فصل: تفسير الآيات رقم (116- 118)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 118‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏116‏)‏ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏117‏)‏ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏118‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ‏{‏إِذْ‏}‏ ها هنا بمعنى ‏(‏إذا‏)‏ كما قال أبو النجم‏:‏

ثم جزاك الله عني إذ جزى *** جنات عدن في السموات العلا

يعني إذا جزى، فأقام الماضي مقام المستقبل وهذا جائز في اللغة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 44‏]‏‏.‏

واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه تعالى سأله عن ذلك توبيخاً لمن ادعى ذلك عليه، ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ فى التكذيب وأشد فى التوبيخ والتقريع‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غُيِّرُوا بعده وادعوا عليه ما لم يقله‏.‏

فإن قيل‏:‏ فالنصارى لم تتخذ مريم إلهاً، فكيف قال تعالى فيهم ذلك‏؟‏

قيل‏:‏ لما كان من قولهم أنها لم تلد بشراً وإنما ولدت إِلَهاً لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضي بمثابة من ولدته، فصاروا حين لزمهم ذلك كالقائلين له‏.‏

وفي زمان هذا السؤال قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الله تعالى قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه في الدنيا، قاله السدي وميسرة‏.‏

والثاني‏:‏ أن الله تعالى يقول له ذلك يوم القيامة، قاله ابن جريج وقتادة وهو أصح القولين‏.‏

‏{‏قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقِّ‏}‏ أي أدعي لنفسي ما ليس من شأنها، يعني أنني مربوب ولست برب، وعابد ولست بمعبود‏.‏

وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ تنزيهاً له عما أضيف إليه‏.‏

الثاني‏:‏ خضوعاً لعزته وخوفاً من سطوته‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ‏}‏ فرد ذلك إلى علمه تعالى، وقد كان الله عالماً به أنه لم يقله، ولكن قاله تقريعاً لمن اتخذ عيسى إلهاً‏.‏

‏{‏تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ‏}‏ فيه وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه‏.‏

والثاني‏:‏ تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم‏.‏

وفي النفس قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها عبارة عن الجملة كلها‏.‏

والثاني‏:‏ أنها عبارة عن بعضه، كقولهم قتل فلان نفسه‏.‏

‏{‏إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ عالم السر والعلانية‏.‏

والثاني‏:‏ عالم ما كان وما يكون‏.‏

وفي الفرق بين العالم والعلام وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن العلام الذي تقدم علمه، والعالم الذي حدث علمه‏.‏

والثاني‏:‏ أن العلام الذي يعلم ما كان وما يكون، والعالم الذي يعلم ما كان ولا يعلم ما يكون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ‏}‏ لم يذكر عيسى ذلك على وجه الإِخبار به لأن الله عالم به، ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ تكذيباً لمن اتخذ إلهاً معبوداً‏.‏

والثاني‏:‏ الشهادة بذلك على أمته فيما أمرهم به من عبادة ربه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ إعلامهم أن الله ربه وربهم واحد‏.‏

والثاني‏:‏ أن عليه وعليهم أن يعبدوا رباً واحداً حتى لا يخالفوا فيما عبدوه‏.‏

‏{‏وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيِهِمْ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني شاهداً‏.‏

والثاني‏:‏ شاهداً عليهم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الموت‏.‏

والثاني‏:‏ أنه رفعه إلى السماء‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الحافظ عليهم‏.‏

والثاني‏:‏ العالم بهم‏.‏

‏{‏وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ شاهداً لما حضر وغاب‏.‏

والثاني‏:‏ شاهداً على من عصى، وأطاع‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قاله على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم كما يستعطف العبد سيده‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قاله على وجه التسليم لأمر ربه والاستجارة من عذابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏119- 120‏]‏

‏{‏قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏119‏)‏ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ‏}‏ يعني يوم القيامة، وإنما نفعهم الصدق في ذلك اليوم لوقوع الجزاء فيه وإن كان في كلِّ الأيام نافعاً، وفي هذا الصدق قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن صدقهم الذي كان منهم في الدنيا نفعهم في الآخرة جُوزُوا عليه من الثواب، فعلى هذا المراد بهذا الصدق وجهان محتملان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه صدقهم في عهودهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه تصديقهم لرسل الله وكتبه‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه صدق يكون منهم في الآخرة ينفعهم لقيامهم فيه بحق الله‏.‏

فعلى هذا في المراد بهذا الصدق وجهان محتملان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه صدقهم في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ‏.‏

والثاني‏:‏ صدقهم فيما شهدوا به على أنفسهم عن أعمالهم، ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة، فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم‏.‏

وهل هم مصروفون عنه قبل موقف العرض‏؟‏ على قولين‏.‏

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب‏.‏

سورة الأنعام

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ‏(‏2‏)‏ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية قال وهب بن منبه‏:‏ فاتحة التوارة فاتحة الأنعام إلى قوله‏:‏ ‏{‏يَعْدِلُونَ‏}‏، وخاتمة التوراة خاتمة هود‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ‏}‏ جاء على صيغة الخبر وفيه معنى الأمر، وذلك أولى من أن يجيء بلفظ الأمر فيقول احْمِدِ الله، لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه يتضمن تعليم اللفظ والمعنى، وفي الأمر المعنى دون اللفظ‏.‏

والثاني‏:‏ أن البرهان إنما يشهد بمعنى الخبر دون الأمر‏.‏

‏{‏الَّذِي خَلَقَ السَمَوَاتِ والأرضَ‏}‏ لأن خلق السموات والأرض نِعَمٌ تستوجب الحمد، لأن الأرض تقل، والسماء تظل، وهي من أوائل نعمه على خلقه، ولذلك استحمد بخلقها وأضاف خلقها إلى نفسه عند حمده، على أن مستحق الحمد هو خالق السموات والأرض، ليكون باستحقاق الحمد منفرداً لانفراده بخلق السموات والأرض‏.‏

وفي جمع السموات وتوحيد الأرض وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأن السموات أشرف من الأرض، والجمع أبلغ في التفخيم من الوحيد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلَنَا الذِّكْرَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ لأن أوامره إلى الأرض تخترق جميع السماوات السبع‏.‏

وفي تقديم السموات على الأرض وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لتقدم خلقها على الأرض‏.‏

والثاني‏:‏ لشرفها فقدمها على ذكر الأرض وإن كانت مخلوقة بعد الأرض‏.‏

وهذان الوجهان من اختلاف العلماء أيهما خُلِقَ أولاً‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ‏}‏ يعني وخلق، فغاير بين اللفظ ليكون أحسن في النظم، والمراد بالظلمات والنور هنا ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ وهو المشهور من قول قتادة، قدم الظلمة على النور لأنه قدم خلق الظلمة على خلق النور، وجمع الظلمات ووحد النور لأن الظلمات أعم من النور‏.‏

والثاني‏:‏ أن الظلمات‏:‏ الليل، والنور‏:‏ النهار‏.‏

والثالث‏:‏ أن الظلمات‏:‏ الكفر، والنور‏:‏ الإِيمان، قاله السدي‏.‏

ولأصحاب الخواطر، فيه ثلاثة أوجه أُخَر‏:‏

أحدها‏:‏ أن الظلمات‏:‏ الأجسام، والنور‏:‏ الأرواح‏.‏

الثاني‏:‏ أن الظلمات‏:‏ أعمال الأبدان، والنور‏:‏ ضمائر القلوب‏.‏

والثالث‏:‏ أن الظلمات‏:‏ الجهل، والنور‏:‏ العلم‏.‏

‏{‏ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ أي يجعلون له مع هذه النَّعَمْ عِدْلاً، يعني مثلاً‏.‏

وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم يعدلون به الأصنام التي يعبدونها‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم يعدلون به إلهاً غيره لم يُخْلَق مثل خلقه‏.‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمَّى عِندَهُ‏}‏ في هذين الأجلين أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الأجل الأول الذي قضاه أجل الحياة إلى الموت، والأجل الثاني المسمى عنده أجل الموت إلى البعث، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أن الأجل الأول الذي قضاه أجل الدنيا، والأجل الثاني المسمى عنه ابتداء الآخرة، قاله ابن عباس، ومجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أن الأجل الأول الذي قضاه هو حين أخذ الميثاق على خلقه في ظهر آدم، والأجل الثاني المسمى عنده الحياة في الدنيا، قاله ابن زيد‏.‏

والرابع‏:‏ أن الأجل الذي قضاه أجل من مات، والأجل المسمى عنده أجل من يموت بعد، قاله ابن شجرة‏.‏

‏{‏تَمْتَرُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تشكون، والامتراء‏:‏ الشك‏.‏

والثاني‏:‏ تختلفون، مأخوذ من المراء وهو الاختلاف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن معنى الكلام وهو اله المُدَبِّر في السموات وفي الأرض‏.‏

‏{‏يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ‏}‏ أي ما تخفون، وما تعلنون‏.‏ والثاني‏:‏ وهو الله المعبود في السموات، وفي الأرض‏.‏

والثالث‏:‏ أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، وتقديره‏:‏ وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، لأن في السموات الملائكة، وفي الأرض الإِنس والجن، قاله الزجاج‏.‏

‏{‏وََيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ‏}‏ أي ما تعلمون من بعد، ولا يخفى عليه ما كان منكم، ولا ما سيكون، ولا ما أنتم عليه في الحال من سر، وجهر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 11‏]‏

‏{‏وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏4‏)‏ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ‏(‏6‏)‏ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ‏(‏8‏)‏ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ‏}‏ لأن مشركي قريش لما أنكروا نزول القرآن أخبر الله أنه لو أنزله عليهم من السماء لأنكروه وكفروا به لغلبة الفساد عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏ولَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ‏}‏ واسم القرطاس لا ينطلق إلا على ما فيه كتابة، فإن لم يكن فيه كتابة قيل طرس ولم يقل قرطاس‏.‏ قال زهير بن أبي سلمى‏:‏

بها أخاديد من آثار ساكنها *** كما تردد في قرطاسه القلم

‏{‏فَلَمَسُوهُ بِأَيِدِيهِمْ‏}‏ قال ذلك تحقيقاً لنزوله عليهم‏.‏

ويحتمل بلمس اليد دون رؤية العين ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن نزوله مع الملائكة وهم لا يرون بالأبصار، فلذلك عَبَّر عنه باللمس دون الرؤية‏.‏

والثاني‏:‏ لأن الملموس أقرب من المرئي‏.‏

والثالث‏:‏ لأن السحر يتخيل في المرئيات، ولا يتخيل في الملموسات‏.‏

‏{‏لَقَالَ الََّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ تكذيباً لليقين بالعناد، والمبين‏:‏ ما دل على بيان بنفسه، والبيِّن‏:‏ ما دل على بيانه، فكان المبين أقوى من البيِّن‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ‏}‏ أي ملك يشهد بتصديقه ‏{‏وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ‏}‏ أي لو أنزلنا ملكاً فلم يؤمنوا لقضي الأمر وفيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ لقضي عليهم بعذاب الاستئصال، قاله الحسن، وقتادة، لأن الأمم السالفة كانوا إذا اقترحوا على أنبيائهم الآيات فأجابهم الله تعالى إلى الإِظهار فلم يؤمنوا استأصلهم بالعذاب‏.‏

والثاني‏:‏ أن معنى لقضي الأمر لقامت الساعة، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ‏}‏ أي لا يُمْهَلُون ولا يُؤَخَّرون، يعني عن عذاب الاستئصال‏.‏ على التأويل الأول، وعن قيام الساعة على التأويل الثاني‏.‏

‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً‏}‏ يعني ولو جعلنا معه ملكاً يدل على صدقه لجعلناه في صورة رجل‏.‏

وفي وجوب جعله رجلاً وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأن الملائكة أجسامهم رقيقة لا تُرَى، فاقتضى أن يُجْعَل رجلاً لكثافة جسمه حتى يرى‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم لا يستطيعون أن يروا الملائكة على صورهم، وإذا كان في صورة الرجل لم يعلموا ملك هو أو غير ملك‏.‏

‏{‏وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَّا يَلْبِسُونَ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ معناه ولخلطنا عليهم ما يخلطون، قاله الكلبي‏.‏

والثاني‏:‏ لشبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم، قال الزجاج‏:‏ كما يشبهون على ضعفائهم واللبس في كلامهم هو الشك ومنه قول الخنساء‏:‏

أصدق مقالته واحذر عداوته *** والبس عليه بشك مثل ما لبسا

والثالث‏:‏ وللبسنا على الملائكة من الثبات ما يلبسه الناس من ثيابهم، ليكونوا على صورهم وعلى زِيِّهم، قاله جويبر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏}‏ أي أوجبها ربكم على نفسه، وفيها أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها تعريض خلقه لما أمرهم به من عبادته التي تفضي بهم إلى جنته‏.‏

والثاني‏:‏ ما أراهم من الآيات الدالة على وجوب طاعته‏.‏

والثالث‏:‏ إمهالهم عن معالجة العذاب واستئصالهم بالانتقام‏.‏

والرابع‏:‏ قبوله توبة العاصي والعفو عن عقوبته‏.‏

‏{‏لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ وهذا توعد منه بالعبث والجزا أَخَرجَه مَخْرَج القسم تحقيقاً للوعد والوعيد، ثم أكده بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 16‏]‏

‏{‏قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏13‏)‏ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏14‏)‏ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏15‏)‏ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الَّيْلِ وَالنَّهَارِ‏}‏ من أجسام الحيوان، لأن من الحيوان ما يسكن ليلاً، ومنه ما يسكن نهاراً‏.‏

فإن قيل‏:‏ فلم قال ‏{‏مَا سَكَنَ‏}‏ ولم يقل ما تحرك‏؟‏ قيل لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن ما يَعُمُّه السكون أكثر مما يَعُمُّه الحركة‏.‏

والثاني‏:‏ لأن كل متحرك لا بد أن تنحل حركته سكوناً، فصار كل متحرك ساكناً، وقد قال الكلبي‏:‏ معناه وله ما استقر في الليل والنهار، وهما الزمان كله، لأنه لا زمان إلا ليل أو نهار، ولا فصل بينهما يخرج عن واحد منهما‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيَّاً‏}‏ يعني إلهاً يَتَولاَّنِي‏.‏

‏{‏فَاطِر السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ أي خالق السموات والأرض ومبتدئها، قال ابن عباس‏:‏ كنت لا أدري ما فاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ أنا فَطَرْتُهَا، أي ابتدأتها، وأصل الفطر الشق، ومنه ‏{‏هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3‏]‏ أي شقوق‏.‏

‏{‏وَهُوَ يَطْعمُ وَلاَ يُطْعَمُ‏}‏ معناه يَرْزُقُ ولا يُرْزَق، قرأ بعضهم ‏{‏وَهُوَ يُطْعِمُ ولا يَطْعَمُ‏}‏ معناه على هذه القراءة‏:‏ وهو يطعم خلقه ولا يأكل‏.‏

‏{‏قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ‏}‏ يعني من أمته، وفي إسلامه هذا ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ استسلامه لأمر الله، ومثله قول الشاعر‏:‏

طال النهار على من لقاح له *** إلا الهديّة أو ترك بإسلام

أي باستسلام‏.‏

والثاني‏:‏ هو دخوله في سِلْمِ الله وخروجه من عداوته‏.‏

والثالث‏:‏ دخوله في دين إبراهيم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِلَّهَ ءَابِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏ ويكون المراد به أول من أَسْلَم من قريش، وقيل‏:‏ من أهل مكة‏.‏

‏{‏وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ يحتمل أن يكون هذا خطاباً من الله لنبيه يَنْهَاهُ به عن الشرك، ويُحْتَمَل أن يكون المراد به جميع أمته، وإن توجه الخطاب إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 21‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏18‏)‏ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏19‏)‏ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه إن أَلْحَقَ الله بك ضُراً، لأن المس لا يجوز على الله‏.‏

والثاني‏:‏ معناه وإن جعل الضُرَّ يمسك‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ‏}‏‏.‏

وفي الضُرِّ والخير وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الضُرَّ السُقْمُ، والخير العافية‏.‏

والثاني‏:‏ أن الضُرَّ الفقر، والخير الغنى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن معناه القاهر لعباده، وفوق صلة زائدة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه بقهره لعباده مستعلٍ عليهم، فكان قوله فوق مستعملاً على حقيقته كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيدِيهِم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ لأنها أعلى قوة‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ وهو القاهر فوق قهر عباده، لأن قهره فوق كل قهر‏.‏

وفي هذا القهر وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه إيجاد المعدوم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لا راد لأقداره ولا صَادَّ عن اختياره‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً‏}‏ الآية، في سبب ‏[‏نزول‏]‏ ذلك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من يشهد لك النبوة، فأنزل الله تعالى هذه الآية يأمره فيها أن يقول لهم‏:‏ ‏{‏أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً‏}‏، ثم أجابه عن ذلك فقال‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ بصدقي وصحة نبوتي وهي أكبر الشهادات، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أن الله تعالى أمره أن يشهد عليهم بتبليغ الرسالة إليهم فقال ذلك ليشهده عليهم‏.‏

‏{‏لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأنذركم ‏[‏يا‏]‏ أهل مكة ومن بلغه القرآن من غير أهل مكة‏.‏

والثاني‏:‏ لأنذركم به‏:‏ ‏[‏أيها‏]‏ العربُ ومن بُلِّغ من العَجَم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه التوراة والإِنجيل، قاله الحسن، وقتادة، والسدي، وابن جريج‏.‏

والثاني‏:‏ أنه القرآن‏.‏

‏{‏يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنآءَهُم‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، لأن صفته موجودة في كتابهم، قاله الحسن، وقتادة، ومن زعم أن الكتاب هو التوراة والإِنجيل‏.‏

والثاني‏:‏ يعرفون الكتاب الدال على صفته، وصدقه، وصحة نبوته، وهذا قول من زعم أن الكتاب هو القرآن‏.‏

وعنى بقوله‏:‏ ‏{‏كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ‏}‏ تثبيتاً لصحة المعرفة‏.‏

وحكى الكلبي والفراء‏:‏ أن عمر بن الخطاب قال لعبد الله بن سلام حين أسلم‏:‏ ما هذه المعرفة التي تعرفون بها محمداً صلى الله عليه وسلم كما تعرفون أبناءكم‏؟‏ قال‏:‏ والله لأنا به إذا رأيته أعرف مني بابني وهو يلعب مع الصبيان، لأني لا أشك أنه محمد، وأشهد أنه حق، ولست أدري ما صنع النساء في الابن‏.‏

‏{‏الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم خسروا بالكفر منازلهم وأزواجهم في الجنة، لأنه ليس أحد من مؤمن ولا كافر إلا وله منازل وأزواج، فإن أسلموا كانت لهم، وإن كفروا كانت لمن آمن من أهلهم، وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 11‏]‏، قاله الفراء‏.‏

والثاني‏:‏ معناه غبنوها فأهلكوها بالكفر والتكذيب، ومنه قول الأعشى‏:‏

لا يأخذ الرِّشْوَة في حُكْمِهِ *** ولا يُبالي خُسْرَ الخاسر

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 26‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ‏(‏23‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏25‏)‏ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُن فَتْنَتُهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ في الفتنة هنا ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يعني معذرتهم، فسماها فتنة لحدوثها عن الفتنة، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ عاقبة فتنتهم وهو شركهم‏.‏

والثالث‏:‏ يعني بَلِيَّتُهم التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة، قاله أبو عبيد القاسم بن سلام‏.‏

‏{‏إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ تبدأوا بذلك من شركهم، فإن قيل‏:‏ كيف كذبوا في الآخرة بجحود الشرك ولا يصح منهم الكذب في الآخرة لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لا ينفعهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم مصروفون عن القبائح ملجؤون إلى تركها لإِزالة التكليف عنهم، ولو لم يلجؤوا إلى ترك القبيح ويصرفوا عنه مع كما عقولهم وجب تكليفهم ليقلعوا به عن القبيح، وفي عدم تكليفهم دليل على إلجائهم إلى تركه‏.‏

قيل‏:‏ عن ذلك جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن قولهم ‏{‏وَاللَّهِ رَبِّنآ مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ أي في الدنيا عند أنفسنا لاعتقادنا فيها أننا على صواب، وإن ظهر لنا خطؤه الآن، فلم يكن ذلك منهم كذباً، قاله قطرب‏.‏

والثاني‏:‏ أن الآخرة مواطن، فموطن لا يعلمون ذلك فيه ولا يضطرون إليه، وموطن يعلمون ذلك فيه ويضطرون إليه، فقالوا ذلك في الموطن الأول، قاله بعض متأخري المتكلمين‏.‏

وهذا ليس بصحيح لأنه يقتضي أن يكونوا في الموطن الأول مكلفين لعدم الإِلجاء والاضطرار، وفي الموطن الثاني غير مكلفين‏.‏

وقد يعتل الجواب الأول بقوله تعالى بعد هذه الآية‏:‏ ‏{‏انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ‏}‏ فأخبر عنهم بالكذب، وهم على الجواب الأول غير كاذبين‏.‏

وقد أُجِيب عن هذا الاعتراض بجواب ثالث، وهو أنهم أنكروا بألسنتهم، فلما نطقت جوارحهم أقروا، وفي هذا الجواب دخل لأنه قد كذبوا نُطْقَ الجوارح‏.‏

‏{‏وَضَلَّ عَنهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بسوء كذبهم وجحودهم‏.‏

والثاني‏:‏ فضلت عنهم أوثانهم التي افتروا على الله بعبادتها، والافتراء‏:‏ تحسين الكذب‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ‏}‏ قيل إنهم كانوا يستمعون في الليل قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته‏.‏

وفيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ يستمعون قراءته ليردوا عليه‏.‏

والثاني‏:‏ ليعلموا مكانه فيؤذوه، فصرفهم الله عن سماعه، بإلقاء النوم عليهم، بأن جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه‏.‏

والأكنة الأغطية واحدها كِنان، يقال‏:‏ كَنَتْتُ الشيء إذا غطيته، وأكننته في نفسي إذا أخفيته، وفي قراءة علي، وابن مسعود‏:‏ على أعينهم غطاء‏.‏

‏{‏وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً‏}‏ والوقر‏:‏ الثقل، ومنه الوَقَار إذا ثقل في المجلس‏.‏

‏{‏وَإِن يَرَوْاْ كَلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بها‏}‏ يعني بالآية علامة الإعجاز لما قد استحكم في أنفسهم من حسده وبغضه، وذلك صرفهم عن سماع القرآن، لأنهم قصدوا بسماعه الأذى والافتراء‏.‏

‏{‏حَتَّىَ إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ‏}‏ فيما كانوا يجادلون به النبي صلى الله عليه وسلم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم كانوا يجادلونه بما ذكره الله تعالى من قوله عنهم‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ‏}‏، قال الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ هو قولهم‏:‏ تأكلون ما قتلتم ولا تاكلون ما قتل ربكم، قاله ابن عباس‏.‏

ومعنى ‏{‏أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ‏}‏ أي أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها في كتبهم، وقيل‏:‏ إن جادلهم بهذا النضر بن الحارث‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأوْنَ عَنْهُ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يَنْهَون عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ويتباعدون عنه فراراً منه، قاله محمد ابن الحنفية، والحسن، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ يَنْهَون عن القرآن أن يُعْمَل بما فيه، ويتباعدون من سماعه كيلا يسبق إلى قلوبهم العلم بصحته، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏

والثالث‏:‏ ينهون عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم، ويتباعدون عن اتباعه، قال ابن عباس‏:‏ نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم، ويتباعد عما جاء به، فلا يؤمن به مع وضوح صدقه في نفسه‏.‏

واستشهد مقاتل بما دل على ذلك عن شعر أبي طالب بقوله‏:‏

ودعوتني وزَعَمْتَ أنَّكَ ناصِحِي *** فلقَدْ صَدَقْت وكُنْتَ ثَمَّ أميناً

وعرضتَ ديناً قد علِمْتُ بأنه *** من خيْرِ أَدْيانِ البَرِيةِ دِيناً

لولا الذَّمَامَةُ أو أُحَاذِرُ سُبَّةً *** لَوَجَدْتَني سَمْحاً بذالك مُبِيناً

فاذهب لأمرك ما عليك غَضَاضَةٌ *** وابشِرْ بذاك وقَرَّ مِنَكَ عيوناً

والله لن يَصِلُوا إيك بِجَمْعِهم *** حتى أُوسَّدَ في التُّرابِ دَفِيناً

فنزلت هذه الآية، فقرأها عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو طالب‏:‏ أما أن أدخل في دينك فلا، قال ابن عباس‏:‏ لسابق القضاء في اللوح المحفوظ، وبه قال عطاء، والقاسم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏27‏)‏ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏28‏)‏ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‏(‏29‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ عاينوها، ومن عاين الشيء فقد وقف عليه‏.‏

والثاني‏:‏ أنها كانت من تحتهم وهم فوقها، فصاروا وقوفاً عليها‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم عرفوها بالدخول فيها، ومن عرف الشيء فقد وقف عليه‏.‏

وذكر الكلبي وجهاً رابعاً‏:‏ أن معناه ولو ترى إذ حُبِسُوا على النار‏.‏

‏{‏فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِأَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ تمنوا الرد إلى الدنيا التي هي دار التكليف ليؤمنوا ويصدقوا، والتمني لا يدخله صدق ولا كذب، لأنه ليس بخبر‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏بلْ بَدَالَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ بدا لهم وبال ما كانوا يخفون‏.‏

والثاني‏:‏ بدا لهم ما كان يخفيه بعضهم عن بعض، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ بدا للأتباع مما كان يخفيه الرؤساء‏.‏

‏{‏وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ يعني ولو ردوا إلى ما تمنوا من الدنيا لعادوا إلى ما نهوا عنه من الكفر‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه خبر مستأنف أخبر الله به عن كذبهم لا أنه عائد إلى ما تقدم من تمنّيهم، لعدم الصدق والكذب في التمنِّي‏.‏

والثاني‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ لَكَاذِبونَ‏}‏ يعني في الإِخبار عن أنفسهم بالإِيمان إِن رُدُّوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏31‏)‏ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ وما أمر الدنيا والعمل لها إلا لعب ولهو، فأما عمل الصالحات فيها فهو من عمل الآخرة، فخرج من أن يكون لعباً ولهواً‏.‏

والثاني‏:‏ وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو لاشتغالهم بها عما هو أولى منها، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم كأهل اللعب واللهو لانقطاع لذاتهم وقصور مدتهم، وأهل الآخرة بخلافهم لبقاء مدتهم واتصال لذتهم، وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَلدَّارُ الأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ لأنه قَدْ دام لهم فيها ما كان منقطعاً في غيرها‏.‏

‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أن ذلك خير لكم‏.‏

وذكر بعض الخاطرية قولاً رابعاً‏:‏ أنها لعب لمن جمعها، لهو لمن يرثها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 36‏]‏

‏{‏قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏34‏)‏ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏35‏)‏ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ‏}‏ يعني من التكذيب‏.‏ لك، والكفر بي‏.‏

‏{‏فَإِنَّهُمْ لاَ يُكّذَّبونَكَ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ فإنهم لا يكذبونك بحجة، وإنما هو تكذيب بهت وعناد، فلا يحزنك، فإنه لا يضرك، قاله أبو صالح، وقتادة، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ فإنهم لا يكذبون قولك لعلمهم بصدقك، ولكن يكذبون ما جئت به، قاله ناجية بن كعب‏.‏

والثالث‏:‏ لا يكذبونك في السر لعلمهم بصدقك، ولكنهم يكذبونك في العلانية لعداوتهم لك، قاله الكلبي‏.‏

والرابع‏:‏ معناه أن تكذيبهم لقولك ليس بتكذيب لك، لأنك رسول مُبَلّغ، وإنما هو تكذيب لآياتي الدالة على صدقك والموجبة لقبول قولك، وقد بين ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بئَأَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ‏}‏ أي يكذبون‏.‏

وقرأ نافع والكسائي‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَذِّبُونَكَ‏}‏ وهي قراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتأويلها‏:‏ لا يجدونك كاذباً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ‏}‏ يحتمل أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ معناه لا مُبطِل لحُجَّتِهِ ولا دافع لبرهانه‏.‏

والثاني‏:‏ معناه لا رَادَّ لأمره فيما قضاه من نصر أوليائه، وأوجبه من هلاك أعدائه‏.‏

والثالث‏:‏ معناه لا تكذيب لخبره فيما حكاه من نصر مَنْ نُصِرَ وهلاك مَنْ أُهْلِكَ‏.‏

والرابع‏:‏ معناه لا يشتبه ما تخرّصه الكاذبون عليه بما بلَّغه الأنبياء عنه‏.‏

‏{‏وَلَقْدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِىْ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ فيما صبروا عليه من الأذى، وقُوبلوا عليه من النصر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ كَبُرَ إِعْرَاضُهُمْ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ‏[‏إعراضهم‏]‏ عن سماع القرآن‏.‏

والثاني‏:‏ عن استماعك‏.‏

‏{‏فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ‏}‏ أي سرباً، وهو المسلك فيها، مأخوذ من نافقاء اليربوع‏.‏

‏{‏أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ مصعداً، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ دَرَجاً، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ سبباً، قاله الكلبي وقد تضمن ذلك قول كعب بن زهير‏.‏

ولا لَكُمَا مَنْجىً عَلَى الأرْضِ فَابْغِيَا *** به نَفَقاً أوْ في السَّمَوَات سُلَّماً

‏{‏فَتَأْتِيَهُم بئَايَةٍ‏}‏ يعني أفضل من آيتك ولن تستطيع ذلك، لم يؤمنوا لك، فلا يحزنك تكذيبهم وكفرهم، قال الفراء‏:‏ وفي الكلام مضمر محذوف وتقديره‏:‏ فتأتيهم بآية فافعل‏.‏

‏{‏وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى‏}‏ يعني بالإلجاء والاضطرار‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ كل موضع قال الله فيه ‏{‏ولو شاءَ اللهُ‏}‏ فإنه لم يشأ‏.‏

‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ‏}‏ يعني تجزع في مواطن الصبر، فتصير بالأسف والتحسر مقارباً لأحوال الجاهلين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ‏}‏ الاستجابة هي القبول، والفرق بينها وبين الجواب‏:‏ أن الجواب قد يكون قبولاً وغير قبول‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَسْمَعُونَ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني الذين يعقلون، قاله الكلبي‏.‏

والثاني‏:‏ الذين يسمعون طلباً للحق، لأن الاستجابة قد تكون من الذين يسمعون طلباً للحق، فأما من لا يسمع، أو يسمع لكن لا بقصد طلب الحق، فلا يكون منه استجابة‏.‏

‏{‏وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المراد بالموتى هنا الكفار، قاله الحسن، وقتادة ومجاهد‏.‏

ويكون معنى الكلام‏:‏ إنما يستجيب المؤمنون الذين يسمعون، والكفار لا يسمعون إلا عند معاينة الحق اضطراراً حين لا ينفعهم حتى يبعثم الله كفاراً ثم يحشرون كفاراً‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنهم الموتى الذين فقدوا الحياة، وهو مثل ضربه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، ويكون معنى الكلام‏:‏ كما أن الموتى لا يستجيبون حتى يبعثهم الله فكذلك الذين لا يسمعون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 39‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏37‏)‏ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ‏}‏ يعني آية تكون دليلاً على صدقه وصحة نبوته‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ ءَايَةً‏}‏ يعني آية يجابون بها إلى ما سألوا‏.‏

‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ يحتمل وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ لا يعلمون المصلحة في نزول الآية‏.‏

الثاني‏:‏ لا يعلمون أن زيادة الآيات إذا لم يؤمنوا بها، توجب الزيادة من عذابهم، لكثرة تكذيبهم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهذه الآية لا تدل على أن الله لم ينزل عليهم آية تقودهم إلى التصديق فلم يلزمهم الإِيمان، قيل‏:‏ هذا خطأ، لأن ما أظهره الله من الآيات الدالة على صدق رسوله وصحة نبوته، أظهر من أن يُخْفَى، وأكثر من أن ينكر، وأن القرآن مع عجز من تحداهم الله من الآيات بمثله، وما تضمنه من أخبار الغيوب وصدق خبره عما كان ويكون أبلغ الآيات وأظهر المعجزات‏.‏

وإنما اقترحوا آية سألوها إعناتاً، فلم يجابوا مع قدرة الله تعالى على إنزالها، لأنه لو أجابهم إليها لاقترحوا غيرها إلى ما لا نهاية له، حتى ينقطع الرسول بإظهار الآيات عن تبليغ الرسالة‏.‏

وإنما يلزمه إظهار الآيات في موضعين‏:‏

أحدهما‏:‏ عند بعثه رسولاً ليكون مع استدعائه لهم دليل على صدقه‏.‏

والثاني‏:‏ أن يسألها من يعلم الله منه أنه إن أظهرها له آمن به، وليس يلزمه إظهارها في غير هذين الموضعين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا من دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ‏}‏ دابة بمعنى ما يدب على الأرض من حيوان كله‏.‏

‏{‏وَلاَ طَآئِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ يعني في الهواء، جميع بين ما هو على الأرض وفيها وما ارتفع عنها‏.‏

‏{‏إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم‏}‏ في الأمم تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الجماعات‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الأجناس، قاله الفراء‏.‏

وليس يريد بقوله‏:‏ ‏{‏أَمْثَالُكُم‏}‏ في التكليف كما جعل قوم اشتبه الظاهر عليهم وتعلقوا مع اشتباه الظاهر برواية أبي ذر، قال‏:‏ انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا أبا ذر أتدري فيم انتطحتا‏؟‏ قلت‏:‏ لا، قال‏:‏ «لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا» قال أبو ذر‏:‏ لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر بجناحيه في السماء إلا ذكّرنا منه علماً، لأنه إذا كان العقل سبباً للتكليف كان عدمه لارتفاع التكليف‏.‏

والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏أَمْثَالُكُم‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها أجناس وتتميز في الصور والأسماء‏.‏

والثاني‏:‏ أنها مخلوقة لا تُظْلَم، ومرزوقة لا تُحْرَم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما تركنا خلقاً إلا أوجبنا له أجلاً، والكتاب هنا هو إيجاب الأجل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 38‏]‏ قاله ابن بحر وأنشد لنابغة بني جعدة‏:‏

بلغو الملوك وأدركوا ال *** كتاب وانتهى الأجل

والتأويل الثاني‏:‏ وهو قول الجمهور‏:‏ أن الكتاب هو القرآن الكريم الذي أنزله، ما أخل فيه بشيء من أمور الدين، إما مُفَصَّلاً يَسْتَغْنِي عن التفسير، أو مجْمَلاً جعل إلى تفسيره سبيلاً‏.‏

يحتمل تأويلاً ثالثاً‏:‏ ما فرطنا فيه بدخول خلل عليه، أو وجود نقص فيه، فكتاب الله سليم من النقص والخلل‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرْونَ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المراد بالحشر الموت، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن الحشر الجمع لبعث الساعة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا كانت غير مُكَلَّفَةٍ فلماذا تبعث يوم القيامة‏؟‏ قيل‏:‏ ليس التكليف علة البعث، لأن الأطفال والمجانين يبعثون وإن كانوا في الدنيا غير مكلفين، وإنما يبعثها ليعوض ما استحق العوض منها بإيلام أو ظلم، ثم يجعل ما يشاء منها تراباً، وما شاء من دواب الجنة يتمتع المؤمنون بركوبه ورؤيته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 45‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏40‏)‏ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏42‏)‏ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ‏(‏44‏)‏ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكَّرُوا بِهِ‏}‏ معنى ذلك أنهم تركوا ما ذَكَّرَهُم الله من آياته الدالة على توحيده وصدق رسوله‏.‏

‏{‏فَتَحْنَا عَلَيْهِمُ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ يعني من نِعَمِ الدنيا وسَعَة الرزق‏.‏

وفي إنعامه عليهم مع كفرهم وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ليكون إنعامه عليهم داعياً إلى إيمانهم‏.‏ والثاني‏:‏ ليكون استدراجاً وبلوى، وقد روى ابن لهيعة بإسناده عن عقبة ابن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إِذَا رَأَيْتَ اللَّه يعِطي العِبَادَ مَا يَشَاءُونَ عَلَى مَعَاصِيهِم إِيَّاهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ» ثم تلا‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابِ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏‏.‏

‏{‏حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ‏}‏ يعني من النِّعَمْ فلم يؤمنوا‏.‏

‏{‏أَخَذَنَاهُم بَغْتَةً‏}‏ يحتمل وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه تعجيل العذاب المُهْلِك جزاء لأمرين‏.‏

أحدهما‏:‏ لكفرهم به‏.‏

والثاني‏:‏ لكفرهم بنِعَمِهِ‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ هو سرعة الموت عند الغفلة عنه بالنِّعَمِ قَطْعاً للذة، وتعذيباً للحسرة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ‏}‏ وفيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن الإِبلاس‏:‏ الإِياس قال عدي بن زيد‏:‏

ملك إذا حل العفاة ببابه *** غبطوا وأنجح منهم المستبلس

يعني الآيس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الحزن والندم‏.‏

والثالث‏:‏ الخشوع‏.‏

والرابع‏:‏ الخذلان‏.‏

والخامس‏:‏ السكوت وانقطاع الحجة، ومنه قول العجاج‏:‏

يا صاح هل تعرف رسماً مكرساً *** قال نعم أعرفه وأبلسا

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 54‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ‏(‏46‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏48‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏49‏)‏ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏50‏)‏ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏51‏)‏ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏52‏)‏ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ‏(‏53‏)‏ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزآئِنُ اللَّهِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الرزق، أي لا أقدر على إغناء فقير، ولا إفقار غني، قاله الكلبي‏.‏

والثاني‏:‏ مفاتيح خزائن العذاب لأنه خَوَّفهُم منه، فقالوا متى يكون هذا‏؟‏ قاله مقاتل‏.‏

‏{‏وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ علم الغيب في نزول العذاب عليهم متى يكون‏؟‏، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ علم جميع ما غاب من ماض ومستقبل، إلا أن المستقبل لا يعلمه إلا الله أو من أطلعه الله تعالى على علمه من أنبيائه، وأما الماضي فقد يعلمه المخلوقون من أحد الوجهين‏:‏ إما من معاينة أو خبر، فإن كان الإِخبار عن مستقبل، فهو من آيات الله المعجزة، وإن كان عن ماض فإن علم به غير المخبر والمخبر لم يكن معجزاً، وإن لم يعلم به أحد وعلم به المخبِر وحده كان معجزاً، فنفى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه علم الغيب، لأنه لا يعلمه غير الله تعالى، وإن ما أخبر به من غيب فهو عن الله ووحيه‏.‏

‏{‏وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه يريد أنه لا يقدر على ما يعجز عنه العباد، وإن قدرت عليه الملائكة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يريد بذلك أنه من جملة البشر وليس بمَلَك، لينفي عن نفسه غُلُوَّ النصارى في المسيح وقولهم‏:‏ إنه ابن الله‏.‏

ثم في نفيه أن يكون ملكاً وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه بَيَّنَ بذلك فضل الملائكة على الأنبياء، لأنه دفع عن نفسه منزلة ليست له‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أراد إني لست ملكاً في السماء، فأعلم غيب السماء الذي تشاهده الملائكة ويغيب عن البشر، وإن كان الأنبياء أفضل من الملائكة مع غيبهم عما تشاهده الملائكة‏.‏

‏{‏إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن أخبركم إلا بما أخبرني الله به‏.‏

والثاني‏:‏ أن أفعل إلا ما أمرني الله به‏.‏

‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ الجاهل والعالم‏.‏

والثاني‏:‏ الكافر والمؤمن‏.‏

‏{‏أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ فيما ضربه الله من مثل الأعمى والبصير‏.‏

الثاني‏:‏ فيما بينه من آياته الدالة على توحيده وصدق رسوله‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِّي‏}‏‏.‏

روي أن سبب نزول هذه الآية أن الملأ من قريش أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وعنده جماعة من ضعفاء المسلمين مثل بلال، وعمار، وصهيب، وخباب بن الأرت، وابن مسعود، فقالوا‏:‏ يا محمد اطرد عنا موالينا وحلفاءنا فإنما هم عبيدنا وعتقاؤنا، فلعلك إن طردتهم نتبعك، فقال عمر‏:‏ لو فعلت ذلك حتى نعلم ما الذي يريدون وإِلاَمَ يصيرون، فَهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حتى نزلت هذه الآية‏.‏ ونزل في الملأ من قريش ‏{‏وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ‏}‏ الآية، فأقبل عمر فاعتذر من مقالته فأنزل الله فيه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمَنُونَ بِئَأَيَاتِنا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ‏}‏ الآية‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم‏}‏ أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ذكر الله، قاله إبراهيم النخعي‏.‏

والثالث‏:‏ تعظيم القرآن، قاله أبو جعفر‏.‏

والرابع‏:‏ أنه عبادة الله، قاله الضحاك‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يريدون بدعائهم، لأن العرب تذكر وجه الشيء إرادة له مثل قولهم‏:‏ هذا وجه الصواب تفخيماً للأمر وتعظيماً‏.‏

والثاني‏:‏ معناه يريدون طاعته لقصدهم الوجه الذي وجَّهَهُم إليه‏.‏

‏{‏مَا عَلَيكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ‏}‏ فيه ثلاث أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ يعني ما عليك من حساب عملهم من شيء من ثواب أو عقاب‏.‏

‏{‏وَمَا مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ‏}‏ يعني وما من حساب عملك عليهم من شيء، لأن كل أحد مؤاخذ بحساب عمله دون غير، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ معناه ما عليك من حساب رزقهم وفقرهم من شيء‏.‏

والثالث‏:‏ ما عليك كفايتهم ولا عليهم كفايتك، والحساب الكفاية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَطَاءً حِسَاباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 36‏]‏ أي تاماً كافياً، قاله ابن بحر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ‏}‏ يعني لاختلافهم في الأرزاق، والأخلاق، والأحوال‏.‏

وفي إفتان الله تعالى لهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه ابتلاؤهم واختبارهم ليختبر به شكر الأغنياء وصبر الفقراء، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ تكليف ما يشق على النفس مع قدرتها عليه‏.‏

‏{‏لَّيَقُولُواْ أَهَؤُلآءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا‏}‏ وهذا قول الملأ من قريش للضعفاء من المؤمنين، وفيما مَنَّ الله تعالى به عليهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما تفضل الله به عليهم من اللطف في إيمانهم‏.‏

والثاني‏:‏ ما ذكره من شكرهم على طاعته‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بئَأَيَاتِنَا‏}‏ يعني به ضعفاء المسلمين وما كان من شأن عمر‏.‏

‏{‏فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أمر بالسلام عليهم من الله تعالى، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أمر بالسلام عليهم من نفسه تكرمة لهم، قاله بعض المتأخرين‏.‏

وفي السلام قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه جمع السلامة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه السلام هو الله ومعناه ذو السلام‏.‏

‏{‏كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه أوجب الله على نفسه‏.‏

والثاني‏:‏ كتب في اللوح المحفوظ على نفسه‏.‏

و ‏{‏الرَّحْمَةَ‏}‏ يحتمل المراد بها هنا وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ المعونة‏.‏

والثاني‏:‏ العفو‏.‏

‏{‏أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءَاً بِجَهَالَةٍ‏}‏ في الجهالة تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ الخطيئة، قاله الحسن، ومجاهد، والضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ ما جهل كراهية عاقبته، قاله الزجاج‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أن الجهالة هنا ارتكاب الشبهة بسوء التأويل‏.‏

‏{‏ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ‏}‏ يعني تاب من عمله الماضي وأصلح في المستقبل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 59‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏55‏)‏ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ‏(‏57‏)‏ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏58‏)‏ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَّبِّي‏}‏ في البينة هنا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الحق الذي بان له‏.‏

والثاني‏:‏ المُعْجِزُ في القرآن‏.‏

‏{‏وَكَذَّبْتُم بِهِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ وكذبتم بالبينة‏.‏

والثاني‏:‏ وكذبتم بربكم‏.‏

‏{‏مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يستعجلون به من العذاب الذي أُوعِدُوا به قبل وقته، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ‏}‏، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ ما استعجلوه من اقتراح الآيات لأنه طلب الشيء فى غير وقته، قاله الزجاج‏.‏

‏{‏إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ الحكم في الثواب والعقاب‏.‏

والثاني‏:‏ الحكم في تمييز الحق من الباطل‏.‏

‏{‏يَقُصُّ الْحَقَّ‏}‏ قرأ ابن كثير ونافع وعاصم ‏{‏يَقُصُّ‏}‏ بصاد غير معجمة من القَصَص وهو الإِخبار به، وقرأ الباقون ‏{‏يَقْضِي‏}‏ بالضاد معجمة من القضاء، وهو صنع الحق وإتمامه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ خزائن غيب السموات والأرض والأرزاق والأقدار، وهو معنى قول ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الوصول إلى العلم بالغيب‏.‏

‏{‏وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن ما في البّر ما على الأرض، وما في البحر ما على الماء، وهو الظاهر، وبه قال الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أن البَرّ القفر، والبحر القُرى لوجود الماء فيها، فلذلك سميت بحراً، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا‏}‏ يعني قبل يبسها وسقوطها‏.‏

‏{‏وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما في بطنها من بذر‏.‏

والثاني‏:‏ ما تخرجه من زرع‏.‏

‏{‏وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الرطب النبات واليابس الجواهر‏.‏

والثاني‏:‏ أن الرطب الحي، واليابس الميت‏.‏

‏{‏إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ‏}‏ يعني في اللوح المحفوظ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 62‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏60‏)‏ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ‏(‏61‏)‏ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيلِ‏}‏ يعني به النوم، لأنه يقبض الأرواح فيه عن التصرف، كما يقبضها بالموت، ومنه قول الشاعر‏:‏

إنَّ بَنِي الأَدْرَدِ لَيْسوا مِن أَحَدْ *** وَلاَ تَوَفَّاهُم قَرَيْشٌ في العَدَدْ

أي لا تقبضهم‏.‏

‏{‏وََيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ‏}‏ أي ما كسبتم لأنه مستفاد بعمل الجارحة، ومنه جوارح الطير لأنها كواسب بجوارحها، وجَرْحُ الشهادة هو الطَّعْن فيها لأنه مكسب الإثم، قاله الأعشى‏:‏

وهوَ الدَّافِعُ عن ذي كُرْبَةٍ *** أيْدِي القَوْمِ إذا الْجَانِي اجْتَرَحْ

‏{‏ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ‏}‏ يعني في النهار باليقظة، وتصرف الروح بعد قبضها بالنوم‏.‏

‏{‏لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمّىً‏}‏ يعني استكمال العمر وانقضاء الأجل بالموت‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ يعني بالبعث والنشور في القيامة‏.‏

‏{‏ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ في الدنيا من خير وشر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أعلى قهراً، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أن الأقدر إذا استحق صفة المبالغة عبَّر عنه بمثل هذه العبارة، فقيل‏:‏ هو فوقه في القدرة أي أقدر، وفوقه في العلم أي أعلم‏.‏

‏{‏وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه جوارحهم التي تشهد عليهم بما كانوا يعملون‏.‏

والثاني‏:‏ الملائكة‏.‏ ويحتمل ‏{‏حَفَظَةً‏}‏ وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ حفظ النفوس من الآفات‏.‏

والثاني‏:‏ حفظ الأعمال من خير وشر، ليكون العلم بإتيانها أزجر عن الشر، وأبعث على الخير‏.‏

‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ‏}‏ يعني أسباب الموت، بانقضاء الأجل‏.‏

فإن قيل‏:‏ المتولِّي لقبض الروح مَلَك الموت، وقد بين ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 11‏]‏ فكيف قال‏:‏ ‏{‏تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا‏}‏ والرسل جمع‏.‏

قيل‏:‏ لأن الله أعان مَلَك الموت بأعوان من عنده يتولون ذلك بأمره، فصار التوفِّي من فعل أعوانه، وهو مضاف إليه لمكان أمره، كما يضاف إلى السلطان فعل أعوانه من قتل، أو جلد، إذا كان عن أمره‏.‏

‏{‏وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يؤخرون‏.‏

الثاني‏:‏ لا يُضَيِّعُونَ، قاله ابن عباس‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُم الْحَقِّ‏}‏ وفي متولِّي لرد قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الملائكة التي توفتهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الله بالبعث والنشور‏.‏

وفي ردهم إلى الله وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه ردهم إلى تدبير الله وحده، لأن الله دبرهم عند خلقهم وإنشائهم، مكَّنهم من التصرف فصاروا في تدبير أنفسهم، ثم كَفَّهم عنه بالموت فصاروا في تدبير الله كالحالة الأولى، فصاروا بذلك مردودين إليه‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم ردوا إلى الموضع الذي لا يملك الحكم عليهم فيه إلا الله، فجعل الرد إلى ذلك الموضع رداً إليه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف قال‏:‏ ‏{‏مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ‏}‏ وقد قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 11‏]‏‏.‏ قيل‏:‏ عنه جوابان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قال هذا لأنهم دخلوا في جملة غيرهم من المؤمنين المردودين فعمَّهم اللفظ‏.‏

والثاني‏:‏ أن المولى قد يعبر به عن الناصر تارة وعن السيد أخرى، والله لا يكون ناصراً للكافرين، وهو سيد الكافرين والمؤمنين‏.‏

و ‏{‏الْحَقِّ‏}‏ هنا يحتمل ثلاثة أوجه‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الحق هو من أسمائه تعالى‏.‏

والثاني‏:‏ لأنه مستحق الرد عليه‏.‏

والثالث‏:‏ لحُكْمِهِ فيهم بالرد‏.‏

‏{‏أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ‏}‏ يعني القضاء بين عباده‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد جعل لغيره الحكم‏؟‏

فعنه جوابان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن له الحكم في يوم القيامة وحده‏.‏

والثاني‏:‏ أن غيره يحكم بأمره فصار الحكم له‏.‏

ويحتمل قوله‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ‏}‏ وجهاً ثانياً‏:‏ أن له أن يحكم لنفسه فصار بهذا الحكم مختصاً‏.‏

‏{‏وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني سرعة الحكم بين العباد لتعجيل الفصل، وعبر عن الحكم بالحساب من تحقيق المستوفِي بهما من قليل وكثير‏.‏

والثاني‏:‏ وهو الظاهر أنه أراد سرعة محاسبة العباد على أعمالهم‏.‏

ويحتمل مراده بسرعة حسابه وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ إظهار قدرته بتعجيل ما يعجز عنه غيره‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يبين به تعجيل ما يستحق عليه من ثواب، وتعجيل ما يستحق على غيره من عقاب جمعاً بين إنصافه وانتصافه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 65‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏63‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏64‏)‏ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن العذاب الذي من فوقهم الرجم، والذي من تحت أرجلهم الخسف، قاله ابن جبير، ومجاهد، وأبو مالك‏.‏

والثاني‏:‏ أن العذاب الذي من فوقهم أئمة السوء، والعذاب الذي من تحت أرجلهم عبيد السوء، قاله ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن الذي من فوقهم الطوفان، والذي من تحت أرجلهم الريح، حكاه علي بن عيسى‏.‏

ويحتمل أن العذاب الذي من فوقهم طوارق السماء التي ليست من أفعال العباد لأنها فوقهم، والتي من تحت أرجلهم ما كان من أفعال العباد لأن الأرض تحت أرجل جميعهم‏.‏

‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الأهواء المُخْتَلَقَة، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الفتن والاختلاف، قاله مجاهد‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أي يسلط عليكم أتباعكم الذين كانوا أشياعكم، فيصيروا لكم أعداء بعدما كانوا أولياء، وهذا من أشد الانتقام أن يستعلي الأصاغر على الأكابر‏.‏

روي أن موسى بن عمران عليه السلام دعا ربه على قوم فأوحى الله إليه‏:‏ أو ليس هذا هو العذاب العاجل الأليم‏.‏

هذا قول المفسرين من أهل الظاهر، وَتَأَوَّلَ بعض المتعمقين في غوامض المعاني ‏{‏عَذَاباً مِن فَوقِكُمْ‏}‏ معاصي السمع والبصر واللسان ‏{‏أَوْمِن تَحْتِ أَرْجلِكُمْ‏}‏ المشي إلى المعاصي حتى يواقعوها، وما بينهما يأخذ بالأقرب منهما ‏{‏أَوَيَلْبِسَكُمْ شِيَعاً‏}‏ يرفع من بينكم الأُلفة‏.‏

‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ تكفير أهل الأهوال بعضهم بعضاً، وقول الجمهور‏:‏ ‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ يعني بالحروب والقتل حتى يفني بعضهم بعضاً، لأنه لم يجعل الظفر لبعضهم فيبقى‏.‏

‏{‏انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ نفصل آيات العذاب وأنواع الانتقام‏.‏

والثاني‏:‏ نصرف كل نوع من الآيات إلى قوم ولا يعجزنا أن نجمعها على قوم‏.‏

‏{‏لَعَلَّهُم يَفْقَهُونَ‏}‏ أي يتعظون فينزجرون‏.‏

واختلف أهل التأويل في نزول هذه الآية على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها في أهل الصلاة، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، وأن نزولها شق على النبي صلى الله عليه وسلم، ‏[‏فقام‏]‏ فصلى صلاة الضحى وأطالها فقيل له‏:‏ ما أطلت صلاة كاليوم، فقال‏:‏ «إِنَّهَا صَلاَةُ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، إنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يُجِيرَنِي مِنْ أَرْبعٍ فَأَجَارَنِي مِنْ خَصْلَتِينِ وَلَمْ يُجِرْنِي مِنْ خَصْلَتَينِ‏:‏ سَأَلْتُهُ أَلاَّ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِعَذَابٍ مِنْ فَوقِهِم كَمَا فَعَلَ بِقَومِ نُوْحٍ، وَبِقَومِ لُوطٍ فَأَجَارَنِي، وَسَأَلْتُهُ أَلاَّ يَهْلِكَ أُمَّتِي بعذَاب مِنْ تَحْتِ أَرْجلِهِم كَمَا فَعَلَ بِقَارُونَ فَأَجَارنِي، وَسَأَلْتُهُ أََلاَّ يُفَرِّقَهُمْ شِيَعاً فَلَمْ يُجِرْنِي، وَسَأَلْتُهُ أَلاَّ يُذِيقَ بَعْضَهُم بَأْسَ بَعْضٍ فَلَمْ يُجِرْنِي» وَنَزَلَ عَلَيهِ قَولُه تعالى‏:‏ ‏{‏الم أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 221‏]‏

والقول الثاني‏:‏ أنها نزلت في المشركين، قاله بعض المتأخرين‏.‏