فصل: تفسير الآيات رقم (45- 50)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 50‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏45‏)‏ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ ‏(‏46‏)‏ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏47‏)‏ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ‏(‏48‏)‏ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏49‏)‏ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ادخلوها بسلامٍ آمنين‏}‏ في قوله ‏{‏بسلام‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ بسلامة من النار، قاله القاسم ابن يحيى‏.‏

الثاني‏:‏ بسلامة تصحبكم من كل آفة، قاله علي بن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ بتحية من الله لهم، وهو معنى قول الكلبي‏.‏

‏{‏آمنين‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ آمنين من الخروج منها‏.‏

الثاني‏:‏ آمنين من الموت‏.‏

الثالث‏:‏ آمنين من الخوف والمرض‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم مِنْ غِلٍّ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ نزعنا بالإسلام ما في صدورهم من غل الجاهلية، قاله علي بن الحسين‏.‏

الثاني‏:‏ نزعنا في الآخرة ما في صدورهم من غل الدنيا، قاله الحسن، وقد رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً‏.‏

‏{‏إخواناً عَلَى سُرُرٍ متقابلين‏}‏ في السرر وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه جمع أسرة هم عليها‏.‏

الثاني‏:‏ أنه جمع سرورهم فيه‏.‏

وفي ‏{‏متقابلين‏}‏ خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ متقابلين بالوجوه يرى بعضهم بعضاً فلا يصرف طرفه عنه تواصلاً وتحابياً، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ متقابلين بالمحبة والمودة، لا يتفاضلون فيها ولا يختلفون، قاله علي بن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ متقابلين في المنزلة لا يفضل بعضهم فيها على بعض لاتفاقهم على الطاعة واستهوائهم في الجزاء، قاله أبو بكر بن زياد‏.‏

الرابع‏:‏ متقابلين في الزيارة والتواصل، قاله قتادة‏.‏

الخامس‏:‏ متقابلين قد أقبلت عليهم الأزواج وأقبلوا عليهم بالود، حكاه القاسم‏.‏

قيل إن هذه الآية نزلت في العشرة من قريش‏.‏ وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير منهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏نَبِّئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم‏}‏ سبب نزولها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يضحكون، فقال‏:‏ «تضحكون وبين أيديكم الجنة والنار» فشق ذلك عليهم، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏نَبِّئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 56‏]‏

‏{‏وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ‏(‏51‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ‏(‏53‏)‏ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ‏(‏54‏)‏ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ‏(‏55‏)‏ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قالوا لا توجل‏}‏ أي لا تخف، ومنه قول معن بن أوس‏:‏

لعمرك ما أدري وأني لأوجل *** على أينا تعدو المنيةُ أوّلُ

‏{‏إنّا نبشِّرك بغلامٍ عليم‏}‏ أي بولد هو غلام في صغره، عليم في كبره، وهو إسحاق‏.‏

لقوله تعالى ‏{‏فضحكت فبشرناها بإسحاق‏}‏‏.‏

وفي ‏{‏عليم‏}‏ تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ حليم، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ عالم، قاله الجمهور‏.‏

فأجابهم عن هذه البشرى مستفهماً لها متعجباً منها ‏{‏قال أبَشّرتموني على أن مسنيَ الكبر‏}‏ أي علو السن عند الإياس من الولد‏.‏

‏{‏فبم تبشرونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قال ذلك استفهاماً لهم، هل بشروه بأمر الله‏؟‏ ليكون أسكن لنفسه‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قال ذلك تعجباً من قولهم، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏قالوا بشرناك بالحقّ‏}‏ أي بالصدق، إشارة منهم إلى أنه عن الله تعالى‏.‏

‏{‏فلا تكن مِنَ القانطين‏}‏ أي من الآيسين من الولد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 60‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏57‏)‏ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ‏(‏58‏)‏ إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏59‏)‏ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قالوا إنا أُرسلنا إلى قومٍ مجرمين إلاّ آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين‏}‏ آل لوط اتباعه ومؤمنو قومه، سمّاهم آلَهُ لنصرتهم له، وإيمانهم به، فاستثناهم من المجرمين المأمور بهلاكهم، فخرجوا بالاستثناء منهم‏.‏

ثم قال تعالى ‏{‏إلاّ امْراَته‏}‏ فكانت مستثناة من آل لوط ولاحقة بالمجرمين، لأن كل استثناء يعود إلى ما تقدمه فيخالفه في حكمه‏.‏ فإن عاد إلى إثبات كان الاستثناء نفياً، وإن عاد إلى نفي كان الاستثناء إثباتاً، فصارت امرأة لوط ملحقة بالمجرمين المهلكين‏.‏

ومثال هذا في الإقرار أن يقول له‏:‏ عليّ عشرة إلا سبعة إلا أربعة، فيكون عليه سبعة لأن الأربعة استثناء يرجع إلى السبعة التي قبلها، فصار الباقي منها ثلاثة‏.‏ وتصير الثلاثة الباقية هي الاستثناء الراجع إلى العشرة، فيبقى منها سبعة‏.‏

وهكذا في الطلاق لو قال لزوجته‏:‏ أنت طالق ثلاثاً أو اثنتين إلا واحدة طلقت ثنتين لأن الواحدة ترجع إلى الثنتين، فتبقى منها واحدة فتصير الواحدة هي القدر المستثنى من الثلاثة فيصير الباقي منها ثنتين وهكذا حكم قوله‏:‏ ‏{‏إلا امرأته‏}‏‏.‏ ‏{‏قدرنا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه قضينا، قاله النخعي‏.‏

الثاني‏:‏ معناه كتبنا، قاله علي بن عيسى‏.‏

‏{‏إنها لَمِنَ الغابرين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي من الباقين في العذاب مع المجرمين‏.‏

الثاني‏:‏ من الماضين بالعذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 66‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏(‏62‏)‏ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏63‏)‏ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏64‏)‏ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ‏(‏65‏)‏ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فأسرِ بأهلك بقطع مِن الليل‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ بآخر الليل، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ ببعض الليل، قاله مقاتل‏.‏

الثالث‏:‏ بظلمة الليل، قاله قطرب، ومنه قول الشاعر‏:‏

ونائحةٍ تنوحُ بقطع ليلٍ *** على رَجُلٍ بقارعةِ الصعيد

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقضينا إليه ذلك الأمر‏}‏ أي أوحينا إليه ذلك الأمر‏.‏

‏{‏أنّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ آخرهم‏.‏

الثاني‏:‏ أصلهم‏.‏

‏{‏مقطوع مصبحين‏}‏ أي يستأصلون بالعذاب عند الصباح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 72‏]‏

‏{‏وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ‏(‏68‏)‏ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏71‏)‏ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون‏}‏ لعمرك‏:‏ قسم فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه وعيشك، وهذا مروي عن ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ معناه وعملك، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ معناه وحياتك، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً وقال‏:‏ ما أقسم الله تعالى بحياة غيره‏.‏

الرابع‏:‏ وحقك، يعني الواجب على أمتك، والعمر الحق، ومنه قولهم‏:‏ لعمر الله، أي وحق الله‏.‏ وفي ‏{‏سكرتهم‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في ضلالتهم، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ في غفلتهم، قاله الأعمش‏.‏

وفي ‏{‏يعمهون‏}‏ أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه يترددون، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وأبو مالك‏.‏

الثاني‏:‏ يتمارون، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ يلعبون، قاله الأعمش‏.‏

الرابع‏:‏ يمنعون، قاله الكلبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 77‏]‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ‏(‏73‏)‏ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ‏(‏74‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ‏(‏75‏)‏ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ‏(‏76‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ في ذلك لآياتٍ للمتوسمين‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ للمتفرسين، قاله مجاهد‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثم تلا هذه الآية‏.‏‏.‏‏.‏

الثاني‏:‏ للمعتبرين، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ للمتفكرين، قاله ابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ للناظرين، قاله الضحاك‏.‏ قال زهير بن أبي سلمى‏:‏

وفيهن ملهى للصديق ومنظر *** أنيقٌ لعَيْنِ الناظر المتوسم

الخامس‏:‏ للمبصرين، قاله أبو عبيدة‏.‏ قال الحسن‏:‏ هم الذين يتوسمون الأمور فيعلمون أن الذي أهلك قوم لوط قادر على أن يهلك الكفار، ومنه قول عبدالله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

إني توسمت فيك الخير أعرِفُه *** والله يعلم أني ثابت البصر

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإنها لبسبيل مقيم‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ لهلاك دائم، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ لبطريق معلم، قاله مجاهد‏.‏ يعني بقوله ‏{‏وإنما‏}‏ أهل مدائن قوم لوط وأصحاب الأيكة قوم شعيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 79‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ‏(‏78‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ‏(‏79‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين‏}‏ يعني في تكذيب رسول الله إليهم وهو شعيب، لأنه بعثَ إلى أمتين، أصحاب الأيكة وأهل مدين‏.‏ فأما أهل مدين فأهلكوا بالصيحة، وأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة التي احترقوا بنارها، قاله قتادة‏.‏

وفي ‏{‏الأيكة‏}‏ ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الغيضة، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه االشجر الملتف، وكان أكثر شجرهم الدوم وهو المقل، وهذا قول ابن جرير، ومنه قول النابغة الذبياني‏:‏

تجلو بِقادِمَتَي حمامةِ أيكة *** بَرَداص أُسفَّ لثاثُهُ الإثمدِ

الثالث‏:‏ أن الأيكة اسم البلد، وليكة اسم المدينة بمنزلة بكة من مكة، حكاه ابن شجرة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فانتقمنا منهم وإنهما لبإمامٍ مبينٍ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ لبطريق واضح، قاله قتادة‏.‏ وقيل للطريق إمام لأن المسافر يأتم به حتى يصل إلى مقصده‏.‏

الثاني‏:‏ لفي كتاب مستبين، قاله السدي‏.‏ وإنما سمي الكتاب إماماً لتقدمه على سائر الكتب، وقال مؤرج‏:‏ هو الكتاب بلغة حِمْيَر‏.‏

ويعني بقوله ‏{‏وإنهما‏}‏ أصحاب الأيكة وقوم لوط‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 84‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏80‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏81‏)‏ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ ‏(‏82‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ‏(‏83‏)‏ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين‏}‏ وهم ثمود قوم صالح‏.‏ وفي ‏{‏الحجر‏}‏ ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الوادي، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها مدينة ثمود، قاله ابن شهاب‏.‏

الثالث‏:‏ ما حكاه ابن جرير أن الحجر أرض بين الحجاز والشام‏.‏

وروى جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ في غزاة تبوك بالحجر، فقال‏:‏ «هؤلاء قوم صالح أهلكهم الله إلاّ رجلاً كان في حَرَم الله، منعه حرمُ الله من عذاب الله»‏.‏ قيل‏:‏ يا رسول الله من هو‏؟‏ قال‏:‏ «أبو رغال

»‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وكانوا ينحتون مِنَ الجبال بيوتاً آمنين‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ آمنين أن تسقط عليهم‏.‏

الثاني‏:‏ آمنين من الخراب‏.‏

الثالث‏:‏ آمنين من العذاب‏.‏

الرابع‏:‏ آمنين من الموت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 86‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ‏(‏85‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فاصفح الصفح الجميل‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الإعراض من غير جزع‏.‏

الثاني‏:‏ أنه صفح المنكر عليهم بكفرهم، المقيم على وعظهم، قاله ابن بحر‏.‏

الثالث‏:‏ أنه العفو عنهم بغير توبيخ ولا تعنيف‏.‏

الرابع‏:‏ أنه الرضا بغير عتاب، قاله علي بن أبي طالب‏.‏

وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أمر بالصفح عنهم في حق الله تعالى، ثم نسخ بالسيف، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، «لقد أتيتكم بالذبح، وبعثت بالحصاد ولم أبعث بالزراعة» قاله عكرمة ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أمره بالصفح في حق نفسه فيما بينه وبينهم، قاله الحسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 88‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ‏(‏87‏)‏ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد آتيناك سبعاً مِن المثاني والقرآن العظيم‏}‏ فيه خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن السبع المثاني هي الفاتحة، سميت بذلك لأنها تثنى كلما قرئ القرآن وصُلّي، قاله الربيع بن أنس وأبو العالية والحسن‏.‏ وقيل‏:‏ لأنها يثني فيها الرحمن الرحيم، ومنه قول الشاعر‏:‏

نشدتكم بمنزل القرآن *** أمّ الكتاب السّبع من مثاني

ثُنِّين مِن آيٍ مِن القرآن *** والسبع سبع الطول الدواني

الثاني‏:‏ أنها السبع الطوَل‏:‏ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس، قاله ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ سميت المثاني لما تردد فيها من الأخبار والأمثال والعبر وقيل‏:‏ لأنها قد تجاوزت المائة الأولى إلى المائة الثانية‏.‏ قال جرير‏:‏

جزى الله الفرزدق حين يمسي *** مضيعاً للمفصل والمثاني

الثالث‏:‏ أن المثاني القرآن كله، قاله الضحاك، ومنه قول صفية بنت عبد المطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

فقد كان نوراً ساطعاً يهتدى به *** يخص بتنزيل المثاني المعظم

الرابع‏:‏ أن المثاني معاني القرآن السبعة أمر ونهي وتبشير وإنذار وضرب أمثال وتعديد نعم وأنباء قرون، قاله زياد بن أبي مريم‏.‏

الخامس‏:‏ أنه سبع كرامات أكرمه الله بها، أولها الهدى ثم النبوة، ثم الرحمةِ ثم الشفقة ثم المودة ثم الألفة ثم السكينة وضم إليها القرآن العظيم، قاله جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا تمدن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم‏}‏ يعني ما متعناهم به من الأموال‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏أزواجاً منهم‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم الأشباه، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم الأصناف قاله أبو بكر بن زياد‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم الأغنياء، قاله ابن أبي نجيح‏.‏

‏{‏ولا تحزن عليهم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا تحزن عليهم بما أنعمت عليهم في دنياهم‏.‏

الثاني‏:‏ لا تحزن بما يصيرون إليه من كفرهم‏.‏

‏{‏واخفض جناحك للمؤمنين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ اخضع لهم، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ معناه أَلِنْ جانبك لهم، قال الشاعر‏:‏

وحسبك فتيةٌ لزعيم قومٍ *** يمدّ على أخي سُقْم جَناحا

وروى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل به ضيف فلم يلق عنده أمراً يصلحه، فأرسل إلى رجل من اليهود يستسلف منه دقيقاً إلى هلال رجب، فقال‏:‏ لا إلاّ برهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أما والله إني لأمينٌ في السماء وأمين في الأرض، ولو أسلفني أو باعني لأدّيتُ إليه» فنزلت عليه ‏{‏لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 93‏]‏

‏{‏وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ‏(‏89‏)‏ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ‏(‏90‏)‏ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ ‏(‏91‏)‏ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏92‏)‏ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كما أنزلنا على المقتسمين‏}‏ فيهم سبعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى اقتسموا القرآن فجعلوه أعضاءً أي أجزاءً فآمنوا ببعض منها وكفروا ببعض، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم أهل الكتاب اقتسموا القرآن استهزاءً به، فقال بعضهم‏:‏ هذه السورة لي، وهذه السورة لك، فسموا مقتسمين، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم أهل الكتاب اقتسموا كتبهم، فآمن بعضهم ببعضها، وآمن آخرون منهم بما كفر به غيرهم وكفروا بما آمن به غيرهم، فسماهم الله تعالى مقتسمين، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ أنهم قوم صالح تقاسموا على قتله، فسموا مقتسمين، كما قال تعالى ‏{‏قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 49‏]‏ قاله ابن زيد‏.‏

الخامس‏:‏ أنهم قوم من كفار قريش اقتسموا طرق مكة ليتلقوا الواردين إليها من القبائل فينفروهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون، حتى لا يؤمنوا به، فأنزل الله تعالى عليهم عذاباً فأهلكهم، قاله الفراء‏.‏

السادس‏:‏ أنهم قوم من كفار قريش قسموا كتاب الله، فجعلوا بعضه شعراً وبعضه كهانة وبعضه أساطير الأولين، قاله قتادة‏.‏

السابع‏:‏ أنهم قوم أقسموا أيماناً تحالفوا عليها، قاله الأخفش‏.‏

وقيل إنهم العاص بن وائل وعبتة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث، وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين جعلوا القرآن عضين‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني فرقاً، فجعلوا بعضه شعراً، وبعضه سحراً، وبعضه كهانة، وبعضه أساطير الأولين، فجعلوه أعضاء كما يعضّى الجزور و‏{‏عضين‏}‏ جمع عضو، مأخوذ من عضَّيت الشيء تعضية إذا فرقته كما قال رؤبة بن العجاج‏:‏

وليس دينُ الله بالمعضى *** يعني بالمفرَّق، قاله ابن عباس والضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ أن العضين جمع عضه وهو البهت، ومن قولهم‏:‏ عضهتُ الرجل أعضهه عضهاً إذا بهتّه، لأنهم بهتوا كتاب الله تعالى فيما رموه به، قاله قتادة‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

إن العضيهة ليستْ فعل أحرار *** الثالث‏:‏ أن العضين المستهزئون، لأنه لما ذكر في القرآن البعوض والذباب والنمل والعنكبوت قال أحدهم‏:‏ أنا صاحب البعوض، وقال آخر‏:‏ أنا صاحب الذباب وقال آخر‏:‏ أنا صاحب النمل‏.‏ وقال آخر‏:‏ أنا صاحب العنكبوت، استهزاء منهم بالقرآن، قاله الشعبي والسدي‏.‏

الرابع‏:‏ أنه عنى بالعضه السحر، لأنهم جعلوا القرآن سحراً، قاله مجاهد، قال الشاعر‏:‏

لك من عضائهن زمزمة *** يعني من سحرهن‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ العضه السحر بلسان قريش يقولون للساحرة العاضهة، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن العاضهة والمستعضهه، يعني الساحرة والمستسحرة‏.‏

وفي اشتقاق العضين وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه مشتق من الأعضاء، وهو قول عبيدة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه مشتق من العضه وهو السحر، وهو قول الفراء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني عما كانوا يعبدون، قاله أبو العالية‏.‏

الثاني‏:‏ عما كانوا يعبدون، وماذا أجابوا المرسلين، رواه الربيع بن أنس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 99‏]‏

‏{‏فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏94‏)‏ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ‏(‏95‏)‏ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ‏(‏97‏)‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏98‏)‏ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ‏(‏99‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر‏}‏ فيه ستة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ فامضِ بما تؤمر، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ معناه فاظهر بما تُؤمر، قاله الكلبي‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ومَن صادعٌ بالحق يعدك ناطقٌ *** بتقوى ومَن إن قيل بالجوْر عيّرا

الثالث‏:‏ يعني إجهر بالقرآن في الصلاة، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ يعني أعلن بما يوحى إليك حتى تبلغهم، قاله ابن زيد‏.‏

الخامس‏:‏ معناه افرق بين الحق والباطل، قاله ابن عيسى‏.‏

السادس‏:‏ معناه فرق القول فيهم مجتمعين وفرادى، حكاه النقاش‏.‏

وقال رؤية‏:‏ ما في القرآن أعْرَبُ من قوله ‏{‏فاصدع بما تؤمر‏}‏ ‏{‏وأعرض عن الجاهلين‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه منسوخ بقوله تعالى ‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أعرض عن الاهتمام باستهزائهم‏.‏

الثالث‏:‏ معناه بالاستهانة بهم، قاله ابن بحر‏.‏

ثم فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ اصدع الحق بما تؤمر من اظهاره‏.‏

الثاني‏:‏ اصدع الباطل بما تؤمر من إبطاله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّا كفيناكَ المستهزئينَ‏}‏ وهم خمسة‏:‏ الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والحراث بن الطلاطلة‏.‏ أهلكهم الله جميعاً قبل بدر لاتسهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وسبب هلاكهم ما حكاه مقسم وقتادة أن الوليد بن المغيرة ارتدى فعلق سهم بردائه، فذهب فجلس فقطع أكحله فنزف فمات‏.‏ وأما العاص بن وائل فوطئ على شوكة، فتساقط لحمه عن عظامه، فمات، وأما أبو زمعة فعمى‏.‏ وأما الأسود بن عبد يغوث فإنه أتى بغصن شوك فأصاب عينيه، فسالت حدقتاه على وجهه، فكان يقول‏:‏ ‏[‏دعا‏]‏ عليّ محمد فاستجيب له، ودعوت عليه فاستجيب لي، دعا عليّ أن أعمى فعميت، ودعوت عليه أن يكون طريداً بيثرب، فكان كذلك، وأما الحارث بن الطلاطلة فإنه استسقى بطنه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل ‏[‏حين‏]‏ نزل عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كفيناك المستهزئين‏}‏ «دع لي خالي» يعني الأسود بن الطلاطلة فقال له‏:‏ كفيت‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك‏}‏ أي قلبك لأن الصدر محل القلب‏.‏

‏{‏بما يقولون‏}‏ يعني من الاستهزاء، وقيل من الكذب بالحق‏.‏

‏{‏فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الخاضعين‏.‏

الثاني‏:‏ المصلين‏.‏

‏{‏واعبد ربك حتى يأتيك اليقين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الحق الذي لا ريب فيه من نصرك على أعدائك، قاله شجرة‏.‏

الثاني‏:‏ الموت الذي لا محيد عنه، قاله الحسن ومجاهد وقتادة‏.‏

سورة النحل

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أمرُ الله فلا تستعجلوهُ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه بمعنى سيأتي أمر الله تعالى‏.‏

الثاني‏:‏ معناه دنا أمر الله تعالى‏.‏

الثالث‏:‏ أنه مستعمل على حقيقة إتيانه في ثبوته واستقراره‏.‏ وفي ‏{‏أمر‏}‏ أربعة أقاويل‏:‏ أحدها‏:‏ أنه إنذار رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله أبو مسلم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه فرائضه وأحكامه، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ أنه وعيد أهل الشرك ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قاله ابن جريج‏.‏

الرابع‏:‏ أنه القيامة، وهو قول الكلبي‏.‏ وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لما نزلت‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ رفعوا رؤوسهم فنزل ‏{‏فلا تستعجلوه‏}‏ أي فلا تستعجلوا وقوعه‏.‏

وحكى مقاتل بن سليمان أنه لما قرأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ نهض رسول الله خوفاً من حضورها حتى قرأ ‏{‏فلا تستعجلوه‏}‏‏.‏

ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ فلا تستعجلوا التكذيب فإنه لن يتأخر‏.‏

الثاني‏:‏ فلا تستعجلوا أن يتقدم قبل وقته، فإنه لن يتقدم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ينزل الملائكة بالروحِ من أمره على من يشاء من عبادِهِ‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن الروح ها هنا الوحي، وهو النبوة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه كلام الله تعالى وهو القرآن، قاله الربيع ابن أنس‏.‏

الثالث‏:‏ أنه بيان الحق الذي يجب اتباعه، قاله ابن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ أنها أرواح الخلق‏.‏ قال مجاهد لا ينزل ملك إلا ومعه روح‏.‏

الخامس‏:‏ أن الروح الرحمة، قاله الحسن وقتادة‏.‏

ويحتمل تأويلاً سادساً‏:‏ أن يكون الروح الهداية، لأنها تحيا بها القلوب كما تحيي الروح الأبدان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 7‏]‏

‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏3‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏4‏)‏ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ‏(‏6‏)‏ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الإنسان من نطفةٍ فإذا هو خصيم مبين‏}‏‏.‏

الخصيم المحتج في الخصومة، والمبين هو المفصح عما في ضميره‏.‏ وفي صفته بذلك ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ تعريف قدرة الله تعالى في إخراجه من النطفة المهينة إلى أن صار بهذه الحال في البيان والمكنة‏.‏

الثاني‏:‏ ليعرفه نعم الله تعالى عليه في إخراجه إلى هذه الحال بعدما خلقه من نطفة مهينة‏.‏

الثالث‏:‏ يعرفه فاحش ما ارتكب من تضييع النعمة بالخصومة في الكفر، قاله الحسن‏.‏ وذكر الكلبي أن هذه الآية نزلت في أُبي بن خلف الجمحي حين أخذ عظاماً نخرة فذراها وقال‏:‏ أنُعادُ إذا صرنا هكذا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والأنعام خلقها لكم فيها دفءٌ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه اللباس، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ ما ستدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ أن الدفء صغار أولادها التي لا تركب، حكاه الكلبي‏.‏ ‏{‏ومنافِعُ‏}‏ فيها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ النسل، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ يعني الركوب والعمل‏.‏ ‏{‏ومنها تأكلون‏}‏ يعني اللبن واللحم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الرواح من المراعي إلى الأفنية، والسراح انتشارها من الأفنية إلى المراعي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه على عموم الأحوال في خروجها وعودها من مرعى أو عمل أو ركوب وفي الجمال بها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ قول الحسن إذا رأوها‏:‏ هذه نَعَمُ فلان، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ توجه الأنظار إليها، وهو محتمل‏.‏

وقد قدم الرواح على السراح وإن كان بعده لتكامل درها ولأن النفس به أسَرُّ‏.‏ ‏{‏وتحمل أثقالكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بِشِقِّ الأنفس‏}‏ في البلد قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه مكة لأنها من بلاد الفلوات‏.‏

الثاني‏:‏ أنه محمول على العموم في كل بلد مسلكه على الظهر‏.‏

‏{‏إلا بشق الأنفس‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنكم لولاها ما بلغتموه إلا بشق الأنفس‏.‏

الثاني‏:‏ أنكم مع ركوبها لا تبلغونه إلا بشق الأنفس، فكيف بكم لو لم تكن‏.‏

وفي شق الأنفس وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ جهد النفس، مأخوذ من المشقة‏.‏

الثاني‏:‏ أن الشق النصف فكأنه يذهب بنصف النفس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ ويخلق ما لا تعلمُون‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ما لا تعلمون من الخلق، وهو قول الجمهور‏.‏

الثاني‏:‏ في عين تحت العرش، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها أرض بيضاء مسيرة الشمس ثلاثين يوماً‏.‏ مشحونة خلقاً لا يعلمون أن الله يعصى في الأرض، قالوا‏:‏ يا رسول الله فأين إبليس عنهم‏؟‏ قال «لا يعلمون أن الله خلق إبليس» ثم تلا ‏{‏ويخلق ما لا تعلمون‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 13‏]‏

‏{‏وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏9‏)‏ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ‏(‏10‏)‏ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏11‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏12‏)‏ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ وعلى الله قصد الحق في الحكم بين عباده ومنهم جائر عن الحق في حكمه‏.‏

الثاني‏:‏ وعلى الله أن يهدي إلى قصد الحق في بيان السبيل، ومنهم جائر عن سبيل الحق، أي عادل عنه لا يهتدي إليه‏.‏ وفيهم قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم أهل الأهواء المختلفة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ ملل الكفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 18‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏14‏)‏ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏15‏)‏ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏16‏)‏ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏17‏)‏ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الفلك مواخِرَ فيه‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن المواخر المواقر، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنها التي تجري فيه معترضة، قاله أبو صالح‏.‏

الثالث‏:‏ أنها تمخر الريح من السفن، قاله مجاهد‏:‏ لأن المخر في كلامهم هبوب الريح‏.‏

الرابع‏:‏ أنها تجري بريح واحدة مقبلة ومدبرة، قاله قتادة‏.‏

الخامس‏:‏ أنها التي تشق الماء من عن يمين وشمال، لأن المخر في كلامهم شق الماء وتحريكه قاله ابن عيسى‏.‏

‏{‏ولتبتغوا من فضله‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ بالتجارة فيه‏.‏

الثاني‏:‏ بما تستخرجون من حليته، وتأكلونه من لحومه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون‏}‏ في العلامات ثلاثة أقاويل‏:‏ أحدها‏:‏ أنها معالم الطريق بالنهار، وبالنجوم يهتدون بالليل، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنها النجوم أيضاً لأن من النجوم ما يهتدي بها، قاله مجاهد وقتادة والنخعي‏.‏

الثالث‏:‏ أن العلامات الجبال‏.‏ وفي ‏{‏النجم‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه جمع النجوم الثابتة، فعبر عنها بالنجم الواحد إشارة إلى الجنس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الجدي وحده لأنه أثبت النجوم كلها في مركزه‏.‏

وفي المراد بالاهتداء بها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أراد الاهتداء بها في جميع الأسفار، قاله الجمهور‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراد الاهتداء به في القِبلة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى ‏{‏وبالنجم هم يهتدون‏}‏ قال «هو الجدي يا ابن عباس عليه قبلتكم، وبه تهتدون في بركم وبحركم

»‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن تعدوا نعمة اللهِ لا تحصوها‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا تحفظوها، قال الكلبي‏.‏ الثاني‏:‏ لا تشكروها وهو مأثور‏.‏ ويحتمل المقصود بهذا الكلام وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون خارجاً مخرج الامتنان تكثيراً لنعمته أن تحصى‏.‏

الثاني‏:‏ أنه تكثير لشكره أن يؤدى‏.‏ فعلى الوجه الأول يكون خارجاً مخرج الامتنان‏.‏ وعلى الوجه الثاني خارجاً مخرج الغفران‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 24‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏19‏)‏ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏21‏)‏ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏22‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ‏(‏23‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإذَا قيل لهم ماذا أنزل ربُّكم‏}‏ يعني وإذا قيل لمن تقدم ذِكره ممن لا يؤمن بالآخرة وقلوبهم منكرة بالبعث‏.‏

‏{‏مَّاذَا أنزل ربكم‏}‏ يحتمل القائل ذلك لهم وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قول بعض لبعض، فعلى هذا يكون معناه ماذا نسب إلى إنزال ربكم، لأنهم منكرون لنزوله من ربهم‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أنه من قول المؤمنين لهم اختباراً لهم، فعلى هذا يكون محمولاً على حقيقة نزوله منه‏.‏

‏{‏قالوا أساطير الأولين‏}‏ وهذا جوابهم عما سئلوا عنه ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أي أحاديث الأولين استرذالاً له واستهزاءَ به‏.‏

الثاني‏:‏ أنه مثل ما جاء به الأولون، تكذيباً له ولجميع الرسل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ليحملوا أوزارهم‏}‏ أي أثقال كفرهم وتكذيبهم‏.‏

‏{‏كاملة يوم القيامة‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها لم تسقط بالتوبة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها لم تخفف بالمصائب‏.‏

‏{‏ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علمٍ‏}‏ يعني أنه قد اقترن بما حملوه من أوزارهم ما يتحملونه من أوزار من أضلوهم‏.‏

ويحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن المضل يتحمل أوزار الضال بإغوائه‏.‏

الثاني‏:‏ أن الضال يتحمل أوزار المضل بنصرته وطاعته‏.‏

ويحتمل قوله تعالى ‏{‏بغير علمٍ‏}‏ وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ بغير علم المضلّ بما دعا إليه‏.‏

الثاني‏:‏ بغير علم الضال بما أجاب إليه‏.‏

ويحتمل المراد بالعلم وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني أنهم يتحملون سوء أوزارهم لأنه تقليد بغير استدلال ولا شبهة‏.‏

الثاني‏:‏ أراد أنهم لا يعلمون بما تحملوه من أوزار الذين يضلونهم‏.‏

‏{‏ألا ساءَ ما يزرون‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني أنهم يتحملون سوء أوزارهم‏.‏

الثاني‏:‏ معناه أنه يسوؤهم ما تحملوه من أوزارهم‏.‏ فيكون على الوجه الأول معجلاً في الدنيا، وعلى الوجه الآخر مؤجلاً في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه هدم بنيانهم من قواعدها وهي الأساس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه مثل ضربه الله تعالى لاستئصالهم‏.‏

‏{‏فخرّ عليهم السقف من فوقهم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فخرّ أعالي بيوتهم وهم تحتها، فلذلك قال ‏{‏من فوقهم‏}‏ وإن كنا نعلم أن السقف عال إلا أنه لا يكون فوقهم إذ لم يكونوا تحته، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ يعني أن العذاب أتاهم من السماء التي هي فوقهم، قاله ابن عباس‏.‏

وفي الذين خر عليهم السقف من فوقهم ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه النمرود بن كنعان وقومه حين أراد صعود السماء وبنى الصرح‏.‏ فهدمه الله تعالى عليه، قاله ابن عباس وزيد بن أسلم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه بختنصر وأصحابه، قاله بعض المفسرين‏.‏

الثالث‏:‏ يعني المقتسمين الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الحجر، قاله الكلبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 32‏]‏

‏{‏الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏29‏)‏ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏30‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏31‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الَّذِين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏}‏ قال عكرمة‏:‏ نزلت هذه الآية في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا، فأخرجتهم قريش إلى بدر كرها، فقتلوا، فقال الله ‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة‏}‏ يعني بقبض أرواحهم‏.‏ ‏{‏ظالمي أنفسهم‏}‏ في مقامهم بمكة وتركهم الهجرة‏.‏ ‏{‏فألقوا السّلَمَ‏}‏ يعني في خروجهم معهم وفيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الصلح، قاله الأخفش‏.‏

الثاني‏:‏ الاستسلام، قاله قطرب‏.‏

الثالث‏:‏ الخضوع، قاله مقاتل‏.‏ ‏{‏ما كنا نعمل من سوء‏}‏ يعني من كفر‏.‏

‏{‏بَلَى إن الله عليمٌ بما كنتم تعملون‏}‏ يعني إن أعمالهم أعمال الكفار‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ ولدار الآخرة خيرٌ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الجنة خير من النار، وهذا وإن كان معلوماً فالمراد به تبشيرهم بالخلاص منها‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراد أن الآخرة خير من دار الدنيا، قاله الأكثرون‏.‏

‏{‏ولنعم دار المتقين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ولنعم دار المتقين الآخرة‏.‏ الثاني‏:‏ ولنعم دار المتقين الدنيا، قال الحسن‏:‏ لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة ودخول الجنة‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة طيبين‏}‏

قيل معناه صالحين‏.‏

ويحتمل طيبي الأنفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله تعالى‏.‏

ويحتمل وجهاً ثالثاً أن تكون وفاتهم وفاة طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم بخلاف ما تقبض عليه روح الكافر‏.‏

‏{‏يقولون سلام عليكم‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون السلام عليهم إنذاراً لهم بالوفاة‏.‏

الثاني‏:‏ أن يكون تبشيراً لهم بالجنة، لأن السلام أمان‏.‏

‏{‏ادخلوا الجنة‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون معناه أبشروا بدخول الجنة‏.‏

الثاني‏:‏ أن يقولوا ذلك لهم في الآخرة‏.‏

‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏ يعني في الدنيا من الصالحات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 42‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏33‏)‏ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏34‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏35‏)‏ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏36‏)‏ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏37‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏40‏)‏ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين هاجروا في الله من بَعْدِ ما ظُلِموا‏}‏ يعني من بعد ما ظلمهم أهل مكة حين أخرجوهم إلى الحبشة بعد العذاب والإبعاد‏.‏

‏{‏لنبوئنهم في الدنيا حسنة‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏ أحدها‏:‏ نزول المدينة، قاله ابن عباس والشعبي وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ الرزق الحسن، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه النصر على عدوهم، قاله الضحاك‏.‏

الرابع‏:‏ أنه لسان صدق، حكاه ابن جرير‏.‏ ويحتمل قولاً خامساً‏:‏ أنه ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات‏.‏

ويحتمل قولاً سادساً‏:‏ أنه ما بقي لهم في الدنيا من الثناء، وما صار فيها لأولادهم من الشرف‏.‏

وقال داود بن إبراهيم‏:‏ نزلت هذه الآية في أبي جندل بن سهل، وقال الكلبي‏:‏ نزلت في بلال وعمار وصهيب وخباب بن الأرتّ عذبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا في الدنيا، فلما خلوهم هاجروا إلى المدينة‏.‏

وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا دفع إلى المهاجرين العطاء قال‏:‏ هذا ما وعدكم الله في الدنيا، وما خولكم في الآخرة أكثر، ثم تلا عليهم هذه الآية‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏43‏)‏ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم‏}‏ هذا خطابٌ لمشركي قريش‏.‏

‏{‏فاسألوا أهل الذكر إن كنت لا تعلمون‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن أهل الذكر العلماء بأخبار من سلف من القرون الخالية الذين يعلمون أن الله تعالى ما بعث رسولاً إلا من رجال الأمة، وما بعث إليهم ملكاً‏.‏

الثاني‏:‏ أنه عنى بأهل الذكر أهل الكتاب خاصة، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم أهل القرآن، قاله ابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وأنزلنا إليك الذِّكر لتبين للناس ما نُزِّلَ إليهم‏}‏ تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه القرآن‏.‏ الثاني‏:‏ أنه العلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏45‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏46‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ في إقبالهم وإدبارهم، قاله ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ في اختلافهم، قاله ابن عباس‏.‏ الثالث‏:‏ بالليل والنهار، قاله ابن جريج‏.‏

الرابع‏:‏ في سفرهم‏.‏

‏{‏أو يأخذهم على تخوفٍ‏}‏ فيه ستة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني على تنقص بأن يهلك واحد بعد واحد فيخافون الفناء، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ على تقريع بما قدموه من ذنوبهم، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

الثالث‏:‏ على عجل، وهذا قول الليث‏.‏

الرابع‏:‏ أن يهلك القرية فتخاف القرية الأخرى، قاله الحسن‏.‏

الخامس‏:‏ أن يعاقبهم بالنقص من أموالهم وثمارهم، قاله الزجاج‏.‏ ‏{‏فإن ربكم لرءُوف رحيم‏}‏ أي لا يعاجل بل يمهل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 50‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏49‏)‏ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا ظِلالُهُ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يرجع ظلالُه، لأن الفيء الرجوع، ولذلك كان اسماً للظل بعد الزوال لرجوعه‏.‏

الثاني‏:‏ معناه تميل ظلاله، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ تدور ظلاله، قاله ابن قتيبة‏.‏

الرابع‏:‏ تتحول ظلاله، قاله مقاتل‏.‏

‏{‏عن اليمين والشمائل‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني تارة إلى جهة اليمين، وتارة إلى جهة الشمال، قاله ابن عباس‏.‏ لأن الظل يتبع الشمس حيث دارت‏.‏

الثاني‏:‏ أن اليمين أول النهار، والشمال آخر النهار، قاله قتادة والضحاك‏.‏

‏{‏سجداً لله‏}‏ فيه ثلاث تأويلات‏:‏

أحدهما‏:‏ أن ظل كل شيء سجوده، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أن سجود الظلال سجود أشخاصها، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ أن سجود الظلال كسجود الأشخاص تسجد لله خاضعة، قاله الحسن‏.‏ ومجاهد‏.‏

وقال الحسن‏:‏ أما ظلك فيسجد لله، وأما أنت فلا تسجد لله، فبئس والله ما صنعت‏.‏

‏{‏وهم داخرون‏}‏ أي صاغرون خاضعون، قال ذو الرمة‏:‏

فلم يبق إلا داخرُ في مخيس *** ومنحجر في غير أرضك حُجر

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة‏}‏ أما سجود ما في السموات فسجود خضوع وتعبد، وأما سجود ما في الأرض من دابة فيحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن سجوده خضوعه لله تعالى‏.‏

الثاني‏:‏ أن ظهور ما فيه من قدرة الله يوجب على العباد السجود لله سبحانه‏.‏

وفي تخصيص الملائكة بالذكر، وإن دخلوا في جملة من في السموات والأرض وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه خصهم بالذكر لاختصاصهم بشرف المنزلة فميزهم من الجملة بالذكر وإن دخلوا فيها‏.‏

الثاني‏:‏ لخروجهم من جملة من يدب، لما جعل الله تعالى لهم من الأجنحة فلم يدخلوا في الجملة، فلذلك ذكروا‏.‏

وجواب ثالث‏:‏ أن في الأرض ملائكة يكتبون أعمال العباد لم يدخلوا في جملة ملائكة السماء فلذلك أفردهم بالذكر‏.‏

‏{‏وهم لا يستكبرون‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يستكبرون عن السجود لله تعالى‏.‏

الثاني‏:‏ لا يستكبرون عن الخضوع لقدرة الله‏.‏

‏{‏يخافون رَبَّهم من فوقهم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني عذاب ربهم من فوقهم لأن العذاب ينزل من السماء‏.‏

الثاني‏:‏ يخافون قدرة الله التي هي فوق قدرتهم وهي في جميع الجهات‏.‏

‏{‏ويفعلون ما يؤمرون‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ من العبادة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ من الانتقام من العصاة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 55‏]‏

‏{‏وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏51‏)‏ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ‏(‏53‏)‏ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وله الدين واصباً‏}‏

في ‏{‏الدين‏}‏ ها هنا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الإخلاص، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الطاعة، قاله ابن بحر‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصباً‏}‏ أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ واجباً، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ خالصاً، حكاه الفراء والكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ مُتعِباً، والوصب‏:‏ التعب والإعياء، قال الشاعر‏:‏

لا يشتكي الساق مِن أين ولا وصَبٍ *** ولا يزال أمام القوم يقتَفِرُ

الرابع‏:‏ دائماً، قاله الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك، ومنه قوله تعالى ‏{‏ولهم عذاب واصب‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 9‏]‏ أي دائم، وقال الدؤلي‏:‏

لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه *** يوماً بذم الدهر أجمع واصبا

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ ثم إذا مَسّكُم الضُّرُّ فإليه تجأرون‏}‏

في ‏{‏الضر‏}‏ ها هنا ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه القحط، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ الفقر، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ السقم، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏فإليه تجأرون‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ تضجون، قاله ابن قتيبة‏.‏

الثاني‏:‏ تستغيثون‏.‏

الثالث‏:‏ تضرعون بالدعاء، وهو في اللغة الصياح مأخوذ من جؤار الثور وهو صياحه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 60‏]‏

‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ‏(‏56‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏58‏)‏ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏59‏)‏ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذا بُشِّر أحَدُهُم بالأنثى ظلَّ وجهُهُ مسودّاً وهو كظيمٌ‏}‏ في قوله ‏{‏مسودّاً‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ مسود اللون، قاله الجمهور‏.‏ الثاني‏:‏ متغير اللون بسواد أو غيره، قاله مقاتل‏.‏ الثالث‏:‏ ان العرب تقول لكل من لقي مكروهاً قد اسودّ وجهه غماً وحزناً، قاله الزجاج‏.‏

ومنه‏:‏ سَوَّدْت وجه فلان، إذا سُؤتَه‏.‏

‏{‏وهو كظيم‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أن الكظيم الحزين، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الذي يكظم غيظه فلا يظهر، قاله الأخفش‏.‏

الثالث‏:‏ أنه المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلم من الفم، مأخوذ من الكظامة وهو سد فم القربة، قاله ابن عيسى‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ أيمسكُهُ على هُونٍ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ هو الهوان بلغة قريش، قاله اليزيدي‏.‏

الثاني‏:‏ هو القليل بلغة تميم، قاله الفراء‏.‏

الثالث‏:‏ هو البلاء والمشقة، قاله الكسائي‏.‏ قالت الخنساء‏:‏

نهينُ النفوس وهون النفو *** س يوم الكريهة أبقى لها

‏{‏أم يدُسُّهُ في التراب‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الموءُودة التي تدس في التراب قتلاً لها‏.‏

الثاني‏:‏ أنه محمول على إخفائه عن الناس حتى لا يعرفوه كالمدسوس في التراب لخفائه عن الأبصار‏.‏ وهو محتمل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ صفة السوء من الجهل والكفر‏.‏

الثاني‏:‏ وصفهم الله تعالى بالسوء من الصاحبة والولد‏.‏

‏{‏ولله المَثلُ الأعلى‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الصفة العليا بأنه خالق ورزاق وقادر ومُجازٍ‏.‏ الثاني‏:‏ الإخالص والتوحيد، قاله قتادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 62‏]‏

‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم‏}‏ يعني في الدنيا بالانتقام لأنه يمهلهم في الأغلب من أحوالهم‏.‏

‏{‏ما ترك عليها من دابّةٍ‏}‏ يعني بهلاكهم بعذاب الاستئصال من أخذه لهم بظلمهم‏.‏ ‏{‏ولكن يؤخرهم إلى أجلٍ مسمى‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إلى يوم القيامة‏.‏

الثاني‏:‏ تعجيله في الدنيا‏.‏ فإن قيل‏:‏ فكيف يعمهم بالهلاك مع أن فيهم مؤمناً ليس بظالم‏؟‏ فعن ذلك ثلاثة أجوبة‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يجعل هلاك الظالم انتقاماً وجزاء، وهلاك المؤمن معوضاً بثواب الآخرة‏.‏

الثاني‏:‏ ما ترك عليها من دابة من أهل الظلم‏.‏

الثالث‏:‏ يعني أنه لو أهلك الآباء بالكفر لم يكن الأبناء ولا نقطع النسل فلم يولد مؤمن‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ويجعلون لله ما يكرهون‏}‏ يعني من البنات‏.‏ ‏{‏وتصف ألسنتهم الكذب أنّ لهم الحُسنَى‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن لهم البنين مع جعلهم لله ما يكرهون من البنات، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ معناه أن لهم من الله الجزاء الحسن، قاله الزجاج‏.‏ ‏{‏لا جرم أن لهم النار‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه حقاً أن لهم النار‏.‏ الثاني‏:‏ معناه قطعاً أن لهم النار‏.‏

الثالث‏:‏ اقتضى فعلهم أن لهم النار‏.‏

الرابع‏:‏ معناه بلى إن لهم النار، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏وأنهم مفرطون‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ معناه منسيون، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ مضيّعون، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ مبعدون في النار، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الرابع‏:‏ متروكون في النار، قاله الضحاك‏.‏

الخامس‏:‏ مقدَّمون إلى النار، قاله قتادة‏.‏ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنا فَرَطكم على الحوض» أي متقدمكم، وقال القطامي‏:‏

فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا *** كما تعجّل فرّاطٌ لوُرّادِ

والفرّاط‏:‏ المتقدمون في طلب الماء، والورّاد‏:‏ المتأخرون‏.‏

وقرأ نافع ‏{‏مُفْرِطون‏}‏ بكسر الراء وتخفيفها، ومعناه مسرفون في الذنوب، من الإفراط فيها‏.‏

وقرأ الباقون من السبعة ‏{‏مفرطون‏}‏ أي معجلون إلى النار متروكون فيها‏.‏

وقرأ أبو جعفر القارئ ‏{‏مفَرِّطون‏}‏ بكسر الراء وتشديدها، ومعناه من التفريط في الواجب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 67‏]‏

‏{‏تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏64‏)‏ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏65‏)‏ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ‏(‏66‏)‏ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بُطونه‏}‏ أي نبيح لكم شرب ما في بطونه، فعبر عن الإباحة بالسقي‏.‏

‏{‏مِن بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ خالصاً من الفرث والدم‏.‏

الثاني‏:‏ أن المراد من الخالص هنا الأبيض، قاله ابن بحر ومنه قول النابغة‏:‏

يصونون أجساداً قديمها نعيمُها *** بخالصةِ الأردان خُضْر المناكب

فخالصة الأردان أي بيض الأكمام، وخضر المناكب يعني من حمائل السيوف‏.‏ ‏{‏سائغاً للشاربين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ حلال للشاربين‏.‏

الثاني‏:‏ معناه لا تعافه النفس‏.‏ وقيل‏:‏ إنه لا يغص أحد باللبن‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن ثَمَرات النخيل والأعناب تتخذون منه سَكراً ورزقاً حسَناً‏}‏ فيها أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن السكر الخمر، والرزق الحسن التمر والرطب والزبيب‏.‏ وأنزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ثم حرمت من بعد‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ السَّكر ما حرم من شرابه، والرزق الحسن ما حل من ثمرته، وبه قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير ومن ذلك قول الأخطل‏:‏

بئس الصُّحاة وبئس الشرب شربهم *** إذا جرى فيهم المزاءُ والسكُرُ

والسكر‏:‏ الخمر، والمزاء‏:‏ نوع من النبيذ المسكر‏.‏

واختلف من قال بهذا هل خرج مخرج الإباحة أو مخرج الخبر على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه خرج مخرج الإباحة ثم نسخ‏.‏ قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه خرج مخرج الخبر أنهم يتخذون ذلك وإن لم يحل، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أن السّكَر‏:‏ النبيذ المسكر، والرزق الحسن التمر والزبيب، قاله الشعبي والسدي‏.‏

وجعلها أهل العراق دليلاً على إباحة النبيذ‏.‏

الثالث‏:‏ أن السكر‏:‏ الخل بلغة الحبشة، الرزق الحسن‏:‏ الطعام‏.‏

الرابع‏:‏ أن السكر ما طعم من الطعام وحل شربه من ثمار النخيل والأعناب وهو الرزق الحسن، وبه قال أبو جعفر الطبري وأنشد قول الشاعر‏:‏

وَجَعلت عيب الأكرمين سكرا‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 69‏]‏

‏{‏وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ‏(‏68‏)‏ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وأوحى ربك إلى النحل‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الوحي إليها هو إلهاماً، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ يعني أنه سخرها، حكاه ابن قتيبة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه جعل ذلك في غرائزها بما يخفى مثله على غيرها، قاله الحسن‏.‏

‏{‏أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشُون‏}‏ فذكر بيوتها لما ألهمها وأودعه في غرائزها من صحة القسمة وحسن المنعة‏.‏

‏{‏ومما يعرشون‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الكرم، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ ما يبنون، قاله أبو جعفر الطبري‏.‏

‏{‏ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك‏}‏ أي طرق ربك‏.‏

‏{‏ذللاً‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ مذللة، قاله أبو جعفر الطبري‏.‏

الثاني‏:‏ مطيعة، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أي لا يتوعر عليها مكان تسلكه، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ أن الذلل من صفات النحل وأنها تنقاد وتذهب حيث شاء صاحبها لأنها تتبع أصحابها حيث ذهبوا، قاله ابن زيد‏.‏

‏{‏يخرج من بطونها شرابٌ‏}‏ يعني العسل‏.‏

‏{‏مختلف ألوانُهُ‏}‏ لاختلاف أغذيتها‏.‏ ‏{‏فيه شفاءٌ للناس‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن ذلك عائد إلى القرآن، وأن في القرآن شفاء للناس أي بياناً للناس، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أن ذلك عائد إلى الاعتبار بها أن فيه هدى للناس، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ أن ذلك عائد إلى العسل، وأن في العسل شفاء للناس، قاله ابن مسعود وقتادة‏.‏ روى قتادة قال‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أن أخاه اشتكى بطنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اذهب فاسق أخاك عسلاً» ثم جاء فقال‏:‏ ما زاده إلا شدة‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «اذهب فاسق أخاك عسلاً»‏.‏ ثم جاء فقال له‏:‏ ما زاده إلا شدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اذهب فاسق أخاك عسلاً، صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه فكأنه نشط من عِقال

»

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومنكم من يرد إلى أرذل العُمرِ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏ أحدها‏:‏ أوضعه وأنقصة، قاله الجمهور‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الهرم، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ ثمانون سنة، حكاه قطرب‏.‏

الرابع‏:‏ خمس وسبعون سنة، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏ ‏{‏لكيلا يعلم بعد عِلْمٍ شيئاً‏}‏ يعني أنه يعود جاهلاً لا يعلم شيئاً كما كان في حال صغره‏.‏

أو لأنه قد نسي ما كان يعلم، ولا يستفيد ما لا يعلم‏.‏

ويحتمل وجهاً ثالثاً‏:‏ أن يكون معناه لكي لا يعمل بعد علم شيئاً، فعبر عن العمل بالعلم لافتقاره إليه، لأن تأثير الكبر في عمله أبلغ من تأثيره في علمه‏.‏