{‏ و‏{‏أعمى‏{‏ وفتح الباقون‏.‏ وأمال أبو عمرو الأول وفتح الثاني‏.‏ ‏{‏وأضل سبيلا‏{‏ يعني أنه لا يجد طريقا إلى الهداية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 73 ‏)‏

‏{‏وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن كادوا ليفتنونك‏{‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود في طوافه، فمنعته قريش وقالوا‏:‏ لا ندعك تستلم حتى تُلِم بآلهتنا‏.‏ فحدث نفسه وقال‏:‏ ‏(‏ما علي أن أُلِم بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر والله يعلم أني لها كاره‏)‏ فأبى الله تعالى ذلك وأنزل عليه هذه الآية؛ قال مجاهد وقتادة‏.‏ وقال ابن عباس في رواية عطاء‏:‏ نزلت في وفد ثقيف، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه شططا وقالوا‏:‏ متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها، فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا، وحرم وادينا كما حرمت مكة، حتى تعرف العرب فضلنا عليهم؛ فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك فنزلت هذه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ هو قول أكابر قريش للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اطرد عنا هؤلاء السقاط والموالي حتى نجلس معك ونسمع منك؛ فهم بذلك حتى نهي عنه‏.‏ وقال قتادة ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه، ويسودونه ويقاربونه؛ فقالوا‏:‏ إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا يا سدنا؛ وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله من ذلك، وأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ ومعنى ‏{‏ليفتنونك‏{‏ أي يزيلونك‏.‏ يقال‏:‏ فتنت الرجل عن رأيه إذا أزلته عما كان عليه؛ قاله الهروي‏.‏ وقيل يصرفونك، والمعنى واحد‏.‏ ‏{‏عن الذي أوحينا إليك‏{‏ أي حكم القرآن؛ لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن‏.‏ ‏{‏لتفتري علينا غيره‏{‏ أي لتختلق علينا غير ما أوحينا إليك، وهو قول ثقيف‏:‏ وحرم وادينا كما حرمت مكة، شجرها وطيرها ووحشها، فإن سألتك العرب لم خصصتهم فقل الله أمرني بذلك حتى يكون عذرا لك‏.‏ ‏{‏وإذا لاتخذوك خليلا‏{‏ أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلا، أي والوك وصافوك؛ مأخوذ من النخلة ‏(‏بالضم‏)‏ وهي الصداقة لممايلته لهم‏.‏ وقيل‏{‏لاتخذوك خليلا‏{‏ أي فقيرا‏.‏ مأخوذ من الخلة ‏(‏بفتح الخاء‏)‏ وهي الفقر لحاجته إليهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 74 ‏:‏ 75 ‏)‏

‏{‏ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا، إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولولا أن ثبتناك‏{‏ أي على الحق وعصمناك من موافقتهم‏.‏ ‏{‏لقد كدت تركن إليهم‏{‏ أي تميل‏.‏ ‏{‏شيئا قليلا‏{‏ أي ركونا قليلا‏.‏ قال قتادة‏:‏ لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ ظاهر الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وباطنه إخبار عن ثقيف‏.‏ والمعنى‏:‏ وإن كادوا ليركنونك، أي كادوا يخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم؛ فنسب فعلهم إليه مجازا واتساعا؛ كما تقول لرجل‏:‏ كدت تقتل نفسك، أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت؛ ذكره المهدوي‏.‏ وقيل ما كان منه هم بالركون إليهم، بل المعنى‏:‏ ولولا فضل الله عليك لكان منك ميل إلى موافقتهم، ولكن تم فضل الله عليك فلم تفعل؛ ذكره القشيري‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوما، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه‏.‏

وقوله‏{‏إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات‏{‏ أي لو ركنت لأذقناك مثلي عذاب الحياة في الدنيا ومثلي عذاب الممات في الآخرة؛ قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما‏.‏ وهذا غاية الوعيد‏.‏ وكلما كانت الدرجة أعلى كان العذاب عند المخالفة أعظم‏.‏ قال الله تعالى‏{‏يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين‏}‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏ وضعف الشيء مثله مرتين، وقد يكون الضعف النصيب؛ كقوله عز وجل‏{‏لكل ضعف‏}‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ أي نصيب‏.‏ وقد تقدم في الأعراف‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 76 ‏)‏

‏{‏وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا‏}‏

هذه الآية قيل إنها مدنية؛ حسبما تقدم في أول السورة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ حسدت اليهود مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقالوا‏:‏ إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام، فإن كنت نبيا فالحق بها؛ فإنك إن خرجت إليها صدقناك وآمنا بك؛ فوقع ذلك في قلبه لما يحب من إسلامهم، فرحل من المدينة على مرحلة فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وقال عبدالرحمن بن غنم‏:‏ غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما نزل تبوك نزل ‏{‏وإن كانوا ليستفزونك من الأرض‏{‏ بعد ما ختمت السورة، وأمر بالرجوع‏.‏ وقيل‏:‏ إنها مكية‏.‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ نزلت في همّ أهل مكة بإخراجه، ولو أخرجوه لما أمهلوا ولكن الله أمره بالهجرة فخرج، وهذا أصح؛ لأن السورة مكية، ولأن ما قبلها خبر عن أهل مكة، ولم يجر لليهود ذكر‏.‏ وقول‏{‏من الأرض‏{‏ يريد أرض مكة‏.‏ كقوله‏{‏فلن أبرح الأرض‏}‏يوسف‏:‏ 80‏]‏ أي أرض مصر؛ دليله ‏{‏وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك‏}‏محمد‏:‏ 13‏]‏ يعني مكة‏.‏ معناه‏:‏ هم أهلها بإخراجه؛ فلهذا أضاف إليها وقال ‏{‏أخرجتك‏{‏‏.‏ وقيل‏:‏ هم الكفار كلهم أن يستخفوه من أرض العرب بتظاهرهم عليه فمنعه الله، ولو أخرجوه من أرض العرب لم يمهلوا، وهو معنى قوله‏{‏وإذا لا يلبثون خلافك‏{‏ وقرأ عطاء بن أبي رباح ‏{‏لا يلبثون‏{‏ الباء مشددة‏.‏ ‏{‏خلفك‏{‏ نافع وابن كثير وأبو بكر وأبو عمرو، ومعناه بعدك‏.‏ وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي ‏{‏خلافك‏{‏ واختاره أبو حاتم، اعتبارا بقوله‏{‏فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله‏}‏التوبة‏:‏ 81‏]‏ ومعناه أيضا بعدك؛ قال الشاعر‏:‏

عفت الديار خلافهم فكأنما بسط الشواطب بينهن حصيرا

بسط البواسط؛ في الماوردي‏.‏ يقال‏:‏ شطبت المرأة الجريد إذا شقته لتعمل منه الحصر‏.‏ قال أبو عبيد ثم تلفيه الشاطبة إلى المنقية‏.‏ وقيل‏{‏خلفك‏{‏ بمعنى بعدك‏.‏ ‏{‏وخلافك‏{‏ بمعنى مخالفتك؛ ذكره ابن الأنباري‏.‏ ‏{‏إلا قليلا‏{‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما - أن المدة التي لبثوها بعده ما بين إخراجهم له إلى قتلهم يوم بدر؛ وهذا قول من ذكر أنهم قريش‏.‏ الثاني - ما بين ذلك وقتل بنى قريظة وجلاء بن النضير؛ وهذا قول من ذكر أنهم اليهود‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 77 ‏)‏

‏{‏سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا‏{‏ أي يعذبون كسنة من قد أرسلنا؛ فهو بإضمار يعذبون؛ فلما سقط الخافض عمل الفعل؛ قاله الفراء‏.‏ وقيل‏:‏ انتصب على معنى سننا سنة من قد أرسلنا‏.‏ وقيل‏:‏ هو أرسلنا؛ فلا يوقف على هذا التقدير على قوله‏{‏إلا قليلا‏{‏ ويوقف على الأول والثاني‏.‏ ‏{‏قبلك من رسلنا‏{‏ وقف حسن‏.‏ ‏{‏ولا تجد لسنتنا تحويلا‏{‏ أي لا خلف في وعدها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 78 ‏)‏

‏{‏أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا‏}‏

قوله تعالى‏{‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏{‏ لما ذكر مكايد المشركين أمر نبيه عليه السلام بالصبر والمحافظة على الصلاة، وفيها طلب النصر على الأعداء‏.‏ ومثله ‏{‏ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين‏{‏‏.‏ وتقدم القول في معنى إقامة الصلاة في أول سورة ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ وهذا الآية بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة‏.‏ واختلف العلماء في الدلوك على قولين‏:‏ أحدهما - أنه زوال الشمس عن كبد السماء؛ قاله عمر وابنه وأبو هريرة وابن عباس وطائفة سواهم من علماء التابعين وغيرهم‏.‏ الثاني - أن الدلوك هو المغرب؛ قاله علي وابن مسعود وأبي بن كعب، وروى عن ابن عباس‏.‏ قال الماوردي‏:‏ من جعل الدلوك اسما لغروبها فلأن الإنسان يدلك عينيه براحته لتبينها حالة المغيب، ومن جعله اسما لزوالها فلأنه يدلك عينيه لشدة شعاعها‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ دلوكها غروبها‏.‏ ودلكت براح يعني الشمس؛ أي غابت وأنشد قطرب‏:‏

هذا مقام قدمي رباح ذبب حتى دلكت براح

براح بفتح الباء على وزن حزام وقطام ورقاس اسم من أسماء الشمس‏.‏ ورواه الفراء بكسر الباء وهو جمع راحة وهي الكف؛ أي غابت وهو ينظر إليها وقد جعل كفه على حاجبه‏.‏ ومنه قوله العجاج‏:‏

والشمس قد كادت تكون دنفا أدفعها بالراح كي تزحلفا

قال ابن الأعرابي‏:‏ الزحلوفة مكان منحدر أملس، لأنهم يتزحلفون فيه‏.‏ قال‏:‏ والزحلفة كالدحرجة والدفع؛ يقال‏:‏ زحلفته فتزحلف‏.‏ ويقال‏:‏ دلكت الشمس إذا غابت‏.‏ قال ذو الرمة‏:‏

مصابيح ليست باللواتي تقودها نجوم ولا بالآفلات الدوالك

قال ابن عطية‏:‏ الدلوك هو الميل - في اللغة - فأول الدلوك هو الزوال وآخره هو الغروب‏.‏ ومن وقت الزوال إلى الغروب يسمى دلوكا، لأنها في حالة ميل‏.‏ فذكر الله تعالى الصلوات التي تكون في حالة الدلوك وعنده؛ فيدخل في ذلك الظهر والعصر والمغرب، ويصح أن تكون المغرب داخلة في غسق الليل‏.‏ وقد ذهب قوم إلى أن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب؛ لأنه سبحانه علق وجوبها على الدلوك، وهذا دلوك كله؛ قاله الأوزاعي وأبو حنيفة في تفصيل‏.‏ وأشار إليه مالك والشافعي في حالة الضرورة‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلى غسق الليل‏{‏ روى مالك عن ابن عباس قال‏:‏ دلوك الشمس ميلها، وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الغسق سواد الليل‏.‏ قال ابن قيس الرقيات‏:‏

إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا

وقد قيل‏:‏ غسق الليل مغيب الشفق‏.‏ وقيل‏:‏ إقبال ظلمته‏.‏ قال:‏

ظلت تجود يدها وهي لاهية حتى إذا جنح الإظلام والغسق

يقال‏:‏ غسق الليل غسوقا‏.‏ والغسق اسم بفتح السين‏.‏ وأصل الكلمة من السيلان؛ يقال‏:‏ غسقت العين إذا سالت، تغسق‏.‏ وغسق الجرح غسقانا، أي سال منه ماء أصفر‏.‏ وأغسق المؤذن، أي أخر المغرب إلى غسق الليل‏.‏ وحكى الفراء‏:‏ غسق الليل وأغسق، وظلم أظلم، ودجا وأدجى، وغبس وأغبس، وغبش وأغبش‏.‏ وكان الربيع بن خثيم يقول لمؤذنه في يوم غيم‏:‏ أغسق أغسق‏.‏ يقول‏:‏ أخر المغرب حتى يغسق الليل، وهو إظلامه‏.‏

اختلف العلماء في آخر وقت المغرب؛ فقيل‏:‏ وقتها وقت واحد لا وقت لها إلا حين تحجب الشمس، وذلك بين في إمامة جبريل؛ فإنه صلاها باليومين لوقت واحد وذلك غروب الشمس، وهو الظاهر من مذهب مالك عند أصحابه‏.‏ وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه أيضا وبه قال الثوري‏.‏ وقال مالك في الموطأ‏:‏ فإذا غاب الشفق فقد خرجت من وقت المغرب ودخل وقت العشاء‏.‏ وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود؛ لأن وقت الغروب إلى الشفق غسق كله‏.‏ ولحديث أبي موسى، وفيه‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالسائل المغرب في اليوم الثاني فأخر حتى كان سقوط الشفق‏.‏ خرجه مسلم‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا أولى من أخبار إمامة جبريل؛ لأنه متأخر بالمدنية وإمامة جبريل بمكة، والمتأخر أولى من فعله وأمره؛ لأنه ناسخ لما قبله‏.‏ وزعم ابن العربي أن هذا القول هو المشهور من مذهب مالك، وقوله في موطئه الذي أقرأه طول عمره وأملاه في حياته‏.‏

والنكتة في هذا أن الأحكام المتعلقة بالأسماء هل تتعلق بأوائلها أو بآخرها أو يرتبط الحكم بجميعها‏؟‏ والأقوى في النظر أن يرتبط الحكم بأوائلها لئلا يكون ذكرها لغوا فإذا ارتبط بأوائلها جرى بعد ذلك النظر في تعلقه بالكل إلى الآخر‏.‏

قلت‏:‏ القول بالتوسعة أرجح‏.‏ وقد خرج الإمام الحافظ أبو محمد عبدالغني بن سعيد من حديث الأجلح بن عبدالله الكندي عن أبي الزبير عن جابر قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قريبا من غروب الشمس فلم يصل المغرب حتى أتى سرف، وذلك تسعة أميال‏.‏ وأما القول بالنسخ فليس بالبين وإن كان التاريخ معلوما؛ فإن الجمع ممكن‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ تحمل أحاديث جبريل على الأفضلية في وقت المغرب، ولذلك اتفقت الأمة فيها على تعجيلها والمبادرة إليها في حين غروب الشمس‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ ولا نعلم أحدا من المسلمين تأخر بإقامة المغرب في مسجد جماعة عن وقت غروب الشمس‏.‏ وأحاديث التوسعة تبين وقت الجواز، فيرتفع التعارض ويصح الجمع، وهو أولى من الترجيح باتفاق الأصوليين؛ لأن فيه إعمال كل واحد من الدليلين، والقول بالنسخ أو الترجيح فيه إسقاط أحدهما‏.‏ والله اعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وقرآن الفجر‏{‏ انتصب ‏{‏قرآن‏{‏ من وجهين‏:‏ أحدهما أن يكون معطوفا على الصلاة؛ المعنى‏:‏ وأقم قرآن الفجر أي صلاة الصبح؛ قاله الفراء‏.‏ وقال أهل البصرة‏.‏ انتصب على الإغراء؛ أي فعليك بقرآن الفجر؛ قال الزجاج‏.‏ وعبر عنها بالقرآن خاصة دون غيرها من الصلوات؛ لأن القرآن هو أعظمها، إذ قراءتها طويلة مجهور بها حسبما هو مشهور مسطور؛ عن الزجاج أيضا‏.‏

قلت‏:‏ وقد استقر عمل المدينة على استحباب إطالة القراءة في الصبح قدرا لا يضر بمن خلفه - يقرأ فيها بطوال المفصل، ويليها في ذلك الظهر والجمعة - وتخفيف القراءة في المغرب وتوسطها في العصر والعشاء‏.‏ وقد قيل في العصر‏:‏ إنها تخفف كالمغرب‏.‏ وأما ما ورد في صحيح مسلم وغيره من الإطالة فيما استقر فيه التقصير، أو من التقصير فيما استقرت فيه الإطالة؛ كقراءته في الفجر المعوذتين - كما رواه النسائي - وكقراءة الأعراف والمرسلات والطور في المغرب، فمتروك بالعمل‏.‏ ولإنكاره على معاذ التطويل، حين أم قومه في العشاء فافتتح سورة البقرة‏.‏ خرجه الصحيح‏.‏ وبأمره الأئمة بالتخفيف فقال‏:‏ ‏(‏أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أمّ الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والمريض والسقيم والضعيف وذا الحاجة‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏فإذا صلى أحدكم وحده فليطول ما شاء‏)‏‏.‏ كله مسطور في صحيح الحديث‏.‏

قوله تعالى‏{‏وقرآن الفجر‏{‏ دليل على أن لا صلاة إلا بقراءة؛ لأنه سمى الصلاة قرآنا‏.‏ وقد اختلف العلماء في القراءة في الصلاة فذهب جمهورهم إلى وجوب قراءة أم القرآن للإمام والفذّ في كل ركعة‏.‏ وهو مشهور قول مالك‏.‏ وعنه أيضا أنها واجبة في جل الصلاة‏.‏ وهو قول إسحاق‏.‏ وعنه أيضا تجب في ركعة واحدة؛ قاله المغيرة وسحنون‏.‏ وعنه أن القراءة لا تجب في شيء من الصلاة‏.‏ وهو أشذ الروايات عنه‏.‏ وحكي عن مالك أيضا أنها تجب في نصف الصلاة، وإليه ذهب الأوزاعي‏.‏ وعن الأوزاعي أيضا وأيوب أنها تجب على الإمام والفذ والمأموم على كل حال‏.‏ وهو أحد قولي الشافعي‏.‏ وقد مضى في ‏{‏الفاتحة‏{‏ مستوفى‏.‏

قوله تعالى‏{‏كان مشهودا‏{‏ روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏{‏وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا‏{‏ قال‏:‏ ‏(‏تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار‏)‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ ورواه علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح ‏)‏‏.‏ يقول أبو هريرة‏:‏ اقرؤوا إن شئتم ‏{‏وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا‏{‏‏.‏ ولهذا المعنى أيضا قال مالك والشافعي‏:‏ التغليس بالصبح أفضل‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ الأفضل الجمع بين التغليس والإسفار، فإن فاته ذلك فالإسفار أولى من التغليس‏.‏ وهذا مخالف لما كان عليه السلام يفعله من المداومة على التغليس، وأيضا فإن فيه تفويت شهود ملائكة الليل‏.‏ والله اعلم‏.‏

استدل بعض العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار‏)‏ على أن صلاة الصبح ليست من صلاة الليل ولا من صلاة النهار‏.‏

قلت‏:‏ وعلى هذا فلا تكون صلاة العصر أيضا لا من صلاة الليل ولا من صلاة النهار؛ فإن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم الفصيح عليه السلام فيما رواه أبو هريرة‏:‏ ‏(‏يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر‏)‏ الحديث‏.‏ ومعلوم أن صلاة العصر من النهار فكذلك تكون صلاة الفجر من الليل وليس كذلك، وإنما هي من النهار كالعصر بدليل الصيام والإيمان، وهذا واضح‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 79 ‏)‏

‏{‏ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن الليل فتهجد به‏{‏ ‏{‏من‏{‏ للتبعيض‏.‏ والفاء في قوله ‏{‏فتهجد‏{‏ ناسقة على مضمر، أي قم فتهجد‏.‏ ‏{‏به‏{‏ أي بالقرآن‏.‏ والتهجد من الهجود وهو من الأضداد‏.‏ يقال‏:‏ هجد نام، وهجد سهر؛ على الضد‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ألا زارت وأهل منى هجود وليت خيالها بمنى يعود

آخر‏:‏

ألا طرقتنا والرفاق هجود فباتت بعلات النوال تجود

يعني نياما‏.‏ وهجد وتهجد بمعنى‏.‏ وهجدته أي أنمته، وهجدته أي أيقظته‏.‏ والتهجد التيقظ بعد رقدة، فصار اسما للصلاة؛ لأنه ينتبه لها‏.‏ فالتهجد القيام إلى الصلاة من النوم‏.‏ قال معناه الأسود وعلقمة وعبدالرحمن بن الأسود وغيرهم‏.‏ وروى إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث الحجاج بن عمر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ أيحسب أحدكم إذا قام من الليل كله أنه قد تهجد‏!‏ إنما التهجد الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة‏.‏ كذلك كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ الهجود النوم‏.‏ يقال‏:‏ تهجد الرجل إذا سهر، وألقى الهجود وهو النوم‏.‏ ويسمى من قام إلى الصلاة متهجدا؛ لأن المتهجد هو الذي يلقى الهجود الذي هو النوم عن نفسه‏.‏ وهذا الفعل جار مجرى تحوب وتحرج وتأثم وتحنث وتقذر وتنجس؛ إذا ألقى ذلك عن نفسه‏.‏ ومثله قوله تعالى‏{‏فظلتم تفكهون‏{‏ معناه تندمون؛ أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم، وهي انبساط النفوس وسرورها‏.‏ يقال‏:‏ رجل فكه إذا كان كثير السرور والضحك‏.‏ والمعنى في الآية‏:‏ ووقتا من الليل اسهر به في صلاة وقراءة‏.‏

قوله تعالى‏{‏نافلة لك‏{‏ أي كرامة لك؛ قاله مقاتل‏.‏ واختلف العلماء في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر دون أمته؛ فقيل‏:‏ كانت صلاة الليل فريضة عليه لقوله‏{‏نافلة لك‏{‏ أي فريضة زائدة على الفريضة الموظفة على الأمة‏.‏

قلت‏:‏ وفي هذا التأويل بعد لوجهين‏:‏ أحدهما - تسمية الفرض بالنفل، وذلك مجاز لا حقيقة‏.‏ الثاني - قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خمس صلوات فرضهن الله على العباد‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي‏)‏ وهذا نص، فكيف يقال افترض عليه صلاة زائدة على خمس، هذا ما لا يصح؛ وإن كان قد روى عنه عليه السلام‏:‏‏(‏ثلاث على فريضة ولأمتي تطوع قيام الليل والوتر والسواك‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ كانت صلاة الليل تطوعا منه وكانت في الابتداء واجبة على الكل، ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة؛ كما قالت عائشة، على ما يأتي مبينا في سورة (2) إن شاء الله تعالى‏.‏ وعلى هذا يكون الأمر بالتنفل على جهة الندب ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مغفور له‏.‏ فهو إذا تطوع بما ليس بواجب عليه كان ذلك زيادة في الدرجات‏.‏ وغيره من الأمة تطوعهم كفارات وتدارك لخلل يقع في الفرض؛ قال معناه مجاهد وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ عطية؛ لأن العبد لا ينال من السعادة عطاء أفضل من التوفيق في العبادة‏.‏

قوله تعالى‏{‏عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا‏{‏  اختلف في المقام المحمود على أربعة أقوال‏:‏

‏[‏الأول‏]‏ وهو أصحها - الشفاعة للناس يوم القيامة؛ قاله حذيفة بن اليمان‏.‏ وفي صحيح البخاري عن ابن عمر قال‏:‏ إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا كل أمة تتبع نبيها تقول‏:‏ يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أنس قال حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون له اشفع لذريتك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم عليه السلام فإنه خليل الله فيأتون إبراهيم فيقول لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيؤتى موسى فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى عليه السلام فإنه روح الله وكلمته فيؤتى عيسى فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأوتي فأقول أنا لها‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ وروى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه في قوله‏{‏عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا‏{‏ سئل عنها قال‏:‏ ‏(‏هي الشفاعة‏)‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏

إذا ثبت أن المقام المحمود هو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء عليهم السلام، حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع هذه الشفاعة لأهل الموقف ليعجل حسابهم ويراحوا من هول موقفهم، وهي الخاصة به صلى الله عليه وسلم؛ ولأجل ذلك قال‏:‏ ‏(‏أنا سيد ولد آدم ولا فخر‏)‏‏.‏ قال النقاش‏:‏ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات‏:‏ العامة، وشفاعة في السبق إلى الجنة، وشفاعة في أهل الكبائر‏.‏ ابن عطية‏:‏ والمشهور أنهما شفاعتان فقط‏:‏ العامة، وشفاعة في إخراج المذنبين من النار‏.‏ وهذه الشفاعة الثانية لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء‏.‏ وقال القاضي أبو الفضل عياض‏:‏ شفاعات نبينا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة خمس شفاعات‏:‏ العامة‏.‏ والثانية في إدخال قوم الجنة دون حساب‏.‏ الثالثة في قوم من موحدي أمته استوجبوا النار بذنوبهم فيشفع فيها نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن شاء الله أن يشفع ويدخلون الجنة‏.‏ وهذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعة‏:‏ الخوارج والمعتزلة، فمنعتها على أصولهم الفاسدة، وهي الاستحقاق العقلي المبنى على التحسين والتقبيح‏.‏ الرابعة فيمن دخل النار من المذنبين فيخرجون بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والملائكة وإخوانهم المؤمنين‏.‏ الخامسة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وترفيعها، وهذه لا تنكرها المعتزلة ولا تنكر شفاعة الحشر الأول‏.‏

قال القاضي عياض‏:‏ وعرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ورغبتهم فيها، وعلى هذا لا يلتفت لقول من قال‏:‏ إنه يكره أن تسأل الله أن يرزقك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لا تكون إلا للمذنبين، فإنها قد تكون كما قدمنا لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات‏.‏ ثم كل عاقل معترف بالتقصير محتاج إلى العفو غير معتد بعمله مشفق أن يكون من الهالكين، ويلزم هذا القائل ألا يدعو بالمغفرة والرحمة؛ لأنها لأصحاب الذنوب أيضا، وهذا كله خلاف ما عرف من دعاء السلف والخلف‏.‏ روى البخاري عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة‏)‏‏.‏

القول الثاني‏:‏ أن المقام المحمود إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة‏.‏

قلت‏:‏ وهذا القول لا تنافر بينه وبين الأول؛ فإنه يكون بيده لواء الحمد ويشفع روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي آدم فمن سواه إلا تحت لوائي‏.‏‏.‏‏.‏‏{‏ الحديث‏.‏

القول الثالث‏:‏ ما حكاه الطبري عن فرقة، منها مجاهد، أنها قالت‏:‏ المقام المحمود هو أن يجلس الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم معه على كرسيه؛ وروت في ذلك حديثا‏.‏ وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول، وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى، وفيه بعد‏.‏ ولا ينكر مع ذلك أن يروى، والعلم يتأوله‏.‏ وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال‏:‏ من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم، ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا، من أنكر جوازه على تأويله‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ومجاهد، وإن كان أحد الأئمة، يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم‏:‏ أحدهما هذا والثاني في تأويل قوله تعالى‏{‏وجوه يومئذ ناضرة‏.‏ إلى ربها ناظرة‏}‏القيامة‏:‏ 22‏]‏ تنتظر الثواب؛ ليس من النظر‏.‏

قلت‏.‏ ذكر هذا في باب ابن شهاب في حديث التنزيل‏.‏ وروي عن مجاهد أيضا في هذه الآية قال‏:‏ يجلسه على العرش‏.‏ وهذا تأويل غير مستحيل؛ لأن الله تعالى كان قبل خلقه الأشياء كلها والعرش قائما بذاته، ثم خلق الأشياء من غير حاجة إليها، بل إظهارا لقدرته وحكمته، وليعرف وجوده وتوحيده وكمال قدرته وعلمه بكل أفعاله المحكمة، وخلق لنفسه عرشا استوى عليه كما شاء من غير أن صار له مماسا، أو كان العرش له مكانا‏.‏ قيل‏:‏ هو الآن على الصفة التي كان عليها من قبل أن يخلق المكان والزمان؛ فعلى هذا القول سواء في الجواز أقعد محمد على العرش أو على الأرض؛ لأن استواء الله تعالى على العرش ليس بمعنى الانتقال والزوال وتحويل الأحوال من القيام والقعود والحال التي تشغل العرش، بل هو مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه بلا كيف‏.‏ وليس إقعاده محمدا على العرش موجبا له صفة الربوبية أو مخرجا له عن صفة العبودية، بل هو رفع لمحله وتشريف له على خلقه‏.‏ وأما قوله في الإخبار‏:‏ ‏(‏معه‏)‏ فهو بمنزلة قوله‏{‏إن الذين عند ربك‏{‏، و‏{‏رب ابن لي عندك بيتا في الجنة‏}‏التحريم‏:‏ 11‏]‏‏.‏ ‏{‏وإن الله لمع المحسنين‏}‏العنكبوت‏:‏ 69‏]‏ ونحو ذلك‏.‏ كل ذلك عائد إلى الرتبة والمنزلة والحظوة والدرجة الرفيعة، لا إلى المكان‏.‏

الرابع‏:‏ إخراجه من النار بشفاعته من يخرج؛ قاله جابر بن عبدالله‏.‏ ذكره مسلم‏.‏ وقد ذكرناه في كتاب التذكرة والله الموفق‏.‏

اختلف العلماء في كون القيام بالليل سببا للمقام المحمود على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن البارئ تعالى يجعل ما شاء من فعله سببا لفضله من غير معرفه بوجه الحكمة فيه، أو بمعرفة وجه الحكمة‏.‏ الثاني‏:‏ أن قيام الليل فيه الخلوة مع البارئ والمناجاة دون الناس، فأعطى الخلوة به ومناجاته في قيامه وهو المقام المحمود‏.‏ ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم، فأجلهم فيه درجة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يعطي ما لا يعطي أحد ويشفع ما لا يشفع أحد‏.‏ و‏{‏عسى‏{‏ من الله عز وجل واجبة‏.‏ و‏{‏مقاما‏{‏ نصب على الظرف‏.‏ أي في مقام أو إلى مقام‏.‏ وذكر الطبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي‏)‏‏.‏ فالمقام الموضع الذي يقوم فيه الإنسان للأمور الجليلة كالمقامات ببن يدي الملوك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 80 ‏)‏

‏{‏وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا‏}‏

قيل‏:‏ المعنى أمتني إماتة صدق، وابعثني يوم القيامة مبعث صدق؛ ليتصل بقوله‏{‏عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا‏{‏‏.‏ كأنه لما وعده ذلك أمره أن يدعو لينجز له الوعد‏.‏ وقيل‏:‏ أدخلني في المأمور وأخرجني من المنهي‏.‏ وقيل‏:‏ علمه ما يدعو به في صلاته وغيرها من إخراجه من بين المشركين وإدخاله موضع الأمن؛ فأخرجه من مكة وصيره إلى المدينة‏.‏ وهذا المعنى رواه الترمذي عن ابن عباس قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة فنزلت ‏{‏وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا‏{‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هو خروجه من مكة ودخوله مكة يوم الفتح آمنا‏.‏ أبو سهل‏:‏ حين رجع من تبوك وقد قال المنافقون‏{‏ليخرجن الأعز منها الأذل‏}‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ يعني إدخال عز وإخراج نصر إلى مكة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أدخلني في الأمر الذي أكرمتني به من النبوة مدخل صدق وأخرجني منه مخرج صدق إذا أمتني؛ قال معناه مجاهد‏.‏ والمدخل والمخرج ‏(‏بضم الميم‏)‏ بمعنى الإدخال والإخراج؛ كقوله‏{‏أنزلني منزلا مباركا‏}‏المؤمنون‏:‏ 29‏]‏ أي إنزالا لا أرى فيه ما أكره‏.‏ وهي قراءة العامة‏.‏ وقرأ الحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم ‏{‏مدخل‏{‏ و‏{‏مخرج‏{‏‏.‏ بفتح الميمين بمعنى الدخول والخروج؛ فالأول رباعي وهذا ثلاثي‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أدخلني القبر مدخل صدق عند الموت وأخرجني مخرج صدق عند البعث‏.‏ وقيل‏:‏ أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق وأخرجني بالصدق؛ أي لا تجعلني ممن يدخل بوجه ويخرج بوجه؛ فإن ذا الوجهين لا يكون وجيها عندك‏.‏ وقيل‏:‏ الآية عامة في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال، وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة‏.‏ فهي دعاء، ومعناه‏:‏ رب اصلح لي وردي في كل الأمور وصدري‏.‏ وقوله‏{‏واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا‏{‏ قال الشعبي وعكرمة‏:‏ أي حجة ثابتة‏.‏ وذهب الحسن إلى أنه العز والنصر وإظهار دينه على الدين كله‏.‏ قال‏:‏ فوعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرها فيجعله له‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 81 ‏)‏

‏{‏وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا‏}‏

روى البخاري والترمذي عن ابن مسعود قال‏:‏ دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يطعنها بمخصرة في يده - وربما قال بعود - ويقول‏:‏ ‏(‏جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا‏.‏ جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد‏)‏ لفظ الترمذي‏.‏ وقال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وكذا في حديث مسلم ‏(‏نصبا‏)‏‏.‏ وفي رواية ‏(‏صنما‏)‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ إنما كانت بهذا العدد لأنهم كانوا يعظمون في يوم صنما ويخصون أعظمها بيومين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏فجعل يطعنها بعود في يده‏)‏ يقال إنها كانت مثبتة بالرصاص وأنه كلما طعن منها صنما في وجهه خر لقفاه، أو في قفاه خر لوجهه‏.‏ وكان يقول‏:‏ ‏(‏جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا‏)‏ حكاه أبو عمر والقاضي عياض‏.‏ وقال القشيري‏:‏ فما بقي منها صنم إلا خر لوجهه، ثم أمر بها فكسرت‏.‏

في هذه الآية دليل على كسر نصب المشركين وجميع الأوثان إذا غلب عليهم، ويخل بالمعنى كسر آلة الباطل كله، وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير التي لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله تعالى‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وفي معنى الأصنام الصور المتخذة من المدر والخشب وشبهها، وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا اللهو المنهي عنه‏.‏ ولا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص، إذا غيرت عما هي عليه وصارت نقرا أو قطعا فيجوز بيعها والشراء بها‏.‏ قال المهلب‏:‏ وما كسر من آلات الباطل وكان في حبسها بعد كسرها منفعة فصاحبها أولى بها مكسورة؛ إلا أن يرى الإمام حرقها بالنار على معنى التشديد والعقوبة في المال‏.‏ وقد تقدم حرق ابن عمر رضي الله عنه‏.‏ وقد هم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق دور من تخلف عن صلاة الجماعة‏.‏ وهذا أصل في العقوبة في المال مع قوله عليه السلام في الناقة التي لعنتها صاحبتها‏:‏ ‏(‏دعوها فإنها ملعونة‏)‏ فأزال ملكها عنها تأديبا لصاحبتها، وعقوبة لها فيما دعت عليه بما دعت به‏.‏ وقد أراق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبنا شيب بماء على صاحبه‏.‏

ما ذكرنا من تفسير الآية ينظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والله لينزلن عيسى بن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ خرجه الصحيحان‏.‏ ومن هذا الباب هتك النبي صلى الله عليه وسلم الستر الذي فيه الصور، وذلك أيضا دليل على إفساد الصور وآلات الملاهي كما ذكرنا‏.‏ وهذا كله يحظر المنع من اتخاذها ويوجب التغيير على صاحبها‏.‏ إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم‏:‏ أحيوا ما خلقتم؛ وحسبك‏!‏ وسيأتي هذا المعنى في ‏{‏النمل‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ قوله تعالى‏{‏وقل جاء الحق‏{‏ أي الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ القرآن؛ قال مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ الجهاد‏.‏ ‏{‏وزهق الباطل‏{‏ قيل الشرك‏.‏ وقيل الشيطان؛ قاله مجاهد‏.‏ والصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة، فيكون التفسير جاء الشرع بجميع ما انطوى فيه‏.‏ ‏{‏وزهق الباطل‏{‏‏:‏ بطل الباطل‏.‏ ومن هذا زهوق النفس وهو بطلانها‏.‏ يقال زهقت نفسه تزهق زهوقا، وأزهقتها‏.‏ ‏{‏إن الباطل كان زهوقا‏{‏ أي لا بقاء له والحق الذي يثبت‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 82 ‏)‏

‏{‏وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وننزل‏{‏ قرأ الجمهور بالنون‏.‏ وقرأ مجاهد ‏{‏وينزل‏{‏ بالياء خفيفة، ورواها المروزي عن حفص‏.‏ و‏{‏من‏{‏ لابتداء الغاية، ويصح أن تكون لبيان الجنس؛ كأنه قال‏:‏ وننزل ما فيه شفاء من القرآن‏.‏ وفي الخبر ‏(‏من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله‏)‏‏.‏ وأنكر بعض المتأولين أن تكون ‏{‏من‏{‏ للتبعيض؛ لأنه يحفظ من أن يلزمه أن بعضه لا شفاء فيه‏.‏ ابن عطية‏:‏ وليس يلزمه هذا، بل يصح أن تكون للتبعيض بحسب أن إنزاله إنما هو مبعض، فكأنه قال‏:‏ وننزل من القرآن شيئا شفاء؛ ما فيه كله شفاء‏.‏ وقيل‏:‏ شفاء في الفرائض والأحكام لما فيه من البيان‏.‏

اختلف العلماء في كونه شفاء على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة الريب، ولكشف غطاء القلب من مرض الجهل لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى‏.‏ الثاني‏:‏ شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقي والتعوذ ونحوه‏.‏ وقد روى الأئمة - واللفظ للدارقطني - عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية ثلاثين راكبا قال‏:‏ فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا؛ قال‏:‏ فلدغ سيد الحي، فأتونا فقالوا‏:‏ فيكم أحد يرقي من العقرب‏؟‏ في رواية ابن قتة‏:‏ إن الملك يموت‏.‏ قال‏:‏ قلت أنا نعم، ولكن لا أفعل حتى تعطونا‏.‏ فقالوا‏:‏ فإنا نعطيكم ثلاثين شاة‏.‏ قال‏:‏ فقرأت عليه ‏{‏الحمد لله رب العالمين‏{‏ سبع مرات فبرأ‏.‏ في رواية سليمان بن قتة عن أبي سعيد‏:‏ فأفاق وبرأ‏.‏ فبعث إلينا بالنزل وبعث إلينا بالشاء، فأكلنا الطعام أنا وأصحابي وأبوا أن يأكلوا من الغنم، حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر فقال‏:‏ ‏(‏وما يدريك أنها رقية‏)‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، شيء ألقي في روعي‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏كلوا وأطعمونا من الغنم‏)‏ خرجه في كتاب السنن‏.‏

وخرج في (3)‏ من حديث السري بن يحيى قال‏:‏ حدثني المعتمر بن سليمان عن ليث بن أبي سليم عن الحسن عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ينفع بإذن الله تعالى من البرص والجنون والجذام والبطن والسل والحمى والنفس أن تكتب بزعفران أو بمشق - يعني المغرة - أعوذ بكلمات الله التامة وأسمائه كلها عامة من شر السامة والغامة ومن شر العين اللامة ومن شر حاسد إذا حسد ومن أبي فروة وما ولد‏)‏‏.‏ كذا قال، ولم يقل من شر أبي قترة‏.‏ العين اللامة‏:‏ التي تصيب بسوء‏.‏ تقول‏:‏ أعيذه من كل هامة لامة‏.‏ وأما قوله‏:‏ أعيذه من حادثات اللمة فيقول‏:‏ هو الدهر‏.‏ ويقال الشدة‏.‏ والسامة‏:‏ الخاصة‏.‏ يقال‏:‏ كيف السامة والعامة‏.‏ والسامة السم‏.‏ ومن أبي فروة وما ولد‏.‏ وقال‏:‏ ثلاثة وثلاثون من الملائكة أتوا ربهم عز وجل فقالوا‏:‏ وصب بأرضنا‏.‏ فقال‏:‏ خذوا تربة من أرضكم فامسحوا نواصيكم‏.‏ أو قال‏:‏ نوصيكم رقية محمد صلى الله عليه وسلم لا أفلح من كتمها أبدا أو أخذ عليها صفدا‏.‏ ثم تكتب فاتحة الكتاب وأربع آيات من أول ‏{‏البقرة‏{‏، والآية التي فيها تصريف الرياح وآية الكرسي والآيتين اللتين بعدها، وخواتيم سورة ‏{‏البقرة‏{‏ من موضع ‏{‏لله ما في السماوات وما في الأرض‏}‏البقرة‏:‏ 284‏]‏ إلى آخرها، وعشرا من أول ‏{‏آل عمران‏{‏ وعشرا من آخرها، وأول آية من ‏{‏النساء‏{‏، وأول آية من ‏{‏المائدة‏{‏، وأول آية من ‏{‏الأنعام‏{‏، وأول آية من ‏{‏الأعراف‏{‏، والآية التي في ‏{‏الأعراف‏{‏ ‏{‏إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض‏}‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏ حتى تختم الآية؛ والآية التي في ‏{‏يونس‏{‏ من موضع ‏{‏قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين‏}‏يونس‏:‏ 81‏]‏‏.‏ والآية التي في ‏{‏طه‏]‏ ‏{‏وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى‏}‏طه‏:‏ 69‏]‏، وعشرا من أول ‏[‏الصافات‏]‏، و‏{‏قل هو الله أحد‏}‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏، والمعوذتين‏.‏ تكتب في إناء نظيف ثم تغسل ثلاث مرات بماء نظيف ثم يحثو منه الوجع ثلاث حثوات ثم يتوضأ منه كوضوئه للصلاة ويتوضأ قبل وضوئه للصلاة حتى يكون على طهر قبل أن يتوضأ به ثم يصب على رأسه وصدره وظهره ولا يستنجي به ثم يصلي ركعتين ثم يستشفي الله عز وجل؛ يفعل ذلك ثلاثة أيام، قدر ما يكتب في كل يوم كتابا‏.‏ في رواية‏:‏ ومن شر أبي قترة وما ولد‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏فامسحوا نواصيكم‏)‏ ولم يشك‏.‏ وروى البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها‏.‏ فسألت الزهري كيف كان ينفث‏؟‏ قال‏:‏ كان ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه‏.‏ وروى مالك عن ابن شهاب عن عروه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى قرأ على نفسه المعوذتين وتفل أو نفث‏.‏ قال أبو بكر بن الأنباري‏:‏ قال اللغويون تفسير ‏{‏نفث‏{‏ نفخ نفحا ليس معه ريق‏.‏ ومعنى ‏{‏تفل‏{‏ نفخ نفخا معه ريق‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فإن يبرأ فلم أنفث عليه وإن يفقد فحق له الفقود

وقال ذو الرمة‏:‏

ومن جوف ماء عرمض الحول فوقه متى يحس منه مائح القوم يتفل

أراد ينفخ بريق‏.‏ وسيأتي ما للعلماء في النفث في سورة الفلق إن شاء الله تعالى‏.‏

روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره الرقي إلا بالمعوذات‏.‏ قال الطبري‏:‏ وهذا حديث لا يجوز الاحتجاج بمثله في الدين؛ إذ في نقلته من لا يعرف‏.‏ ولو كان صحيحا لكان إما غلطا وإما منسوخا؛ لقوله عليه السلام في الفاتحة ‏(‏ما أدراك أنها رقية‏)‏‏.‏ وإذا جاز الرقي بالمعوذتين وهما سورتان من القرآن كانت الرقية بسائر القرآن مثلهما في الجواز إذ كله قرآن‏.‏ وروي عنه عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏شفاء أمته في ثلاث آية من كتاب الله أو لعقة من عسل أو شرطة من محجم‏)‏‏.‏ وقال رجاء الغنوي‏:‏ ومن لم يستشف بالقرآن فلا شفاء له‏.‏

واختلف العلماء في النشرة، وهي أن يكتب شيئا من أسماء الله أو من القرآن ثم يغسله بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقيه، فأجازها سعيد بن المسيب‏.‏ قيل له‏:‏ الرجل يؤخذ عن امرأته أيُحل عنه ويُنشر‏؟‏ قال‏:‏ لا بأس به، وما ينفع لم ينه عنه‏.‏ ولم ير مجاهد أن تكتب آيات من القران ثم تغسل ثم يسقاه صاحب الفزع‏.‏ وكانت عائشة تقرأ بالمعوذتين في إناء ثم تأمر أن يصب على المريض‏.‏ وقال المازري أبو عبدالله‏:‏ النشرة أمر معروف عند أهل التعزيم؛ وسميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبها أي تحل‏.‏ ومنعها الحسن وإبراهيم النخعي، قال النخعي‏:‏ أخاف أن يصيبه بلاء؛ وكأنه ذهب إلى أنه ما يجيء به القرآن فهو إلى أن يعقب بلاء أقرب منه إلى أن يفيد شفاء‏.‏ وقال الحسن‏:‏ سألت أنسا فقال‏:‏ ذكروا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها من الشيطان‏.‏ وقد روى أبو داود من حديث جابر بن عبدالله قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النشرة فقال‏:‏ ‏(‏من عمل الشيطان‏)‏‏.‏ قال ابن عبدالبر‏.‏ وهذه آثار لينة ولها وجوه محتملة، وقد قيل‏:‏ إن هذا محمول على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، وعى المداواة المعروفة‏.‏ والنشرة من جنس الطب فهي غسالة شيء له فضل، فهي كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ومن استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ قد ذكرنا النص في النشرة مرفوعا وأن ذلك لا يكون إلا من كتاب الله فليعتمد عليه‏.‏

قال مالك‏:‏ لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله عز وجل على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بتعليقها مدافعة العين‏.‏ وهذا معناه قبل أن ينزل به شيء من العين‏.‏ وعلى هذا القول جماعة أهل العلم، لا يجوز عندهم أن يعلق على الصحيح من البهائم أو بني آدم شيء من العلائق خوف نزول العين، وكل ما يعلق بعد نزول البلاء من أسماء الله عز وجل وكتابه رجاء الفرج والبرء من الله تعالى، فهو كالرقى المباح الذي وردت السنة بإباحته من العين وغيرها‏.‏ وقد روى عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا فزع أحدكم في نومه فليقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وسوء عقابه ومن شر الشياطين وأن يحضرون‏)‏‏.‏ وكان عبدالله يعلمها ولده من أدرك منهم، ومن لم يدرك كتبها وعلقها عليه‏.‏ فإن قيل‏:‏ فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من علق شيئا وكل إليه‏)‏‏.‏ ورأى ابن مسعود على أم ولده تميمة مربوطة فجبذها جبذا شديدا فقطعها وقال‏:‏ إن آل ابن مسعود لأغنياء عن الشرك، ثم قال‏:‏ إن التمائم والرقى والتولة من الشرك‏.‏ قيل‏:‏ ما التولة‏؟‏ قال‏:‏ ما تحببت به لزوجها‏.‏ وروي عن عقبة بن عامر الجهني قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من علق تميمة فلا أتم الله له ومن علق ودعة فلا ودع الله له قلبا‏)‏‏.‏ قال الخليل بن أحمد‏:‏ التميمة قلادة فيها عوذ، والودعة خرز‏.‏ وقال أبو عمر‏:‏ التميمة في كلام العرب القلادة، ومعناه عند أهل العلم ما علق في الأعناق من القلائد خشية العين أو غيرها أن تنزل أو لا تنزل قبل أن تنزل‏.‏ فلا أتم الله عليه صحته وعافيته، ومن تعلق ودعة - وهي مثلها في المعنى - فلا ودع الله له؛ أي فلا بارك الله له ما هو فيه من العافية‏.‏ والله اعلم‏.‏ وهذا كله تحذير مما كان أهل الجاهلية يصنعونه من تعليق التمائم والقلائد، ويظنون أنها تقيهم وتصرف عنهم البلاء، وذلك لا يصرفه إلا الله عز وجل، وهو المعافي والمبتلي، لا شريك له‏.‏ فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كانوا يصنعون من ذلك في جاهليتهم‏.‏ وعن عائشة قالت‏:‏ ما تعلق بعد نزول البلاء فليس من التمائم‏.‏ وقد كره بعض أهل العلم تعليق التميمة على كل حال قبل نزول البلاء وبعده‏.‏ والقول الأول أصح في الأثر والنظر إن شاء الله تعالى‏.‏ وما روي عن ابن مسعود يجوز أن يريد بما كره تعليقه غير القرآن أشياء مأخوذة عن العراقيين والكهان؛ إذ الاستشفاء بالقرآن معلقا وغير معلق لا يكون شركا، وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من علق شيئا وكل إليه‏)‏ فمن علق القرآن ينبغي أن يتولاه الله ولا يكله إلى غيره؛ لأنه تعالى هو المرغوب إليه والمتوكل عليه في الاستشفاء بالقرآن‏.‏ وسئل ابن المسيب عن التعويذ أيعلق‏؟‏ قال‏:‏ إذا كان في قصبة أو رقعة يحرز فلا بأس به‏.‏ وهذا على أن المكتوب قرآن‏.‏ وعن الضحاك أنه لم يكن يرى بأسا أن يعلق الرجل الشيء من كتاب الله إذا وضعه عند الجماع وعند الغائط‏.‏ ورخص أبو جعفر محمد بن علي في التعويذ يعلق على الصبيان‏.‏ وكان ابن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان‏.‏

قوله تعالى‏{‏ورحمة للمؤمنين‏{‏ تفريج الكروب وتطهير العيوب وتكفير الذنوب مع ما تفضل به تعالى من الثواب في تلاوته؛ كما روى الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف‏)‏‏.‏ قال هذا حديث حسن صحيح غريب‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏{‏ولا يزيد الظالمين إلا خسارا‏{‏ لتكذيبهم‏.‏ قال قتادة‏:‏ ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، ثم قرأ ‏{‏وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين‏{‏ الآية‏.‏ ونظير هذه الآية قوله‏{‏قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليه عمى‏}‏فصلت‏:‏ 44‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 83 ‏)‏

‏{‏وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوسا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه‏{‏ أي هؤلاء الذين يزيدهم القرآن خسارا صفتهم الإعراض عن تدبر آيات الله والكفران لنعمه‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في الوليد بن المغيرة‏.‏ ومعنى ‏{‏نأى بجانبه‏{‏ أي تكبر وتباعد‏.‏ وناء مقلوب منه؛ والمعنى‏:‏ بعد عن القيام بحقوق الله عز وجل؛ يقال‏:‏ نأى الشيء أي بعد‏.‏ ونأيته ونأيت عنه بمعنى، أي بعدت‏.‏ وأنأيته فانتأى؛ أي أبعدته فبعد‏.‏ وتناؤوا تباعدوا‏.‏ والمنتأى‏:‏ الموضع البعيد‏.‏ قال النابغة‏:‏

فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان ‏{‏ناء‏{‏ مثل باع، الهمزة مؤخرة، وهو على طريقة القلب من نأى؛ كما يقال‏:‏ راء ورأى‏.‏ وقيل‏:‏ هو من النوء وهو النهوض والقيام‏.‏ وقد يقال أيضا للوقوع والجلوس نوء؛ وهو من الأضداد‏.‏ وقرئ ‏{‏ونئى‏{‏ بفتح النون وكسر الهمزة‏.‏ والعامة ‏{‏نأي‏{‏ في وزن رأى‏.‏ ‏{‏وإذا مسه الشر كان يؤوسا‏{‏ أي إذا ناله شدة من فقر أو سقم أو بؤس يئس وقنط؛ لأنه لا يثق بفضل الله تعالى‏.‏