فصل: تفسير الآيات رقم (39- 40)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏39‏)‏ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ‏}‏ يعني زيد بن حارثة فإن المشركين قالوا إن محمد تزوج امرأة ابنه فأكذبه الله بقوله ‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُم‏}‏ أي لم يكن أباً لزيد‏.‏

‏{‏وَلكِن رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ‏}‏ يعني آخرهم وينزل عيسى فيكون حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً فيقتل الدجال ويكسر الصليب وقد روى نعيم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرجُ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِن ثَلاَثِينَ كُلُّهُم يَزْعَمُ أَنَّهُ نَبِيٌ وَلا نَبِيَّ بَعْدِي» قال مقاتل بن سليمان ولم يجعل محمداً أبا أحد من الرجال لأنه لو جعل له ابناً لجعله نبياً وليس بعده نبي قال الله ‏{‏وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ‏(‏41‏)‏ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏42‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ‏(‏43‏)‏ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ذاكروه بالقلب ذكراً مستديماً يؤدي إلى طاعته واجتناب معصيته‏.‏

الثاني‏:‏ اذكروا الله باللسان ذكراً كثيراً، قاله السدي‏.‏ وروى مجاهد عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَن عَجَزَ عَنِ اللَّيْلِ أَن يُكَابِدَهُ، وَجَبُنَ عَنِ العَدُوِّ أَن يُجَاهِدَهُ، وَبَخِلَ بِالمَالِ أَن يُنفِقَهُ فَلْيَكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ» وفي ذكره هنا وجهان‏:‏

أحدها‏:‏ الدعاء له والرغبة إليه، قاله ابن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ الإقرار له بالربوبية والاعتراف له بالعبودية‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأصِيلاً‏}‏ قال قتادة صلاة‏:‏ الصبح والعصر، قال الأخفش‏:‏ والأصيل ما بين العصر والليل‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ الأصيل صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء‏.‏

وفي التسبيح هنا ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه التسبيح الخاص الذي هو التنزيه‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الصلاة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الدعاء، قاله جرير‏.‏

فلا تنس تسبيح الضُّحى إن يونسا *** دعا ربه فانتاشه حين سبحا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلآئِكَتُهُ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه ثناؤه، قاله أبو العالية‏.‏

الثاني‏:‏ كرامته، قاله سفيان‏.‏

الثالث‏:‏ رحمته، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ مغفرته، قاله ابن جبير‏.‏

وفي صلاة الملائكة قولان‏:‏

أحدهما أنه دعاؤهم، قاله أبو العالية‏.‏

الثاني‏:‏ استغفارهم، قاله مقاتل بن حيان‏.‏

‏{‏لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ من الكفر إلى الإيمان، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ من الضلالة إلى الهدى، قاله عبد الرحمن بن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ من النار إلى الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏45‏)‏ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ‏(‏46‏)‏ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ‏(‏47‏)‏ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً‏}‏ قال ابن عباس شاهداً على أمتك ومبشراً بالجنة ونذيراً من النار‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَدَاعِياَ إلَى اللَّه بِإِذْنِهِ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ إلى طاعة الله، قاله ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ إلى الإسلام، قاله النقاش‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ بأمره، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ بعمله قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ بالقرآن، قاله يحيى بن سلام‏.‏

‏{‏وَسِرَاجاً مُّنِيراً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه القرآن سراج منير أي مضيء لأنه يُهْتدى به، قاله ابن عباس وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الرسول كالسراج المنير في الهداية، قاله ابن شجرة، ومنه قول كعب بن زهير‏:‏

إن الرسول لنورُ يستضاءُ به *** مُهَنّدُ من سيوف الله مَسْلول

قوله‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ثواباً عظيماً، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الجنة، قاله قتادة والكلبي، وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية أنزل الله عليه ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1‏]‏ الآيات فقال المسلمون هنيئاً لك يا رسول الله بما أعطاك الله فقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فما لنا يا رسول الله‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ‏}‏ قال مقاتل يريد بالكافرين من أهل مكة أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور وبالمنافقين من أهل المدينة عبد الله ابن أُبي وعبد الله بن سعد وطعمة بن أبيرق اجتمعوا على رسول اله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد اذكر أن لآلهتنا شفاعة‏.‏

فقال الله‏:‏ ‏{‏وَدَعْ أَذَاهُمْ‏}‏ وفيه أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ دع ذكر آلهتهم أن لها شفاعة، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ كف عن أذاهم وقتالهم وهذا قبل أن يؤمر بالقتال، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ معناه اصبر على أذاهم، قاله قتادة وقطرب‏.‏

الرابع‏:‏ هو قولهم زيد بن محمد وما تكلموا به حين نكح زينب‏.‏ قاله الضحاك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ أجمع أهل العلم أن الطلاق إن كان قبل المسيس والخلوة فلا عدة فيه وليس للمطلقة من المهر إلا نصفه إن كان لها مهر سُمِّي ولا رجعة للمطلق ولكنه كأحد الخطاب إن كان طلاقه دون الثلاث‏.‏ وإن كان ثلاثاً حرمت عليه ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره‏.‏ وقال عطاء وجابر بن زيد إذا طلق البكر ثلاثاً ‏[‏فهي‏]‏ طلقة واحدة وهو خلاف قول الجمهور‏.‏

وإن كان الطلاق بعد الخلوة وقبل المسيس ففي وجوب العدة وكمال المهر وثبوت الرجعة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ وهو قول أبي حنيفة أن العدة قد وجبت والمهر قد كمل والرجعة قد ثبتت وأقام الخلوة مقام المسيس إلا أن يكونا في الخلوة مُحرمين أو صائمين أو أحدهما‏.‏

والقول الثاني‏:‏ وهو مذهب الشافعي وهو المعول عليه من أقاويله إنه لا عدة ولا رجعة ولا تستحق من المهر إلا نصفه‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏ فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً‏}‏ معنى فمتعوهن أي متعة الطلاق بدلاً من الصداق لأن المطلقة قبل الدخول إذا كان لها صداق مسمى فليس لها متعة وإن لم يكن لها صداق مسمى فلها بدل نصف المسمى متعة تقول مقام المسمى تختلف باختلاف الإعسار والإيسار وقدرها حماد بنصف مهر المثل وقال أبو عبد الله الزيدي أعلاها خادم وأوسطها ثوب وأقلها ما له ثمن‏.‏

فأما المدخول بها ففي استحقاقها المتعة من الصداق قولان‏:‏

أحدهما ليس لها مع استكمال الصداق متعة‏.‏

الثاني‏:‏ لها المتعة بالطلاق ولها الصداق بالنكاح‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه دفع المتعة حسب الميسرة والعسرة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه طلاقها طاهراً من غير جماع، قاله قتادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ‏}‏ يعني صداقهن وفيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أحل له لهذه الآية أزواجه الأول اللاتي كن معه قبل نزول هذه الآية قاله مجاهد‏.‏ وأما إحلال غيرهن فلا لقوله ‏{‏لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعُدْ‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أحل له بهذه الآية سائر النساء ونسخ به قوله ‏{‏لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعْدُ‏}‏‏.‏

الثالث‏:‏ أنه أحل بها من سماه فيها من النساء دون من لم يسمعه من قوله‏.‏

‏{‏وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ‏}‏ يعني الإماء‏.‏

‏{‏مِمَّا أَفَّآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ‏}‏ يعني من الغنيمة فكان من الإماء مارية أم ابنه إبراهيم‏.‏ ومما أفاء الله عليه صفية وجويرية أعتقهما وتزوج بهما‏.‏

‏{‏وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وبَنَاتِ خَالاَتِكَ‏}‏ قاله أُبي بن كعب ثم قال‏:‏ ‏{‏اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني المسلمات‏.‏

الثاني‏:‏ المهاجرات إلى المدينة‏.‏ روى أبو صالح عن أم هانئ قالت‏:‏ نزلت هذه الآية وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني فنهي عني لأني لم أهاجر واختلف في الهجرة على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها شرط في إحلال النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غريبة وقريبة حتى لا يجوز أن ينكح إلا بمهاجرة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها شرط في إحلال بنات عمه عماته المذكورات في الآية‏.‏ وليست شرطاً في إحلال الأجنبيات‏.‏

‏{‏وامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إن وَهَبْتَ نَفْسَهَا للِنَّبِيِّ‏}‏ اختلف أهل التأويل هل كان عند النبي صلى لله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ لم تكن عنده امرأة وهبت نفسها له، وهو قول ابن عباس ومجاهد وتأويل من قرأ إن وهبت بالكسر محمول على المستقبل‏.‏

الثاني‏:‏ أنه كانت عنده امرأة وهبت نفسها، وهو قول الجمهور وتأويل من قرأ بالفتح أنه في امرأة بعينها متى وهبت نفسها حل له أن ينكحها، ومن قرأ بالكسر أنه في كل امرأة وهبت نفسها أنه يحل له أن ينحكها‏.‏

واختلف في التي وهبت نفسها له على أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها أم شريك بنت جابر بن ضباب، وكانت امرأة صالحة، قاله عروة بن الزبير‏.‏

الثاني‏:‏ أنها خولة بنت حكيم، وهذا قول عائشة رضي الله عنها‏.‏

الثالث‏:‏ أنها ميمونة بنت الحارث، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ أنا زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار‏.‏ قاله الشعبي‏.‏

‏{‏إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونَِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها خالصة له إذا وهبت له نفسها أن ينكحها بغير أمر ولي ولا مهر‏.‏

وليس ذلك لأحد من المؤمنين، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها خالصة له إذا وهبت له نفسها أن لا يلزمه لها صداق وليس ذلك لغيره من المؤمنين، قاله أنس بن مالك وسعيد بن المسيب‏.‏

الثالث‏:‏ أنها خالصة له أن يملك عقد نكاحها بلفظ الهبة وليس ذلك لغيره من المؤمنين، قاله الشافعي‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِم فِي أَزْوَاجِهِمْ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ فرضنا ألا تتزوج امرأة إلا بولي وشاهدين‏.‏

الثاني‏:‏ فرضنا ألا يتجاوز الرجل أربع نسوة، وهذا قول مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ فرضنا عليهم لهن النفقة عليهن والقسم بينهن‏.‏ قاله بعض الفقهاء‏.‏

‏{‏وَمَا مَلَكَتُ أَيْمَانُهُمْ‏}‏ يعني أن يحللن له من غير عدد محصور ولا قسم مستحق ‏{‏لِكَيلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه راجع إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ‏}‏؛ قال ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَامْرَأةً مُّؤْمِنَةً إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ‏}‏ ويشبه أن يكون قول يحيى بن سلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنهُنَّ وَتُئْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ تطلق من تشاء من نسائك وتمسك من تشاء منهن، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ تترك نكاح من تشاء وتنكح من تشاء، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ تعزل من شئت من أزواجك فلا تأتيها، وتأتي من شئت من أزواجك فلا تعزلها، قاله مجاهد‏.‏ ويدل على أن القَسم في هذا التأويل كان ساقطاً عنه‏.‏

الرابع‏:‏ تؤخر من تشاء من أزواجك، وتضم إليك من تشاء منهن، قاله قتادة‏.‏ وروى منصور عن ابن رزين قال‏:‏ بلغ بعض نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يخلي سبيلهن، فأتينه فقلن‏:‏ لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك، فأرجأ منهن نسوة وآوى نسوة فكان ممن أرجأ جويرية وميمونة وأم حبيبة وصفية وسودة‏.‏ وكان يقسم بينهن من نفسه وماله ما تشاء، وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب وكان قسمه في ماله ونفسه فيهن سواء‏.‏

‏{‏وَمَنِ ابْتَغَيتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ‏}‏ أي من ابتغيت فأويته إليك ممن عزلت أن تؤديه إليك‏.‏

‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ‏}‏ فيهن وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فلا جناح عليك في من ابتغيت، وفي من عزلت‏.‏ قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ فلا جناح في من عزلت أن تؤويه إليك، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتيتَهُنَّ كُلُهُنَّ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ إذا علمن أنه لا يطلقهن قرت أعينهن ولم يحزن‏.‏

الثاني‏:‏ إذا علمن أنه لا يتزوج عليهن قرت أعينهن ولم يحزن‏.‏ قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ إذا علمن أن هذا من حكم الله تعالى فيهن قَرَّت أعينهن ولم يحزن‏.‏ قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ أنهن علمن أن له ردهن إلى فراشه إذا اعتزلهن قرَّت أعينهن ولم يحزن، قاله مجاهد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعْدُ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ لا يحل لك نساء من بعد نسائك اللاتي خيرتهن فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة‏.‏ قال ابن عباس وقتادة‏.‏ وهن التسع صار مقصوراً عليهن وممنوعاً من غيرهن‏.‏

الثاني‏:‏ لا يحل لك النساء من بعد الذي أحللنا لك بقولنا ‏{‏إِنَّآ أحْلَلْنَا لَكَ أَزَْوَاجَكَ اللاَّتِي ءَآتَيْتَ أُجُورَهُنَّ‏}‏ إلى قوله ‏{‏إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ‏}‏ الآية‏.‏

وكانت الإباحة بعد نسائه مقصورة على بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته المهاجرات معه، قاله أبي بن كعب‏.‏

الثالث‏:‏ لا يحل لك النساء من غير المسلمات كاليهوديات والنصرانيات والمشركات، ويحل ما سواهن من المسلمات، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏وَلاَ أَن تَبَدَّلَ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنَهُنَّ‏}‏ فيه ثلاثة أقوايل‏:‏

أحدها‏:‏ ولا أن تبدل بالمسلمات مشركات، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ لا تطلق زوجاتك لتستبدل بهن من أعجبك حسنهن، قاله الضحاك‏.‏ وقيل التي أعجبه حسنها أسماء بنت عميس بعد قتل جعفر بن أبي طالب عنها‏.‏

الثالث‏:‏ ولا أن تبدل بأزواجك زوجات غيرك فإن العرب كانوا في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم فيعطي أحدهم زوجته لرجل ويأخذ بها منه زوجته بدلاً منها، قاله ابن زيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ‏(‏53‏)‏ إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامُنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إلاَّ أَن يُؤذَنَ لَكُمْ‏}‏ سبب نزل هذه الآية ما رواه أبو نضرة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بنساء من نسائه وعندهن رجال يتحدثون، فكره ذلك وكان إذا كره الشئ عُرف من وجهه فلما كان العَشي خرج فصعد المنبر فتلا هذه الآية‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِلَى طَعَامِ غَيْرَ نَاظِرينَ إِنَاهُ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ غير منتظرين نضجه، قاله الضحاك ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ غَيْرَ متوقعين لحينه ووقته، قاله قتادة‏.‏

‏{‏وَلكِن إذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ‏}‏ فدل هذا على حظر الدخول بغير إذن‏.‏

‏{‏فَإذَا طَعِمْتُمْ فآنتَشِرُواْ‏}‏ أي فاخرجوا، فدلّ على أن الدخول للأكل يمنع من المقام بعد الفراغ من الأكل‏.‏

‏{‏وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ روى أبو قلابة عن أنس‏.‏ قال‏:‏ لما أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبُ بنت جحش وضع طعاماً ودعا قوماً فدخلوا وزينب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يتحدثون وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُواْ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏ فَيَسْتَحْي مِنكُمْ‏}‏ يعني النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبركم‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْي مِنَ الْحَقِّ‏}‏ أن يأمركم به‏.‏

‏{‏وَإذَا سَألْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ حاجة، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ صحف القرآن، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ عارية، قاله مقاتل‏.‏ ومعانيها متقاربة‏.‏

‏{‏فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ‏}‏ أمرن وسائر النساء بالحجاب عن أبصار الرجال وأمر الرجال بغض أبصارهم عن النساء‏.‏

وفي سبب الحجاب ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها ما رواه مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كنت آكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيساً في قعب، فمر عمر فدعاه فأكل فأصابت إصبعه إصبعي فقال عمر لو أُطَاعُ فيكن ما رأتكن عين، فنزلت آيات الحجاب‏.‏

الثاني‏:‏ ما رواه عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إلى المباضع وهي صعيد أفيح يتبرزن فيه، وكان عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ احجب نساءك يا رسول الله، فلم يكن يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي، وكانت امرأة طويلة فناداها بصوته الأعلى‏:‏ قد عرفناك يا سودة، حرصاً أن ينزل الحجاب قالت‏:‏ فأنزل الله تعالى الحجاب‏.‏

الثالث‏:‏ ما روى ابن مسعود أن عمر رضي الله عنه أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب فقالت زينب بنت جحش‏:‏ يا ابن الخطاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فأنزلت الآية‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حَجَابٍ‏}‏‏.‏

‏{‏ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهنَّ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أطهر لها من الريبة‏.‏

الثاني‏:‏ أطهر لها من الشهوة‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤُذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلآَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً‏}‏ حكى السدي أن رجلاً من قريش من بني تميم قال عند نزول الحجاب أيحجبنا رسول الله عن بنات عمنا ويتزوج نساءَنا لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده، فأنزلت هذه الآية‏.‏ ولتحريمه تعديهن لزمت نفقاتهن من بيت المال‏.‏

واختلف أهل العلم في وجوب العدة عليهن بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لا تجب عليهن العدة لأنها مدة تربص ينتظر بها الإباحة‏.‏

الثاني‏:‏ تجب لأنها عبادة وإن لم تعقبها إباحة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِّي ءَابَآئِهِنَّ وَلآ أَبْنَآئِهِنَّ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا جناح عليهن في ترك الحجاب‏.‏ قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ في وضع الجلباب، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏وَلاَ إخْوَانِهِنَّ وَلآَ أَبْنَآءِ إخَوَانِهِنَّ وَلآ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ‏}‏ قال الشعبي لم يذكر العم لأنها تحل لابنه فيصفها له‏.‏

‏{‏وَلاَ نِسَآئِهِنَّ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني النساء المسلمات دون المشركات، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه في جميع النساء‏.‏

‏{‏وَلاَ مَا مَلََكَتْ أَيْمَانُهُنَّ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الإماء دون العبيد، قاله سعيد بن المسيب‏.‏

الثاني‏:‏ أنه عام في الإماء والعبيد‏.‏ واختلف من قال بهذا فيما أبيح للعبد على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما أبيح لذوي المحارم من الآباء والأبناء ما جاوز السرة وانحدر عن الركبة لأنها تحرم عليه كتحريمها عليهم‏.‏

الثاني‏:‏ ما لا يواريه الدرع من ظاهر بدنها، قاله إبراهيم‏.‏ لأنه العبد وإن حرم في الحال فقد يستباح بالعتق في ثاني حال‏.‏ وسبب نزول هذه الآية ما حكاه الكلبي أنه لما نزل في آية الحجاب ‏{‏وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مَن ورَآءِ حَجَابٍ‏}‏ قام الآباء والأبناء وقالوا يا رسول الله نحن لا نكلمهن أيضاً إلا من وراء حجاب، فنزلت هذه الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنَّ اللَّهَ وَملاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن صلاة الله تعالى عليه ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء، قاله أبو العالية‏.‏

الثاني‏:‏ أن صلاة الله تعالى عليه المغفرة له، وصلاة الملائكة الاستغفار له، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ أن صلاة الله تعالى عليه رحمته، وصلاة الملائكة الدعاء له، قاله الحسن، وهو معنى قول عطاء بن أبي رباح‏.‏

الرابع‏:‏ أن صلاتهم عليه أن يباركوا عليه‏؟‏ قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلَّمُواْ تَسْلِيماً‏}‏ روى عبد الرحمن بن أبي ليلى قال‏:‏ لقيني كعب بن عجرة فقال‏:‏ ألا أهدي لك هدية سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قلت‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا‏:‏ يا رسول الله قد عرفنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك‏؟‏ فقال‏:‏ «قُولُواْ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صلَيتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ‏.‏ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ

»‏.‏ قال أبو العباس ثعلب‏:‏ معنى قولنا اللهم صل على محمد أي زد محمداً بركة ورحمة، ويجري فيه التأويلات المذكورة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ سلموا لأمره بالطاعة له تسليماً‏.‏

الثاني‏:‏ وسلموا عليه بالدعاء له تسليماً أي سلاماً‏.‏

حكى مقاتل قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية قال المسلمون فما لنا يا رسول الله‏؟‏ فنزلت ‏{‏هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلآَئِكَتُهُ‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 58‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ‏}‏ فيهم ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم أصحاب التصاوير؛ قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم الذين طعنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اتخذ صفية بنت حيي بن أخطب، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم قوم من المنافقين كانوا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبهتونه قاله يحيى بن سلام‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه يؤذون أولياء الله‏.‏

الثاني‏:‏ أنه جعل أذى رسوله صلى الله عليه وسلم أذى له تشريفاً لمنزلته‏.‏

الثالث‏:‏ هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا كَانَ يَنبَغِي لَهُ أَن يَشْتُمَنِي، وَكَذَّبَنِي وَمَا كَانَ لَهُ أَن يُكَذِّبَنِي فَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّاي فَقَولُهُ إِنَّ لِيَ وَلَداً وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَولُهُ إنِّي لاَ أَبْعَثُ بَعدَ المَوتِ أَحداً‏.‏ وَلَعنُة الدُّنْيَا التَّقْتِيلُ وَالجَلاَءُ، وَلَعْنَةُ الآخرَةِ النَّارُ

»‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ الآية‏.‏ فيمن نزلت فيه هذه الآية ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في الزناة وكانوا يمشون فيرون المرأة فيغمزونها؛ قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ نزلت في قوم كانوا يؤذون علياً رضي الله عنه، ويكذبون عليه، قاله مقاتل والنقاش‏.‏

الثالث‏:‏ أنها نزلت فيمن تكلم في عائشة وصفوان بن المعطل بالإفك، قاله الضحاك‏.‏ وروى قتادة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأها ذات ليلة فأفزعه ذلك حتى انطلق إلى أبيّ فقال يا أبا المنذر إني قرأت كتاب الله فوقعت مني كل موقع‏.‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ‏}‏ والله إني لأعاقبهم وأضربهم، فقال‏:‏ إنك لست منهم، إنما أنت مؤدب، إنما أنت معلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 62‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏59‏)‏ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏60‏)‏ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ‏(‏61‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبَهنَّ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الجلباب الرداء، قاله ابن مسعود والحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنه القناع؛ قاله ابن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ أنه كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها، قاله قطرب‏.‏

وفي إدناء جلابيبهن عليهن قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن تشده فوق رأسها وتلقيه فوق خمارها حتى لا ترى ثغرة نحرها، قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ أن تغطي وجهها حتى لا تظهر إلا عينها اليسرى، قاله عَبيدة السلماني‏.‏

‏{‏ذَلِكَ أَدْنَى أن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ليعرفن من الإماء بالحرية‏.‏

الثاني‏:‏ يعرفن من المتبرجات بالصيانة‏.‏ قال قتادة‏:‏ كانت الأمة إذا مرت تناولها المنافقون بالأذى فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الزناة، قاله عكرمة والسدي‏.‏

الثاني‏:‏ أصحاب الفواحش والقبائح، قاله سلمة بن كهيل‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏لَّئِن لَمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ عن إيذاء نساء المسلمين قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ عن إظهار ما في قلوبهم من النفاق، قاله الحسن وقتادة‏.‏

‏{‏وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ‏}‏ فيهم ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم الذين يكاثرون النساء ويتعرضون لهن، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم الذين يذكرون من الأخبار ما يضعف به قلوب المؤمنين وتقوى به قلوب المشركين قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أن الإرجاف التماس الفتنة، قاله ابن عباس، وسيت الأراجيف لاضطراب الأصواب بها وإفاضة الناس فيها‏.‏

‏{‏لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ معناه لنسلطنك عليهم، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ لنعلمنك بهم، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ لنحملنك على مؤاخذتهم، وهو معنى قول قتادة‏.‏

‏{‏ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً‏}‏ قيل بالنفي عنها، وقيل الذي استثناه ما بين قوله لهم اخرجوا وبين خروجهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏سُنَّةُ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يعني سنته فيهم أن من أظهر الشرك قتل، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ سنته فيهم أن من زَنَى حُد، وهو معنى قول السدي‏.‏

الثالث‏:‏ سنته فيهم أن من أظهر النفاق أبعد، قاله قتادة‏.‏

‏{‏ولَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني تحويلاً وتغييراً، حكاه النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ يعني أن من قتل بحق فلا دية له على قاتله، قاله السدي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 68‏]‏

‏{‏يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ‏(‏63‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ‏(‏64‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏65‏)‏ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ‏(‏66‏)‏ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ‏(‏67‏)‏ رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ‏(‏68‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرآءَنَا‏}‏ في السادة هنا ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم الرؤساء‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم الأمراء، قاله أبو أسامة‏.‏

الثالث‏:‏ الأشراف، قاله طاوس‏.‏

وفي الكبراء هنا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم العلماء، قاله طاووس‏.‏

الثاني‏:‏ ذوو الأسنان، وهو مأثور‏.‏

‏{‏فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ‏}‏ يعني طريق الإيمان‏.‏

وفي قوله الرسولا والسبيلا وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأنها مخاطبة يجوز مثل ذلك فيها عند العرب، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أن الألف للفواصل في رؤوس الآي، قاله ابن عيسى، وقيل إن هذه الآية نزلت في اثني عشر رجلاً من قريش هم المطعمون يوم بدر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ عذاب الكفر وعذاب الإضلال‏.‏

‏{‏وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً‏}‏ بالباء قراءة عاصم يعني عظيماً وقرأ الباقون بالتاء يعني اللعن على اللعن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ‏(‏69‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَأَيُّها الَّذِينَ ءَامُنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ أَذَواْ مُوسَى‏}‏ معناه لا تؤذوا محمداً فتكونوا كالذين آذواْ موسى‏.‏

وفيما آذوا به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ قولهم زيد بن محمد، حكاه النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم قسماً فقال رجل من الأنصار إن هذه القسمة ما أُريد بها وجه الله فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال‏:‏ «رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هذا فَصَبِرَ» قاله أبو وائل‏.‏

وفيما أوذي به موسى عليه السلام ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن رَمَوهُ بالسحر والجنون‏.‏

الثاني‏:‏ ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيّاً سَتِيراً لاَ يَكَادُ يُرَى مِن جَسَدِهِ شَيءٌ يَسْتَحَيا مِنُه فآذَاهُ مَن آذَاهُ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ وَقَالُواْ مَا يَسْتَتِرُ إلاَّ مِن عَيبٍ بِجِلْدِهِ أَوْ جِسْمِهِ، إمَّا مِن بَرَصٍ وَإمَّا آدَرٌ أَوْ بِهِ آفَةٌ وَإنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبْرِئَهُ مِمَّا قَالُواْ وَإنَّ مُوسَى خَلاَ يَوماً وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إلَى ثَوبِهِ لِيَأْخُذَهُ وَإنَّ الْحَجَرَ عَدَا بثيَابِهِ فَطَلَبَهُ مُوسَى فَانتَهَى إلَى مَلإٍ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ فَرأَوهُ عُرْيَاناً كَأَحْسَنِ الرِّجالِ خَلْقاً فَبَرَّأَهُ اللَّه مِمَّا قَالُواْ

»‏.‏ الثالث‏:‏ ما رواه ابن عباس عن علي رضي الله عنه أن موسى صعد وهارون الجبل فمات هارون فقال بنو إسرائيل أنت قتلته وكان ألين لنا منك وأشد حباً فآذوه بذلك فأمر الله الملائكة فحملته فمروا به على مجلس بني إسرائيل فتكلمت الملائكة بموته ثم دفنته فما عرف موضع قبره إلا الرخم وأن الله جعله أصم أبكم ومات هارون قبل موسى في التيه ومات موسى قبل انقضاء مدة التيه بشهرين‏.‏

‏{‏وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه المقبول، قاله ابن زيد‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ لأنه مستجاب الدعوة قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ لأنه ما سأل الله شيئاً إلا أعطاه إلى النظر، قاله ابن سنان‏.‏ قاله قطرب‏:‏ والوجيه مشتق من الوجه لأنه أرفع الجسد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 71‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏70‏)‏ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً‏}‏ فيه ستة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ عدلاً، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ صدقاً، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ صواباً، قاله ابن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ هو قول لا إله إلا الله، قاله عكرمة‏.‏

الخامس‏:‏ هو الذي يوافق ظاهره باطنه‏.‏

السادس‏:‏ أنه ما أريد به وجه الله دون غيره‏.‏

ويحتمل سابعاً‏:‏ أن يكون الإصلاح بين المتشاجرين وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض‏.‏

‏{‏يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يصلحها بالقبول‏.‏

الثاني‏:‏ بالتوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ‏(‏72‏)‏ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إنَّا عرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَالِجبَالِ‏}‏ فيها خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن هذه الأمانة هي ما أمر الله سبحانه من طاعته ونهى عن معصيته، قاله أبو العالية‏.‏

الثاني‏:‏ أنها القوانين والأحكام التي أوجبها الله على العباد وهو قريب من الأول، قاله ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وابن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ هي ائتمان الرجال والنساء على الفروج، قاله أبي‏.‏ وقيل إن أول ما خلق الله من آدم الفرج فقال‏:‏ «يَا آدَمُ هَذِهِ أَمَانَةٌ خَبَّأْتُهَا عِندَكَ فلاَ تَلبِسْها إِلاَّ بِحَقٍ فإن حَفِظْتَهَا حَفِظْتُكَ

»‏.‏ الرابع‏:‏ أنها الأمانات التي يأتمن الناس بعضهم بعضاً عليها وأولها ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله، وولده حين أراد التوجه إلى أمر ربه فخان قابيل الأمانة في قتل أخيه هابيل، قاله السدي‏.‏

الخامس‏:‏ أن هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال والخلق من الدلائل على ربوبيته أن يظهرونها فأظهروها إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها قاله بعض المتكلمين‏.‏

وفي عرض هذه الأمانة ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن عرضها هو الأمر بما يجب من حفظها وعظم المأثم في تضييعها‏.‏ قاله بعض المتكلمين‏.‏

الثاني‏:‏ الأمانة عورضت بالسموات والأرض والجبال فكانت أثقل منها لتغليظ حكمها فلم تستقل بها وضعفت عن حملها، قاله ابن بحر‏.‏

الثالث‏:‏ أن الله عرض حملها ليكون الدخول فيها بعد العلم بها‏.‏

واختلف قائلو هذا على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها عرضت على السموات والأرض والجبال، قاله ابن عباس، ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنها عرضت على أهل السموات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة قاله الحسن‏.‏

‏{‏فَأَبَينَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأشْفَقْنَ مِنْهَا‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أَبَينَ أن يحملنها عجزاً وأشفقن منها خوفاً‏.‏

الثاني‏:‏ أبين أن يحملنها حذراً وأَشْفَقْنَ منها تقصيراً‏.‏

‏{‏وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ جميع الناس، قاله ثعلب‏.‏

الثاني‏:‏ أنه آدم ثم انتقلت منه إلى ولده، قاله الحسن‏.‏ روي عن معمر عن الحسن أن الأمانة لما عرضت على السموات والأرض والجبال قالت‏:‏ وما فيها‏؟‏ قيل لها‏:‏ إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت فقالت‏:‏ لا‏.‏ قال مجاهد‏:‏ فلما خلق الله آدم عرضها عليه قال‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏إن أَحْسَنْتَ آجَرْتُكَ وَإنْ أَسَأْتَ عَذَّبْتُكَ‏}‏ قال تحملتها يا رب‏.‏ قال مجاهد‏:‏ فما كان بين أن تحملها إلى أن خرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر‏.‏

‏{‏إنَّهُ كَنَ ظَلُوماً جَهُولاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ظلوماً لنفسه، جهولاً بربه، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ ظلوماً في خطيئته، جهولاً فيما حَمَّلَ ولده من بعده، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ ظلوماً لحقها، قاله قتادة‏.‏ جهولاً بعاقبة أمره، قاله ابن جريج‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه يعذبهم بالشرك والنفاق وهو معنى قول مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ بخيانتهما الأمانة‏.‏ قال الحسن‏:‏ هما اللذان ظلماها، واللذان خاناها‏:‏ المنافق، والمشرك‏.‏

‏{‏وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ أي يتجاوز عنه بأداء الأمانة والوفاء بالميثاق‏.‏

‏{‏وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً‏}‏ لمن تاب من شِرْكه ‏{‏رَحِيماً‏}‏ بالهداية إلى طاعتهK والله أعلم‏.‏

سورة سبأ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏1‏)‏ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الذي خلق ما في السموات وما في الأرض‏.‏

الثاني‏:‏ الذي يملك ما في السموات وما في الأرض‏.‏

‏{‏ولَهُ الْحَمْدُ فِي الآخرَةِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ هو حمد أهل الجنة من غير تَكْلِفٍ فسرورهم بحمده كقولهم‏:‏ الحمد لله الذي صدقنا وعْدَه، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ يعني أن له الحمد في السموات وفي الأرضين لأنه خلق السموات قبل الأرضين فصارت هي الأولى، والأرضون هي الآخرة، حكاه النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ له الحمد في الآخرة على الثواب والعقاب لأنه عَدْل منه، قاله بعض المتأخرين‏.‏

‏{‏وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ‏}‏ يعني الحكيم في أمره، الخبير بخلقه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وََمَا يَخْرُجُ مِنهَا‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ما يلج في الأرض المطر، وما يخرج منها النبات، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ ما يلج فيها الأموات، قاله الكلبي، وما يخرج منها كنوز الذهب والفضة، والمعادن، حكاه النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ ما يلج فيها‏:‏ البذور، وما يخرج منها‏:‏ الزروع‏.‏

‏{‏وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ الملائكة تنزل من السماء وتعرج فيها، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ وما ينزل من السماء‏:‏ القضاء، وما يعرج فيها‏:‏ العمل، وهو محتمل‏.‏

الثالث‏:‏ ما ينزل من السماء‏:‏ المطر، قاله الضحاك، وما يعرج فيها‏:‏ الدعاء‏.‏ وهو محتمل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 6‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏3‏)‏ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏4‏)‏ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏5‏)‏ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ سَعَواْ فِي ءَايَاتِنَا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن سعيهم فيها بالجحود لها، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ بالتكذيب بها‏.‏

‏{‏مُعَاِجِزِينَ‏}‏ وقرئ‏.‏ ‏{‏مُعْجِزِينَ‏}‏ وفي تأويل معاجزين أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ مسابقين، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ مجاهدين، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ مراغمين مشاقين، وهو معنى قول ابن عباس وعكرمة‏.‏

الرابع‏:‏ أي لا يعجزونني هرباً ولا يفوتونني طلباً، وهو معنى قول الكلبي‏.‏ وفي تأويل معجزين ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ مثبطين الناس عن اتباع الرسول، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ مضعّفين لله أن يقدر عليهم، قاله بعض المتأخرين‏.‏

الثالث‏:‏ معجزين من آمن وصَدَّقَ بالبعث بإضافة العجز إليه‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أنهم نسبوا المؤمنين إلى العجز عن الانتصار لدينهم إما بضعف الحجة وإما بقلة القوة‏.‏

‏{‏أُوْلئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٍ‏}‏ قال قتادة‏:‏ الرجز هو العذاب الأليم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَرَى الَّذينَ أوتُواْ الْعِلْمَ‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم المؤمنون من أهل الكتاب، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ‏}‏ قال الحسن هو القرآن كله حق‏.‏

‏{‏وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يهدي إلى دين الله وهو الإسلام، رواه النواس بن سمعان الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثاني‏:‏ إلى طاعة الله وسبيل مرضاته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏7‏)‏ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ‏(‏8‏)‏ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ يعني بالبعث‏.‏

‏{‏هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏يُنَبِّئُكُمْ إذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ‏}‏ أي يخبركم أنكم إذا متم فأكلتكم الأرض أو الطير حتى صرتم عظاماً ورفاتاً‏.‏

‏{‏إنَكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ أي تحشرون وتبعثون‏.‏ قيل إن أبا سفيان ابن حرب قال هذا لأهل مكة، فأجاب بعضهم بعضاً‏.‏

‏{‏أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ‏}‏ أي قائل هذا أن يكون كذاباً أو مجنوناً فرد الله تعالى عليهم قولهم هذا بأن قال‏:‏

‏{‏بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ‏}‏ العذاب في الآخرة، والضلال البعيد في الدنيا‏.‏ وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه البعيد من الهدى، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الشقاء الطويل، قاله السدي‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه ألم ينظروا إلى السماء والأرض كيف أحاطت بهم‏؟‏ لأنك إن نظرت عن يمينك أو شمالك، أو بين يديك أو خلفك رأيت السماء والأرض، قاله قتادة، إذكاراً لهم بقدرة الله تعالى عليهم وإحاطتها بهم، لأنهم، لا يرون لأوليتهما ابتداء ولا لآخرتهما انتهاء، وإن بعدوا شرقاً وغرباً‏.‏

الثاني‏:‏ يعني ‏{‏مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ فمن أهلكهم الله تعالى من الأمم الماضية في أرضه ‏{‏وَمَا خَلْفَهُم‏}‏ من أمر الآخرة في سمائه، قاله أبو صالح‏.‏

‏{‏إن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ‏}‏ يعني كما خسفنا بمن كان قبلهم‏.‏

‏{‏أَوْ نُسْقِطْ عَلَيهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الكسف العذاب قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ قطعاً من السماء ليعلموا أنه قادر على أن يعذب بسمائه إن شاء ويعذب بأرضه إن شاء، وكل خلقه له جند، قاله قتادة‏.‏

‏{‏إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه المجيب، قاله مجاهد وعطاء‏.‏

الثاني‏:‏ أنه المقبل بتوبته، قاله قتادة، قال الشاعر‏:‏

أناب إلى قولي فأصبحت مرصداً *** له بالمكافأة المنيبة والشكر

الثالث‏:‏ أنه المستقيم إلى ربه، وهو قول الضحاك‏.‏

الرابع‏:‏ أنه المخلص للتوحيد، حكاه النقاش‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ‏(‏10‏)‏ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً‏}‏ فيه سبعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ النبوة‏.‏

الثاني‏:‏ الزبور‏.‏

الثالث‏:‏ فصل القضاء بالعدل‏.‏

الرابع‏:‏ الفطنة والذكاء‏.‏

الخامس‏:‏ رحمة الضعفاء‏.‏

السادس‏:‏ حسن الصوت‏.‏

السابع‏:‏ تسخير الجبال له والطير‏.‏

‏{‏يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ سبحي معه، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ سيرى معه قاله الحسن وهو من السير ما كان في النهار كله أو في الليل كله، وقيل‏:‏ بل هو سير النهار كله دون الليل‏.‏

الثالث‏:‏ ارجعي إذا رجع، قال الشاعر‏:‏

يومان يوم مقاماتٍ وأنديةٍ *** ويوم سير إلى الأعداء تأويب‏.‏

أي رجوع بعد رجوع‏.‏

‏{‏وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ‏}‏ قال قتادة كان يعمل به كما يعمل بالطين لا يدخله النار ولا يضربه بمطرقة‏.‏

ويحتمل وجهاً آخر أنه سهل له الحديد أن يعمل منه ما شاء وإن كان على جوهره وطبعه من قولهم قد لان لك فلان إذا تسهل عليك‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ‏}‏ أي درعاً تامة، ومنه إسباغ النعمة إتمامها، قال الشاعر‏:‏

وأكثرهم دروعاً سابغات *** وأمضاهم إذا طعنوا سنانا

‏{‏وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ عدِّل المسامير في الحلقة لا تصغر المسمار وتعظم الحلقة فيسلس، ولا تعظم المسمار وتصغر الحلقة فتنفصم الحلقة، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ لا تجعل حلقه واسعة فلا تقي صاحبها، قال قتادة‏:‏ وكان داود أول من عملها، وكان قبل ذلك صفائح‏.‏

وفي ‏{‏السَّرْدِ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه النقب الذي في حلق الدرع، قاله ابن عباس، قال لبيد‏:‏

وما نسجت أسراد داود وابنه *** مضاعفة من نسجه إذ يقاتل

الثاني‏:‏ أنه المسامير التي في حلق الدرع، قاله قتادة، مأخوذ من قولهم‏:‏ سرد الكلام يسرده إذا تابع بينه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ في الأشهر الحرم ثلاثة سردٌ وواحد فرد‏.‏ وقال الهذلي‏:‏

وعليهما مسرودتان قضاهما *** داود أو صنع السوابغ تبّع

وحكى ضمرة بن شوذب أن داود عليه السلام كان يرفع كل يوم درعاً فيبيعها بستة آلآف درهم، ألفان لأهله، وأربعة آلاف يطعم بها بني إسرائيل خبز الحواري‏.‏

وحكى يحيى بن سلام والفراء أن لقمان حضر داود عند أول درع عملها فجعل يتفكر فيما يريد به ولا يدري ما يريد، فلم يسله حتى إذا فرغ منها داود قام فلبسها وقال‏:‏ نعمت جنة الحرب هذه، فقال لقمان‏:‏ الصمت حكمة وقليل فاعله‏.‏

‏{‏وَاعْمَلُواْ صَالِحاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ هو قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ فعل جميع الطاعات‏.‏

‏{‏إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ أي يعلم ما تعملون من خير أو شر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏12‏)‏ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ‏}‏ أي وسخرنا لسليمان الريح‏.‏

‏{‏غُدُوَّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ‏}‏ قال قتادة‏:‏ تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين‏.‏

وقال الحسن‏:‏ كان يغدو من دمشق فيقبل بإصطخر وبينهما مسيرة شهر للمسرع ويروح فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للمسرع‏.‏

‏{‏وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ‏}‏ قال قتادة هي عين بأرض اليمن، قال السدي‏:‏ سيلت له ثلاثة أيام، قال عكرمة‏:‏ سال له القطر ثلاثة أيام من صنعاء اليمن كما يسيل الماء‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ هي عين بالشام‏.‏

وفي القطر قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه النحاس، قاله ابن عباس وقتادة والسدي‏.‏

الثاني‏:‏ الصَّفر، قاله مجاهد وعطاء وابن زيد‏.‏

‏{‏وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ يعني أن منهم من سخره الله تعالى للعمل بين يديه، فدل على أن منهم غير مسخر‏.‏

‏{‏بِإِذْنِ رَبِّهِ‏}‏ أي بأمر ربه‏.‏

‏{‏وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني عن طاعة الله تعالى وعبادته، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ عما يأمره سليمان، قاله قتادة‏:‏ لأن أمر سليمان كان كأمر الله تعالى لكونه نبياً من أنبيائه‏.‏

‏{‏نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ السَّعِيرِ‏}‏ أي النار المسعرة وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ نذيقه ذلك في الآخرة، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ في الدنيا، قاله يحيى بن سلام‏.‏ لأنه لم يكن يسخر منهم إلا الكفار فإذا آمنوا أرسلوا، قال وكان مع المسخرين منهم ملك بيده سوط من عذاب السعير فإذا خالف سليمان ضربه الملك بذلك السوط‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَعْمَلَونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ‏}‏ فيها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها قصور، قاله عطية‏.‏

الثاني‏:‏ المساجد، قاله قتادة، والحسن‏.‏

الثالث‏:‏ المساكن، قاله ابن زيد‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ محراب الدار أشرف موضع فيها، ولا يكون إلا أن يرتقى إليه‏.‏

‏{‏وَتَمَاثِيلَ‏}‏ هي الصور، قال الحسن ولم تكن يومئذ محرمة، وفيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها من نحاس، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ من رخام وشبَه، قاله قتادة‏.‏

ثم فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها كانت طواويس وعقاباً ونسوراً على كرسيه ودرجات سريره لكي يهاب من شاهدها أن يتقدم، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ صور الأنبياء الذين قبله، قاله الفراء‏.‏

‏{‏وِجِفَانٍ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ صحاف‏.‏

‏{‏كَالْجَوَابِ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ كالحياض، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ كالجوبة من الأرض، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ كالحائط، قاله السدي‏.‏

‏{‏وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ عظام، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أن أثافيها منها، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ ثابتات لا يزلن عن أماكنهن، قاله قتادة، مأخوذ من الجبال الرواسي لثبوتها وثبوت الأرض بها‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ ذكر لنا أن تلك القدور باليمن أبقاها الله تعالى آية وعبرة‏.‏

‏{‏اعْمَلُواْ ءَال دَاوُدَ شُكْراً‏}‏ فيه ستة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه توحيد الله تعالى، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ تقوى الله والعمل بطاعته، قاله محمد بن كعب‏.‏

الثالث‏:‏ صوم النهار وقيام الليل، قاله ابن أبي زياد، فليس ساعة من نهار إلا وفيها من آل داود صائم ولا ساعة من الليل إلا وفيها من آل داود قائم‏.‏

الرابع‏:‏ اعملوا من الأعمال ما تستوجبون عليه الشكر، قاله ابن عطاء‏.‏

الخامس‏:‏ اذكروا أهل البلاء وسلوا ربكم العافية‏.‏

السادس‏:‏ ما حكاه الفضيل أنه لما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اعْمَلُواْ ءَالَ دَاوُدَ شُكْراً‏}‏ فقال داود إِلهي كيف أشكرك والشكر نعمة منك‏؟‏ قاله‏:‏ «الآنَ شَكَرْتِنِي حِينَ عَلمْتَ أَنَّ النِّعَمَ مِنِّي

»‏.‏ ‏{‏وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ المؤمن، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ الموحّد، وهو معنى قول ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ المطيع، وهو مقتضى قول محمد بن كعب‏.‏

الرابع‏:‏ ذاكر نعمه، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ثم قال‏:‏ «ثَلاَثَةٌ مَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُتُي مِثْلُ مَا أوتِيَ ءَالُ دَاوُد‏:‏ العَدْلُ فِي الغَضَبِ وَالرِّضَا، والقَصدُ فِي الفَقْرِ وَالغِنَى، وَخَشَيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِ وَالعَلاَنِيَةِ

»‏.‏ وفي الفرق بين الشاكر والشكور ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الشاكر من لم يتكرر شكره والشكور من تكرر شكره‏.‏

الثاني‏:‏ أن الشاكر على النعم والشكور على البلوى‏.‏

الثالث‏:‏ أن الشاكر خوفه أغلب والشكور رجاؤه أغلب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فََلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ روى عطاء بن السائب‏.‏ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّ سُلَيْمَانَ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيهِ السَّلاَمُ كَانَ لاَ يُصَلِّي صَلاَةً إلاَّ وَجَدَ شََجَرَةً ثَّابِتَةً بَيْنَ يَدَيهِ فَيقُولُ لَهَا‏:‏ مَا اسْمُكِ‏؟‏ فَتَقُولُ‏:‏ كَذَا كَذَا، فَيقُولُ لَمَا أَنتِ‏؟‏ فَتَقُولُ لِكَذَا وَكَذَا، فَصَلَّى يَوماً فَإِذَا شَجَرةٌ ثَابِتَةٌ بَيْنَ يَدَيهِ فَقَالَ لَهَا مَا اسْمُكِ‏؟‏ فَقَالَتْ‏:‏ الخَرُّوبُ فَقَالَ‏:‏ لِمَ أَنتَ‏؟‏ فَقَالَتْ لِخَرَابِ هذَا البَيْتِ‏.‏ فَقَالَ سُلَيمَانُ اللَّهُمَّ أَغُمَّ عَلَى الجِنِّ مَوتي حَتَّى يَعْلَمُ الإنسُ أَنَّ الجِنَّ كَانُوا لاَ يَعْلَمُونَ الغَيبَ قَالَ فَهَيَّأََ عَصاً ثُمَّ تَوَكَّأَ عَلَيهَا حَولاً وَهُم لا َ يَعلَمُونَ، قَالَ ثُمَّ أَكَلَتْهَا الأَرَضَةُ فَسَقَطَ فَعَلِمُواْ عِندَ ذَلِكَ مَوتَهُ فَشَكَرَتِ الجِنُّة ذلِكَ لِلأَرضَةِ فَإنَّمَا كَانُوا يَأْتُونَهَا بِالمَاءِ» قال السدي‏:‏ والطين، ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فإنما هو مما تأتيها به الشياطين شكراً‏:‏ قال وقدروا مقدار أكلها العصا فكان مقدار سنة‏.‏

وفي ‏{‏دَابَّةُ الأَرْضِ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الأرضة، قاله ابن عباس ومجاهد، وقد قرئ دابة الأرض بفتح الراء وهو واحد الأرضة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها دابة تأكل العيدان يقال لها القادح، قاله ابن زيد‏.‏

والمنسأة العصا، قال الشاعر‏:‏

إذا دببت على المنسأة من هرم *** فقد تباعد عنك اللهو والغزل

وأصلها مأخوذ من نسأت الغنم إذا سقتها، وقال السدي هي العصا بلسان الحبشة‏.‏

وفي دلالتها للجنة على موته قولان‏:‏

أحدها‏:‏ وهو المشهور المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سليمان وقف في محرابه يصلي متوكئاً على عصاه فمات وبقي على حاله قائماً على عصاه سنة والجن لا تعلم بموته، وقد كان سأل الله أن لا يعلموا بموته حتى مضى عليه سنة‏.‏

واختلف في سبب سؤاله لذلك على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ لأن الجن كانوا يذكرون للإنس أنهم يعلمون الغيب، فسأل الله تعالى ذلك ليعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، وهذا مأثور‏.‏

الثاني‏:‏ لأن داود عليه السلام كان أسس بيت المقدس ثم مات فبناه سليمان بعده وسخر الجن في عمله، وقد كان بقي من إتمامه بعد موته بناء سنة فسأل الله تعالى ألا يعلم الجن بموته حتى يتموا البناء فأتموه‏.‏

ثم دلتهم دابة الأرض في أكل منسأته على موته بعد سنة من موته لأنه سقط عنها حين أكلتها الأرضة فعلمت الجن أنه قد مات‏.‏

والقول الثاني‏:‏ ما حكاه ابن عباس أن الله تعالى ما قبض نبيه سليمان إلا على فراشه وكان الباب في وجهه مغلقاً على عادته في عبادته فلما كان بعد سنة أكلت الأرضة العتبة فخر الباب ساقطاً فتبينت الجن ذلك‏.‏ قال‏:‏ وكان سليمان يعتمد على العتبة إذا جلس‏.‏

‏{‏فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ‏}‏ والشياطين ومن كانوا مسخرين في العمل‏.‏

‏{‏أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ تبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين سنة‏.‏ وروى سفيان عن عمر وعن ابن عباس أنه كان يقرأ التلاوة‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الإنسُ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ سَنَةً‏}‏‏.‏

الثالث‏:‏ أن الجن دخلت عليهم شبهة توهموا بها أنهم يعلمون الغيب لما خر تبينوا أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين‏.‏

وحكي أن سليمان عليه السلام ابتدأ بناء بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه واستكمل بناءه في السنة الحادية عشرة من ملكه وقرب بعد فراغه منه اثني عشر ألف ثور ومائة وعشرين ألف شاة، واتخذ اليوم الذي فرغ من بنائه عيداً، وقام على الصخرة رافعاً يديه إلى الله تعالى بالدعاء فقال اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان وقويتني على بناء هذا المسجد فأوزعني ‏[‏أن‏]‏ أشكرك على ما أنعمت علي، وتوفني على ملتك، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، اللهم إني اسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال‏:‏ لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه، ولا خائف إلا أمنته، ولا سقيم إلا شفيته، ولا فقير إلا أغنيته، والخامس ألا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه، إلا من أراد إلحاداً أو ظلماً يا رب العالمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ‏(‏15‏)‏ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ‏(‏16‏)‏ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لِسَبَإِ فِي مَسْكَنِهِمْ‏}‏ الآية‏.‏ وقد ذكرنا اختلاف الناس في سبإ على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه اسم أرض باليمن يقال لها مأرب، قاله سفيان‏.‏

الثاني‏:‏ اسم قبيلة‏.‏

واختلف من قال بهذا هل هو اسم امرأة أو رجل على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه اسم امرأة نسبت القبيلة إليها لأنها أمهم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه رجل‏.‏ روي أن فروة الغطيفي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو‏؟‏ أبلد أم رجل أم امرأة‏؟‏ فقال‏:‏ «بَلْ رَجُلٍ وَلَدَ عَشْرَةً، فَسَكَنَ اليَمَنَ مِنهُم سِتَّةٌ وَالشَّامَ أَرْبَعَةٌ أَمَّا اليَمَانِيُّونَ فَمَذْحَجٌ وَكِيْدَهٌ وَالأزد وَالأَشعَرِيُّونَ وَأَنَمَارُ وحِمْيَرُ وَأَمَّا الشَّامِيُّونَ فَلَخْمٌ وَخِذَامُ وَغَسَّانُ وَعَامِلَةُ»‏.‏

وذكر أهل النسب أنه سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان‏.‏ قال السدي‏:‏ بعث إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً‏.‏

وأما ‏{‏جَنَّتَانِ‏}‏ فقال سفيان وجد فيهما قصران مكتوب على أحدهما‏:‏ نحن بنينا سالمين، في سبعين خريفاً دائبين، وعلى الآخر‏:‏ نحن بنينا صرواح، مقيل ومراح، وكانت إحدى الجنتين عن يمين الوادي والأخرى عن شماله‏.‏

وفي الآية التي لسبأ في مساكنهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لم يكن في قريتهم بعوضة قط ولا ذبابة ولا برغوث ولا حية ولا عقرب وان الركب ليأتون في ثيابهم القمل والدواب فتموت تلك الدواب، قاله عبد الرحمن بن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ أن الآية هي الجنتان كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها مكتل فيمتلئ وما مسته بيدها، قاله قتادة‏.‏

‏{‏كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبّكُمْ‏}‏ يعني الذي رزقكم من جنتكم‏.‏

‏{‏وَاشْكُرُواْ لَهُ‏}‏ يعني على ما رزقكم‏.‏

‏{‏بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هي صنعاء‏.‏

ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لأن أرضها وليست بسبخة‏.‏

الثاني‏:‏ لأنها ليس بها هوام‏.‏