فصل: سورة لقمان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


سورة لقمان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏3‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏الم‏.‏ تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ المحكم أَحكمت آياته بالحلال والحرام والأحكام‏.‏ قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ المتقن لا يأيته الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو قريب من المعنى الأول، قاله ابن شجرة‏.‏

الثالث‏:‏ البين أنه من عند الله، قاله الضحاك‏.‏

الرابع‏:‏ أنه يظهر من الحكمة بنفسه كما يظهره الحكيم بقوله، قاله ابن عيسى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُدًى‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ هدى من الضلالة، قاله الشعبي‏.‏

الثاني‏:‏ هدى إلى الجنة، قاله يحيى بن آدم‏.‏

‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن القرآن رحمة من العذاب لما في من الزجر عن استحقاقه وهو وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه خرج مخرج النعت بأنه هدى ورحمة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه خرج مخرج المدح بأن فيه هدى ورحمة‏.‏

‏{‏لِلْمُحْسِنِينَ‏}‏ وفي الإحسان ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الإيمان الذي يحسن به إلى نفسه، قاله ابن شجرة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الصلة والصلاة، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ ما روى عمر بن الخطاب قال‏:‏ بينما أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فقال‏:‏ يا رسول الله ما الإحسان‏؟‏ قال‏:‏ «أًن تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِن لَّمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ‏.‏ وَتُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحبُ لِنَفْسِكَ» قال‏:‏ فإذا فعلت ذلك فأنا محسن‏؟‏ قال‏:‏ «نعم» قال الرجل‏:‏ صدقت‏.‏ ثم انطلق الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عَلَيَّ بِالرَّجُلِ»‏.‏ فطلبناه فلم نقدر عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللَّهُ أَكْبَرُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيِهِ السَّلاَمُ أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَكُم أَمُورَ دِينِكُم

»‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِن رَّبِّهِم‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ على نور من ربهم، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ على بينة، قاله ابن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ على بيان، قاله يحيى بن سلام‏.‏

‏{‏وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ بمعنى السعداء، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ المنجحون، قاله ابن شجرة‏.‏

الثالث‏:‏ الناجحون، قاله النقاش‏.‏

الرابع‏:‏ أنهم الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربواْ، قاله ابن عباس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِن النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ‏}‏ فيه سبعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ شراء المغنيات لرواية القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغنِيَاتِ وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ وَلاَ التِّجَارَةُ فِيهِنَّ وَلاَ أَثْمَانُهُنَّ وَفِيهِنَّ أنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ

‏}‏»‏.‏ الثاني‏:‏ الغناء، قاله ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وابن جبير وقتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الطبل، قاله عبد الكريم، والمزمار، قاله ابن زخر‏.‏

الرابع‏:‏ أنه الباطل، قاله عطاء‏.‏

الخامس‏:‏ أنه الشرك بالله، قاله الضحاك وابن زيد‏.‏

السادس‏:‏ ما ألهى عن الله سبحانه، قال الحسن‏.‏

السابع‏:‏ أنه الجدال في الدين والخوض في الباطل، قاله سهل بن عبد الله‏.‏

ويحتمل إن لم يثبت فيه نص تأويلاً ثامناً‏:‏ أنه السحر والقمار والكهانة‏.‏

وفيمن نزلت قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت في النضر بن الحارث كان يجلس بمكة فإذا قالت قريش إن محمداً قال كذا وكذا ضحك منه وحدثهم بحديث رستم واسفنديار ويقول لهم إن حديثي أحسن من قرآن محمد، حكاه الفراء والكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ أنها نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية فشغل بها الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، حكاه ابن عيسى‏.‏

‏{‏لِيُضِلَّ عَن سَبيلِ اللَّهِ بِغَيرِ عِلْمٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ليصد عن دين الله، قاله الطبري‏.‏

الثاني‏:‏ ليمنع من قراءة القرآن، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏بِغَيرِ عِلْمٍ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ بغير حجة‏.‏

الثاني‏:‏ بغير رواية‏.‏

‏{‏وَيَتَّخِذُهَا هُزُواً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يتخذ سبيل الله هزواً يكذب بها، قاله قتادة‏.‏ وسبيل الله دينه‏.‏

الثاني‏:‏ يستهزئ بها، قاله الكلبي‏.‏

‏{‏وَأُوْلئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ أي مذل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 11‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏10‏)‏ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ السَّموَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بعمد لا ترونها، قاله عكرمة ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنها خلقت بغير عمد، قاله الحسن وقتادة‏.‏

‏{‏وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ‏}‏ أي جبالاً‏.‏

‏{‏أَن تَمِيدَ بِكُمْ‏}‏ أي لئلا تميد بكم وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه أن لا تزول بكم، قاله النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ أن لا تتحرك بكم، قاله يحيى بن سلام‏.‏ وقيل‏:‏ إن الأرض كانت تتكفأ مثل السفينة فأرساها الله بالجبال وأنها تسعة عشر جبلاً تتشعب في الأرض حتى صارت لها أوتاداً فتثبتت وروى أبو الأشهب عن الحسن قال‏:‏ لما خلق الله الأرض جعلت تميد فلما رأت الملائكة ما تفعل الأرض قالوا‏:‏ ربنا هذه لا يقر لك على ظهرها خلق، فأصبح قد ربطها بالجبال فلما رأت الملائكة الذي أرسيت به الأرض عجبواْ فقالوا‏:‏ يا ربنا هل خلقت خلقاً هو أشد من الجبال‏؟‏ قال‏:‏ نَعَم الرِّيحُ قالوا‏:‏ هل خلقت خلقاً هو أشد من الريح‏؟‏ قال‏:‏ «نَعَمْ ابنُ آدَمَ»‏.‏

‏{‏وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ وخلق فيها، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ وبسط، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ فرق فيها من كل دابة وهو الحيوان سُمِّيَ بذلك لدبيبه والدبيب الحركة‏.‏

‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الناس هم نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ومن دخل النار فهو لئيم، قاله الشعبي‏.‏

الثاني‏:‏ أن نبات الأرض أشجارها وزرعها، والزوج هو النوع‏.‏

وفي الكريم ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الحسن، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الطيب الثمر، قاله ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ أنه اليانع، قاله ابن كامل‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أن الكريم ما كثر ثمنه لنفاسة القدر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ‏}‏ اختلف في نبوته على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه نبي، قاله عكرمة والشعبي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه حكيم وليس بنبي، قاله مجاهد وقتادة وسعيد بن المسيب‏.‏ ووهب بن منبه، قال إسماعيل‏:‏ كان لقمان من سودان مصر ذا مشافر أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ خير الله لقمان بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة على النبوة فأتاه جبريل وهو نائم فذر عليه الحكمة فأصبح ينطق بها، فقيل له‏:‏ كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك‏؟‏ فقال‏:‏ إنه لو أرسل إليّ بالنبوة عزمة لرجوت فيه العون منه ولكنت أرجو أن أقوم بها، ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة فكانت الحكمة أحب إليّ‏.‏

واختلف في جنسه على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه كان من النوبة قصيراً أفطس، قاله جابر بن عبد الله‏.‏

الثاني‏:‏ كان عبداً حبشياً، قاله ابن عباس‏.‏

واختلف في صنعته على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه كان خياطاً بمصر، قاله سعيد بن المسيب‏.‏

الثاني‏:‏ أنه كان راعياً فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال‏:‏ ألست عبد بني فلان الذي كنت ترعى بالأمس‏؟‏ قال بلى، قال‏:‏ فما بلغ بك ما أرى‏؟‏ قال‏:‏ قَدَرُ الله وأدائي الأمانة، وصدق الحديث وتركي ما لا يعنيني، قاله عبد الرحمن بن زيد بن جابر‏.‏

الثالث‏:‏ أنه كان نجاراً فقال له سيده‏:‏ اذبح لي شاة وأتني بأطيبها مضغتين فأتاه باللسان والقلب فقال له‏:‏ ما كان فيها شيء أطيب من هذين فسكت، ثم أمره فذبح له شاة ثم قال‏:‏ أَلقِ أخبثها مضغتين فألقى اللسان والقلب فقال له‏:‏ أمرتك أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني باللسان والقلب وأمرتك أن تلقي أخبثها مضغتين فألقيت باللسان والقلب فقال إنه ليس شيئ أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا، قاله خالد الربعي‏.‏

واختلف في زمانه على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه كان فيما بين عيسى ومحمد عليهما السلام‏.‏

الثاني‏:‏ أنه ولد كوش بن سام بن نوح، ولد لعشر سنين من ملك داود عليه السلام وبقي إلى زمن يونس عليه السلام‏.‏

وفي ‏{‏الْحِكْمَةَ‏}‏ التي أوتيها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الفهم والعقل، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ الفقه والعقل والإصابة في القول، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ الأمانة‏.‏

‏{‏أَنِ اشكُرْ لِلَّهِ‏}‏ يعني نعم اللَّه، فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معنى الكلام‏:‏ ولقد آتيناه الحكمة وآتيناه الشكر لله، قاله المفضل‏.‏

الثاني‏:‏ آتيناه الحكمة لأن يشكر لله، قاله الزجاج‏.‏

وفي شكره أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ هو حمده على نعمه‏.‏

الثاني‏:‏ هو ألا يعصيه على نعمه‏.‏

الثالث‏:‏ هو ألا يرى معه شريكاً في نعمه عليه‏.‏

الرابع‏:‏ هو طاعته فيما أمره‏.‏

‏{‏وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ‏}‏ أي يعود شكره إلى نفسه لأنه على النعمة إذا زاد من الشكر‏.‏

‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني كفر بالله واليوم الآخر، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ كُفْرُ النعمة، قاله يحيى بن سلام‏.‏

‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ غني عن خلقه حميد في فعله، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ غني عن شكره مستحمد إلى خلقه، قاله ابن عيسى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ‏(‏13‏)‏ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏14‏)‏ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ‏}‏ أي واذكر يا محمد مقالة لقمان لابنه، وفي اسم ابنه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ مشكم، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ أنعم، حكاه النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ بابان‏.‏

‏{‏وَهُوَ يَعِظُهُ‏}‏ أي يُذكِرُهُ ويؤدبه‏.‏

‏{‏يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكَ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ يعني عند اللَّه، وسماه ظلماً لأنه قد ظلم به نفسه، وقيل إنه قال ذلك لابنه وكان مشركاً، وقوله ‏{‏يَا بُنَيَّ‏}‏ ليس هو حقيقة التصغير وإن كان على لفظه وإنما هوعلى وجه الترقيق كما يقال للرجل يا أُخَيّ‏.‏ وللصبي هو كُوَيّس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ‏}‏ يعني براً وتحنناً عليهما‏.‏ وفيهما قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها عامة وإن جاءت بلفظ خاص والمراد به جميع الناس، قاله ابن كامل‏.‏

الثاني‏:‏ خاص في سعد بن أبي وقاص وُصي بأبويه؛ واسم أبيه مالك واسم أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية، حكاه النقاش‏.‏

‏{‏حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه شدة على شدة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ جهداً على جهد‏.‏ قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ ضعفاً على ضعف، قاله الحسن وعطاء‏.‏ ومن قول قعنب ابن أم صاحب‏:‏

هل للعواذل من ناهٍ فيزجرها *** إن العواذل فيها الأيْنُ والوهن

يعني الضعف‏.‏

ثم فيه على هذا التأويل ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ضعف الولد على ضعف الوالدة، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ ضعف نطفة الأب على نطفة الأم، قاله ابن بحر‏.‏

الثالث‏:‏ ضعف الولد حالاً بعد حال فضعفه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً سوياً ثم مولوداً ثم رضيعاً ثم فطيماً، قاله أبو كامل‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ ضعف الجسم على ضعف العزم‏.‏

‏{‏وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ‏}‏ يعني بالفصال الفطام من رضاع اللبن‏.‏

واختلف في حكم الرضاع بعد الحولين هل يكون في التحريم كحكمه في الحولين على أربعة أقاويل‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لا يحرم بعد الحولين ولو بطرفة عين لتقدير الله له بالحولين ولقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لاَ رَضَاعةَ بَعْدَ الحَولَينِ» وهذا قول الشافعي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه يحرم بعد الحولين بأيام، وهذا قول مالك‏.‏

الثالث‏:‏ يحرم بعد الحولين بستة أشهر استكمالاً لثلاثين شهراً لقوله‏:‏ ‏{‏وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏ قاله أبو حنيفة‏.‏

الرابع‏:‏ أن تحريمه غير مقدر وأنه يحرم في الكبير كتحريمه في الصغير، وهذا قول بعض أهل المدينة‏.‏

‏{‏أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ‏}‏ أي اشكر لي النعمة ولوالديك التربية‏.‏ وشكر الله بالحمد والطاعة وشكر الوالدين بالبر والصلة، قال قتادة‏:‏ إن الله فرق بين حقه وحق الوالدين وقال اشكر لي ولوالديك‏.‏

‏{‏إِلَيَّ الْمَصِيرُ‏}‏ يعني إلى اللَّه المرجع فيجازي المحسن بالجنة والمسيء بالنار، وقد روى عطاء عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رِضَا الرَّبِّ مِن رِضَا الوَالَدِ وَسَخَط الرَّبِّ مَن سَخَط الوَالِدِ

»‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن جَاهَدَاكَ‏}‏ يعني أراداك‏.‏

‏{‏عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ معناه أنك لا تعلم أن لي شريكاً‏.‏ ‏{‏فَلا تُطِعْهُمَا‏}‏ يعني في الشرك‏.‏

‏{‏وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً‏}‏ أي احْتِسَاباً‏.‏ قال قتادة‏:‏ تعودهما إذا مرضا وتشيعهما إذا ماتا، وتواسيهما مما أعطاك الله تعالى‏.‏

‏{‏وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ‏}‏ قال يحيى بن سلام‏:‏ من أقبل بقلبه مخلصاً وهو النبي صلى الله عليه السلام والمؤمنون‏.‏ روى مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ حلفت أم سعد ألا تأكل ولا تشرب حتى تشرب حتى يتحوّل سعد عن دينه فأبى عليها فلم تزل كذلك حتى غشى عليها ثم دعت الله عليه فأنزل الله فيه هذه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 19‏]‏

‏{‏يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏16‏)‏ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏18‏)‏ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ‏}‏ وهذا مثل مضروب لمثقال حبة من خردل‏.‏ قال قتادة‏:‏ من خير أو شر‏.‏

‏{‏فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ‏}‏ فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الصخرة التي تحت الأرض السابعة قاله الرُبَيعُ بن أنس والسدي‏.‏ قال عبد الله بن الحارث وهي صخرة على ظهر الحوت، قال الثوري‏:‏ بلغنا أن خضرة السماء من تلك الصخرة، وقال ابن عباس هذه الصخرة ليست في السماء ولا في الأرض‏.‏ وقيل إن هذه الصخرة هي سجِّين التي يكتب فيها أعمال الكفار ولا ترفع إلى السماء‏.‏

الثاني‏:‏ معنى قوله في صخرة أي في جبل، قاله قتادة‏.‏

‏{‏أَوْ فِي السَّمَواتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بجزاء ما وازنها من خير أو شر‏.‏

الثاني‏:‏ يعلمها الله فيأتي بها إذا شاء، كذلك قليل العمل من خير أو شر يعلمه الله فيجازي عليه‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ‏}‏ باستخراجها‏.‏ ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ بمكانها، قاله الربيع بن أنس‏.‏

روى علي بن رباح اللخمي قال‏:‏ لما وعظ لقمان ابنه بهذا أخذ حبة من خردلٍ فأتى بها البحر فألقاها في عرضه ثم مكث ما شاء ثم ذكرها وبسط يده فبعث الله ذبابة فاختطفتها وحملتها حتى وضعتها في يده‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ على ما أصابك من الأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

الثاني‏:‏ على ما أصابك من البلوى في نفسك أو مالك‏.‏

‏{‏إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ما أمر الله به من الأمور‏.‏

الثاني‏:‏ من ضبط الأمور، قاله المفضل‏.‏

الثالث‏:‏ من قطع الأمور‏.‏

وفي العزم والحزم وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن معناهما واحد وإن اختلف لفظهما‏.‏

الثاني‏:‏ معناهما مختلف وفي اختلافهما وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الحزم الحذر والعزم القوة، ومنه المثل‏:‏ لا خير في عزم بغير حزم‏.‏

الثاني‏:‏ أن الحزم التأهب للأمر والعزم النفاذ فيه، ومنه قولهم في بعض الأمثال‏:‏ رَوِّ بحزم فإذا استوضحت فاعزم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ‏}‏ قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع‏.‏

‏{‏تُصَاعِر‏}‏ بألف، وتصاعر تفاعل من الصعر وفيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الكبر، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ الميل، قاله المفضل‏.‏

الثالث‏:‏ التشدق في الكلام، حكاه اليزيدي، وتُصِّعرْ هو على معنى المبالغة‏.‏

وفي معنى الآية خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه إعراض الوجه عن الناس تكبراً، قاله ابن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ هوالتشدق، قاله إبراهيم النخعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

الثالث‏:‏ أن يلوي شدقه عند ذكر الإنسان احتقاراً، قاله أبو الجوزاء، قال عمرو بن كلثوم‏.‏

وكنا إذا الجبّارُ صعر خَدّه *** أقمنا له من صعره فتقوّما

الرابع‏:‏ هو أن يعرض عمن بينه وبينه إحنة هجراً له فكأنه أمر بالصفح والعفو، قاله الربيع بن أنس‏.‏

‏{‏وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني بالمعصية، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ بالخيلاء والعظمة، قاله ابن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ أن يكون بطراً أشراً، قاله ابن شجرة‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه المنان، قاله أبو ذر‏.‏

الثاني‏:‏ المتكبر، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ البطر، قاله ابن جبير‏.‏ وروى أبو ذر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ثَلاَثَةٌ يَشْنَؤُهُم اللَّهُ‏:‏ الفَقِيرُ المُخْتَالُ، والبَخِيلُ المَنَّانُ، والبَيّعُ الحَلاَّفُ

»‏.‏ ‏{‏فَخُورٍ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه المتطاول على الناس بنفسه، قاله ابن شجرة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه المفتخر عليهم بما يصفه من مناقبه، قاله ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الذي يعدد ما أعطى ولا يشكر الله فيما أعطاه، قاله مجاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه تواضع في نفسك، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ انظر في مشيك موضع قدمك، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ اسرْع في مشيتك، قاله يزيد بن أبي حبيب‏.‏

الرابع‏:‏ لا تسرع في المشي، حكاه النقاش‏.‏ وقد روى أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سُرْعَةُ المَشْيِ تُذْهِبُ بَهَاءَ وَجْهِ المَرْءِ

»‏.‏ الخامس‏:‏ لا تختل في مشيتك، قاله ابن جبير‏.‏

‏{‏وَاغْضُضْ مِن صَوتِكَ‏}‏ أي اخفض من صوتك والصوت هو أرفع من كلام المخاطبة‏.‏

‏{‏إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ‏}‏ يعني شر الأصوات، قاله عكرمة وفيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أقبح الأصوات، قاله ابن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ قد تقدم‏.‏

الثالث‏:‏ أشد، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ أبعد، قاله المبرد‏.‏

‏{‏لَصَوْتُ الْحَمِيرِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها العطسة المرتفعة، قاله جعفر الصادق‏.‏

الثاني‏:‏ أنه صوت الحمار‏.‏

وفي تخصيصه بالذكر من بين الحيوان وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأنه أقبحها في النفس وأنكرها عند السمع وهو عند العرب مضروب به المثل، قال قتادة‏:‏ لأن أوله زفير وآخره شهيق‏.‏

الثاني‏:‏ لأن صياح كل شيء تسبيحه إلا الحمار فإنه يصيح لرؤية الشيطان، قاله سفيان الثوري، وقد حكي عن بشر بن الحارث أنه قال‏:‏ نهيق الحمار دعاء على الظلمة‏.‏

والسبب في أن ضرب الله صوت الحمار مثلا ما روى سليمان بن أرقم عن الحسن أن المشركين كانواْ في الجاهلية يتجاهرون ويتفاخرون برفع الأصوات فمن كان منهم أشد صوتاً كان أعز، ومن كان أخفض صوتاً كان أذل، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ‏}‏ أي لو أن شيئاً يُهَابُ لصوته لكان الحمار فجعلهم في المثل بمنزلته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ‏}‏ وفي تسخيره ذلك وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تسهيله‏.‏

الثاني‏:‏ الانتفاع به‏.‏

‏{‏وَأَسْبَغَ عَلَيَكُمْ نِعَمَهُ‏}‏ قرأ نافع وأبو عمرو وحفص بغير تنوين على الجمع والباقون بالتنوين يعني نعمة واحدة، وفي هذه القراءة وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه عنى الإسلام فجعلها واحدة، قاله إبراهيم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قصد التكثير بلفظ الواحد كقول العرب‏:‏ كثر الدينار والدرهم، والأرض سيف وفرس، وهذا أبلغ في التكثير من لفظ الجمع، قاله ابن شجرة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ظَاهِرةً وَبَاطِنَةً‏}‏ خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الظاهرة الإسلام، والباطنة ما ستره الله من المعاصي قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ أن الظاهرة على اللسان، والباطنة في القلب، قاله مجاهد ووكيع‏.‏

الثالث‏:‏ أن الظاهرة ما أعطاهم من الزي والثياب، والباطنة متاع المنازل، حكاه النقاش‏.‏

الخامس‏:‏ الظاهرة الولد، والباطنة الجماع‏.‏

ويحتمل سادساً‏:‏ أن الظاهرة في نفسه، والباطنة في ذريته من بعده‏.‏

ويحتمل سابعاً‏:‏ أن الظاهرة ما مضى، والباطنة ما يأتي‏.‏

ويحتمل ثامناً‏:‏ أن الظاهرة في الدنيا، والباطنة في الآخرة‏.‏

ويحتمل تاسعاً‏:‏ أن الظاهرة في الأبدان، والباطنة في الأديان‏.‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ في اللَّهِ بِغَيرِ عَلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كَتَابٍ مُنِيرٍ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو‏؟‏ فجاءت صاعقة فأخذته‏.‏

الثاني‏:‏ أنها نزلت في النضر بن الحارث كان يقول‏:‏ إن الملائكة بنات الله، قاله أبو مالك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏22‏)‏ وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏23‏)‏ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلّى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ معناه يخلص لله، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ يقصد بوجهه طاعة الله‏.‏

الثالث‏:‏ يسلم نفسه مستسلماً إلى الله وهو محسن يعني في عمله‏.‏

‏{‏فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى‏}‏ فيها أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ قول لا إله إلا الله، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ القرآن، قاله أنس بن مالك‏.‏

الثالث‏:‏ الإسلام، قاله السدي‏.‏

الرابع‏:‏ الحب في الله والبغض في الله، قاله سالم بن أبي الجعد‏.‏

وفي تسميتها بالعروة الوثقى وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قد استوثق لنفسه فيما تمسك به كما يستوثق من الشيء بإمساك عروته‏.‏ الثاني‏:‏ تشبيهاً بالبناء الوثيق لأنه لا ينحل‏.‏

‏{‏وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبةُ الأُمُورِ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ وعند الله ثواب ما صنعواْ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 28‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏26‏)‏ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏27‏)‏ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَو أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وفي سبب نزولها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما رواه سعيد عن قتادة أن المشركين قالوا إنما هو كلام يعني القرآن يوشك أن ينفد، فأنزل الله هذه الآية يعني أنه لو كان شجر البر أقلاماً ومع البحر سبعة أبحر مداداً لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحور قبل أن تنفد عجائب ربي وحكمته وعلمه‏.‏

الثاني‏:‏ ما رواه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قالت له أحبار اليهود يا محمد أرأيت قولك‏:‏ ‏{‏وَمَا أُوتِيْتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإٍسراء‏:‏ 85‏]‏ إِيانا تريد أم قومك‏؟‏ قال‏:‏ «كُلٌ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الُعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً أَنْتُم وَهُمْ» قالوا‏:‏ فإنك تتلو فيما جاءك من الله أنَّا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ» فنزلت هذه الآية‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ يَمُدُّهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ أي يزيد فيه شيئاً بعد شيء فيقال في الزيادة‏.‏

مددته وفي المعونة أمددته‏.‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ مَا نَفَدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ‏}‏ ونفاد الشيء هو فناء آخره بعد نفاد أوله فلا يقال لما فني جملة‏:‏ نفد‏.‏

وفي ‏{‏كَلِمَاتُ اللُّهِ‏}‏ هنا أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها نعم الله على أهل طاعته في الجنة‏.‏

الثاني‏:‏ على أصناف خلقه‏.‏

الثالث‏:‏ جميع ما قضاه في اللوح المحفوظ من أمور خلقه‏.‏

الرابع‏:‏ أنها علم الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا خَلْقَكُمُ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ‏}‏ يقال إنها نزلت في أُبي بن خلف وأبي الأشدين ومنبه ونبيه ابني الحجاج بن السباق قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِن الله خلقنا أطواراً نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم تقول إنا نبعث خلقاً جديداً جميعاً في ساعة واحدة فأنزل الله هذه الآية لأن الله لا يصعب عليه ما يصعب على العباد وخلقه لجميع العالم كخلقه لنفس واحدة‏.‏

‏{‏إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ سميع لما يقولون، بصير بما يفعلون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِج النَّهارِ فِي اللَّيلِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يأخذ الصيف من الشتاء ويأخذ الشتاء من الصيف، قاله ابن مسعود ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ ينقص من النهار ليجعله في الليل وينقص من الليل ليجعله في النهار، قاله الحسن وعكرمة وابن جبير وقتادة‏.‏

الثالث‏:‏ يسلك الظلمة مسالك الضياء ويسلك الضياء مسالك الظلمة فيصير كل واحد منهما مكان الآخر، قاله ابن شجرة‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أنه يدخل ظلمة الليل في ضوء النهار إذا أقبل، ويدخل ضوء النهار في ظلمة الليل إذا أقبل، فيصير كل واحد منهما داخلاً في الآخر‏.‏

‏{‏وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ‏}‏ أي ذللهما بالطلوع والأفول تقديراً للآجال وإتماماً للمنافع‏.‏

‏{‏كَلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمَّى‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني إلى وقته في طلوعه وأفوله لا يعدوه ولا يقصر عنه، وهو معنى قول قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ إلى يوم القيامة، قاله الحسن‏.‏

‏{‏وَأَنَّ اللَّهَ بَمَا َعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ يعني بما تعملون في الليل والنهار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ هو الله الذي لا إله غيره، قاله ابن كامل‏.‏

الثاني‏:‏ أن الحق اسم من أسماء الله، قاله أبو صالح‏.‏

الثالث‏:‏ أن الله هو القاضي بالحق‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أن طاعة الله حق‏.‏

‏{‏وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ البَاطِلُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الشيطان هو الباطل، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ ما أشركوا بالله تعالى من الأصنام والأوثان، قاله ابن كامل‏.‏

‏{‏وأن الله هو العلي الكبير‏}‏ أي العلي في مكانته الكبير في سلطانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ برحمة الله لكم في خلاصكم منه‏.‏

الثاني‏:‏ بنعمة الله عليكم في فائدتكم منه‏.‏

‏{‏لِيُرِيَكُم مِّنَ ءَايَاتِهِ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني جري السفن فيه، قاله يحيى بن سلام، وقال الحسن‏:‏ مفتاح البحار السفن، ومفتاح الأرض الطرق، ومفتاح السماء الدعاء‏.‏

الثاني‏:‏ ما تشاهدونه من قدرة الله فيه، قاله ابن شجرة‏.‏

الثالث‏:‏ ما يرزقكم الله منه، قاله النقاش‏.‏

‏{‏لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ صبَّار على البلوى شكور على النعماء‏.‏

الثاني‏:‏ صبَّار على الطاعة شكور على الجزاء‏.‏

قال الشعبي‏:‏ الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله، ألم تر إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏ وإلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُوقِنِينَ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ كالسحاب، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ كالجبال، قاله الحسن ويحيى بن سلام‏.‏

وفي تشبيهه بالظل وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لسواده، قاله أبو عبيدة‏.‏

الثاني‏:‏ لعظمه‏.‏

‏{‏دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ يعني موحدين له لا يدعون لخلاصهم سواه‏.‏

‏{‏فَلَمَّا نَجَّاهُم إِلَى الْبَرِّ‏}‏ يعني من البحر‏.‏

‏{‏فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه عَدل في العهد، يفي في البر بما عاهَد الله عليه في البحر، قاله النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ أنه المؤمن المتمسك بالتوحيد والطاعة، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ أنه المقتصد في قوله وهو كافر، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الجاحد، قاله عطية‏.‏

الثاني‏:‏ وهو قول الجمهور أنه الغدار، قال عمرو بن معدي كرب‏:‏

فإنك لو رأيت أبا عمير *** ملأت يديك من غدرٍ وختر

وجحد الآيات إنكار أعيانها والجحد بالآيات دلائلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم وَاخْشُوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ معناه لا يغني والد عن ولده يقال جزيت عنك بمعنى أغنيت عنك، قاله ابن عيسى‏.‏ عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ لا يقضي والد عن ولده، قاله المفضل وابن كامل‏.‏

الثالث‏:‏ لا يحمل والد عن ولده، قال الراعي‏:‏

وأجزأت أمر العالمين ولم يكن *** ليجزي إلا كاملٌ وابن كامل

أي حملت‏.‏

‏{‏وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقٌّ‏}‏ يعني البعث والجزاء‏.‏

‏{‏فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ الحَيَاةُ الدُّنْيَا‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يغرنكم الإمهال عن الانتقام‏.‏

الثاني‏:‏ لا يغرنكم المال عن الإسلام‏.‏

‏{‏وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ‏}‏ وهي تقرأ على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ بالضم‏.‏

الثاني‏:‏ بالفتح وهي قراءة الجمهور‏.‏

ففي تأويلها بالضم وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الغُرور الشيطان، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ الأمل وهو تمني المغفرة في عمل المعصية، قاله ابن جبير‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أن تخفي على الله ما أسررت من المعاصي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن قيامها مختص بعلمه‏.‏

الثاني‏:‏ أن قيامها موقوف على إرادته‏.‏

‏{‏وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ‏}‏ فيما يشاء من زمان ومكان‏.‏

‏{‏وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ من ذكر وأنثى، سليمٍ وسقيم‏.‏

الثاني‏:‏ من مؤمن وكافر وشقي وسعيد‏.‏

‏{‏وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ من خير أو شر‏.‏

الثاني‏:‏ من إيمان أو كفر‏.‏

‏{‏وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ على أي حكم تموت من سعادة أو شقاء، حكاه النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ في أي أرض يكون موته ودفنه وهو أظهر‏.‏ وقد روى أبو مليح عن أبي عزة الهذلي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى قَبْضَ رُوحٍ عَبْدٍ بَأَرْضٍ جَعَلَ إِلَيْهَا حَاجَةً فَلَمْ يَنْتهِ حَتَّى يُقَدِمَهَا» ثم قرأ صلى الله عليه وسلم ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ‏}‏‏.‏

وقال هلال بن إساف‏:‏ ما من مولود يولد إلا وفي سرته من تربة الأرض التي يدفن فيها‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ عليم بالغيب خبير بالنية‏.‏

الثاني‏:‏ عليم بالأعمال خبير بالجزاء‏.‏

ويقال إن هذه الآية نزلت في رجل من أهل البادية يقال له الوارث بن عمرو بن حارثة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد، وبلادنا جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى تقول الساعة‏؟‏ فنزلت هذه الآية، والله أعلم‏.‏

سورة السجدة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الم‏.‏ تَنزِيلُ الْكِتَابِ‏}‏ يعني القرآن‏.‏

‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ أي لا شك فيه أنه تنزيل‏.‏

‏{‏مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ والريب هو الشك الذي يميل إلى السوء والخوف، قال أبو ذؤيب‏:‏

أسرين ثم سمعن حساً دونه *** سرف الحجاب وريب قرع يقرع

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ‏}‏ يعني كفار قريش يقولون إن محمداً افترى هذا القرآن ويكذبه‏.‏

‏{‏بَلْ هَوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ‏}‏ يعني القرآن حق نزل عليك من ربك‏.‏

‏{‏لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ‏}‏ يعني قريشاً، قاله قتادة‏:‏ كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير من قبل محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏4‏)‏ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏5‏)‏ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُدَبِّرُ الأَمْرَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يقضي الأمر، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ ينزل الوحي، قاله السدي‏.‏

‏{‏مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ‏}‏ قال السدي من سماء الدنيا إلى الأرض العليا وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يدبر الأمر في السماء وفي الأرض‏.‏

الثاني‏:‏ يدبره في السماء ثم ينزل به الملك إلى الأرض وروى عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن سابط أنه قال‏:‏ يدبر أمر الدنيا أربعة‏:‏ جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود، وأمَّا ميكائيل فموكل بالقطر والماء، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم‏.‏

‏{‏ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيهِ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه جبريل يصعد إلى السماء بعد نزوله بالوحي، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الملك الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، قاله النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ أنها أخبار أهل الأرض تصعد إليه مع حملتها من الملائكة، قاله ابن شجرة‏.‏

‏{‏فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يقضي أمر كل شيء لألف سنة في يوم واحد ثم يلقيه إلى ملائكته فإذا مضت قضى لألف سنة أخرى ثم كذلك أبداً، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أن الملك ينزل ويصعد في يوم مسيرة ألف سنة، قاله ابن عباس‏.‏ والضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ أن الملك ينزل ويصعد في يوم مقداره ألف سنة فيكون مقدار نزوله خمسمائة سنة ومقدار صعوده خمسمائة سنة، قاله قتادة‏:‏ فيكون بين السماء والأرض على قول ابن عباس والضحاك مسيرة ألف سنة، وعلى قول قتادة والسدي مسيرة خمسمائة سنة‏.‏

‏{‏مِمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ أي تحسبون من أيام الدنيا وهذا اليوم هو عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة من سني العالم وليس بيوم يستوعب نهاراً بين ليلتين لأنه ليس عند الله ليل استراحة ولا زمان تودع، والعرب قد تعبر عن مدة العصر باليوم كما قال الشاعر‏:‏

يومان يوم مقامات وأندية *** ويوم سيرٍ إلى الأعداءِ تأويب

وليس يريد يومين مخصوصين وإنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين فعبر عن كل واحد من الشطرين بيوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه جعل كل شيء خلقه حسناً حتى جعل الكلب في خلقه حسناً، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أحكم كل شيء خلقه حتى أتقنه، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أحسن إلى كل شيء خلق فكان خلقه له إحساناً، قاله علي بن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ ألهم ما خلقه ما يحتاجون إليه حتى علموه من قولهم فلان يحسن كذا أي يعلمه‏.‏

الخامس‏:‏ أعطى كل شيء خلقه ما يحتاج إليه ثم هداه إليه، رواه حميد بن قيس‏.‏

ويحتمل سادساً‏:‏ أنه عرف كل شيء خلقه وأحسنه من غير تعلم ولا سبق مثال حتى ظهرت فيه القدرة وبانت فيه الحكمة‏.‏

‏{‏وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ‏}‏ يعني آدم، روى عون عن أبي زهير عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوه على ألوان الأرض منهم الأبيض والأحمر وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك‏.‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ‏}‏ أي ذريته ‏{‏مِن سُلاَلَةٍ‏}‏ لاِنسِلاَلِهِ من صلبه ‏{‏مِن مَّآءٍ مَّهِينٍ‏}‏ قال مجاهد ضعيف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ سَوَّاهُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ سوى خلقه في الرحم‏.‏

الثاني‏:‏ سوى خلقه كيف يشاء‏.‏

‏{‏وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ من قدرته، قاله أبو روق‏.‏

الثاني‏:‏ من ذريته، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ من أمره أن يكون فكان، قاله الضحاك‏.‏

الرابع‏:‏ روحاً من روحه أي من خلقه وأضافه إلى نفسه لأنه من فعله وعبر عنه بالنفخ لأن الروح من جنس الريح‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ‏}‏ يعني القلوب وسمى القلب فؤاداً لأنه ينبوع الحرارة الغريزية مأخوذ من المفتأد وهو موضع النار، وخصص الأسماع والأبصار والأفئدة بالذكر لأنها موضع الأفكار والاعتبار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ‏(‏10‏)‏ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ هلكنا، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ صرنا فيه رفاتاً وتراباً، قاله قتادة والعرب تقول لكل شيء غلب عليه غيره حتى خفي فيه أثره قد ضل، قال الأخطل‏:‏

كنت القذى في موج أكدر مزبد *** تقذف الأتيُّ به فَضَلَّ ضلالاً‏.‏

الثالث‏:‏ غُيِّبنا في الأرض، قاله قطرب وأنشد النابغة‏:‏

فآب مُضلُّوه بعين جلية *** وغودر بالجولان حزمٌ ونائل

وقرأ الحسن‏:‏ صللنا، بصاد غير معجمة وفيه على قراءته وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي أنتنت لحومنا من قولهم صل اللحم إذا أنتن، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ صللنا من الصلة وهي الأرض اليابسة ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن صَلصَالٍ كَالْفَخَّارِ‏}‏ ‏{‏أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ أي أَتُعَادُ أجسامنا للبعث خلقاً جديداً تعجباً من إعادتها وإنكاراً لبعثهم وهو معنى قوله تعالى‏:‏

‏{‏بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِم كَافِرُونَ‏}‏ وقيل إن قائل ذلك أُبي بن خلف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوتِ الَّذِي وُكّلَ بِكُمْ‏}‏ أي يقبض أرواحكم والتوفي أخذ الشيء على تمام، مأخوذ من توفية العدد ومنه قولهم استوفيت دَيْني من فلان‏.‏

ثم في توفي ملك الموت لهم قولان‏:‏

الأول‏:‏ بأعوانه‏.‏

الثاني‏:‏ بنفسه‏.‏ روى جعفر الصادق عن أبيه قال نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏[‏يا ملك الموت‏]‏‏:‏ «ارْفُقْ بِصَاحِبِي فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ» فقال ملك الموت عليه السلام يا محمد طب نفساً وقر عيناً فإني بكل مؤمن رفيق واعلَمْ أن ما من أهل بيت مدر ولا شعر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى لأنا أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم، واللَّه يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله تعالى هو الآمر بقبضها، قال جعفر إنما يتصفحهم عند مواقيت الصلوات‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم تُرْجعُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إلى جزائه‏.‏

الثاني‏:‏ إلى أن لا يملك لكم أحد ضراً ولاً نفعاً إلا اللَّه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏13‏)‏ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُسِهِم عِند رَبِّهمُ‏}‏ أي عند محاسبة ربهم وفيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ من الغم، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ من الذل، قاله ابن شجرة‏.‏

الثالث‏:‏ من الحياء، حكاه النقاش‏.‏

الرابع‏:‏ من الندم، قاله يحيى بن سلام‏.‏

‏{‏رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أبصرنا صدق وعيدك وسمعنا تصديق رسلك، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ أبصرنا معاصينا وسمعنا ما قيل فينا، قال قتادة، أبصروا حين لم ينفعهم البصر وسمعوا حين لم ينفعهم السمع‏.‏

‏{‏فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ‏}‏ أي ارجعنا إلى الدنيا نعمل فيها صالحاً‏.‏

‏{‏إِنَّا مُوقِنُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ مصدقون بالبعث، قاله النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ مصدقون بالذي أتي به محمد صلى الله عليه وسلم أنه حق، قاله يحيى بن سلام‏.‏

قال سفيان‏:‏ فأكذبهم الله فقال‏:‏ ‏{‏وَلَو رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏ الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍٍ هُدَاهَا‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ هدايتها للإيمان‏.‏

الثاني‏:‏ للجنة‏.‏

الثالث‏:‏ هدايتها في الرجوع إلى الدنيا لأنهم سألوا الرجعة ليؤمنوا‏.‏

‏{‏وَلَكِنْ حَقَّ الْقَولُ مِنِّي‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه سبق القول مني، قاله الكلبي ويحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ وجب القول مني، قاله السدي كما قال كثير‏:‏

فإن تكن العتبى فأهلاً ومَرْحباً *** وحقت لها العتبى لدنيا وقلّت

‏{‏لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِن الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ‏}‏ يعني من عصاه من الجنة والناس‏.‏ وفي الجنة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الجن، قاله ابن كامل‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم الملائكة، رواه السدي عن عكرمة، وهذا التأويل معلول لأن الملائكة لا يعصون الله فيعذبون‏.‏ وسموا جنة لاجتنانهم عن الأبصار ومنه قول زيد بن عمرو‏:‏

عزلت الجن والجنان عني *** كذلك يفعل الجلد الصبور

قوله‏:‏ ‏{‏فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فذوقوا عذابي بما تركتم أمري، قال الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ فذوقوا العذاب بما تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم، قاله يحيى بن سلام‏.‏

‏{‏إِنَّا نَسِينَاكُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إنا تركناكم من الخير، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ إنا تركناكم في العذاب، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ‏}‏ وهو الدائم الذي لا انقطاع له‏.‏

‏{‏بِمَ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ يعني في الدنيا من المعاصي، وقد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس وإن لم يكن مطعوماً لإحساسها به كإحساسها بذوق الطعام، قال ابن أبي ربيعة‏:‏

فذُقْ هجرها إن كنت تزعم أنه *** رشاد ألا يا رب ما كذب الزعم

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏15‏)‏ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏16‏)‏ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُؤْمِنُ بئَايَاتِنَا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يصدق بحجتنا، قاله ابن شجرة‏.‏

الثاني‏:‏ يصدق بالقرآن وآياته، قاله ابن جبير‏.‏

‏{‏الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الذين إذا دعوا إلى الصلوات الخمس بالأذان أو الإقامة أجابوا إليها قاله أبو معاذ، لأن المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من أبواب المساجد‏.‏

الثاني‏:‏ إذا قرئت عليهم آيات القرآن خضعوا بالسجود على الأرض طاعة لله وتصديقاً بالقرآن‏.‏ وكل ما سقط على شيء فقد خر عليه قال الشاعر‏:‏

وخر على الألاءِ ولم يوسد *** كأن جبينه سيف صقيل

‏{‏وَسَبَّحُواْ بِحْمْدِ رَبِّهِمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه صلوا حمداً لربهم، قاله سفيان‏.‏

الثاني‏:‏ سبحوا بمعرفة الله وطاعته، قاله قتادة‏.‏

‏{‏وَهُمْ لاَ يَستَكْبِرُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ عن عبادته، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ عن السجود كما استكبر أهل مكة عن السجود له، حكاه النقاش‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عِنِ الْمَضَاجِعِ‏}‏ أي ترتفع عن مواضع الاضطجاع قال ابن رواحة‏:‏

يبيت يجافي جنبه عن فِراشِه *** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

وفيما تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجله قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لذكر الله إما في صلاة أو في غير صلاة قاله ابن عباس والضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ للصلاة-روى ميمون بن شبيب عن معاذ بن جبل قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال‏:‏ «إِنْ شِئْتَ أَنبَأْتُكَ بَأبوابِ الْخَيرِ‏:‏ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئ الخَطِيئَة وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيلِ» ثم تلا هذه الآية‏.‏

وفي الصلاة التي تتجافى جنوبهم لأجلها أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ التنفل بين المغرب والعشاء، قاله قتادة وعكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ صلاة العشاء التي يقال لها صلاة العتمة، قاله الحسن وعطاء‏.‏

الثالث‏:‏ صلاة الصبح والعشاء في جماعة، قاله أبو الدرداء وعبادة‏.‏

الرابع‏:‏ قيام الليل، قاله مجاهد والأوزاعي ومالك وابن زيد‏.‏

‏{‏يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ خوفاً من حسابه وطمعاً في رحمته‏.‏

الثاني‏:‏ خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ يدعونه في دفع ما يخافون والتماس ما يرجون ولا يعدلون عنه في خوف ولا رجاء‏.‏

‏{‏وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يؤتون الزكاة احتساباً لها، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ صدقة يتطوع بها سوى الزكاة، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ النفقة في طاعة الله، قال قتادة‏:‏ أنفقوا مما أعطاكم الله فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها‏.‏

الرابع‏:‏ أنها نفقة الرجل على أهله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه للذين تتجافي جنوبهم عن المضاجع، قاله ابن مسعود‏.‏

الثاني‏:‏ أنه للمجهدين قاله تبيع‏.‏ وفي ‏{‏قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏}‏ التي أخفيت لهم أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنِي أَعْدَدْتُ لِعبَادي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَينٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ اقْرَأُواْ إِنْ شِئْتُم‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏}‏» الآية‏.‏

الثاني‏:‏ أنه جزاء قوم أخفوا عملهم فأخفى الله ما أعده لهم‏.‏ قال الحسن بالخفية‏:‏ خفية وبالعلانية علانية‏.‏

الثالث‏:‏ أنها زيادة تحف من الله ليست في حياتهم يكرمهم بها في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات، قاله ابن جبير‏.‏

الرابع‏:‏ أنه زيادة نعيمهم وسجود الملائكة لهم، قاله كعب‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ اتصال السرور بدوام النعيم‏.‏

‏{‏جَزَآءً بِمَ كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ يعني من فعل الطاعات واجتناب المعاصي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 22‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ‏(‏18‏)‏ أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏20‏)‏ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً‏}‏ المؤمن هنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه والفاسق عقبة بن أبي معيط قال ابن عباس‏:‏ سابّ عقبة علياً فقال أنا أبسط منك لساناً وأحدّ منك سناناً وأملأ منك حشواً فقال له علي كرم الله وجهه‏:‏ ليس كما قلت يا فاسق فنزلت، فيهما هذه الآية‏.‏

‏{‏لاَ يَسْتَوُونَ‏}‏ قال قتادة‏:‏ لا والله لا يستوون لا في الدينا ولا عند الموت ولا في الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ‏}‏ أما العذاب الأدنى ففي الدنيا وفيه سبعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها مصائب الدنيا في الأنفس والأموال، قاله أُبي‏.‏

الثاني‏:‏ القتل بالسيف، قاله ابن مسعود‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الحدود، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ القحط والجدب، قاله إبراهيم‏.‏

الخامس‏:‏ عذاب القبر، قاله البراء بن عازب ومجاهد‏.‏

السادس‏:‏ أنه عذاب الدنيا كلها، قاله ابن زيد‏.‏

السابع‏:‏ أنه غلاء السعر والأكبر خروج المهدي، قاله جعفر الصادق‏.‏

ويحتمل ثامناً‏:‏ أن العذاب الأدنى في المال، والأكبر في الأنفس‏.‏

والعذاب الأكبر عذاب جهنم في الآخرة‏.‏

‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يرجعون إلى الحق، قاله إبراهيم‏.‏

الثاني‏:‏ يتوبون من الكفر، قاله ابن عباس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏23‏)‏ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ‏(‏24‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقْدَ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكَتِابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ‏}‏ فيه خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى ولقد لقيته ليلة الإسراء روى أبو العالية الرياحي عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رَأيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عمرانَ رَجُلاً طُوَالاً جَعْداً كَأَنَّهُ مِن رِجَالِ شَنُوءَةَ‏.‏ وَرَأَيْتُ عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ رَجُلاً مَرْبُوعَ الخَلْقِ إِلَى الحُمْرَةِ وَالبَيَاضِ سَبْطَ الرَّأُسِ» قال أبو العالية قد بين الله ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مِنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى في القيامة وستلقاه فيها‏.‏

الثالث‏:‏ فلا تكن في شك من لقاء موسى في الكتاب، قاله مجاهد والزجاج‏.‏

الرابع‏:‏ فلا تكن في شك من لقاء الأذى كما لقيه موسى، قاله الحسن‏.‏

الخامس‏:‏ فلا تكن في شك من لقاء موسى لربه حكاه النقاش‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ جعلنا موسى، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ جعلنا الكتاب، قاله الحسن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنهُمْ أَئِمَةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم رؤساء في الخير تبع الأنبياء، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم أنبياء، وهو مأثور‏.‏

‏{‏لَمَّا صَبَرُواْ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ على الدنيا، قاله سفيان‏.‏

الثاني‏:‏ على الحق، قاله ابن شجرة‏.‏

الثالث‏:‏ على الأذى بمصر لما كلفوا ما لا يطيقون، حكاه النقاش‏.‏

‏{‏وَكَانُوا بِئَايَاتِناَ‏}‏ يعني بالآيات التسع ‏{‏يُوقِنُونَ‏}‏ أنها من عند الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ‏}‏ الآية فيها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني بين الأنبياء وبين قومهم، حكاه النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ يقضي بين المؤمنين والمشركين فيما اختلفوا فيه من الإيمان والكفر، قاله يحيى بن سلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ ‏(‏26‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَسُوقُ الْمَآءَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بالمطر والثلج‏.‏

الثاني‏:‏ بالأنهار والعيون‏.‏

‏{‏إِلَى الأَرْضِ الجُرُزِ‏}‏ فيها خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الأرض اليابسة، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الأرض التي أكلت ما فيها من زرع وشجر، قاله ابن شجرة‏.‏

الثالث‏:‏ أنها الأرض التي لا يأتيها الماء إلا من السيول، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ أنها أرض أبْينَ لا تنبت، قاله مجاهد‏.‏

الخامس‏:‏ أنها قرى نبيا بين اليمن والشام، قاله الحسن‏.‏ وأصل الجرز الانقطاع مأخوذ من قولهم سيف جراز أي قطاع وناقة جراز أي كانت تأكل كل شيء لأنها لا تبقي شيئاً إلا قطعته بفيها‏.‏ ورجل جروز أكول قال الراجز‏:‏

حبُّ جروز وإذا جاع بكى *** يأكل التمر ولا يلقى النوى

وتأول ابن عطاء هذه الآية على أنه توصل بركات المواعظ إلى القلوب القاسية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 30‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏28‏)‏ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه فتح مكة، قاله الفراء‏.‏

الثاني‏:‏ أن الفتح انقضى بعذابهم في الدنيا، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ الحكم بالثواب والعقاب في القيامة، قاله مجاهد‏.‏ قال الحسن لم يبعث الله نبياً إلا وهو يحذر من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة‏.‏

‏{‏قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيمَانهُمْ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم الذي قتلهم خالد بن الوليد يوم فتح مكة من بني كنانة، قاله الفراء‏.‏

الثاني‏:‏ أن يوم الفتح يوم القيامة، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أن اليوم الذي يأتيهم من العذاب، قاله عبد الرحمن بن زيد‏.‏

‏{‏وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ أي لا يؤخرون بالعذاب إذا جاء الوقت‏.‏

‏{‏فَأَعْرضْ عَنهُمْ‏}‏ الآية‏.‏ قال قتادة‏:‏ نزلت قبل أن يؤمر بقتالهم، ويحتمل ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أعرض عن أذاهم وانتظر عقابهم‏.‏

الثاني‏:‏ أعرض عن قتالهم وانتظر أن يؤذن لك في جهادهم‏.‏

الثالث‏:‏ فأعرض بالهجرة وانتظر ما يمدك به من النصرة، والله أعلم‏.‏