فصل: تفسير الآيات رقم (47- 52)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 52‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ‏(‏49‏)‏ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏51‏)‏ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ هذه الآية نزلت في بشر، رجلٌ من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود خصومة فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه بشر إلى كعب بن الأشرف لأن الحق إذا كان متوجهاً على المنافق إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسقط عنه، وإذا كان له حاكم إليه ليستوفيه منه فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وقيل‏:‏ إنها نزلت في المغيرة بن وائل من بني أمية كان بينه وبين علي كرم الله وجهه خصومة في ماء وأرض فامتنع المغيرة أن يحاكم علياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ إنه يبغضني، فنزلت هذه الآية‏.‏

‏{‏وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدهما‏:‏ طائعين، حكاه ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ خاضعين، حكاه النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ مسرعين، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ مقرنين، قاله الأخفش وفيها دليل على أن من دعي إلى حاكم فعليه الإِجابة ويحرج إن تأخر‏.‏

وقد روى أبو الأشهب عن الحسن قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَنْ دُعِيَ إِلَى حَاكِمٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لاَ حَقَّ لَهُ»‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ شرك، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ نفاق، قاله قتادة‏.‏

‏{‏أَمِ ارْتَابُواْ‏}‏ أي شكوا ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ في عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثاني‏:‏ في نبوته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏53‏)‏ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ طاعة صادقة خير من أيمان كاذبة‏.‏

الثاني‏:‏ قد عرف نفاقكم في الطاعة فلا تتجملوا بالأيمان الكاذبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ أي أعرضوا عن الرسول‏.‏

‏{‏فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ‏}‏ أي عليه ما حمل من إبلاغكم، وعليكم ما حملتم من طاعته‏.‏

ويحتمل وجهاً ثانياً‏:‏ أن عليه ما حمل من فرض جهادكم، وعليكم ما حملتم من وزر عباده‏.‏

‏{‏وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ‏}‏ يعني إلى الحق‏.‏

‏{‏وَمَا عَلَى الرَّسُولَِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ‏}‏ يعني بالقول لمن أطاع وبالسيف لمن عصى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 57‏]‏

‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏55‏)‏ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏56‏)‏ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعِمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ليَسَتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني أرض مكة، لأن المهاجرين سألوا الله ذلك، قاله النقاش‏.‏

والثاني‏:‏ بلاد العرب والعجم، قاله ابن عيسى‏.‏

روى سليم بن عامر عن المقدام بن الأسود قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «لاَ يَبْقَى عَلَى الأَرْضِ بَيْتُ حَجَرٍ وَلاَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الإِسْلاَمِ بِعزٍّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلٍّ ذَلِيلٍ، إما يعزهم فيجعلهم من أهلها، وإما يذلهم فيدينون لها

»‏.‏ ‏{‏كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما يعني بني إسرائيل في أرض الشام‏.‏

الثاني‏:‏ داود وسليمان‏.‏

‏{‏وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ‏}‏ يعني دين الإِسلام وتمكينه أن يظهره على كل دين‏.‏

‏{‏وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِم أَمْناً‏}‏ لأنهم كانوا مطلوبين فطلبوا، ومقهورين فقهروا‏.‏

‏{‏يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لا يعبدون إلهاً غيري، حكاه النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ لا يراءون بعبادتي أحداً‏.‏

الثالث‏:‏ لا يخافون غيري، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ لا يحبون غيري، قاله مجاهد‏.‏

قال الضحاك‏:‏ هذه الآية في الخلفاء الأربعة‏:‏ أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم وهم الأئمة المهديون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الخِلاَفَةُ بَعْدِي ثَلاَثونَ سَنَةً

»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 60‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏58‏)‏ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏59‏)‏ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيَمَانُكُم‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم النساء يستأذنَّ في هذه الأوقات خاصة ويستأذن الرجال في جميع الأوقات، قاله ابن عمر‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم العبيد والإِماء‏.‏

وفي المعنى بالاستئذان ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ العبد دون الأمة يستأذن على سيده في هذه الأوقات الثلاثة، قاله ابن عمر، ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الإِماء لأن العبد يجب أن يستأذن أبداً في هذه الأوقات وغيرها، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنه على عمومه في العبد والأمة، قاله أبو عبد الرحمن السلمي‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الحُلُمَ مِنْكُم‏}‏ هم الصغار الأحرار فمن كان منهم غير مميز لا يصف ما رأى فليس من أهل الاستئذان ومن كان مميزاً يصف ما رأى ويحكي ما شاهد فهو المعني بالاستئذان‏.‏

‏{‏ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثَيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَآءِ‏}‏ وهذه الساعات الثلاث هي أوقات الاستئذان من تقدم ذكره ولا يلزمهم الاستئذان في غيرها من الأوقات، فذكر الوقت الأول وهو من قبل صلاة الفجر وهو من بعد الاستيقاظ من النوم إلى صلاة الصبح، ثم ذكر الوقت الثاني فقال‏:‏ ‏{‏وَحِينَ تَضَعُونَ‏}‏ وهو وقت الخلوة لنومة القائلة، ثم ذكر الوقت الثالث فقال‏:‏ ‏{‏وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعَشَآءِ‏}‏ يعني الآخرة وقد تسميها العامة العتمة وسميت العشاء لأن ظلام وقتها يعشي البصر‏.‏

وإنما خص هذه الأوقات الثلاثة لأنها أوقات خلوات الرجل مع أهله ولأنه ربما بدا فيها عند خلوته ما يكره أن يرى من جسده، فقد روي أن عمر بن الخطاب كان في منزله وقت القائلة فأنفذ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي من أولاد الأنصار يقال له مدلج فدخل على عمر بغير إذن وكان نائماً فاستيقظ عمر بسرعة فانكشف شيء من جسده فنظر إليه الغلام فحزن عمر فقال‏:‏ وددت لو أن الله بفضله نهى أبناءنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذننا ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت فخرَّ ساجداً ‏[‏شكراً لله‏]‏‏.‏

‏{‏ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ‏}‏ يعني هذه الساعات الثلاث هي أوقات العورات فصارت من عورات الزمان فجرت مجرى عورات الأبدان فلذلك خصت بالإِذن‏.‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكَمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جَنَاحٌ بَعْدَهُنَّ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني ليس عليكم يا أهل البيوت جناح في تبذلكم في هذه الأوقات‏.‏

الثاني‏:‏ ليس عليكم جناح في منعهم في هذه الأوقات‏.‏ ولا على المملوكين والصغار جناح في ترك الاستئذان فيما سوى هذه الأوقات‏.‏

‏{‏طَوَّافُونَ عَلَيْكَم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ يعني أنهم طوّافون عليكم للخدمة لكم فلم ينلهم حرج في دخول منازلكم، والطوافون الذين يكثرون الدخول والخروج‏.‏

ثم أوجب على من بلغ من الصبيان الاستئذان إذا احتلموا وبلغوا لأنهم صاروا بالبلوغ في حكم الرجال فقال تعالى‏:‏

‏{‏وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُم الحُلُمَ فَلْيَسْتَأَذِنُواْ كَمَا اسْتَأَْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم‏}‏ يعني الرجال‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ‏}‏ والقواعد جمع قاعدة وهن اللاتي قعدن بالكبر عن الحيض والحمل ولا يحضن ولا يلدن‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ بل سمين بذلك لأنهن بعد الكبر يكثر منهن القعود‏.‏ وقال زمعة‏:‏ لا تراد، فتقعد عن الاستمتاع بها والأول أشبه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فلو أن ما في بطنه بين نسوة *** حبلن ولو كان القواعد عقراً

وقوله‏:‏ ‏{‏الَّلاتِي لاَ يَرْجُونَ نَكَاحاً‏}‏ أي أنهن لأجل الكبر لا يردن الرجال ولا يريدهن الرجال‏.‏

‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جَنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ جلبابها وهو الرداء الذي فوق خمارها فتضعه عنها إذا سترها باقي ثيابها قاله ابن مسعود وابن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ خمارها ورداؤها، قاله جابر بن زيد‏.‏

‏{‏غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ‏}‏ والتبرج أن تظهر من زينتها ما يستدعي النظر إليها فإنه في القواعد وغيرهن محظور‏.‏ وإنما خص القواعد بوضع الجلباب لانصراف النفوس عنهن ما لم يبد شيء من عوراتهن‏.‏ والشابات المشتهيات يمنعن من وضع الجلباب أو الخمار ويؤمرن بلبس أكثف الجلابيب لئلا تصفهن ثيابهن‏.‏ وقد روى مجاهد عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لِلزَّوْجِ مَا تَحْتَ الدِّرْعِ، وَلِلإِبْنِ وَالأَخِ مَا فَوقَ الدِّرْعِ، وَلِغَيْرِ ذِي مُحْرِمٍ أَرْبَعَةُ أَثْوَابٍ‏:‏ دِرْعٍ وَخِمَارٍ وَجِلْبَابٍ وَإِزَارٍ

»‏.‏ ‏{‏وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ‏}‏ يعني إن يستعفف القواعد عن وضع ثيابهن ويلزمن لبس جلابيبهن خير لهن من وضعها وإن سقط الحرج عنهن فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ‏}‏ فيه خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الأنصار كانوا يتحرجون أن يؤاكلوا هؤلاء إذا دعوا إلى الطعام فيقولون‏:‏ الأعمى لا يبصر أطيب الطعام، والأعرج لا يستطيع الزحام عند الطعام، والمريض يضعف عن مشاركة الصحيح في الطعام‏.‏ وكانوا يقولون‏:‏ طعامهم مفرد ويرون أنه أفضل من أن يكونوا شركاء، فأنزل الله هذه الآية فيهم ورفع الحرج عنهم في مؤاكلتهم، قاله ابن عباس، والضحاك، والكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه ليس على هؤلاء من أهل الزمانة حرج أن يأكلوا من بيوت من سمى الله بعد هذا من أهاليهم، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه كان المذكورون من أهل الزمانة يخلفون الأنصار في منازلهم إذا خرجواْ بجهاد وكانوا يتحرجون أن يأكلوا منها فرخص الله لهم في الأكل من بيوت من استخلفوهم فيها، قاله الزهري‏.‏

الرابع‏:‏ أنها نزلت في إسقاط الجهاد عمن ذكروا من أهل الزمانة‏.‏

الخامس‏:‏ ليس على من ذكر من أهل الزمانة حرج إذا دُعِي إلى وليمة أن يأخذ معه قائده، وهذا قول عبد الكريم‏.‏

‏{‏وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ من أموال عيالكم وأزواجكم لأنهم في بيته‏.‏

الثاني‏:‏ من بيوت أولادكم فنسب بيوت الأولاد إلى بيوت أنفسهم لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أَنتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ» ولذلك لم يذكر الله بيوت الأبناء حين ذكر بيوت الآباء والأقارب اكتفاء بهذا الذكر‏.‏

الثالث‏:‏ يعني بها البيوت التي هم ساكنوها خدمة لأهلها واتصالاً بأربابها كالأهل والخدم‏.‏

‏{‏أَوْ بُيُوتِ ءَابَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ‏}‏ فأباح الأكل من بيوت هؤلاء لمكان النسب من غير استئذانهم في الأكل إذا كان الطعام مبذولاً، فإن كان محروزاً دونهم لم يكن لهم هتك حرزه‏.‏ ولا يجوز أن يتجاوزوا الأكل إلى الادخار، ولا إلى ما ليس بمأكول وإن كان غير محروز عنهم إلا بإذن منهم ثم قال‏:‏

‏{‏أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه عَنَى به وكيل الرجل وَقيِّمه في ضيعته يجوز له أن يأكل مما يقوم عليه من ثمار ضيعته، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراد منزل الرجل نفسه يأكل مما ادخره، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه عنى به أكل السيد من منزل عبده وماله لأن مال العبد لسيده، حكاه ابن عيسى‏.‏

‏{‏أَوْ صَدِيقِكُمْ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه يأكل من بيت صديقه في الوليمة دون غيرها‏.‏

الثاني‏:‏ أنه يأكل من منزل صديقه في الوليمة وغيرها إذا كان الطعام حاضراً غير محرز‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ الصديق أكثر من الوالدين، ألا ترى أن الجهنميين لم يستغيثوا بالآباء ولا الأمهات وإنما قالوا‏:‏ ‏{‏فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ‏}‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

«قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي الصَّدِيقِ البَارِّ عِوَضَاً عَنِ الرَّحِمِ المَذْمُومَةِ» والمراد بالصديق الأصدقاء وهو واحد يعبر به عن الجميع، قال جرير‏:‏

دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا‏.‏ ***‏.‏ بأسهم أعداءٍ وهن صديقُ

وفي الصديق قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الذي صدقك عن مودته‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الذي يوافق باطنه باطنك كما وافق ظاهره ظاهرك‏.‏

ثم اختلفوا في نسخ ما تقدم ذكره بعد ثبوت حكمه على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه على ثبوته لم ينسخ شيء منه، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه منسوخ بقوله تعالى‏:‏

‏{‏لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ‏}‏ الآية‏.‏ ويقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يحل مَالُ امْرِئ مُسْلِمٍ إلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنهُ»‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في بني كنانة كان رجل منهم يرى أن مُحرَّماً عليه أن يأكل وحده في الجاهلية حتى أن الرجل ليسوق الزود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه، فأنزل فيهم هذه الآية، قاله قتادة وابن جريج‏.‏

الثاني‏:‏ أنها نزلت في قوم من العرب كان الرجل منهم إذا نزل به ضيف تحرج أن يتركه يأكل وحده حتى يأكل معه، فنزل ذلك فيهم، قال أبو صالح‏.‏

الثالث‏:‏ أنها نزلت في قوم كانوا يتحرجون أن يأكلوا جميعاً ويعتقدون أنه ذنب ويأكل كل واحد منهم منفرداً، فنزل ذلك فيهم، حكاه النقاش‏.‏

الرابع‏:‏ أنها نزلت في قوم مسافرين اشتركوا في أزوادهم فكان إذا تأخر أحدهم أمسك الباقون عن الأكل حتى يحضر، فنزل ذلك فيهم ترخيصاً للأكل جماعة وفرادى‏.‏

‏{‏فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً‏}‏ فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه المساجد‏.‏

الثاني‏:‏ أنها جميع البيوت‏.‏

‏{‏فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ‏}‏ فيه خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يعني إذا دخلتم بيوت أنفسكم فسلموا على أهاليكم وعيالكم، قاله جابر‏.‏

الثاني‏:‏ إذا دخلتم المساجد فسلموا على من فيها، وهذا قول ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ إذا دخلتم بيوت غيركم فسلموا عليهم، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ إذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أهل دينكم، قاله السدي‏.‏

الخامس‏:‏ إذا دخلتم بيوتاً فارغة فسلموا على أنفسكم وهو أن يقول‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قاله ابن عمر، وإبراهيم، وأبو مالك، وقيل‏:‏ سلامه على نفسه أن يقول‏:‏ السلام علينا من ربنا تحية من عند الله‏.‏

وإذا سلم الواحد من الجماعة أجزأ عن جميعهم، فإذا دخل الرجل مسجداً ذا جمع كثير سلم يسمع نفسه، وإذا كان ذا جمع قليل أسمعهم أو بعضهم‏.‏

قال الحسن‏:‏ كان النساء يسلمن على الرجال ولا يسلم الرجال على النساء، وكان ابن عمر يسلم على النساء، ولو قيل لا يسلم أحد الفريقين على الآخر كان أولى لأن السلام مواصلة‏.‏

‏{‏تَحِيَّةً مِنْ عِندِ اللَّهِ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يعني أن السلام اسم من أسماء الله تعالى‏.‏

الثاني‏:‏ أن التحية بالسلام من أوامر الله‏.‏

الثالث‏:‏ أن الرد عليه إذا سلم دعاء له عند الله‏.‏

الرابع‏:‏ أن الملائكة ترد عليه فيكون ثواباً من عند الله‏.‏

‏{‏مُبَارَكَةً‏}‏ فيها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لما فيها من الثواب الجزيل‏.‏

الثاني‏:‏ لما يرجى من ثواب الدعاء‏.‏

‏{‏طَيِّبَةً‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لما فيها من طيب العيش بالتواصل‏.‏

الثاني‏:‏ لما فيها من طيب الذكر والشأن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الأمر الجامع الجمعة والعيدان والاستسقاء وكل شيء يَكون فيه الخطبة، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الجهاد، قاله زيد بن أسلم‏.‏

الثالث‏:‏ طاعة الله، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَئْذِنُوهُ‏}‏ أي لم ينصرفوا عنه حتى يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه‏.‏

‏{‏فَإِذَا اسْتَئذَنُوكَ لبَعْضِ شَأْنِهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وهذا بحسب ما يرى من أعذارهم ونياتهم وروي أن هذا نزل في عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان مع النبي صلى الله عليهم وسلم في غزاة بتوك فاستأذنه في الرجوع إلى أهله فقال‏:‏ «انْطَلِقْ فَوَاللَّهِ مَا أَنتَ بِمُنَافِقٍ وَلاَ مُرْتَابٍ» وكان المنافقون إذا استأذنوا نظر إليهم ولم يأذن لهم فكان بعضهم يقول لبعض‏:‏ محمدٌ يزعم أنه بُعِث بالعدل وهكذا يصنع بنا‏.‏

‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ‏}‏ يعني لمن أذن له من المؤمنين ليزول عنه باستغفاره ملامة الانصراف قال قتادة‏:‏ وهذه الآية ناسخة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَدِنتَ لَهُم‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضاً‏}‏ الآية‏.‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه نهي من الله عن التعرض لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسخاطه لأن دعاءه يوجب العقوبة وليس كدعاء غيره، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه نهي من الله عن دعاء رسول الله بالغلظة والجفاء وَلْيَدْعُ بالخضوع والتذلل‏:‏ يا رسول الله، يا نبي الله، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه نهي من الله عن الإِبطاء عند أمره والتأخر عند استدعائه لهم إلى الجهاد ولا يتأخرون كما يتأخر بعضهم عن إجابة بعض، حكاه ابن عيسى‏.‏

‏{‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم المنافقون كانوا يتسلّلُون عن صلاة الجمعة لواذاً أي يلوذ بعضهم ببعض ينضم إليه استتاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة فنزل ذلك فيهم، حكاه النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم كانوا يتسللون في الجهاد رجوعاً عنه يلوذ بعضهم ببعض لواذاً فنزل ذلك فيهم، قاله مجاهد‏.‏

وقال الحسن معنى قوله‏:‏ ‏{‏لِوَاذاً‏}‏ أي فراراً من الجهاد، ومنه قول حسان ابن ثابت‏:‏

وقريش تجول منكم لواذاً *** لم تحافظ وخفّ منها الحلوم

‏{‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يخالفون عن أمر الله، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ‏}‏ أي يعرضون عن أمره، وقال الأخفش‏:‏ ‏{‏عَنْ‏}‏ في هذا الموضع زائدة ومعنى الكلام فليحذر الذين يخالفون أمره، وسواء كان ما أمرهم به من أمور الدين أو الدنيا‏.‏

‏{‏أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ فيها ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ كفر، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ عقوبة، قاله ابن كامل‏.‏

الثالث‏:‏ بلية تُظْهِرُ ما في قلوبهم من النفاق، حكاه ابن عيسى‏.‏

‏{‏أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ القتل في الدنيا، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ عذاب بجهنم في الآخرة‏.‏

سورة الفرقان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ‏(‏1‏)‏ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ‏(‏2‏)‏ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ في تبارك ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ تفاعل مع البركة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الذي يجيئ البركة من قِبَلِهِ، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ خالق البركة‏:‏ قاله إبراهيم‏.‏

وفي البركة ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ العلو‏.‏ الثاني‏:‏ الزيادة‏.‏

الثالث‏:‏ العظمة‏.‏ فيكون تأويله على الوجه الأول‏:‏ تعالى، وعلى الوجه الثاني تزايد، وعلى الوجه الثالث‏:‏ تعاظم‏.‏

و ‏{‏الْفُرْقَانَ‏}‏ هو القرآن وقيل إنه اسم لكل كتاب منزل كما قال تعالى‏:‏

‏{‏وَإِذ ءَاتَينَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفَرْقَانَ‏}‏ وفي تسميته فرقاناً وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأنه فرق بين الحق والباطل‏.‏

الثاني‏:‏ لأن فيه بيان ما شرع من حلال وحرام، حكاه النقاش‏.‏

‏{‏عَلَى عَبْدِهِ‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، وقرأ ابن الزبير ‏{‏عَلَى عِبَادِهِ‏}‏ بالجمع‏.‏

‏{‏لِيَكُونَ لِلْعَالَمينَ نَذِيراً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ليكون محمد نذيراً، قاله قتادة، وابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ ليكون الفرقان، حكاه ابن عيسى‏.‏ والنذر‏:‏ المحذر من الهلاك، ومنه قول الشاعر‏:‏

فلما تلاقينا وقد كان منذر‏.‏ ***‏.‏ نذيراً فلم يقبل نصيحة ذي النذر

والمراد بالعالمين هنا الإِنس والجن لأن النبي صلى الله عليه قد كان رسولاً إليهما ونذيراً لهما وأنه خاتم الأنبياء، ولم يكن غيره عامّ الرسالة إلا نوحاً فإنه عم برسالته جميع الإِنس بعد الطوفان لأنه بدأ به الخلق، واختلف في عموم رسالته قبل الطوفان على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ عامة لعموم العقاب بالطوفان على مخالفته في الرسالة‏.‏

الثاني‏:‏ خاصة بقومه لأنه ما تجاوزهم بدعائه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ‏(‏4‏)‏ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏5‏)‏ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ يعني مشركي قريش، وقال ابن عباس‏:‏ القائل منهم ذلك النضر بن الحارث‏.‏

‏{‏إِن هذَآ‏}‏ يعني القرآن‏.‏

‏{‏إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ‏}‏ أي كذب اختلقه‏.‏

‏{‏وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ‏}‏ وفيمن زعموا أنه أعانه عليه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ قوم من اليهود، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ عبد الله الحضرمي، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ عدّاس غلام عتبة، قاله الكلبي‏.‏

والرابع‏:‏ أبو فكيهة الرومي، قاله الضحاك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 14‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ‏(‏7‏)‏ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏8‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏9‏)‏ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ‏(‏10‏)‏ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ‏(‏11‏)‏ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ‏(‏13‏)‏ لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ مَا لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم قالوا ذلك إزراء عليه أنه لما كان مثلهم محتاجاً إلى الطعام ومتبذلاً في الأسواق لم يجز أن يتميز عليهم بالرسالة ووجب أن يكون مثلهم في الحكم‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم قالوا ذلك استزادة له في الحال كما زاد عليهم في الاختصاص فكان يجب ألاّ يحتاج إلى الطعام كالملائكة، ولا يتبذل في الأسواق كالملوك‏.‏

ومرادهم في كلا الوجهين فاسد من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه ليس يوجب اختصاصه بالمنزلة نقله عن موضع الخلقة لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن كل جنس قد يتفاضل أهله في المنزلة ولا يقتضي تمييزهم في الخلقة كذلك حال من فضل في الرسالة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه لو نقل عن موضوع الخلقة بتمييزه بالرسالة لصار من غير جنسهم ولما كان رسولاً منهم، وذلك مما تنفر منه النفوس‏.‏

وأما الوجه الثاني‏:‏ فهو أن الرسالة لا تقتضي منعه من المشي في الأسواق لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن هذا من أفعال الجبابرة وقد صان الله رسوله عن التجبر‏.‏

الثاني‏:‏ لحاجته لدعاء أهل الأسواق إلى نبوته، ومشاهدة ما هم عليه من منكر يمنع منه ومعروف يقر عليه‏.‏

‏{‏لَوْلآَ أُنزِلَ إِلَيهِ‏}‏ الآية أي هلا أُنزل إليه ‏{‏مَلَكٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون الملك دليلاً على صدقه‏.‏

الثاني‏:‏ أن يكون وزيراً له يرجع إلى رأيه‏.‏

‏{‏أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ‏}‏ فلا يكون فقيراً‏.‏

‏{‏أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا‏}‏ والجنة البستان فكأنهم استقلّوه لفقره‏.‏ قال الحسن‏:‏ والله ما زَوَاهَا عن نبيه إلا اختياراً ولا بسطها لغيره إلا اغتراراً ولوا ذاك لما أعاله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الظَّالِمُونَ‏}‏ يعني مشركي قريش وقيل إنه عبد الله بن الزبعرى‏.‏

‏{‏إِن تَبَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ سحر فزال عقله‏.‏

الثاني‏:‏ أي سَحَرَكُمْ فيما يقوله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظُرْ كَيفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ‏}‏ يعني ما تقدم من قولهم‏.‏

‏{‏فَضَلُّواْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فضلواْ عن الحق في ضربها‏.‏

الثاني‏:‏ فناقضوا في ذكرها لأنهم قالوا افتراه ثم قالوا تملى عليه وهما متناقضان‏.‏

‏{‏فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ مخرجاً من الأمثال التي ضربوها، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ سبيلاً إلى الطاعة لله، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ سبيلاً إلى الخير، قاله يحيى بن سلام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً‏}‏ قال عبد الله بن عمرو‏:‏ إن جهنم لتضيق على الكافرين كضيق الزج على الرمح‏.‏

‏{‏مُّقَرَّنِينَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ مُكَتَفِينَ، قاله أبو صالح‏.‏

الثاني‏:‏ يقرن كل واحد منهم إلى شيطانه، قاله يحيى بن سلام‏.‏

‏{‏دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدهما‏:‏ ويلاً، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ هلاكاً، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ معناه وانصرافاه عن طاعة الله، حكاه ابن عيسى وروي النبي صلى الله عليه السلام أنه قال‏:‏ «أَوَّلُ مَن يَقُولُهُ إِبْلِيسُ

»

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ‏(‏15‏)‏ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ‏}‏ يعني من النعيم فأما المعاصي فتصرف عن شهواتهم‏.‏

‏{‏خَالِدِينَ‏}‏ يعني في الثواب كخلود أهل النار في العقاب‏.‏

‏{‏كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه وعد الله لهم بالجزاء فسألوه الوفاء فوفاه، وهو معنى قول ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ الملائكة تسأل الله لهم فيجابون إلى مسألتهم، وهو معنى قول محمد بن كعب القرظي‏.‏

الثالث‏:‏ أنه سألوا الله الجنة في الدنيا ورَغِبُوا إليه بالدعاء فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأعطاهم ما طلبوا، وهو معنى قول زيد بن أسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ‏(‏17‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ‏(‏18‏)‏ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُم‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما أنه حَشْرُ الموت، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ حشر البعث، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ‏}‏ قاله مجاهد‏:‏ هم عيسى وعزير والملائكة‏.‏ ‏{‏فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هؤُلآءِ‏}‏ وهذا تقرير لإِكذاب من ادّعى ذلك عليهم وإن خرج مخرج الاستفهام‏.‏

وفيمن قال له ذلك القول قولان‏:‏

أحدهما أنه يقال هذا للملائكة، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ لعيسى وعزير والملائكة، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏أَمْ هُمْ ضَلُّواْ السَّبِيلَ‏}‏ أي أخطأوا قصد الحق بأجابوا بأن‏:‏

‏{‏قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَن نَتَّخذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيآءَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما ما كنا نواليهم على عبادتنا‏.‏

الثاني‏:‏ ما كنا نتخذهم لنا أولياء‏.‏

‏{‏وَلكن مَّتَّعْنَهُمْ وَءَابَاءَهُمْ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ متعهم بالسلامة من العذاب، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ بطول العمر، حكاه النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ بالأموال والأولاد‏.‏

‏{‏حَتَّى نَسُواْ الذِكْر‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ حتى تركوا القرآن، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ حتى غفلوا عن الطاعة‏.‏

الثالث‏:‏ حتى نسوا الإِحسان إليهم والإِنعام عليهم‏.‏

‏{‏وََكَانَوا قَوْماً بُوراً‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني هلكى، قاله ابن عباس، مأخوذ من البوار وهو الهلاك‏.‏

الثاني‏:‏ هم الذين لا خير فيهم، قاله الحسن مأخوذ من بوار الأرض وهو تعطلها من الزرع فلا يكون فيها خير‏.‏

الثالث‏:‏ أن البوار الفساد، قاله شهر بن حوشب وقتادة، مأخوذ من قولهم بارت إذا كسدت كساد الفاسد ومنه الأثر المروي‏:‏ نعوذ بالله من بوار الأيم، وقال عبد الله بن الزِبعرى‏:‏

يا رسول المليك إن لساني‏.‏ ***‏.‏ راتق ما فتقت إذ أنا بُور

‏{‏فقد كذبوكُم بما تقولون‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الملائكة والرسل قد كذبوا الكفار فيما يقولون أنهم اتخذوهم أولياء من دونه، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أن المشركين كذبوا المؤمنين فيما يقولونه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن زيد‏.‏

‏{‏فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ صرف العذاب عنهم ولا ينصرون أنفسهم، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ فما يستطيعون صرف الحجة عنهم ولا نصراً على آلهتهم في تعذيبهم، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ فما يستطيعون صرفك يا محمد عن الحق ولا نصر أنفسهم من عذاب التكذيب، حكاه عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ أن الصرف الحيلة حكاه ابن قتيبة والصرف الحيلة مأخوذ من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال‏.‏

وأما قولهم لا يقبل منهم صرف ولا عَدْل ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الصرف‏:‏ النافلة، والعَدل‏:‏ الفريضة‏.‏

الثاني‏:‏ أن الصرف‏:‏ الدية، والعَدل‏:‏ القود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه افتتان الفقير بالغني أن يقول لو شاء الله لجعلني مثله غنياً والأعمى بالبصير أن يقول لو شاء لجعلني مثله بصيراً، والسقيم بالصحيح أن يقول لو شاء لجعلني مثله صحيحاً، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ فتنة بالعدوان في الدين، حكاه ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ أن الفتنة صبر الأنبياء على تكذيب قومهم، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الرابع‏:‏ أنها نزلت حين أسلم أبو ذر الغفاري وعمار وصهيب وبلال وعامر بن فهيرة وسلام مولى أبي حذيفة وأمثالهم من الفقراء الموالي فقال المستهزئون من قريش‏:‏ انظروا إلى أتباع محمد من فقرائنا وموالينا فنزلت فيهم الآية، حكاه النقاش‏.‏

وفي الفتنة هنا وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ البلاء‏.‏

والثاني‏:‏ الاختبار‏.‏

‏{‏أَتَصْبِرُونَ‏}‏ يعني على ما مُحِنْتُمْ به من هذه الفتنة، وفيه اختصار وتقديره أم لا تصبرون‏.‏

‏{‏وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً‏}‏ قال ابن جريج‏:‏ بصيراً بما يصبر ممن يجزع‏.‏

ويحتمل وجهاً آخر‏:‏ بصيراً بالحكمة فيما جعل بعضكم لبعض فتنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ‏(‏21‏)‏ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ‏(‏22‏)‏ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ‏(‏23‏)‏ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءِنَا‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لا يخافون ولا يخشون، قاله السدي، ومنه قول الشاعر‏:‏

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها *** وخالفها في بيت نوب عوامل

أي لم يخش‏.‏ الثاني‏:‏ لا يبالون، قاله ابن عمير، وأنشد لخبيب‏.‏

لعمرك ما أرجوا إذا كنت مسلماً *** على أي حال كان في الله مصرعي

أي ما أبالي‏.‏

الثالث‏:‏ لا يأملون، حكاه ابن شجرة وأنشد قول الشاعر‏:‏

أترجو أمة قتلت حسينا *** شفاعة جَدِّه يوم الحسابِ

‏{‏لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ليخبرونا أن محمداً نبي قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ ليكونوا رسلاً إلينا من ربهم بدلاً من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏أَوْ نَرَى رَبَّنَا‏}‏ فيأمرنا باتباع محمد وتصديقه‏.‏

‏{‏لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تكبرواْ في أنفسهم لما قل في أعينهم من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم نبياً إليهم‏.‏

الثاني‏:‏ استكبروا في أنفسهم بما اقترحوه من رؤية الله ونزول الملائكة عليهم‏.‏

‏{‏وَعَتَوْ عُنُوّاً كَبِيراً‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه التجبر، قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ العصيان، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثالث‏:‏ أنه السرف في الظلم، حكاه ابن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ أنه الغلو في القول، حكاه النقاش‏.‏

الخامس‏:‏ أنه شدة الكفر، قاله ابن عباس‏.‏

قيل إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ومكرز بن حفص بن الأخنف في جماعة من قريش قالوا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا‏.‏

فنزل فيهم قوله تعالى‏:‏

‏{‏يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ عند الموت، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ يوم القيامة، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمينَ‏}‏ يعني بالجنة، قاله عطية العوفي‏:‏ إذا كان يوم القيامة يلقى المؤمن بالبشرى فإذا رأى الكافر ذلك تمناه فلم يره من الملائكة‏.‏

‏{‏وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً‏}‏ فيه ثلاث أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه معاذ الله أن تكون لكم البشرى يومئذ، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ معناه‏:‏ منعنا أن نصل إلى شيء من الخير، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ حراماً محرماً أن تكون لكم البشرى يومئذ، قاله أبو سعيد الخدري، والضحاك، وقتادة ومنه قول الملتمس‏:‏

حَنّتْ إلى النخلة القصوى فقلت لها *** حجْرٌ حرام إلا تلك الدهاريس‏.‏

وفي القائلين حجراً محجوراً قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الملائكة قالوه للكفار، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم الكفار قالوه لأنفسهم، قاله قتادة‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وَقَدِمْنآ‏}‏ أي عمدنا، قاله مجاهد، قال الراجز‏:‏

وقدم الخوارج الضلال *** إلى عباد ربهم فقالوا

إن دماءَكم لنا حلال *** ‏{‏إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ من عمل خيراً لا يتقبل منهم لإِحباطه بالكفر، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ من عمل صالحاً لا يراد به وجه الله، قاله ابن المبارك‏.‏

‏{‏فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً‏}‏ فيه خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه رهج الدواب، قاله علي بن أبي طالب‏.‏

الثاني‏:‏ أنه كالغبار يكون في شعاع الشمس إذا طلعت في كوة، قاله الحسن، وعكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه ما ذرته الرياح من يابس أوراق الشجر، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ أنها الماء المراق، قاله ابن عباس‏.‏

الخامس‏:‏ أنه الرماد، قاله عبيد بن يعلى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَراً‏}‏ يعني منزلاً في الجنة من مستقر الكفار في النار‏.‏

‏{‏وَأَحْسَنُ مَقِيلاً‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه المستقر في الجنة والمقيل دونها، قاله أبو سنان‏.‏

الثاني‏:‏ أنه عنى موضع القائلة للدعة وإن لم يقيلواْ، ذكره ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ أنه يقيل أولياء الله بعد الحساب على الأسرة مع الحور العين، ويقيل أعداء الله مع الشياطين المقرنين، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ لأنه يفرغ من حسابهم وقت القائلة وهو نصف النهار، فذلك أحسن مقيلاً، من مقيل الكفار، قاله الفراء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا ‏(‏25‏)‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ‏(‏26‏)‏ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ‏(‏27‏)‏ يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ‏(‏28‏)‏ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بمعنى على الغمام كما يقال رميت بالقوس وعن القوس ويكون المراد به الغمام المعهود والذي دون السماء لأنه يبقى دونها إذا انشقت غمام‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه غمام أبيض يكون في السماء ينزله الله على أنبيائه مثل الذي أظل بني إسرائيل، وقد قال في ظل من الغمام فتنشق السماء فيخرج منها‏.‏

‏{‏وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً‏}‏ يعني أن الملائكة تنزل فيه يوم القيامة، وهو يوم التلاق‏.‏ الذي يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض‏.‏

وفي نزولهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ليبشروا المؤمن بالجنة، والكافر بالنار‏.‏

الثاني‏:‏ ليكون مع كل نفس سائق وشهيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ‏}‏ قيل هو عقبة بن أبي معيط‏.‏

‏{‏يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ سبيلاً بطاعة الله، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ طريقاً إلى النجاة، حكاه ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ وسيلة عند الرسول يكون وصلة إليه، قاله الأخفش‏.‏

‏{‏يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يعني الشيطان، قاله مجاهد، وأبو رجاء‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أبي بن خلف، قاله عمرو بن ميمون‏.‏

الثالث‏:‏ أنه أمية بن خلف، قاله السدي، وذكر أن سبب ذلك أن عقبة وأمية كانا خليلين وكان عقبة يغشى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أمية بن خلف له‏:‏ بلغني أنك صبوت إلى دين محمد، فقال ما صبوت، قال‏:‏ فوجهي من وجهك حرام حتى تأتيه فتتفُل في وجهه وتتبرأ منه فأتى عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفل على جهه وتبرأ منه، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيه مخبراً عما يصير إليه ‏{‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالمُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية والتي بعدها‏.‏ وفلانٌ لا يُثنى ولا يُجمْع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا ‏(‏30‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرَءَانَ مَهْجُوراً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم هجروه بإعراضهم عنه فصار مهجوراً، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم قالوا فيه هجراً أي قبيحاً، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم جعلوه هجراً من الكلام وهو ما لا نفع فيه من العبث والهذيان، قاله ابن قتيبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ‏(‏32‏)‏ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ‏(‏33‏)‏ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً‏}‏ في قائل ذلك من الكفار قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم كفار قريش، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقاً، قالوا‏:‏ هلا أُنزِل عليه جملة واحدة، كما أنزلت التوراة على موسى‏.‏

‏{‏كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لنشجع به قلبك، لأنه معجز يدل على صدقك، وهو معنى قول السدي‏.‏

الثاني‏:‏ معناه كذلك أنزلناه مفرقاً لنثبته في فؤادك‏.‏

وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأنه كان أمياً ولم ينزل القرآن عليه مكتوباً، فكان نزوله مفرقاً أَثبتَ في فؤاده، وأَعلَقَ بقلبه‏.‏

الثاني‏:‏ لنثبت فؤادك باتصال الوحي ومداومة نزول القرآن، فلا تصير بانقطاع الوحي مستوحشاً‏.‏

‏{‏وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ ورسلناه ترسيلاً، شيئاً بعد شيء، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ وفرقناه تفريقاً، قاله إبراهيم‏.‏

الثالث‏:‏ وفصلناه تفصيلاً، قاله السدي‏.‏

الرابع‏:‏ وفسرناه تفسيراً، قاله ابن زيد‏.‏

الخامس‏:‏ وبينَّاه تبييناً، قاله قتادة‏.‏

روي عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يَا ابْنَ عَبَّاسِ إِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَرِتّلْهُ تَرْتِيلاً» فقلت وما الترتيل‏؟‏، قال‏:‏ «بَيِّنْهُ تَبْييناً وَلاَ تَبْتُرْهُ بَتْرَ الدقلِ، وَلاَ تهذه هذّ الشِّعرِ وَلاَ يَكُونُ هَمَّ أَحدِكُم آخِرَ السُّورَةِ

»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 40‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ‏(‏35‏)‏ فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ‏(‏36‏)‏ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏37‏)‏ وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ‏(‏38‏)‏ وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ‏(‏39‏)‏ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَصْحَابَ الرَّسِّ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الرس المعدن، قاله أبو عبيدة‏.‏ الثاني‏:‏ أنه قرية من قرى اليمامة يقال له الفج من ثمود، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه ما بين نجران واليمن إلى حضرموت، قاله بعض المفسرين‏.‏

الرابع‏:‏ أنه البئر‏.‏

وفيها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه بئر بأذربيجان، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنها البئر التي قتل فيها صاحب ياسين بأنطاكية الشام حكاه النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ أن كل بئر إذا حفرت ولم تطو فهي رس قال زهير‏:‏

بكرن بكوراً واستحرن بسحرة *** فهن ووادي الرس كاليد في الفم

وفي أصحاب الرس أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم قوم شعيب، حكاه بعض المفسرين‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم قوم رسوا نبيهم في بئر، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم قوم كانوا نزولاً على بئر يعبدون الأوثان، وكانوا لا يظفرون بأحد يخالف دينهم إلا قتلوه ورسوه فيها، وكان الرس بالشام، قاله الضحاك‏.‏

الرابع‏:‏ أنهم قوم أرسل الله إليهم نبياً فأكلوه وهم أول من عمل نساؤهم السحر، قاله الكلبي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَتَوْاْ عَلَى الْقَرْيَةِ‏}‏ وهي سدوم قرية لوط‏.‏

‏{‏الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءٍ‏}‏ الحجارة التي أُمطِرُوا بها، والذين أتوا عليها قريش‏.‏

‏{‏أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا‏}‏ أي يعتبرون بها‏.‏

‏{‏بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نَشُوراً‏}‏ أي لا يخافون بعثاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ‏(‏41‏)‏ إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏42‏)‏ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ‏(‏43‏)‏ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَههُ هَوَاهُ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم قوم كان الرجل منهم يعبد حجراً يستحسنه، فإذا رأى أحسن منه عبده وترك الأول، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الحارث بن قيس كان إذا هوى شيئاً عبده، حكاه النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الذي يتبع هواه في كل ما دعا إليه، قاله الحسن، وقتادة‏.‏

‏{‏أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني ناصراً، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ حفيظاً، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثالث‏:‏ كفيلاً قاله الكلبي‏.‏

الرابع‏:‏ مسيطراً، قاله السّدي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ‏(‏45‏)‏ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ‏(‏46‏)‏ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ‏}‏ أي بسطه على الأرض وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الظل الليل لأنه ظل الأرض يقبل بغروب الشمس ويدبر بطلوعها‏.‏

الثاني‏:‏ أنه ظل النهار بما حجب من شعاع الشمس‏.‏

وفي الفرق بين الظل والفيء وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الظل ما قبل طلوع الشمس والفيء ما بعد طلوعها‏.‏

الثاني‏:‏ أن الظل ما قبل الزوال والفيء ما بعده‏.‏

‏{‏ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا‏}‏ يعني الظل، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قبض الظل بطلوع الشمس‏.‏

الثاني‏:‏ بغروبها‏.‏

‏{‏قَبْضاً يَسِيراً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ سريعاً، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ سهلاً، قاله أبو مالك‏.‏

الثالث‏:‏ خفياً، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً‏}‏ يعني غطاءً لأن يَسْتُرُ كمَا يستر اللباس‏.‏

‏{‏وَالنَّوْمَ سُبَاتاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأنه مسبوت فيه، والنائم لا يعقل كالميت، حكاه النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ يعني راحة لقطع العمل ومنه سمي يوم السب، لأنه يوم راحة لقطع العمل، حكاه ابن عيسى‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لانتشار الروح باليقظة فيه مأخوذ من النشر والبعث‏.‏

الثاني‏:‏ لانتشار الناس في معايشهم، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 50‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ‏(‏48‏)‏ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ‏(‏49‏)‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ‏}‏ قال أبي بن كعب كل شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة، وكل شيء في القرآن من الريح فهو عذاب‏.‏

وقيل‏:‏ لأن الرياح جمع وهي الجنوب والشمال والصبا لأنها لواقح، والعذاب ريح واحدة وهي الدبور لأنها لا تلقح‏.‏

‏{‏بُشْراً‏}‏ قرئت بالنون وبالباء فمن قرأ بالنون ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه نشر السحاب حتى يمطر‏.‏

الثاني‏:‏ حياة لخلقه كحياتهم بالنشور‏.‏

ومن قرأ ‏{‏بُشْراً‏}‏ بالباء ففيه وجهان‏:‏

أحدهما لأنها بشرى بالمطر‏.‏

الثاني‏:‏ لأن الناس يستبشرون بها‏.‏

‏{‏بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ‏}‏ يعني المطر لأنه رحمة من الله لخلقه، وتأوله بعض أصحاب الخواطر يرسل رياح الندم بين يدي التوبة‏.‏

‏{‏وَأَنزَلْنَا السَّمِآءِ مَآءً طَهُوراً‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ طاهراً، قاله أبو حنيفة ولذلك جوز إزالة النجاسات بالمائعات الطاهرات‏.‏

الثاني‏:‏ مطهراً، قاله الشافعي ولذلك لم يجوز إزالة النجاسة بمائع سوى الماء‏.‏

‏{‏لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً‏}‏ وهي التي لا عمارة فيها ولا زرع، وإحياؤها يكون بنبات زرعها وشجرها، فكما أن الماء يطهر الأبدان من الأحداث والأنجاس، كذلك الماء يطهر الأرض من القحط والجدب‏.‏

‏{‏وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنآ أَنْعَاماً وَأنَاسِيَّ كَثِيراً‏}‏ فجمع بالماء حياة النبات والحيوان وفي الأناسي وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه جمع إنسي‏.‏

الثاني‏:‏ جمع إنسان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الفرقان المذكور في أول السورة‏.‏

الثاني‏:‏ أراد الماء الذي أنزله طهوراً‏.‏

وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني قسمنا المطر فلا يدوم على مكان، فيهلك ولا ينقطع عن مكان، فيهلك، وهو معنى قول قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه يصرفه في كل عام من مكان إلى مكان، قال ابن عباس ليس عام بأمطر من عام، ولكن الله يصرفه بين عباده‏.‏

‏{‏لِيَذَّكَّرُوا‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ ليتذكروا النعمة بنزوله‏.‏

الثاني‏:‏ ليتذكروا النعمة بانقطاعه‏.‏

‏{‏فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسَ إِلاَّ كُفُوراً‏}‏ قال عكرمة‏:‏ هو قولهم مطرنا بالأنواء‏.‏ روى الربيع بن صبيح قال‏:‏ أمطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أَصْبَحَ النَّاسُ فِيهَا بَيْنَ رَجْلَينِ شَاكِرٍ وَكَافِرٍ، فَأَمَّا الشَّاكِرُ فَيحْمِدُ اللَّهَ عَلَى سُقْياهُ وَغِيَاثِهِ وَأَمَّا الكَافِرُ فَيقُولُ مطرنَا بِنَوءِ كَذَا وَكَذَا

»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 54‏]‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ‏(‏51‏)‏ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ‏(‏52‏)‏ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ‏(‏53‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ‏}‏ يعني إلى ما يدعونك إليه‏:‏ إما من تعظيم آلهتهم، وإما من موادعتهم‏.‏

‏{‏وَجَاهِدْهُم بِهِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بالقرآن‏.‏

الثاني‏:‏ بالإِسلام‏.‏

‏{‏جِهَاداً كَبِيراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بالسيف‏.‏

الثاني‏:‏ بالغلظة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَينِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ هو إرسال أحدهما إلى الآخر، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ هو تخليتها، حكاه النقاش وقال الأخفش مأخوذ من مَرَجْتَ الشيء إذا خليته، وَمَرَجَ الوالي الناس إذا تركهم، وأمرجت الدابّة إذا خليتها ترعى، ومنه قول العجاج‏.‏

«رَعى بها مَرْج ربيع ممرجاً» *** وفي البحرين ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ بحر السماء وبحر الأرض، وهو قول سعيد، ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ بحر فارس والروم، وهو قول الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ بحر العذب وبحر المالح‏.‏ ‏{‏هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ‏}‏ قال عطاء‏:‏

الفرات‏:‏ العذب، وقيل هو أعذب العذب‏.‏

وفي الأجاج‏:‏ ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه المالح، وهو قول عطاء، وقيل‏:‏ هو أملح المالح‏.‏

الثاني‏:‏ أنه المر، وهو قول قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الحار المؤجج، مأخوذ من تأجج النار، وهو قول ابن بحر‏.‏

‏{‏وََجَعلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً‏}‏ فيه ثلاثة أقويل‏:‏

أحدها‏:‏ حاجز من البر، وهو قول الحسن، ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أن البرزخ‏:‏ التخوم، وهو قول قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الأجل ما بين الدنيا والآخرة، وهو قول الضحاك‏.‏

‏{‏وَحِجْراً مَّحْجُوراً‏}‏ أي مانعاً لا يختلط العذب بالمالح، ومنه قول الشاعر‏:‏

فَرُبّ في سُرادقٍ محجورِ *** سرت إليه من أعالي السور

محجور أي ممنوع‏.‏

وتأول بعض المتعمقين في غوامض المعاني أن مرج البحرين قلوب الأبرار مضيئة بالبر، وهو العذب، وقلوب الفجار مظلمة بالفجور وهو الملح الأجاج، وهو بعيد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً‏}‏ يعني من النطفة إنساناً‏.‏

‏{‏فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً‏}‏ فالنسب مِن تناسُب كل والد وولد، وكل شيء أضفته إلى شيء عرفته به فهو مناسِبُهُ‏.‏

وفي الصهر وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الرضاع وهو قول طاووس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه المناكح وهو معنى قول قتادة، وقال الكلبي‏:‏ النسب من لا يحل نكاحه من القرابة، والصهر من يحل نكاحه من القرابة وغير القرابة‏.‏

وأصل الصهر الاختلاط، فسميت المناكح صهراً لاختلاط الناس بها، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُوِهِم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 20‏]‏ وقيل إن أصل الصهر الملاصقة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 60‏]‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ‏(‏55‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏56‏)‏ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏57‏)‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ‏(‏58‏)‏ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ‏(‏59‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبّهِ ظَهِيراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ عوناً، مأخوذ من المظاهر وهي المعونة، ومعنى قوله ‏{‏عَلَى رَبِّهِ‏}‏ أي على أولياء ربه‏.‏

الثاني‏:‏ هيناً، مأخوذ من قولهم ظهر فلان بحاجتي إذا تركها واستهان بها قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُم ظِهْريّاً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 92‏]‏ أي هيناً، ومنه قول الفرزدق‏:‏

تميم بن زيد لا تكونن حاجتي *** بظهرٍ فلا يعيا عَلَيّ جوابها

قيل إنها نزلت في أبي جهل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيل لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَن قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأَمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن العرب لم تكن تعرف الرحمن في أسماء الله تعالى‏:‏ وكان مأخوذاً من الكتاب فلما دعوا إلى السجود لله تعالى بهذا الاسم سألواْ عنه مسألة الجاهل به فقالواْ ‏{‏وَمَا الرَّحْمَن أَنَسْجُدُ لِمَا تَأَمْرُنَا‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ أن مسيلمة الكذاب كان يسمى الرحمن، فلما سمعوا هذا الاسم في القرآن حسبوه مسيلمة، فأنكروا ما دعوا إليه من السجود له‏.‏

والثالث‏:‏ أن هذا قول قوم كانواْ يجحدون التوحيد ولا يقرون بالله تعالى، فلما أمروا أن يسجدوا للرحمن ازدادوا نفوراً مع هواهم بما دعوا إليه من الإيمان، وإلا فالعرب المعترفون بالله الذين يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى كانوا يعرفون الرحمن في أسمائه وأنه اسم مسمى من الرحمة يدل على المبالغة في الوصف، وهذا قول ابن بحر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 62‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ‏(‏61‏)‏ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً‏}‏ فيها أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها النجوم العظام، وهو قول أبي صالح‏.‏

الثاني‏:‏ أنها قصور في السماء فيها الحرس، وهو قول عطية العوفي‏.‏

الثالث‏:‏ أنها مواضع الكواكب‏.‏

والرابع‏:‏ أنها منازل الشمس، وقرئ بُرجاً، قرأ بذلك قتادة، وتأوله النجم‏.‏

‏{‏وَقَمَراً مُّنِيراً‏}‏ يعني مضيئاً، ولذا جعل الشمس سراجاً والقمر منيراً، لأنه لما اقترن بضياء الشمس وهَّج حرّها جعلها لأجل الحرارة سراجاً، ولما كان ذلك في القمر معدوماً جعله نوراً‏.‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَار خِلْفَةً‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏ أحدها‏:‏ أنه جعل ما فات من عمل أحدهما خلفة يقضي في الآخر، قاله عمر ابن الخطاب والحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنه جعل كل واحد منهما مخالفاً لصاحبه فجعل أحدهما أبيض والآخر أسود، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أن كل واحد منهما يخلف صاحبه إذا مضى هذا جاء هذا، قاله ابن زيد ومنه قول زهير‏:‏

بها العين والآرام يمشين خلفة *** وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

‏{‏لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ‏}‏ أي يصلي بالنهار صلاة الليل ويصلي بالليل صلاة النهار‏.‏

‏{‏أَوْ أَرَادَ شُكُوراً‏}‏ هو النافلة بعد الفريضة، وقيل نزلت هذه الآية في عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏