فصل: تفسير الآيات رقم (51- 53)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏51‏)‏ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ‏(‏52‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذينَ ءَامُنُوا لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيآءَ‏}‏ اختلف أهل التفسير فيمن نزلت فيه هذه الآية على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في عُبادة بن الصامت، وعبد بن أبي ابن سلول، حين تبرأ عُبادة من حِلْف اليهود وقال‏:‏ أتولى الله ورسوله حين ظهرت عداوتهم لله ولرسوله‏.‏ وقال عبد الله بن أبي‏:‏ لا أتبرأ من حلفهم وأخف الدوائر، وهذا قول الزهري‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت فى أبي بلابة بن عبد المنذر حين بَعَثَه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لما نقضوا العهد أطاعوا بالنزول على حكم سعد أشار إلى حلقه إليهم أنه الذبح، وهذا قول عكرمة‏.‏

والثالث، أنها نزلت فى رجلين من الأنصار خافا من وقعة أحد فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ أَلْحَقُ باليهود وأتهود معهم، وقال الآخر‏:‏ ألحق بالنصارى فأتنصر معهم ليكون ذلك لهما أماناً من إدالة الكفار على المسلمين، وهذا قول السدي‏.‏

‏{‏وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنْكُمْ فِإِنَّهُ مِنْهُم‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ موالاتهم في العهد فإنه منهم في مخالفة الأمر‏.‏

والثاني‏:‏ موالاتهم في الدين فإنه منهم في حكم الكفر، وهذا قول ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المرض الشك وهو قول مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ النفاق، وهو قول الكلبي‏.‏

وفيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ المعنيّ به عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي سلول، وهذا قول عطية بن سعد‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قوم من المنافقين‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ‏}‏ والدائرة ترجع عمن انتقلت إليه إلى من كانت له، سميت بذلك لأنها تدور إليه بعد زوالها عنه، ومنه قول الشاعر‏:‏

يَرُدُّ عَنَّا القَدَرَ الْمَقْدُورَا *** وَدَائرَاتِ الدَّهْرِ أَنْ تَدُورَا

‏{‏فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يريد فتح مكة، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ فتح بلاد المشركين على المسلمين‏.‏

والثالث‏:‏ أن القضاء الفصل، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏افْتَحْ بَينَنَا وَبَينَ قَومِنَا بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 89‏]‏، قاله قتادة‏.‏

‏{‏أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِنْدِهِ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ هو دون الفتح الأعظم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه موت من تقدم ذكره من المنافقين‏.‏

الثالث والرابع‏:‏ أنه الجزية، قاله السدي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 56‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏54‏)‏ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ‏(‏55‏)‏ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِه فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ فيهم ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم أبو بكر وأصحابه رضي الله عنهم الذين قاتلوا معه أهل الردة، قاله‏:‏ علي، والحسن، وابن جريج، والضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قوم أبي موسى الأشعري من أهل اليمن لأنه كان لهم في نصرة الإِسلام أثر حسن، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية إليه أَوْمَأَ إلى أبي موسى الأشعري بشيء كان فى يده وقال‏:‏ «هُمْ قَوْمُ هَذَا» قاله‏:‏ مجاهد وشريح‏.‏

‏{‏أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ يعني أهل رقة عليهم‏.‏

‏{‏أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ يعني أهل غلظة عليهم، يحكى ذلك عن علي، وابن عباس‏.‏

وهي في قراءة عبد الله بن مسعود‏:‏ ‏{‏أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ غُلُظٍ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وفي هذه الآية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت في عبد الله بن سلام ومن أسلم معه من أصحابه حين شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أظهره اليهود من عداوتهم لهم، قاله الكلبي‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت فى عُبادة بن الصامت حين تبرأ من حلف اليهود وقال‏:‏ أتولى الله ورسوله‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه علي، تصدق وهو راكع، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنها عامة في جميع المؤمنين، قاله الحسن، والسدي‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ رَاكِعُونَ‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم فعلوا ذلك في ركوعهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت فيهم وهم في ركوعهم‏.‏

والثالث‏:‏ أنه أراد بالركوع التنفل، وبإقامة الصلاة الفرض من قولهم فلان يركع إذا انتفل بالصلاة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 63‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏58‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏59‏)‏ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏60‏)‏ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏62‏)‏ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ‏}‏ يريد بالإِثم معصية الله تعالى‏.‏

‏{‏وَالْعُدْوَانِ‏}‏ أي ظلم الناس‏.‏

‏{‏وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏ أحدهما‏:‏ الرُّشا‏.‏

والثاني‏:‏ الربا‏.‏

‏{‏لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الْرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ‏}‏ أي لبئس صنيع الربانيين والأحبار إذ لم ينهوهم، قال ابن عباس والضحاك‏:‏ ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية، وكان ابن عباس يقرؤها‏:‏ ‏{‏لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ بمعنى هلا‏.‏

والربانيون‏:‏ هم علماء الإِنجيل، والإحبار‏:‏ هم علماء التوراة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 66‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏64‏)‏ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏65‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي مقبوضة عن العطاء على جهة البخل، قاله ابن عباس وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ مقبوضة عن عذابهم، قاله الحسن‏.‏

قال الكلبي ومقاتل‏:‏ القائل لذلك فنحاس وأصحابه من يهود بني قينقاع‏.‏

‏{‏غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قال ذلك إلزاماً لهم البخل على مطابقة الكلام، قاله الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أن معناه غلت أيديهم في جهنم على وجه الحقيقة، قاله الحسن‏.‏

‏{‏وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ يعني يعذبهم بالجزية‏.‏

ويحتمل أن يكون لَعْنُهم هو طردهم حين أجلوا من ديارهم‏.‏

‏{‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن اليدين ها هنا النعمة من قولهم لفلان عندي يد أي نعمة، ومعناه بل نعمتاه مبسوطتان، نعمة الدين، ونعمة الدنيا‏.‏

والثاني‏:‏ اليد ها هنا القوة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 45‏]‏ ومعناه بل قوتان بالثواب والعقاب‏.‏

والثالث‏:‏ أن اليد ها هنا الملك من قولهم فى مملوك الرجل هو‏:‏ ملك يمينه، ومعناه ملك الدنيا والآخرة‏.‏

والرابع‏:‏ أن التثنية للمبالغة فى صفة النعمة كما تقول العرب لبيك وسعديك، وكقول الأعشى‏:‏

يداك يدا مجد فكف مفيدة *** وكف إذا ما ضنَّ بالزاد تنفق

‏{‏يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يمعنى أنه يعطي من يشاء من عباده إذا علم أن في إعطائه مصلحة دينه‏.‏

والثاني‏:‏ ينعم على من يشاء بما يصلحة في دينه‏.‏

‏{‏ولَيزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً‏}‏ يعني حسدهم إياه وعنادهم له‏.‏

‏{‏وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه عنى اليهود بما حصل منهم من الخلاف‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أراد بين اليهود والنصارى في تباين قولهم في المسيح، قاله الحسن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أقاموها نصب أعينهم حتى إذا نظروا ما فيها من أحكام الله تعالى وأوامره لم يزلوا‏.‏

والثاني‏:‏ إن إقامتها العمل بما فيها من غير تحريف ولا تبديل‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ‏}‏ يعني القرآن لأنهم لما خوطبوا به صار منزلاً عليهم‏.‏

‏{‏لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أراد التوسعة عليهم كما يقال هو في الخير من قرنه إلى قدمه‏.‏

والثاني‏:‏ لأكلوا من فوقهم بإنزال المطر، ومن تحت أرجلهم بإنبات الثمر‏.‏ قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ مقتصدة على أمر الله تعالى، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ عادلة، قاله الكلبي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ‏}‏ أوجب الله تعالى بهذه الآية على رسوله تبليغ ما أنزل عليه من كتابه سواء كان حكماً، أو حداً، أو قصاصاً، فأما تبليغ غيره من الوحي فتخصيص وجوبه‏:‏ بما يتعلق بالأحكام دون غيرها‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ‏}‏ يعني إن كتمت آية مما أنزل عليك فما بلغت رسالته لأنه ‏[‏يكون‏]‏، غير ممتثل لجميع الأمر‏.‏

ويحتمل وجهين آخرين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن يكون معناه بلغ ما انزل إليك من ربك فيما وعدك من النصر، فإن لم تفعل فما بلغت حق رسالته فيما كلفك من الأمر، لأن استشعار النصر يبعث على امتثال الأمر‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون معناه بلغ ما أنزل إليك من ربك بلاغاً يوجب الانقياد إليه بالجهاد عليه، وإن لم تفعل ما يقود إليه من الجهاد عليه فما بلغت ما عليك من حق الرسالة إليك‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ يعني أن ينالوك بسوء من قتل أو غيره‏.‏ واختلف أهل التفسير في سبب نزول ذلك على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً في سفره واستظل بشجرة يقيل تحتها، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال‏:‏ من يمنعك مني‏؟‏ فقال‏:‏ الله، فرعدت يد الأعرابي وسقط سيفه وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مَنَ النَّاسِ‏}‏، قاله محمد بن كعب القرظي‏.‏

والثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهاب قريشاً، فأنزل الله تعالى هذه الآية، قاله ابن جريج‏.‏

وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُحْرَس حتى نزلت هذه الآية ‏{‏وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة وقال‏:‏ يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يعينهم على بلوغ غرضهم‏.‏

الثاني‏:‏ لا يهديهم إلى الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 71‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏68‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏69‏)‏ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ‏(‏70‏)‏ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما أن الميثاق آيات مبينة يقررها علم ذلك عندهم‏.‏

والثاني‏:‏ أن الميثاق أيمان أخذه أنبياء بني إسرائيل عليهم أن يعملوا بها وأمروا بتصيدق رسله‏.‏

‏{‏وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً‏}‏ يعني بعد أخذ الميثاق‏.‏

‏{‏كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ‏}‏ هوى النفس مقصور، وهواء الجو ممدود، وهما يشتركان في معنى الاسم لأن النفس تستمتع بهواها كما تستمتع بهواء الجو‏.‏

‏{‏فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ‏}‏ يعني أن الأنبياء إذا لم يحلوا لهم ما يَهْوُونَه في الدين كذبوا فريقاً في الدين، كذبوا فريقاً وقتلوا فريقاً، وهم قد كذبوا من قتلوه ولكن تقدير الكلام أنهم اقتصروا على تكذيب فريق وتجاوزوا إلى قتل فريق‏.‏

‏{‏وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ فيها ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنها العقوبة التي تنزل من السماء‏.‏

والثاني‏:‏ ما ابتلوا به من قتل الأنبياء وتكذيبهم‏.‏

والثالث‏:‏ ما بلوا به من جهة المتغلبين عليهم من الكفار‏.‏

‏{‏فَعَمُواْ وَصَمُّوا‏}‏ يعني، فعموا عن المرشد وصموا عن الموعظة حتى تسرعوا إلى قتل أنبيائهم حين حسبوا ألا تكون فتنة‏.‏

‏{‏ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏}‏ يعني أنهم تابوا بعد معاينة الفتنة فقبل الله توبتهم‏.‏

‏{‏ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ‏}‏ يعني أنهم عادوا بعد التوبة إلى ما كانوا عليه قبلها، والعود إنما كان من أكثرهم من جيمعهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 75‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏72‏)‏ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏74‏)‏ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ‏}‏ رد الله بذلك على اليهود والنصارى، فرده على اليهود فى تكذيبهم لنبوته ونسبتهم له إلى غير رِشْدة، ورده على النصارى في قولهم إنه ابن الله‏.‏

‏{‏وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ‏}‏ رد على اليهود في نسبتها إلى الفاحشة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏صِدِّيقَةٌ‏}‏ تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه مبالغة فى صدقها ونفي الفاحشة عنها‏.‏

والثاني‏:‏ أنها مصدقة بآيات ربها فهي بمنزلة ولدها، قاله الحسن‏.‏

‏{‏كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه كنى بذلك عن الغائط لحدوثه منه، وهذه صفة تُنْفَى عن الإِله‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أراد نفس الأكل لأن الحاجة إليه عجز والإِله لا يكون عاجزاً‏.‏

‏{‏انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآْيَاتِ‏}‏ يعني الحجج البراهين‏.‏

‏{‏ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني يصرفون، من قولهم أفكت الأرض إذا صرف عنها المطر‏.‏

والثاني‏:‏ يعني يقلبون، والمؤتفكات‏:‏ المنقلبات من الرياح وغيرها‏.‏

والثالث‏:‏ يكذبون، من الإفك، وهو الكذب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 86‏]‏

‏{‏قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏76‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏77‏)‏ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏78‏)‏ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏79‏)‏ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏80‏)‏ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏81‏)‏ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏83‏)‏ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ‏(‏84‏)‏ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏85‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ‏}‏ يعني عبدة الأوثان من العرب، تَمَالأَ الفريقان على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وَلَتَجِدَنَّ أَقرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامنواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارى‏}‏ ليس هذا على العموم، وإنما هو خاص، وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ عنى بذلك النجاشي وأصحابه لَمَّا أَسْلَمُوا، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قوم من النصارى كانوا على الحق متمسكين بشريعة عيسى عليه السلام، فَلَمَّا بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به، قاله قتادة‏.‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً‏}‏ واحد القسيسين قس، من قس وهم العباد‏.‏ وواحد الرهبان راهب، وهم الزهاد‏.‏

‏{‏وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ يعني عن الإِذعان للحق إذا لزم، وللحجة إذا قامت‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون بالحق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، قاله ابن عباس، وابن جريج‏.‏

والثاني‏:‏ يعني الذين يشهدون بالإِيمان، قاله الحسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 88‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏87‏)‏ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه اغتصاب الأموال المستطابة، فتصير بالغصب حراماً، وقد كان يمكنهم الوصول إليها بسبب مباح، قاله بعض البصريين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه تحريم ما أبيح لهم من الطيبات، وسبب ذلك أن جماعة من أًصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علي، وعثمان بن مظعون، وابن مسعود، وابن عمر، هموا بصيام الدهر، وقيام الليل، واعتزال النساء، وجَبِّ أنفسهم، وتحريم الطيبات من الطعام عليهم، فأنزل الله تعالى فيهم ‏{‏لاَ تَحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُم‏}‏‏.‏

‏{‏وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ لا تعتدوا بالغصب للأموال التي هي حرام عليكم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أراد بالاعتداء ما هَمَّ به عثمان بن مظعون من جبِّ نفسه، قاله السدي‏.‏

والثالث‏:‏ أنه ما كانت الجماعة هَمَّت به من تحريم النساء والطعام، واللباس، والنوم، قاله عكرمة‏.‏

والرابع‏:‏ هو تجاوز الحلال إلى الحرام، قاله الحسن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ‏}‏ قد ذكرنا اختلاف المفسرين والفقهاء في لغو اليمين‏.‏

‏{‏وَلَكِنَ يُؤَاخِذُوكُمْ بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ‏}‏ اختلف فى سبب نزولها على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت في عثمان بن مظعون، حين حرَّم على نفسه الطعام، والنساء، بيمين حَلَفَهَا، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت فى عبد الله بن رَوَاحة، وكان عنده ضيف فأَخَّرَتْ زوجته قِرَاهُ فَحَلَفَ لا يَأكل من الطعام شيئاً، وَحَلَفَتِ الزوجة لا تأكل منه إن لم يأكل، وحَلَفَ الضيف لا يأكل منه إن لم يأكلا، فأكل عبد الله وأكلا معه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال‏:‏ «أَحْسَنْتَ» ونزلت فيه هذه الآية، قاله ابن زيد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ‏}‏ وعقدها هو لفظ باللسان وقصد بالقلب، لأن ما لم يقصده فى أَيمَانِهِ، فهو لغو لا يؤاخذ به‏.‏

ثم في عقدها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون على فعل مستقبل، ولا يكون على خبر ماض، والفعل المستقبل نوعان‏:‏ نفي وإثبات، فالنفي أن يقول والله لا فعلت كذا، والإِثبات أن يقول‏:‏ والله لأَفْعَلَنَّ كذا‏.‏

وأما الخبر الماضي فهو أن يقول‏:‏ والله ما فعلت، وقد فعل، أو يقول‏:‏ والله لقد فعلت كذا، وما فعل، فينعقد يمينه بالفعل المستقبل في نوعي إثباته ونفيه‏.‏

وفي انعقادها بالخبر الماضي قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها لا تنعقد بالخبر الماضي، قاله أبو حنيفة وأهل العراق‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنها تنعقد على فعل مستقبل وخبر ماض يتعلق الحنث بهما، قاله الشافعي، واهل الحجاز‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مََساكِينَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها كفارة ما عقدوه من الأيمان، قالته عائشة، والحسن، والشعبي، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها كفارة الحنث فيما عقدة منها، وهذا يشبه أن يكون قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والضحاك، وإبراهيم‏.‏

والأصح من إطلاق هذين القولين أن يعتبر حال اليمين في عقدها وحلها، فإنها لا تخلو من ثلاثة أحوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن يكون عقدها حلها معصية كقوله‏:‏ والله لا قَتَلْتُ نفساً ولا شربت خمراً، فإذا حنث فقتل النفس، وشرب الخمر، كانت الكفار لتكفير مأثم الحنث‏.‏

والحال الثالثة‏:‏ أن يكون عقدها مباحاً، وحلها مباحاً كقوله‏:‏ والله لا لبست هذا الثوب، فالكفارة تتعلق بهما وهي بالحنث أخص‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ من أوسط أجناس الطعام، قاله ابن عمر، والحسن، وابن سيرين‏.‏

والثاني‏:‏ من أَوسطه في القدر، قاله علي، وعمر، وابن عباس، ومجاهد‏.‏

وقرأ سعيد بن جبير ‏{‏مِن وَسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلَيكُمْ‏}‏

ثم اختلفوا في القدر على خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه مُدٌّ واحد من سائر الأجناس، قاله ابن عمر، وزيد بن ثابت، وعطاء، وقتادة، وهو قول الشافعي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه نصف صاع من سائر الأجناس، قاله علي، وعمر، وهو مذهب أبي حنيفة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه غداء وعشاء، قاله علي في رواية الحارث عنه، وهو قول محمد بن كعب القرظي، والحسن البصري‏.‏

والرابع‏:‏ أنه ما جرت به عادة المكفر فى عياله، إن كان يشبعهم أشبع المساكين، وإن كان لا يشبعهم فعلى قدر ذلك، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير‏.‏

والخامس‏:‏ أنه أحد الأمرين من غداء أو عشاء، قاله بعض البصريين‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ كِسْوَتُهُمْ‏}‏ وفيها خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ كسوة ثوب واحد، قاله‏:‏ ابن عباس، ومجاهد، وطاووس، وعطاء، الشافعي‏.‏

والثاني‏:‏ كسوة ثوبين، قاله أبو موسى الأشعري، وابن المسيب، والحسن، وابن سيرين‏.‏

والثالث‏:‏ كسوة ثوب جامع كالملحفة والكساء، قاله إبراهيم‏.‏

والرابع‏:‏ كسوة إزار ورداء وقميص، قاله ابن عمر‏.‏

والخامس‏:‏ كسوة ما تجزئ فيه الصلاة، قاله بعض البصريين‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ يعني أو فك رقبة من أسر العبودية إلى حال الحرية والتحرير، والفك‏:‏ العتق، قال الفرزدق‏:‏

أبني غدانة إنني حررتكم *** فوهبتكم لعطية بن جعال

ويجزئ صغيرها، وكبيرها، وذكرها، وأنثاها، وفي استحقاق أَثمانها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه مستحق ولا تجزئ الكفارة، قاله الشافعي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه غير مستحق، قاله أبو حنيفة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ‏}‏ فجعل الله الصوم بدلاً من المال عند العجز عنه، وجعله مع اليسار مخيراً بين التكفير بالإِطعام، أو بالكسوة، أو بالعتق، وفيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الواجب منها أحدها لا يعينه عند الجمهور من الفقهاء‏.‏

والثاني‏:‏ أن جميعها واجب، وله الاقتصار على أحدها، قاله بعض المتكلمين، وشاذ من الفقهاء‏.‏

وهذا إذا حقق خلف في العبارة دون المعنى‏.‏

واختلف فيما إذا لم يجده صام على خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ إذا لم يجد قوته وقوت من يقوت صام، قاله الشافعي‏.‏

والثاني‏:‏ إذا لم يجد ثلاثة دراهم صام، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ إذا لم يجد درهمين، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ إذا لم يجد مائتي درهم صام، قاله أبو حنيفة‏.‏

والخامس‏:‏ إذا لم يجد فاضلاً عن رأس ماله الذي يتصرف فيه لمعاشه صام‏.‏ وفي تتابع صيامه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يلزمه، قاله مجاهد، وإبراهيم، وكان أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود يقرآن‏:‏ ‏{‏فصيام ثلاثة أيام متتابعات‏}‏

والثاني‏:‏ إن صامها متفرقة جاز، قاله مالك، والشافعي في أحد قوليه‏:‏

‏{‏ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ‏}‏ يعني وحنثتم، فإن قيل فلِمَ لَمْ يذكر مع الكفارة التوبة‏؟‏ قيل‏:‏ لأنه ليس كل يمين حنث فيها كانت مأثماً توجب التوبة، فإن اقترن بها المأثم لزمت التوبة بالندم، وترك العزم على المعاودة‏.‏

‏{‏وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني احفظوها أن تحلفوا‏.‏

والثاني‏:‏ احفظوها أن تحنثوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 93‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏90‏)‏ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ‏(‏91‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏92‏)‏ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أْيُّهَا الَّذيِنَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ اختلف في سبب نزولها على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ما روى ابن إسحاق عن أبي ميسرة قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فزلت الآية التي في البقرة‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ‏}‏ فَدُعِيَ عمر فقرئت عليه، فقال‏:‏ اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في سورة النساء‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُم سُكَارَى‏}‏ وكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حضرت الصلاة ينادي لا يقربن الصلاة سكران، فَدُعِيَ عمر فقرئت عليه، فقال‏:‏ اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت التي في المائدة ‏{‏إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ‏}‏ فقال عمر‏:‏ انتهينا، انتهينا‏.‏

والثاني‏:‏ أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص وقد لاحى رجلاً على شراب، فضربه الرجل بلحي جمل، ففزر قاله مصعب بن سعد‏.‏

والثالث‏:‏ أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار ثملوا من الشراب فعبث بعضهم ببعض، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، قاله ابن عباس‏.‏

فأما ‏{‏الْمَيْسِرُ‏}‏ فهو القمار‏.‏

وأما ‏{‏الأنصَابُ‏}‏ ففيها وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها الأصنام تعبد، قاله الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنها أحجار حول الكعبة يذبحون لها، قاله مقاتل‏.‏

وأما ‏{‏الأَزْلاَمُ‏}‏ فهي قداح من خشب يُسْتَقْسَمُ بها على ما قدمناه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رِجْسٌ‏}‏ يعني حراماً، وأصل الرجس المستقذر الممنوع منه، فعبر به عن الحرام لكونه ممنوعاً منه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ‏}‏ أي مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به لأنه لا يأمر إلا بالمعاصي، ولا ينهى إلا عن الطاعات‏.‏

فلما حُرِّمَتِ الخمر قال المسلمون‏:‏ يا رسول الله كيف بإخواننا الذين شربوها وماتوا قبل تحريمها، فَأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعِمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ‏}‏، يعني من الخمر قبل التحريم، ‏{‏إِذَا مَا اتَّقَواْ‏}‏ يعني فى أداء الفرائض ‏{‏وَّءَامَنُواْ‏}‏ يعني بالله ورسوله ‏{‏وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ‏}‏ يعني البر والمعروف، ‏{‏ثُمَّ اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُّم اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ‏}‏ يعني بعمل النوافل، فالتقوى الأولى عمل الفرائض، والتقوى الثانية عمل النوفل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 95‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏94‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏95‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلَوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ‏}‏ في قوله ليبلونكم تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه لَيُكَلِّفَنَّكُمْ‏.‏

الثاني‏:‏ لَيَخْتَبِرَنَّكُم، قاله قطرب، والكلبي‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏مِّنَ الصَّيْدِ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن ‏{‏مِّنَ‏}‏ للتبعيض في هذا الموضع لأن الحكم متعلق بصيد البَرِّ دون البحر، وبصيد الحرم والإِحرام دون الحل والإِحلال‏.‏

والثاني‏:‏ أن ‏{‏مِّنَ‏}‏ في هذا الموضع داخلة لبيان الجنس نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏ قاله الزجاج‏.‏

‏{‏تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما تناله أيدينا‏:‏ البيض، ورماحنا‏:‏ الصيد، قال مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ ما تناله أيدينا‏:‏ الصغار، ورماحنا‏:‏ الكبار، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن معنى ليعلم الله‏:‏ ليرى، فعبر عن الرؤية بالعلم لأنها تؤول إليه، قاله الكلبي‏.‏

والثاني‏:‏ ليعلم أولياؤه من يخافه بالغيب‏.‏

والثالث‏:‏ لتعلموا أن الله يعلم من يخافه بالغيب‏.‏

والرابع‏:‏ معناه لتخافوا الله بالغيب، والعلم مجاز، وقوله‏:‏ ‏{‏بِالْغَيْبِ‏}‏ يعني بالسر كما تخافونه في العلانية‏.‏

‏{‏فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ‏}‏ يعني فمن اعتدى في الصيد بعد ورود النهي‏.‏

‏{‏فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ أي مؤلم، قال الكلبي‏:‏ نزلت يوم الحديبية وقد غشي الصيد الناس وهم محرمون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني الإِحرام بحج أو عمرة، قاله الأكثرون‏.‏

والثاني‏:‏ يعني بالحرم الداخل إلى الحرم، يقال أحرم إذا دخل في الحرم، وأَتْهَمَ إذا دخل تهامة، وأَنْجَدَ إذا دخل نجد، ويقال أحرم لمن دخل في الأشهر الحرم‏.‏ قاله بعض البصريين‏.‏

والثالث‏:‏ أن اسم المحرم يتناول الأمرين معاً على وجه الحقيقة دون المجاز من أحرم بحج أو عمرة أو دخل الحرم، وحكم قتل الصيد فيهما على سواء بظاهر الآية، قاله علي بن أبي هريرة‏.‏

‏{‏وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ متعمداً لقتله، ناسياً لإحرامه، قاله مجاهد، وإبراهيم، وابن جريج‏.‏

والثاني‏:‏ متعمداً لقتله ذاكراً لإِحرامه، قاله ابن عباس، وعطاء، والزهري‏.‏

واختلفوا في الخاطئ في قتله الناسي لإِحرامه على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ لا جزاء عليه، قاله داود‏.‏

الثاني‏:‏ عليه الجزاء، قاله مالك، والشافعي، وأبو حنيفة‏.‏

‏{‏فَجَزآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ‏}‏ يعني أن جزاء القتل فى الحرم أو الإِحرام مثل ما قتل من النعم‏.‏

وفي مثله قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن قيمة الصيد مصروفة في مثله من النعم، قاله أبو حنيفة‏.‏

والثاني‏:‏ أن عليه مثل الصيد من النعم في الصورة والشبه قاله الشافعي‏.‏

‏{‏يَحْكُمْ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ‏}‏ يعني بالمثل من النعم، فلا يستقر المثل فيه إلا بحكم عدلين فقيهين، ويجوز أن يكون القاتل أحدهما‏.‏

‏{‏هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ يريد أن مثل الصيد من النعم يلزم إيصاله إلى الكعبة، وعنى بالكعبة جميع الحرم، لأنها في الحرم‏.‏

واختلفوا هل يجوز أن يهدي في الحرم ما لا يجوز في الأضحية من صغار الغنم على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يجوز قاله‏:‏ أبو حنيفة‏.‏

الثاني‏:‏ يجوز، قاله الشافعي‏.‏

‏{‏أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامٌ مَسَاكِينَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه يُقَوِّم المثل من النعم ويشتري بالقيمة طعاماً، قاله عطاء، والشافعي‏.‏

الثاني‏:‏ يقوِّم الصيد ويشتري بالغنيمة طعاماً، قاله قتادة، وأبو حنيفة‏.‏

‏{‏أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً‏}‏ يعني عدل الطعام صياماً، وفيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يصوم عن كل مد يوماً، قاله عطاء، والشافعي‏.‏

والثاني‏:‏ يصوم عن كل مد ثلاثة أيام، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ يصوم عن كل صاع يومين، قاله ابن عباس‏.‏

واختلفوا في التكفير بهذه الثلاثة، هل هو على الترتيب أو التخيير على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ على الترتيب، إن لم يجد المثل فالإطعام، فإن لم يجد الطعام فالصيام، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعامر، وإبراهيم، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه على التخيير في التكفير بأي الثلاثة شاء، قاله عطاء، وهو أحد قولي ابن عباس، ومذهب الشافعي‏.‏

‏{‏لِّيذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ‏}‏ يعني في التزام الكفارة، ووجوب التوبة‏.‏

‏{‏عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ‏}‏ يعني قبل نزول التحريم‏.‏

‏{‏وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني ومن عاد بعد التحريم، فينتقم الله منه بالجزاء عاجلاً، وعقوبة المعصية آجلاً‏.‏

والثاني‏:‏ ومن عاد بعد التحريم في قتل الصيد ثانية بعد أوله، فينتقم الله منه‏.‏

وعلى هذا التأويل قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ فينتقم الله منه بالعقوبة في الآخرة دون الجزاء، قاله ابن عباس، وداود‏.‏

والثاني‏:‏ بالجزاء مع العقوبة، قاله الشافعي، والجمهور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 99‏]‏

‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏96‏)‏ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏97‏)‏ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏98‏)‏ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحرِ‏}‏ يعني صيد الماء سواء كان من بحر أو نهر أو عين أو بئر فصيده حلال للمحرم والحلال في الحرم والحل‏.‏

‏{‏وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ‏}‏ في طعامه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ طافِيهِ وما لَفَظَه البحر، قاله أبو بكر، وعمر، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ مملوحة، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ‏}‏ يعني منفعة للمسافر والمقيم‏.‏ وحكى الكلبي أن هذه الآية نزلت في بني مدلج، وكانوا ينزلون بأسياف البحر، سألوا عما نضب عنه الماء من السمك، فنزلت هذه الآية فيهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَعلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ‏}‏ في تسميتها كعبة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ سميت بذلك لتربيعها، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ سميت بذلك لعلوها ونتوئها من قولهم‏:‏ قد كعب ثدي المرأة إذا علا ونتأ، وهو قول الجمهور‏.‏

وسميت الكعبة حراماً لتحريم الله تعالى لها أن يصاد صيدها، أو يختلى خلاها، أو يعضد شجرها‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قِيَاماً لِّلنَّاسِ‏}‏ ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني صلاحاً لهم، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ تقوم به أبدانهم لأمنهم به في التصرف لمعايشهم‏.‏

والثالث‏:‏ قياماً في مناسكهم ومتعبداتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 102‏]‏

‏{‏قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏100‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ‏}‏ فيه ثلاث تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني الحلال والحرام، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ المؤمن والكافر، قاله السدي‏.‏

والثالث‏:‏ الرديء والجيد‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخبِيثِ‏}‏ يعني أن الحلال والجيد مع قلتهما خير وأنفع من الحرام والرديء مع كثرتهما‏.‏

قال مقاتل‏:‏ نزلت هذه الآية في حُجَّاجِ اليمامة وقد هَمَّ المسلمون بأحدهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}‏ اختلف أهل التأويل في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ ما روى أنس بن مالك قال‏:‏ سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ألحفوه بالمسألة، فصعد المنبر ذات يوم فقال‏:‏ «لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُ لَكُمْ» قال أنس‏:‏ فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فأرى كل الناس لاق ثوبه فى رأسه يبكي، فسأل رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه فقال‏:‏ يا رسول الله مَنْ أبي‏؟‏ فقال‏:‏ «أَبُوكَ حُذَافَةُ» فأنشأ عمر فقال‏:‏ رضينا بالله رباً وبالإِسلام ديناً وبمحمد عليه السلام رسولاً عائذاً بالله من سوء الفتن، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ ما روى الحسن بن واقد عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال‏:‏ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «أَيُّهَا النَّاسُ كَتبَ اللَّهُ عَلَيكُمُ الحَجَّ فَحِجُّوا» فقام محصن الأسدي وقال‏:‏ في كل عام يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ «أَمَا إِنِّي لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ ثُمَّ تَرَكْتُم لَضَلِلْتُمْ، اسْكَتُوا عَنِّي مَا سَكَتُّ عَنْكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبَْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ واخْتِلاَفِهِم عَلَى أَنْبِيائِهِمْ» فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

والثالث‏:‏ أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرءَانُ تُبْدَ لَكُمْ‏}‏ جعل نزول القرآن عند السؤال موجباً بتعجيل الجواب‏.‏

‏{‏عَفَا اللَّهُ عَنْهَا‏}‏ فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ عن المسألة‏.‏

والثاني‏:‏ عن الأشياء التي سألوا عنها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ قوم عيسى سألوه المائدة، ثم كفروا بها، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قوم صالح سألوا الناقة، ثم عقروها وكفروا به‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحوِّل لهم الصفا ذهباً، قاله السدي‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم القوم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ أبي‏؟‏ ونحوه، فلما أخبرهم به أنكروه وكفروا به، قاله بعض المتأخرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 104‏]‏

‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏103‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ‏}‏ يعني ما بحر الله من بحيرة، ولا سيب سائبة، ولا وصل وصيلة، ولا حمى حامياً‏.‏

روى أبو صالح عن أبي هريرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم ابن جون‏:‏ «يَا أَكْثَمُ رَأَيْتُ عَمْرو بْنَ لُحَيِّ بْنَ قَمْعَةَ بْنَ خَنْدَف يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ، فَمَا رَأَيْتُ رَجُلاً أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ، وَلاَ بِهِ مِنْكَ» فقال أكثم‏:‏ أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله، فقال‏:‏ «لاَ إِنَّكَ مُؤْمِنٌ، وَهُوَ كَافِرٌ، إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ، وَبَحَرَ البَحِيرَةَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وحَمَى الحَامِي

»‏.‏ ومعنى قوله يجر قصبه في النار، يعني أمعاءه، والبحيرة‏:‏ الفصلة من قول القائل، بحرت أذن الناقة إذا شقها، ومنه قول الأبيرد‏:‏

وأمسى فيكم عمران يمشي ***‏.‏‏.‏‏.‏ كأنه جمل بحير

وقد روى أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن أبيه قال‏:‏ دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أَرَأَيْتَ إِبلَكَ تَكُونَ مُسَلَّمَةً آذَانُهَا فَتَأْخُذَ المُوسَى فَتَجْدَعَهَا تَقُولُ هَذِهِ بَحِيْرَةٌ، وَتَشُقُّونَ آذَانَهَا تَقُولُونَ هَذِهِ بَحِيْرَةٌ

» قال‏:‏ فإن ساعِدَ الله أشدُّ، وموسى الله أحد، كل مالك لك حلال لا يحرم عليك منه شيء‏.‏

وفي البحيرة ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن البحيرة الناقة إذا ولدت خمسة أبطن، فإن كان الخامس ذكراً أكلته الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى بحروا أذنها أي شقوها، وتركت، فلا يشرب لها لبن، ولا تنحر، ولا تركب، وإن كان ميتة اشترك فيه الرجال والنساء، قاله عكرمة‏.‏

والقول الثاني‏:‏ البحيرة الناقة التي تنجب خمسة أبطن، فكان آخرها ميتاً ذكراً شقوا أذن الناقة وخلوا عنها، فلا تُحْلَب وَلاَ تُرْكَب تحرجاً، قاله أبو عبيدة‏.‏

والقول الثالث‏:‏ أن البحيرة بنت السائبة، قاله أبو إسحاق، وأما السائبة، فإنها المسيبة المخلاة وكانت العرب تفعل ذلك ببعض مواشيها فتحرم الانتفاع بها على أنفسها تقرباً إلى الله تعالى، قال الشاعر‏:‏

عقرتم ناقة كانت لربي *** وسائبة فقوموا للعقاب

وكذا كان بعض أهل الإِسلام يعتق عبده سائبة، ولا ينتفع به ولا بولائه، وكان أبو العالية سائبة فلما أُتِي مولاه بميراثه فقال‏:‏ هو سائبة وأبى أن يأخذه‏.‏

وأخرجت المسيبة بلفظ السائبة، كما قيل في عيشة راضية يعني مرضية، وفي السائبة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهن ذكر سُيِّبَتْ فلم يُرْكَب ظهرها ولم يُجَزّ وبرها ولم يَشْرَب لبنَها إلا ضيفٌ، وما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أُذُنُها، وسميت بحيرة، وخُلِّيَتْ مع أمها، قاله محمد بن إسحاق‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنهم كانوا ينذرون السائبة عند المرض فيسيب الرجل بعيره ولا يركب، ولا يجلى عن ماء كالبحيرة، قاله أبو عبيدة‏.‏

أما الوصيلة فأجمعوا على أنها من الغنم، وفيها ثلاثة أقاويل‏:‏ أحدها‏:‏ أنها الشاة إذا ولدت سبعة أبطن نُظِرَ في البطن السابع فإن كان جَدْياً ذبحوه، فأكل الرجال دون النساء، فقالوا هذا حلال لذكورنا، حرام على أزواجنا ونسائنا، وإن كان عناقاً سرحت في غنم الحي، وإن كان جَدْياً وعناقاً، قالوا وصلت أخاها فسميت وصيلة، قاله عكرمة‏.‏

القول الثاني‏:‏ أنها الشاة إذا أتأمت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر، جعلت وصيلة، فقالوا قد وصلت، وكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الإِناث قاله محمد بن إسحاق‏.‏

والقول الثالث‏:‏ أن العرب كانت إذا ولدت الشاة لهم ذكراً قالوا هذا لآلهتنا فيتقربون به، وإذا ولدت أنثى قالوا هذه لنا، وإذا ولدت ذكراً وأنثى قالوا‏:‏ وصلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها، قاله أبو عبيدة‏.‏

وأما الحام ففيه قول واحد أجمعوا عليه وهو البعير ينتج من صلبه عشرة أبطن، فيقال حمى ظهره ويخلَّى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 108‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ ‏(‏106‏)‏ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏107‏)‏ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ‏}‏ ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الشهادة بالحقوق عند الحكام‏.‏

والثاني‏:‏ أنها شهادة الحضور للوصية‏.‏

والثالث‏:‏ أنها أيمان، ومعنى ذلك أيمان بينكم، فعبر عن اليمين بالشهادة كما قال في أيمان المتلاعنين‏:‏ ‏{‏فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتِ بِاللَّهِ‏}‏‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مَِّنكُمْ‏}‏ تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني من المسلمين، قاله ابن عباس، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ من حي المُوصِي، قاله الحسن، وسعيد بن المسيب، وعكرمة وفيهما قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهما شاهدان يشهدان على وصية المُوصِي‏.‏

والثاني‏:‏ أنهما وصيان‏.‏

‏{‏أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ من غير دينكم من أهل الكتاب، قاله ابن عباس، وأبو موسى، وسعيد بن جبير، وإبراهيم، وشريح‏.‏

والثاني‏:‏ من غير قبيلتكم وعشيرتكم، قاله الحسن، وعكرمة، والزهري، وعبيدة‏.‏

وفي ‏{‏أَوْ‏}‏ في هذا الموضع قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها للتخيير في قبول اثنين منا أو آخرين من غيرنا‏.‏

والثاني‏:‏ أنها لغير التخيير، وإن معنى الكلام، أو آخران من غيركم إن لم تجدوا، منكم، قاله ابن عباس وشريح، وسعيد بن جبير والسدي‏.‏

‏{‏إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ‏}‏ يعني سافرتم‏.‏

‏{‏فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ‏}‏ وفي الكلام محذوف تقديره‏:‏ فأصابتكم مصيبة الموت، وقد أسندتم الوصية إليهما‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ‏}‏ يعني تستوقفونهما للأيمان وهذا خطاب للورثة، وفي هذه الصلاة ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ بعد صلاة العصر، قاله شريح، والشعبي، وسعيد بن جبير وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ من بعد صلاة الظهر، والعصر، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ من بعد صلاة أهل دينهما ومِلَّتِهِمَا من أهل الذمة، قاله ابن عباس، والسدي‏.‏

‏{‏فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ أَرْتَبْتُمْ لاَ تَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً‏}‏ معناه فيحلفان بالله إن ارتبتم بهما، وفيهما قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهما الوصيان إن ارتبتم بهما في الخيانة أَحْلَفَهُمَا الورثة‏.‏

والثاني‏:‏ أنهما الشاهدان إن ارتبتم بهما، ولم تُعْرَفْ عدالتهما، ولا جرحهما، أحلفهما الحاكم ليزول عنه الارتياب بهما، وهذا إنما جوزه قائل هذا القول في السفر دون الحضر‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً‏}‏ تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا نأخذ عليه رشوة، قاله ابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ لا نعتاض عليه بحق‏.‏

‏{‏وَلَو كَانَ ذَا قُرْبَى‏}‏ أي لا نميل مع ذي القربى في قول الزور، والشهادة بغير حق‏.‏

‏{‏وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ‏}‏ يعني عندنا فيما أوجبه علينا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً‏}‏ يعني فإن ظهر على أنهما كَذَبَا وخَانَا، فعبر عن الكذب بالخيانة والإِثم لحدوثه عنهما‏.‏

وفي الذين‏:‏ ‏{‏عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اْسْتَحَقَّا إِثْماً‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهما الشاهدان، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنهما الوصيان، قاله سعيد بن جبير‏.‏

‏{‏فَئَاخَرَان‏}‏ يعني من الورثة‏.‏

‏{‏يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا‏}‏ في اليمين، حين ظهرت الخيانة‏.‏

‏{‏مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهُمُ الأَوْلَيَانِ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ الأوليان بالميت من الورثة، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثاني‏:‏ الأوليان بالشهادة من المسلمين، قاله ابن عباس وشريح‏.‏

وكان سبب نزول هذه الآية ما روى عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال‏:‏ خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدّاء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته، فقدوا جاماً من فضة مُخَوَّصاً بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وجد الجام بمكة، وقالوا اشتريناه من تميم الداري، وعدي بن بدّاء، فقام رجلان من أولياء السهمي فَحَلَفَا‏:‏ ‏{‏لَشَهَادَتُنا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا‏}‏ وأن الجام لصاحبهم قال‏:‏ وفيهم نزل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُِوا شَهَادَةُ بَينِكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏واتَّقُواْ اللَّهَ وَاسْمَعُواْ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏‏.‏

ثم اختلفوا في حكم هاتي الآيتين هل هو منسوخ أو ثابت‏.‏

فقال ابن عباس حكمهما منسوخ‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ لم يكن الإسلام إلا بالمدينة فجازت شهادة أهل الكتاب وهو اليوم طبق الأرض‏.‏

وقال الحسن‏:‏ حكمهما ثابت غير منسوخ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏109‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنآ‏}‏‏.‏

في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ عِلْمَ لَنآ‏}‏ خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ لم يكن ذلك إنكاراً لِمَا علموه ولكن ذهلوا عن الجواب من هول ذلك اليوم ثم أجابوا بعدما ثابت عقولهم، قاله الحسن، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ لا علم لنا إلا ما علمتنا، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا، قاله ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ لا علم لنا بما أجاب به أممنا، لأن ذلك هو الذي يقع عليه الجزاء، وهو مروي عن الحسن أيضاً‏.‏

والخامس‏:‏ أن معنى قوله‏:‏ ‏{‏مَاذَا أُجِبْتُمْ‏}‏ أي ماذا عملوا بعدكم ‏{‏قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوْبِ‏}‏ قاله ابن جريج‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏عَلاَّمُ الْغُيُوْبِ‏}‏ تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه مبالغة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لكثير المعلومات‏.‏

فإن قيل‏:‏ فلم سألهم عما هو أعلم به منهم‏؟‏ فعليه جوابان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه إنما سألهم ليعلمهم ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أراد أن يفضحهم بذلك على الأشهاد ليكون ذلك نوعاً من العقوبة لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 111‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏110‏)‏ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وإنما ذكَّر الله عيسى عليه السلام نعمته عليه على والدته، وإن كان لهما ذاكراً لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ ليتلو على الأمم ما خصه به من الكرامة ومَيّزَه به من علو المنزلة‏.‏

والثاني‏:‏ ليؤكد به حجته ويرد به جاحده‏.‏

ثم أخذ تعالى في تعديد نعمه فقال‏:‏ ‏{‏إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏ يعني قويتك، مأخوذ من الأيد وهو القوة، وروح القدس جبريل، والقدس هو الله تعالى تقدست أسماؤه‏.‏

وتأييده له من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ تقويته على أمر دينه‏.‏

والثاني‏:‏ معونته على دفع ظلم اليهود والكافرين له‏.‏

‏{‏تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً‏}‏ أما كلامه لهم في المهد إنما اختص بتعريفهم حال نبوته، ‏{‏قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيَّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكَاً أَيَنَمَا كُنتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 30-31‏]‏‏.‏

وكلامه لهم كهلاً دعاؤهم إلى ما أمر الله به من الصلاة والزكاة، وذلك حين صار ابن ثلاثين سنة وإن كان مبعوثاً حين ولد، فمكث فيهم ثلاثين سنة ثم رفعه الله، ولم يبعث الله نبياً حين ولد غيره ولذلك خصه الله بالكلام في المهد صبياً‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ عَلَّمْتُك الكِتَابَ‏}‏ وفيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ يريد الخط‏.‏

والثاني‏:‏ يريد الكتب فعبر عنها بالكتاب إرادة للجنس‏.‏

ثم فصل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْحِكْمَةَ‏}‏ وفيها تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها العلم بما في تلك الكتب‏.‏

والثاني‏:‏ أنها جميع ما يحتاج إليه في دينه ودنياه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ‏}‏ يريد تلاوتهما وتأويلهما‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونَ طَيْرَاً بِإِذنِي‏}‏ يعني بقوله‏:‏ ‏{‏تَخْلُقُ‏}‏ أي تفعل وتصور من الطين مثل صورة الطير، لأن الخلق فعل لكن على سبيل القصد والتقدير من غير سهو ولا مجازفة ولذلك وُصِفَتْ أفعال الله تعالى بأنها مخلوقة لأنها لا تكون إلا عن قصد وتقدير ووصفت بعض أفعال العباد بأنها مخلوقة إذا كانت مقدرة مقصودة ولم توصف جميعها بهذه الصفة لجواز كون بعضها سهواً أو مجازفة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَنفُخُ فِيهَا‏}‏ يعني الروح، والروح جسم‏.‏

وفي المُتَوَلِّي لنفخها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه المسيح ينفخ الروح في الجسم الذي صوره من الطين كصورة الطير‏.‏

والثاني‏:‏ أنه جبريل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي‏}‏ يعني أن الله تعالى يقلبها بعد نفخ الروح فيها لحماً ودماً، ويخلق فيها الحياة، فتصير طيراً بإذن الله تعالى وأمره، لا بفعل المسيح‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتُبْرِئ الأكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي‏}‏ أي تدعوني أن أبرئ الأكمه والأبرص، فأجيب دعاءك وأبرئهما، وهو فعل الله تعالى، وإنما نَسَبَهُ إلى المسيح مجازاً لأن فعله لأجل دعائه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي‏}‏ يعني واذكر نعمتي عليك، إذ تدعوني أن أحيي الموتى، فأجيب دعاءك، حتى تخرجهم من القبور أحياء، ونسب إليه ذلك توسعاً أيضاً لأجل دعائه، ويجوز أن ينسب إخراجهم إليه حقيقة، لأن إخراجهم من قبورهم بعد إحياء الله لهم يجوز أن يكون من فعل المسيح‏.‏

قال الكلبي‏:‏ والذين أحياهم من الموتى رجلان وامرأة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّيِنَ أَنْ ءَامِنُوا بِي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ في وحيه إلى الحواريين وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه أَلْهَمْتُهُم أن يؤمنوا بي، ويصدقوا أنك رسولي، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 68‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ يعني ألقيت إليهم بالآيات التي أريتهم أن يؤمنوا بي وبك‏.‏ وفي التذكير بهذه النعمة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها نعمة على الحواريين أن آمنوا، فذكر الله تعالى به عيسى لأنهم أنصاره‏.‏

الثاني‏:‏ أنها نعمة على عيسى، لأنه جعل له أنصاراً من الحواريين قد آمنوا به‏.‏

والحواريون‏:‏ هم خواص عيسى عليه السلام الذين استخلفهم من جملة الناس‏.‏

‏{‏قَالُوا ءَامَنَّا‏}‏ يعني بالله تعالى ربك‏.‏

‏{‏وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم أشهدوا عيسى عليه السلام على إسلامهم بالله تعالى وبه‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أشهدوا الله تعالى بذلك على أنفسهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 115‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ الْحوَارِيُّونَ يَا عيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ‏}‏، قرأ الكسائي وحده ‏{‏هل تَّستطيع ربَّك‏}‏ بالتاء والإِدغام، وربك بالنصب، وفيها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله، قاله الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ هل تستطيع أن تسأل ربك، قاله مجاهد، وعائشة‏.‏

وقرأ الباقون ‏{‏هل يستطيع ربك‏}‏ بالياء والإِظهار، وفي ذلك التأويل ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ هل يقدر ربك، فكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله تعالى‏.‏

والثاني‏:‏ معناه هل يفعل ربك، قاله الحسن، لأنهم سموا بالحواريين بعد إيمانهم‏.‏

والثالث‏:‏ معناه هل يستجيب لك ربك ويطيعك‏.‏

‏{‏أَن يُنَزِّلَ عَلَينَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ‏}‏ قاله السدي، قال قطرب‏:‏ والمائدة لا تكون مائدة حتى يكون عليها طعام، فإن لم يكن قيل‏:‏ خِوان، وفي تسميتها مائدة وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأنها تميد ما عليها أي تعطي، قال رؤبة‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** إلى أمير المؤمنين الممتاد

أي المستعطي‏.‏

والثاني‏:‏ لحركتها بما عليها من قولهم‏:‏ مَادَ الشيء إذا مال وتحرك، قال الشاعر‏:‏

لعلك باك إن تغنت حمامة *** يميد غصن من الأيك مائل

‏{‏قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني اتقوا معاصي الله إن كنتم مؤمنين به، وإنما أمرهم بذلك لأنه أولى من سؤالهم‏.‏

والثاني‏:‏ يعني اتقوا الله فى سؤال الأنبياء إما طلباً لِعَنَتِهِم وإما استزادة للآيات منهم، إن كنتم مؤمنين بهم ومصدقين لهم لأن ما قامت به دلائل صدقهم يغنيكم عن استزادة الآيات منهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا‏}‏ وهذا اعتذار منهم بَيَّنُوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه فقالوا‏:‏ ‏{‏نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا‏}‏‏.‏

يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم أرادوا الأكل منها للحاجة الداعية إليها‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم أرادوه تبركاً بها لا لحاجة دعتهم إليها، وهذا أشبه لأنهم لو احتاجوا لم ينهوا عن السؤال‏.‏

‏{‏وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا‏}‏ يحتمل ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ تطمئن إلى أن الله تعالى قد بعثك إلينا نبياً‏.‏

والثاني‏:‏ تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لك أعواناً‏.‏

والثالث‏:‏ تطمئن إلى أن الله قد أجابنا إلى ما سألنا‏.‏

‏{‏وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا‏}‏ في أنك نبي إلينا، وذلك على الوجه الأول‏.‏

وعلى الوجه الثاني‏:‏ صدقتنا في أننا أعوان لك‏.‏

وعلى الوجه الثالث‏:‏ أن الله قد أجابنا إلى ما سألنا‏.‏

وفي قولهم ‏{‏وَنَعْلَمَ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه علم مستحدث لهم بهذه الآية بعد أن لم يكن، وهذا قول من زعم أن السؤال كان قبل استحكام المعرفة‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم استزادوا بذلك علماً إلى علمهم ويقيناً إلى يقينهم، وهذا قول من زعم أن السؤال كان بعد التصديق والمعرفة‏.‏

‏{‏وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ يحتمل وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ من الشاهدين لك عند الله بأنك قد أديت ما بعثك به إلينا‏.‏

والثاني‏:‏ من الشاهدين عند من يأتي من قومنا بما شاهدناه من الآيات الدالة على أنك نبي إليهم وإلينا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ‏}‏ إنما زيدت الميم في آخر اللهم مثقلة عوضاً عن حرف النداء، فلم يجز أن يدخل عليه حرف النداء فلا يقال يا اللهم لأن الميم المُعَوِّضة منه أغنت عنه، فأما قول الشاعر‏:‏

وما عليك أن تقولي كلما *** سبحت أو هللت يا اللهم

أردد علينا شيخنا مسلما *** فإننا من خيره لن نعْدَما

فلأن ضرورة الشعر جوزته‏.‏

سأل عيسى ربه، أن ينزل عليهم المائدة التي سألوه، وفي سؤاله وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه تفضل عليهم بالسؤال، وهذا قول من زعم أن السؤال بعد استحكام المعرفة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه رغبة منه إلى الله تعالى في إظهار صدقه لهم، وهذا قول من زعم أن السؤال قبل استحكام المعرفة‏.‏

‏{‏تَكُونُ لَنَا عِيداً لأوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ نتخذ اليوم الذي أنزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا قاله قتادة والسدي‏.‏

وقيل‏:‏ إن المائدة أنزلت عليهم في يوم الأحد غداة وعشية، ولذلك جعلوا الأحد عيداً‏.‏

والثاني‏:‏ معناه عائدة من الله تعالى علينا، وبرهاناً لنا ولمن بعدنا‏.‏

والثالث‏:‏ يعني نأكل منها جميعاً، أولنا وآخرنا، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏وَءَايَةً مِّنكَ‏}‏ يعني علامة الإِعجاز الدالة على توحيدك وقيل التي تدل على صدق أنبيائك‏.‏

الشكر على ما أنعمت به علينا من إجابتك، وقيل‏:‏ أرزقنا ذلك من عندك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ‏}‏ وهذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤال عيسى إجابة للحواريين‏.‏

واختلفوا في نزول المائدة على ثلاثة أقاويل‏.‏

أحدها‏:‏ أنه مثل ضربه الله تعالى لخلقه، ينهاهم به عن مسألة الآيات لأنبيائه، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم سألوا ووعدهم بالإِجابة، فلما قال لهم‏:‏ ‏{‏فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ استعفوا منها فلم تنزل عليهم، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم سألوا فأجابهم، ولم يستعفوا، لأنه ما حكى الاستعفاء عنهم، ثم أنزلها عليهم، لأنه قد وعدهم، ولا يجوز أن يخلف وعده‏.‏

ومن قال بهذا اختلفوا في الذي كان عليها حين نزلت على ستة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه كان عليها ثمار الجنة، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه كان عيها خبز ولحم، قاله عمار بن ياسر‏.‏

والثالث‏:‏ أنه كان عليها سبعة أرغفة، قاله إسحاق بن عبد الله‏.‏

والرابع‏:‏ كان عليها سمكة فيها طعم كل الطعام، قاله عطاء، وعطية‏.‏

والخامس‏:‏ كان عليها كل طعام إلا اللحم، قاله ميسرة‏.‏

والسادس‏:‏ رغيفان وحوتان، أكلو منها أربعين يوماً في سفرة، وكانوا ومن معهم نحو خمسة آلاف، قاله جويبر‏.‏

وأُمِرُوا أن يأكلوا منها ولا يخونوا ولا يدخروا، فخانوا وادخروا فَرُفِعَتْ‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ عَذَاباً لاَّأُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني من عالمي زمانهم‏.‏

والثاني‏:‏ من سائر العالمين كلهم‏.‏

وفيهم قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ هو أن يمسخهم قردة، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه جنس من العذاب لا يعذب به غيرهم لأنهم كفروا بعد أن رأوا من الآيات ما لم يره غيرهم، فكانوا أعظم كفراً فصاروا أعظم عذاباً‏.‏

وهل هذا العذاب في الدنيا أو في الآخرة‏؟‏ قولان‏:‏

وفي الحواريين قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم خواص الأنبياء‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم المندوبون لحفظ شرائعهم إما بجهاد أو علم‏.‏

وفي تسميتهم بذلك ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ لبياض ثيابهم، وهذا قول ابن عباس، تشبيهاً بما هم عليه من نقاء سرائرهم، قاله الضحاك، وهو بلغة القبط حواري‏.‏

والثاني‏:‏ لنظافة ثيابهم وطهارتها بطهارة قلوبهم‏.‏

والثالث‏:‏ بجهادهم عن أنبيائهم، قال الشاعر‏:‏

ونحن أناس نملأ البيد مأمنا *** ونحن حواريون حين نزاحف