فصل: تفسير الآية رقم (71)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والله فضل بعضكم على بعض في الرزق‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه أغنى وأفقر، ووسّع وضيّق‏.‏

الثاني‏:‏ في القناعة والرغبة‏.‏

الثالث‏:‏ في العلم والجهل‏.‏ قال الفضيل بن عياض‏:‏ أجلُّ ما رزق الإنسان معرفة تدله على ربه، وعقل يدله على رشده‏.‏

وفي التفضيل وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه فضل السادة على العبيد، قاله ابن قتيبة ومن يرى أن التفضيل في المال‏.‏

الثاني‏:‏ أنه فضل الأحرار بعضهم على بعض، قاله الجمهور‏.‏

‏{‏فما الذين فُضِّلُوا بِرادِّي رزقهم على ما ملكت أيمانُهم فهم فيه سواء‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن عبيدهم لما لم يشركوهم في أموالهم لم يجز لهم أن يشاركوا الله تعالى في ملكه، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وفي هذا دليل على أن العبد لا يملك‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم وعبيدهم سواء في أن الله تعالى رزق جميعهم، وأنه لا يقدر أحد على رزق عبده إلا أن يرزقه الله تعالى إياه كما لا يقدر أن يرزق نفسه، حكاه ابن عيسى‏.‏

‏{‏أفبنعمة الله يجحدون‏}‏ وفيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ بما أنعم الله عليهم من فضله ورزقه ينكرون‏.‏

الثاني‏:‏ بما أنعم الله عليهم من حججه وهدايته يضلون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والّلهُ جَعَل لكُم مِن أنفسِكم أزواجاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ يعني جعل لكم من جنسكم مثلكم، فضرب المثل من أنفسكم، قاله ابن بحر‏.‏ الثاني‏:‏ يعني آدم خلق منه حوّاء، قاله الأكثرون‏.‏ ‏{‏وجعل لكم مِن أزواجكم بنين وحفدة‏}‏ وفي الحفدة خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم الأصهار أختان الرجل على بناته، قاله ابن مسعود وأبو الضحى‏.‏ وسعيد بن جبير وإبراهيم، ومنه قول الشاعر‏:‏

ولو أن نفسي طاوعتني لأصبحت *** لها حَفَدٌ مما يُعَدّث كثيرُ

ولكنها نفس عليَّ أبيّة *** عَيُوفٌ لأَصهارِ للئام قَذور

الثاني‏:‏ أنهم أولاد الأولاد، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم بنو امرأة الرجل من غيره، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

الرابع‏:‏ أنهم الأعوان، قاله الحسن‏.‏

الخامس‏:‏ أنهم الخدم، قاله مجاهد وقتادة وطاووس، ومنه قول جميل‏:‏

حفد الولائدُ حولهم وأسلمت *** بأكفهن أزِمّةَ الأجمال

وقال طرفة بن العبد‏:‏

يحفدون الضيف في أبياتهم *** كرماً ذلك منهم غير ذل

وأصل الحفد الإسراع، والحفدة جمع حافد، والحافد هو المسرع في العمل، ومنه قولهم في القنوت وإليك نسعى ونحفد، أي نسرع إلى العمل بطاعتك، منه قول الراعي‏:‏

كلفت مجهولها نوقاً ثمانية *** إذا الحداة على أكسائها حفدوا

وذهب بعض العلماء في تفسير قوله تعالى ‏{‏بنين وحفدة‏}‏ البنين الصغار والحفدة الكبار‏.‏ ‏{‏ورزقكم من الطيبات‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ من الفيئ والغنيمة‏.‏

الثاني‏:‏ من المباحات في البوادي‏.‏

الثالث‏:‏ ما أوتيه عفواً من غير طلب ولا تعب‏.‏

‏{‏أفبالباطِل يؤمنون‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بالأصنام‏.‏

الثاني‏:‏ يجحدون البعث والجزاء‏.‏

‏{‏وبنعمة الله يكفرون‏}‏ فيها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بالإسلام‏.‏

الثاني‏:‏ بما رزقهم الله تعالى من الحلال آفة من أصنامهم‏.‏ حكاه الكلبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 75‏]‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏73‏)‏ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏74‏)‏ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لا يملك ما لم يؤذن وإن كان باقياً معه‏.‏

الثاني‏:‏ أن لسيده انتزاعه من يده وإن كان مالكاً له‏.‏ ‏{‏ومَن رزقناه مِنا رزقاً حسناً‏}‏ يعني الحُرّ، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ملكه ما بيده‏.‏

الثاني‏:‏ تصرفه في الاكتساب على اختياره‏.‏

وفي هذا المثل قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه مثل ضربه الله للكافر لأنه لا خير عنده، ومن رزقناه منا رزقاً حسناً هو المؤمن، لما عنده من الخير، وهذا معنى قول ابن عباس وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه والأوثان، لأنها لا تملك شيئاً، وإنهم عدلوا عن عبادة الله تعالى الذي يملك كل شيء، قاله مجاهد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكمُ لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأْتِ بخير هل يستوي هو ومن يأمُرُ بالعدل وهو على صراط مستقيم‏}‏ اختلف المفسرون في المثل المضروب بهذه الآية على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه وللوثن، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى، وهذا معنى قول قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، فالأبكم‏:‏ الكافر، والذي يأمر بالعدل‏:‏ المؤمن، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أن الأبكم‏:‏ عبد كان لعثمان بن عفان رضي الله عنه كان يعرض عليه الإسلام فيأبى‏.‏ ومن يأمر بالعدل‏:‏ عثمان، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 79‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏77‏)‏ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

قوله عزوجل‏:‏ ‏{‏ولله غيب السموات والأرض‏}‏ يحتمل خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ولله علم غيب السموات والأرض، لأنه المنفرد به دون خلقه‏.‏

الثاني‏:‏ أن المراد بالغيب إيجاد المعدومات وإعدام الموجودات‏.‏

الثالث‏:‏ يعني فعل ما كان وما يكون، وأما الكائن في الحال فمعلوم‏.‏

الرابع‏:‏ أن غيب السماء الجزاء بالثواب العقاب‏.‏ وغيب الأرض القضاء بالأرزاق والآجال‏.‏

‏{‏وما أمْرُ الساعة إلاَّ كلمح البصر أو هو أقرب‏}‏ لأنه بمنزلة قوله‏:‏ ‏{‏كن فيكون‏}‏ وإنما سماها ساعة لأنها جزء من يوم القيامة وأجزاء اليوم ساعاته‏.‏ وذكر الكلبي ومقاتل‏:‏ أن غيب السموات هو قيام الساعة‏.‏

قال مقاتل‏:‏ وسبب نزولها أن كفار قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة استهزاء بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 83‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ‏(‏80‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏82‏)‏ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والله جعل لكم مما خلق ظلالاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ البيوت، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ الشجر، قاله قتادة‏.‏

‏{‏وجعل لكم من الجبال أكناناً‏}‏ الأكنان‏:‏ جمع كِنّ وهو الموضع الذي يستكن فيه، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما أنه ظل الجبال‏.‏

الثاني‏:‏ أنه ما فيها من غار أو شَرَف‏.‏

‏{‏وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ‏}‏ يعني ثياب القطن والكتان والصوف‏.‏

‏{‏وسرابيل تقيكم بأسكم‏}‏ يعني الدروع التي تقي البأس، وهي الحرب‏.‏

قال الزجاج‏:‏ كل ما لبس من قميص ودروع فهو سربال‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف قال‏:‏ ‏{‏وجعل لكم من الجبال أكناناً‏}‏ ولم يذكر السهل وقال ‏{‏تقكيم الحر‏}‏ ولم يذكر البرد‏؟‏

فعن ذلك ثلاثة أجوبة‏:‏

أحدها‏:‏ أن القوم كانوا أصحاب جبال ولم يكونوا أصحاب سهل، وكانوا أهل حر ولم يكونوا أهل برد، فذكر لهم نعمه عليه مما هو مختص بهم، قاله عطاء‏.‏

الثاني‏:‏ أنه اكتفى بذكر احدهما عن ذكر الآخر، إذ كان معلوماً أن من اتخذ من الجبال أكناناً اتخذ من السهل، واسرابيل التي تقي الحر تقي البرد، قاله الفراء، ومثله قول الشاعر‏:‏

وما أدري إذا يممتُ أرضاً *** أريد الخير أيهما يليني‏.‏

فكنى عن الشر ولم يذكره لأنه مدلول عليه‏.‏

الثالث‏:‏ أنه ذكر الجبال لأنه قدم ذكر السهل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله جعل لكم من بيوتكم سكناً‏}‏ وذكر الحرَّ دون البرد تحذيراً من حر جهنم وتوقياً لاستحقاقها بالكف عن المعاصي‏.‏

‏{‏كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون‏}‏ أي تؤمنون بالله إذا عرفتم نعمه عليكم‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏{‏لعلكم تسلمون‏}‏ بفتح التاء أي تسلمون من الضرر، فاحتمل أن يكون عنى ضرر الحر والبرد واحتمل أن يكون ضرر القتال والقتل، واحتمل أن يريد ضرر العذاب في الآخرة إن اعتبرتم وآمنتم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه عنى النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون نبوته ثم ينكرونها ويكذبونه، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم يعرفون منا عدد الله تعالى عليهم في هذه السورة من النعم وأنها من عند الله وينكرونها بقولهم أنهم ورثوا ذلك عن آبائهم، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أن انكارها أن يقول الرجل‏:‏ لولا فلان ما كان كذا وكذا ولولا فلانٌ ما أصبت كذا، قاله عون بن عبد الله‏.‏

الرابع‏:‏ أن معرفتهم بالنعمة إقرارهم بأن الله رزقهم، وإنكارهم قولهم‏:‏ رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا‏.‏

الخامس‏:‏ يعرفون نعمة الله بتقلبهم فيها، وينكرونها بترك الشكر عليها‏.‏

ويحتمل سادساً‏:‏ يعرفونها في الشدة، وينكرونها في الرخاء‏.‏

ويحتمل سابعاً يعرفونها بأقوالهم، وينكرونها بأفعالهم‏.‏ قال الكلبي‏:‏ هذه السورة تسمى سورة النعم، لما ذكر الله فيها من كثرة نعمه على خلقه‏.‏

‏{‏وأكثرهم الكفارون‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه وجميعهم كافرون، فعبر عن الجميع بالأكثر، وهذا معنى قول الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قال ‏{‏وأكثرهم الكافرون‏}‏ لأن فيهم من جرى عليه حكم الكفر تبعاً لغيره كالصبيان والمجانين، فتوجه الذكر إلى المكلفين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 88‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏84‏)‏ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏86‏)‏ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏87‏)‏ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وألقوا إلى الله يومئذ السلم‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ استسلامهم لعذابه، وخضوعهم لعزه‏.‏

الثاني‏:‏ إقرارهم بما كانوا ينكرون من طاعته‏.‏

‏{‏وضَلَّ عنهم ما كانوا يفترون‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ وبطل ما كانوا يأملون‏.‏

الثاني‏:‏ خذلهم ما كانوا به يستنصرون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زِدناهُم عذاباً فوق العذاب‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الزيادة هي عذاب الدنيا مع ما يستحق من عذاب الآخرة‏.‏

الثاني‏:‏ أن أحد العذابين على كفرهم، والعذاب الآخر على صدهم عن سبيل الله ومنعهم لغيرهم من الإيمان‏.‏

‏{‏بما كانوا يفسدون‏}‏ في الدنيا بالمعاصي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ويوم نبعث في كل أمةٍ شهيداً عليهم من أنفسِهم‏}‏ وهم الأنبياء شهداء على أممهم يوم القيامة وفي كل زمان شهيد وإن لم يكن نبياً‏.‏ وفيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم أئمة الهدى الذين هم خلفاء الأنبياء‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم العلماء الذين حفظ الله بهم شرائع أنبيائه‏.‏

‏{‏وجئنا بك شهيداً على هؤلاء‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم شهيداً على أمته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ في تأويل هذه الآية ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن العدل‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان‏:‏ الصبر على أمره ونهيه وطاعة الله في سره وجهره ‏{‏وإيتاء ذي القربى‏}‏ صلة الرحم، ‏{‏وينهى عن الفحشاء‏}‏ يعني الزنى، ‏{‏والمنكر‏}‏ القبائح‏.‏ ‏{‏والبغي‏}‏ الكبر والظلم حكاه ابن جرير الطبري‏.‏

الثاني‏:‏ أن العدل‏:‏ القضاء بالحق، والإحسان‏:‏ التفضل بالإنعام، وإيتاء ذي القربى‏:‏ ما يستحقونه من النفقات‏.‏ وينهى عن الفحشاء ما يستسر بفعله من القبائح‏.‏ والمنكر‏:‏ ما يتظاهر به منها فينكر‏.‏ والبغي‏:‏ منا يتطاول به من ظلم وغيره، وهذا معنى ما ذكره ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ أن العدل ها هنا استواء السريرة والعلانية في العمل لله‏.‏ والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته‏.‏ والفحشاء والمنكر‏:‏ أن تكون علانيته أحسن من سريرته، قاله سفيان بن عيينة‏.‏ فأمر بثلاث ونهى عن ثلاث‏.‏

‏{‏يعظكم لعلكم تذكرون‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ تتذكرون ما أمركم به وما نهاكم عنه‏.‏

الثاني‏:‏ تتذكرون ما أعده من ثواب طاعته وعقاب معصيته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 92‏]‏

‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏91‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم‏}‏ يحتمل ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه النذور‏.‏

الثاني‏:‏ ما عاهد الله عليه من عهد في طاعة الله‏.‏

الثالث‏:‏ أنه التزام أحكام الدين بعد الدخول فيه‏.‏

‏{‏ولا تنقضوا الأيمان بَعْدَ توكيدها‏}‏ يحتمل ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لا تنقضوها بالامتناع بعد توكيدها بالالتزام‏.‏

الثاني‏:‏ لا تنقضوها بالعذر بعد توكيدها بالوفاء‏.‏

الثالث‏:‏ لا تنقضوها بالحنث بعد توكيدها بالِبّر‏.‏

وفي هذه الآية ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ الثاني‏:‏ أنها نزلت في الحلف الذي كان في الجاهلية بين أهل الشرك، فجاء الإسلام بالوفاء به‏.‏

الثالث‏:‏ أنها نزلت في كل عقد يمين عقده الإنسان على نفسه مختاراً يجب عليه الوفاء به ما لم تدع ضرورة إلى حله‏.‏

وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فليأت الذي هو خير» محمول على الضرورة دون المباح‏.‏ وأهل الحجاز يقولون‏.‏ وكّدت هذه اليمين توكيداً، وأهل نجد يقولون أكدتها تأكيداً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً‏}‏ وهذا مثل ضربه الله تعالى لمن نقض عهده، وفيه قولان‏:‏

أحدها‏:‏ أنه عنى الحبْل، فعبر عنه بالغزل، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه عنى الغزل حقيقة‏.‏

‏{‏من بعد قوة‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ من بعد إبرام‏.‏ قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أن القوة ما غزل على طاق ولم يثن‏.‏

‏{‏أنكاثاً‏}‏ يعني أنقاضاً، واحده نكث، وكل شيء نقض بعد الفتل أنكاثٌ‏.‏

وقيل أن التي نقضت غزلها من بعد قوة امرأة بمكة حمقاء، قال الفراء‏:‏ إنها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرّة، سميت جعدة لحمقها، كانت تغزل الصوف ثم تنقضه بعدما تبرمه، فلما كان هذا الفعل لو فعلتموه سفهاً تنكرونه كذلك نقض العهد الذي لا تنكرونه‏.‏

‏{‏تتخذون أيمانكُمْ دَخَلاً بينكُمْ‏}‏ فيه ستة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن الدخل الغرور‏.‏

الثاني‏:‏ أن الدخل الخديعة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الغل والغش‏.‏

الرابع‏:‏ أن يكون داخل القلب من الغدر غير ما في الظاهر من لزوم الوفاء‏.‏

الخامس‏:‏ أنه الغدر والخيانة، قاله قتادة‏.‏

السادس‏:‏ أنه الحنث في الأيمان المؤكدة‏.‏

‏{‏أن تكون أمة هي أربى من أمة‏}‏ أن أكثر عدداً وأزيد مدداً، فتطلب بالكثرة أن تغدر بالأقل بأن تستبدل بعهد الأقل عهد الأكثر‏.‏ وأربى‏:‏ أفعل الربا، قال الشاعر‏:‏

أسمر خطيّاً كأنّ كعوبه *** نوى القسب أو أربى ذراعاً على عشر

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 96‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏ وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏94‏)‏ وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏95‏)‏ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يريد به أن الدنيا فانية، والآخرة باقية‏.‏

الثاني‏:‏ أن طاعتكم تفنى وثوابها يبقى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينهُ حياةً طيبة‏}‏ فيها خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الرزق الحلال، قاله ابن عباس‏.‏ الثاني‏:‏ أنها القناعة، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري‏.‏

الثالث‏:‏ أن يكون مؤمناً بالله عاملاً بطاعته، قاله الضحاك‏.‏

الرابع‏:‏ أنها السعادة، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

الخامس‏:‏ أنها الجنة، قاله مجاهد وقتادة‏.‏ ويحتمل سادساً‏:‏ أن تكون الحياة الطيبة العافية والكفاية‏.‏ ويحتمل سابعاً‏:‏ أنها الرضا بالقضاء‏.‏ ‏{‏ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يجازى على أحسن الأعمال وهي الطاعة، دون المباح منها‏.‏ الثاني‏:‏ مضاعفة الجزاء وهو الأحسن، كما قال تعالى ‏{‏من جاءَ بالحسنة فله عشر أمثالها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 100‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏98‏)‏ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏99‏)‏ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله تعالى، قاله الزجاج‏.‏

الثاني‏:‏ فإذا كنت قارئاً فاستعذ بالله‏.‏

الثالث‏:‏ أنه من المؤخر الذي معناه مقدم، وتقديره‏:‏ فإذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم فاقرأ القرآن‏.‏

والاستعاذة هي استدفاع الأذى بالأعلى من وجه الخضوع والتذلل والمعنى فاستعذ بالله من وسوسة الشيطان عند قراءتك لتسلم في التلاوة من الزلل، وفي التأويل من الخطأ‏.‏ وقد ذكرنا في صدر الكتاب معنى الرجيم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ ليس له قدرة على أن يحملهم على ذنب لا يغفر، قاله سفيان‏.‏

الثاني‏:‏ ليس له حجة على ما يدعوهم إليه من المعاصي، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ ليس له عليهم سلطان لاستعاذتهم باللَّه منه، لقوله تعالى ‏{‏وإمّا ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 36‏]‏‏.‏

الرابع‏:‏ أنه ليس له عليهم سلطان بحال لأن الله تعالى صرف سلطانه عنهم حين قال عدو الله إبليس ‏{‏ولأغوينهم أجميعن إلا عبادَك منهم المخلصين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 39-40‏]‏ فقال الله تعالى ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏ وفي معنى السلطان وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الحجة، ومنه سمي الوالي سلطاناً لأنه حجة الله تعالى في الأرض‏.‏

الثاني‏:‏ أنها القدرة، مأخوذ من السُّلْطَة، وكذلك سمي السلطان سلطاناً لقدرته‏.‏ ‏{‏إنما سلطانه على الذين يتولونه‏}‏ يعني يتبعونه‏.‏

‏{‏والذين هُمْ به مشركون‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ والذين هم بالله مشركون، قاله مجاهد‏.‏ الثاني‏:‏ والذين أشركوا الشيطان في أعمالهم، قاله الربيع بن أنس‏.‏

الثالث‏:‏ والذين هم لأجل الشيطان وطاعته مشركون، قاله ابن قتيبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 102‏]‏

‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذا بدّلنا آيةً مكان آيةٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ شريعة تقدمت بشريعة مستأنفة، قاله ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ وهو قول الجمهور أي نسخنا آية بآية، إما نسخ الحكم والتلاوة وإما نسخ الحكم مع بقاء التلاوة‏.‏

‏{‏والله أعلم بما ينزل‏}‏ يعني أعلم بالمصلحة فيه ينزله ناسخاً ويرفعه منسوخاً‏.‏ ‏{‏قالوا إنما مفْتَرٍ‏}‏ أي كاذب‏.‏

‏{‏بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ لا يعلمون جواز النسخ‏.‏ الثاني‏:‏ لا يعلمون سبب ورود النسخ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 105‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏103‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏104‏)‏ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمُه بشرٌ‏}‏ اختلف في اسم من أراده المشركون فيما ذكروه من تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه بلعام وكان قيناً بمكة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه يعلمه، فاتهمته قريش أنه كان يتعلم منه، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه كان عبداً أعجمياً لامرأة بمكة، يقال له أبو فكيهة، كان يغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقرأ عليه ويتعلم منه، فقالوا لمولاته احبسيه فحبستْه، وقالت له‏:‏ اكنس البيت وكل كناسته، ففعل وقال‏:‏ والله ما أكلت أطيب منه ولا أحلى، وكان يسأل مولاته بعد ذلك أن تحبسه فلا تفعل‏.‏

الثالث‏:‏ أنهما غلامان لبني الحضرمي، وكانا من أهل عين التمر صيقلين يعملان السيوف اسم أحدها يسار، والآخر جبر، وكانا يقرآن التوراة، وكان رسول الله ربما جلس إليهما، قاله حصين بن عبد الله بن مسلم‏.‏

الرابع‏:‏ أنه سلمان الفارسي، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏لسان الذي يلحدون إليه أعجمي‏}‏ في يلحدون تأويلان‏:‏ أحدهما‏:‏ يميلون إليه‏.‏

الثاني‏:‏ يعترضون به، يعني أن لسان من نسبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التعلم منه أعجمي‏.‏

‏{‏وهذا لسانٌ عربيٌ مبين‏}‏ يعني باللسان القرآن لأنه يقرأ باللسان، والعرب تقول‏:‏ هذا لسان فلان، تريد كلامه، قال الشاعر‏:‏

لسان السوء تهديها إلينا *** وخُنْتَ وما حسبتُك أن تخونا

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 109‏]‏

‏{‏مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏106‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏107‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏108‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَن كفر بالله من بعد إيمانه‏}‏ ذكر الكلبي أنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح ومقيس بن صبابة وعبد الله بن خطل وقيس بن الوليد بن المغيرة، كفروا بعد إيمانهم ثم قال تعالى‏:‏

‏{‏إلا من أُكره وقلبُه مطمئن بالإيمان‏}‏ قال الكلبي‏:‏ نزل ذلك في عمار بن ياسر وأبويه ياسر وسُمية وبلال وصهيب وخبّاب، أظهروا الكفر بالإكراه وقلوبهم مطمئنة بالإيمان‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن من شرح بالكُفْر صدراً‏}‏ وهم من تقدم ذكرهم، فإذا أكره على الكفر فأظهره بلسانه وهو معتقد الإيمان بقلبه ليدفع عن نفسه بما أظهر، ويحفظ دينه بما أضمر فهو على إيمانه، ولو لم يضمره لكان كافراً‏.‏

وقال بعض المتكلمين‏:‏ إنما يجوز للمكرَه إظهارُ الكفر عل وجه التعريض دون التصريح الباتّ‏.‏ لقبح التصريح بالتكذيب وخطره في العرف والشرع، كقوله إن محمداً كاذب في اعتقادكم، أو يشير لغيره ممن يوافق اسمه لاسمه إذا عرف منه الكذب، وهذا لعمري أولى الأمرين، ولم يَصِرِ المكرَه بالتصريح كافر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 113‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏110‏)‏ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏111‏)‏ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏112‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنةً مطمئنةً‏}‏ يريد بالقرية أهلها ‏{‏آمنة‏}‏ يعني من الخوف‏.‏ ‏{‏مطمئنة‏}‏ بالخصب والدعة‏.‏

‏{‏يأتيها رِزقُها‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أقواتها‏.‏

الثاني‏:‏ مرادها‏.‏ ‏{‏رغداً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ طيباً‏.‏

الثاني‏:‏ هنيئاً‏.‏

‏{‏من كُلِّ مكانٍ‏}‏ يعني منها بالزراعة، ومن غيرها بالتجارة، ليكون اجتماع الأمرين لهم أوفر لسكنهم وأعم في النعمة عليها‏.‏

‏{‏فكفرت بأنعم الله‏}‏ يحتمل وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ بترك شكره وطاعته‏.‏

الثاني‏:‏ بأن لا يؤدوا حقها من مواساة الفقراء وإسعاف ذوي الحاجات‏.‏

وفي هذه القرية التي ضربها الله تعالى مثلاً أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها مكة، كان أمنها أن أهلها آمنون لا يتفاوزون كالبوادي‏.‏

‏{‏فأذاقها اللهُ لباسَ الجوع والخوْف‏}‏ وسماه لباساً لأنه قد يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس، وقيل إن القحط بلغ بهم إلى أن أكلوا القد والعلهز وهو الوبر يخلط بالدم، والقِد أديم يؤكل، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها المدينة آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كفرت بأنعم الله بقتل عثمان بن عفان وما حدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بها من الفتن، وهذا قول عائشة وحفصة رضي الله عنهما‏.‏

الثالث‏:‏ أنه مثل مضروب بأي قرية كانت على هذه الصفة من سائر القرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 119‏]‏

‏{‏فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏114‏)‏ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏115‏)‏ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏116‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏117‏)‏ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏118‏)‏ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏119‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثم إنّ ربّك للذين عملوا السُّوء بجهالةٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدها‏:‏ بجهالة أنها سوء‏.‏

الثاني‏:‏ بجهالة لغلبة الشهوة عليهم مع العلم بأنها سوء‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أنه الذي يعجل بالإقدام عليها ويعد نفسه بالتوبة‏.‏

‏{‏ثم تابوا مِنْ بعد ذلك وأصْلَحوا‏}‏ لأنه مجرد التوبة من السالف إذا لم يصلح عمله في المستأنف لا يستحق ولا يستوجب الثواب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 123‏]‏

‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏120‏)‏ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏121‏)‏ وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏122‏)‏ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنّ إبراهيم كان أمّةً‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏ أحدها‏:‏ يُعلّم الخير، قاله ابن مسعود وإبراهيم النخعي‏.‏ قال زهير‏:‏

فأكرمه الأقوام من كل معشر *** كرام فإن كذبتني فاسأل الأمم

يعني العلماء‏.‏

الثاني‏:‏ أمة يقتدى به، قاله الضحاك‏.‏ وسمي أمة لقيام الأمة به‏.‏ الثالث‏:‏ إمام يؤتم به، قاله الكسائي وأبو عبيدة‏.‏ ‏{‏قانتاً لله‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ مطيعاً لله، قاله ابن مسعود‏.‏

الثاني‏:‏ إن القانت هو الذي يدوم على العبادة لله‏.‏

الثالث‏:‏ كثير الدعاء لله عز وجل‏.‏

‏{‏حنيفاً‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ مخلص، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ حاجّا، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ أنه المستقيم على طريق الحق، حكاه ابن عيسى‏.‏

‏{‏ولم يَكُ من المشركين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لم يك من المشركين بعبادة الأصنام‏.‏

الثاني‏:‏ لم يك يرى المنع والعطاء إلا من اللَّه‏.‏

‏{‏وآتيناه في الدنيا حسنة‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن الحسنة النبوة، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ لسان صدق، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أن جميع أهل الأديان يتولونه ويرضونه، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ أنها تنوية الله بذكره في الدنيا بطاعته لربه‏.‏ حكاه ابن عيسى‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ أنه بقاء ضيافته وزيارة الأمم لقبره‏.‏

‏{‏وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في منازل الصالحين في الجنة‏.‏

الثاني‏:‏ من الرسل المقربين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ اتباعه في جميع ملته إلا ما أمر بتركه، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وهذا دليل على جواز الأفضل للمفضول لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء‏.‏

الثاني‏:‏ اتباعه في التبرؤ من الأوثان والتدين بالإسلام، قاله أبو جعفر الطبري‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه‏}‏ وهم اليهود وفي اختلافهم في السبت ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن بعضهم جعله أعظم الأيام حُرْمَةً لأن الله فرغ من خلق الأشياء فيه‏.‏

الثاني‏:‏ أن بعضهم جعل الأحد أعظم حُرمة منه لأن الله ابتدأ خلق الأشياء فيه‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم عدلوا عما أمروا به من تعظيم الجمعة تغليباً لحرمة السبت والأحد، قاله مجاهد وابن زيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ادعُ إلى سبيل ربِّك‏}‏ يعني إلى دين ربك وهو الإسلام‏.‏

‏{‏بالحكمة‏}‏ فيها تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ بالقرآن، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ بالنبوة، وهو محتمل‏.‏

‏{‏والموعظة الحسنة‏}‏ فيها تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ بالقرآن في لين من القول، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ بما فيه من الأمر والنهي، قاله مقاتل‏.‏

‏{‏وجادلْهُم بالتي هي أحسنُ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني بالعفو‏.‏

الثاني‏:‏ بأن توقظ القلوب ولا تسفه العقول‏.‏ الثالث‏:‏ بأن ترشد الخلف ولا تذم السلف‏.‏

الرابع‏:‏ على قدر ما يحتملون‏.‏ روى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس على قدر عقولهم

»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 128‏]‏

‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ‏(‏126‏)‏ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏127‏)‏ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عُوقبتم به‏}‏ فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت في قتلى أحُد حين مثلت بهم قريش‏.‏

واختلف قائل ذلك في نسخه على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر وما صبرك إلا بالله‏}‏

الثاني‏:‏ أنها ثابتة غير منسوخة فهذا أحد القولين‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنها نزلت في كل مظلوم ان يقتص من ظالمه، قاله ابن سيرين ومجاهد ‏{‏واصبر‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ اصبر على ما أصابك من الأذى، وهو محتمل‏.‏

الثاني‏:‏ واصبر بالعفو عن المعاقبة بمثل ما عاقبوا من المثلة بقتلى أُحد، قاله الكلبي‏.‏

‏{‏وما صبر إلا بالله‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ وما صبر إلا بمعونة الله‏.‏

الثاني‏:‏ وما صبرك إلا لوجه الله‏.‏

‏{‏ولا تحزن عليهم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إن لم يقبلوا‏.‏

الثاني‏:‏ إن لم يؤمنوا‏.‏

‏{‏ولا تك في ضيقٍ مما يمكرون‏}‏ قرأ بن كثير ‏{‏ضيق‏}‏ بالكسر وقرأ الباقون بالفتح‏.‏ وفي الفرق بينهما قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه بالفتح ما قل، وبالكسر ما كثر، قاله أبو عبيدة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه بالفتح ما كان في الصدر، وبالكسر ما كان في الموضع الذي يتسع ويضيق، قاله الفراء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏}‏ اتقوا يعني فيما حرم الله عليهم‏.‏ والذين هم محسنون فيما فرضه الله تعالى، فجمع في هذه الآية اجتناب المعاصي وفعل الطاعات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مع الذين اتقوا‏}‏ أي ناصر الذي اتقوا‏.‏ وقال بعض أصحاب الخواطر‏:‏ من اتقى الله في أفعاله أحْسَنَ إليه في أحواله، والله أعلم‏.‏

سورة الإسراء

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى‏}‏ أما قوله ‏{‏سبحان‏}‏ ففيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ تنزيه الله تعالى من السوء، وقيل بل نزه نفسه أن يكون لغيره في إسراء عبده تأثير‏.‏

الثاني‏:‏ معناه برأه الله تعالى من السوء، وقد قال الشاعر‏:‏

أقول لمّا جاءني فَخْرُه *** سبحان مِنْ علقمةَ الفاخِر

وهو ذكر تعظيم لله لا يصلح لغيره، وإنما ذكره الشاعر على طريق النادر، وهو من السبح في التعظيم وهو الجري فيه إلى أبعد الغايات‏.‏ وذكر أبان بن ثعلبة أنها كلمة بالنبطية «شبهانك»‏.‏ وقد ذكر الكلبي ومقاتل‏:‏ إن ‏{‏سبحان‏}‏ في هذا الموضع بمعنى عجب، وتقدير الآية‏:‏ عجب من الذي أسرى بعبده ليلاً، وقد وافق على هذا التأويل سيبويه وقطرب، وجعل البيت شاهداً عليه، وأن معناه عجبٌ من علقمة الفاخر‏.‏ ووجه هذا التأويل أنه إذا كان مشاهدة العجب سبباً للتسبيح صار التسبيح تعجباً فقيل عجب، ومثله قول بشار‏:‏

تلقي بتسبيحةٍ مِنْ حيثما انصرفت *** وتستفزُّ حشا الرائي بإرعاد

وقد جاء التسبيح في الكلام على أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن يستعمل في موضع الصلاة، من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا أنه كان من المسبِّحينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 143‏]‏ أي من المصلين‏.‏

الثاني‏:‏ أن يستعمل في الاستثناء، كما قال بعضهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم أقل لكم لولا تسبحون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 28‏]‏ أي لولا تستثنون‏.‏

الثالث‏:‏ النور، للخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لأحرقت سبحات وجهه» أي نور وجهه‏.‏

الرابع‏:‏ التنزيه، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن التسبيح فقال‏:‏ «تنزيه الله تعالى عن السوء

»‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أسرى بعبده‏}‏ أي بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والسُّرى‏:‏ سير الليل، قال الشاعر‏:‏

وليلة ذا ندًى سَرَيت *** ولم يلتني مِنْ سُراها ليت

وقوله ‏{‏من المسجد الحرام‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني من الحرم، والحرم كله مسجد‏.‏ وكان صلى الله عليه وسلم حين أُسرى به نائماً في بيت أم هانئ بنت أبي طالب، روى ذلك أبو صالح عن أم هانئ‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أسرى به من المسجد، وفيه كان حين أسري به روى ذلك أنس بن مالك‏.‏ ثم اختلفوا في كيفية إسرائه على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أسريَ بجسمه وروحه، روى ذلك ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان‏.‏

واختلف قائلو ذلك هل دخل بيت المقدس وصلى فيه أم لا، فروى أبو هريرة أنه صلى فيه بالأنبياء، ثم عرج به إلى السماء، ثم رجع به الى المسجد الحرام فصلى فيه صلاة الصبح من صبيحة ليلته‏.‏

وروى حذيفة بن اليمان أنه لم يدخل بيت المقدس ولم يُصلّ فيه ولا نزل عن البراق حتى عرج به، ثم عاد إلى ملكه‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه السلام أسري بروحه ولم يسر بجسمه، روى ذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ما فُقِدَ جَسَدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أسرى بروحه‏.‏

وروي عن معاوية قال‏:‏ كانت رؤيا من الله تعالى صادقة، وكان الحسن يتأول قوله تعالى ‏{‏وما جَعَلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنةً للناس‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 60‏]‏ أنها في المعراج، لأن المشركين كذبوا ذلك وجعلوا يسألونه عن بيت المقدس وما رأى في طريقه فوصفه لهم، ثم ذكر لهم أنه رأى في طريقه قعباً مغطى مملوءاً ماء، فشرب الماء ثم غطاه كما كان، ثم ذكر لهم صفة إبل كانت لهم في طريق الشام تحمل متاعاً، وأنها تقدُم يوم كذا مع طلوع الشمس، يقدمها جمل أورق؛ فخرجوا في ذلك اليوم يستقبلونها، فقال قائل منهم‏:‏ هذه والله الشمس قد أشرقت ولم تأت، وقال آخر‏:‏ هذه والله العير يقدُمها جمل أورق كما قال محمد‏.‏ وفي هذا دليل على صحة القول الأول أنه أسرى بجسمه وروحه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى المسجد الأقصى‏}‏ يعني بيت المقدس، وهو مسجد سليمان بن داود عليهما السلام وسمي الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذي باركنا حوله‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني بالثمار ومجاري الأنهار‏.‏

الثاني‏:‏ بمن جعل حوله من الأنبياء والصالحين ولهذا جعله مقدساً‏.‏ وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «يقول الله تعالى‏:‏ يا شام أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي

»‏.‏ ‏{‏لنريه من آياتنا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الآيات التي أراه في هذا المسرى أن أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة، وهي مسيرة شهر‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراه في هذا المسرى آيات‏.‏

وفيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما أراه من العجائب التي فيها اعتبار‏.‏

الثاني‏:‏ من أري من الأنبياء حتى وصفهم واحداً واحداً‏.‏

‏{‏إنه هو السميع البصير‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه وصف نفسه في هذه الحال بالسميع والبصير، وإن كانتا من صفاته اللازمة لذاته في الأحوال كلها لأنه حفظ رسوله عند إسرائه في ظلمة الليل فلا يضر ألا يبصر فيها، وسمع دعاءه فأجابه إلى ما سأل، فلهذين وصف الله نفسه بالسميع البصير‏.‏

الثاني‏:‏ أن قومه كذبوه عن آخرهم بإسرائه، فقال‏:‏ السميع يعني لما يقولونه من تصديق أو تكذيب، البصير لما يفعله من الإسراء والمعراج‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 3‏]‏

‏{‏وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ‏(‏2‏)‏ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وآتينا موسى الكتاب‏}‏ يعني التوراة‏.‏

‏{‏وجعلناه هدًى لبني إسرائيل‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن موسى هدى لبني إسرائيل‏.‏

الثاني‏:‏ أن الكتاب هدى لبني إسرائيل‏.‏

‏{‏ألاّ تتخذوا من دوني وكيلاً‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ شريكاً، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ يعني ربّاً يتوكلون عليه في أمورهم، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ كفيلاً بأمورهم، حكاه الفراء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ذرية من حملنا مع نوح‏}‏ يعني موسى وقومه من بني إسرائيل ذرية من حملهم الله تعالى مع نوح في السفينة وقت الطوفان‏.‏

‏{‏إنّه كان عبداً شكوراً‏}‏ يعني نوحاً، وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه سماه شكوراً لأنه كان يحمد الله تعالى على طعامه، قاله سلمان‏.‏

الثاني‏:‏ أنه كان يستجد ثوباً إلا حمد الله تعالى عند لباسه، قاله قتادة‏.‏

ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن نوحاً كان عبداً شكوراً فجعل الله تعالى موسى من ذريته‏.‏

الثاني‏:‏ أن موسى كان عبداً شكوراً إذ جعله تعالى من ذرية نوح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 8‏]‏

‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏4‏)‏ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ‏(‏5‏)‏ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ‏(‏6‏)‏ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ‏(‏7‏)‏ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب‏}‏‏.‏

معنى قضينا ها هنا‏:‏ أخبرنا‏.‏

ويحتمل وجهاً ثانياً‏:‏ أن معناه حكمنا، قاله قتادة‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏وقضينا إلى بني إسرائيل‏}‏ أي قضينا عليهم‏.‏

‏{‏لتفسدن في الأرض مرتين‏}‏ الفاسد الذي فعلوه قتلهم للناس ظلماً وتغلبهم على أموالهم قهراً، وإخراب ديارهم بغياً‏.‏ وفيمن قتلوه من الأنبياء في الفساد الأول قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه زكريا قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه شعياً، قاله ابن إسحاق، وأن زكريا مات حتف أنفه‏.‏

أما المقتول من الأنبياء في الفساد الثاني فيحيى بن زكريا في قول الجميع قال مقاتل‏:‏ وإن كان بينهما مائتا سنة وعشر‏.‏

‏{‏فإذا جاء وعْد أولاهما‏}‏ يعني أولى المرتين من فسادهم‏.‏

‏{‏بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأسٍ شديدٍ‏}‏ في قوله بعثنا وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ خلينا بينكم وبينهم خذلاناً لكم بظلمكم، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أمرنا بقتالكم انتقاماً منكم‏.‏

وفي المبعوث عليهم في هذه المرة الأولى خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ جالوت وكان ملكهم طالوت إلى أن قتله داود عليه السلام، قاله ابن عباس وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه بختنصر، وهو قول سعيد بن المسيب‏.‏

الثالث‏:‏ أنه سنحاريب، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الرابع‏:‏ أنهم العمالقة وكانوا كفاراً، قاله الحسن‏.‏

الخامس‏:‏ أنهم كانوا قوماً من أهل فارس يتجسسون أخبارهم، وهو قول مجاهد‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ فجاسوا خلال الديار‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني مشوا وترددوا بين الدور والمساكن، قال ابن عباس وهو أبلغ في القهر‏.‏

الثاني‏:‏ معناه فداسوا خلال الديار، ومنه قول الشاعر‏:‏

إِلَيْكَ جُسْتُ اللَّيْلَ بِالمَطِيِّ *** الثالث‏:‏ معناه فقتولهم بين الدور والمساكن، ومنه قول حسان بن ثابت‏:‏

ومِنَّا الَّذِي لاقَى بِسَيْفِ مُحَمَّدٍ *** فَجَاس بهِ الأَعْدَاءَ عَرْضَ العَسَاكر

الرابع‏:‏ معناه فتشوا وطلبوا خلال الديار، قاله أبو عبيدة‏.‏

الخامس‏:‏ معناه نزلوا خلال الديار، قاله قطرب، ومنه قول الشاعر‏:‏

فَجُسنا ديارهم عَنْوَةً *** وأبنا بساداتهم موثَقينا

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثم رددنا لكم الكرة عليهم‏}‏ يعني الظفر بهم، وفي كيفية ذلك ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن بني إسرائيل غزوا ملك بابل واستنقذوا ما فيه يديه من الأسرى والأموال‏.‏ الثاني‏:‏ أن ملك بابل أطلق من في يده من الأسرى، وردّ ما في يده من الأموال‏.‏

الثالث‏:‏ أنه كان بقتل جالوت حين قتله داود‏.‏

‏{‏وأمددناكم بأموالٍ وبنين‏}‏ بتجديد النعمة عليهم‏.‏

‏{‏وجعلناكم أكثر نفيراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أكثر عزاً وجاهاً منهم‏.‏

الثاني‏:‏ أكثر عدداً، وكثرة العدد تنفر عدوهم منهم، قال تُبع بن بكر‏:‏

فأكرِم بقحْطَانَ مِن وَالِدٍ *** وحِمْيَرَ أَكْرِم بقَوْمٍ نَفِيراً

قال قتادة‏:‏ فكانوا بها مائتي سنة وعشر سنين، وبعث فيهم أنبياء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم‏}‏ لأن الجزاء بالثواب يعود إليها، فصار ذلك إحساناً لها‏.‏

‏{‏وإن أسأتُم فلها‏}‏ أي فإليها ترجع الإساءة لما يتوجه إليها من العقاب، فرغَّب في الإحسان وحذر من الإساءة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا جاءَ وعْدُ الآخرة ليسوءُوا وجُوهكم‏}‏ يعني وعد المقابلة على فسادهم في المرة الثانية‏.‏ وفيمن جاءهم فيها قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ بختنصّر، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه انطياخوس الرومي ملك أرض نينوى، وهو قول مقاتل، وقيل إنه قتل منهم مائة ألف وثمانين ألفاً، وحرق التوراة وأخرب بيت المقدس، ولم يزل على خرابه حتى بناه المسلمون‏.‏

‏{‏وليدخلوا المسجد كما دَخلوه أوّل مرّة‏}‏ يعني بيت المقدس‏.‏

‏{‏وليتبروا ما علوا تتبيراً‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الهلاك والدمار‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الهدم والإخراب، قاله قطرب، ومنه قول لبيد‏:‏

وما النَّاسُ إلا عَامِلان فَعَامِلٌ *** يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وَآخَرُ رَافِعٌ

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏عسى ربُّكم أن يرحمكم‏}‏ يعني مما حل بكم من الانتقام منكم‏.‏

‏{‏وإن عدتم عدنا‏}‏ فيه تأويلان‏:‏ أحدهما‏:‏ إن عدتم إلى الإساءة عدنا إلى الانتقام، فعادوا‏.‏ قال ابن عباس وقتادة‏:‏ فبعث الله عليهم المؤمنين يذلونهم بالجزية والمحاربة إلى يوم القيامة‏.‏

الثاني‏:‏ إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى القبول، قاله بعض الصالحين‏.‏

‏{‏وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني فراشاً ومهاداً، قاله الحسن‏:‏ مأخوذ من الحصير المفترش‏.‏

الثاني‏:‏ حبساً يحبسون فيه، قاله قتادة، مأخوذ من الحصر وهو الحبس‏.‏ والعرب تسمي الملك حصيراً لأنه بالحجاب محصور، قال لبيد‏:‏

ومقامَةِ غُلْبِ الرِّقَابِ كَأَنَّهُمْ *** جِنٌّ لَدَى بَابِ الحَصِير قِيَامُ

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ‏(‏9‏)‏ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم‏}‏ فيها تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، قاله الكلبي والفراء‏.‏

الثاني‏:‏ ما تضمه من الأوامر والنواهي التي هي أصوب، قاله مقاتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ويدعو الإنسان بالشر دُعاءَه بالخير‏}‏ فيه وجهان من التأويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن يطلب النفع في العاجل بالضر العائد عليه في الآجل‏.‏

الثاني‏:‏ أن يدعوا أحدهم على نفسه أو ولده بالهلاك، ولو استجاب دعاءه بهذا الشر كما استجاب له بالخير لهلك‏.‏

‏{‏وكان الإنسان عجولاً‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ عجولاً في الدعاء على نفسه وولده وما يخصه، وهذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه عنى آدم حين نفخ فيه الروح، حتى بلغت الى سُرّته فأراد أن ينهض عجلاً، وهذا قول إبراهيم والضحاك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ظلمة الليل التي لا نبصر فيها الطرقات كما لا نبصر ما محي من الكتاب، وهذا من أحسن البلاغة، وهو معنى قول ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنها اللطخة السوداء التي في القمر، وهذا قول علي وقتادة ليكون ضوء القمر أقل من ضوء الشمس فيميز به الليل من النهار‏.‏

‏{‏وجعلنا آية النهار مبصرة‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الشمس مضيئة للأبصار‏.‏

الثاني‏:‏ موقظة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ‏(‏13‏)‏ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وكل إنسان ألزمنا طائره في عنقه‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ألزمناه عمله من خير أو شر مثل ما كانت العرب تقوله سوانح الطير وبوارحه، والسانح‏:‏ الطائر يمر ذات اليمين وهو فأل خير، والبارح‏:‏ الطائر يمر ذات الشمال وهو فأل شر، وأضيف إلى العنق‏.‏

الثاني‏:‏ أن طائره حظه ونصيبه، من قول العرب‏:‏ طار سهم فلان إذا خرج سهمه ونصيبه منه، قاله أبو عبيدة‏.‏

‏{‏ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً‏}‏ يعني كتاب طائره الذي في عنقه من خير أو شر‏.‏

ويحتمل نشر كتابه الذي يلقاه وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ تعجيلاً للبشرى بالحسنة، والتوبيخ بالسيئة‏.‏

الثاني‏:‏ إظهار عمله من خير أو شر‏.‏

‏{‏اقرأ كتابك‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لما في قراءته من زيادة التقريع والتوبيخ‏.‏

والثاني‏:‏ ليكون إقراره بقراءته على نفسه‏.‏

‏{‏كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني شاهداً‏.‏

والثاني‏:‏ يعني حاكماً بعملك من خير أو شر‏.‏ ولقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك بعملك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه‏}‏ يعني لما يحصل له من ثواب طاعته‏.‏

‏{‏ومَن ضلّ فإنما يضل عليها‏}‏ يعني لما يحصل عليه من عقاب معصيته‏.‏

‏{‏ولا تزر وازِرةٌ وزر أخرى‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لا يؤاخذ أحد بذنب غيره‏.‏

الثاني‏:‏ لا يجوز لأحد أن يعصى لمعصية غيره‏.‏

الثالث‏:‏ لا يأثم أحد بإثم غيره‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أن لا يتحمل أحد ذنب غيره ويسقط مأثمه عن فاعله‏.‏

‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ وما كنا معذبين على الشرائع الدينية حتى نبعث رسولاً مبيناً، وهذا قول من زعم أن العقل تقدم الشرع‏.‏

الثاني‏:‏ وما كنا معذبين على شيء من المعاصي حتى نبعث رسولاً داعياً، وهذا قول من زعم أن العقل والشرع جاءا معاً‏.‏

وفي العذاب وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ عذاب الآخرة‏.‏ وهو ظاهر قول قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ عذاب بالاستئصال في الدنيا، وهو قول مقاتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها‏.‏‏.‏‏}‏ الآية في قوله ‏{‏وإذا أردنا أن نهلك قرية‏}‏ ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ معناه إذا أردنا أن نحكم بهلاك قرية‏.‏

والثاني‏:‏ معناه وإذا أهلكنا قرية، وقوله ‏{‏أردنا‏}‏ صلة زائدة كهي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جداراً يريد أن ينقض‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 77‏]‏

الثالث‏:‏ أنه أراد بهلاك القرية فناء خيارها وبقاء شرارها‏.‏

‏{‏أمرنا مترفيها‏}‏ الذي عليه الأئمة السبعة من القراء أن أمرنا مقصور مخفف، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أمرنا متفريها بالطاعة، لأن الله تعالى لا يأمر إلا بها، ‏{‏ففسقوا فيها‏}‏ أي فعصوا بالمخالفة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ معناه‏:‏ بعثنا مستكبريها، قاله هارون، وهي في قراءة أبيِّ‏:‏ بعثنا أكابر مجرميها‏.‏

وفي قراءة ثانية ‏{‏أمّرنا مترفيها‏}‏ بتشديد الميم، ومعناه جعلناهم أمراء مسلطين، قاله أبو عثمان النهدي‏.‏

وفي قراءة ثالثة ‏{‏آمَرْنا مُترفيها‏}‏ ممدود، ومعناه أكثرنا عددهم، من قولهم آمر القوم إذا كثروا، لأنهم مع الكثرة يحتاجون إلى أمير يأمرهم وينهاهم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «خير المال مهرة أو سُكة مأبورة» أي كثيرة النسل، وقال لبيد‏:‏

إن يغبطوا يهبطوا وإن أمِروا *** يوماً يصيروا إلى الإهلاك والنكد

وهذا قول الحسن وقتادة‏.‏

وفي ‏{‏مترفيها‏}‏ ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها جباروها، قاله السن‏.‏

الثاني‏:‏ رؤساؤها، قاله علي بن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ فساقها، قاله مجاهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏17‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ‏(‏18‏)‏ وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وكم أهلكنا من القرون من بعد نُوح‏}‏ واختلفوا في مدة القرن على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه مائة وعشرون سنة، قاله عبد الله بن أبي أوفى‏.‏

الثاني‏:‏ أنه مائة سنة، قاله عبد الله بن بُسْر المازني‏.‏ الثالث‏:‏ أنه أربعون سنة، روى ذلك محمد بن سيرين عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ‏(‏20‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كُلاًّ نُمِدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربِّكَ‏}‏ يعني البر والفاجر من عطاء ربك في الدنيا دون الآخرة‏.‏

‏{‏وما كان عطاء ربك محظوراً‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ منقوصاً، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ ممنوعاً، قاله ابن عباس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ‏(‏22‏)‏ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ‏(‏23‏)‏ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقضى ربُّك ألاّ تبعدوا إلاّ إياه‏}‏ معناه وأمر ربك، قاله ابن عباس والحسن وقتادة‏.‏ وكان ابن مسعود وأبيّ بن كعب يقرآن ‏{‏ووصى ربك‏}‏ قاله الضحاك، وكانت في المصحف‏:‏ ‏{‏ووصى ربك‏}‏ لكن ألصق الكاتب الواو فصارت ‏{‏وقضى ربك‏}‏‏.‏

‏{‏وبالوالدين أحساناً‏}‏ معناه ووصى بالوالدين إحساناً، يعني أن يحسن إليهما بالبر بهما في الفعل والقول‏.‏

‏{‏إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يبلغن كبرك وكما عقلك‏.‏

الثاني‏:‏ يبلغان كبرهما بالضعف والهرم‏.‏

‏{‏فلا تقل لهما أفٍّ‏}‏ يعني حين ترى منهما الأذى وتميط عنهما الخلا، وتزيل عنهما القذى فلا تضجر، كما كانا يميطانه عنك وأنت صغير من غير ضجر‏.‏

وفي تأويل ‏{‏أف‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه كل ما غلظ من الكلام وقبح، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ أنه استقذار الشيء وتغير الرائحة، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ أنها كلمة تدل على التبرم والضجر، خرجت مخرج الأصوات المحكية‏.‏ والعرب أف وتف، فالأف وسخ الأظفار، والتُّف ما رفعته من الأرض بيدك من شيء حقير‏.‏

‏{‏وقل لهما قولاً كريماً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ليناً‏.‏

والآخر‏:‏ حسناً‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية والآية التي بعدها في سعد بن أبي وقاص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ إنه كان للأوّابين غفوراً‏}‏ فيهم خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم المحسنون، وهذا قول قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم الذين يصلّون بين المغرب والعشاء، وهذا قول ابن المنكدر يرفعه‏.‏

الثالث‏:‏ هم الذي يصلون الضحى، وهذا قول عون العقيلي‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الراجع عن ذنبه الذي يتوب، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ أنه الذي يتوب مرة بعد مرة، وكلما أذنب بادر بالتوبة وهذا قول سعيد بن المسيب‏.‏