فصل: تفسير الآيات رقم (66- 69)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 69‏]‏

‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏66‏)‏ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏67‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏68‏)‏ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ‏}‏ وفيما كذَّبوا به قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه القرآن، قاله الحسن، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ تصريف الآيات، قاله بعض المتأخرين‏.‏

‏{‏وَهُوَ الْحَقُّ‏}‏ يعني ما كذَّبوا به، والفرق بين الحق والصواب أن الحق قد يُدْرَكُ بغير طلب، والصواب لا يُدْرَكُ إلا بطلب‏.‏

‏{‏قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ معناه لست عليكم بحفيظ لأعمالكم لأجازيكم عليها، وإنما أنا منذر، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ لست عليكم بحفيظ أمنعكم من أن تكفروا، كما يمنع الوكيل على الشيء من إلحاق الضرر به، قاله بعض المتأخرين‏.‏

والثالث‏:‏ معناه لست آخذكم بالإِيمان اضطراراً وإجباراً، كما يأخذ الوكيل بالشيء، قاله الزجاج‏.‏

‏{‏لِّكُلِ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه أن لكل خَبَرٍ أَخْبَرَ الله تعالى به من وعد أو وعيد مستقراً في مستقبل الوقت أو ماضيه أو حاضره في الدنيا وفي الآخرة، وهذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه وعيد من الله للكافرين في الآخرة لأنهم لا يقرون بالبعث، قاله الحسن‏.‏

والثالث‏:‏ أنه وعيد لهم بما ينزل بهم في الدنيا، قاله الزجاج‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ وما على الذين يتقون الله في أوامره ونواهيه من حساب الكفار فيما فعلوه من الاستهزاء والتكذيب مآثم يؤاخذون بها، ولكن عليهم أن يذكروهم بالله وآياته لعلهم يتقون ما هم عليه من الاستهزاء والتكذيب، قاله الكلبي‏.‏

والثاني‏:‏ وما على الذين يتقون الله من الحساب يوم القيامة ما على الكفار في الحساب من التشديد والتغليظ لأن محاسبة المتقين ذكرى وتخفيف، ومحاسبة الكفار تشديد وتغليظ لعلهم يتقون إذا علموا ذلك‏.‏

والثالث‏:‏ وما على الذين يتقون الله فيما فعلوه من رد وصد حساب، ولكن اعدلوا إلى الذكرى لهم بالقول قبل الفعل، لعلهم يتقون إذا علموا‏.‏

ويحتمل هذا التأويل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يتقون الاستهزاء والتكذيب‏.‏

والثاني‏:‏ يتقون الوعيد والتهديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الكفار الذين يستهزئون بآيات الله إذا سمعوها، قاله علي بن عيسى‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ليس قوم لهم عيد يلهون فيه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن أعيادهم صلاة وتكبير وبر وخير، قاله الفراء‏.‏

‏{‏وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه وغرتهم الحياة الدنيا بالسلامة فيها، ونيل المطلوب منها‏.‏

والثاني‏:‏ معناه وغرتهم الدنيا بالحياة والسلامة منها، فيكون الغرور على الوجه الأول بالحياة، وعلى الثاني بالدنيا‏.‏

‏{‏وَذَكَّرَ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ قيل معناه أن لا تبسل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏ بمعنى أن لا تضلوا‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏أَن تُبْسَلَ‏}‏ ستة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن تسلم، قاله الحسن، وعكرمة، ومجاهد، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أن تُحْبَس، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أن تُفْضح، قاله ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ أن تُؤْخَذ بما كسبت، قاله ابن زيد‏.‏

والخامس‏:‏ أن تُجْزَى، قاله الكلبي‏.‏

والسادس‏:‏ أن تُرْتَهن، قاله الفراء، من قولهم أسد باسل لأن فريسته مُرْتَهَنَة معه لا تَفْلِت منه، ومنه قول عوف بن الأحوص الكلابي‏:‏

وإبسالي بني بغير جرم *** بعوناه ولا بدم مراق

وقوله‏:‏ بعوناه أي جنيناه، وأصل الإبسال التحريم من قولهم‏:‏ شراب بَسْل اي حرام، قال الشاعر‏:‏

بَكَرت تَلُومُكَ بَعْدَ وَهْنٍ في النَّدى *** بسلٌ عليكِ مَلاَمَتِي وَعِتَابي

أي حرام عليك‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا‏}‏ تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه وإن تفد كل فدية من جهة المال والثروة، قاله قتادة، والسدي، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ من جهة الإِسلام والتوبة، قاله الحسن‏.‏

واختلف في نسخها على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ثابتة على جهة التهديد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 11‏]‏، قاله مجاهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 73‏]‏

‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏73‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا‏}‏ يعني الأصنام، وفي دعائها في هذا الموضع تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ عبادتها‏.‏

والثاني‏:‏ طلب النجاح منها‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف قال ولا يضرنا‏؟‏ ودعاؤها لما يستحق عليه من العقاب ضارٌّ‏؟‏

قيل‏:‏ معناه ما لا يملك لنا ضراً ولا نفعاً‏.‏

‏{‏وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ‏}‏ بالإِسلام‏.‏

‏{‏كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه استدعاؤها إلى قصدها واتباعها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيهِم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏ أي تقصدهم وتتبعهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنها أَمْرُهَا بالهوى‏.‏

وحكى أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وامرأته حين دعَوا ابنهما عبد الرحمن إلى الإِسلام والهدى أن يأتيهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ‏}‏ في الحق الذي خلق به السموات والأرض أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الحكمة‏.‏

والثاني‏:‏ الإِحسان إلى العباد‏.‏

والثالث‏:‏ نفس خلقها فإنه حق‏.‏

والرابع‏:‏ يعني بكلمة الحق‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يقول ليوم القيامة‏:‏ كن فيكون، لا يثنِّي إليه القول مرة بعد أخرى، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يقول للسموات كوني صوراً يُنْفَخ فيه لقيام الساعة، فتكون صوراً مثل القرآن، وتبدل سماءً أخرى، قاله الكلبي‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الصور قرن ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء، والثانية للإِنشاء علامة للانتهاء والابتداء، وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أن الصور جمع صورة تنفخ فيها روحها فتحيا‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه عائد إلى خلق السموات والأرض، والغيب ما يغيب عنكم، والشهادة ما تشاهدون‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عائد إلى نفخ الصور هو عالم الغيب والشهادة المتولي للنفخة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 79‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏74‏)‏ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ‏(‏75‏)‏ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ‏(‏76‏)‏ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ‏(‏77‏)‏ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏78‏)‏ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ ءَازَرَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدهما‏:‏ أن آزر اسم أبيه، قاله الحسن، والسدي، ومحمد بن إسحاق، قال محمد‏:‏ كان رجلاً من أهل كوتى قرية من سواد الكوفة‏.‏

والثاني‏:‏ أن آزر اسم صنم، وكان اسم أبيه تارح، قال مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنه ليس باسم، وإنما هو صفة سب بعيب، ومعناه معوج، كأنه عابه باعوجاجه عن الحق، قاله الفراء‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف يصح من إبراهيم- وهو نبي- سبَّ أباه‏؟‏

قيل‏:‏ لأنه سبّه بتضييعه حق الله تعالى، وحق الوالد يسقط في تضييع حق الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ‏}‏ ذلك وذاك وذا‏:‏ إشارات، إلا أن ذا لما قَرُبَ، وذلك لما بَعُد، وذاك لتفخيم شأن ما بَعُدَ‏.‏

وفي المراد بملكوت السموات والأرض خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه خلق السموات والأرض، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ مُلْك السموات والأرض‏.‏

واختلف من قال بهذا فيه على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الملكوت هو المُلْك بالنبطية، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه المُلْك بالعربية، يقال مُلْك وملكوت كما يقال رهبة ورهبوت، ورحمة ورحموت، والعرب تقول‏:‏ رهبوت خير من رحموت، أي أن نُرْهَب خير من أن نُرْحَم، قاله الأخفش‏.‏

والثالث‏:‏ معناه آيات السموات والأرض، قاله مقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ هو الشمس والقمر والنجوم، قاله الضحاك‏.‏

والخامس‏:‏ أن ملكوت السماوات‏:‏ القمر، والنجوم، والشمس، وملكوت الأرض‏:‏ الجبال، والشجر، والبحار، قاله قتادة‏.‏

‏{‏وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ من الموقنين لوحدانية الله تعالى وقدرته‏.‏

والثاني‏:‏ من الموقنين نبوته وصحة رسالته‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيلُ رَءَا كَوْكَباً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ ذكر لنا أنه رأى الزهرة طلعت عشاءً‏.‏

‏{‏قَالَ هَذَا رَبِّي‏}‏ ومعنى جَنَّ عليه الليل، أي ستره، ولذلك سمي البستان جَنَة لأن الشجر يسترها، والجِنُّ لاستتارهم عن العيون، والجُنُون لأنه يستر العقل، والجَنِين لأنه مستور في البطن، والمِجَنّ لأنه يستر المتترس، قال الهذلي‏:‏

وماء وردت قيل الكرى *** وقد جنه السدف الأدهم

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَذَا رَبِّي‏}‏ خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه قال‏:‏ هذا ربي في ظني، لأنه في حال تقليب واستدلال‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قال ذلك اعتقاداً أنه ربه، قاله ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه قال ذلك في حال الطفولية والصغر، لأن أمه ولدته في مغارة حذراً عليه من نمرود، فلما خرج عنه قال هذا القول قبل قيام الحجة عليه، لأنها حال لا يصح فيها كفر ولا إيمان، ولا يجوز أن يكون قال ذلك بعد البلوغ‏.‏

والرابع‏:‏ أنه لم يقل ذلك قول معتقد، وإنما قاله على وجه الإِنكار لعبادة الأصنام، فإذا كان الكوكب والشمس القمر وما لم تصنعه يد ولا عَمِلَه بشر لم تكن معبودة لزوالها، فالأصنام التي هي دونها أولى ألاّ تكون معبودة‏.‏

والخامس‏:‏ أنه قال ذلك توبيخاً على وجه الإِنكار الذي يكون معه ألف الاستفهام وتقديره‏:‏ أهذا ربي، كما قال الشاعر‏:‏

رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع *** فقلت وأنكرت الوجه هم هم

بمعنى أهم هم‏؟‏

‏{‏فَلَمَّا أَفَلَ‏}‏ أي غاب، قال ذو الرمة‏:‏

مصابيح ليست باللواتي يقودها *** نجوم ولا بالآفلات الدوالك

‏{‏قَالَ لاَ أُحِبُّ الأفِلِينَ‏}‏ يعني حُبَّ رَبٍّ معبود، وإلا فلا حرج في محبتهم غير حب الرب‏.‏

‏{‏فَلمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغاً‏}‏ أي طالعاً، وكذلك بزغت الشمس أي طلعت‏.‏

فإن قيل‏:‏ فَلِمَ كان أفولها دليلاً على أنه لا يجوز عبادتها وقد عبدها مع العلم بأفولها خلق من العقلاء‏؟‏ قيل لأن تغيرها بالأفول دليل على أنها مُدَبَّرة محدثة، وما كان بهذه الصفة استحال أن يكون إلهاً معبوداً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 83‏]‏

‏{‏وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏80‏)‏ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏81‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏82‏)‏ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلمٍ‏}‏ في الظلم ها هنا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الشرك، قاله ابن مسعود، وأُبَيّ بن كعب، روى ابن مسعود قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية شق على المسلمين فقالوا‏:‏ ما منَّا من أحد إلا وهو يظلم نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَيسَ كَمَا تَظُنُّونَ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لَقْمَانُ لابْنِه» ‏{‏يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الْشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه سائر أنواع الظلم‏.‏

ومن قال بهذا اختلفوا في عمومها وخصوصها على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها عامة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها خاصة‏.‏

واختلف من قال بتخصيصها فيمن نزلت على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن هذه الآية نزلت في إبراهيم خاصة وليس لهذه الأمة منها شيء، قاله علي كرّم الله وجهه‏.‏

والثاني‏:‏ أنها فيمن هاجر إلى المدينة، قاله عكرمة‏.‏

واختلفوا فيمن كانت هذه الآية جواباً منه على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه جواب من الله تعالى فصل به بين إبراهيم ومن حَاجّه من قومه، قاله ابن زيد، وابن إسحاق‏.‏

والثاني‏:‏ أنه جواب قومه لما سألهم ‏{‏أَيُّ الْفَرِيقَينِ أَحَقُّ بِالأمْنِ‏}‏‏؟‏ فأجاوبا بما فيه الحجة عليهم، قاله ابن جريج‏.‏

والثالث‏:‏ أنه جواب إبراهيم كما يسأل العالم نفسصه فيجيبها، حكاه الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَلْكَ جُجَّتُنآ ءَاتَينَاهآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ‏}‏ وفي هذه الحجة التي أوتيها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ قوله لهم‏:‏ ‏{‏أَتَعُْبدُونَ مِنْ دِونِ اللَّهِ مَا لاَ يمْلِكُ لَكُم ضَراً وَلاَ نَفْعاً‏}‏ أم تعبدون من يملك الضر والنفع‏؟‏ فقالوا‏:‏ مالك الضر والنفع أحق‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لما قال‏:‏ ‏{‏فَأَيُّ الْفَرِيقَينِ أَحَقُّ بِالأمْنِ‏}‏ عبادة إله واحد أم آلهة شتى‏؟‏ فقالوا‏:‏ عبادة إله واحد فأقروا على أنفسهم‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم لما قالوا لإِبراهيم ألا تخاف أن تخبلك آلهتنا‏؟‏ فقال‏:‏ أما تخافون أن تخبلكم آلهتكم بجمعكم للصغير مع الكبير في العبادة‏.‏

واختلفوا في سبب ظهور الحجَّة لإبراهيم على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الله تعالى أخطرها بباله حتى استخرجها بفكره‏.‏

والثاني‏:‏ أنه أمره بها ولقنه إياها‏.‏

‏{‏نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَشَاءُ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ عند الله بالوصول لمعرفته‏.‏

والثاني‏:‏ على الخلق بالاصطفاء لرسالته‏.‏

والثالث‏:‏ بالسخاء‏.‏

والرابع‏:‏ بحسن الخلق‏.‏

وفيه تقديم وتأخير، وتقديره‏:‏ نرفع من نشاء درجات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 90‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏84‏)‏ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏85‏)‏ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏86‏)‏ وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏87‏)‏ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏88‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلآءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ‏}‏ فيهم خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ فإن تكفر بها قريش فقد وكلنا بها الأنصار، قاله الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ فإن يكفر بها أهل مكة فقد وكلنا بها أهل المدينة، قاله ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ فإن تكفر بها قريش فقد وكلنا بها الملائكة، قاله أبو رجاء‏.‏

والرابع‏:‏ أنهم الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم الله تعالى من قبل بقوله‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ‏}‏، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

والخامس‏:‏ أنهم كل المؤمنين، قاله بعض المتأخرين‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا‏}‏ أي أقمنا بحفظها ونصرتها، يعني‏:‏ كتب الله وشريعة دينه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 92‏]‏

‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏91‏)‏ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ وما عظموه حق عظمته، قاله الحسن، والفراء، والزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ وما عرفوه حق معرفته، قاله أبو عبيدة‏.‏

والثالث‏:‏ وما وصفوه حق صفته، قاله الخليل‏.‏

والرابع‏:‏ وما آمنوا بأن الله على كل شيء قدير، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ‏}‏ يعني من كتاب من السماء‏.‏

وفي هذا الكتاب الذي أنكروا نزوله قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه التوراة، أنكر حبر اليهود فيما أنزل منها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى هذا الحبر اليهودي سميناً، فقال له‏:‏ «أَمَا تَقْرَءُونَ فِي التَّورَاةِ‏:‏ أَنَّ اللَّه يَبْغَضُ الحَبْرَ السَّمِينَ» فغضب من ذلك وقال‏:‏ ما أنزل الله على بشر من شيء، فتبرأت منه اليهود ولعنته، حكاه ابن بحر‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه القرآن أنكروه رداً لأن يكون القرآن مُنَزَّلاً‏.‏

وفي قائل ذلك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ قريش‏.‏

والثاني‏:‏ اليهود‏.‏

فرد الله تعالى عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى‏}‏ يعني التوراة لاعترافهم بنزولها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏نُوراً وَهُدىً لِّلنَّاسِ‏}‏ لأن المنزل من السماء لا يكون إلا نوراً وهدىً‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً‏}‏ يعني أنهم يخفون ما في كتابهم من بنوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصفته وصحة رسالته‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلَنَاهُ مُبَارَكٌ‏}‏ يعني القرآن، وفي ‏{‏مُبارَكٌ‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه العظيم البركة لما فيه من الاستشهاد به‏.‏

والثاني‏:‏ لما فيه من زيادة البيان لأن البركة هي الزيادة‏.‏

والثالث‏:‏ أن المبارك الثابت‏.‏

‏{‏مُّصَدِقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الكتب التي قبله من التوراة، والإِنجيل، وغيرهما، قاله الحسن البصري‏.‏

والثاني‏:‏ النشأة الثانية، قاله علي بن عيسى‏.‏

‏{‏وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى‏}‏ يعني أهل أم القرى، فحذف ذكر الأهل إيجازاً كما قال‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏

و ‏{‏أُمَّ الْقُرَى‏}‏ مكة وفي تسميتها بذلك أربعة أقاويل‏:‏-

أحدها‏:‏ لأنها مجتمع القرى، كما يجتمع الأولاد إلى الأم‏.‏

والثاني‏:‏ لأن أول بيت وضع بها، فكأن القرى نشأت عنها، قاله السدي‏.‏

والثالث‏:‏ لأنها معظمة كتعظيم الأم، قاله الزجاج‏.‏

والرابع‏:‏ لأن الناس يؤمونها من كل جانب، أي يقصدونها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هم أهل الأرض كلها‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ وفيما ترجع إليه هذه الكناية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ إلى الكتاب، وتقديره‏:‏ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بهذا الكتاب، قاله الكلبي‏.‏

والثاني‏:‏ إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وتقديره‏:‏ والذين يؤمنون بالآخرة، يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم لِمَا قد أظهر الله تعالى من معجزته وأَبَانَه الله من صدقه، قاله الفراء‏.‏

فإن قيل‏:‏ فيمن يؤمن بالآخرة من أهل الكتاب لا يؤمنون به‏؟‏ قيل‏:‏ لا اعتبار لإِيمانهم بها لتقصيرهم في حقها، فصاروا بمثابة من لم يؤمن بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 94‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏93‏)‏ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيهِ شَيْءٌ‏}‏ فيمن نزل فيه ذلك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه مسيلمة الكذاب، قاله عكرمة‏.‏

والثاني‏:‏ مسيلمة والعنسي، قاله قتادة‏.‏

وقد روى معمر عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ كَأَنَّ فِي يَديَّ سُوَارَينِ مِن ذَهبٍ، فَكَبُرَ عليَّ، فَأُوحِي إِلَيَّ أَنْ أَنْفُخَهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُ ذَلِكََ كَذَّابَ اليَمَامَةِ وَكَذَّابَ صَنْعَاءَ العَنَسِي

»‏.‏ ‏{‏وَمَن قَالَ سَأُنزِلَ مِثْلَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ من تقدم ذكره من مدعي الوحي والنبوة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه عبد الله بن سعد بن أبي سرح، قاله السدي، قال الفراء‏:‏ كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فإذا قال النبي‏:‏ ‏{‏غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ كتب ‏{‏سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ و‏{‏عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هُمَا سَوَاء» حتى أملى عليه ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِن طِينٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏خَلْقاً أَخَرَ‏}‏ فقال ابن أبي السرح‏:‏ ‏{‏فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَْحْسَنُ الْخَالِقِينَ‏}‏ تعجباً من تفصيل خلق الإِنسان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هَكَذَا نَزَلَتْ» فشك وارتد‏.‏

والثالث‏:‏ ما حكاه الحكم عن عكرمة‏:‏ أنها نزلت في النضر بن الحارث، لأنه عارض القرآن، لأنه قال‏:‏ والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، فاللاقمات لقماً‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ باسطوا أيديهم بالعذاب، قاله الحسن، والضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ باسطو أيديهم لقبض الأرواح من الأجساد، قاله الفراء‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ باسطوا أيديهم بصحائف الأعمال‏.‏

‏{‏أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ من أجسادكم عند معاينة الموت إرهاقاً لهم وتغليظاً عليهم، وإن كان إخراجها من فعل غيرهم‏.‏

والثاني‏:‏ أخرجوا أنفسكم من العذاب إن قدرتم، تقريعاً لهم وتوبيخاً بظلم أنفسهم، قاله الحسن‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أن يكون معناه خلصوا أنفسكم بالاحتجاج عنها فيما فعلتم‏.‏

‏{‏الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ‏}‏ والهون بالضم الهوان، قاله ذو الأصبع العدواني‏:‏

أذهب إليك أمي براعية *** ترعى المخاض ولا أغضي على الهون

وأما الهَوْن بالفتح فهو الرفق ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوناً‏}‏ يعني برفق وسكينة، قال الراجز‏:‏

هونكما لا يرد الدهر ما فاتا *** لا تهلكن أسى في أثر من ماتا

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ الفرادى الواحدان، ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ فرادى من الأعوان‏.‏

والثاني‏:‏ فرادى من الأموال‏.‏

‏{‏وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ‏}‏ يعني ما ملكناكم من الأموال، والتخويل تمليك المال، قال أبو النجم‏:‏

أعطى فلم يبخل ولم يبخل *** كوم الذرى من خول المخول

‏{‏وَمَا نَرَى مَعَكُم شُفعاءَكُمُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ آلهتهم التي كانوا يعبدونها، قاله الكلبي‏.‏

والثاني‏:‏ الملائكة الذين كانوا يعتقدون شفاعتهم، قاله مقاتل‏.‏

‏{‏الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني شفعاء، قاله الكلبي‏.‏

والثاني‏:‏ أى متحملين عنكم تحمل الشركاء عن الشركاء‏.‏

‏{‏لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تفرق جمعكم في الآخرة‏.‏

والثاني‏:‏ ذهب تواصلكم في الدنيا، قاله مجاهد‏.‏

ومن قرأ ‏{‏بَيْنَكُمْ‏}‏ بالفتح، فمعناه تقطع الأمر بينكم‏.‏

‏{‏وَضَلَّ عَنَكُم مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ من عدم البعث والجزاء‏.‏

والثاني‏:‏ من شفعائكم عند الله‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا‏}‏ خبر عن ماض، والمقصود منه الاستقبال‏؟‏

فعن ذلك جوابان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه يقال لهم ذلك في الآخرة فهو على الظاهر إخبار‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لتحققه بمنزلة ما كان، فجاز، وإن كان مستقبلاً أن يعبر عنه بالماضي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 97‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏95‏)‏ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏96‏)‏ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ فَالِقُ الْحَبِّ وَالْنُّوَى‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يعني فالق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة، قاله الحسن‏.‏ وقتادة، والسدي، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ أن الفلق الشق الذي فيهما، قال مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنه يعني خالق الحب والنوى، قاله ابن عباس‏.‏

وذكر بعض أصحاب الغوامض قولاً رابعاً‏:‏ أنه مُظْهِرُ ما في حبة القلب من الإخلاص، والرياء‏.‏

‏{‏يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الَحيِّ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يخرج السنبلة الحية من الحبة الميتة، والنخلة الحية من النواة الميتة، ويعني بإخراج الميت من الحي أن يخرج الحبة الميتة من السنبلة الحية، والنواة الميتة من النخلة الحية، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ أن يخرج الإِنسان من النطفة، والنطفة من الإِنسان، قاله ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، قاله الحسن‏.‏

وقد ذكرنا فيه احتمالاً، أنه يخرج الفَطِن الجَلْد من البليد العاجز، ويخرج البليد العاجز من الفَطِن الجَلْد‏.‏

‏{‏ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ‏}‏ أي تصرفون عن الحق‏.‏

‏{‏فَالِقُ الإِصْبَاحِ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ فالق الإِصباح، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إضاءة الفجر، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أن معناه خالق نور النهار، وهذا قول الضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ أن الإِصباح ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه سُمِّي سكناً لأن كل متحرك بالنهار يسكن فيه‏.‏

والثاني‏:‏ لأن كل حي يأوي فيه إلى مسكنه‏.‏

‏{‏وَالشَّمْسَ والْقَمَرَ حُسْبَاناً‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ معناه يجريان في منازلهما بحساب وبرهان فيه بدء ورد إلى زيادة ونقصان، قاله ابن عباس والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ أي جعلهما سبباً لمعرفة حساب الشهور والأعوام‏.‏

والثالث‏:‏ أي جعل الشمس والقمر ضياء، قاله قتادة، وكأنه أخذه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُرْسِلَ عَلَيهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَآءِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 40‏]‏ قال‏:‏ ناراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 99‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ‏(‏98‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِّن نَّفْسِ وَاحِدَةٍ‏}‏ يعني آدم عليه السلام‏.‏

‏{‏فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَودَعٌ‏}‏ فيه ستة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ فمستقر في الأرض ومستودع في الأصلاب، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ فمستقر في الرحم ومستودع في القبر، قاله ابن مسعود‏.‏

والثالث‏:‏ فمستقر في أرحام النساء ومستودع في أصلاب الرجال، قاله عطاء، وقتادة‏.‏

والرابع‏:‏ فمستقر في الدنيا ومستودع في الآخرة، قاله مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ فمستقر في الأرض ومستودع في القبر، قاله الحسن‏.‏

والسادس‏:‏ أن المستقر ما خُلِق، والمستودع ما لم يُخلق، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه رزق كل شيء من الحيوان‏.‏

والثاني‏:‏ نبات كل شيء من الثمار‏.‏

‏{‏فَأَخْرجْنَا مِنهُ خَضِراً‏}‏ يعني زرعاً رطباً بخلاف صفته عند بذره‏.‏

‏{‏نُّخْرِجُ مِنهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً‏}‏ يعني السنبل الذي قد تراكب حبه‏.‏

‏{‏وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيةٌ‏}‏ القنوان جمع قنو وفيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الطلع، قاله الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الجمار‏.‏

والثالث‏:‏ هي الأعذاق، قال امرؤ القيس

أثت أعاليه وآدت أصوله *** ومال بقنوان من البسر أحمرا

‏{‏دَانِيَةٌ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ دانية من المجتني لقصر نخلها وقرب تناولها، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ داينة بعضها من بعض لتقاربها، قاله الحسن‏.‏

‏{‏وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ‏}‏ يعني بساتين من أعناب‏.‏

‏{‏مُشْتَبِهاً وَغَيرَ مُتَشَابِهٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ مشتبها ورقه مختلفاً ثمره، قال قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ مشتبهاً لونه مختلفاً طعمه، قاله الكلبي‏.‏

‏{‏انظُرُواْ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي بالضم، وقرأ الباقون بالفتح، وفي اختلافه بالضم والفتح قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الثُّمُر بالضم جمع ثمار، وبالفتح جمع ثمرة، قاله علي بن عيسى‏.‏

والثاني‏:‏ أن الثُّمُر بالضم‏:‏ المال، وبالفتح‏:‏ ثمر النخل، قاله مجاهد، وأبو جعفر الطبري‏.‏

‏{‏وَيَنْعِهِ‏}‏ يعني نضجة وبلوغه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن المجوس نسبت الشر إلى إبليس، وتجعله بذلك شريكاً لله‏.‏

والثاني‏:‏ أن مشركي العرب جعلوا الملائكة بنات الله وشركاء له، قاله قتادة، والسدي، وابن زيد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ بَينَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ‏}‏ فَسَمَّى الملائكة لاختفائهم عن العيون جنة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه أطاعوا الشيطان في عبادة الأوثان حتى جعلوها شركاء لله في العبادة، قاله الحسن، والزجاج‏.‏

‏{‏وَخَلَقَهُمْ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه خلقهم بلا شريك ‏[‏له‏]‏، فَلِمَ جعلوا له في العبادة شريكاً‏؟‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه خلق من جعلوه شريكاً فكيف صار في العبادة شريكاً‏.‏

وقرأ يحيى بن يعمر ‏{‏وَخَلْقَهُمْ‏}‏ بتسكين اللام‏.‏ ومعناه أنهم جعلوا خلقهم الذي صنعوه بأيديهم من الأصنام لله شريكاً‏.‏

‏{‏وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ في خرقوا قراءتان بالتخفيف والتشديد، وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن معنى خرقوا كذبوا، قاله مجاهد، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد‏.‏

والثاني‏:‏ معناه وخلقوا له بنين وبنات، والخلق والخرق واحد، قاله الفراء‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن معنى القراءتين مختلف، وفي اختلافهما قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها بالتشديد على التكثير‏.‏

والثاني‏:‏ أن معناها بالتخفيف كذبوا، وبالتشديد اختلفوا‏.‏

والبنون قول النصارى في المسيح أنه ابن الله، وقول اليهود أن عزيراً ابن الله‏.‏

والبنات قول مشركي العرب في الملائكة أنهم بنات الله‏.‏

‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ بغير علم منهم أن له بنين وبنات‏.‏

والثاني‏:‏ بغير حجة تدلهم على أن له بنين وبنات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 103‏]‏

‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏102‏)‏ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ‏(‏103‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ‏}‏ فيه لأهل التأويل خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ معناه لا تحيط به الأبصار، وهو يحيط بالأبصار، واعتل قائل هذا بقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ‏}‏ فوصف الله الغرق بأنه أدرك فرعون، وليس الغرق موصوفاً بالرؤية، كذلك الإدراك هنا، وليس ذلك بمانع من الرؤية بالإِبصار، غير أن هذا اللفظ لا يقتضيه وإن دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏‏.‏

والقول الثاني‏:‏ معناه لا تراه الأبصار وهو يرى الأبصار، واعتل قائلو ذلك بأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الأبصار ترى ما بينها ولا ترى ما لاصقها، وما بين البصر فلا بد أن يكون بينهما فضاء، فلو رأته الأبصار لكان محدوداً ولخلا منه مكان، وهذه صفات الأجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان‏.‏

والثاني‏:‏ أن الأبصار تدرك الألوان كما أن السمع يدرك الأصوات، فلما امتنع أن يكون ذا لون امتنع أن يكون مرئياً، كما أن ما امتنع أن يكون ذا صوت امتنع أن يكون مسموعاً‏.‏

والقول الثالث‏:‏ لا تدركه أبصار الخلق في الدنيا بدليل قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَدْرِكُهُ الأَبْصَارُ‏}‏ وتدركه في الآخرة بدليل قوله‏:‏ ‏{‏إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 23‏]‏ وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة‏.‏

والرابع‏:‏ لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة، وتدركه أبصار المؤمنين، وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة، لأن الإِدراك له كرامة تنتفي عن أهل المعاصي‏.‏

والقول الخامس‏:‏ أن الأبصار لا تدركه في الدنيا والآخرة، ولكن الله يحدث لأوليائه حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس يرونه بها، اعتِلاَلاً بأن الله أخبر برؤيته، فلو جاز أن يُرَى في الآخرة بهذه الأبصار وإن زِيْدَ في قواها جاز أن يرى بها في الدنيا وإن ضعفت قواها بأضعف من رؤية الآخرة، لأن ما خُلِقَ لإِدراك شيء لا يُعْدَمُ إدراكه، وإنما يختلف الإِدراك بحسب اختلاف القوة والضعف، فلما كان هذا مانعاً من الإدراك- وقد أخبر الله تعالى بإدراكه- اقتضى أن يكون ما أخبر به حقاً لا يدفع بالشبه، وذلك بخلق حاسة أخرى يقع بها الإِدراك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ فاحتمل وجهين من التأويل‏:‏

أحدهما‏:‏ لطيف بعباده في الإِنعام عليهم، خبير بمصالحهم‏.‏

والثاني‏:‏ لطيف في التدبير خبير بالحكمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 105‏]‏

‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏104‏)‏ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن يتلو بعضها بعضاً فلا ينقطع التنزيل‏.‏

والثاني‏:‏ أن الآية تنصرف في معان متغايرة مبالغة في الإِعجاز ومباينة لكلام البشر‏.‏

والثالث‏:‏ أنه اختلاف ما تضمنها من الوعد والوعيد والأمر والنهي، ليكون أبلغ في الزجر، وأدعى إلى الإِجابة، وأجمع للمصلحة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ‏}‏ وفي الكلام حذف، وتقديره‏:‏ ولئلا يقولوا درست، فحذف ذلك إيجازاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 167‏]‏ أي لئلا تضلوا‏.‏

وفي ‏{‏دَرَسْتَ‏}‏ خمس قراءات يختلف تأويلها بحسب اختلافها‏:‏

إحداهن‏:‏ ‏{‏دَرَسْتَ‏}‏ بمعنى قرأت وتعلمت، تقول ذلك قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، والضحاك، وهي قراءة حمزة، والكسائي‏.‏

والثانية‏:‏ ‏{‏دَارَسْتَ‏}‏ بمعنى ذاكرت وقارأت، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، ومروي عن ابن عباس، وهي قراءة ابن كثير، وأبي عمرو‏.‏

وفيها على هذه القراءة تأويل ثانٍ، أنها بمعنى خاصمت وجادلت‏.‏

والثالثة‏:‏ ‏{‏دَرَسَتْ‏}‏ بتسكين التاء بمعنى انمحت وتقادمت، قاله ابن الزبير، والحسن، وهي قراءة ابن عامر‏.‏

والرابعة‏:‏ ‏{‏دُرِسَتْ‏}‏ بضم الدال لما لم يسم فاعله تليت وقرئت، قاله قتادة‏.‏

والخامسة‏:‏ ‏{‏دَرَسَ‏}‏ بمعنى قرأ النبي صلى الله عليه وسلم وتلا، وهذا حرف أبي بن كعب، وابن مسعود‏.‏

‏{‏وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْْلَمُونَ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لقوم يعقلون‏.‏

والثاني‏:‏ يعلمون وجوه البيان وإن لم يعلموا المبين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 108‏]‏

‏{‏اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏106‏)‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏107‏)‏ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دَونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوَاْ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ يعني اعتداء، وقرأ أهل مكة عَدُوّاً بالتشديد بمعنى أنهم اتخذوه عدوّاً‏.‏ وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا تسبوا الأصنام فتسب عبدة الأصنام من يسبها، قاله السدي‏.‏

والثاني‏:‏ لا تسبوها فيحملهم الغيظ والجهل على أن يسبوا من تعبدون كما سَبَبْتم ما يعبدون‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ كما زينا لكم فعل ما أمرناكم به من الطاعات كذلك زينا لمن تقدم من المؤمنين فعل ما أمرناهم به من الطاعات، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ كذلك شبهنا لكل أهل دين عملهم بالشبهات ابتلاء لهم حتى قادهم الهوى إليها وعَمُوا عن الرشد فيها‏.‏

والثالث‏:‏ كما أوضحنا لكم الحِجج الدالة على الحق كذلك أوضحنا لمن قبلكم من حِجج الحق مثل ما أوضحنا لكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 110‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏109‏)‏ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا‏}‏ هؤلاء قوم من مشركي أهل مكة حلفوا بالله لرسوله صلى الله عليه وسلم لئن جاءتهم آية اقترحوها ليؤمنن بها، قال ابن جريج‏:‏ هم المستهزئون‏.‏

واختلف في الآية التي اقترحوها على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن تجعل لنا الصفا ذهباً‏.‏

والثاني‏:‏ ما ذكره الله في آخر‏:‏ ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسِقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَينَا كِسَفَاً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏كِتَاباً نَقْرؤُهُ‏}‏ فأمر الله نبيه حين أقسموا له أن يقول لهم ‏{‏قُلْ إِنَّمَا الأَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏‏.‏

والثالث‏:‏ أنه لما نزل قوله تعالى في الشعراء‏:‏ ‏{‏إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُم لَهَا خَاضِعِينَ‏}‏ قال المشركون‏:‏ أنزلها علينا حتى نؤمن بها إن كنت من الصادقين، فقال المؤمنون‏:‏ يا رسول الله أنزلها عليهم ليؤمنوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، قاله الكلبي‏:‏

وليس يجب على الله إجابتهم إلى اقتراحهم لا سيما إذا علم أنهم لا يؤمنون بها، واختلف في وجوبها عليه إذا علم إيمانهم بها على قولين وقد أخبر أنهم لا يؤمنون بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُشْعُرِكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُم وَأَبْصَارَهُم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ وهذا من الله عقوبة لهم، وفيها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها عقوبة من الله في الآخرة يقلبها في النار‏.‏

والثاني‏:‏ في الدنيا بالحيرة حتى يزعج النفس ويغمها‏.‏

والثالث‏:‏ معناه أننا نحيط بذات الصدور وخائنة الأعين منهم‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أول مرة جاءتهم الآيات‏.‏

والثاني‏:‏ أن الأول أحوالهم في الدنيا كلها، ثم أكد الله تعالى حال عنتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

فقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً‏}‏ فيه قراءاتان‏:‏

إحداهما‏:‏ ‏{‏قِبَلا‏}‏ بكسر القاف وفتح الباء، قرأ بها نافع، وابن عامر، ومعنى ذلك معاينة ومجاهرة، قاله ابن عباس وقتادة‏.‏

والقراءة الثانية‏:‏ بضم القاف والباء وهي قراءة الباقين، وفي تأويلها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن القُبُل جمع قبيل وهو الكفيل، فيكون معنى ‏{‏قُبُلاً‏}‏ أي كُفَلاء‏.‏

والثاني‏:‏ أن معنى ذلك قبيلة قبيلة وصفاً صفاً، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ معناه مقابلة، قاله ابن زيد، وابن إسحاق‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ‏}‏ يعني بهذه الآيات مع ما اقترحوها من قبل‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يعينهم عليه‏.‏

والثاني‏:‏ إلا أن يشاء أن يجبرهم عليه، قاله الحسن البصري‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يجهلون فيما يقترحونه من الآيات‏.‏

والثاني‏:‏ يجهلون أنهم لو أجيبوا إلى ما اقترحوا لم يؤمنوا طوعاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 113‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏112‏)‏ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً‏}‏ أي جعلنا للأنبياء أعداء كما جعلنا لغيرهم من الناس أعداء‏.‏

وفي ‏{‏جَعَلْنَا‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه حكمنا بأنهم أعداء‏.‏

والثاني‏:‏ معناه تركناهم على العداوة، فلم نمنعهم منها‏.‏

وفي ‏{‏شَيَاطِينَ الإْنسِ وَالْجِنِّ‏}‏ ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يعني شياطين الإنس الذين مع الإنس، وشياطين الجن الذين مع الجن، قاله عكرمة، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ شياطين الإنس كفارهم، وشياطين الجن كفارهم، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أن شياطين الإنس والجن مردتهم، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

‏{‏يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ‏}‏ في يوحي ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني يوسوس بعضهم بعضاً‏.‏

والثاني‏:‏ يشير بعضهم إلى بعض، فعبر عن الإشارة بالوحي كقوله‏:‏ ‏{‏فَأَوْحَى إِلَيهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 11‏]‏ و‏{‏زُخْرُفَ الْقَوْلِ‏}‏ ما زينوه لهم من الشبه في الكفر وارتكاب المعاصي‏.‏

والثالث‏:‏ يأمر بعضهم بعضاً كقوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏ أي أمر‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما فعلوه من الكفر‏.‏

والثاني‏:‏ ما فعلوا من زخرف القول‏.‏

وفي تركهم على ذلك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ابتلاء لهم وتمييزاً للمؤمنين منهم‏.‏

والثاني‏:‏ لا يلجئهم إلى الإيمان فيزول التكليف‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ‏}‏ أي تميل إليه قلوبهم، والإصغاء‏:‏ الميل، قال الشاعر‏:‏

ترى السفيه به عن كل محكمة *** زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء

وتقدير الكلام، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ليغروهم ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، وقال قوم‏:‏ بل هي لام أمر ومعناها الخبر‏.‏

‏{‏وَلِيَرْضَوْهُ‏}‏ لأن من مَالَ قلبه إلى شيء رضيه وإن لم يكن مرضياً‏.‏

‏{‏وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُمْ مُّقْتَرِفُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ وليكتسبوا من الشرك والمعاصي ما هم مكتسبون، قاله جويبر‏.‏

والثاني‏:‏ وليكذبوا على الله ورسوله ما هم كاذبون، وهو محتمل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 115‏]‏

‏{‏أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏114‏)‏ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏115‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه هل يجوز لأحد أن يعدل عن حكم الله حتى أعدل عنه‏.‏

والثاني‏:‏ هل يجوز لأحد أن يحكم مع الله حتى أحتكم إليه‏.‏

والفرق بين الحَكَم والحَاكِم، أن الحَكَمَ هو الذي يكون أهلاً للحُكْم فلا يَحْكُمُ إلا بحق، والحَاكِمُ قد يكون من غير أهله فَيَحْكُمُ بغير حق، فصار الحَكَم من صفات ذاته، والحَاكِم من صفات فعله، فكان الحَكَم أبلغ في المدح من الحَاكِم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وُهُوَ الَّذِيِّ أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً‏}‏ في المفصَّل أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ تفصيل آياته لتبيان معانيه فلا تُشْكِل‏.‏

والثاني‏:‏ تفصيل الصادق من الكاذب‏.‏

والثالث‏:‏ تفصيل الحق من الباطل، والهدى من الضلال، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ تفصيل الأمر من النهي، والمستحب من المحظور، والحلال من الحرام‏.‏

وسبب نزول هذه الآية أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اجعل بيننا وبينك حَكَماً إن شئت من أحبار اليهود وإن شئت من أحبار النصارى، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك، فنزلت عليه هذه الآية‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتَ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً‏}‏ يعني القرآن، وفي تمامه أربعة أوجه محتملة‏:‏

أحدها‏:‏ تمام حُجَجِهِ ودلائله‏.‏

والثاني‏:‏ تمام أحكامه وأوامره‏.‏

والثالث‏:‏ تمام إنذاره بالوعد والوعيد‏.‏

والرابع‏:‏ تمام كلامه واستكمال صوره‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏صِدْقاً وَعَدْلاً‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ صدقاً في وعده ووعهده، وعدلاً في أمره ونهيه، قاله ابن بحر‏.‏

والثاني‏:‏ صدقاً فيما حكاه، عدلاً فيما قضاه، وهو معنى قول قتادة‏.‏

وقد مضى تفسير ‏{‏لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 120‏]‏

‏{‏وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏116‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏117‏)‏ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ‏(‏119‏)‏ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإْثْمِ وَبَاطِنهُ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ سره وعلانيته، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ ظاهر الإثم‏:‏ ما حرم من نكاح ذوات المحارم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وباطنه الزِّنى، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والثالث‏:‏ أن ظاهر الإثم أُوْلاَت الرايات من الزواني، والباطن ذوات الأخدان، لأنهن كُنَّ يستحللنه سراً، قاله السدي، والضحاك‏.‏

والرابع‏:‏ أن ظاهر الإثم العِرية التي كانو يعملون بها حين يطوفون بالبيت عراة، وباطنه الزِّنى، قاله ابن زيد‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ أن ظاهر الإثم ما يفعله بالجوارح، وباطنه ما يعتقده بالقلب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏121‏]‏

‏{‏وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ المراد بها ذبائح كانت العرب تذبحها لأوثانها، قاله عطاء‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الميتة، قاله ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه صيد المشركين الذين لا يذكرون اسم الله، ولا هم من أهل التسمية، يَحْرُمُ على المسلمين أن يأكلوه حتى يكونوا هم الذين صادوه، حكاه ابن بحر‏.‏

والرابع‏:‏ أنه ما لم يُسَمَّ اللَّهُ عند ذبحه‏.‏

وفي تحريم أكله ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ لا يحرم ‏[‏سواء‏]‏ تركها عامداً أو ناسياً، قاله الحسن، والشافعي‏.‏

والثاني‏:‏ يحرم إن تركها عامداً، ولا يحرم إن تركها ناسياً، قاله أبو حنيفة‏.‏

والثالث‏:‏ يحرم سواء تركها عامداً أو ناسياً، قاله ابن سيرين، وداود‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المراد به المعصية، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ المراد به الإِثم‏.‏

‏{‏وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوْحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ‏}‏ يعني المجادلة في الذبيحة، وفيها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه عنى بالشياطين قوماً من أهل فارس كتبوا إلى أوليائهم من قريش أن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، ولا يأكلون ما ذبح الله يعني الميتة، ويأكلون ما ذبحوه لأنفسهم، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، قاله عكرمة‏.‏

والثاني‏:‏ أن الشياطين قالوا ذلك لأوليائهم من قريش، قاله ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أن قوماً من اليهود قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مروي عن ابن عباس‏.‏ وفي وحيهم إليهم وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها إشارتهم‏.‏

والثاني‏:‏ رسالتهم‏.‏

‏{‏وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ‏}‏ يعني في أكل الميتة، إنكم لمشركون إن استحللتموها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ كان ميتاً حين كان نطفة فأحييناه بنفخ الروح ‏[‏فيه‏]‏، حكاه ابن بحر‏.‏

والثاني‏:‏ كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالهداية إلى الإيمان، حكاه ابن عيسى‏.‏

والثالث‏:‏ كان ميتاً بالجهل فأحييناه بالعمل، أنشدني بعض أهل العلم ما يدل على صحة هذا التأويل لبعض شعراء البصرة‏.‏

وفي الجهل قبل الموت لأهله *** فأجسامهم قبل القبور قبور

وإن امرءا لم يحيى بالعلم ميت *** فليس له حتى النشور نشور

‏{‏وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن النور القرآن، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ انه العلم الذي يهدي إلى الرشد‏.‏

والثالث‏:‏ أنه حُسْنُ الإيمان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ ينشر به ذكر دينه بين الناس في الدنيا حتى يصير كالماشي‏.‏

والثاني‏:‏ يهتدي به بين الناس إلى الجنة فيكون هو الماشي‏.‏

‏{‏كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الظلمات الكفر‏.‏

والثاني‏:‏ الجهل، وشبهه بالظلمة لأن صاحبه في حيرة تفضي به إلى الهلكة كحيرة الماشي في الظلمة‏.‏

واختلفوا في هذه الآية على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها على العموم في كل مؤمن وكافر، قاله الحسن وغيره من أهل العلم‏.‏

والثاني‏:‏ أنها على الخصوص في مُعَيَّن‏.‏

وفيمن تعين نزول ذلك فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المؤمن عمر بن الخطاب، والكافر أبو جهل، قاله الضحاك‏.‏ ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أن المؤمن عمار بن ياسر، والكافر أبو جهل، قاله عكرمة، والكلبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 124‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏123‏)‏ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ‏}‏ يعني علامة تدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وصحة رسالته‏.‏

‏{‏قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لن نؤمن بالآية‏.‏

والثاني‏:‏ لن نؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ مثل ما أوتي رسل الله من الكرامة‏.‏

الثاني‏:‏ مثل ما أوتوا من النبوة‏.‏

‏{‏اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ قصد بذلك أمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ تفرد الله تعالى بعلم المصلحة فيمن يستحق الرسالة‏.‏

والثاني‏:‏ الرد عليهم في سؤال ما لا يستحقونه، والمنع مما لا يجوز أن يسألوه‏.‏

‏{‏سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجرَمُواْ صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ الصَّغَار‏:‏ الذل سمي صَغَاراً لأنه يصغر إلى الإنسان نفسه‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ من عند الله، فحذف «من» إيجازاً‏.‏

والثاني‏:‏ أن أنفتهم من اتباع الحق صَغَار عند الله وذل إن كان عندهم تكبراً وعزاً، قاله الفراء‏.‏

والثالث‏:‏ صَغَار في الآخرة، قاله الزجاج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَمَن يُرِِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يهديه إلى نيل الثواب واستحقاق الكرامة‏.‏

والثاني‏:‏ يهديه إلى الدلائل المؤدية إلى الحق‏.‏

‏{‏يَشْرَحْ صدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ‏}‏ يعني بشرح الصدر سعته لدخول الأسلام إيه وثبوته فيه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَشَرْحْ لَكَ صَدْرَك‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏‏.‏

روى عمرو بن مرة عن أبي جعفر قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المؤمنين أكْيَس‏؟‏ قال‏:‏ «أَكْثَرُهُم ذِكْراً لِلْمَوتِ وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَاداً

» قال‏:‏ وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية‏:‏ قالوا‏:‏ كيف يشرح صدره يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «نُوْرٌ يُقْذَفُ فَيَنْشَرِحُ لَهُ وَيَنفَسِحُ» قالوا‏:‏ فهل لذلك أمارة يُعْرَفُ بها‏؟‏ قال‏:‏ «الإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرورِ وَالاسْتِعْدَادِ لِلْمَوتِ قَبْلَ لِقَاءِ المَوتِ» وروى ابن مسعود مثل ذلك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يضله عن الهداية إلى الحق‏.‏

والثاني‏:‏ عن نيل الثواب واستحقاق الكرامة‏.‏

‏{‏يَجْعَلُ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً‏}‏ يعني ضيقاً لا يتسع لدخول الإسلام‏.‏

‏{‏حَرَجاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن يكون شديد الصلابة حتى لا يثبت فيه شيء‏.‏

والثاني‏:‏ شديد الضيق حتى لا يدخله شيء‏.‏

والثالث‏:‏ أن موضعه مُبْيَض‏.‏

‏{‏كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ كأنه كُلِّف الصعود إلى السماء في امتناعه عليه وبعده منه‏.‏

والثاني‏:‏ كأنه لا يجد مسلكاً لضيق المسالك عليه إلا صعوداً في السماء يعجز عنه‏.‏

والثالث‏:‏ كأنه قلبه بالنبو عنه والنفور منه صاعداً إلى السماء‏.‏

والرابع‏:‏ كأن قلبه يصعد إلى السماء بمشقته عليه وصعوبته عنده‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ في الرجس خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه ما لا خير فيه، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه العذاب، قاله ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ السخط، قاله ابن بحر‏.‏

والرابع‏:‏ انه الشيطان، قاله ابن عباس‏.‏

والخامس‏:‏ أن الرجس والنجس واحد، وهو قول بعض نحويي الكوفة، وحكاه عَلِيُّ بن عيسى‏.‏

وقد روى قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل الخلاء قال‏:‏ «اللهم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْسِ وَالنَّجَسِ الهَبِيثِ الخَبِيثِ الشِّيْطَانِ الرَّجِيمِ

»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 127‏]‏

‏{‏وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهَذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً‏}‏ قد ذكرنا أن الصراط هو الطريق، ومنه قول عامر ابن الطفيل‏:‏

شحنا أرضهم بالخيل حتى *** تركناهم أذل من الصراط

وفيه ها هنا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يريد أن الإِسلام هو الصراط المستقيم إلى الله تعالى، قاله الكلبي‏.‏

والثاني‏:‏ يريد أن ما في القرآن من البيان هو الصراط المستقيم‏.‏

‏{‏قَدْ فَصَّلْنَا‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ بيَّنَّا‏.‏

والثاني‏:‏ ميَّزنا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَهُم دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ‏}‏ وهي الجنة، وفي تسميتها دار السلام وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأنها دار السلامة الدائمة من كل آفة، قاله الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أن السلام هو الله، والجنة داره، فلذلك سُمِّيَتْ دار السلام، وهذا معنى قول الحسن، والسدي‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏عِندَ رَبِّهِمْ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن دار السلام عند ربهم في الآخرة لأنها أخص به‏.‏

والثاني‏:‏ معناه أن لهم عن ربهم أن ينزلهم دار السلام‏.‏

‏{‏وُهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ وهو ناصرهم في الدنيا على إيمانهم‏.‏

والثاني‏:‏ وهو المتولِّي لثوابهم في الآخرة على أعمالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏128‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً‏}‏ يعني يحشر الجن والإنس جميعاً يوم القيامة‏.‏

‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنسِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ قد استكثرتم من إغوئهم وإضلالهم، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد‏.‏

والثاني قد استكثرتم من الإنس بإغوائكم لهم‏.‏

‏{‏وَقَالَ أَولِيَاؤُهُمْ مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَغْضٍ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏ أحدها‏:‏ معناه استمتع بعضنا بصحبة بعض في التعاون والتعاضد‏.‏

والثاني‏:‏ استمتع بعضنا ببعض فيما زينوه من اتباع الأهواء وارتكاب المعاصي‏.‏

والثالث‏:‏ أن الاستمتاع بهم ما كانوا عليه من التعوذ بهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ‏}‏، قال الحسن، وابن جريج‏.‏ ثم فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه استمتاع الإنس بالجن‏.‏

والثاني‏:‏ أنه استمتاع الإنس بعضهم ببعض‏.‏

وفيه وجه ثالث‏:‏ أن الإنس استمتعوا بالجن، والجن استمتعوا بالإنس في اعتقادهم أنهم يقدرون على النفع‏.‏

‏{‏وَبَلَغْنآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الموت، قاله الحسن، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ الحشر‏.‏

‏{‏قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ‏}‏ أي منزل إقامتكم، لأن المثوى الإقامة، ومنه قول الشاعر‏:‏

لقد كان في حول ثواءً ثويته *** تقضي لبانات وتسأم سائم

‏{‏خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ‏}‏ في ‏{‏إِلاَّ‏}‏ في هذا الموضوع ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها بمعنى لكن، قاله سيبويه‏.‏

والثاني‏:‏ أنها بمعنى سوى، قاله الفراء‏.‏

والثالث‏:‏ أنها مستعملة على حقيقتها، وهو قول الجمهور‏.‏

وفي هذا الاستثناء ثلاثة أقاويل‏.‏

أحدها‏:‏ أن مدة الاستثناء هي مدة العرض في القيامة وذلك ما بين بعثهم من قبورهم إلى حين مصيرهم إلى جهنم، فكأنه قال‏:‏ النار مثواكم خالدين فيها إلا هذه المدة التي ذكرها، فإنهم فيها غير خالدين في النار‏.‏

والثاني‏:‏ معناه خالدين فيها إلا ما شاء الله من تجديد جلودهم بعد إحراقها وتصريفهم في أنواع العذاب أو تركهم فيها على حالتهم الأولى، فيكون الاستثناء في صفة العذاب لا في الخلود في النار‏.‏

والثالث‏:‏ أنه جعل أمرهم في مبلغ عذابهم ومدته إلى مشيئته تعالى، قاله ابن عباس، قال‏:‏ ولا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً‏.‏