فصل: تفسير الآيات رقم (46- 50)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 50‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏46‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ‏(‏47‏)‏ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏48‏)‏ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ‏(‏49‏)‏ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ يَأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم قالوا على وجه الاستهزاء، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنه يجري على ألسنتهم ما ألفوه من اسمه، قاله الزجاج‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم أرادوا بالساحر غالب السحرة، وهو معنى قول ابن بحر‏.‏

الرابع‏:‏ أن الساحر عندهم هو العالم، فعظموه بذلك ولم تكن صفة ذم، حكاه ابن عيسى وقاله الكلبي‏.‏

‏{‏بِمَا عَهِدَ عِندَكَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لئن أمنا لتكشف العذاب عنا، قال الضحاك، وذلك أن الطوفان أخذهم ثمانية أيام لا يسكن ليلاً ولا نهاراً‏.‏

‏{‏فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ‏}‏ أي يغدرون وكان موسى دعا لقومه فأجيب فيهم فلم يفواْ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 56‏]‏

‏{‏وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏51‏)‏ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ‏(‏52‏)‏ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ‏(‏53‏)‏ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏54‏)‏ فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏55‏)‏ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن معنى نادى أي قال، قاله أبو مالك‏.‏

الثاني‏:‏ أمر من نادى في قومه، قاله ابن جريج‏.‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الإسكندرية، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه ملك منها أربعين فرسخاً في مثلها، حكاه النقاش‏.‏

‏{‏وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ كانت جنات وأنهاراً تجري من تحت قصره، قاله قتادة‏.‏ وقيل من تحت سريره‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراد النيل يجري من تحتي أي أسفل مني‏.‏

الثالث‏:‏ أن معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي‏}‏ أي القواد والجبابرة يسيرون تحت لوائي، قاله الضحاك‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أنه أراد بالأنهار الأموال، وعبر عنها بالأنهار لكثرتها وظهورها وقوله ‏{‏تَجْرِي مِن تَحْتِي‏}‏ أي أفرقها على من يتبعني لأن الترغيب والقدرة في الأموال في الأنهار‏.‏

‏{‏أَفَلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أفلا تبصرون إلى قوتي وضعف موسى‏؟‏‏.‏

الثاني‏:‏ قدرتي على نفعكم وعجز موسى‏.‏

ثم صرح بحاله فقال ‏{‏أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ‏}‏ قال السدي‏:‏ بل أنا خير‏.‏

‏{‏مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أي ضعيف، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ حقير، قاله سفيان‏.‏

الثالث‏:‏ لأنه كان يمتهن نفسه في حوائجه، حكاه ابن عيسى‏.‏

‏{‏وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ‏}‏ أي يفهم، وفيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني أنه عيي اللسان، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أَلثغ قاله، الزجاج‏.‏

الثالث‏:‏ ثقيل اللسان لجمرة كان وضعها في فيه وهو صغير، قاله سفيان‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قال ذلك لأنه كان عادة الوقت وزي أهل الشرف‏.‏

الثاني‏:‏ ليكون ذلك دليلاً على صدقه، والأساورة جمع أسورة، والأسورة جمع سوار‏.‏

‏{‏أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ متتابعين، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ يقارن بعضهم بعضاً في المعونة، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ مقترنين أي يمشون معاً، قاله مجاهد‏.‏

وفي مجيئهم معه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ليكونوا معه أعواناً، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ ليكونوا دليلاً على صدقه، قاله الكلبي‏.‏ وليس يلزم هذا لأن الإعجاز كاف، وقد كان في الجائز أن يكذب مع مجيء الملائكة كما يكذب مع ظهور الآيات‏.‏

وذكر فرعون الملائكة حكاية عن لفظ موسى لأنه لا يؤمن بالملائكة من لا يعرف خالقهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ استفزهم بالقول فأطاعوه على التكذيب، قاله ابن زياد‏.‏

الثاني‏:‏ حركهم بالرغبة فخفوا معه في الإجابة، وهو معنى قول الفراء‏.‏

الثالث‏:‏ استجهلهم فأظهروا طاعة جهلهم، وهو معنى قول الكلبي‏.‏ الرابع‏:‏ دعاهم إلى باطله فخفوا في إجابته، قاله ابن عيسى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أغضبونا، رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أسخطونا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏ ومعناهما مختلف، والفرق بينهما أن السخط إظهار الكراهة، والغضب إرادة الانتقام‏.‏

والأسف هو الأسى على فائت‏.‏ وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لما جعل هنا في موضع الغضب صح أن يضاف إلى الله لأنه قد يغضب على من عصاه‏.‏

الثاني‏:‏ أن الأسف راجع إلى الأنبياء لأن الله تعالى لا يفوته شيء، ويكون تقديره‏:‏ فلما آسفوا رسلنا انتقمنا منهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً‏}‏ قرأ حمزة والكسائي بضم السين واللام، وفيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أهواء مختلفة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ جمع سلف أي جميع من قد مضى من الناس، قاله ابن عيسى‏.‏

وقرأ الباقون بفتح السين واللام، أي متقدمين، وفيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها، سلفاً في النار، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ سلفاً لكفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ سلفاً لمثل من عمل مثل عملهم، قاله أبو مجلز‏.‏

‏{‏وَمَثَلاً لِّلآخِرينَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ عظة لغيرهم، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ عبرة لمن بعدهم، قاله مجاهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 65‏]‏

‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ‏(‏57‏)‏ وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ‏(‏58‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏59‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ‏(‏60‏)‏ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏61‏)‏ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏62‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏63‏)‏ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏64‏)‏ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ‏(‏65‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً‏}‏ الآية‏.‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ما رواه ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يَا مَعْشَرَ قُرَيشٍ إِنَّهُ لَيسَ أَحَدٌ يُعْبَدُ مِن دُونِ اللَّهِ فِيهِ خَيْرٌ» فقالوا‏:‏ ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً صالحاً‏؟‏ فقد كان يعبد من دون الله، فنزلت‏.‏

الثاني‏:‏ ما حكاه مجاهد أن قريشاَ قالت‏:‏ إن محمداً يريد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى، فنزلت‏.‏

الثالث‏:‏ ما حكاه قتادة أن الله لما ذكر نزول عيسى في القرآن قالت قريش‏:‏ يا محمد ما أردت إلى ذكر عيسى‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏.‏

الرابع‏:‏ ما ذكره ابن عيسى أنه لما ذكر الله خلق عيسى من غير ذكر كآدم أكبرته قريش فنزلت هذه الآية‏.‏ وضربه مثلاً أن خلقه من أنثى بغير ذكر كما خلق آدم من غير أنثى ولا ذكر ولذلك غلت فيه النصارى حين اتخذته إلهاً‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ يَصِدُّونَ‏}‏ فيه قراءتان‏:‏

إحداهما‏:‏ بكسر الصاد‏.‏

والثانية‏:‏ بضمها فاختلف أهل التفسير في اختلافهما على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه واحد وإن اختلف لفظهما في الصيغة مثل يشد ويشُد وينِم وينُم، فعلى هذا في تأويل ذلك أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يضجون، قاله ابن عباس، وعكرمة، والضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ يضحكون، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ يجزعون، حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم‏.‏

الرابع‏:‏ يعرضون، قاله إبراهيم‏.‏

والقول الثاني‏:‏ معناهما مختلف، وفيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها بالضم يعدلون، وبالكسر يتفرقون، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنه بالضم يعتزلون، وبالكسر يضجون، قاله الأخفش‏.‏

الثالث‏:‏ أنه بالضم من الصدود، وبالكسر من الضجيج، قاله قطرب‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ ءَأَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ‏}‏ وهذا قول قريش، قالواْ‏:‏ أآلهتنا وهي أصنامهم التي يبعدونها خير ‏{‏أَمْ هُوَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أم محمد صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أم عيسى، قاله السدي‏.‏

‏{‏مَا ضَرَبُوه لَكَ إِلاَّ جَدَلاً‏}‏ قال السدي‏:‏ هو قول قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم تزعم كل شيء عبد من دون الله في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة هؤلاء قد عبدوا من دون الله‏.‏

‏{‏بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الخصم الحاذق بالخصومة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه المجادل بغير حجة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّعَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ‏}‏ قال قتادة‏:‏ يعني عيسى‏.‏

‏{‏أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ بالنبوة‏.‏

الثاني‏:‏ بخلقه من غير أب كآدم‏.‏ وفيه وجه‏.‏

الثالث‏:‏ بسياسة نفسه وقمع شهوته‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَآئِيلَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني أنه لبني إسرائيل، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ لتمثيله بآدم، قاله ابن عيسى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكم مَّلاَئِكَةً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني لقلبنا بعضكم ملائكة من غير أب كما خلقنا عيسى من غير أب ليكونوا خلفاء من ذهب منكم‏.‏

الثاني‏:‏ جعلنا بدلاً منكم ملائكة‏.‏

‏{‏فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ملائكة يخلف بعضها بعضاً، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ ملائكة يكونون خلفاً منكم، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ ملائكة يعمرون الأرض بدلاً منكم، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ ملائكة يكونون رسلاً إليكم بدلاً من الرسل منكم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن القرآن علم الساعة لما فيه من البعث والجزاء، قاله الحسن وسعيد بن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ أن إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة وبعث الموتى، قاله ابن إسحاق‏.‏

الثالث‏:‏ أن خروج عيسى علم الساعة لأنه من علامة القيامة وشروط الساعة، قاله ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والضحاك، والسدي‏.‏ وروى خالد عن الحسن قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الأَنبِيَاءُ إِخْوَةٌ لَعِلاَّتُ أُمَّهَاتُهُم شَتَّى وَدِينُهُم وَاحِدٌ، أَنَا أَولَى النَّاسِ بِعيسَى ابنِ مَرْيَمَ، إِنَّهُ لَيسَ بَينِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ أَوَّلُ نَازِلٍ، فَيَكْسَرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الخنزيرَ، وَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الإِسْلاَمِ»‏.‏

وحكى ابن عيسى عن قوم أنهم قالوا‏:‏ إذا نزل عيسى رفع التكليف لئلا يكون رسولاً إلى أهل ذلك الزمان يأمرهم عن الله تعالى وينهاهم، وهذا قول مردود لثلاثة أمور‏:‏ للحديث الذي قدمناه، ولأن بقاء الدنيا يقتضي بقاء التكليف فيها، ولأنه ينزل آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر وليس يستنكر أن يكون أمر الله تعالى مقصوراً على تأييد الإسلام والأمر به والدعاء إليه‏.‏

وحكى مقاتل أن عيسى ينزل من السماء على ثنية جبل بأرض الشام يقال له أفيف‏.‏

‏{‏فَلاَ تَمْتَرُونَّ بِهَا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا تشكون فيها يعني الساعة‏.‏ قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ فلا تكذبون بها، قاله السُدي‏.‏

‏{‏وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّستَقِيمٌ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ القرآن صراط مستقيم إلى الجنة، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ عيسى، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ الإسلام، قاله يحيى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبِيِّنَاتِ‏}‏ فيها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الإنجيل، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الآيات التي جاء بها من إحياء الموتى وإبراء الأسقام، والإخبار بكثير من الغيوب، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بالنبوة، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ بعلم ما يؤدي إلى الجميل ويكف عن القبيح، قاله ابن عيسى‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أن الحكمة الإنجيل الذي أنزل عليه‏.‏

‏{‏وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ‏}‏ وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ تبديل التوراة، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ ما تختلفون فيه من أمر دينكم لا من أمر دنياكم، حكاه ابن عيسى‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ‏}‏ أي كل الذي تختلفون فيه، فكان البعض هنا بمعنى الكل ما اقتصرعلى بيان بعض دون الكل، قاله الأخفش، وأنشد لبيد‏:‏

ترّاك أمكنة إذا لم أرضها *** أو يعتلق بعض النفوس حمامها

والموت لا يعتلق النفوس دون بعض‏.‏

الثاني‏:‏ أنه بين لهم بعضه دون جميعه، ويكون معناه أبين لكم بعض ذلك أيضاً وأكلكم في بعضه إلى الاجتهاد، وأضمر ذلك لدلالة الحال عليه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَاخْتَلَفَ الأَحَْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ‏}‏ قال قتادة يعني ‏{‏مِن بَيْنِهِم‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى خالف بعضهم بعضاً، قاله مجاهد والسدي‏.‏

الثاني‏:‏ فرق النصارى من النسطورية واليعاقبة والملكية اختلفوا في عيسى فقالت النسطورية‏:‏ هو ابن الله‏.‏ وقالت اليعاقبة هو الله‏.‏ وقالت الملكية ثالث ثلاثة أحدهم الله، قاله الكلبي ومقاتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 73‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏66‏)‏ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ‏(‏67‏)‏ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏68‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ‏(‏69‏)‏ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ‏(‏70‏)‏ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏71‏)‏ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏72‏)‏ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم أعداء في الدنيا، لأن كل واحد منهم زين للآخر ما يوبقه، وهو معنى قول مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم أعداء في الآخرة مع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا لما رأوا سوء العاقبة فيها بالمقارنة، وهو معنى قول قتادة‏.‏

وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في أمية بن خلف الجمحي، وعقبة بن أبي معيط كانا خليلين‏.‏ وكان عقبة يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فقالت قريش قد صبأ عقبة بن أبي معيط وقال له أمية‏:‏ وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً ولم تتفل في وجهه ففعل عقبة ذلك فنذر النبي صلى الله عليه وسلم قتله، فقتله يوم بدر صبراً، وقتل أمية في المعركة، وفيهما نزلت هذه الآية‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَنتُمْ وأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ هم وأزواجهم المؤمنات في الدنيا‏.‏

الثاني‏:‏ ومن يزوجون من الحور في الآخرة‏.‏

الثالث‏:‏ هم وقرناؤهم في الدنيا‏.‏

وفي ‏{‏تُحْبَرُونَ‏}‏ ستة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ تكرمون، قاله ابن عباس، والكرامة في المنزلة‏.‏

الثاني‏:‏ تفرحون، قاله الحسن، والفرح في القلب‏.‏

الثالث‏:‏ تتنعمون، قاله قتادة، والنعيم في البدن‏.‏

الرابع‏:‏ تسرّون، قاله مجاهد، والسرور في العين‏.‏

الخامس‏:‏ تعجبون، قاله ابن أبي نجيح، والعجب ها هنا درك ما يستطرف‏.‏

السادس‏:‏ أنه التلذذ بالسماع، قاله يحيى بن أبي كثير‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏ وَأَكْوَابٍ‏}‏ فيها خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الآنية المدورة الأفواه، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنها ليست لها آذن، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ أن الكوب‏:‏ المدور القصير العنق القصير العروة، والإبريق‏:‏ الطويل العنق الطويل العروة، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ أنها الأباريق التي لا خراطيم لها، قاله الأخفش‏.‏

الخامس‏:‏ أنها الأباريق التي ليس لها عروة، قاله قطرب‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُ الأَعْيُنُ‏}‏ قرأ نافع، وابن عامر، وعاصم في رواية حفص ‏{‏تَشْتَهِيهِ‏}‏‏.‏

ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما تشتهي الأنفس ما تتمناه، وما تلذ الأعين هو ما رآه فاشتهاه‏.‏

الثاني‏:‏ ما تشتهيه الأنفس هو ما كان طيب المخبر، وما تلذ الأعين ما كان حسن المنظر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 80‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏74‏)‏ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏75‏)‏ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ‏(‏76‏)‏ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ‏(‏77‏)‏ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ‏(‏78‏)‏ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ‏(‏79‏)‏ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَنَادَوْاْ يَا مَالِكُ‏}‏ هذا نداء أهل النار لخزانها حين ذاقوا عذابها‏.‏

‏{‏لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ‏}‏ أي يميتنا، طلبوا الموت ليستريحوا به من عذاب النار‏.‏

‏{‏قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ‏}‏ أي لابثون في عذابها أحياء، وفي مدة ما بين ندائهم وجوابه أربعة أقاويل‏.‏

أحدها‏:‏ أربعون سنة، قاله عبد الله بن عمرو‏.‏

الثاني‏:‏ ثمانون سنة، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ مائة سنة، قاله نوف‏.‏

الرابع‏:‏ ألف سنة، قاله ابن عباس، لأن بعد ما بين النداء والجواب أخزى لهم وأذل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أم أجمعوا على التكذيب فإنا مجمعون على الجزاء بالبعث، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أن أحكموا كيداً فإنا محكمون لها كيداً، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ قضوا أمراً فإنا قاضون عليهم بالعذاب، قاله الكلبي‏.‏

وقيل إن هذه الآية نزلت في كفار قريش حين اجتمع وجوههم في دار الندوة يتشاورون في أمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى استقر رأيهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتله فتضعف المطالبة بدمه، فنزلت هذه الآية، وقتل الله جميعهم عليهم اللعنة يوم بدر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 89‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ‏(‏81‏)‏ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏82‏)‏ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏83‏)‏ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ‏(‏84‏)‏ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏85‏)‏ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏87‏)‏ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ‏}‏ فيه ستة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ إن كان للرحمن ولد فأنا أول من يعبد الله ليس له ولد، قاله ابن زيد‏.‏ ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ معناه فأنا أول العابدين، ولكن لم يكن ولا ينبغي أن يكون، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ قل لم يكن للرحمن ولد وأنا أول الشاهدين بأن ليس له ولد‏.‏ قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ قل ما كان للرحمن ولد، وهذا كلام تام ثم استأنف فقال‏:‏ فأنا أول العابدين أي الموحدين من أهل مكة، قاله السدي‏.‏

الخامس‏:‏ قل إن قلتم إن للرحمن ولداً فأنا أول الجاحدين أن يكون له ولد، قاله سفيان‏.‏

السادس‏:‏ إن كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين أن يكون له ولد، قاله الكسائي وابن قتيبة، ومنه قول الفرزدق‏:‏

أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** وأعْبُدُ أن أهجو تميماً بدارم

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَآءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ‏}‏ وهذا إبطال أن يكون غير الله إلَهاً وأن الإلَه هو الذي يكون في السماء إلهاً وفي الأرض إلهاً وليست هذه صفة لغير الله، فوجب أن يكون هو الإله‏.‏

وفي معنى الكلام وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الموحد في السماء والأرض، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ أنه المعبود في السماء والأرض، قاله الكلبي‏.‏

‏{‏وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه يذكر ذلك صفة لتعظيمه‏.‏

الثاني‏:‏ أنه يذكره تعليلاً لإلاهيته لأنه حكيم عليم وليس في الأصنام حكيم عليم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دَونِهِ الشَّفَاعَةَ‏}‏ فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الشركة ومنه أخذت الشفعة في البيع لاستحقاق الشريك لها‏.‏ ويكون معنى الكلام أن الذين يدعون من دون الله لا يملكون مع الله شركة يستحقون أن يكونوا بها آلهة إلا أن يشهدوا عند الله بالحق على من عليه حق أو له حق، وهذا معنى قول ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ أن الشفاعة استعطاف المشفوع إليه فيما يرجى، واستصفاحه فيما يخشى وهو قول الجمهور‏.‏

وقيل إن سبب نزولها ما حكي أن النضر بن الحارث ونفراً من قريش قالوا إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن نتولى الملائكة، وهم أحق بالشفاعة لنا منه فأنزل الله تعالى ‏{‏وَلاَ يَمْلِكُ الِّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ‏}‏ معناه الذين يعبدونهم من دون الله وهم الملائكة الشفاعة لهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هم الملائكة وعيسى وعزير لأنهم عبدوا من دون الله‏.‏

‏{‏إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني أن الشهادة بالحق إنما هي لمن شهد في الدنيا بالحق وهم يعلمون أنه الحق فتشفع لهم الملائكة، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أن الملائكة لا تشفع إلا لمن شهد أن لا إله إلا الله وهم يعلمون أن الله ربهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يَؤْمِنُونَ‏}‏ وهي تقرأ على ثلاثة أوجه بالنصب والجر والرفع‏.‏

فأما الجر فهي على قراءة عاصم وحمزة، وهي في المعنى راجعة إلى قوله تعالى ‏{‏وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ‏}‏ وعلم قيلِه‏.‏

وأما الرفع فهو قراءة الأعرج، ومعناها ابتداء، وقيله، قيل محمد، يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون‏.‏ والقيل هو القول‏.‏

وأما النصب فهي قراءة الباقين من أئمة القراء، وفي تأويلها أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ بمعنى إلا من شهد بالحق وقال قيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، على وجه الإنكار عليهم، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ أنها بمعنى أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيلَه يا رب، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثالث‏:‏ بمعنى وشكا محمد إلى ربه قيله، ثم ابتداء فأخبر ‏{‏يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلآءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏، قاله الزجاج‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَاصْفَحْ عَنْهُمْ‏}‏ قال قتادة‏:‏ أمره بالصفح عنهم، ثم أمره بقتالهم فصار الصفح منسوخاً بالسيف‏.‏ ويحتمل الصفح عن سفههم أن يقابلهم عليه ندباً له إلى الحلم‏.‏

‏{‏وَقُلْ سَلاَمٌ‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أي قل ما تسلم به من شرهم، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ قل خيراً بدلاً من شرهم؛ قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ أي احلم عنهم؛ قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ أنه أمره بتوديعهم بالسلام ولم يجعله تحية لهم؛ حكاه النقاش‏.‏

الخامس‏:‏ أنه عرفه بذلك كيف السلام عليهم؛ رواه شعيب بن الحباب‏.‏

‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ يحتمل أمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ فسوف يعلمون حلول العذاب بهم‏.‏

الثاني‏:‏ فسوف يعلمون صدقك في إنذارهم، والله أعلم‏.‏

سورة الدخان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ‏(‏3‏)‏ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ‏(‏4‏)‏ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ‏(‏5‏)‏ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏6‏)‏ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ‏(‏7‏)‏ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ‏}‏ يعني والقرآن المبين، فأقسم به، وفي قسمه ب ‏{‏حم‏}‏ وجهان من اختلافهم في تأويله‏.‏

‏{‏إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ‏}‏ يعني القرآن أنزله الله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا‏.‏

‏{‏فِي لَيلَةِ مُّبَارَكَةٍ‏}‏ فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ليلة النصف من شعبان؛ قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها ليلة القدر‏.‏

روى قتادة عن وائلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ في أَوَّلِ لَيلَةٍ مِن رَمَضَانَ، وَأُنزِلَت التَّوْرَاةُ لِسِتٍ مَضَيْنَ مِن رَمَضَانَ وَأُنزِلَ الزَّبُورُ لاثْنَتَي عَشْرَةَ مَضَتْ مِن رَمَضَانَ، وَأُنزِلَ الإِنْجِيلُ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِن رَمَضَانَ‏.‏ وَأُنزِلَ القْرآنُ لأَرْبعٍ وَعشرِينَ مِن رَمَضَانَ»

وفي تسميتها مباركة وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لما ينزل فيها من الرحمة‏.‏

الثاني‏:‏ لما يجاب فيها من الدعاء‏.‏

‏{‏إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ‏}‏ بالقرآن من النار‏.‏

ويحتمل‏:‏ ثالثاً‏:‏ منذرين بالرسل من الضلال‏.‏

‏{‏فِيهَا‏}‏ في هذه الليلة المباركة‏.‏

‏{‏يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏}‏ وفي يفرق أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يقضى، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ يكتب، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ ينزل، قاله ابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ يخرج، قاله ابن سنان‏.‏

وفي تأويل ‏{‏كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏}‏ أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ الآجال والأرزاق والسعادة والشقاء من السنة إلى السنة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ كل ما يقضى من السنة إلى السنة، إلا الشقاوة والسعادة فإنه في أم الكتاب لا يغير ولا يبدل، قاله ابن عمر‏.‏

الثالث‏:‏ كل ما يقضى من السنة إلى السنة إلا الحياة والموت، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ بركات عمله من انطلاق الألسن بمدحه، وامتلاء القلوب من هيبته، قاله بعض أصحاب الخواطر‏.‏

الحكيم هنا هو المحكم‏.‏ وليلة القدر باقية ما بقي الدهر، وهي في شهر رمضان في العشر الأواخر منه‏.‏ ولا وجه لقول من قال إنها رفعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا لقول من جوزها في جميع السنة لأن الخبر والأثر والعيان يدفعه‏.‏ واختلف في محلها من العشر الأواخر من رمضان على أقاويل ذكرها في سورة القدر أولى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَمْراً مِنْ عِندِنَا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الأمر هو القرآن أنزله الله من عنده، حكاه النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ أنه ما قضاه الله في الليلة المباركة من أحوال عباده قاله ابن عيسى‏.‏

ويحتمل‏:‏

ثالثاً‏:‏ أنه إرسال محمد صلى الله عليه وسلم نبياً‏.‏

‏{‏إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ مرسلين الرسل للإنذار‏.‏

الثاني‏:‏ منزلين ما قضيناه على العباد‏.‏

الثالث‏:‏ مرسلين رحمة من ربك‏.‏

وفي ‏{‏رَحْمَةً مِّن رِّبِّكَ‏}‏ هنا وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها نعمة الله ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثاني‏:‏ أنها رأفته بهداية من آمن به‏.‏

‏{‏إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ‏}‏ لقولهم ‏{‏الْعَلِيمُ‏}‏ بفعلهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 16‏]‏

‏{‏بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ‏(‏9‏)‏ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ‏(‏10‏)‏ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ‏(‏14‏)‏ إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ‏(‏15‏)‏ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ‏}‏ في ارتقب وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه فانتظر يا محمد بهؤلاء يوم تأتي السماء بدخان مبين، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ معناه فاحفظ يا محمد قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين، ولذلك سمي الحافظ رقيباً، قال الأعشى‏:‏

عليّ رقيب له حافظٌ *** فقل في امرئ غِلقٍ مرتهن

وفي قوله تعالى ‏{‏يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ‏}‏ ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ما أصاب أهل مكة من شدة الجوع حتى صار بينهم وبين السماء كهيئة الدخان لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبطائهم عن الإيمان وقصدهم له بالأذى، فقال‏:‏ «اللَّهُمَّ اكفِنِيهِم بِسَبْعٍ كَسَبْع يُوسُفَ» قاله ابن مسعود‏.‏ قال أبو عبيدة والدخان الجدب‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ سمي دخاناً ليبس الأرض منه حتى يرتفع منها الدخان‏.‏

الثاني‏:‏ أنه يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغيوم، قاله عبد الرحمن بن الأعرج‏.‏

الثالث‏:‏ أنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة يأخذ المؤمن منه كالزكمة، وينفخ الكافر حتى يخرج من كل مسمع منه، رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الدخان، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ الجوع‏:‏ قاله النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الثلج وهذا لا وجه له لأن هذا إما أن يكون في الآخرة أو في أهل مكة، ولم تكن مكة من بلاد الثلج غير أنه مقول فحكيناه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي عائدون إلى نار جهنم‏.‏

الثاني‏:‏ إلى الشرك، قاله ابن مسعود‏.‏ فلما كشف ذلك عنهم باستسقاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم عادوا إلى تكذيبه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى‏}‏ والبطشة الكبرى هي العقوبة الكبرى، وفيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ القتل بالسيف يوم بدر، قاله ابن مسعود وأُبي بن كعب ومجاهد والضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ عذاب جهنم يوم القيامة، قاله ابن عباس والحسن‏.‏

ويحتمل‏:‏

ثالثاً‏:‏ أنها قيام الساعة لأنها خاتمة بطشاته في الدنيا‏.‏

‏{‏إِنَّا مُنتَقِمُونَ‏}‏ أي من أعدائنا‏.‏ وفي الفرق بين النقمة والعقوبة ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن العقوبة بعد المعصية لأنها من العاقبة، والنقمة قد تكون قبلها، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ أن العقوبة قد تكون في المعاصي، والنقمة قد تكون في خلقه لأجله‏.‏

الثالث‏:‏ أن العقوبة ما تقدرت، والانتقام غير مقدر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 33‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ‏(‏17‏)‏ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏18‏)‏ وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏19‏)‏ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ‏(‏20‏)‏ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ‏(‏21‏)‏ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ‏(‏22‏)‏ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ‏(‏23‏)‏ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ‏(‏24‏)‏ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏25‏)‏ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ‏(‏26‏)‏ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ‏(‏27‏)‏ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏28‏)‏ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ‏(‏29‏)‏ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏30‏)‏ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏32‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا قَوْمَ فِرْعَوْنَ‏}‏ أي ابتليناهم‏.‏

‏{‏وَجَآءَهُمْ رَسُولُ كَرِيمٌ‏}‏ وهو موسى بن عمران عليه السلام‏.‏ وفيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ كريم على ربه، قاله الفراء‏.‏

الثاني‏:‏ كريم في قومه‏.‏

الثالث‏:‏ كريم الأخلاق بالتجاوز والصفح‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَنْ أَدُّواْ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أي أرسلوا معي بني إسرائيل ولا تستعبدوهم، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أجيبوا عباد الله خيراً، قاله أبو صالح‏.‏

الثالث‏:‏ أدوا إليَّ يا عباد الله ما وجب عليكم من حقوق الله، وهذا محتمل‏.‏

‏{‏إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أمين على أن أؤديه لكم فلا أتزيد فيه‏.‏

الثاني‏:‏ أمين على ما أستأديه منكم فلا أخون فيه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ لا تبغوا على الله، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ لا تفتروا على الله، قاله ابن عباس، والفرق بين البغي والافتراء أن البغي بالفعل، والافتراء بالقول‏.‏

الثالث‏:‏ لا تعظموا على الله، قاله ابن جريج‏.‏

الرابع‏:‏ لا تستكبروا على عباد الله، قاله يحيى‏.‏ والفرق بين التعظيم والاستكبار أن التعظيم تطاول المقتدر، والاستكبار ترفع المحتقر‏.‏

‏{‏إِنِّي ءَاتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بعذر مبين، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ بحجة بينة، قاله يحيى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لجأت إلى ربي وربكم‏.‏

الثاني‏:‏ استغثت‏.‏ والفرق بينهما أن الملتجئ مستدفع والمستغيث مستنصر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏بَرَبِّي وَرَبِّكُمْ‏}‏ أي ربي الذي هو ربكم‏.‏

‏{‏أَن تَرْجُمُونِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ بالحجارة، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أن تقتلوني، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ أن تشتموني بأن تقولوا ساحر أو كاهن أو شاعر، قاله أبو صالح‏.‏

‏{‏وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَاعْتَزِلُونِ‏}‏ أي إن لم تؤمنوا بي وتصدقوا قولي فخلوا سبيلي وكفوا عن أذاي‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً‏}‏ فيه سبعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ سمتاً، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ يابساً، قاله ابن أبي نجيح‏.‏

الثالث‏:‏ سهلاً، قاله الربيع‏.‏

الرابع‏:‏ طريقاً، قاله كعب والحسن‏.‏

الخامس‏:‏ منفرجاً، قاله مجاهد‏.‏

السادس‏:‏ غرقاً، قاله عكرمة‏.‏

السابع‏:‏ ساكناً، قاله الكلبي والأخفش وقطرب‏.‏ قال القطامي‏:‏

يمشين رهواً فلا الأعجاز خاذلةٌ *** ولا الصدور على الأعجاز تتكل

قال قتادة‏:‏ لما نجا بنو إسرائيل من البحر وأراد آل فرعون أن يدخلوه خشي نبي الله موسى عليه السلام أن يدركوه فأراد أن يضرب البحر حتى يعود كما كان فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً‏}‏ أي طريقاً يابساً حتى يدخلوه‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ هو النيل، وكان عرضه يومئذٍ فرسخين، قال الضحاك‏:‏ كان غرقهم بالقلزم وهو بلد بين مصر والحجاز‏.‏

فإن قيل فليست هذه الأحوال في البحر من فعل موسى ولا إليه‏.‏

قيل يشبه أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه إنْ ضرب البحر بعصاه ثانية تغيرت أحواله، فأمره أن يكف عن ضربه حتى ينفذ الله قضاءه في فرعون وقومه‏.‏

وتأويل سهل بن عبد الله ‏{‏وَاتْرُكِ الْبَحْرَ‏}‏ أي اجعل القلب ساكناً في تدبيري ‏{‏إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُّغْرَقُونَ‏}‏ أي إن المخالفين قد غرقوا في التدبير‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ‏}‏ الجنات البساتين‏.‏ وفي العيون قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ عيون الماء، وهو قول الجمهور‏.‏

الثاني‏:‏ عيون الذهب، قاله ابن جبير‏.‏

‏{‏وَزُرُوعٍ‏}‏ قيل إنهم كانوا يزرعون ما بين الجبلين من أول مصر إلى آخرها، وكانت مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعاً لما دبروه وقدروه من قناطر وجسور‏.‏

‏{‏وَمَقَامٍ كَرِيمٍ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها المنابر، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ المساكن، قاله أبو عمرو والسدي، لمقام أهلها فيها‏.‏

الثالث‏:‏ مجالس الملوك لقيام الناس فيها‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أنه مرابط الخيل لأنها أكرم مذخور لعدة وزينة‏.‏

وفي الكريم ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ هو الحسن، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ هو المعطي لديه كما يعطي الرجل الكريم صلته، قاله ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ أنه كريم لكرم من فيه، قاله ابن بحر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ‏}‏ في النعمة هنا أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ نيل مصر، قاله ابن عمر‏.‏

الثاني‏:‏ الفيّوم، قاله ابن لهيعة‏.‏

الثالث‏:‏ أرض مصر لكثرة خيرها، قاله ابن زياد‏.‏

الرابع‏:‏ ما كانوا فيه من السعة والدعة‏.‏

وقد يقال نعمة ونِعمة بفتح النون وكسرها، وفي الفرق بينهما وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها بكسر النون في الملك، وبفتحها في البدن والدين؛ قاله النضر بن شميل‏.‏

الثاني‏:‏ أنها بالكسر من المنة وهو الإفضال والعطية، وبالفتح من التنعم وهو سعة العيش والراحة، قاله ابن زياد‏.‏

وفي ‏{‏فاكهين‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ فرحين، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ ناعمين، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أن الفاكه هو المتمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الآكل بأنواع الفاكهة، قاله ابن عيسى‏.‏

وقرأ يزيد بن القعقاع ‏{‏فَكِهِينَ‏}‏ ومعناه معجبين‏.‏

قوله عز وجل ‏{‏كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ‏}‏ يعني بني إسرائيل ملكهم الله أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين، فصروا لها وارثين لوصول ذلك إليهم كوصول الميراث‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِم السَّمَآءُ وَالأَرْضُ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني أهل السماء وأهل الأرض، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحاً؛ قاله مجاهد‏.‏

قال أبو يحيى‏:‏ فعجبت من قوله، فقال أتعجب‏؟‏ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود‏؟‏ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل‏؟‏

الثالث‏:‏ أنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء، قاله علي كرم الله وجهه‏.‏ وتقديره فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض‏.‏

وهو معنى قول سعيد بن جبير‏.‏

الرابع‏:‏ ما رواه يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك‏.‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلا وله في السماء بابان، باب ينزل منه رزقه، وباب يدخل منه كلامه وعمله، فإذا مات فقداه فبكيا عليه» ثم تلا هذه الآية‏.‏

وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه كالمعروف من بكاء الحيوان ويشبه أن يكون قول مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه حمرة أطرافها، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعطاء‏.‏

وحكى جرير عن يزيد بن أبي زياد قال‏:‏ لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما احمر له آفاق السماء أربعة أشهر، واحمرارها بكاؤها‏.‏

الثالث‏:‏ أنها أمارة تظهر منها تدل على حزن وأسف‏.‏ كقول الشاعر‏:‏

والشمس طالعة ليست بكاسفة *** تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

‏{‏وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ مؤخرين بالغرق، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ لم ينظروا بعد الآيات التسع حتى أغرقوا، قاله مقاتل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ‏}‏ معناه على علم منا بهم‏.‏ وفي اختياره لهم ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ باصطفائهم لرسالته، والدعاء إلى طاعته‏.‏

الثاني‏:‏ باختيارهم لدينه وتصديق رسله‏.‏

الثالث‏:‏ بإنجائهم من فرعون وقومه‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ على عالمي زمانهم، لأن لكل زمان عالماً، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء‏.‏ وهذا خاصة لهم وليس لغيرهم، حكاه ابن عيسى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وءَاتَيْنَاهُمْ مِّنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلآءٌ مُّبِينٌ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه أنجاهم من عدوهم وفلق البحر لهم وظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى، قاله قتادة‏.‏ ويكون هذا الخطاب متوجهاً إلى بني إسرائيل‏.‏

الثاني‏:‏ أنها العصا ويده البيضاء، ويشبه أن يكون قول الفراء‏.‏ ويكون الخطاب متوجهاً إلى قوم فرعون‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الشر الذي كفهم عنه والخير الذي أمرهم به، قاله عبد الرحمن بن زيد‏.‏ ويكون الخطاب متوجهاً إلى الفريقين معاً من قوم فرعون وبني إسرائيل‏.‏

وفي قوله ‏{‏مَا فِيهِ بَلآءٌ مُّبِينٌ‏}‏ ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ نعمة ظاهرة، قاله الحسن وقتادة كما قال تعالى ‏{‏وَليُبْلَي الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلآءً حَسَناً‏}‏ وقال زهير‏:‏

فأبلاه خير البلاء الذي يبلو *** الثاني‏:‏ عذاب شديد، قاله الفراء‏.‏

الثالث‏:‏ اختيار بيِّن يتميز به المؤمن من الكافر، قاله عبد الرحمن بن زيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 37‏]‏

‏{‏إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ ‏(‏34‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ‏(‏35‏)‏ فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏36‏)‏ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَؤُلآءِ لَيَقُولُونَ‏}‏ يعني كفار قريش‏.‏

‏{‏إن هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ‏}‏ أي بمبعوثين قيل‏:‏ إن قائل هذا أبو جهل قال‏:‏ يا محمد إن كنت صادقاً في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا أحدهما قصيّ بن كلاب فإنه كان رجلاً صادقاً، لنسأله عما يكون بعد الموت وهذا القول من أبي جهل من أضعف الشبهات، لأن الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف‏.‏ فكأنه قال‏:‏ إن كنت صادقاً في إعادتهم للجزاء فأعدهم للتكليف‏.‏ وهو كقول قائل لو قال‏:‏ إن كان ينشأ بعدنا قوم من الأبناء، فلم لا يرجع من مضى من الآباء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَهُمْ خَيرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أهم أظهر نعمة وأكثر أموالاً‏.‏

الثاني‏:‏ أهم أعز وأشد أم قوم تبع‏.‏

وحكى قتادة أن تبعاً كان رجلاً من حِمير سار بالجيوش حتى عبر الحيرة وأتى سمرقند فهدمها‏.‏ وحكي لنا أنه كان إذا كتب؛ كتب باسم الله الذي سما وملك براً وبحراً وضحاً وريحاً‏.‏

وروي عن عمرو بن رجاء عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم‏.‏ وحكى ابن قتيبة في المعارف شعراً ذكر أنه لتبع وهو‏:‏

منح البقاءَ تقلبُ الشمسِ *** وطلوعها من حيث لا تُمْسِي

وشروقها بيضاء صافية *** وغروبُها حمراءَ كالورْسِ

وتشتت الأهواءِ أزعجني *** سيراً لأبلغ مطلع الشمسِ

ولرب مطعمةٍ يعود لها *** رأي الحليم إلى شفا لبسِ

وفي تسميته تبعاً قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأنه تَبعَ من قبله من ملوك اليمن كما قيل خليفة لأنه خلف من قبله‏.‏

الثاني‏:‏ لأنه اسم لملوك اليمن‏.‏

وذم الله قومه ولم يذمه، وضرب بهم مثلاً لقريش لقربهم من دارهم، وعظمهم في نفوسهم، فلما أهلكهم الله ومن قبلهم- لأنهم كانوا مجرمين- كان من أجرم مع ضعف اليد وقلة العدد أحرى بالهلاك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 42‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏38‏)‏ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏40‏)‏ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏41‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ غافلين، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ لاهين، قاله الكلبي‏.‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحِقِّ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ للحق، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ بقول الحق، قاله مقاتل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ يَوْمَ الْفَصَلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ يعني يوم القيامة، وفي تسميته بيوم الفصل وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ‏[‏إن الله‏]‏ يفصل فيه أمور عباده‏.‏

الثاني‏:‏ لأنه يفصل فيه بين المرء وعمله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 50‏]‏

‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ‏(‏43‏)‏ طَعَامُ الْأَثِيمِ ‏(‏44‏)‏ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ‏(‏45‏)‏ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ‏(‏46‏)‏ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ‏(‏48‏)‏ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ‏(‏49‏)‏ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُومِ طَعَامُ الأَثِيمِ‏}‏ قد ذكرنا ما في الزقوم من الأَقاويل، وهو في اللغة ما أُكِلَ بكرْه شديد‏.‏ ولهذا يقال قد تزقم هذا الطعام تزقماً أي هو في حكم من أكله بكره شديد لحشو فمه وشدة شره‏.‏

وحكى النقاش عن مجاهد أن شجرة الزقوم أبو جهل‏.‏

وفي الأثيم وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الآثم، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ المشرك المكتسب للإثم، قاله يحيى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ فجروه، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ فادفعوه، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ فسوقوه، حكاه الكلبي‏.‏

الرابع‏:‏ فاقصفوه كما يقصف الحطب، حكاه الأعمش‏:‏

الخامس‏:‏ فردوه بالعنف، قاله ابن قتيبة‏.‏ قال الفرزدق‏:‏

ليس الكرام بناحليك أباهم *** حتى ترد إلى عطية تعتل

‏{‏إلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ وسط الجحيم، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ معظم الجحيم يصيبه الحر من جوانبها، قاله الحسن‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ‏}‏ قال قتادة‏:‏ نزلت في أبي جهل، وفيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه أنك لست بعزيز ولا كريم، لأنه قال توعدني محمد، والله إني لأعز من مشى حبليها، فرد الله عليه قوله، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنك أنت العزيز الكريم عند نفسك، قاله قتادة أيضاً‏.‏

الثالث‏:‏ أنه قيل له ذلك استهزاء على جهة الإهانة، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الرابع‏:‏ أنك أنت العزيز في قومك، الكريم على أهلك حكاه ابن عيسى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 59‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ‏(‏51‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏52‏)‏ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏53‏)‏ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏54‏)‏ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ ‏(‏55‏)‏ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏56‏)‏ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏57‏)‏ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أمين من الشيطان والأحزان، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أمين من العذاب، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ من الموت، قاله مقاتل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ‏}‏ فيهما ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن السندس الحرير الرقيق، والاستبرق الديباج الغليظ، قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ السندس يعمل بسوق العراق وهو أفخر الرقم، قاله يحيى، والاستبرق الديباج سمي استبرقاً لشدة بريقه، قاله الزجاج‏.‏

الثالث‏:‏ أن السندس ما يلبسونه، والاستبرق ما يفترشونه‏.‏

وفي ‏{‏مُّتَقَابِلينَ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ متقابلين بالمحبة لا متدابرين بالبغضة، قاله علي بن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ متقابلين في المجالس لا ينظر بعضهم قفا بعض، قاله مجاهد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ‏}‏ يعني القرآن، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه جعلناه بلسانك عربياً‏.‏

الثاني‏:‏ أطلقنا به لسانك تيسيراً‏.‏

‏{‏لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يرجعون‏.‏

الثاني‏:‏ يعتبرون‏.‏

‏{‏فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فانتظر ما وعدتك من النصر عليهم‏.‏ إنهم منتظرون بك الموت، حكاه النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ وانتظر ما وعدتك من الثواب فإنهم من المنتظرين لما وعدتهم من العقاب، والله أعلم‏.‏

سورة الجاثية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ‏}‏ يعني القرآن‏.‏

‏{‏مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ‏}‏ وفي إضافة التنزيل إليه في هذا الموضع وفي أمثاله وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ افتتاح كتابه منه كما يفتتح الكاتب كتابه به‏.‏

الثاني‏:‏ تعظيماً لقدره وتضخيماً لشأنه عليه في الابتداء بإضافته إليه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَاخْتِلاَفِ الليْلِ وَالنَّهَارِ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني اختلافهما بالطول والقصر‏.‏

الثاني‏:‏ اختلافهما بذهاب أحدهما ومجيء الآخر‏.‏

‏{‏وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن رِّزْقٍ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ المطر الذي ينبت به الزرع وتحيا به الأرض‏.‏

الثاني‏:‏ ما قضاه في السماء من أرزاق العباد‏.‏

‏{‏وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ تصريفها بإرسالها حيث يشاء‏.‏

الثاني‏:‏ ينقل الشمال جنوباً والجنوب شمالاً، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ أن يجعلها تارة رحمة وتارة نقمة؛ قاله قتادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 11‏]‏

‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏7‏)‏ يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏9‏)‏ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏10‏)‏ هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الأفاك‏:‏ الكذاب، قاله ابن جريج‏.‏

الثاني‏:‏ أنه المكذب بربه‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الكاهن، قاله قتادة‏.‏

‏{‏يَسْمَعُ ءَآيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيهِ‏}‏ يعني القرآن‏.‏

‏{‏ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدها‏:‏ يقيم على شركه مستكبراً عن طاعة ربه، وهو معنى قول يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أن الإصرار على الشيء العقد بالعزم عليه، وهو مأخوذ من صَرَّ الصُّرَّةَ إذا شدها، قاله ابن عيسى‏.‏

‏{‏كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا‏}‏ في عدم الاتعاظ بها والقبول لها‏.‏

‏{‏فَبِشَّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ قال ابن جريج نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 15‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لا ينالون نعم الله، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ لا يخشون عذاب الله، قاله الكلبي ومقاتل‏.‏

الثالث‏:‏ لا يطمعون في نصر الله في الدنيا ولا في الآخرة، قاله ابن بحر‏.‏

وفي المراد بأيام الله وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أيام إنعامه وانتقامه في الدنيا، لأنه ليس في الآخرة، وتكون الأيام وقتاً وإن تكن أياماً على الحقيقة‏.‏

وفي الكلام أمر محذوف فتقديره‏:‏ قل للذين آمنوا إغفروا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله‏.‏ الغفران ها هنا العفو وترك المجازاة على الأذى‏.‏

وحكى الكلبي أن هذه الآية نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من المشركين فهمَّ أن يبطش به، فلما نزل ذلك فيه كف عنه‏.‏

وفي نسخ هذه الآية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها ثابتة في العفو عن الأذى في غير الدين‏.‏

الثاني‏:‏ أنها منسوخة وفيما نسخها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بقوله سبحانه ‏{‏فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ‏}‏ قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ بقوله ‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُواْ‏}‏ قاله أبو صالح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 20‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏18‏)‏ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏19‏)‏ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَءَاتَينَاهُم بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ذكر الرسول وشواهد نبوته‏.‏

الثاني‏:‏ بيان الحلال والحرام، قاله السدي‏.‏

‏{‏فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ من بعد يوشع بن نون فآمن بعضهم وكفر بعضهم، حكاه النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ بعدما أعلمهم الله ما في التوراة‏.‏

‏{‏بَغْياً بَيْنَهُمْ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ طلباً للرسالة وأنفة من الإذعان للصواب، حكاه ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ بغياً على رسول الله صلى عليه وسلم في جحود ما في كتابهم من نبوة وصفته، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم أرادوا الدنيا ورخاءها فغيروا كتابهم وأحلوا فيه ما شاؤوا وحرموا ما شاؤوا، قاله يحيى بن آدم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ‏}‏ أي على طريقة من الدين كالشريعة التي هي طريق إلى الماء، ومنه الشارع لأنه طريق إلى القصد‏.‏

وفي المراد بالشريعة أربعة أقاويل‏:‏

احدها‏:‏ أنها الدين، قاله ابن زيد، لأنه طريق للنجاة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الفرائض والحدود والأمر والنهي، قاله قتادة لأنها طريق إلى الدين‏.‏

الثالث‏:‏ أنها البينة، قاله مقاتل‏:‏ لأنها طريق الحق‏.‏

الرابع‏:‏ السنة، حكاه الكلبي لأنه يستنّ بطريقة من قبله من الأنبياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 23‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏21‏)‏ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ‏}‏ أي اكتسبوا الشرك‏.‏ قال الكلبي‏:‏ الذين أريد بهم هذه الآية عتبه وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة‏.‏

‏{‏أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ‏}‏ قال الكلبي أريد بهم علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أفرأيت من اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئاً إلا ركبه، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه ويستحسنه، فإذا استحسن شيئاً وهو به اتخذه إلهاً، قاله عكرمة، قاله سعيد بن جبير‏:‏ كان أحدهم يعبد الحجر‏.‏ فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر‏.‏

الثالث‏:‏ أفرأيت من ينقاد لهواه انقياده لإلهه ومعبوده تعجباً لذوي العقول من هذا الجهل‏.‏

‏{‏وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ وجده ضالاً، حكاه ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ معناه ضل عن الله‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

هبوني امرأً منكم اضلَّ بعيره *** له ذمة إن الذمام كثير

أي ضل عنه بعيره‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏عَلَى عِلْمٍ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ على علم منه أنه ضال، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ قاله ابن عباس أي في سابق علمه أنه سيضل‏.‏ ‏{‏وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ‏}‏ أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غَشَاوَةً‏}‏ حتى لا يبصرالرشد‏.‏

ثم في هذا الكلام وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه خارج مخرج الخبر عن أحوالهم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه خارج مخرج الدعاء بذلك عليهم‏.‏

وحكى ابن جريج أنها نزلت في الحارث بن قيس من الغياطلة، وحكى الضحاك أنها نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف‏.‏