فصل: تفسير الآيات رقم (24- 28)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 28‏]‏

‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ‏(‏24‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ‏(‏25‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ‏(‏26‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ‏(‏27‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعدما علموا في التوراة أنه نبي، قاله قتادة وابن جريج‏.‏

الثاني‏:‏ المنافقون قعدوا عن القتال من بعدما علموه في القرآن، قاله السدي‏.‏

‏{‏الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أعطاهم سؤالهم، قاله ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ زين لهم خطاياهم، قاله الحسن‏.‏

‏{‏وَأَمْلَى لَهُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أمهلهم، قاله الكلبي ومقاتل فعلى هذا يكون الله تعالى هو الذي أملى لهم بالإمهال في عذابهم‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن معنى أملى لهم أي مد لهم في الأمل فعلى هذا فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الله تعالى هو الذي أملى لهم في الأمل، قاله الفراء والمفضل‏.‏

الثاني‏:‏ أن الشيطان هو الذي أملى لهم في مد الأمل بالتسويف، قاله الحسن‏.‏

‏{‏ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ‏}‏ وفي قائل ذلك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم اليهود قالوا للمنافقين سنطيعكم في بعض الأمر‏.‏ وفيما أرادوا بذلك وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ سنطيعكم في ألا نصدق بشيء، من مقالته، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ سنطيعكم في كتم ما علمنا من نبوته، قاله ابن جريج‏.‏

القول الثاني‏:‏ أنهم المنافقون قالوا لليهود سنطيعكم في بعض الأمر وفيما أرادوه بذلك ثلاثة أوجه‏:‏

أحدهما‏:‏ سنطيعكم في غير القتال من بغض محمد صلى الله عليه وسلم والقعود عن نصرته، قال السدي‏.‏

الثاني‏:‏ سنطيعكم في الميل إليكم والمظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثالث‏:‏ سنطيعكم في الارتداد بعد الإيمان‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما اسر بعضهم إلى بعض من هذا القول‏.‏

الثاني‏:‏ ما أسروه في أنفسهم من هذا الاعتقاد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ بالقتال نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثاني‏:‏ بقبض الأرواح عند الموت‏.‏

‏{‏يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارُهُمْ‏}‏ يكون على احتمال وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يضربون وجوههم في القتال عند الطلب وأدبارهم عند الهرب‏.‏

الثاني‏:‏ يضربون وجوههم عند الموت بصحائف كفرهم، وأدبارهم في القيامة عند سوقهم إلى النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ‏(‏29‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏30‏)‏ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ شك، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ نفاق، قاله الكلبي‏.‏

‏{‏أَن لن يُخْرِجَ أَضْغَانَهُمْ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ غشهم، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ حسدهم، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ حقدهم، قاله ابن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ عدوانهم، قاله قطرب وأنشد‏:‏

قل لابن هند ما أردت بمنطق *** ساء الصديق وسر ذا الأضغان

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في كذب القول، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ في فحوى كلامهم، واللحن هو الذهاب بالكلام في غير جهته، مأخوذ من اللحن في الإعراب وهو الذهاب عن الصواب ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إِنَّكُم لَتَحْتَكِمُونَ إِليَّ، أَحَدَكُمْ أَن يَكُونَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ» أي أذهب بها في الجهات لقوته على تصريف الكلام‏.‏ قال مرار الأسدي‏:‏

ولحنت لحناً فيه غش ورابني *** صدودك ترصين الوشاة الأعاديا

قال الكلبي‏:‏ فلم يتكلم بعد نزولها منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالُكُم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ المجاهدين في سبيل الله‏.‏

الثاني‏:‏ الزاهدين في الدنيا‏.‏

‏{‏وَالصَّابِرِينَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ على الجهاد‏.‏

الثاني‏:‏ عن الدنيا‏.‏

‏{‏وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ نختبر أسراركم‏.‏

الثاني‏:‏ ما تستقبلونه من أفعالكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 35‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏32‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ‏(‏34‏)‏ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أطيعوا الله بتوحيده، وأطيعوا الرسول بتصديقه‏.‏

الثاني‏:‏ أطيعوا الله في حرمة الرسول، وأطيعوا الرسول في تعظيم الله‏.‏

‏{‏وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُم‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ لا تبطلوها بالكبائر، قاله الزهري‏.‏

الثالث‏:‏ لا تبطلوها بالرياء والسمعة، وأخلصوها لله، قاله ابن جريج والكلبي‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَن يَتِرَكُم أَعمَالَكْم‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لن ينقصكم أعمالكم، قاله مجاهد وقطرب‏.‏ وأنشد قول الشاعر‏:‏

إن تترني من الإجارة شيئاً *** لا يفتني على الصراط بحقي

الثاني‏:‏ لن يظلمكم، قاله قتادة، يعني أجور أعمالكم‏.‏

الثالث‏:‏ ولا يستلبكم أعمالكم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ‏(‏36‏)‏ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ‏(‏37‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُم‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لا يسألكم أموالكم لنفسه‏.‏

الثاني‏:‏ لا يسألكم جميع أموالكم في الزكاة ولكن بعضها‏.‏

الثالث‏:‏ لا يسألكم أموالكم وإنما يسألكم أمواله، لأنه أملك بها وهو المنعم بإعطائها‏.‏

‏{‏إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الإخفاء أخذ الجميع، قاله ابن زيد وقطرب‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الإلحاح وإكثار السؤال، مأخوذ من الحفاء وهو المشي بغير حذاء، قاله ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ أن معنى فيحفكم أي فيجدكم تبخلوا، قاله ابن عيينة‏.‏

‏{‏وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يظهر بامتناعكم ما أضمرتموه من عدوانكم‏.‏

الثاني‏:‏ تظهرون عند مسألتكم ما أضمرتموه من عداوتكم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَستَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ وإن تتولوا عن كتابي، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ عن طاعتي، حكاه ابن أبي حاتم‏.‏

الثالث‏:‏ عن الصدقة التي أُمرتم بها، قاله الكلبي‏.‏

الرابع‏:‏ عن هذا الأمر فلا تقبلونه، قاله ابن زيد‏.‏

‏{‏يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم أهل اليمن وهم الأنصار، قاله شريح بن عبيد‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم الفرس‏.‏ روى أبو هريرة قال‏:‏ لما نزل ‏{‏وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُم ثُمَّ لاَ يَكُونُوآ أمْثَالَكُم‏}‏ كان سلمان إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا يستبدلوا بنا‏؟‏ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان وقال‏:‏ «هذا وَقَومُهُ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ الدِّينَ مُعَلَّقٌ بِالثُّرَيَّا لَنالَهُ رَِجَالٌ مِن أَبْنَاءِ فَارِس»‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم من شاء من سائر الناس، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني في البخل بالإنفاق في سبيل الله، قاله الطبري‏.‏

الثاني‏:‏ في المعصية وترك الطاعة‏.‏

وحكي عن أبي موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ «هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن الدُّنْيَا»‏.‏

سورة الفتح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ‏(‏1‏)‏ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏2‏)‏ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ إنا أعلمناك علماً مبيناً فيما أنزلناه عليك من القرآن وأمرناك به من الدين‏.‏ وقد يعبر عن العلم بالفتح كقوله ‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏ أي علم الغيب، قاله ابن بحر‏.‏ وكقوله ‏{‏إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 19‏]‏ أي إن أردتم العلم فقد جاءكم العلم‏.‏

الثاني‏:‏ إنا قضينا لك قضاء بيناً فيما فتحناه عليك من البلاد‏.‏

وفي المراد بهذا الفتح قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ فتح مكة، وعده الله عام الحديبية عند انكفائه منها‏.‏

الثاني‏:‏ هو ما كان من أمره بالحديبية‏.‏ قال الشعبي‏:‏ نزلت ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1‏]‏ في وقت الحديبية أصاب فيها ما لم يصب في غيرها‏.‏ بويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وظهرت الروم على فارس تصديقاً لخبره، وبلغ الهدي محله، فعلى هذا في الذي أراده بالفتح يوم الحديبية، قال جابر‏:‏ ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية‏.‏

الثاني‏:‏ أنه بيعة الرضوان‏.‏ قال البراء بن عازب‏:‏ انتم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية‏.‏

الثالث‏:‏ أنه نحره وحلقه يوم الحديبية حتى بلغ الهدي محله بالنحر‏.‏

والحديبية بئر، وفيها تمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد غارت فجاشت بالرواء‏.‏

‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ليغفر لك الله استكمالاً لنعمه عندك‏.‏

الثاني‏:‏ يصبرك على أذى قومك‏.‏

وفيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ما تقدم قبل الفتح وما تأخر بعد الفتح‏.‏

الثاني‏:‏ ما تقدم قبل النبوة وما تأخر بعد النبوة‏.‏

الثالث‏:‏ ما وقع وما لم يقع على طريق الوعد بأنه مغفور إذا كان‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ ما تقدم قبل نزول هذه الآية وما تأخر بعدها‏.‏

‏{‏وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بفتح مكة والطائف وخيبر‏.‏

الثاني‏:‏ بخضوع من استكبر‏.‏ وطاعة من تجبر‏.‏

‏{‏وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الأسر والغنيمة كما كان يوم بدر‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الظفر والإسلام وفتح مكة‏.‏

وسبب نزول هذه الآية، ما حكاه الضحاك عن ابن عباس أنه لما نزل قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ‏}‏ قال أهل مكة‏:‏ يا محمد كيف ندخل في دينك وأنت لا تدري ما يفعل بك ولا بمن اتبعك فهلا أخبرك بما يفعل بك وبمن اتبعك كما أخبر عيسى ابن مريم‏؟‏ فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه حتى قدم المدينة، فقال عبد الله بن أبي بن سلول- رأس المنافقين- للأنصار‏:‏ كيف تدخلون في دين رجل لا يدري ما يفعل به ولا بمن اتبعه‏؟‏ هذا والله الضلال المبين‏.‏ فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، يا رسول الله ألا تسأل ربك يخبرك بما يفعل بك وبمن اتبعك‏؟‏ فقال‏:‏ إن له أجلاً فأبشرا بما يقر الله به أعينكما‏.‏ إلى أن نزلت عليه هذه الآي وهو في دار أبي الدحداح على طعام مع أبي بكر وعمر فخرج وقرأها على أصحابه، قال قائل منهم‏:‏ هنيئاً مريئاً يا رسول الله قد بين الله لنا ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا‏؟‏ فأنزل الله ‏{‏لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 7‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏4‏)‏ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏5‏)‏ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏6‏)‏ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هُوَا الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ فيها ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الصبر على أمر الله‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الثقة بوعد الله‏.‏

الثالث‏:‏ أنها الرحمة لعباد الله‏.‏

‏{‏لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ‏}‏ يحتمل ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ليزدادوا عملاً مع تصديقهم‏.‏

الثاني‏:‏ ليزدادوا صبراً مع اجتهادهم‏.‏

الثالث‏:‏ ليزدادوا ثقة بالنصر مع إيمانهم بالجزاء‏.‏

‏{‏وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون معناه‏:‏ ولله ملك السموات والأرض ترغيباً للمؤمنين في خير الدنيا وثواب الآخرة‏.‏

الثاني‏:‏ معناه‏:‏ ولله جنود السموات والأرض إشعاراً للمؤمنين أن لهم في جهادهم أعواناً على طاعة ربهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الظَّآنِّينَ باللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ هو ظنهم أن لله شريكاً‏.‏

الثاني‏:‏ هو ظنهم أنه لن يبعث الله أحداً‏.‏

الثالث‏:‏ هو ظنهم أن يجعلهم الله كرسوله‏.‏

الرابع‏:‏ أن سينصرهم على رسوله‏.‏

قال الضحاك‏:‏ ظنت أسد وغطفان في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الحديبية أنه سيقتل أو ينهزم ولا يعود إلى المدينة سالماً، فعاد ظافراً‏.‏

‏{‏عَلَيْهِمْ دَآئرَهُ السَّوْءِ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ عليهم يدور سوء اعتقادهم‏.‏

الثاني‏:‏ عليهم يدور جزاء ما اعتقدوه في نبيهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏8‏)‏ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ شاهداًعلى أمتك بالبلاغ، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ شاهداًعلى أمتك بأعمالهم من طاعة أو معصية‏.‏

الثالث‏:‏ مبيناً ما أرسلناك به إليهم‏.‏

‏{‏وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ مبشراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين‏.‏

الثاني‏:‏ مبشراً بالجنة لمن أطاع ونذيراً بالنار لمن عصى، قاله قتادة، والبشارة والإنذار معاً خير لأن المخبر بالأمر السار مبشر والمحذر من الأمر المكروه منذر‏.‏ قال النابغة الذبياني‏:‏

تناذرها الراقون من سوء سعيها *** تطلقها طوراً وطوراً تراجع

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَتُعَزِّرُوهُ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ تطيعوه، قاله بعض أهل اللغة‏.‏

الثاني‏:‏ تعظموه، قاله الحسن والكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ تنصروه وتمنعوا منه، ومنه التعزير في الحدود لأنه مانع، قاله القطامي‏:‏

ألا بكرت مي بغير سفاهة *** تعاتب والمودود ينفعه العزر

وفي ‏{‏وَتُوَقِّرُوهُ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تسودوه، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أن تأويله مختلف بحسب اختلافهم فيمن أشير إليه بهذا الذكر‏:‏ فمنهم من قال أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَتُعَزِّرُوهُ وَتَوَقِّرُوهُ‏}‏ أي تعزروا الله وتوقروه لأن قوله‏:‏ ‏{‏وَتُسَبِّحُوهُ‏}‏ راجع إلى الله وكذلك ما تقدمه، فعلى هذا يكون تأويل قوله‏:‏ ‏{‏وَتُوَقِّرُوهُ‏}‏ أي تثبتوا له صحة الربوبية وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزروه ويوقروه لأنه قد تقدم ذكرها، فجاز أن يكون بعض الكلام راجعاً إلى الله وبعضه راجعاً إلى رسوله، قاله الضحاك‏.‏ فعلى هذا يكون تأويل ‏{‏تُوَقِّرُوهُ‏}‏ أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية‏.‏

‏{‏وتُسَبِّحُوهُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تسبيحه بالتنزيه له من كل قبيح‏.‏

الثاني‏:‏ هو فعل الصلاة التي فيها التسبيح‏.‏

‏{‏بُكْرَةً وَأصِيلاً‏}‏ أي غدوة وعشياً‏.‏ قال الشاعر‏:‏

لعمري لأنت البيت أكرم أهله *** وأجلس في أفيائه بالأصائل

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 14‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏11‏)‏ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ‏(‏12‏)‏ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ‏(‏13‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ فاسدين قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ هالكين، قاله مجاهد‏.‏ قال عبد الله بن الزبعرى‏:‏

يا رسول المليك إن لساني *** راتق ما فتقت إذ أنا بور

الثالث‏:‏ أشرار، قاله ابن بحر‏.‏ وقال حسان بن ثابت‏:‏

لا ينفع الطول من نوك الرجال وقد *** يهدي الإله سبيل المعشر البور

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما وعد الله نبيّه من النصرة والفتح حين ظنوا ظن السوء بأنه يهلك أو لا يظفر، قاله مجاهد وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏لَن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً‏}‏ حين سألوه الخروج معه لأجل المغانم بعد امتناعهم منه وظن السوء، قاله ابن زيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏16‏)‏ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ‏}‏ وهؤلاء المخلفون هم أحد أصناف المنافقين، لأن الله تعالى صنف المنافقين من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ثلاثة أصناف، منهم من أعلم أنه لا يؤمن وأوعدهم العذاب في الدنيا مرتين ثم العذاب العظيم في الآخرة وذلك قوله ‏{‏وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعَرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 101‏]‏ الآية‏.‏ ومنهم من اعترف بذنبه وتاب، وهم من قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُبِهِم خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيِّئاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 102‏]‏ الآية‏.‏ ومنهم من وقفوا بين الرجاء لهم والخوف عليهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمِرْ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإمَّا يَتَوبُ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 106‏]‏ فهؤلاء المخاطبون بقوله‏:‏ ‏{‏سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ دون الصنفين المتقدمين لترددهم بين أمرين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سَتُدْعُوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فيهم خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم أهل فارس، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ الروم، قاله الحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى‏.‏

الثالث‏:‏ هوازن وغطفان بحنين، قاله سعيد بن جبير وقتادة‏.‏

الرابع‏:‏ بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب، قاله الزهري‏.‏

الخامس‏:‏ أنهم قوم لم يأتوا بعد، قاله أبو هريرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ‏(‏18‏)‏ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَقَدْ رِضِي اللَّهُ عَنِ الْمُؤمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجرَةِ‏}‏ كانت سبب هذه البيعة وهي بيعة الرضوان تأخر عثمان رضي الله عنه بمكة حين أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية رسولاً إلى الإسلام فأبطأ وأرجف بقتله، فبايع أصحابه وبايعوه على الصبر والجهاد، وكانوا فيما رواه ابن عباس ألفاً وخمسمائة، وقال جابر‏:‏ كانوا ألفاً وأربعمائة وقال عبد الله بن أبي أوفى‏:‏ ألفاً وثلاثمائةً‏.‏

وكانت البيعة تحت الشجرة بالحديبية والشجرة سمرة‏.‏ وسميت بيعة الرضوان، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ‏}‏‏.‏ رضي الله عنR>> ‏{‏فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ من صدق النية، قاله الفراء‏.‏

الثاني‏:‏ من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت، قاله مقاتل‏.‏

‏{‏فَأَنزَلَ السَّكِينَة عَلَيْهِمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فتح خيبر لقربها من الحديبية، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ فتح مكة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 24‏]‏

‏{‏وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏20‏)‏ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏21‏)‏ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏22‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وََعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ هي مغانم خيبر، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ هو كل مغنم غنمه المسلمون، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ مغانم خيبر، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ صلح الحديبية، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏وَكَفَّ أيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ اليهود كف أيديهم عن المدينة عند خروجهم إلى الحديبية‏.‏

الثاني‏:‏ قريش كف أيديهم عن المدينة عند خروجهم إلى الحديبية‏.‏

الثالث‏:‏ أسد وغطفان الحليفان عليهم عيينة بن حصن ومالك بن عوف جاءوا لينصروا أهل خيبر، فألقى الله في قلوبهم الرعب فانهزموا‏.‏

‏{‏وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤمِنِينَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ليكون كف أيديهم عنكم آية للمؤمنين‏.‏

الثاني‏:‏ ليكون فتح خيبر آية أي علامة لصدق الله تعالى في وعده وصدق رسوله في خبره‏.‏ قيل لتكون البيعة آية لهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أحَاطَ اللَّهُ بِهَا‏}‏ فيها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ هي أرض فارس والروم وجميع ما فتحه المسلمون، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ هي مكة، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ هي أرض خيبر، قاله الضحاك‏.‏

في قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ قدر الله عليها، قاله ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ حفظها عليكم ليكون فتحها لكم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً‏}‏ يعني طريقة الله وعادته السالفة نصر رسله وأوليائه على أعدائه‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ولن تتغير سنة الله وعادته في نصرك على أعدائك وأعدائه‏.‏

الثاني‏:‏ لن تجد لعادة الله في نصر رسله مانعاً من الظفر بأعدائه وهو محتمل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ كف أيديهم عنكم بالرعب وأيديكم عنهم بالنهي‏.‏

الثاني‏:‏ كف أيديهم عنكم بالخذلان، وأيديكم عنهم بالاستبقاء لعلمه بحال من يسلم منهم‏.‏

الثالث‏:‏ كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم بالصلح عام الحديبية‏.‏

‏{‏بِبَطْنِ مَكَّةَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يريد به مكة‏.‏

الثاني‏:‏ يريد به الحديبية لأن بعضها مضاف إلى الحرام‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيهِمْ‏}‏ ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أظفركم عليهم بفتح مكة وتكون هذه نزلت بعد فتح مكة، وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحاً لقوله ‏{‏كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنهُم‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ أظفركم عليهم بقضاء العمرة التي صدوكم عنها‏.‏

الثالث‏:‏ أظفركم عليهم بما روي ثابت عن أنس أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه من قبل التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوا من ظفروا به، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقهم، فأنزل الله هذه الآية، فكان هذا هو الظفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏25‏)‏ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ يعني قريشاً‏.‏

‏{‏وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ يعني منعوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صلى الله علي وسلم مع أصحابه بعمرة‏.‏

‏{‏وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ محبوساً‏.‏

الثاني‏:‏ واقفاً‏.‏

الثالث‏:‏ مجموعاً، قاله أبو عمرو بن العلاء‏.‏

‏{‏أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ منحره، قاله الفراء‏.‏

الثاني‏:‏ الحرم، قال الشافعي، والمحِل بكسر الحاء هو غاية الشيء، وبالفتح هو الموضع الذي يحله الناس، وكان الهدي سبعين بدنة‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمْوهُمْ‏}‏ أي لم تعلموا إيمانهم‏.‏

‏{‏أَن تَطَئُوهُمْ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن تطئوهم بخيلكم وأرجلكم فتقتلوهم، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم يعلموهم أن يطئوا آباءهم فيهلك أبناؤهم، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ‏}‏ فيها ستة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ الإثم، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ غرم الدية، قاله ابن إسحاق‏.‏

الثالث‏:‏ كفارة قتل الخطأ، قاله الكلبي‏.‏

الرابع‏:‏ الشدة، قاله قطرب‏.‏

الخامس‏:‏ العيب‏.‏

السادس‏:‏ الغم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَوْ تَزَيَّلُواْ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لو تميزوا، قاله ابن قتيبة‏.‏

الثاني‏:‏ لو تفرقوا، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ لو أزيلوا، قاله الضحاك حتى لا يختلط بمشركي مكة مسلم‏.‏

‏{‏لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً ألِيماً‏}‏ وهو القتل بالسيف لكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ‏}‏ يعني قريشاً‏.‏ وفي حمية الجاهلية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ العصبية لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، والأنفة من أن يعبدوا غيرها، قاله ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ أنفتهم من الإقرار له بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم على عادته في الفاتحة، ومنعهم له من دخول مكة، قال الزهري‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ هو الاقتداء بآبائهم، وألا يخالفوا لهم عادة، ولا يلتزموا لغيرهم طاعة كما أخبر الله عنهم ‏{‏إِنَّا وَجَدْنَا أَبَاءنا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 23‏]‏‏.‏

‏{‏فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤمِنِينَ‏}‏ يعني الصبر الذي صبروا والإجابة إلى ما سألوا، والصلح الذي عقدوه حتى عاد إليهم في مثل ذلك الشهر من السنة الثانية قاضياً لعمرته ظافراً بطلبته‏.‏

‏{‏وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى‏}‏ فيها أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ قول لا إله إلا الله، قاله ابن عباس، وهو يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثاني‏:‏ الإخلاص، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ قول بسم الله الرحمن الرحيم، قاله الزهري‏.‏

الرابع‏:‏ قولهم سمعنا وأطعنا بعد خوضهم‏.‏ وسميت كلمة التقوى لأنهم يتقون بها غضب الله‏.‏

‏{‏وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ وكانوا أحق بكلمة التقوى أن يقولوها‏.‏

الثاني‏:‏ وكانوا أحق بمكة أن يدخلوها‏.‏

وفي من كان أحق بكلمة التقوى قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أهل مكة كانوا أحق بكلمة التقوى أن يقولوها لتقدم إنذارهم لولا ما سلبوه من التوفيق‏.‏

الثاني‏:‏ أهل المدينة أحق بكلمة التقوى حين قالوها، لتقدم إيمانهم حين صحبهم التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ‏(‏27‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ ءَامِنينَ مُحَلِّقينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ‏}‏ قال قتادة‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى في المنام، أنه يدخل مكة على هذه الصفة، فلما صالح قريشاً بالحديبية، ارتاب المنافقون، حتى قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فَمَا رَأَيْتُ فِي هذَا العَامِ»

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ علم أن بمكة رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم؛ الآية‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش بالحديبية، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ فتح مكة، قاله ابن زيد والضحاك‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه خارج مخرج الشرط والاستثناء‏.‏

الثاني‏:‏ أنه ليس بشرط وإنما خرج مخرج الحكاية على عادة أهل الدين، ومعناه لتدخلونه بمشيئة الله‏.‏

الثالث‏:‏ إن شاء الله في دخول جميعكم أو بعضكم، ولأنه علم أن بعضهم يموت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ‏}‏ فيه ستة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه ثرى الأرض وندى الطهور، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ أنها صلاتهم تبدوا في وجوههم، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنه السمت، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ الخشوع، قاله مجاهد‏.‏

الخامس‏:‏ هو أن يسهر الليل فيصبح مصفراً، قاله الضحاك‏.‏

السادس‏:‏ هو نور يظهر على وجوههم يوم القيامة، قاله عطية العوفي‏.‏

‏{‏ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطَأَهُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن مثلهم في التوراة بأن سيماهم في وجوههم‏.‏ ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه‏.‏

الثاني‏:‏ أن كلا الأمرين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الشطأ شوك السنبل، والعرب أيضاً تسميه السفا والبهمي، قاله قطرب‏.‏

الثاني‏:‏ أنه السنبل، فيخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان، قاله الكلبي والفراء‏.‏

الثالث‏:‏ أنه فراخه التي تخرج من جوانبه، ومنه شاطئ النهر جانبه، قاله الأخفش‏.‏

‏{‏فَآزَرَهُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ فساواه فصار مثل الأم، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ فعاونه فشد فراخ الزرع أصول النبت وقواها‏.‏

‏{‏فَاسْتَغْلَظَ‏}‏ يعني اجتماع الفراخ مع الأصول‏.‏

‏{‏فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ‏}‏ أي على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقاً له‏.‏

‏{‏يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ‏}‏ يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، لأن ما أعجب المؤمنين من قوتهم كإعجاب الزراع بقوة رزعهم هو الذي غاظ الكفار منهم‏.‏

ووجه ضرب المثل بهذا الزرع الذي أخرج شطأه، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه كان ضعيفاً، فأجابه الواحد بعد الواحد حتى كثر جمعه وقوي أمره، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفاً فيقوى حالا بعد حال يغلظ ساقه وأفراخه فكان هذا من أصح مثل وأوضح بيان، والله أعلم‏.‏

سورة الحجرات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ فيه خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن ناساً كانوا يقولون‏:‏ لو أنزل فيَّ كذا، لو أنزل فيَّ كذا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ معناه ألا يقتاتوا على الله ورسوله، حتى يقضي الله على لسان رسوله، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ أنها نزلت في قوم ضحوا قبل أن يصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح، قاله الحسن‏.‏

الخامس‏:‏ لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر به الله تعالى ورسوله، قال الزجاج‏.‏

وسبب نزولها ما حكاه الضحاك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ أربعة وعشرين رجلاً من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفئوا إلى المدينة فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا‏:‏ من بني عامر فقتلوهما، فجاء بنو سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ إن بيننا وبينك عهداً وقد قتل منا رجلان فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة بعير ونزلت عليه هذه الآية في قتلة الرجلين‏.‏

‏{‏وَاتَّقُواْ اللَّهَ‏}‏ يعني في التقدم المنهي عنه‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ‏}‏ لقولكم ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بفعلكم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوتِ النَّبِّيِ‏}‏ قيل إن رجلين من الصحابة تماريا عنده فارتفعت أصوتهما، فنزلت هذه الآية، فقال أبو بكر رضي الله عنه عند ذلك‏:‏ والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعدها إلا كأخي السرار‏.‏

‏{‏وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الجهر بالصوت‏.‏ روي أن ثابت بن قيس بن شماس قال‏:‏ يا نبي الله والله لقد خشيت أن أكون قد هلكت، نهانا الله عن الجهر بالقول وأنا امرؤ جهير الصوت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يَا ثَابِتَ أَمَأ تَرْضَى أَن تَعِيشَ حَمِيداً وتُقْتَلَ شَهِيداً وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ»‏؟‏ فعاش حميداً وقتل شهيداً يوم مسيلمة‏.‏

الثاني‏:‏ أن النهي عن هذا الجهر هو المنع من دعائه باسمه أو كنيته كما يدعو بعضهم بعضاً بالاسم والكنية، وهو معنى قوله ‏{‏كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ‏}‏، ولكنْ دعاؤه بالنبوة والرسالة كما قال تعالى ‏{‏لاَ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضاً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏‏.‏

‏{‏أن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن معناه فتحبط أعمالكم‏.‏

الثاني‏:‏ لئلا تحبط أعمالكم‏.‏

‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ‏}‏ بحبط أعمالكم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه أخلصها للتقوى، قاله الفراء‏.‏

الثاني‏:‏ معناه اختصها للتقوى، قاله الأخفش‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ‏}‏ الآية‏.‏ اختلف في سبب نزولها، فروى معمر عن قتادة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فناداه من وراء الحجرة‏:‏ يا محمد، إن مدحي زين وشتمي شين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «وَيْلُكَ ذَاكَ اللَّهُ، ذَاكَ اللَّهُ» فأنزل الله هذه الآية، فهذا قول‏.‏ وروى زيد بن أرقم قال‏:‏ أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس باتباعه وإن يكن ملكاً نعش في جنابه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه، وهو في حجرته يا محمد، فأنزل الله هذه الآية‏.‏ قيل‏:‏ إنهم كانوا من بني تميم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ كانوا تسعة نفر‏:‏ قيس بن عاصم، والزبرقان بن بدر، والأقرع بن حابس، وسويد بن هشام، وخالد بن مالك، وعطاء بن حابس، والقعقاع بن معبد، ووكيع بن وكيع، وعيينة بن حصن‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يعلمون، فعبر عن العلم بالعقل لأنه من نتائجه، قاله ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ لا يعقلون أفعال العقلاء لتهورهم وقلة أناتهم، وهو محتمل‏.‏

والحجرات جمع حجر؛ والحجر جمع حجرة‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لكان أحسن لأدبهم في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثاني‏:‏ لأطلقت أسراهم بغير فداء، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سبى قوماً من بني العنبر، فجاءوا في فداء سبيهم وأسراهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ‏(‏6‏)‏ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ‏(‏7‏)‏ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِق بِنَبَإِ فَتَبَيَّنُواْ‏}‏ الآية‏.‏ نزلت هذه الآية في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وسبب نزولها ما رواه سعيد عن قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد ابن عقبة مصدقاً لبني المصطلق، فلما أبصروه أقبلوا نحوه، فهابهم فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يثبت ولا يعجل، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالداً أنهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا، أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه، فعادوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فنزلت هذه الآية‏.‏ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «التأني من الله والعجلة من الشيطان» وفي هذه الآية دليل على أن خبر الواحد مقبول إذا كان عدلاً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمْرِ لَعَنِتَّمُ‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ لأثمتم، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ لاتهمتم، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ لغويتم‏.‏

الرابع‏:‏ لهلكتم‏.‏

الخامس‏:‏ لنالتكم شدة ومشقة‏.‏

قال قتادة‏:‏ هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا، فأنتم والله أسخف رأياً وأطيش عقولا‏.‏

‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ حسنه عندكم، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ قاله الحسن‏.‏ بما وصف من الثواب عليه‏.‏

‏{‏وَزَيَّنَةُ فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بما وعد عليه في الدنيا من النصر وفي الآخرة من الثواب، قاله ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ بالدلالات على صحته‏.‏

‏{‏وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الكذب خاصة، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ كل ما خرج عن الطاعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا‏}‏ اختلف في سبب نزولها على أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ما رواه عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير أن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال بالسعف والنعال ونحوه فنزلت هذه الآية فيهم‏.‏ الثاني‏:‏ ما رواه سعيد عن قتادة أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مدارأة في حق بينهما، فقال أحدهما للآخر‏:‏ لآخذنه عنوة لكثرة عشيرته، وأن الآخر دعاه ليحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه، فلم يزل بهما الأمر حتى تواقعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال، فنزلت فيهم‏.‏

الثالث‏:‏ ما رواه أسباط عن السدي أن رجلاً من الأنصار كانت له امرأة تدعى أم زيد وأن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها، وأن المرأة بعثت إلى أهلها، فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها، فخرج الرجل فاستعان أهله، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال، فنزلت هذه الآية فيهم‏.‏

الرابع‏:‏ ما حكاه الكلبي ومقاتل والفراء أنها نزلت في رهط عبد الله بن أبي بن سلول من الخزرج ورهط عبد الله بن رواحة من الأوس، وسببه أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمار له على عبد الله بن أبي، وهو في مجلس قومه، فراث حمار النبي صلى الله عليه وسلم، فأمسك عبد الله أنفه وقال‏:‏ إليك حمارك، فغضب عبد الله بن رواحة، وقال‏:‏ أتقول هذا لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله هو أطيب ريحاً منك ومن أبيك، فغضب قومه، وأعان ابن رواحة قومه حتى اقتتلوا بالأيدي والنعال فنزلت هذه الآية فيهم، فأصلح رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم‏.‏

‏{‏فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى‏}‏ البغي التعدي بالقوة إلى طلب ما ليس بمستحق‏.‏

‏{‏فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تبغي في التعدي في القتال‏.‏

الثاني‏:‏ في العدول عن الصلح، قاله الفراء‏.‏

‏{‏حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ترجع إلى الصلح الذي أمر الله به، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ ترجع إلى كتاب الله وسنة رسوله فيما لهم وعليهم، قاله قتادة‏.‏

‏{‏فَإِن فَآءَتْ‏}‏ أي رجعت‏.‏

‏{‏فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني بالحق‏.‏

الثاني‏:‏ بكتاب الله، قاله سعيد بن جبير‏.‏

‏{‏وَأَقْسِطُواْ‏}‏ معناه واعدلوا‏.‏

ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ اعدلوا في ترك الهوى والممايلة‏.‏

الثاني‏:‏ في ترك العقوبة والمؤاخذة‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏}‏ أي العادلين قال أبو مالك‏:‏ في القول والفعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مَِّن قَوْمٍ‏}‏ الآية‏.‏ أما القوم فهم الرجال خاصة، لذلك ذكر بعدهم النساء‏.‏ ويسمى الرجال قوماً لقيام بعضهم مع بعض في الأمور، ولأنهم يقومون بالأمور دون النساء، ومنه قول الشاعر‏:‏

وما أدري وسوف إخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء

وفي هذه السخرية المنهي عنها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه استهزاء الغني بالفقير إذا سأله، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه استهزاء المسلم بمن أعلن فسقه، قاله ابن زيد‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أنه استهزاء الدهاة بأهل السلامة‏.‏

‏{‏عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ‏}‏ عند الله تعالى‏.‏ ويحتمل‏:‏ خيراً منهم معتقداً وأسلم باطناً‏.‏ ‏{‏وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرُا مِّنْهُنَّ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ولا تلمزوا أهل دينكم‏.‏

الثاني‏:‏ لا تلمزوا بعضكم بعضاً‏:‏ واللمز‏:‏ العيب‏.‏

وفي المراد به هنا ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لا يطعن بعضكم على بعض، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد ابن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ لا تختالوا فيخون بعضكم بعضاً، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ لا يلعن بعضكم بعضاً، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ‏}‏ في النبز وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه اللقب الثابت، قاله المبرد‏.‏

الثاني‏:‏ أن النبز القول القبيح، وفيه هنا أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه وضع اللقب المكروه على الرجل ودعاؤه به‏.‏ قال الشعبي‏:‏ روي أن وفد بني سليم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وللرجل منهم اسمان وثلاثة فكان يدعوا الرجل بالاسم فيقال إنه يكره هذا، فنزلت هذه الآية‏.‏

الثاني‏:‏ أنه تسمية الرجل بالأعمال السيئة بعد الإسلام‏.‏‏.‏‏.‏ يا فاسق‏.‏‏.‏‏.‏ يا سارق، يا زاني، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه يعيره بعد الإسلام بما سلف من شركه، قاله عكرمة‏.‏

الرابع‏:‏ أن يسميه بعد الإسلام باسم دينه قبل الإسلام، لمن أسلم من اليهود‏.‏‏.‏‏.‏ يا يهودي، ومن النصارى‏.‏‏.‏‏.‏ يا نصراني، قاله ابن عباس، والحسن‏.‏ فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم عدداً من أصحابه بأوصاف فصارت لهم من أجمل الألقاب‏.‏

واختلف في من نزلت فيه هذه الآية على أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شمسان وكان في أذنه ثقل فكان يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يسمع حديثه، فجاء ذات يوم وقد أخذ الناس مجالسهم فقال‏:‏ «تَفَسَّحُواْ» ففعلوا إلا رجلاً كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يفسح وقال‏:‏ «قَدْ أَصَبْتَ مَوْضِعاً» فنبذه ثابت، بلقب كان لأمه مكروهاً، فنزلت، قاله الكلبي والفراء‏.‏

الثاني‏:‏ أنا نزلت في كعب بن مالك الأنصاري، وكان على المغنم فقال لعبد الله بن أبي حدرد‏:‏ يا أعرابي، فقال له عبد الله‏:‏ يا يهودي، فتشاكيا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت فيهما، حكاه مقاتل‏.‏

الثالث‏:‏ أنها نزلت في الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات عند استهزائهم بمن مع رسول الله من الفقراء والموالي فنزل ذلك فيهم‏.‏

الرابع‏:‏ أنا نزلت في عائشة وقد عابت أم سلمة‏.‏

واختلفوا في الذي عابتها به فقال مقاتل‏:‏ عابتها بالقصر، وقال غيره‏:‏ عابتها بلباس تشهرت به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ‏}‏ يعني ظن السوء‏.‏ بالمسلم توهماً من غير تعلمه يقيناً‏.‏

‏{‏إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني ظن السوء‏.‏

الثاني‏:‏ أن يتكلم بما ظنه فيكون إثماً، فإن لم يتكلم به لم يكن إثماً، قاله مقاتل بن حيان‏.‏

‏{‏وَلاَ تَجَسَّسُوا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ هو أن يتبع عثرات المؤمن، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ هو البحث عم خفي حتى يظهر، قاله الأوزاعي‏.‏

وفي التجسس والتحسس وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن معناهما واحد، قاله ابن عباس وقرأ الحسن بالحاء‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

تجنبت سعدى أن تشيد بذكرها *** إذا زرت سعدى الكاشح المتحسس

وقال أبو عمرو الشيباني‏:‏ الجاسوس‏:‏ صاحب سر الشر، والناموس صاحب سر الخير‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أنهما مختلفان‏.‏ وفي الفرق بينهما وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن التجسس بالجيم هو البحث، ومنه قيل رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور وبالحاء هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه‏.‏

الثاني‏:‏ أنه بالحاء أن يطلبه لنفسه وبالجيم أن يكون رسولاً لغيره‏.‏ والتجسس أن يجس الأخبار لنفسه ولغيره‏.‏

‏{‏وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً‏}‏ والغيبة‏:‏ ذكر العيب بظهر الغيب، قال الحسن‏:‏ الغيبة ثلاثة كلها في كتاب الله‏:‏ الغيبة والإفك والبهتان، فأما الغيبة، فأن تقول في أخيك ما هو فيه‏.‏ وإما الإفك، فأن تقول فيه ما بلغك عنه‏.‏ وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه‏.‏

وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة قال‏:‏ «هُوَ أَن تَقُولَ لأَخِيكَ مَا فِيهِ فَإِن كُنتَ صَادِقَاً فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِن كُنتَ كَاذِباً فَقَدْ بَهَّتَّهُ»‏.‏

‏{‏أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي كما يحرم أكل لحمه ميتاً يحرم غيبته حياً‏.‏

الثاني‏:‏ كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً كذلك يجب أن يمتنع عن غيبته حياً، قاله قتادة‏.‏ واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لأن عادة العرب بذلك جارية قال الشاعر‏:‏

فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم *** وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

‏{‏فَكَرِهْتُمُوهُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فكرهتم أكل الميتة، كذلك فاكرهوا الغيبة‏.‏

الثاني‏:‏ فكرهتم أن يعلم بكم الناس فاكرهوا غيبة الناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى‏}‏ قصد بهذه الآية‏.‏ النهي عن التفاخر بالأنساب، وبين التساوي فيها بأن خلقهم من ذكر وأنثى يعني آدم وحواء‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَرَفُواْ‏}‏ فبين أن الشعوب والقبائل للتعارف لا للافتخار، وفيها ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الشعوب النسب الأبعد والقبائل النسب الأقرب، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

قبائل من شعوب ليس فيهم *** كريم قد يعد ولا نجيب

وسموا شعوباً لأن القبائل تشعبت منها‏.‏

الثاني‏:‏ أن الشعوب عرب اليمن من قحطان، والقبيلة ربيعة ومضر وسائر عدنان‏.‏

الثالث‏:‏ أن الشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أن الشعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب، والقبائل هم المشتركون في الأنساب، قال الشاعر‏:‏

وتفرقوا شعباً فكل جزيرة *** فيها أمير المؤمنين ومنبر

والشعوب جمع شَعب بفتح الشين، والشِّعب بكسر الشين هو الطريق وجمعه شعاب، فكان اختلاف الجمعين مع اتفاق اللفظين تنبيهاً على اختلاف المعنيين‏.‏

‏{‏إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم‏}‏ إن أفضلكم، والكرم بالعمل والتقوى لا بالنسب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 18‏]‏

‏{‏قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏(‏15‏)‏ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏16‏)‏ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَالَتِ الأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم أقروا ولم يعملوا، فالإسلام قول والإيمان عمل، قاله الزهري‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا فأعلمهم أن اسمهم أعراب، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم مَنُّوا على رسول الله صلى الله بإسلامهم فقالوا أسلمنا، لم نقاتلك، فقال الله تعالى لنبيه‏:‏ قل لهم‏:‏ لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا خوف السيف، قاله قتادة‏.‏ لأناهم آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم، فلم يكونوا مؤمنين، وتركوا القتال فصاروا مستسلمين لا مسلمين، فيكون مأخوذاً من الاستسلام لا من الإسلام كما قال الشاعر‏:‏

طال النهار على من لا لقاح له *** إلا الهدية أو ترك بإسلام

ويكون الإسلام والإيمان في حكم الدين على هذا التأويل واحداً وهو مذهب الفقهاء، لأن كل واحد منهما تصديق وعمل‏.‏

وإنما يختلفان من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ من أصل الاسمين لأن الإيمان مشتق من الأمن، والإسلام مشتق من السلم‏.‏

الثاني‏:‏ أن الإسلام علم لدين محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان لجميع الأديان، ولذلك امتنع اليهود والنصارى أن يتسموا بالمسلمين، ولم يمتنعوا أن يتسموا بالمؤمنين‏.‏ قال الفراء‏:‏ ونزلت هذه الآية في أعراب بني أسد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيئاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يمنعكم من ثواب عملكم شيئاً، قال رؤبة‏:‏

وليلة ذات سرى سريت *** ولم يلتني عن سراها ليت

أي لم يمنعني عن سراها‏.‏

الثاني‏:‏ ولا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً، قال الحطيئة‏:‏

أبلغ سراة بني سعد مغلغلة *** جهد الرسالة لا ألتاً ولا كذباً

أي لا نقصاً ولا كذباً‏.‏

وفيه قراءتان‏:‏ ‏{‏يَلِتْكم‏}‏ و‏{‏يألتكم‏}‏ وفيها وجهان‏:‏

أحدها‏:‏ ‏[‏أنهما‏]‏ لغتان معناهما واحد‏.‏

الثاني‏:‏ يألتكم أكثر وأبلغ من يلتكم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُم‏}‏ الآية‏.‏ هؤلاء أعراب حول المدينة أظهروا الإسلام خوفاً، وأبطنوا الشرك اعتقاداً فأظهر الله ما أبطنوه وكشف ما كتموه، ودلهم بعلمه بما في السموات والأرض علم علمه بما اعتقدوه، وكانوا قد منوا بإسلامهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا فضلنا على غيرنا بإسلامنا طوعاً‏.‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُونُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ‏}‏ وهذا صحيح لأنه إن كان إسلامهم حقاً فهو لخلاص أنفسهم فلا مِنَّةَ فيه لهم، وإن كان نفاقاً فهو للدفع عنهم، فالمنة فيه عليهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏بِلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أن هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الله أحق أن يمن عليكم أن هداكم للإيمان حتى آمنتم‏.‏ وتكون المنة هي التحمد بالنعمة‏.‏

الثاني‏:‏ أن الله تعالى ينعم عليكم بهدايته لكم، وتكون المنة هي النعمة‏.‏ وقد يعبر بالمنة عن النعمة تارة وعن التحمد بها أخرى‏.‏

‏{‏إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ يعني فيما قلتم من الإيمان‏.‏

سورة ق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ ‏(‏1‏)‏ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏2‏)‏ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ‏(‏3‏)‏ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ‏(‏4‏)‏ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ق‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم بها، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أن معناه قضى والله، كما قيل في حم‏:‏ حم والله، وهذا معنى قول مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ أنه اسم الجبل المحيط بالدنيا، قاله الضحاك‏.‏

قال مقاتل‏:‏ وعروق الجبال كلها منه‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ أن يكون معناه قف؛ كما قال الشاعر‏:‏

قلت لها قفي فقالت قاف ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

أي وقفت‏.‏ ويحتمل ما أريد بوقفه عليه وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ قف على إبلاغ الرسالة لئلا تضجر بالتكذيب‏.‏

الثاني‏:‏ قف على العمل بما يوحى إليك لئلا تعجل على ما لم تؤمر به‏.‏

‏{‏وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الكريم، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنه مأخوذ من كثرة القدرة والمنزلة، لا من كثرة العدد من قولهم فلان كثير في النفوس، ومنه قول العرب في المثل السائر‏:‏ لها في كل الشجر نار، واستجمد المرخ والعفار، أي استكثر هذان النوعان من النار وزاد على سائر الشجر، قاله ابن بحر‏.‏

الثالث‏:‏ أنه العظيم، مأخوذ من قولهم قد مجدت الإبل إذا أعظمت بطونها من كلأ الربيع‏.‏ ‏{‏والْقُرْءَانِ المَجِيدِ‏}‏ قسم أقسم الله به تشريفاً له وتعظيماً لخطره لأن عادة جارية في القسم ألا يكون إلا بالمعظم‏.‏ وجواب القسم محذوف ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ هو أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنهُمْ‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ أنكم مبعوثون بدليل قوله‏:‏ ‏{‏إِئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنهُمْ‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيءٌ عَجِيبٌ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم عجبوا أن دعوا إلى إله واحد، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ عجبوا أن جاءهم منذر منهم، من قبل الله تعالى‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم عجبوا من إنذارهم بالبعث والنشور‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَدْ عَلمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ من يموت منهم، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ يعني ما تأكله الأرض من لحومهم وتبليه من عظامهم، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ‏}‏ يعني اللوح المحفوظ‏.‏ وفي حفيظ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ حفيظ لأعمالهم‏.‏

الثاني‏:‏ لما يأكله التراب من لحومهم وأبدانهم وهو الذي تنقصه الأرض منهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ الحق يعني القرآن في قول الجميع‏.‏

‏{‏مَرِيجٍ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن المريج المختلط‏.‏ قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ المختلف، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ الملتبس، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ الفاسد، قاله أبو هريرة‏.‏ ومنه قول أبي دؤاد‏:‏

مرج الدين فأعددت له *** مشرف الحارك محبوك الكتد

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 11‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ‏(‏6‏)‏ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ‏(‏7‏)‏ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ‏(‏8‏)‏ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ‏(‏9‏)‏ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ‏(‏10‏)‏ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ من شقوق‏.‏

الثاني‏:‏ من فتوق، قاله ابن عيسى إلا أن الملك تفتح له أبواب السماء عند العروج‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا‏}‏ أي بسطناها‏.‏

‏{‏وَألْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ‏}‏ يعني الجبال الرواسي الثوابت، واحدها راسية قال الشاعر‏:‏

رسا أصله تحت الثرى وسما به *** إلى النجم فرع لا ينال طويل

‏{‏مِن كُلِّ زَوْجٍ‏}‏ أي من كل نوع‏.‏

‏{‏بَهِيجٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ حسن، مأخوذ من البهجة وهي الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ سارّ مأخوذ من قولهم قد أبهجني هذا الأمر أي سرني، لأن السرور يحدث في الوجه من الإسفار والحمرة ما يصير به حسناً‏.‏ قال الشعبي‏:‏ الناس نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏تَبْصِرَةً‏}‏ فيها ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني بصيرة للإنسان، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ نعماً بصر الله بها عباده، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ يعني دلالة وبرهاناً‏.‏

‏{‏وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن المنيب المخلص، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه التائب إلى ربه، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الراجع المتذكر، قاله ابن بحر‏.‏

وقد عم الله بهذه التبصرة والذكرى وإن خص بالخطاب كل عبد منيب لانتفاعه بها واهتدائه إليها‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مََآءً مُّبَارَكاً‏}‏ يعني المطر، لأنه به يحيا النبات والحيوان‏.‏

‏{‏فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ‏}‏ فيها هنا وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها البساتين، قاله الجمهور‏.‏

الثاني‏:‏ الشجر، قاله ابن بحر‏.‏

‏{‏وَحَبَّ الْحَصِيدِ‏}‏ يعني البر والشعير، وكل ما يحصد من الحبوب، إذا تكامل واستحصد سمي حصيداً، قال الأعشى‏:‏

لسنا كما إياد دارها *** تكريث ينظر حبه أن يحصدا

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالنَّخْلَ بِاسَقَاتٍ‏}‏ فيها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الطوال، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏ قاله الشاعر‏:‏

يا ابن الذين بفضلهم *** بسقت على قيس فزاره

أي طالت عليهم‏.‏

‏(‏الثاني‏)‏ أنها التي قد ثقلت من الحمل، قاله عكرمة‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

فلما تركنا الدار ظلت منيفة *** بقران فيه الباسقات المواقر

‏{‏نَضِيدٌ‏}‏ أي منضود، فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن النضيد المتراكم المتراكب، قاله ابن عباس في رواية عكرمة عنه‏.‏

الثاني‏:‏ أنه المنظوم، وهذا يروى عن ابن عباس أيضاً‏.‏

الثالث‏:‏ أنه القائم المعتدل، قاله ابن الهاد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏رِزْقاً لِلْعِبَادِ‏}‏ يعني ما أنزله من السماء من ماء مبارك، وما أخرجه من الأرض بالماء من نبات وحب الحصيد وطلع نضيد‏.‏

‏{‏وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مِّيتاً كَذِلكَ الْخُرُوجُ‏}‏ جعل هذا كله دليلاً على البعث والنشور من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن النشأة الأولى إذا خلقها من غير أصل كانت النشأة الثانية بإعادة ما له أصل أهون‏.‏

الثاني‏:‏ أنه لما شوهد من قدرته، إعادة ما مات من زرع ونبات كان إعادة من مات من العباد أولى للتكليف الموجب للجزاء‏.‏