فصل: تفسير الآيات رقم (28- 29)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ‏(‏28‏)‏ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقال رجلٌ مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه كان ابن عم فرعون، قاله السدي، قال وهو الذي نجا مع موسى‏.‏

الثاني‏:‏ أنه كان قبطياً من جنسه ولم يكن من أهله، قاله مقاتل‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان أسمه حبيب‏.‏

وحكى الكلبي أن اسمه حزبيل، وكان مَلِكَا على نصف الناس وله الملك بعد فرعون، بمنزلة ولي العهد‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وامرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر فقال ‏{‏إن الملأ يأتمرون بك‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وفي إيمانه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه آمن بمجيء موسى وتصديقه له وهو الظاهر‏.‏ الثاني‏:‏ أنه كان مؤمناً قبل مجيء موسى وكذلك امرأة فرعون قاله الحسن، فكتم إيمانه، قال الضحاك كان يكتم إيمانه للرفق بقومه ثم أظهره فقال ذلك في حال كتمه‏.‏

‏{‏أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللهُ‏}‏ أي لقوله ربي الله‏.‏

‏{‏وقد جاءَكم بالبينات من ربِّكم‏}‏ فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الحلال والحرام، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الآيات التي جاءتهم‏:‏ يده وعصاه والطوفان وغيرها، كما قال تعالى ‏{‏ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقصٍ من الثمرات‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 130‏]‏ قاله يحيى‏.‏

‏{‏وإن يك كَاذباً فعليه كَذِبُه‏}‏ ولم يكن ذلك لشك منه في رسالته وصدقه ولكن تلطفاً في الاستكفاف واستنزالاً عن الأذى‏.‏

‏{‏وإن يَكُ صادقاً يصبكم بعض الذي يعدُكم‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه كان وعدهم بالنجاة إن آمنوا وبالهلاك إن كفروا، فقال ‏{‏يصبكم بعض الذي يعدكم‏}‏ لأنهم إذا كانوا على إحدى الحالتين نالهم أحد الأمرين فصار ذلك بعض الوعد لا كله‏.‏

الثاني‏:‏ لأنه قد كان أوعدهم على كفرهم بالهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، فصار هلاكهم في الدنيا بعض وما وعدهم‏.‏

الثالث‏:‏ أن الذي يبدؤهم من العذاب هو أوله ثم يتوالى عليهم حالاً بعد حال حتى يستكمل فصار الذي يصيبهم هو بعض الذي وعدهم لأنه حذرهم ما شكوا فيه وهي الحالة الأولى وما بعدها يكونون على يقين منه‏.‏

الرابع‏:‏ أن البعض قد يستعمل في موضع الكل تلطفاً في الخطاب وتوسعاً في الكلام كما قال الشاعر‏:‏

قد يُدْرِك المتأني بعض حاجته *** وقد يكون مع المستعجل الزلل

‏{‏إن الله لا يهدي من هو مُسْرِفٌ كَذّابٌ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ مسرف على نفسه كذاب على ربه إشارة إلى موسى، ويكون هذا من قول المؤمن‏.‏

الثاني‏:‏ مسرف في عناده كذاب في ادعائه إشارة إلى فرعون ‏[‏ويكون‏]‏ هذا من قوله تعالى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ويا قوم لكم الملك اليوم ظاهِرين في الأرض‏}‏ قال السدي‏:‏

غالبين على أرض مصر قاهرين لأهلها، وهذا قول المؤمن تذكيراً لهم بنعم اللَّه عليهم‏.‏

‏{‏فمن ينصرنا من بأس الله إِن جاءَنا‏}‏ أي من عذاب الله، تحذيراً لهم من نقمة، فذكر وحذر فعلم فرعون ظهور محبته‏.‏

‏{‏قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى‏}‏ قال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ معناه ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي‏.‏

‏{‏وما أهديكم إلا سبيل الرشاد‏}‏ في تكذيب موسى والإيمان بي

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 35‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ‏(‏30‏)‏ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ‏(‏31‏)‏ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ‏(‏32‏)‏ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التنادِ‏}‏ يعني يوم القيامة، قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

وبث الخلق فيها إذ دحاها *** فهم سكانها حتى التّنَادِ

سمي بذلك لمناداة بعضهم بعضاً، قاله الحسن‏.‏

وفيما ينادي به بعضهم بعضاً قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يا حسرتا، يا ويلتا، يا ثبوراه، قاله ابن جريج‏.‏

الثاني‏:‏ ينادي أهلُ الجنة أهل النار أن ‏{‏قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 44‏]‏ الآية‏.‏

وينادي أهل النار الجنة ‏{‏أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اللَّه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 50‏]‏ قاله قتادة‏.‏

وكان الكلبي يقرؤها‏:‏ يوم التنادّ، مشدودة، أي يوم الفرار، قال يندّون كما يندّ البعير‏.‏ وقد جاء في الحديث أن للناس جولة يوم القيامة يندون يطلبون أنهم يجدون مفراً ثم تلا هذه الآية‏.‏

‏{‏يوم تولون مدبرين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ مدبرين في انطلاقهم إلى النار، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ مدبرين في فِرارهم من النار حتى يقذفوا فيها، قاله السدي‏.‏

‏{‏ما لكم من الله من عاصم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ من ناصر، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ من مانع، وأصل العصمة المنع، قاله ابن عيسى‏.‏

‏{‏ومن يضلل الله فما له من هاد‏}‏ وفي قائل هذا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن موسى هو القائل له‏.‏

الثاني‏:‏ أنه من قول مؤمن آلِ فرعون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يوسف بن يعقوب، بعثه الله رسولاً إلى القبط بعد موت الملك من قبل موسى بالبينات‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ هي الرؤيا‏.‏

الثاني‏:‏ ما حكاه النقاش عن الضحاك أن الله بعث اليهم رسولاً من الجن يقال له يوسف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 40‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ‏(‏36‏)‏ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ‏(‏37‏)‏ وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏38‏)‏ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ‏(‏39‏)‏ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يعني مجلساً، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ قصراً، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الآجر ومعناه أوقد لي على الطين حتى يصير آجراً، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الرابع‏:‏ أنه البناء المبني بالآجر، وكانوا يكرهون أن يبنوا بالآجر ويجعلوه في القبر، قاله إبراهيم‏.‏

‏{‏لعلّي أبلغ الأسباب‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يسبب إلى فعل مرادي‏.‏

الثاني‏:‏ ما أتوصل به إلى علم ما غاب عني، ثم بين مراده فقال‏:‏

‏{‏أسباب السموات‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ طرق السموات، قاله أبو صالح‏.‏

الثاني‏:‏ أبواب السموات، قاله السدي والأخفش، وأنشد قول الشاعر‏:‏

ومن هاب أسباب المنايا يَنَلنه *** ولو نال أسباب السماء بِسلَّمِ

الثالث‏:‏ ما بين السموات، حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم‏.‏

‏{‏فأطَّلعَ إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه غلبه الجهل على قول هذا أو تصوره‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قاله تمويهاً على قومه مع علمه باستحالته، قاله الحسن‏.‏

‏{‏وما كَيْدُ فرعون إلا في تبابٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في خسران قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ في ضلال، قاله قتادة‏.‏

وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في الدنيا لما أطلعه الله عليه من هلاكه‏.‏

الثاني‏:‏ في الآخرة لمصيره إلى النار، قاله الكلبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 50‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ‏(‏41‏)‏ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ‏(‏42‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏43‏)‏ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏44‏)‏ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ‏(‏45‏)‏ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ‏(‏46‏)‏ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ‏(‏47‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ‏(‏48‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ‏(‏49‏)‏ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا جَرَمَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه‏:‏ لا بد، قاله المفضل‏.‏

الثاني‏:‏ معناه‏:‏ لقد حق واستحق، قاله المبرد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه لا يكون إلا جواباً كقول القائل‏:‏ فعلوا كذا، فيقول المجيب‏:‏ لا جرم انهم سيندمون، قاله الخليل‏.‏

‏{‏أن ما تدعونني إليه‏}‏ أي من عبادة ما تعبدون من دون الله‏.‏

‏{‏ليس له دعوةٌ في الدنيا ولا في الآخرة‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ لا ينفع ولا يضر في الدنيا ولا في الآخرة، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ ليس له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة، قاله الكلبي‏.‏

‏{‏وأن مردنا إلى الله‏}‏ أي مرجعنا بعد الموت إلى الله ليجازينا على أفعالنا‏.‏

‏{‏وأن المسرفين هم أصحاب النار‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني المشركين، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ يعني السفاكين للدماء بغير حق، قاله الشعبي، وقال مجاهد‏:‏ سمى الله القتل سرفاً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فستذكرون ما أقول لكم‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني في الآخرة، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ عند نزول العذاب بهم، قاله النقاش‏.‏

‏{‏وأفوّض أمري إلى الله‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه‏:‏ وأسلم أمري إلى الله، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ أشهد عليكم الله، قاله ابن بحر‏.‏

الثالث‏:‏ أتوكل على الله، قاله يحيى بن سلام‏.‏

‏{‏إن الله بصير بالعباد‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بأعمال العباد‏.‏

الثاني‏:‏ بمصير العباد‏.‏

وفي قائل هذا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه من قول موسى‏.‏

الثاني‏:‏ من قول مؤمن آل فرعون، فعلى هذا يصير بهذا القول مظهراً لإيمانه‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فوقاه الله سيئات ما مكروا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن موسى وقاه الله سيئات ما مكروا، فعلى هذا فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن مؤمن آل فرعون نجاه الله مع موسى حتى عبر البحر واغرق الله فرعون، قاله قتادة، وقيل إن آل فرعون هو فرعون وحده ومنه قول أراكة الثقفي‏:‏

لا تبك ميتاً بعد موت أحبةٍ *** عليّ وعباس وآل أبي بكر

يريد أبا بكر‏.‏

الثاني‏:‏ أن مؤمن آل فرعون خرج من عنده هارباً إلى جبل يصلي فيه، فأرسل في طلبه، فجاء الرسل وهو في صلاته وقد ذبت عنه السباع والوحوش أن يصلوا إليه، فعادوا إلى فرعون فأخبروه فقتلهم فهو معنى قوله ‏{‏فوقاه الله سيئات ما مكروا‏}‏‏.‏

‏{‏وحاق بآل فرعون سوء العذاب‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم قومه، وسوء العذاب هو الغرق، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ رسله الذين قتلهم، وسوء العذاب هو القتل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏النار يعرضون عليها غُدُوّاً وعشيّاً‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يعرض عليهم مقاعدهم من النار غدوة وعشية، فيقال‏:‏ لآلِ فرعون هذه منازلكم، توبيخاً، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أن أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح فذلك عرضها، قاله ابن مسعود‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم يعذبون بالنار في قبرهم غدواً وعشياً، وهذا لآل فرعون خصوصاً‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ما كانت الدنيا‏.‏

‏{‏ويوم تقولم الساعةُ‏}‏ وقيامها وجود صفتها على استقامة، ومنه قيام السوق وهو حضور أهلها على استقامة في وقت العادة‏.‏

‏{‏أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏}‏ لأن عذاب جهنم مُخْتَلِف‏.‏ وجعل الفراء في الكلام تقديماً وتأخيراً وتقديره‏:‏ ادخلوا آل فرعون أشد العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً، وهو خلاف ما ذهب إليه غيره من انتظام الكلام على سياقه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 56‏]‏

‏{‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏52‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ‏(‏53‏)‏ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏54‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏55‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنا لننصُرُ رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بإفلاج حجتهم، قاله أبو العالية‏.‏

الثاني‏:‏ بالانتقام من أعدائهم قال السدي‏:‏ ما قتل قوم قط نبياً أو قوماً من دعاة الحق من المؤمنين إلا بعث الله من ينتقم لهم فصاروا منصورين فيها وإن قُتلوا‏.‏

‏{‏ويومَ يقَوم الأشْهاد‏}‏ بمعنى يوم القيامة‏.‏ وفي نصرهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بإعلاء كلمتهم وإجزال ثوابهم‏.‏

الثاني‏:‏ إنه بالانتقام من أعدائهم‏.‏

وفي ‏{‏الأشهاد‏}‏ ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم الملائكة شهدوا للأنبياء بالإبلاغ، وعلى الأمم بالتكذيب، قاله مجاهد والسدي‏.‏

الثاني‏:‏ انهم الملائكة والأنبياء، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم أربعة‏:‏ الملائكة والنبيون والمؤمنون والأجساد، قاله زيد بن أسلم ثم في ‏{‏الأشهاد‏}‏ أيضاً وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ جمع شهيد مثل شريف، وأشراف‏.‏

الثاني‏:‏ أنه جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فاصبر إنَّ وعد الله حق‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ هو ما وعد الله رسوله في آيتين من القرآن أن يعذب كفار مكة، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ هو ما وعد الله رسوله أن يعطيه المؤمنين في الآخرة، قاله يحيى بن سلام‏.‏

‏{‏واستغفر لذنبك‏}‏ اي من ذنب إن كان منك‏.‏ قال الفضيل‏:‏ تفسير الاستغفار أقلني‏.‏

‏{‏وسبح بحمد ربِّك‏}‏ قال مجاهد‏:‏ وصَلِّ بأمر ربك‏.‏

‏{‏بالعشي والإبكار‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها صلاة العصر والغداة، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أن العشي ميل الشمس إلى أن تغيب، والإبكار أول الفجر، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ هي صلاة مكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ركعتان غدوة وركعتان عشية، قاله الحسن‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنّ الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم‏}‏ أي بغير حجة جاءتهم‏.‏

‏{‏إن في صدورهم إلا كبرٌ ما هم ببالغيه‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن اكبر العظمة التي في كفار قريش، ما هم ببالغيها، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ ما يستكبر من الاعتقاد وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ هو ما أمله كفار قريش في النبي صلى الله عليه وسلم وفي أصحابه أن يهلك ويهلكوا، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ هو أن اليهود قالوا إن الدجال منا وعظموا أمره، واعتقدوا أنهم يملكون، وينتقمون، قاله أبو العالية‏.‏

‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ من كبرهم‏.‏

‏{‏إنه هو السميع‏}‏ لما يقولونه ‏{‏البصير‏}‏ بما يضمرونه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 59‏]‏

‏{‏لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لخلق السموات والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمت اليهود شأنه، قاله أبو العالية‏.‏

الثاني‏:‏ أكبر من إعادة خلق الناس حين أنكرت قريش البعث، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثالث‏:‏ أكبر من أفعال الناس حين أذل الكفار بالقوة وتباعدوا بالقهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقال ربكم ادعوني استجبْ لكم‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه وحدوني بالربوبية أغفر لكم ذنوبكم، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ اعبدوني استجب لكم، قاله جرير بن عبد الله، أي اتبعكم على عبادتكم‏.‏

الثالث‏:‏ سلوني أعطكم، قاله السدي‏.‏ وإجابة الداعي عند صدق الرغبة مقيد بشرط الحكمة‏.‏ وحكى قتادة أن كعب قال‏:‏ أعطيت هذه الأمة ثلاثاً لم تعطهن أمّة قبلكم إلا نبي‏:‏ كان إذا أرسل نبي قيل له‏:‏ أنت شاهد على أمتك، وجعلكم شهداء على الناس، وكان يقال للنبي، ليس عليك في الدين من حرج، وقال لهذه الأمة‏:‏ وما جعل عليكم في الدين من حرج، وكان يقال للنبي‏:‏ ادعني أستجب لك، وقال لهذه الأمة‏:‏ ادعوني أستجب لكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 68‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏61‏)‏ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏62‏)‏ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏63‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏64‏)‏ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏65‏)‏ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏66‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏68‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لتستريحوا فيه من عمل النهار‏.‏

الثاني‏:‏ لتكفوا فيه عن طلب الأرزاق‏.‏

الثالث‏:‏ لتحاسبوا فيه أنفسكم على ما عملتم بالنهار‏.‏

‏{‏والنهار مبصراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ مبصراً لقدرة الله في خلقه‏.‏

الثاني‏:‏ مبصراً لمطالب الأرزاق‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ كذلك يصرف، قاله يحيى‏.‏

الثاني‏:‏ كذلك يكذب بالتوحيد، قاله مقاتل‏.‏

الثالث‏:‏ كذلك يعدل عن الحق، قاله ابن زيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 81‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ‏(‏69‏)‏ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏70‏)‏ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ‏(‏71‏)‏ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ‏(‏72‏)‏ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏73‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ‏(‏75‏)‏ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏76‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏77‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏78‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏80‏)‏ وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ذلكم بما كنتم تفرحون‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ في الفرح والمرح وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الفرح‏:‏ السرور والمرح‏:‏ البطر، فسرّوا بالإمهال وبطروا بالنعم

الثاني‏:‏ الفرح والسرور، قاله الضحاك، والمرح العدوان‏.‏

روى خالد عن ثور عن معاذ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله تعالى يبغض البذخين الفرحين المرحين، ويحب كل قلب حزين ويبغض أهل بيت لحمين، ويبغض كل حبر سمين» فأما أهل بيت لحمين فهم الذين يأكلون لحوم الناس بالغيبة، وأما الحبر السمين فالمتحبر بعلمه ولا يخبر به الناس، يعني المستكثر من علمه ولا ينفع به الناس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 85‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏83‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ‏(‏84‏)‏ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العِلمْ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ بقولهم نحن أعلم منهم لن نبعث لن نعذب، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ بما كان عندهم أنه علم وهو جهل، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ فرحت الرسل بما عندهم من العلم بنجاتهم وهلاك أعدائهم، حكاه ابن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ رضوا بعلمهم واستهزأوا برسلهم، قاله ابن زيد‏.‏

‏{‏وحاق بهم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أحاط بهم، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ عاد عليهم‏.‏

‏{‏ما كانوا به يستهزئون‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم أنه ساحر‏.‏

الثاني‏:‏ بالقرآن أنه شِعْر‏.‏

سورة فصلت

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏2‏)‏ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏4‏)‏ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏حم‏}‏ قد مضى تأويله‏.‏

‏{‏تنزيل من الرحمن الرحيم‏.‏ كتاب‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه على التقديم والتأخير فيكون تقديره حم تنزيل الكتاب من الرحمن الرحيم‏.‏

الثاني‏:‏ أن يكون فيه مضمر محذوف تقديره تنزيل القرآن من الرحمن الرحيم‏.‏

ثم وصفه فقال ‏{‏كتابٌ فصلت آياتُه‏}‏ وفي تفصيل آياته خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ فسّرت، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ فصلت بالوعد والوعيد، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ فصلت بالثواب والعقاب، قاله سفيان‏.‏

الرابع‏:‏ فصلت ببيان حلاله من حرامه وطاعته من معصيته، قاله قتادة‏.‏

الخامس‏:‏ فصلت من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، فحكم فيما بينه وبين من خالفه، قال عبد الرحمن بن زيد‏.‏

‏{‏قرآناً عربياً لقوم يعلمون‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعلمون انه إله واحد في التوراة والإنجيل، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أن القرآن من عند الله نزل، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ يعلمون العربية فيعجزون عن مثله‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكنّة ما تدعونا إليه‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أغطية، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ كالجعبة للنبل، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏وفي آذاننا وقر‏}‏ أي صمم وهما في اللغة يفترقان فالوقر ثقل السمع والصمم ذهاب جميعه‏.‏

‏{‏ومن بيننا وبينك حجاب‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني ستراً مانعاً عن الإجابة، قاله ابن زياد‏.‏

الثاني‏:‏ فرقة في الأديان، قاله الفراء‏.‏

الثالث‏:‏ أنه تمثيل بالحجاب ليؤيسوه من الإجابة، قاله ابن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوباً وقال‏:‏ يا محمد بيننا وبينك حجاب، استهزاء منه، حكاه النقاش‏.‏

‏{‏فاعمل إننا عامِلون‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ فاعمل بما تَعْلَم من دينك فإنا نعمل بما نعلم من ديننا، قاله الفراء‏.‏

الثاني‏:‏ فاعمل في هلاكنا فإنَّا نعمل في هلاكك، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ فاعمل لإلهك الذي أرسلك فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها، قاله مقاتل‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ فاعمل لآخرتك فإنا نعمل لدنيانا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وويل للمشركين‏.‏ الذين لا يؤتون الزكاة‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه قرعهم بالشح الذي يأنف منه الفضلاء، وفيه دلالة على أن الكافر يعذب بكفره، مع وجوب الزكاة عليه، أكثر مما يعذب من لم تكن الزكاة واجبة عليه، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ معناه انهم لا يزكون أعمالهم، قاله ابن عمر‏.‏

الثالث‏:‏ معناه لا يأتون به أزكياء، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ معناه لا يؤمنون بالزكاة، قاله قتادة‏.‏

الخامس‏:‏ معناه ليس هم من أهل الزكاة، قاله معاوية بن قرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم أجْرٌ غير ممنون‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ غير محسوب، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ غير منقوص، قاله ابن عباس وقطرب، وأنشد قول زهير‏:‏

فَضْل الجياد على الخيل البطاء فما *** يعطي بذلك ممنوناً ولا نزقا

الثالث‏:‏ غير مقطوع، قاله ابن عيسى، مأخوذ من مننت الحبل إذا قطعته، قال ذو الأصبع العدواني‏:‏

إني لعمرك ما بابي بذي غلق *** على الصديق ولا خيري بممنون

الرابع‏:‏ غير ممنون عليهم به، قاله السدي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏9‏)‏ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ‏(‏10‏)‏ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ‏(‏11‏)‏ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين‏}‏ قال ابن عباس خلقها في يومي الأحد والاثنين، وخلقها في يومين أدل على القدرة والحكمة من خلقها دفعة واحدة في طرفة عين، لأنه أبعد من أن يظن به الاتفاق والطبع، وليرشد خلقه إلى الأناة في أمورهم‏.‏

‏{‏وتجعلون له أنداداً‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أشباهاً، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ شركاء، قاله أبو العالية‏.‏

الثالث‏:‏ كفواً من الرجال تطيعونهم في معاصي الله تعالى قاله السدي‏.‏

الرابع‏:‏ هو قول الرجل لولا كلبة فلان لأتي اللصوص، ولولا فلان لكان كذا، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وجعل فيها رواسي من فوقها‏}‏ اي جبالاً، وفي تسميتها رواسي وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لعلوّ رءوسها‏.‏

الثاني‏:‏ لأن الأرض بها راسية أو لأنها على الأرض ثابتة راسية‏.‏

‏{‏وبارك فيها‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي أنبت شجرها من غير غرس وأخرج زرعها من غيره بذر، قال السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أودعها منافع أهلها وهو معنى قول ابن جريج‏.‏

‏{‏وقَدَّر فيه أقواتها‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ قدر أرزاق أهلها، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ قدر فيها مصالحها من جبهالها وبحارها وأنهارها وشجرها ودوابها قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ قدر فيها أقواتها من المطر، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ قدر في كل بلدة منها ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد، قاله عكرمة‏.‏

‏{‏في أربعة أيام‏}‏ يعني تتمة أربعة أيام، ومنه قول القائل‏:‏ خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوماً، أي في تتمة خمسة عشريوماً‏.‏

وقد جاء في الحديث المرفوع أن الله عز وجل خلق الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والخراب والعمران، فتلك أربعة أيام، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة وآدم‏.‏

وفي خلقها شيئاً بعد شيء قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لتعتبر به الملائكة الذين أحضروا‏.‏

والثاني‏:‏ ليعتبر به العباد الذين أخبروا‏.‏

‏{‏سواء للسائلين‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ سواء للسائلين عن مبلغ الأجل في خلق الله الأرض، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ سواء للسائلين في أقواتهم وأرزقاهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثم استوى إلى السماء وهي دخان‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ عمد إلى السماء، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ استوى أمره إلى السماء، قاله الحسن‏.‏

‏{‏فقال لها واللأرض ائتيا طوْعاً أو كرهاً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قال ذلك قبل خلقها، ويكون معنى ائتيا اي كونا فكانتا كما قال تعالى ‏{‏إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كُن فيكون‏}‏ قاله ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ قول الجمهور أنه قال ذلك لهما بعد خلقهما‏.‏

فعلى هذا يكون في معناها أربع تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ معناه أعطيا الطاعة في السير المقدر لكما طوعاً أو كرهاً أي اختياراً أو إجباراً قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ ائتيا عبادتي ومعرفتي طوعاً أو كرهاً باختيار أو غير اختيار‏.‏

الثالث‏:‏ ائتيا بما فيكما طوعاً أو كرهاً، حكاه النقاش‏.‏

الرابع‏:‏ كونا كما أمرت من شدة ولين، وحزن وسهل ومنيع وممكن، قاله ابن بحر‏.‏

وفي قوله ‏{‏لَهَا‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قول تكلم به‏.‏

الثاني‏:‏ أنها قدرة منه ظهرت لهما فقام مقام الكلام في بلوغ المراد ‏{‏قالتا أتينا طائعين‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ معناه أعطينا الطاعة، رواه طاووس‏.‏

الثاني‏:‏ أتينا بما فينا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أتت السماء بما فيها من الشمس والقمر والنجوم، وأتت الأرض بما فيها من الأشجار والأنهار والثمار‏.‏

الثالث‏:‏ معناه كما أراد الله أن نكون، قاله ابن بحر‏.‏ وفي قولهما وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه ظهور الطاعة منهما قائم مقام قولهما‏.‏

الثاني‏:‏ أنهما تكلمتا بذلك‏.‏ قال أبو النصر السكسكي‏:‏ فنطق من الأرض موضع الكعبة ونطق من السماء ما بحيالها فوضع الله فيها حرمه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فقضاهن سبع سماوات في يومين‏}‏ أي خلقهن سبع سماوات في يومين، قيل يوم الخميس والجمعة، قال السدي‏:‏ سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات وخلق الأرضين‏.‏ وقالت طائفة خلق السماوات قبل الأرضين في يوم الأحد والاثنين، وخلق الأرضين والجبال في يوم الثلاثاء والأربعاء، وخلق ما سواهما من العالم يوم الخميس والجمعة، وقالت طائفة ثالثة أنه خلق السماء دخاناً قبل الأرض ثم فتقها سبع سماوات بعد الأرضين والله أعلم بما فعل فقد اختلفت فيه الأقاويل وليس للاجتهاد فيه مدخل‏.‏

‏{‏وأوحى في كلِّ سماءٍ أمرها‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه أسكن في كل سماء ملائكتها، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ خلق في كل سماء خلقها خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أوحى إلى أهل كل سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة، حكاه ابن عيسى‏.‏

‏{‏وزينا السماءَ الدنيا بمصابيح وحِفْظاً‏}‏ أي جعلناها زينة وحفظاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 18‏]‏

‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ‏(‏13‏)‏ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏15‏)‏ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏16‏)‏ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏17‏)‏ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إذ جاءتهم الرسلُ مِن بين أيديهم ومِن خلفهم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أرسل من قبلهم ومن بعدهم، قاله ابن عباس والسدي‏.‏

الثاني‏:‏ ما بين أيديهم عذاب الدنيا، وما خلفهم عذاب الآخرة، قاله الحسن‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الشديدة البرد، قاله عكرمة وسعيد بن جبير، وأنشد قطرب قول الحطيئة‏:‏

المطعمون إذا هبت بصرصرة *** والحاملون إذا استودوا على الناس

استودوا أي سئلوا الدية‏.‏

الثاني‏:‏ الشديدة السموم، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ الشديدة الصوت، قاله السدي مأخوذ من الصرير، وقيل إنها الدبور‏.‏

‏{‏في أيام نحسات‏}‏ فيها أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ مشئومات، قاله مجاهد وقتادة، كن آخر شوال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء وذلك ‏{‏سبع ليال وثمانية أيام حسوماً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء‏.‏

الثاني‏:‏ باردات، حكاه النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ متتابعات، قاله ابن عباس وعطية‏.‏

الرابع‏:‏ ذات غبار، حكاه ابن عيسى ومنه قول الراجز‏:‏

قد أغتدي قبل طلوع الشمس *** للصيد في يوم قليل النحس

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وأمّا ثمود فهديناهم‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ دعوناهم، قاله سفيان‏.‏

الثاني‏:‏ بيّنا لهم سبيل الخير والشر، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أعلمناهم الهدى من الضلالة، قاله عبد الرحمن بن زيد‏.‏

‏{‏فاستحبوا العَمى على الهدى‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ اختاروا العمى على البيان، قاله أبو العالية‏.‏

الثاني‏:‏ اختاروا الكفر على الإيمان‏.‏

الثالث‏:‏ اختاروا المعصية على الطاعة، قاله السدي‏.‏

‏{‏فأخذتهم صاعقة العذاب الهون‏}‏ وفي الصاعقة هنا أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ النار، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ الصيحة من السماء، قاله مروان بن الحكم‏.‏

الثالث‏:‏ الموت وكل شيء أمات، قاله ابن جريج‏.‏

الرابع‏:‏ أن كل عذاب صاعقة، وإنما سميت صاعقة لأن كل من سمعها يصعق لهولها‏.‏

وفي ‏{‏الهون‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الهوان، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ العطش، حكاه النقاش‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 24‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏19‏)‏ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏20‏)‏ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فهم يوزعُون‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يدفعون، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ يساقون، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ يمنعون من التصرف، حكاه ابن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ يحبس أولهم على آخرهم، قاله مجاهد، وهو مأخوذ من وزعته أي كففته‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ لفروجهم، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ لجلودهم أنفسها وهو الظاهر‏.‏

الثالث‏:‏ أنه يراد بالجلود الأيدي والأرجل، قاله ابن عباس وقيل إن أول ما يتكلم منه فخذه الأيسر وكفه الأيمن‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني وما كنتم تتقون، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ وما كنتم تظنون، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ وما كنتم تستخفون منها، قاله السدي‏.‏ قال الكلبي‏:‏ لأنه لا يقدر على الاستتار من نفسه‏.‏

‏{‏ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون‏}‏ حكى ابن مسعود أنها نزلت في ثلاثة نفر تسارّوا فقالوا أترى الله يسمع إسرارنا‏؟‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن يستعتبوا فيما هم مِن المعتبين‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه وإن يطلبوا الرضا فما هم بمرضى عنهم، والمعتب‏:‏ الذي قُبل عتابه وأُجيب إلى سؤاله، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ إن يستغيثوا فما هم من المغاثين‏.‏

الثالث‏:‏ وإن يستقيلوا فما هم من المقالين‏.‏

الرابع‏:‏ وإن يعتذروا فما هم من المعذورين‏.‏

الخامس‏:‏ وإن يجزعوا فما هم من الآمنين‏.‏

قال ثعلب‏:‏ يقال عتب إذا غضب، وأعتب إذا رضي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

‏{‏وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ‏(‏26‏)‏ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏28‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقيضنا لهم قرناءَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ هيأنا لهم شياطين، قاله النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ خلينا بينهم وبين الشياطين، قاله ابن عيسى‏.‏

‏{‏فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها ما بين أيديهم من أمر الدنيا، وما خلفهم من أمر الآخرة، قاله السدي ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ ما بين أيديهم من أمر الآخرة فقالوا لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب، وما خلفهم من أمر الدنيا فزينوا لهم اللذات، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ ما بين أيديهم هو فعل الفساد في زمانهم، وما خلفهم هو ما كان قبلهم، حكاه ابن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ ما بين أيديهم ما فعلوه، وما خلفهم ما عزموا أن يفعلوه‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ ما بين أيديهم من مستقبل الطاعات أن لا يفعلوها، وما خلفهم من سالف المعاصي أن لا يتوبوا منها‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعُوا لهذا القرآن‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لا تتعرضوا لسماعه‏.‏

الثاني‏:‏ لا تقبلوه‏.‏

الثالث‏:‏ لا تطيعوه من قولهم السمع والطاعة‏.‏

‏{‏والغوا فيه‏}‏ وفيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني قعوا فيه وعيبوه، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ جحدوه وأنكروه، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ عادوه، رواه سعيد بن أبي عروبة‏.‏

الرابع‏:‏ الغوا فيه بالمكاء والتصدية، والتخليط في النطق حتى يصير لغواً، قاله مجاهد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضَلاّنا من الجن والإنس‏}‏ فيهما قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ دعاة الضلالة من الجن والإنس، حكاه بن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ أن الذي من الجن إبليس، يدعوه كل من دخل النار من المشركين، والذي من الإنس ابن آدم القاتل أخاه يدعوه كل عاص من الفاسقين، قاله السدي‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏أرنا اللذَين‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أعطنا اللذين أضلانا‏.‏

الثاني‏:‏ أبصرنا اللذين أضلانا‏.‏

‏{‏نجعلهما تحت أقدامنا‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ انتقاماً منهم‏.‏

الثاني‏:‏ استذلالاً لهم‏.‏

‏{‏ليكونا من الأسفلين‏}‏ يعني في النار، قالوا ذلك حنقاً عليهما وعداوة لها‏.‏

ويحتمل قوله ‏{‏من الأسفلين‏}‏ وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ من الأذلين‏.‏

الثاني‏:‏ من الأشدين عذاباً لأن من كان في أسفل النار كان أشد عذاباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏30‏)‏ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ‏(‏31‏)‏ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين قالوا ربنا اللّهُ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وحّدوا الله تعالى‏.‏

‏{‏ثم استقاموا‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ثم استقاموا على أن الله ربهم وحده، وهو قول أبي بكر رضي الله عنه ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ استقاموا على طاعته وأداء فرائضه، قاله ابن عباس والحسن وقتادة‏.‏

الثالث‏:‏ على إخلاص الدين والعلم إلى الموت، قاله أبو العالية والسدي‏.‏

الرابع‏:‏ ثم استقاموا في أفعالهم كما استقاموا في أقوالهم‏.‏

الخامس‏:‏ ثم استقاموا سراً كما استقاموا جهراً‏.‏

ويحتمل سادساً‏:‏ أن الاستقامة أن يجمع بين فعل الطاعات واجتناب المعاصي لأن التكليف يشتمل على أمر بطاعة تبعث على الرغبة ونهي عن معصية يدعو إلى الرهبة‏.‏

‏{‏تتنزل عليهم الملائكة‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ تتنزل عليهم عند الموت، قاله مجاهد وزيد بن أسلم‏.‏

الثاني‏:‏ عند خروجهم من قبورهم للبعث، قاله ثابت ومقاتل‏.‏

‏{‏ألا تخافوا ولا تحزنوا‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا تخافوا أمامكم ولا تحزنوا على ما خلفكم، قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ لا تخافوا ولا تحزنوا على أولادكم‏.‏ وهذا قول مجاهد‏.‏

‏{‏وأبشروا بالجنة‏}‏ الآية‏.‏ قيل إن بشرى المؤمن في ثلاثة مواطن‏:‏ أحدها عند الموت، ثم في القبر، ثم بعد البعث‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ نحفظكم في الحياة الدنيا ولا نفارقكم في الآخرة حتى تدخلوا الجنة‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ نحن أولياؤكم في الدنيا بالهداية وفي الآخرة بالكرامة‏.‏

‏{‏ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الخلود لأنهم كانوا يشتهون البقاء في الدنيا، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ ما يشتهونه من النعيم، قاله أبو أمامة‏.‏

‏{‏ولكم فيها ما تدَّعون‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما تمنون، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ ما تدعي أنه لك فهو لك بحكم ربك، قاله ابن عيسى‏.‏

‏{‏نزلاً‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني ثواباً‏.‏

الثاني‏:‏ يعني منزلة‏.‏

الثالث‏:‏ يعني منّاً، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ عطاء، مأخوذ من نزل الضيف ووظائف الجند ‏{‏من غفور رحيم‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 36‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏33‏)‏ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ‏(‏34‏)‏ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏35‏)‏ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومَن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله‏}‏ الآية‏.‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن والسدي‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم المؤمنون دعوا إلى الله، قاله قيس بن أبي حازم ومجاهد‏.‏

‏{‏وعمل صالحاً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أداء الفرائض، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم المصلون ركعتين بين الأذان والإقامة، قالته عائشة رضي الله عنها‏.‏

وروى هشام بن عروة عن عائشة قالت‏:‏ كان بلال إذا قام يؤذن قالت اليهود قام غراب- لا قام- فنادى بالصلاة، وإذا ركعوا في الصلاة قالوا قد جثوا- لا جثوا- فنزلت هذه الآية في بلال والمصلين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ‏}‏ فيه ستة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن الحسنة المداراة، والسيئة الغلظة، حكاه ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ الحسنة الصبر والسيئة النفور‏.‏

الثالث‏:‏ الحسنة الإيمان، والسيئة الشرك، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ الحسنة العفو والسيئة الانتصار، حكاه ابن عمير‏.‏

الخامس‏:‏ الحسنة الحلم والسيئة الفحش، قاله الضحاك‏.‏

السادس‏:‏ الحسنة حب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم والسيئة بغضهم، قاله علي كرم الله وجهه‏.‏

‏{‏ادفع بالتي هي أحسنُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ادفع بحلمك جهل من يجهل، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ ادفع بالسلامة إساءة المسيء، قاله عطاء‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ ادفع بالتغافل إساءة المذنب، والذنب من الأدنى، والإساءة من الأعلى‏.‏

‏{‏فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه ولي حميمٌ‏}‏ قاله عكرمة‏:‏ الولي الصديق، والحميم القريب‏.‏

وقيل هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره بالصبر عليه والصفح عنه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وما يلقاها إلا الذين صبروا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يلقى دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على الحلم‏.‏

الثاني‏:‏ ما يلقى الجنة إلا الذين صبروا على الطاعة‏.‏

‏{‏وما يلقاها إلا ذو حَظٍ عظيمٍ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ذو جد عظيم، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ ذو نصيب ‏[‏وافر‏]‏ من الخير، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أن الحظ العظيم الجنة‏.‏ قال الحسن‏:‏ والله ما عظم حظ قط دون الجنة‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أنه ذو الخلق الحسن‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإما ينزغنك مِن الشيطان نزغ‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه النزغ الغضب، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الوسوسة وحديث النفس، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ أنه النجس، قاله ابن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ أنه الفتنة، قاله ابن زياد‏.‏

الخامس‏:‏ أنه الهمزات، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ أي اعتصم بالله‏.‏

‏{‏إنه هو السميع‏}‏ لاستعاذتك ‏{‏العليم‏}‏ بأذيتك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 39‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏37‏)‏ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن آياته الليل والنهار‏}‏ ووجه الآيات فيهما تقديرهما على حد مستقر، وتسييرهما على نظم مستمر، يتغايران لحكمة ويختلفان لمصلحة‏.‏

‏{‏والشمس والقمر‏}‏ ووجه الآية فيهما ما خصهما به من نور، وأظهره فيهما من تدبير وتقدير‏.‏

‏{‏لا تسجُدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي خلق هذه الآيات‏.‏

وفي موضع السجود من هذه الآية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ عند قوله ‏{‏إن كنتم إياه تعبدون‏}‏ قاله ابن مسعود والحسن‏.‏

الثاني‏:‏ عند قوله ‏{‏وهم لا يسأمون‏}‏ قاله ابن عباس وقتادة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومِن آياته أنك ترىلأرض خاشعةً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ غبراء دراسة، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ ميتة يابسة، قاله السدي‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ ذليلة بالجدب لأنها مهجورة، وهي إذا أخصبت عزيزة لأنها معمورة‏.‏

‏{‏فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ اهتزت بالحركة للنبات، وربت بالارتفاع قبل أن تنبت، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ اهتزت بالنبات وربت بكثرة ريعها، قاله الكلبي‏.‏ فيكون على قول مجاهد تقديم وتأخير تقديره‏:‏ ربت واهتزت‏.‏

‏{‏إن الذي أحياها لمحيي الموتى‏}‏ الآية، جعل ذلك دليلاً لمنكري البعث على إحياء الخلق بعد الموت استدلالاً بالشاهد على الغائب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 43‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏40‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ‏(‏41‏)‏ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ‏(‏42‏)‏ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏43‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين يلحدون في آياتنا‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يكذبون بآياتنا، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ يميلون عن آياتنا، قاله أبو مالك‏.‏

الثالث‏:‏ يكفرون بنا، قاله ابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ يعاندون رسلنا، قاله السدي‏.‏

الخامس‏:‏ هو المكاء والتصفيق عند تلاوة القرآن، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏لا يخفون علينا‏}‏ وهذا وعيد‏.‏

‏{‏أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الذي يلقى في النار أبو جهل، والذي يأتي آمناً عمار بن ياسر، قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ أن الذي يلقى في النار أبو جهل، والذي يأتي آمنا يوم القيامة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قاله ابن زياد‏.‏

الثالث‏:‏ أن الذي يلقى في النار أبو جهل وأصحابه قال الكلبي، والذي يأتي آمناً رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل‏.‏

الرابع‏:‏ أنهاعلى العموم فالذي يلقى في النار الكافر، والذي يأتي آمناً يوم القيامة المؤمن، قاله ابن بحر‏.‏

‏{‏اعملوا ما شئتم‏}‏ هذا تهديد‏.‏

‏{‏إنه بما تعملون بصير‏}‏ وعيد، فهدد وتوعد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنّ الذين كفروا بالذكر لما جاءهم‏}‏ الذكر هنا القرآن في قول الجميع، وله جواب محذوف تقديره‏:‏ هالكون أو معذبون‏.‏

‏{‏وإنه لكتابٌ عزيز‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ عزيز من الشيطان أن يبدله، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ يمتنع على الناس أن يقولوا مثله، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏لا يأتيه الباطل‏}‏ في ‏{‏الباطل‏}‏ هنا أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه إبليس، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الشيطان، قاله ابن جريج‏.‏

الثالث‏:‏ التبديل، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ التعذيب، قاله سعيد‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ أن الباطل التناقض والاختلاف‏.‏

‏{‏من بين يديه ولا من خلفِه‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لا يأتيه الباطل من كتاب قبله، ولا يأتيه من كتاب بعده، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ لا يأتيه الباطل من أول التنزيل ولا من آخره‏.‏

الثالث‏:‏ لا يأتيه الباطل في إخباره عما تقدم ولا في إخباره عما تأخر، قاله ابن جريج‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ ما بين يديه‏:‏ لفظه وما خلفه‏:‏ تأويله، فلا يأتيه الباطل في لفظ ولا تأويل‏:‏

‏{‏تنزيل من حكيم حميد‏}‏ قال قتادة‏:‏ حكيم في أمره حميد إلى خلقه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ما يُقالُ لك إلا ما قد قِيل للرسل من قبلك‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يقول المشركون لك إلا ما قاله من قبلهم لأنبيائهم إنه ساحر أو مجنون، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ ما تخبر إلا بما يخبر الأنبياء قبلك ب ‏{‏إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم‏}‏ حكاه ابن عيسى وقاله الكلبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏

‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏44‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولو جعلناه قرآناً أعجمياً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني بالأعجمي غير المبين وإن كان عربيّاً، قاله المفضل‏.‏

الثاني‏:‏ بلسان أعجمي‏.‏

‏{‏لقالوا لولا فصلت آياته‏}‏ أي بينت آياته لنا بالعربية على الوجه الثاني، والفصح على الوجه الأول‏.‏

‏{‏ءاعجميٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ كيف يكون القرآن أعجمياً ومحمد صلى الله عليه وسلم عربي‏؟‏ قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ كيف يكون القرآن أعجميّاً ونحن قوم عرب‏؟‏ قاله السدي‏.‏ قال مجاهد أعجمي الكلام وعربي الرجل‏.‏

‏{‏قل هو للذين آمنوا هُدىً وشفاءٌ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ هدى للأبصار وشفاء للقلوب‏.‏

الثاني‏:‏ هدى من الضلال وشفاء من البيان‏.‏

‏{‏والذين لا يؤمنون في آذنهم وقرٌ‏}‏ أي صمم‏.‏

‏{‏وهو عليهم عَمىً‏}‏ أي حيرة، وقال قتادة‏:‏ عموا عن القرآن وصموا عنه‏.‏

‏{‏أولئك ينادون من مكان بعيد‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ من مكان بعيد من قلوبهم، قاله علي كرم الله وجهه ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ من السماء، حكاه النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ ينادون بأبشع أسمائهم، قاله الضحاك‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ من مكان بعيد من الإجابة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 48‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏46‏)‏ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ‏(‏47‏)‏ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَظَنُّواْ مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ علمواْ ما لهم من معدل‏.‏

الثاني‏:‏ استيقنوا أن ليس لهم ملجأ من العذاب، قاله السدي، وقد يعبر بالظن عن اليقين فيما طريقه الخبر دون العيان لأن الخبر محتمل والعيان غير محتمل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 51‏]‏

‏{‏لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ‏(‏49‏)‏ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏50‏)‏ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لاَّ يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ‏}‏ أي لا يمل من دعائه بالخير، والخير هنا المال والصحة، قاله السُدي، والإنسان هنا يراد به الكافر‏.‏

‏{‏وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ‏}‏ يعني الفقر والمرض، ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يؤوس من الخير قنوط من الرحمة‏.‏

الثاني‏:‏ يؤوس من إجابة الدعاء، قنوط بسوء الظن بربه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ رخاء بعد شدة‏.‏

الثاني‏:‏ غنى بعد فقر‏.‏

‏{‏لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ هذا باجتهادي‏.‏

الثاني‏:‏ هذا باستحقاقي‏.‏

‏{‏وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً‏}‏ إنكاراً منه للبعث والجزاء مع ما حظ به من النعمة والرخاء ودفع عنه من الضر والبلاء‏.‏

‏{‏وَلَئِنِ رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى‏}‏ الآية‏.‏ إن كان كما زعمتم رجعة وجزاء فإن لي عنده آجلاً مثل ما أولانيه عاجلاً‏.‏ وقيل إنها نزلت في النضر بن الحارث‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَئَا بِجَانِبِه‏}‏ يحتمل ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أعرض عن الإيمان وتباعد من الواجب‏.‏

الثاني‏:‏ أعرض عن الشكر وبعد من الرشد‏.‏

الثالث‏:‏ أعرض عن الطاعة وبعد من القبول‏.‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تام لخلوص الرغبة فيه‏.‏

الثاني‏:‏ كثير لدوام المواصلة له، وهو معنى قول السدي، وإنما وصف التام والكثير بالعريض دون الطويل لأن العرض يجمع طولاً وعرضاً فكان أعم، قال ابن عباس‏:‏ الكافر يعرف ربه في البلاء ولا يعرفه في الرخاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 54‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏53‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ‏}‏ فيه خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن في الآفاق فتح أقطار الأرض، وفي أنفسهم فتح مكة، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ في الآفاق ما أخبر به من حوادث الأمم، وفي أنفسهم ما أنذرتهم به من الوعيد‏.‏

الثالث‏:‏ أنها في الآفاق آيات السماء وفي أنفسهم حوادث الأرض‏.‏

الرابع‏:‏ أنها في الآفاق إمساك القطر عن الأرض كلها وفي أنفسهم البلاء الذي يكون في أجسادهم، قاله ابن جريج‏.‏

الخامس‏:‏ أنها في الآفاق انشقاق القمر، وفي أنفسهم كيف خلقناهم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، وكيف إدخال الطعام والشراب من موضع واحدٍ وإخراجه من موضعين آخرين، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يتبين لهم أن القرآن حق‏.‏

الثاني‏:‏ أن ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم إليه حق‏.‏

‏{‏أَولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ‏}‏ يعني أولم يكفك من ربك‏.‏

‏{‏أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ عليم‏.‏

الثاني‏:‏ حفيظ‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلآ إِنَّهُمْ في مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ‏}‏ قال السُّدي في شكٍ من البعث‏.‏

‏{‏أَلآ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أحاط علمه بكل شيء، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أحاطت قدرته بكل شيء، قاله الكلبي‏.‏