فصل: تفسير الآيات رقم (18- 19)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ ‏(‏18‏)‏ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا‏}‏ فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها بيت المقدس، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الشام، قاله مجاهد وقتادة‏.‏

‏{‏الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا‏}‏ يعني بالشجر والثمر والماء‏.‏ وقيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية‏.‏

ويحتمل أن يكون التي باركنا فيها بكثرة العدد‏.‏

‏{‏قُرىً ظَاهِرَةً‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ متصلة ينظر بعضهم إلى بعض، قاله الحسن، وأبو مالك‏.‏

الثاني‏:‏ أنها العامرة‏.‏

الثالث‏:‏ الكثيرة الماء‏.‏

الرابع‏:‏ أن القرى الظاهرة هي القرى القريبة، قاله سعيد بن جبير، والضحاك‏.‏

وفيها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها السروات، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنها قرى لصنعاء، قاله ابن منبه‏.‏

الثالث‏:‏ أنها قرى ما بين مأرب والشام، قاله سعيد بن جبير‏.‏

‏{‏وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيرَ‏}‏ فيها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ قدرنا فيها المقيل والمبيت، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم كانوا يصبحون في قرية ويمسون في أخرى، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ أنه قدر فيها السير بأن جعل ما بين القرية والقرية مقداراً واحداً، قاله ابن قتيبة‏.‏

‏{‏سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً ءَامِنِينَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ من الجوع والظمأ، قاله قتادة‏.‏ حتى أن المرأة تمشي وعلى رأسها مكتل فيمتلئ من الثمر‏.‏

الثاني‏:‏ آمنين من الخوف قاله يحيى بن سلام، كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضاً، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لم يحركه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَرِنَا‏}‏ قرأ أبو عمرو، وابن كثير ‏{‏بَعِّد‏}‏ بغير ألف وبتشديد العين، وقرأ الباقون ‏{‏بَاعِدْ‏}‏ بألف وبتخفيف العين وفيهما ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم قالوا ذلك لأنهم ملّوا النعم كما ملَّ بنو اسرائيل المن والسلوى، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم قالوا لو كانت ثمارنا أبعد مما هي كانت أشهى في النفوس وأحلى، قاله ابن عيسى، وهو قريب من الأول لأنه بطر‏.‏ فصار نوعاً من الملل‏.‏

الثالث‏:‏ معناه زد في عمارتنا حتى تبعد فيه أسفارنا، حكاه النقاش‏.‏ وهذا القول منهم طلباً للزيادة والكثرة‏.‏

وقرأ بعض القراء ‏{‏بَعُد‏}‏ بضم العين وتخفيفها، وهذا القول منهم شكوى لبعد سفرهم وتمني قصره‏.‏

‏{‏وَظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ظلموها بقولهم باعد بين أسفارنا، قاله بن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ بتكذيب الرسل وهم ثلاثة عشر نبياً‏.‏ قال الكلبي‏:‏ أنهم قالوا لرسلهم حين ابتلوا وهم مكذبون‏:‏ وقد كنا نأبى عليكم وأرضنا عامرة خير أرض فكيف اليوم وأرضنا خراب شر أرض‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم ظلموا أنفسهم بالتغيير والتبديل بعد أن كانوا مسلمين، قاله الحسن‏.‏

‏{‏فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ‏}‏ أي يتحدث الناس بما كانوا فيه من نعيم وما صارواْ إليه من هلاك، حتى ضرب المثل فقيل‏:‏ تفرقوا أيدي سبأ، ومنه قول الشاعر‏:‏

باد قوم عصف الدهر بهم *** فرقوا عن صرفه أيدي سبأ

‏{‏وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم فرقوا بالهلاك حتى صاروا تراباً تذروه الرياح، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم مزقوا بالتفريق والتباعد، قاله قتادة‏.‏

حكى الشعبي قال‏:‏ أما غسان فلحقوا بالشام، وأما خزاعة فحلقوا بمكة، وأما الأوس والخزرج فلحقوا بيثرب يعني المدينة، وأما الأزد فلحقوا بعمان‏.‏

‏{‏إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ صبار على البلوى شكور على النعماء‏.‏

الثاني‏:‏ صبور على أمر الله شكور في طاعة الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏20‏)‏ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه لما أُهْبِطَ آدم من الجنة ومعه حواء، وهبط إبليس، قال إبليس أما إذ أصيب من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف وكان ظناً من إبليس، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ‏}‏ قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أن إبليس إذ قال‏:‏ خُلِقْتُ من نار وخلق آدم من طين والنار تحرق كل شيء، لأحتنكن ذريته إلا قليلاً، فصدق ظنه عليه، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنه قال‏:‏ يا رب أرأيت هؤلاء القوم الذين كرمتهم وشرفتهم وفضلتهم علىّ لا تجد أكثرهم شاكرين، ظن منه فصدق عليهم ظنه، قاله زيد بن أسلم‏.‏

الرابع‏:‏ أنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضَلّهم أطاعوه فصدق ظنه فاتبعوه قاله الكلبي‏.‏

‏{‏فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَريقاً مِّنَ المُؤْمِنِينَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فاتبعوا إبليس، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ فاتبعوا ظنه، قاله مجاهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ‏(‏22‏)‏ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ حكى الفراء فيه وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ حتى يؤذن له في الشفاعة‏.‏

الثاني‏:‏ حتى يؤذن له فيمن يشفع له، ووجدت الأول قول الكلبي والثاني قول مقاتل‏.‏

‏{‏حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ‏}‏ فيه ستة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ معناه خلي عن قلوبهم الفزع، قاله ابن عباس، وقال قطرب‏:‏ أخرج ما فيها من الخوف‏.‏

الثاني‏:‏ كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم الشياطين فزع عن قلوبهم ففارقوا ما كانوا عليه من إضلال أوليائهم، قاله ابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ أنهم دعوا فاستجابوا من قبورهم مأخوذ من الفزع الذي هو الدعاء والاستصراخ فسمي الداعي فزعاً والمجيب فزعاً، قال زهير‏:‏

إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم *** طوال الرماح لا قصار ولا عُزْلُ

الخامس‏:‏ أنهم الملائكة فزعوا عند سماع الوحي من الله تعالى لانقطاعه ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، وكان لصوته صلصلة كوقع الحديد على الصفا، فخرُّوا عنده سجوداً مخافة القيامة فسألوا فقالوا‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ الحق أي الوحي، وهذا معنى قول كعب‏.‏

السادس‏:‏ وهو تأويل قراءة الحسن‏:‏ حتى فرغ عن قلوبهم بالغين معجمة يعني فرغ ما فيها من الشك والشرك‏.‏

‏{‏قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ‏}‏ أي قال لهم الملائكة‏:‏ ماذا قال ربكم في الدنيا‏.‏

‏{‏قَالُواْ الْحَقَّ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يجدوا ما وصفوه عن الله تعالى حقاً‏.‏

الثاني‏:‏ أن يصدقوا بما قاله الله تعالى أنه حق‏.‏

‏{‏وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 27‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏24‏)‏ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏25‏)‏ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ‏(‏26‏)‏ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمواتِ وَالأَرْضِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن رزق السموات المطر ورزق الأرض النبات، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ أن رزق السموات ما قضاه من أرزاق عباده، ورزق الأرض ما مكنهم فيه من مباح‏.‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ‏}‏ وهذا جواب قل من يزرقكم من السموات والأرض، ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون للمشركين حين سئلوا عن ذلك لأنهم لا يجحدون أن الله رازقهم‏.‏

الثاني‏:‏ أن يكون أمراً في أمر الله أي يجابوا به لأنهم لا يجحدونه لتقوم به الحجة عليهم‏.‏

‏{‏وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه‏:‏ إننا نحن لعلى هدى وإنكم أنتم لفي ضلال مبين، قاله عكرمة وأبو عبيدة وزياد بن أبي مريم‏.‏ قال الفراء‏:‏ أو بمعنى الواو‏.‏

الثاني‏:‏ أن أحدنا لعلى هدى والآخر لفي ضلال مبين، دفعاً لأنقصهما، ومنعاً من أرذلهما كقول القائل‏:‏ إن أحدنا لكاذب، دفعا للكذب عن نفسه وإِضافته إلى صاحبه وإن أحدنا لصادق، إضافة للصدق إلى نفسه ودفعاً عن صاحبه، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ معناه‏:‏ الله رزقنا وإياكم لعلى هدى كنا أو في ضلال مبين حكاه النقاش‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا‏}‏ يعني يوم القيامة‏.‏

‏{‏ثُمُّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ‏}‏ أي يقضي بيننا لأنه بالقضاء يفتح وجه الحكم، وقال السدي هي لغة يمانية‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏بِالْحَقِّ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ بالعدل‏.‏

‏{‏وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَليمُ‏}‏ أي القاضي العليم وفيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ العليم بما يخفون، قاله محمد بن إسحاق‏.‏

الثاني‏:‏ العليم بالحكم، قاله ابن زياد‏.‏

الثالث‏:‏ العليم بخلقه، قاله مقاتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 30‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏28‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏29‏)‏ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني أنه رسول إلى كافة الناس أي إلى جميعهم، قال ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ معناه أنك رسول الله إلى جميع الناس وتضمهم، ومنه كف الثوب لأنه ضم طرفيه‏.‏

الثالث‏:‏ معناه إنا أرسلناك كافاً للناس أي مانعاً لهم من الشرك وأدخلت الهاء للمبالغة، قاله ابن بحر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 33‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ‏(‏32‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ يعني كفار العرب، ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْءانِ وَلاَ بِالَّذي بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ التوراة، والإِنجيل، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ من الأنبياء والكتب، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ من أمر الآخرة، قاله ابن عيسى‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ قائل ذلك أبو جهل ابن هشام‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ معناه بل غركم اختلاف الليل والنهار، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ بل عملكم من الليل والنهار، قاله سفيان‏.‏

الثالث‏:‏ بل معصية الليل والنهار، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ بل مر الليل والنهار، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الخامس‏:‏ بل مكرهم في الليل والنهار، قاله الحسن‏.‏

‏{‏إذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أشباهاً، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ شركاء، قاله أبو مالك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 39‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏34‏)‏ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏35‏)‏ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏36‏)‏ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ ‏(‏37‏)‏ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ‏(‏38‏)‏ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ‏}‏ يعني من نبي ينذرهم بعذاب الله‏.‏

‏{‏إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا‏}‏ فيهم ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني جبابرتها، قاله ابن جريج‏.‏

الثاني‏:‏ أغنياؤها، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثالث‏:‏ ذوو النعم والبطر، قاله ابن عيسى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وأَوْلاَداً‏}‏ قالوا ذلك للأنبياء والفقراء ويحتمل قولهم ذلك وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم بالغنى والثروة أحق بالنبوة‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم أولى بما أنعم الله عليهم من الغنى أن يكونوا على طاعة‏.‏

‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أي ما عذبنا بما أنتم فيه من الفقر‏.‏

الثاني‏:‏ أي ما أنعم الله علينا بهذه النعمة وهو يريد عذابنا، فرد الله تعالى عليهم ما احتجوا من الغنى فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏قُلْ إنَّ رَبِّي يُبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ‏}‏ أي يوسعه‏.‏ ‏{‏وَيَقْدِرُ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن يقترعليه، قال الحسن يبسط لهذا مكراً به، ويقدر لهذا نظراً له‏.‏

الثاني‏:‏ بنظره له، رواه حصين بن أبي الجميل‏.‏

الثالث‏:‏ بخير له، رواه حارث بن السائب‏.‏

‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن الله يوسع على من يشاء ويقتر على من يشاء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلآ أَوْلاَدُكُمْ بالتَّي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أي قربى والزلفة القربة، ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن أموالكم في الدنيا لا تدفع عنكم عذاب الآخرة‏.‏

الثاني‏:‏ أن إنعامنا بها عليكم في الدنيا لا يقتضي إنعامنا عليكم بالجنة في الآخرة‏.‏

‏{‏إلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً‏}‏ روى ليث عن طاووس أنه كان يقول اللهم ارزقني الإيمان والعمل، وجنبني المال والولد، فإني سمعت فيما أوحيْتَ ‏{‏وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بَالَّتِي تُقَرِّبْكْمُ عِندَنَا زُلْفَى إلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صالِحاً‏}‏‏.‏

‏{‏فَأُوْلئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه أضعاف الحسنة بعشر أمثالها، وأضعاف الدرهم بسبعمائة، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ أن المؤمن إذا كان غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين بهذه الآية، قاله محمد بن كعب‏.‏

الثالث‏:‏ يعني فله جزاء مثل عمله لأن الضعف هو المثل ويقتضي ذلك المضاعفة، قاله بعض المتأخرين‏.‏

‏{‏وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ ءَامِنُونَ‏}‏ يعني غرفات الجنة‏.‏

‏{‏ءَامِنُونَ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ آمنون من النار، قاله يحيى ابن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ من انقطاع النعم، قاله النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ من الموت، قاله مقاتل‏.‏

الرابع‏:‏ من الأحزان والأسقام‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمآ أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ فهو يخلفه إن شاء إذا رأى ذلك صلاحاً كإجابة الدعاء، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ يخلفه بالأجر في الآخرة إذا أنفقه في طاعة، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ معناه فهو أخلفه لأنه نفقته من خلف الله ورزقه، قاله سفيان بن الحسين‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ فهو يعني عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 42‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ‏(‏40‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ‏(‏41‏)‏ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً‏}‏ يعني المشركين ومن عبدوه من الملائكة‏.‏

‏{‏ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلآَئِكَةِ أَهَؤلآَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ‏}‏ وهذا السؤال للملائكة تقرير وليس باستفهام، وإن خرج مخرج الاستفهام‏.‏

‏{‏قََالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنت الذي توالينا بالطاعة دونهم‏.‏

الثاني‏:‏ أنت ناصرنا دونهم‏.‏

‏{‏بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ‏}‏ يعني أنهم أطاعوا الجن في عبادتنا، وصاروا بطاعتهم عابدين لهم دوننا‏.‏

‏{‏أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ‏}‏ أي جميعهم بهم مؤمنون، وهذا خروج عن الظاهر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 45‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏43‏)‏ وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ‏(‏44‏)‏ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وََمَآ ءَاتَينَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا‏}‏ يعني مشركي قريش ما أنزل الله تعالى عليهم كتاباً قط يدرسونه، فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فيعلمون بدرسه أن ما جئت به حق أم باطل، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ فيعلمون أن الله تعالى شريكاً على ما زعموه، قاله ابن زيد‏.‏

‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَآ إلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ‏}‏ أي ما بعثنا إليهم رسولاً غيرك‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ يعني من قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ ءاتَيْنَاهُمْ‏}‏ فيه أربعة‏:‏

أحدها‏:‏ يعني أنهم ما عملوا معشار ما أمروا به، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنه يعني ما أعطى الله سبحانه قريشاً ومن كذب محمداً صلى الله عليه وسلم من أمته معشار ما أعطى من قبلهم من القوة والمال، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم، حكاه النقاش‏.‏

الرابع‏:‏ ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من البيان والحجة والبرهان‏.‏ قال ابن عباس فليس أمة أعلم من أمته ولا كتاب أبين من كتابه‏.‏

وفي المعشار ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه العشر وهما لغتان‏.‏

الثاني‏:‏ أنه عشر العشر وهو العشير‏.‏

الثالث‏:‏ هو عشير العشير، والعشير عشر العشر، فيكون جزءاً من ألف جزء، وهو الأظهر، لأن المراد به المبالغة في التقليل‏.‏

‏{‏فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ أي عقابي وفي الكلام إضمار محذوف وتقديره‏:‏ فأهلكناهم فكيف كان نذير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ‏(‏46‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ إنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني بطاعة الله عز وجل، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ بالا إله إلا الله، قاله السدي‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ بالقرآن لأنه يجمع كل المواعظ‏.‏

‏{‏أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى‏}‏ يعني أن تقوموا لله بالحق، ولم يُرد القيام على الأرجل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسطِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏مَثْنَى وَفُرَادَى‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه جماعة وفرادى، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ منفرداً برأيه ومشاوراً لغيره، وهذا قول مأثور‏.‏

الثالث‏:‏ مناظراً مع غيره ومفكراً في نفسه، قاله ابن قتيبة‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أن المثنى عمل النهار، والفرادى عمل الليل، لأنه في النهار‏.‏ مُعانٌ وفي الليل وحيد‏.‏

‏{‏ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ‏}‏ قال قتادة أي ليس بمحمد جنون‏.‏ ‏{‏إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ‏}‏ يعني في الآخرة، قال مقاتل‏:‏ وسبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل كفار قريش ألا يؤذوه ويمنعوا منه لقرابته منهم حتى يؤدي رسالة ربه، فسمعوه يذكر اللات والعزى في القرآن فقالوا يسألنا ألا نؤذيه لقرابته منا ويؤذينا بسبب آلهتنا فنزلت هذه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 50‏]‏

‏{‏قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏47‏)‏ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏48‏)‏ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ‏(‏49‏)‏ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا سأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ من مودة قاله ابن عباس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل قريشاً أن يكفوا عن أذيته حتى يبلغ رسالة ربه‏.‏

الثاني‏:‏ من جُعْل قاله قتادة، ويشبه أن يكون في الزكاة‏.‏

ويحتمل ثالثاُ‏:‏ أن أجر ما دعوتكم إليه من إجابتي فهو لكم دوني‏.‏

‏{‏إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى اللَّهِ‏}‏ أي ما ثوابي إلا على الله في الآخرة‏.‏

‏{‏وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ شهيد أن ليس بي جنون‏.‏

الثاني‏:‏ شهيد أني لكم نذير بين يدي عذاب شديد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ إنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ بالوحي، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ بالقرآن، رواه معمر‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏يَقْذِفُ‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يتكلم‏.‏

الثاني‏:‏ يوحي‏.‏

الثالث‏:‏ يلقي‏.‏

‏{‏عَلاَّمُ الْغُيُوبِ‏}‏ قال الضحاك‏:‏ الخفيات‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ جَآءَ الْحَقُّ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ القرآن، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ الجهاد بالسيف، قاله ابن مسعود‏.‏

‏{‏وَمَا يُبْدِيءُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الباطل الشيطان‏.‏ رواه معمر‏.‏

الثاني‏:‏ أنه إبليس‏.‏ رواه خليد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه دين الشرك، قاله ابن بحر‏.‏

وفي إبداء الباطل وإعادته ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لا يخلق ولا يبعث، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ لا يحيي ولا يميت، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ لا يثبت إذا بدا، ولا يعود إذا زال، قاله ابن بحر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 54‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ‏(‏51‏)‏ وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إذْ فِزَعُواْ‏}‏ في فزعهم خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ فزعهم يوم القيامة، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ فزعهم في الدنيا حين رأو بأس الله عز وجل‏:‏ قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ هو الجيش الذي يخسف بهم في البيداء فيبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقي أصحابه فيفزعوا فهذا هو فزعهم، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الرابع‏:‏ هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم فلم يستطيعوا فراراً من العذاب ولا رجوعاً إلى التوبة، قاله السدي‏.‏

الخامس‏:‏ هو فزعهم في القبور من الصيحة، قاله الحسن‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ فَوْتَ‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ فلا نجاة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ فلا مهرب، وهو معنى قول مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ فلا سبق، قاله قتادة‏.‏

‏{‏وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ‏}‏ فيه ستة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ من تحت أقدامهم، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ يوم بدر، قاله زيد بن أسلم‏.‏

الثالث‏:‏ هو جيش السفياني، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ عذاب الدنيا، قاله الضحاك‏.‏

الخامس‏:‏ حين خرجوا من القبور، قاله الحسن‏.‏

السادس‏:‏ هو يوم القيامة، قاله القاسم بن نافع‏.‏

ويحتمل سابعاً‏:‏ في أسرِّ ما كانوا فيه نفوساً، وأقوى ما كانوا عليه أملاً لأنه أقرب بلاء من نعمه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا ءَامَنَّا بِهِ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يعني بالله، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ بالبعث، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ بالرسل، قاله قتادة‏.‏

‏{‏وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ‏}‏ وفي التناوش ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ هو الرجعة، قاله ابن عباس ومنه قول الشاعر‏:‏

تمنى أن تؤوب إليّ ميٌّ *** وليس إلى تناوشها سبيل

الثاني‏:‏ هو التوبة، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ هو التناول من قولهم نشته أنوشه نوشاً إذا تناوله من قريب، وقد تناوش القوم إذا دنا بعضهم من بعض ولم يلتحم القتال بينهم، قال الشاعر‏:‏

فهي تنوش الحوض نوشاً من علا *** نوشاً به تقطع أجواز الفلا

‏{‏مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ‏}‏ فيه ثلاثة أقوايل‏:‏

أحدها‏:‏ من الآخرة إلى الدنيا، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ ما بين الآخرة والدنيا، رواه القاسم بن نافع‏.‏

الثالث‏:‏ هو طلبهم الأمر من حيث لا ينال، قاله الحسن‏.‏

ويحتمل قولاً رابعاً‏:‏ بعيد عليهم لاستحالته عندهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم كفروا بالله تعالى، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ بالبعث، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ بالرسول، قاله قتادة‏.‏

‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في الدنيا، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ من قبل العذاب‏.‏

‏{‏وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ معناه يرجمون بالظن ويقولون في الدنيا لا بعث ولا جنة ولا نار، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنه طعنهم في القرآن، قاله عبد الرحمن بن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ هو طعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر أو ساحر، قاله مجاهد، وسماه قذفاً لخروجه عن غير حق‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ‏}‏ يعني بالموت، وفيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ حيل بينهم وبين الدنيا، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ بينهم وبين الإيمان، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ بينهم وبين التوبة، قاله السدي‏.‏

الرابع‏:‏ بينهم وبين طاعة الله تعالى، قاله خليد‏.‏

الخامس‏:‏ حيل بين المؤمن وبين العمل، وبين الكافر وبين الإيمان، قاله يزيد بن أبي يزيد‏.‏

‏{‏كَمَا فُعِلَ بِأَشْياعِهِم مّن قَبْلُ‏}‏ فيهم ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم أوائلهم من الأمم الخالية، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ هم أمثالهم من الكفار الذين لم يقبل الله سبحانه منهم التوبة عند المعاينة‏.‏

‏{‏إنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يعرفون نبيهم، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ هو شكهم في وقوع العذاب، قاله الضحاك‏.‏

سورة فاطر

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ والفطر الشق عن الشيء بإظهاره للحسن يقال فطر ناب الناقة إذا طلع، وفطر دمه إذا أخرجه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما‏:‏ أنا فطرتها أي ابتدأتها‏.‏

وفي تأويله ههنا وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ خالق السموات والأرض، قاله قتادة، والكلبي، ومقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ أنه شقها لما ينزل منها وما يعرج فيها‏.‏

‏{‏جَاعِلِ الْمَلآَئِكَةِ رُسُلاً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ إلى الأنبياء، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ إلى العباد رحمة أو نقمة، قاله السدي‏.‏

‏{‏أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ‏}‏ قال قتادة‏:‏ بعضهم له جناحان، وبعضهم ثلاثة، وبعضهم أربعة‏.‏ والمثنى والثلاث والرباع ما تكرر فيه الاثنان والثلاثة والأربعة‏.‏

‏{‏يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه حسن الصوت، قاله الزهري وابن جريج‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الشعر الجعد، حكاه النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ يزيد في أجنحة الملائكة ما يشاء، قاله الحسن‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أنه العقل والتمييز‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ أنه العلوم والصنائع‏.‏ ويكون معناه على هذين التأويلين‏:‏

كما يزيد في الخلق ما يشاء كذلك يزيد في أجنحة الملائكة ما يشاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 6‏]‏

‏{‏مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏3‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏4‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا‏}‏ فيه سبعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ من خير، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ من مطر، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ من توبة، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ من وحي، قاله الحسن‏.‏

الخامس‏:‏ من رزق وهو مأثور‏.‏

السادس‏:‏ من عافية، قاله الكلبي‏.‏

السابع‏:‏ من دعاء، قاله الضحاك‏.‏

ويحتمل ثامناً‏:‏ من توفيق وهداية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏7‏)‏ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم اليهود والنصارى والمجوس، قاله أبو قلابة، ويكون سوء عمله معاندة الرسول‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم الخوارج، رواه عمرو بن القاسم، ويكون سوء عمله تحريف التأويل‏.‏

الثالث‏:‏ الشيطان، قاله الحسن ويكون سوء عمله الإغواء‏.‏

الرابع‏:‏ كفار قريش، قاله الكلبي، ويكون سوء عملهم الشرك‏.‏

وقيل إنها نزلت في العاص بن وائل السهمي والأسود بن المطلب، وقال غيره نزلت في أبي جهل بن هشام‏.‏

في قوله‏:‏ ‏{‏فَرءَاهُ حَسَناً‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ صواباً، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ جميلاً‏.‏

وفي الكلام محذوف اختلف فيه على ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن المحذوف منه‏:‏ فإنه يتحسر عليه يوم القيامة، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ أن المحذوف منه‏:‏ كمن آمن وعمل صالحاً لا يستويان، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثالث‏:‏ أن المحذوف منه‏:‏ كمن عمل الحسن والقبح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ‏(‏9‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ‏(‏10‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني بالعزة المنعة فيتعزز بطاعة الله تعالى، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ علم العزة لمن هي، فلله العزة جميعاً‏.‏

وقيل إن سبب نزول هذه الآية ما رواه الحسن أن المشركين عبدوا الأوثان لتعزهم كما وصف الله تعالى عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذُواْ مِن اللهِ دُونِ ءَالِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُم عِزّاً‏}‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فِلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً‏}‏‏.‏

‏{‏إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه التوحيد، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ الثناء علىمن في الأرض من صالح المؤمنين يصعد به الملائكة المقربون، حكاه النقاش‏.‏

‏{‏وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أداء الفرائض‏.‏

الثاني‏:‏ أنه فعل القرب كلها‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏يَرْفَعُهُ‏}‏ ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن العمل الصالح يرفعه الكلام الطيب، قاله الحسن، ويحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أن العمل الصالح يرفع الكلام الطيب، قاله الضحاك وسعيد بن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ أن العمل يرفعه الله بصاحبه، قاله قتادة، السدي‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ‏}‏ يعني يشركون في الدنيا‏.‏

‏{‏لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ‏}‏ يعني في الآخرة‏.‏

‏{‏وَمَكْرُ أُوْلئِكَ هُوَ يَبُورُ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يفسد عند الله تعالى، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ يبطل، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ يهلك، والبوار الهلاك، قاله قطرب‏.‏

وفي المراد‏:‏ ‏{‏أُوْلئِكَ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أهل الشرك‏.‏

الثاني‏:‏ أصحاب الربا، قاله مجاهد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ‏}‏ يعني آدم‏.‏

‏{‏ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ‏}‏ يعني نسله‏.‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أصنافاً، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ ذكراناً وإناثاً، والواحد الذي معه آخر من شكله زوج والاثنان زوجان، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَينَ الذَّكَرَ والأُنْثَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 45‏]‏ وتأول قتادة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً‏}‏ أي زوّج بعضكم لبعض‏.‏

‏{‏وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ‏}‏ يعني بأمره‏.‏

‏{‏وَمَا يَعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ منْ عَمُرِهِ‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما نمد في عمر معمر حتى يصير هرماً‏.‏ ولا ينقص من عمر أحد حتى يموت طفلاً إلا في كتاب‏.‏

الثاني‏:‏ ما يعمر من معمر قدر الله تعالى مدة أجله إلا كان ما نقص منه بالأيام الماضية عليه في كتاب عند الله‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ هي صحيفة كتب الله تعالى في أولها أجله، ثم كتب في أسفلها ذهب يوم كذا ويوم كذا حتى يأتي على أجله، وبمثله قال أبو مالك، والشعبي‏.‏

وفي عمر المعمر ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ستون سنة، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أربعون سنة‏.‏

الثالث‏:‏ ثماني عشرة سنة، قاله أبو غالب‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏ أي هين‏.‏

ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن إثبات ذلك على الله يسير‏.‏

الثاني‏:‏ أن زيادة عمر المعمر ونقصان عمر الآخر عند الله تعالى يسير‏.‏

وللكلبي فيه ثالث‏:‏ أن حفظ ذلك بغير كتاب على الله يسير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ‏(‏13‏)‏ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يستويان في أنفسهما‏.‏

الثاني‏:‏ في منافع الناس بهما‏.‏

‏{‏هذَا عَذْبٌ فُراتٌ‏}‏ والفرات هو العذب وذكره تأكيداً لاختلاف اللفظين كما يقال هذا حسن جميل‏.‏

‏{‏سَآئَغٌ شَرَابُهُ‏}‏ أي ماؤه‏.‏

‏{‏وَهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ‏}‏ أي مُرٌّ مأخوذ من أجة النار كأنه يحرق من شدة المرارة، قال الشاعر‏:‏

دُرَّةٌ في اليمين أخرجها الغا *** ئص من قعر بحر ملح أجاج

‏{‏وَمِن كُلٍّ تَأكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً‏}‏ يعني لحم الحيتان مأكول من كلا البحرين‏.‏

‏{‏وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا‏}‏ اللؤلؤ والمرجان يستخرج من الملح، ويكون المراد أحدهما وإن عطف بالكلام عليهما‏.‏

وقيل‏:‏ بل هو مأخوذ منهما لأن في البحر عيوناً عذبة، وما بينهما يخرج اللؤلؤ عند التمازج وقيل من مطر السماء‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏تَلْبَسُونَهَا‏}‏ وإن لبسها النساء دون الرجال لأن جمالها عائد عليهم جميعاً‏.‏

‏{‏وَتَرى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ مقبلة ومدبرة وريح واحدة، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ مواقر، قاله الحسن‏.‏ قال الشاعر‏:‏

تراها إذا راحت ثقالاً كأنها *** مواخر فلك أو نعام حوافل

الثالث‏:‏ معترضة، قاله أبو وائل‏.‏

الرابع‏:‏ جواري، قاله ابن قتيبة‏.‏

الخامس‏:‏ تمخر الماء أي تشقه في جريها شقاً، قاله علي بن عيسى‏.‏

‏{‏لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ التجاة في الفلك‏.‏

ويحتمل وجهاً آخر ما يستخرج من حليته ويصاد من حيتان‏.‏

‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏فيه وجهان‏]‏‏:‏

أحدهما‏:‏ على ما آتاكم من نعمه‏.‏

الثاني‏:‏ على ما آتاكم من فضله‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ على ما أنجاكم من هوله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏15‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرَى‏}‏ أي لا تحمل نفس ما تحمله نفس أخرى من ذنوبها، ومنه الوزير لأنه يحمل أثقال الملك بتدبيره‏.‏

‏{‏وَإن تَدَعُ مُثْقَلَةٌ إلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَل مِنْهُ شَيْءٌ‏}‏ قال مجاهد مثقلة بالذنوب، ومعنى الكلام أن النفس التي قد أثقلتها ذنوبها إذا دعت يوم القيامة من يتحمل الذنوب عنها لم تجد من يتحمل عنها شيئاً من ذنوبها‏.‏

‏{‏وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى‏}‏ ولو كان المدعو إلى التحمل قريباً مناسباً، ولو تحمله عنها ما قُبل تحمله، لما سبق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏‏.‏

‏{‏إنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهَم بِالْغَيْبِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في السر حيث لا يطلع عليه أحد، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ في التصديق بالآخرة، حكاه ابن عيسى‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ يخشونه في ضمائر القلوب كما يخشونه في ظواهر الأفعال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 26‏]‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ‏(‏19‏)‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ‏(‏20‏)‏ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ‏(‏21‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏22‏)‏ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ‏(‏23‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ‏(‏24‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، كما لا يستوي الأعمى والبصير، ولا تستوي الظلمات ولا النور، ولا يستوي الظل ولا الحرور لا يستوي المؤمن والكافر، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أن معنى قوله وما يستوي الأعمى والبصير أي عمى القلب بالكفر وبصره بالإيمان، ولا تستوي ظلمات الكفر ونور الإيمان، ولا يستوي ظل الجنة وحرور النار، قاله السدي‏.‏

والحرور الريح الحارة كالسموم، قال الفراء‏:‏ الحرور يكون بالليل والنهار، والسموم لا يكون إلا بالنهار‏.‏

وقال الأخفش‏:‏ الحرور لا يكون إلا مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل والنهار‏.‏

قال قطرب‏:‏ الحرور الحر، والظل البرد‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ أنه لا يستوي الجنة والنار‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، كما أنه لا يستوي الأحياء والأموات فكذلك لا يستوي المؤمن والكافر، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أن الأحياء المؤمنون الذين أحياهم الإيمان‏.‏ والأموات الكفار الذين أماتهم الكفر وهذا مقتضى قول السدي‏.‏

الثالث‏:‏ أن الأحياء العقلاء، والأموات الجهال، قاله ابن قتيبة وفي ‏{‏لاَ‏}‏ في هذا الموضع وفيما قبله قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها زائدة مؤكدة‏.‏

الثاني‏:‏ أنا نافية لاستواء أحدهما بالآخر‏.‏

‏{‏إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ‏}‏ أي يهدي من يشاء‏.‏

‏{‏وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه مثل ضربه الله، كما أنك لا تُسمع الموتى في القبور كذلك لا تسمع الكافر‏.‏

الثاني‏:‏ أن الكافر قد أماته الكفر حتى أقبره في كفره فلذلك لا يسمع، وقيل إن مراد الله تعالى بهذه الآية الإخبار أن بين الخير فروقاً، كما أن بين الشر فروقاً، ليطلب من درجات الخير أعلاها ولا يحتقر من درجات الشر أدناها، وهو الظاهر من قول علي ابن عيسى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً‏}‏ أي بالقرآن بشرى بالجنة‏.‏

‏{‏وَنَذِيراً‏}‏ من النار‏.‏ ‏{‏وَإن مَّنْ أُمَّةِ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ‏}‏ أي سلف فيها نبي، قال ابن جريج‏:‏ إلا العرب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ‏(‏27‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَنْا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا‏}‏ وفيه مضمر محذوف تقديره مختلف ألوانها وطعومها وروائحها، فاقتصر منها على ذكر اللون لأنه أظهرها ‏{‏وَمِنَ الْجبَالَ جُدَدٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الجدد القطع مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته، حكاه ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الخطط واحدتها جُدة مثل مُدة ومدد، ومنه قول زهير‏:‏

كأنه أسفع الخدين ذو جُدد *** طاوٍ ويرتع بعد الصيف عريانا

‏{‏بِيضُ وَحُمرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ‏}‏ والغربيب الشديد السواد الذي لونه كلون الغراب‏.‏ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الشَّيخَ الْغِرْبِيبَ» يعني الذي يخضب بالسواد، قال امرؤ القيس‏:‏

العين طامعة واليد سابحة *** والرجل لافحة والوجه غربيب

وقيل فيه تقديم وتأخير، وتقديره سود غرابيب‏.‏

وفي المراد بالغرابيب السود ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ الجبال السود، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ الطرائف السود، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ الأودية السود، قاله قتادة‏.‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوآبِّ وَالأَنعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلَوَانُهُ كَذلِكَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ كذلك مختلف ألوانه أبيض وأحمر وأسود‏.‏

الثاني‏:‏ يعني بقوله كذلك أي كما اختلف ألوان الثمار والجبال والناس والدواب والأنعام كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية‏.‏

ثم استأنف فقال‏:‏ ‏{‏إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عَبَادِهِ الْعُلَمَآءُ‏}‏ يعني بالعلماء الذين يخافون‏.‏

قال الربيع بن أنس‏:‏ من لم يخش الله فليس بعالم‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ المتقون سادة، والعلماء قادة‏.‏ وقيل‏:‏ فاتحة الزبور الحكمة خشية الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ‏(‏29‏)‏ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ‏}‏ يعني الجنة، وفيها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لن تفسد، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ لن تكسد، قاله علي بن عيسى والأول أشبه لقول الشاعر‏:‏

يا رسول المليك إن لساني *** راتق ما فتقت إذا أنا بور

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لِيُوَفِّيهُمْ أُجُورَهُمْ‏}‏ يعني ثواب أعمالهم‏.‏

‏{‏وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يفسح لهم في قبورهم، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ يشفعهم فيمن أحسن إليهم في الدنيا، قاله أبو وائل‏.‏

الثالث‏:‏ يضاعف لهم حسناتهم، وهو مأثور‏.‏

الرابع‏:‏ غفر الكثير والشكر اليسير، قاله بعض المتأخرين‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ يوفيهم أجورهم على فعل الطاعات ويزيدهم من فضله على اجتناب المعاصي ‏{‏إنَّهُ غَفُورٌ‏}‏ للذنب‏.‏

‏{‏شَكُورٌ‏}‏ للطاعة‏.‏ ووصفه بأنه شكور مجاز ومعناه أن يقابل بالإحسان مقابلة الشكور لأنه يقابل على اليسير بأضعافه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏31‏)‏ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِن عِبَادِنَا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الكتاب هو القرآن، ومعنى الإرث انتقال الحكم إليهم‏.‏

الثاني‏:‏ أن إرث الكتاب هو الإيمان بالكتب السالفة لأن حقيقة الإرث انتقال الشيء من قوم إلى قوم‏.‏

وفي ‏{‏الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبادِنَا‏}‏ ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم الأنبياء، حكاه ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم بنو إسرائيل لقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 33‏]‏ الآية‏.‏ قاله ابن بحر‏.‏

الثالث‏:‏ أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ قاله الكلبي‏.‏

‏{‏فَمِنْهُمْ ظَالِِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ ظَالِِمٌ لِّنَفْسِهِ‏}‏ كلام مبتدأ لا يرجع إلى المصطفين، وهذا قول من تأول المصطفين الأنبياء، فيكون من عداهم ثلاثة أصناف على ما بينهم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه راجع إلى تفصيل أحوال الذين اصطفينا، ومعنى الاصطفاء الاختيار وهذا قول من تأول المصطفين غير الأنبياء، فجعلهم ثلاثة أصناف‏.‏

فأما الظالم لنفسه ها هنا ففيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم أهل الصغائر من هذه الأمة، روى شهر بن حوشب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم أهل الكبائر وأصحاب المشأمة، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم المنافقون وهم مستثنون‏.‏

الرابع‏:‏ أنهم أهل الكتاب، قاله الحسن‏.‏

الخامس‏:‏ أنه الجاحد، قاله مجاهد‏.‏

وأما المقتصد ففيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه المتوسط في الطاعات وهذا معنى حديث أبي الدرداء، روى ابراهيم عن أبي صالح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية فقال‏:‏ «أَمَّا السَّابِقُ فَيدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ، وَأَمَّا المُقْتَصِدُ فَيُحَاسَب حِسَاباً يَسِيراً، وَأمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فِيُحْصَرُ فِي طُولِ الحِبْسِ ثُمَّ يَتَجَاوَزُ اللَّهُ عَنهُ

» الثاني‏:‏ أنهم أصحاب اليمين، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم أصحاب الصغائر وهو قول متأخر‏.‏

الرابع‏:‏ أنهم الذين اتبعوا سنن النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، قاله الحسن‏.‏

‏{‏وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم المقربون، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم المستكثرون من طاعة الله تعالى، وهو مأثور‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم أهل المنزلة العليا في الطاعات، قاله علي بن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ أنه من مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد له بالجنة‏.‏

روى عقبة بن صهبان قال‏:‏ سألت عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت‏:‏ كلهم من أهل الجنة، السابق من مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد له بالحياة والرزق، والمقتصد من اتبع أثره حتى لحق به، والظالم لنفسه مثلي ومثلك ومن اتبعنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏33‏)‏ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ‏}‏ فيه تسعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه خوف النار، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه حزن الموت، قاله عطية‏.‏

الثالث‏:‏ تعب الدنيا وهمومها، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ حزن المنّة، قاله سمُرة‏.‏

الخامس‏:‏ حزن الظالم لما يشاهد من سوء حاله، قاله ابن زيد‏.‏

السادس‏:‏ الجوع حكاه النقاش‏.‏

السابع‏:‏ خوف السلطان، حكاه الكلبي‏.‏

الثامن‏:‏ طلب المعاش، حكاه الفراء‏.‏

التاسع‏:‏ حزن الطعام، وهو مأثور‏.‏

ويحتمل عاشراً‏:‏ أنه حزن التباغض والتحاسد لأن أهل الجنة متواصلون لا يتباغضون ولا يتحاسدون‏.‏

وفي وقت قولهم لذلك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ عند إعطاء كتبهم بأيمانهم لأنه أول بشارات السلامة، فيقولون عندها‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ بعد دخول الجنة، قاله الكلبي، وهو أشبه لاستقرار الجزاء والخلاص من أهوال القيامة فيقولون ذلك عند أمنهم شكراً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمَقَامَةِ مِن فَضْلِهِ‏}‏ أي دار الإقامة وهي الجنة‏.‏

وفي الفرق بين المقامة بالضم والفتح وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها بالضم دار الإقامة، وبالفتح موضع الإقامة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها بالضم المجلس الذي يجتمع فيه للحديث‏.‏

‏{‏لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تعب، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ وجع، قاله قتادة‏.‏

‏{‏وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه العناء، قاله أبو جعفر الطبري‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الإعياء، قاله قطرب وابن عيسى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ‏(‏36‏)‏ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا‏}‏ قال ابن جريج‏:‏ وهم يستغيثون فيها ‏{‏رَبَّنَآ أخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ‏}‏ أي نؤمن بدل الكفر ونطيع بدل المعصية‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه البلوغ، قاله الحسن لأنه أول زمان التذكر‏.‏

الثاني‏:‏ ثماني عشرة سنة‏.‏

الثالث‏:‏ أربعون سنة، قاله ابن عباس ومسروق‏.‏

الرابع‏:‏ ستون سنة، قاله علي بن أبي طالب مرفوعاً‏.‏

الخامس‏:‏ سبعون سنة لأنه آخر زمان التذكر، وما بعده هرم‏.‏ روى أبو هريرة‏.‏

قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إلَى عَبدٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتّىَ بلَغَ سِتِيّنَ سَنَةً أَوْ سَبْعِينَ سَنَةً

»‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ الشيب، حكاه الفراء والطبري‏.‏

الثالث‏:‏ الحمى‏.‏

الرابع‏:‏ موت الأهل والأقارب‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ أنه كمال العقل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏38‏)‏ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏فَذُوقُواْ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ حسرة الندم‏.‏

الثاني‏:‏ عذاب جهنم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْض‏}‏ قال قتادة خلفاً بعد خلف قرناً بعد قرن، والخلف هو الثاني للمتقدم، ولذلك قيل لأبي بكر رضي الله عنه يا خليفة الله، فقال لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا راضٍ بذلك‏.‏ وقال بعد السلف إنما يستخلف من يغيب أو يموت، والله تعالى لا يغيب ولا يموت‏.‏

‏{‏فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ‏}‏ أي فعليه عقاب كفره‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دَونِ اللَّهِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ شركاءكم في الأموال التي جعلتم لهم قسطاً منها الأوثان‏.‏

الثاني‏:‏ الذين أشركتموهم في العبادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ‏(‏40‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ‏}‏ قاله السدي يعني في الأرض‏.‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ شرْكٌ فِي السَّموَاتِ‏}‏ حتى صاروا شركاء في خلقها‏.‏

‏{‏أَمْ ءَآتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنهُ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أم أنزلنا عليهم كتاباً بأن لله تعالى شركاء من الملائكة والأصنام فيهم مستمسكون به، وهذا قول ابن زياد‏.‏

الثاني‏:‏ أم أنزلنا عليهم كتاباً بأن الله لا يعذبهم على كفرهم فهم واثقون به، وهو معنى قول الكلبي‏.‏

‏{‏بَلْ إن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إلاَّ غُرُوراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ وعدوهم بأن الملائكة يشفعون‏.‏

الثاني‏:‏ وعدوهم بأنهم ينصرون عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ‏(‏42‏)‏ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ‏}‏ هم قريش أقسموا قبل أن يبعث الله تعلى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، حين بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم، فلعنوا من كذب نبيه منهم، وحلفوا بالله جل اسمه يميناً‏.‏

‏{‏لَئِن جَآءَهُم نَذِيرٌ‏}‏ أي نبي‏.‏

‏{‏لَّيَكُوننَّ أَهْدَى مِنْ إحْدَى الأُمَمْ‏}‏ يعني ممن كذب الرسل من أهل الكتاب‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏مَّا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُوراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ نفوراً عن الرسول‏.‏

الثاني‏:‏ نفوراً عن الحق‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ استكباراً عن عبادة الله، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ استكباراً بمعاصي الله، وهذا قول متأخر‏.‏

‏{‏وَمَكْرَ السَّيِّئ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الشرك بالله، قاله يحيى‏.‏

الثاني‏:‏ أنه المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏ الآية‏.‏

‏{‏وَلاَ يَحِيقُ الْمُكْرُ السَّيِّئ إلاَّ بِأَهْلِهِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ قاله الكلبي، يحيق بمعنى يحيط‏.‏

الثاني‏:‏ قاله قطرب، يحيق بمعنى ينزل، وأنشد قول الشاعر‏:‏

وقد دفعوا المنية فاستقلت *** ذراعاً بعدما كادت تحيقُ

قال فعاد ذلك عليهم بقتلهم يوم بدر‏.‏

‏{‏فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ‏}‏ يعني سنة الله في الأولين، وفيها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ نزول العذاب بهم عند إصرارهم في التكذيب‏.‏

الثاني‏:‏ لا تقبل منهم التوبة عند نزول العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ‏(‏44‏)‏ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ يعني من الذنوب‏.‏

‏{‏مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ‏}‏ قال يحيى بن سلام بحبس المطر عنهم وفيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يعني جميع الحيوان مما دب ودرج، قاله ابن مسعود، قال قتادة‏:‏ وقد فعل ذلك زمان نوح عليه السلام‏.‏

الثاني‏:‏ من الإنس والجن دون غيرهما لأنهما مكلفان بالعقل، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ من الناس وحدهم، قاله ابن جريج‏.‏

‏{‏وَلكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ الأجل المسمى الذي وعدهم في اللوح المحفوظ، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ إلى يوم القيامة، قاله يحيى‏.‏

‏{‏فَإذَا جَآءَ أَجَلُهُم‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ نزول العذاب‏.‏

الثاني‏:‏ البعث في القيامة‏.‏

‏{‏فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ بصيراً بأجلهم‏.‏

الثاني‏:‏ بصيراً بأعمالهم، والله أعلم‏.‏