فصل: سورة المؤمنون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


سورة المؤمنون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ‏(‏4‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏5‏)‏ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏6‏)‏ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏7‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏8‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه قد سعد المؤمنون ومنه قول لبيد‏:‏

فاعقلي إن كنت لم تعقلي *** إنما أفلح من كان عقل

الثاني‏:‏ أن الفلاح البقاء ومعناه قد بقيت لهم أعمالهم، وقيل‏:‏ إنه بقاؤهم في الجنة، ومنه قولهم في الأذان‏:‏ حي على الفلاح أي حي على بقاء الخير قال طرفة بن العبد‏:‏

أفبعدنا أو بعدهم‏.‏‏.‏ ***‏.‏ يرجى لغابرنا الفلاح

الثالث‏:‏ أنه إدْراك المطالب قال الشاعر‏:‏

لو كان حي مدرك الفلاح *** أدركه ملاعب الرماح

قال ابن عباس‏:‏ المفلحون الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا‏.‏ روى عمر بن الخطاب قال كان النبي صل الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يسمع عند وجهه دويٌ كدوي النحل، فنزل عليه يوماً فلما سرى عنه استقبل القبلة ورفع يديه ثم قال‏:‏ «اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلاَ تُنْقِصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلاَ تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلاَ تُؤْثِرْ عَلَينَا، وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا» ثم قال‏:‏ «لَقَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ عَشْرَ أَيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ثم قرأ علينا ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ حتى ختم العشر‏.‏ روى أبو عمران الجوني قال قيل لعائشة ما كان خُلُق رسول الله صل الله عليه وسلم‏؟‏، قالت أتقرأُون سورة المؤمنون‏؟‏ قيل‏:‏ نعم، قالت اقرأُوا فقرئ عليها ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ حتى بَلَغَ ‏{‏يَحَافِظُونَ‏}‏‏.‏

فقالت‏:‏ هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِيِنَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ خائفون، وهوقول الحسن، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ خاضعون، وهو قول ابن عيسى‏.‏

والثالث‏:‏ تائبون، وهو قول إبراهيم‏.‏

والرابع‏:‏ أنه غض البصر، وخفض الجناح، قاله مجاهد‏.‏

الخامس‏:‏ هو أن ينظر إلى موضع سجوده من الأرض، ولا يجوز بصره مُصَلاَّهُ، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره إلى السماء فنزلت‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ‏}‏ فصار لا يجوِّز بصره مُصَلاَّهُ‏.‏

فصار في محل الخشوع على هذه الأوجه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ في القلب خاصة، وهو قول الحسن وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ في القلب والبصر، وهو قول الحسن وقتادة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن اللغو الباطل، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الكذب، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الحلف، قاله الكلبي‏.‏

الرابع‏:‏ أنه الشتم لأن كفار مكة كانوا يشتمون المسلمين فهو عن الإِجابة، حكاه النقاش‏.‏

الخامس‏:‏ أنها المعاصي كلها، قاله الحسن‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أُوْلئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ‏}‏ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «مَا مِنْكُم إِلاَّ لَهُ مَنزِلاَنِ‏:‏ مَنزِلٌ فِي الجَنَّةِ وَمَنزِلٌ فِي النَّارِ، فَإِن مَاتَ وَدَخَلَ النَّارَ، وَرِثَ أَهْلُ الجَنَّةِ مَنْزِلَهُ، وإِنْ مَاتَ وََدَخَلَ الجَنَّةَ، وَرِثَ أَهْلُ النَّارِ مَنزِلَهُ، فَذلِكَ قولَه ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ‏}‏» ثم بيَّن ما يرثون فقال‏:‏

‏{‏الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه اسم من أسماء الجنة، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أعلى الجنان قاله قطرب‏.‏

الثالث‏:‏ أنه جبل الجنة الذي تتفجر منه أنهار الجنة، قاله أبو هريرة‏.‏

الرابع‏:‏ أنه البستان وهو رومي معرب، قاله الزجاج‏.‏

الخامس‏:‏ أنه عربي وهو الكرم، قاله الضحاك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 16‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ‏(‏12‏)‏ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ‏(‏14‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ‏(‏15‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ آدم استل من طين، وهذا قول قتادة، وقيل‏:‏ لانه اسْتُلَ من قِبَل ربه‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعني به كل إنسان، لأنه يرجع إلى آدم الذي خلق من سلالة من طين، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقيل‏:‏ لأنه استل من نطفة أبيه، والسلالة من كل شيء صفوته التي تستل منه، قال الشاعر‏:‏

وما هند إلا مهرة عربية *** سليلة أفراسٍ تجلّلها بغل

وقال الزجاج‏:‏ السلالة القليل مما ينسل، وقد تُسَمَّى، المضغة سلالة والولد سلالة إما لأنهما صفوتان على الوجه الأول، وإما لأنهما ينسلان على الوجه الثاني، وحكى الكلبي‏:‏ أن السلالة الطين الذي إذا اعتصرته بين أصابعك خرج منه شيء، ومنه قول الشاعر‏:‏

طوت أحشاء مرتجةٍ لوقت *** على مشج سلالته مهينُ

وحكى أبان بن تغلب أن السلالة هي التراب واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت‏.‏

خلق البرية من سلالة منتن *** وإلى السلالة كلها ستعود

‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطّْفَةً‏}‏ النطفة هي ماء الذكر الذي يعلق منه الولد، وقد ينطلق اسم النطفة على كل ماء، قال بعض شعراء هذيل‏:‏

وأنهما لحرّابا حروب *** وشرّابان بالنطف الظوامي

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِي قَرَارٍ مَّكينٍ‏}‏ يعني بالقرار الرحم، ومكين‏:‏ أي متمكن قد هيئ لاستقراره فيه‏.‏

‏{‏ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً‏}‏ العلقة الدم الطري الذي خلق من النطفة سُمّيَ علقة لأنه أول أحوال العلوق‏.‏

‏{‏فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً‏}‏ وهي قدر ما يمضغ من اللحم‏.‏

‏{‏فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمَاً‏}‏ وإنما بين الله أن الإِنسان تنتقل أحوال خلقه ليعلم نعمته عليه وحكمته فيه، وإن بعثه بعد الموت حياً أهون من إنشائه ولم يكن شيئاً‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني بنفخ الروح فيه، وهذا قول ابن عباس والكلبي‏.‏

والثاني‏:‏ بنبات الشعر، وهذا قول قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه ذكر وأنثى، وهذا قول الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ حين استوى به شبابه، وهذا قول مجاهد‏.‏

ويحتمل وجهاً خامساً‏:‏ أنه بالعقل والتمييز‏.‏

روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثَمَّ أَنشَأنَاهُ خَلْقَاً آخَرَ‏}‏‏.‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ فتبارك الله أحسن الخالقين فنزلت‏:‏ ‏{‏فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏سَبْعَ طَرآئِقَ‏}‏ أي سبع سموات، وفي تسميتها طرائق ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لأن كل طبقة على طريقة من الصنعة والهيئة‏.‏

الثاني‏:‏ لأن كل طبقة منها طريق الملائكة، قاله ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ لأنها طباق بعضها فوق بعض، ومنه أخذ طراق الفحل إذا أطبق عليها ما يمسكها، قاله ابن شجرة، فيكون على الوجه الأول مأخوذاً من التطرق، وعلى الوجه الثاني مأخوذاً من التطارق‏.‏

‏{‏وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلقِ غَافِلِينَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ غافلين عن حفظهم من سقوط السماء عليهم، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ غافلين عن نزول المطر من السماء عليهم، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ غافلين، أي عاجزين عن رزقهم، قاله سفيان بن عيينة‏.‏

وتأول بعض المتعمقة في غوامض المعاني سبع طرائق‏:‏ أنها سبع حجب بينه وبين ربه، الحجاب الأول قلبه، الثاني جسمه، الثالث نفسه، الرابع عقله، الخامس علمه، السادس إرادته، السابع مشيئته توصله إن صلحت وتحجبه إن فسدت، وهذا تكلف بعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 22‏]‏

‏{‏وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ ‏(‏20‏)‏ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏21‏)‏ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَشَجَرةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنآءَ‏}‏ هي شجر الزيتون، وخصت بالذكر لكثرة منفعتها وقلة تعاهدها‏.‏

وفي طور سيناء خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن سيناء البركة فكأنه قال جبل البركة، قاله ابن عباس، ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الحسن المنظر، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الكثير الشجر، قاله ابن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ أنه اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى، قاله أبو عبيدة‏.‏

الخامس‏:‏ أنه المرتفع مأخوذ من النساء، وهو الارتفاع فعلى هذا التأويل يكون اسماً عربياً وعلى ما تقدم من التأويلات يكون اسماً أعجمياً واختلف القائلون بأعجميته على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه سرياني، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ نبطي‏.‏

الثالث‏:‏ حبشي‏.‏

‏{‏تَنْبُتْ بِالدُّهْنِ‏}‏ اختلف في الدهن هنا على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الدهن هنا المطر اللين، قاله محمد بن درستويه، ويكون دخول الباء تصحيحاً للكلام‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الدهن المعروف أي بثمر الدهن‏.‏

وعلى هذا اختلفوا في دخول الباء على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها زائدة وأنها تنبت الدهن، قاله أبو عبيدة وأنشد‏:‏

نضرب بالسيف ونرجو بالفرج *** فكانت الباء في بالفرج زائدة كذلك في الدهن وهي قراءة ابن مسعود‏.‏

الثاني‏:‏ أن الباء أصل وليست بزائدة، وقد قرئ تنبت بالدهن بفتح التاء الأولى إذا كانت التاء أصلاً ثابتاً‏.‏ فإن كانت القراءة بضم التاء الأولى فمعناه تنبت وينبت بها الدهن ومعناهما إذا حقق متقارب وإن كان بينهما أدنى فرق‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه ينبت فيها الدهن، وهذه عبرة‏:‏ أن تشرب الماء وتخرج الدهن‏.‏

‏{‏وَصِبْغٍ لِّلآكِلِينَ‏}‏ أي إدام يصطبغ به الآكلون، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «الزَّيتُ مِنْ شَجَرةٍ مُبَارَكَةٍ فَائْتَدِمُواْ بِهِ وَادَّهِنُوا» وقيل إن الصبغ ما يؤتدم به سوى اللحم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا سَمِعْنَا بِهذَا فِي ءَابَائِنَا الأَوَّلِينَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما سمعنا بمثل دعوته‏.‏

والثاني‏:‏ ما سمعنا بمثله بشراً أتى برسالة من ربه‏.‏

وفي أبائهم الأولين وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الأب الأدنى، لأنه أقرب، فصار هو الأول‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الأب الأبعد لأنه أوّل أبٍ وَلدَك‏.‏

‏{‏فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ حتى يموت‏.‏

الثاني‏:‏ حتى يستبين جنونه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 30‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ‏(‏26‏)‏ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏27‏)‏ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏28‏)‏ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَفَارَ التَّنُّورَ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ تنور الخابزة، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه آخر مكان في دارك، قاله أبو الحجاج‏.‏

الثالث‏:‏ أنه طلوع الفجر، قاله علي رضي الله عنه‏.‏

الرابع‏:‏ أنه مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لاشتداد الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الآن حَمِيَ الوَطِيسُ» قاله ابن بحر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً‏}‏ قراءة الجمهور بضم الميم وفتح الزاي، وقرأ عاصم في رواية بكر بفتح الميم وكسر الزاي والفرق بينهما أن المُنزَلَ بالضم فعل النزول وبالفتح موضع النزول‏.‏

‏{‏وَأَنتَ خَيْرٌ الْمُنزِلِينَ‏}‏ في ذلك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن نوحاً قال ذلك عند نزوله في السفينة فعلى هذا يكون قوله مباركاً يعني بالسلامة والنجاة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قاله عند نزوله من السفينة، قاله مجاهد‏.‏ فعلى هذا يكون قوله مباركاً يعني بالماء والشجر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 41‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ‏(‏31‏)‏ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏32‏)‏ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏34‏)‏ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ‏(‏35‏)‏ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ‏(‏36‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‏(‏37‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏38‏)‏ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ‏(‏39‏)‏ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ‏(‏40‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يموت منا قوم ويحيا منا قوم، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ يموت قوم ويولد قوم، قاله يحيى بن سلام، قال الكلبي، يموت الآباء ويحيا الأبناء‏.‏

الثالث‏:‏ أنه مقدم ومؤخر معناه نحيا ونموت وما نحن بمبعوثين، قاله ابن شجرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَاهُمْ غُثآءً‏}‏ أي هلكى كالغثاء، وفي الغثاء ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه البالي من الشجر، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ ورق الشجر إذا وقع في الماء ثم جف، وهذا قول قطرب‏.‏

والثالث‏:‏ هو ما احتمله الماء من الزبد والقذى، ذكره ابن شجرة وقاله الأخفش‏.‏

‏{‏فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فبعداً لهم من الرحمة كاللعنة، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ فبعداً لهم في العذاب زيادة في الهلاك، ذكره أبو بكر النقاش‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ ‏(‏42‏)‏ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ‏(‏43‏)‏ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثَمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ متواترين يتبع بعضهم بعضاً، قاله ابن عباس، ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ منقطعين بين كل اثنين دهر طويل وهذا تأويل من قرأ بالتنوين‏.‏

وفي اشتقاق تترى ثلاثة أقاويل‏.‏

أحدها‏:‏ أنه مشتق من وتر القوس لاتصاله بمكانه منه، قاله ابن عيسى‏.‏ وهو اشتقاقه على القول الأول‏.‏

الثاني‏:‏ أنه مشتق من الوتر وهو الفرد لأن كل واحد بعد صاحبه فرد، قاله الزجاج، وهو اشتقاقه على التأويل الثاني‏.‏

الثالث‏:‏ أنه مشتق من التواتر، قاله ابن قتيبة ويحتمل اشتقاقه التأويلين معاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 49‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏45‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ‏(‏46‏)‏ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ‏(‏47‏)‏ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ‏(‏48‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَوْماً عَالِينَ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ متكبرين، قاله المفضل‏.‏

الثاني‏:‏ مشركين، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثالث‏:‏ قاهرين، قاله ابن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ ظالمين، قاله الضحاك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ مطيعون، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ خاضعون، قاله ابن شجرة‏.‏

الثالث‏:‏ مستبعدون، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الرابع‏:‏ ما قاله الحسن كان بنو إسرائيل يعبدون فرعون وكان فرعون يعبد الأصنام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ابْنَ مرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً‏}‏ فآيته أن خلق من غير ذكر وآيتها أن حملت من غير بعل، ثم تكلم في المهد فكان كلامه آية له، وبراءة لها‏.‏

‏{‏وَءَاوَيْنَا هُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ‏}‏ الآية‏.‏ الربوة ما ارتفع من الأرض وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها لا تسمى ربوة إلا إذا اخضرت بالنبات وربت، وإلاّ قيل نشز اشتقاقاً من هذا المعنى واستشهاداً بقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 65‏]‏ ويقول الشاعر‏:‏

طوى نفسه طيّ الحرير كأنه *** حوى جنة في ربوة وهو خاشع

الثاني‏:‏ تسمى ربوة وإن لم تكن ذات نبات قال امرؤ القيس‏:‏

فكنت هميداً تحت رمس بربوة *** تعاورني ريحٌ جنوب وشمألُ

وفي المراد بها هنا أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ الرملة، قاله أبو هريرة‏.‏

الثاني‏:‏ دمشق، قاله ابن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ مصر، قاله ابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ بيت المقدس‏.‏ قاله قتادة، قال كعب الأحبار، هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً‏.‏

وفي‏:‏ ‏{‏ذَاتِ قَرَارٍ‏}‏ أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ذات استواء، قاله ابن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ ذات ثمار، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ ذات معيشة تقرهم، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ ذات منازل تستقرون فيها، قاله يحيى بن سلام‏.‏

وفي ‏{‏مَعَينٍ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الجاري، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الماء الطاهر، قاله عكرمة ومنه قول جرير‏:‏

إن الذين غروا بلبك غادروا *** وشلاً بعينك ما يزال معينا

أي ظاهراً، في اشتقاق المعين ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لأنه جار من العيون، قاله ابن قتيبة فهو مفعول من العيون‏.‏

الثاني‏:‏ أنه مشتق من المعونة‏.‏

الثالث‏:‏ من الماعون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 56‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏51‏)‏ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ‏(‏52‏)‏ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏53‏)‏ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏54‏)‏ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏55‏)‏ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدةً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ دينكم دين واحد، قاله الحسن، ومنه قول الشاعر‏:‏

حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً *** وهل يأتَمن ذو أمة وهو طائع

الثاني‏:‏ جماعتكم جماعة واحدة، حكاه ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ خلقكم خلق واحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ففرقوا دينهم بينهم قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ انقطع تواصلهم بينهم‏.‏ وهو محتمل‏.‏

‏{‏زُبُراً‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما يعني قطعاً وجماعات، قاله مجاهد، والسدي، وتأويل من قرأ بفتح الباء‏.‏

الثاني‏:‏ يعني، كتباً، قاله قتادة، وتأويل من قرأ بضم الباء ومعناه، أنهم تفرقوا الكتب، فأخذ كل فريق منهم كتاباً، آمن به وكفر بما سواه‏.‏

‏{‏كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ كل حزب بما تفردوا به من دين وكتاب فرحون‏.‏

والثاني‏:‏ كل حزب بما لهم من أموال وأولاد فرحون‏.‏

وفي فرحهم وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه سرورهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنها أعمالهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ‏}‏ فيها أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ في ضلالتهم، وهو قول قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ في عملهم، وهو قول يحيى بن سلام‏.‏

والثالث‏:‏ في حيرتهم، وهو قول ابن شجرة‏.‏

والرابع‏:‏ في جهلهم، وهو قول الكلبي‏.‏

‏{‏حَتَّى حِينٍ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ حتى الموت‏.‏

والثاني‏:‏ حتى يأتيهم ما وعدوا به، وهو يوم بدر‏.‏

والثالث‏:‏ أنه خارج مخرج الوعيد كما تقول للتوعد‏:‏ لك يوم، وهذا قول الكلبي‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ‏}‏ أي نعطيهم ونزيدهم من أموال وأولاد‏.‏

‏{‏نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ نجعله في العامل خيراً‏.‏

والثاني‏:‏ أنما نريد لهم بذلك خيراً‏.‏

‏{‏بَل لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بل لا يشعرون أنه استدراج‏.‏

والثاني‏:‏ بل لا يشعرون أنه اختبار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 61‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏58‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ‏(‏60‏)‏ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني الزكاء‏.‏

الثاني‏:‏ أعمال البر كلها‏.‏

‏{‏وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ‏}‏ أي خائفة‏.‏

قال بعض أصحب الخواطر‏:‏ وجل العارف من طاعته أكثر من وجِلِه من مخالفته لأن المخالفة تمحوها التوبة، والطاعة تطلب لتصحيح الغرض‏.‏

‏{‏أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يخافون ألا ينجوا من عذابه إذا قدموا عليه‏.‏

الثاني‏:‏ يخافون أن لا تقبل أعمالهم إذا عرضت عليهم‏.‏ روته عائشة مرفوعاً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أُوْلئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يستكثرون منها لأن المسارع مستكثر‏.‏

الثاني‏:‏ يسابقون إليها لأن المسارع سابق‏.‏

‏{‏وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ وهم بها سابقون إلى الجنة‏.‏

الثاني‏:‏ وهم إلى فعلها سابقون‏.‏

وفيه وجه ثالث‏:‏ وهم لمن تقدمهم من الأمم سابقون، قاله الكلبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 67‏]‏

‏{‏وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ‏(‏63‏)‏ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ‏(‏64‏)‏ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏65‏)‏ قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ‏(‏66‏)‏ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمرَةٍ مِّنْ هذا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في غطاء، قاله ابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ في غفلة قاله قتادة‏.‏

‏{‏مِنْ هذا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ من هذا القرآن، وهو قول مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ من هذا الحق، وهو قول قتادة‏.‏

‏{‏وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ خطايا ‏[‏يعملونها‏]‏ من دون الحق، وهو قول قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أعمال ‏[‏رديئة‏]‏ لم يعملوها وسيعملونها، حكاه يحيى ابن سلام‏.‏

ويحتمل وجهاً ثالثاً‏:‏ أنه ظلم المخلوقين مع الكفر بالخالق‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْغَذَابِ‏}‏ فيهم وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الموسع عليهم بالخصب، قاله ابن قتيبة‏.‏ والثاني‏:‏ بالمال والولد، قاله الكلبي، فعلى الأول يكون عامّاً وعلى الثاني يكون خاصاً‏.‏

‏{‏إذَا هُم يَجْأَرُونَ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يجزعون، وهو قول قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ يستغيثون، وهوقول ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ يصيحون، وهو قول علي بن عيسى‏.‏

والرابع‏:‏ يصرخون إلى الله تعالى بالتوبة، فلا تقبل منهم، وهو قول الحسن‏.‏ قال قتادة نزلت هذه الآية في قتلى بدر، وقال ابن جريج ‏{‏حَتَّى إِذَا أَخذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ‏}‏ هم الذين قتلواْ ببدر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكُنتُم عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ تستأخرون، وهو قول مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ تكذبون‏.‏

والثالث‏:‏ رجوع القهقرى‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

زعموا أنهم على سبل الحق وأنا نكص على الأعقاب‏.‏

وهو أي النكوص، موسع هنا ومعناه ترك القبول‏.‏

‏{‏مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ‏}‏ أي بحرمة الله، ألا يظهر عليهم فيه أحد، وهو قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة‏.‏

ويحتمل وجهاً آخر‏:‏ مستكبرين بمحمد أن يطيعوه، وبالقرآن أن يقبلوه‏.‏

‏{‏سَامِراً تَهْجُرونَ‏}‏ سامر فاعل من السمر‏.‏ وفي السمر قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الحديث ليلاً، قاله الكلبي، وقيل به‏:‏ سمراً تهجرون‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ظل القمر، حكاه ابن عيسى، والعرب تقول حلف بالسمر والقمر أي بالظلمة والضياء، لأنهم يسمرون في ظلمة الليل وضوء القمر، والعرب تقول أيضاً‏:‏ لا أكلمه السمر والقمر، أي الليل والنهار، وقال الزجاج ومن السمر أخذت سمرة اللون‏.‏ وفي ‏{‏تَهْجُرُونَ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تهجرون الحق بالإِعراض عنه، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ تهجرون في القول بالقبيح من الكلام، قاله ابن جبير، ومجاهد‏.‏

وقرأ نافع ‏{‏تُهْجِرُونَ‏}‏ بضم التاء وكسر الجيم وهو من هجر القول‏.‏ وفي مخرج هذا الكلام قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ إنكار تسامرهم بالإِزراء على الحق مع ظهوره لهم‏.‏

الثاني‏:‏ إنكاراً منهم حتى تسامروا في ليلهم والخوف أحق بهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 75‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏69‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ‏(‏70‏)‏ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏71‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏72‏)‏ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏73‏)‏ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ‏(‏74‏)‏ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ‏}‏ في الحق هنا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الله، قاله الأكثرون‏.‏

الثاني‏:‏ أنه التنزيل أي لو نزل بما يريدون لفسدت السموات والأرض‏.‏

وفي اتباع أهوائهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لو اتبع أهواءهم فيما يشتهونه‏.‏

الثاني‏:‏ فيما يعبدونه‏.‏

‏{‏لَفَسَدَتِ السَّموَاتُ وَالأَرْضُ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لفسد تدبير السموات والأرض، لأنها مدبرة بالحق لا بالهوى‏.‏

الثاني‏:‏ لفسدت أحوال السموات والأرض لأنها جارية بالحكمة لا على الهوى‏.‏

‏{‏وَمَن فِيهِنَّ‏}‏ أي ولفسد من فيهن، وذلك إشارة إلى من يعقل من ملائكة السموات وإنس الأرض، وقال الكلبي‏:‏ يعني ما بينهم من خلق، وفي قراءة ابن مسعود لفسدت السموات والأرض وما بينهما، فتكون على تأويل الكلبي، وقراءة ابن مسعود، محمولاً على فساد ما لا يعقل من حيوان وجماد، وعلى ظاهر التنزيل في قراءة الجمهور يكون محمولاً على فساد ما يعقل وما لا يعقل من الحيوان، لأن ما لا يعقل تابع لما يعقل في الصلاح والفساد‏.‏ فعلى هذا يكون من الفساد ما يعود على من في السموات من الملائكة بأن جعلت أرباباً وهي مربوبة، وعبدت وهي مستعبدة‏.‏

وفساد الإِنس يكون على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ باتباع الهوى‏.‏ وذلك مهلك‏.‏

الثاني‏:‏ بعبادة غير الله‏.‏ وذلك كفر‏.‏

وأما فساد الجن فيكون بأن يطاعوا فيطغوا‏.‏

وأما فساد ما عدا ذلك فيكون على وجه التبع بأنهم مدبرون بذوي العقول‏.‏

فعاد فساد المدبرين عليهم‏.‏

‏{‏بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ عنى ببيان الحق لهم، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ بشرفهم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم منهم‏.‏ والقرآن بلسانهم، قاله السدي، وسفيان‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ بذكر ما عليهم من طاعة ولهم من جزاء‏.‏

‏{‏فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعِرِضُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فهم عن القرآن معرضون، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ عن شرفهم معرضون، قاله السدي‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً‏}‏ يعني أمراً‏.‏

‏{‏فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فرزق ربك في الدنيا خير منهم، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ فأجر ربك في الآخرة خيرٌ منه، قاله الحسن‏.‏

وذكر أبو عمرو بن العلاء الفرق بين الخرج والخراج فقال‏:‏ الخرج من الرقاب‏:‏ والخراج من الأرض‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ لعادلون، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ لحائدون، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ لتاركون، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ لمعرضون، قاله الكلبي، ومعانيها متقاربة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 83‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏76‏)‏ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏77‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏ وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏79‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏80‏)‏ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏81‏)‏ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏82‏)‏ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً‏}‏ الآية‏.‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليه فقال‏:‏ «اللَّهُمّ اجْعَلْهَا عَلَيهِم سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ فَقَحَطُوا سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْعَلْهَزَ مِنَ الجُوعِ وَهُوَ الوَبَرُ بالدَّمِ» قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قتلهم بالسيف يوم بدر، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ يعني باباً من عذاب جهنم في الآخرة، قاله بعض المتأخرين‏.‏

‏{‏مُبْلِسُونَ‏}‏ قد مضى تفسيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ خلقكم، قاله الكلبي ويحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ نشركم، قاله ابن شجرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بالزيادة والنقصان‏.‏

الثاني‏:‏ تكررهما يوماً بعد ليلة وليلة بعد يوم‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ اختلاف ما مضى فيهما من سعادة وشقاء وضلال وهدى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 92‏]‏

‏{‏قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏84‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏85‏)‏ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏86‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏87‏)‏ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏88‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ‏(‏89‏)‏ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏90‏)‏ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏91‏)‏ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ خزائن كل شيء، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ ملك كل شيء، قاله الضحاك‏.‏ والملكوت من صفات المبالغة كالجبروت والرهبوت‏.‏

‏{‏وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ علَيْهِ‏}‏ أي يمنع ولا يُمنع منه، فاحتمل ذلك وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ في الدنيا ممن أراد هلاكه لم يمنعه منه مانع، ومن أرد نصره لم يدفعه من نصره دافع‏.‏

الثاني‏:‏ في الآخرة لا يمنعه من مستحقي الثواب مانع ولا يدفعه من مستوجب العذاب دافع‏.‏

‏{‏فأَنَّى تُسْحَرونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فمن أي وجه تصرفون عن التصديق بالبعث‏.‏

الثاني‏:‏ فكيف تكذبون فيخيل لكم الكذب حقاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 98‏]‏

‏{‏قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ‏(‏93‏)‏ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏94‏)‏ وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ‏(‏95‏)‏ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ‏(‏96‏)‏ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ‏(‏97‏)‏ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ‏(‏98‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ السَّيِئَةَ‏}‏ فيه خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ بالإغضاء والصفح عن إساءة المسيء، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ ادفع الفحش بالسلام، قاله عطاء والضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ ادفع المنكر بالموعظة، حكاه ابن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ معناه امسح السيئة بالحسنة هذا قول ابن شجرة‏.‏

الخامس‏:‏ معناه قابل أعداءك بالنصيحة وأولياءك بالموعظة، وهذا وإن كان خطاباً له عليه السلام فالمراد به جميع الأمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ من نزغات‏.‏

الثاني‏:‏ من إغواء‏.‏

الثالث‏:‏ أذاهم‏.‏

الرابع‏:‏ الجنون‏.‏

‏{‏وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ‏}‏ أي يشهدوني ويقاربوني في وجهان‏:‏

أحدهما في الصلاة عند تلاوة القرآن‏.‏ قال الكلبي‏.‏

والثاني‏:‏ في أحواله كلها، وهذا قول الأكثرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 100‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ‏(‏99‏)‏ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمِن ورَآئِهِمْ بَرْزَخٌ‏}‏ الآية‏.‏ أي من أمامهم برزخٌ، البرزخ الحاجز ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 20‏]‏ وفيه خمسة أقاويل‏.‏

أحدها‏:‏ أنه حاجز بين الموت والبعث، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ حاجز بين الدنيا والآخرة‏.‏ قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ حاجز بين الميت ورجوعه للدنيا، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ أن البرزخ الإِمهال ليوم القيامة، حكاه ابن عيسى‏.‏

الخامس‏:‏ هو الأجل ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة، قاله الكلبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 104‏]‏

‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏101‏)‏ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏102‏)‏ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏103‏)‏ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي لا يتعارفون للهول الذي قد أذهلهم‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم لا يتواصلون عليها ولا يتقابلون بها مع تعارفهم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرءُ مِنْ أَخيهِ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 34‏]‏

‏{‏وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يتساءلون أن يحمل بعضهم عن بعض، أو يعين بعضهم بعضاً، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ لا يسأل بعضهم بعضاً عن خبره لانشغال كل واحد بنفسه قاله ابن عيسى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 107‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏105‏)‏ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ‏(‏106‏)‏ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الهوى‏.‏

الثاني‏:‏ حسن الظن بالنفس وسوء الظن بالخلق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 111‏]‏

‏{‏قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ‏(‏108‏)‏ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏109‏)‏ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ‏(‏110‏)‏ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه اصغروا والخاسئ الصاغر، قاله الحسن، والسدي‏.‏

الثاني‏:‏ أن الخاسئ الساكت الذي لا يتكلم، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ ابعدوا بعد الكلب، قاله ابن عيسى‏.‏

‏{‏وَلاَ تُكَلِّمُونِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا تكلمون في دفع العذاب عنكم‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم زجروا عن الكلام، غضباً عليهم، قاله الحسن، فهو آخر كلام يتكلم به أهل النار‏.‏

‏{‏فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً‏}‏ قرأ بضم السين نافع، وحمزة، والكسائي، وقرأ الباقون بكسرها‏.‏ واختلف في الضم والكسر على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهما لغتان، ومعناهما سواء وهما من الهزء‏.‏

الثاني‏:‏ أنها بالضم من السُخرة والاستعباد وبالكسر من السخرية والاستهزاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 116‏]‏

‏{‏قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏114‏)‏ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ‏(‏115‏)‏ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ‏(‏116‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ كَمْ لَبِثْتُم فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه سؤال لهم من مدة حياتهم في الدنيا، قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم، استقلالاً لحياتهم في الدنيا لطول لبثهم في عذاب جهنم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه سؤال لهم عن مدة لبثهم في القبور وهي حالة لا يعلمونها فأجابوا بقصرها لهجوم العذاب عليهم، وليس بكذب منهم لأنه إخبار عما كان عندهم‏.‏

‏{‏فَاسْئَلِ الْعَادِّينَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الملائكة، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ الحُسّابُ، قاله قتادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 118‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏(‏117‏)‏ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً ءَآخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه ليس له برهان ولا صحة بأن مع الله إلهاً آخر‏.‏

الثاني‏:‏ أن هذه صفة الإله الذي يدعى من دون الله أن لا برهان له‏.‏

‏{‏فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّكَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني أن محاسبته عند ربه يوم القيامة‏.‏

الثاني‏:‏ أن مكافأته على ربه والحساب المكافأة، ومنه قولهم حسبي الله‏.‏ أي كفاني الله تعالى، والله أعلم وأحكم‏.‏

سورة النور

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏1‏)‏ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا‏}‏ أي هذه سورة أنزلناها ويحتمل أن يكون قد خصها بهذا الافتتاح لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المقصود الزجر والوعيد فافتتحت بالرهبة كسورة التوبة‏.‏

الثاني‏:‏ أن فيها تشريفاً للنبي صلى الله عليه وسلم بطهارة نسائه فافتتحت بذكر والسورة اسم للمنزلة الشريفة ولذلك سميت السورة من القرآن سورة قال الشاعر‏:‏

ألم تَرَ أنَّ اللَّهَ أعْطَاكَ سُورةً *** ترى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ

‏{‏وَفَرَضْنَاهَا‏}‏ فيه قراءتان بالتخفيف وبالتشديد‏.‏

فمن قرأ بالتخفيف ففي تأويله وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فرضنا فيها إباحة الحلال وحظر الحرام، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ قدرنا فيها الحدود من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فنصف ما فرضتم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏ أي قدرتم، قاله عكرمة‏.‏

ومن قرأ بالتشديد ففي تأويله وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه تكثير ما فرض فيها من الحلال والحرام، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ معناه بيناها، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏وَأَنزَلْنَا فِيهآ ءَايَاتٍ بَيِّناتٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الحجج الدالة على توحيده ووجوب طاعته‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الحدود والأحكام التي شرعها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ‏}‏ وإنما قدم ذكر الزانية على الزاني لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الزنى منها أعَرُّ، وهو لأجل الحَبَل أضر‏.‏

الثاني‏:‏ أن الشهوة فيها أكثر وعليها أغلب، وقدر الحد فيه بمائة جلدة من الحرية والبكارة، وهو أكثر حدود الجلد، لأن فعل الزنى أغلظ من القذف بالزنى، وزادت السنة على الجلد بتغريب عام بعده، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خُذُواْ عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مَائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» ومنع العراقيون من التغريب اقتصاراً على الجلد وحده، وفيه دفع السنة والأثر‏.‏

والجلد مأخوذ من وصول الضرب إلى الجلد‏.‏ فأما المحصنان فحدهما الرجم بالسنة إما بياناً لقوله تعالى في سورة النساء‏:‏ ‏{‏فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 15‏]‏ على قول فريق‏:‏ وإما ابتداء فرض على قول آخرين‏.‏ وروى زر بن حبيش عن أُبَيٍّ أن في مصحفه من سورة الأحزاب ذكر الرجم‏:‏ «إِذَا زَنَى الشَّيخُ وَالشَّيخَةُ فَارْجُمَوهُمَا البَتَّةَ نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

»‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ‏}‏ أي في طاعة الله، وقد يعبر بالدين عن الطاعة‏.‏

‏{‏إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ أي إن كنتم تقيمون طاعة الله قيام من يؤمن بالله واليوم الآخر، والرأفة الرحمة ولم ينه عنها لأن الله هو الذي يوقعها في القلوب وإنما نهى عما تدعو الرحمة إليه، وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن تدعوه الرحمة إلى إسقاط الحد حتى لا يقام، قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ أن تدعوه الرحمة إلى تخفيف الضرب حتى لا يؤلم، قاله قتادة‏.‏

واستنبط هذا المعنى الجنيد فقال‏:‏ الشفقة على المخالفين كالإِعراض عن المواقعين ‏{‏وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا‏}‏ يعني بالعذاب الحد يشهده عند الإِقامة طائفة من المؤمنين، ليكونوا زيادة في نكاله وبينة على إقامة حده واختلف في عددهم على أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أربعة فصاعداً، قاله مالك والشافعي‏.‏

الثاني‏:‏ ثلاثة فصاعداً، قاله الزهري‏.‏

الثالث‏:‏ اثنان فصاعداً، قال عكرمة‏.‏

الرابع‏:‏ واحد فصاعداً، قاله الحسن، وإبراهيم‏.‏

ولما شرط الله إيمان من يشهد عذابهما، قال بعض أصحاب الخواطر‏:‏ لا يشهد مواضع التأديب إلا من لا يستحق التأديب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت مخصوصة في رجل من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول كانت من بغايا الجاهلية من ذوات الرايات وشرطت له أن تنفق عليه فأنزل الله هذه الآية فيه وفيها قاله عبد الله بن عمرو، ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنها نزلت في أهل الصفة، وكانوا قوماً من المهاجرين فقراء ولم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر، فنزلوا صفة المسجد، وكانواْ نحو أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة في الليل، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور مما يصيب الرجال بالكسوة والطعام، فهمَّ أهل الصفة أن يتزوجوهن ليأووا إلى مساكنهن وينالوا من طعامهن وكسوتهن فنزلت فيهن هذه الآية، قاله أبو صالح‏.‏

الثالث‏:‏ معناه أن الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا يزني بها إلا زان، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ أنه عامٌّ في تحريم نكاح الزانية على العفيف ونكاح العفيفة على الزاني ثم نسخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النَّسَاءِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ قاله ابن المسيب‏.‏

الخامس‏:‏ أنها مخصوصة في الزاني المحدود لا ينكح إلا زانية محدودة ولا ينكح غير محدودة ولا عفيفة، والزانية المحدودة لا ينكحها إلا زان محدود، ولا ينكحها غير محدود ولا عفيف، قاله الحسن، ورواه أبو هريرة مرفوعاً‏.‏

‏{‏وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الزنى‏.‏

الثاني‏:‏ نكاح الزوانى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏4‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ‏}‏ يعني بالزنى‏.‏

‏{‏ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدآءِ‏}‏ يعني ببينة على الزنى‏.‏

‏{‏فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً‏}‏ وهذا حد أوجبه الله على القاذف للمقذوفة يجب بطلبها ويسقط بعفوها، وفيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه من حقوق الآدميين، لوجوبه بالطلب، وسقوطه بالعفو، وهذا مذهب الشافعي‏.‏

الثاني‏:‏ من حقوق الله لأنه لا ينتقل إلى مال، وهذا مذهب أبي حنيفة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه من الحقوق المشتركة بين حق الله وحق الآدميين لتمازج الحقين وهذا مذهب بعض المتأخرين‏.‏

ولا يكمل حد القذف بعد البلوغ والعقل إلى بحريتهما وإسلام المقذوف وعفافه، فإن كان المقذوف كافراً أو عبداً عُزِّر قاذفه ولم يحد، وإن كان القاذف كافراً حُدّ حدّاً كاملاً، وإن كان عبداً حُدّ نصف الحد‏.‏

‏{‏وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلِئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ وهذا مما غلظ الله به القذف حتى علق به من التغليظ ثلاثة أحكام‏:‏ وجوب الحد، والتفسيق وسقوط الشهادة‏.‏ ولم يجعل في القذف بغير الزنى حَدّاً لما في القذف بالزنى من تعدّي المعرّة إلا الأهل والنسل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ تابواْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُواْ‏}‏ الآية‏.‏ التوبة من القذف ترفع الفسق ولا تسقط الحدّ‏.‏ واختلفوا في قبول الشهادة على أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ تقبل شهادته قبل الحد وبعده لارتفاع فسقه وعوده إلى عدالته وهذا مذهب مالك والشافعي وبه قال جمهور المفسرين‏.‏

الثاني‏:‏ لا تقبل شهادته أبداً، لا قبل الحد ولا بعده، وهذا مذهب شريح‏.‏

الثالث‏:‏ أنه تقبل شهادته بالتوبة قبل الحد ولا تقبل بعده، وهذا مذهب أبي حنيفة‏.‏

الرابع‏:‏ تقبل شهادته بعد الحد ولا تقبل قبله، وهذا مذهب إبراهيم النخعي قال الشعبي‏:‏ تقبل توبته ولا تقبل شهادته‏.‏

وفي صفة التوبة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها بإكذابه نفسه وقد رواه الزهري عن ابن المسيب أن عمر بن الخطاب جلد أبا بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة وقال لهم‏:‏ من أكذب نفسه أحرز شهاته فأكذب نفسه شبل ونافع، وأبى أبو بكرة أن يفعل، قال الزهري، وهو والله السنة فاحفظوه‏.‏

الثاني‏:‏ أن توبته منه تكون بصلاح حاله وندمه على قذفه والاستغفار منه وترك العود إلى مثله، قاله ابن جرير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 10‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏7‏)‏ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏8‏)‏ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏9‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ‏}‏ يعني بالزنى‏.‏

‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ‏}‏ يعني يشهدون بالزنى إلى أنفسهم وهذا حكم خص الله به الأزواج في قذف نسائهم ليلاعنوا فيذهب حد القذف عنهم‏.‏

وفي سبب ذلك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما رواه عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه فقال‏:‏ يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت رجلاً مع أهلي رأيت بعيني بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتاه به وثقل عليه حتى أنزل الله فيه هذه الآية‏.‏

الثاني‏:‏ ما رواه الأوزاعي عن الزهري عن سهل بن سعد عويمر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع‏؟‏ فأنزل الله هذه الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ القُرْآنَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ» فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة فلاعنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «انظرواْ فَإِنْ جَاءتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ العَينَينِ عَظِيمَ الأَلِيَتِينِ خَدْلَجَ السَّاقِينِ فَلاَ أَحْسَبُ عُوَيمِراً إِلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيهَا، وَإنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيمِرَ كَأَنَّهُ وَحْرَةٌ فَلاَ أَرَاهُ إِلاَّ كَاذباً» فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في تصديق عويمر وكان بعد ينسب إلى أمه، قال سعيد بن جبير‏:‏ ولقد صار أميراً بمصر وإنه ينسب إلى غير أب‏.‏

فإذا قذف الرجل زوجته بالزنى كان له اللعان منها إن شاء، وإن لم يكن ذلك لقاذف سواه، لأن الزوج لنفي نسب ليس منه ورفع فراش قد عرّه مضطر إلى لعانها دون غيره، فإذا أراد ذلك لاعن بينهما حاكم نافذ الحكم في الجامع على المنبر أو عنده، ويبدأ بالزوج وهي حاضرة فيقول‏:‏ أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما قذفت به زوجتي هذه من الزنى بفلان إذا ذكره في قذفه، وإن لم يذكره في لعانه كان لعانه نافذاً‏.‏ وإن أراد نفي ولدها قال‏:‏ إن هذا الولد من زنى ما هو مني فإذا أكمل ما وصفنا أعاده أربعاً كما قال الله تعالى‏:‏

‏{‏فَشَهَادَةُ أَحَدِهِم أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ والشهادة هنا يمين عبر عنها بلفظ الشهادة في قول مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة هي شهادة فرد بها لعان الكافر والمملوك ولو كانت شهادة ما جاز أن تشهد لنفسها وبلعنها، والعرب تسمي الحلف بالله تعالى شهادة كما قال قيس بن الملوح‏:‏

وأشهَدُ عِنْدَ اللَّه أنِّي أُحِبُّها *** فهذَا لَهَا عِندي فَمَا عِنْدَها لِيا

أي أحلف بالله فيما وصفتها من الزنى، وهو تأويل قوله‏:‏ ‏{‏وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ‏}‏ فإذا أكمل الخامسة فقد أكمل لعانه، فتلاعن هي بعده على المنبر أو عنده فتقول وهو حاضر‏:‏ أشهد بالله أن زوجي فلاناً هذا من الكاذبين فيما رماني به من الزنى وأن هذا- إن كان الزوج قد نفى في لعانه ولده منها- ما هو من زنى، تقول كذلك أربعاً، وهو تأويل قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ‏}‏ أي يدفع، وفي هذا العذاب قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الحد، وهو مذهب مالك، والشافعي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الحبس، وهو مذهب أبي حنيفة‏.‏

‏{‏أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبِينَ‏}‏ ثم تقول في الخامسة وأن عليّ غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به من الزنى وهو تأويل قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَالْخَامِسَةُ أَنَّ غَضَبَ اللَّه عَلَيَهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ والغضب في لعانها بدلاً من اللعنة في لعان زوجها، وإذا تم اللعان وقعت الفرقة المؤبدة بينهما، وبماذا تقع‏؟‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ بلعان الزوج وحده وهو مذهب الشافعي‏.‏

الثاني‏:‏ بلعانهما معاً، وهو مذهب مالك‏.‏

الثالث‏:‏ بلعانهما وتفريق الحاكم بينهما، وهو مذهب أبي حنيفة‏.‏

والرابع‏:‏ بالطلاق الذي يوقعه الزوج بعد اللعان، وهو مذهب أحمد بن حنبل ثم حرمت عليه أبداً‏.‏

واختلفوا في إحلالها له إن أكذب بعد اللعان نفسه على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ تحل، وهو مذهب أبي حنيفة‏.‏

والثاني‏:‏ لا تحل، وهو مذهب مالك والشافعي‏.‏ وإذا نفى الزوج الولد باللعان لحق بها دونه، فإن أكذب نفسه لحق به الولد حياً أو ميتاً، وألحقه أبو حنيفة به في الحياة دون الموت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَولاَ فَضْلُ اللَّه عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ‏}‏ في فضل الله ورحمته هنا وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن فضل الله الإسلام ورحمته القرآن، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أن فضل الله منه، ورحمته نعمته، قاله السدي‏.‏

وفي الكلام محذوف اختلف فيه على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن تقديره‏:‏ لولا فضل الله عليكم ورحمته بإمهاله حتى تتوبوا لهلكتم‏.‏

الثاني‏:‏ تقديره‏:‏ لولا فضل الله عليكم ورحمته بكم لنال الكاذب منكم عذابٌ عظيم‏.‏

‏{‏وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ‏}‏ فيكون المحذوف على القول الأول الجواب وبعض الشرط، وعلى الثاني الجواب وحده بعد استيفاء الشرط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ‏}‏ في الإِفك وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الإِثم، قاله أبو عبيدة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الكذب‏.‏ قال الشاعر‏:‏

شهيدٌ على الإِفك غَيْرِ الصَّوابِ *** وما شَاهِدُ الإِفك كَالأَحْنَفِ

‏{‏عُصْبَةٌ مِّنكُمْ‏}‏ وهم زعماء الإِفك، حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وعبد الله بن أبي بن سلول وزيد بن رفاعة وحمنة بنت جحش، وسبب الإفك أن عائشة رضي الله عنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق سنة ست فضاع عقد لها من جزع أطفار وقد توجهت لحاجتها فعادت في طلبه ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزله فَرُفِعَ هودجها ولم يُشْعَرْ بها أنها ليست فيه لخفتها وعادت فلم تر في المنزل أحداً فأدركها صفوان بن المعطل فحملها على راحلته وألحقها برسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فيها وفي صفوان من تكلم وقدمت المدينة وانتشر الإِفك وهي لا تعلم به ثم علمت فأخذها من ذلك شيء عظيم إلى أن أنزل الله براءتها بعد سبعة وثلاثين يوماً من قدوم المدينة هذه الآية‏.‏

و ‏{‏لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ أي لا تحسبواْ ما ذكر من الإِفك شراً لكم بل هو خير لكم لأن الله قد بَرَّاً منه وأبان عليه‏.‏

وفي المراد بهذا القول قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المقصود به عائشة وصفوان لأنهما قصدا بالإِفك، قاله يحيى ابن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أن المقصود به النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعائشة رضي الله عنهما، قاله ابن شجرة‏.‏

‏{‏لِكُلِّ امْرِئ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ‏}‏ أي له عقاب ما اكتسب من الإِثم بقدر إِثمه‏.‏

‏{‏وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ‏}‏ الآية قرئ بكسر الكاف وضمها، وفي الفرق بينما وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن كبره بالضم معظمه وبالكسر مأثمه‏.‏

الثاني‏:‏ أنه بالضم في النسب وبالكسر في النفس‏.‏

وفي متولي كبره قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه عبد الله بن أبيّ، والعذاب العظيم جهنم، وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير وابن المسيب‏.‏

الثاني‏:‏ أنه مسطح بن أثاثة، والعذاب العظيم ذهاب بصره في الدنيا‏:‏

حكاه يحيى بن سلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ‏(‏12‏)‏ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ‏}‏ هلا إذا سمعتم الإِفك‏.‏

‏{‏ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما ظن بعضهم ببعض خيراً كما يظنون بأنفسهم‏.‏

الثاني‏:‏ ظنواْ بعائشة عفافاً كظنهم بأنفسهم‏.‏

‏{‏إِفْكٌ مُّبِينٌ‏}‏ أي كذب بيِّن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّوْلاَ جَآءُو عَلَيِهِ‏}‏ أي هلا جاءُوا عليه لو كانوا صادقين‏.‏

‏{‏بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءِ‏}‏ يشهدون بما قالوه‏.‏

‏{‏فَإِذَا لَمْ يأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ‏}‏ الآية‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 19‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ‏(‏16‏)‏ يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏17‏)‏ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏18‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون وعيداً بما له عند الله من العقاب‏.‏

الثاني‏:‏ أريد به تكذيب المؤمنين الذي يصدقون ما أنزل الله من كتاب‏.‏

واختلف هل حد النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الإِفك على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لم يحدّ أحداً منهم لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو بينة ولم يتعبدنا الله أن نقيمها بإخباره عنها كما لم يتعبدنا بقتل المنافقين وإن أخبر بكفرهم‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم حد في الإِفك حسان بن ثابت وعبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت حجش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة رواه عروة بن الزبير وابن المسيب عن عائشة رضي الله عنها فقال بعض شعراء المسلمين‏:‏

لقد ذاق حسان الذي كان أهله *** وحمنةُ إذ قالا هجيراً ومسطح

وابن سلول ذاق في الحدّ خزيه *** كما خاض في إفك من القول يفصح

تعاطوْا برجم الغيب زوج نبيّهم *** وسخطة ذي العرش العظيم فأبرحوا

وآذواْ رسول الله فيها فجللوا *** مخازي تبقى عمموها وفضحواْ

فصبت عليهم محصدات كأنها *** شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح

حكى مسروق أن حسان استأذن على عائشة فقلت أتأذنين له فقالت‏:‏ أو ليس قد أصابه عذاب عظيم‏.‏ فمن ذهب إلى أنهم حدوا زعم أنها أرادت بالعذاب بالعظيم الحد، ومن ذهب إلى أنهم لم يحدّوا زعم أنها أرادت بالعذاب العظيم ذهاب بصره، قاله سفيان‏.‏ قال حسان بن ثابت يعتذر من الإفك‏:‏

حَصَانٌ رزانٌ ما تُزَنّ بِرِيبَةٍ *** وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحُومِ الغَوَافِلِ

فإن كنتُ قد قلتُ الذي بُلِّغْتُم *** فلا رَفَعَتْ سَوْطِي إليَّ أنامِلِي

فكيفَ ووُدِّي ما حَيِيتُ ونُصْرَتِي *** لآلِ رسُولِ اللَّهِ زَينِ المَحَافِلِ

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ هو أن تتحدث به وتلقيه بين الناس حتى ينتشر‏.‏

الثاني‏:‏ أن يتلقاه بالقبول إذا حدث به ولا ينكره‏.‏ وحكى ابن أبي مليكة أنه سمع عائشة تقرأ إذ تلِقونه بكسر اللام مخففة وفي تأويل هذه القراءة وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ترددونه، قاله اليزيدي‏.‏

الثاني‏:‏ تسرعون في الكذب وغيره، ومنه قول الراجز‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** جَاءَتْ به عنسٌ من الشام تَلِقْ

أي تسرع‏.‏