فصل: تفسير الآيات رقم (25- 28)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 28‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ‏(‏25‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ‏(‏27‏)‏ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏عالِمُ الغيْب‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ عالم السر، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ ما لم تروه مما غاب عنكم، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ أن الغيب القرآن، قاله ابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ أن الغيب القيامة وما يكون فيها، حكاه ابن أبي حاتم‏.‏

‏{‏فلا يُظْهِرُ على غيْبه أَحَداً، إلا من ارتضى من رسول‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ إلا من ارتضى من رسول الله هو جبريل، قاله ابن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ إلا من ارتضى من نبي فيما يطلعه عليه من غيب، قاله قتادة‏.‏

‏{‏فإنه يَسْلُكُ مِن بَيْن يَدَيْه ومِنْ خَلْفه رَصَداً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الطريق، ويكون معناه فإنه يجعل له إلى علم بعض ما كان قبله وما يكون بعده طريقاً، قاله ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ أن الرصد الملائكة، وفيهم ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم حفظة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من الجن والشياطين من أمامه وورائه، قاله ابن عباس وابن زيد، قال قتادة‏:‏ هم أربعة‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم يحفظون الوحي فما جاء من الله قالوا إنه من عند الله، وما ألقاه الشيطان قالوا إنه من الشيطان، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ يحفظون جبريل إذا نزل بالوحي من السماء أن يسمعه الجن إذا استرقوا السمع ليلقوه إلى كهنتهم قبل أن يبلغه الرسول إلى أمته، قاله الفراء‏.‏

‏{‏ليعْلَمَ أنْ قد أبْلَغوا رسالاتِ ربِّهم‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ليعلم محمد أن قد بلغ جبريل إليه رسالات ربه، قاله ابن جبير، وقال‏:‏ ما نزل جبريل بشيء من الوحي إلا ومعه أربعة من الملائكة‏.‏

الثاني‏:‏ ليعلم محمد أن الرسل قبله قد بلغت رسالات الله وحفظت، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ ليعلم من كذب الرسل أن الرسل قد بلغت عن ربها ما أمرت به، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل الله عليهم، ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم، قاله ابن قتيبة‏.‏

الخامس‏:‏ ليعلم الله أن رسله قد بلغوا عنه رسالاته، لأنبيائه، قاله الزجاج‏.‏

‏{‏وأحاط بما لديهم‏}‏ قال ابن جريج‏:‏ أحاط علماً‏.‏

‏{‏وأحْصى كُلَّ شيءٍ عَدَداً‏}‏ يعني من خلقه الذي يعزب إحصاؤه عن غيره‏.‏

سورة المزمل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ‏(‏1‏)‏ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏2‏)‏ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ‏(‏3‏)‏ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ‏(‏7‏)‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ‏(‏8‏)‏ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها المزمِّلُ‏}‏ قال الأخفش‏:‏ أصله المتزمل فأدغم التاء في الزاي، وكذا المدثر‏.‏

وفي أصل المزمل‏:‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ المحتمل، يقال زمل الشيء إذا حمله، ومنه الزاملة التي تحمل القماش‏.‏

الثاني‏:‏ المزمل هو المتلفف، قال امرؤ القيس‏:‏

كأن ثبيراً في عرائين وبْله *** كبيرُ أناسٍ في بجادٍ مُزَمّلِ‏.‏

وفيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يا أيها المزمل بالنبوة، قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ بالقرآن، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ بثيابه، قاله قتادة‏.‏

قال إبراهيم‏:‏ نزلت عليه وهو في قطيفة‏.‏

‏{‏قُمِ الليلَ إلا قليلاً‏}‏ يعني صلِّ الليل إلا قليلاً، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إلا قليلاً من أعداد الليالي لا تقمها‏.‏

الثاني‏:‏ إلا قليلاً من زمان كل ليلة لا تقمه وقد كان فرضاً عليه‏.‏

وفي فرضه على مَنْ سواه من أُمّته قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ فرض عليه دونهم لتوجه الخطاب إليه، ويشبه أن يكون قول سعيد ابن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ أنه فرض عيله وعليهم فقاموا حتى ورمت أقدامهم، قاله ابن عباس وعائشة‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ كانوا يقومون نحو قيامه في شهر رمضان ثم نسخ فرض قيامه على الأمة، واختلف بماذا نسخ عنهم على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ بالصلوات الخمس وهو قول عائشة‏.‏

الثاني‏:‏ بآخر السورة، قاله ابن عباس‏.‏

واختلفوا من مدة فرضه إلى أن نسخ على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ سنة، قال ابن عباس‏:‏ كان بين أول المزمل وآخرها سنة‏.‏

الثاني‏:‏ ستة عشر شهراً، قالته عائشة، فهذا حكم قيامه في فرضه ونسخه على الأمة‏.‏

فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضاً عليه، وفي نسخه عنه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين‏.‏

الثاني‏:‏ أنها عشر سنين إلى أن خفف عنها بالنسخ زيادة في التكليف لتميزه بفضل الرسالة، قاله سعيد بن جبير‏.‏

قوله «قم الليلَ إلاّ قليلاً» لأن قيام جميعه على الدوام غير ممكن فاستثنى منه القليل لراحة الجسد، والقليل من الشيء ما دون النصف‏.‏

حكي عن وهب بن منبه أنه قال‏:‏ القليل ما دون المعشار والسدس‏.‏

وقال الكلبي ومقاتل‏:‏ القليل الثلث‏.‏

وَحدُّ الليل ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر الثاني‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏نِصْفَهُ أو انقُصْ مِنْهُ قليلاً‏}‏ فكان ذلك تخفيفاً إذا لم يكن زمان القيام محدوداً، فقام الناس حتى ورمت أقدامهم، فروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الليل فقال‏:‏ أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن اللَّه لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل، وخير الأعمال ما ديم عليه‏.‏

ثم نسخ ذلك بقوله تعالى‏:‏ «عَلِم أنْ لن تُحْصوه فتابَ عليكم فاقْرَؤوا ما تيسّر من القرآن»‏.‏

‏{‏أوزِدْ عليه ورَتِّل القرآنَ تَرْتيلاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ بيّن القرآن تبياناً، قاله ابن عباس وزيد بن أسلم‏.‏

الثاني‏:‏ فسّرْه تفسيراً، قاله ابن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ أن تقرأه على نظمه وتواليه، لا تغير لفظاً ولا تقدم مؤخراً مأخوذ من ترتيل الأسنان إذا استوى نبتها وحسن انتظامها، قاله ابن بحر‏.‏

‏{‏إنّا سنُلْقي عليكَ قوْلاً ثَقيلاً‏}‏ وهو القرآن، وفي كونه ثقيلاً أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه إذا أوحي إليه كان ثقيلاً عليه لا يقدر على الحركة حتى ينجلي عنه، وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير‏.‏

الثاني‏:‏ العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه وحلاله وحرامه، قاله الحسن وقتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه في المزان يوم القيامة ثقيل، قاله ابن زبير‏.‏

الرابع‏:‏ ثقل بمعنى كريم، مأخوذ من قولهم‏:‏ فلان ثقيل عليّ أي كريم عليّ، قاله السدي‏.‏

ويحتمل تأويلً خامساً‏:‏ أن يكون ثقيل بمعنى ثابت، لثبوت الثقيل في محله، ويكون معناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً‏.‏

‏{‏إنّ ناشئةَ الليل هي أَشدُّ وطْئاً‏}‏ فيها ستة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه قيام الليل، بالحبشية، قاله ابن مسعود‏.‏

الثاني‏:‏ أنه ما بين المغرب والعشاء، قاله أنس بن مالك‏.‏

الثالث‏:‏ ما بعد العشاء الآخرة، قاله الحسن ومجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ أنها ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة، قاله ابن قتيبة‏.‏

الخامس‏:‏ أنه بدء الليل، قاله عطاء وعكرمة‏.‏

السادس‏:‏ أن الليل كل ناشئة، قال ابن عباس‏:‏ لأنه ينشأ بعد النهار‏.‏

وفي «أشد وطْئاً» خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ مواطأة قلبك وسمعك وبصرك، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ مواطأة قولك لعملك، وهو مأثور‏.‏

الثالث‏:‏ مواطأة عملك لفراغك، وهو محتمل‏.‏

الرابع‏:‏ أشد نشاطاً، قاله الكلبي، لأنه زمان راحتك‏.‏

الخامس‏:‏ قاله عبادة‏:‏ أشد وأثبت وأحفظ للقراءة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وأَقْوَمُ قِيلاً‏}‏ ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ معناه أبلغ في الخير وأمعن في العدل، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أصوب للقراءة وأثبت للقول لأنه زمان التفهم، قاله مجاهد وقتادة، وقرأ أنس بن مالك «وأهيأ قيلاً» وقال أهيأ وأقوم سواء‏.‏

الثالث‏:‏ أنه أعجل إجابة للدعاء، حكاه ابن شجرة‏.‏

‏{‏إن لك في النهارِ سَبْحاً طويلاً‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني فراغاً طوياً لنَومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك، قاله ابن عباس وعطاء‏.‏

الثاني‏:‏ دعاء كثيراً، قاله السدي وابن زيد والسبح بكلامهم هو الذهاب، ومنه سبح السابح في الماء‏.‏

‏{‏واذكر اسم ربك‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ اقصد بعملك وجه ربك‏.‏

الثاني‏:‏ أنه إذا أردت القراءة فابدأ بسم الله الرحمن الرحيم، قاله ابن بحر‏.‏ ويحتمل وجهاً ثالثاً‏:‏ واذكر اسم ربك في وعده ووعيده لتتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته‏.‏

‏{‏وتَبتَّلْ إليه تَبْتِيلاً‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أخلص إليه إخلاصاً، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ تعبد له تعبداً، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ انقطع إليه انقطاعاً، قاله أبو جعفر الطبري، ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى، وجاء في الحديث النهي عن التبتل الذي هو الانقطاع عن الناس والجماعات‏.‏

الرابع‏:‏ وتضرّع إليه تضرّعاً‏.‏

‏{‏ربُّ المشْرِقِ والمْغرِبِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ رب العالَمِ بما فيه لأنهم بين المشرق والمغرب، قاله ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ يعني مشرق الشمس ومغربها‏.‏

وفي المراد بالمشرق والمغرب ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه استواء الليل والنهار، قاله وهب بن منبه‏.‏

الثاني‏:‏ أنه دجنة الليل ووجه النهار، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه أول النهار وآخره، لأن نصف النهار أوله فأضيف إلى المشرق، ونصفه آخره فأضيف إلى المغرب‏.‏

‏{‏فاتّخِذْهُ وَكيلاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ مُعيناً‏.‏

الثاني‏:‏ كفيلاً‏.‏

الثالث‏:‏ حافظاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 18‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ‏(‏10‏)‏ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ‏(‏11‏)‏ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا ‏(‏12‏)‏ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏13‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا ‏(‏14‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ‏(‏16‏)‏ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ‏(‏17‏)‏ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏واهْجُرهم هَجْراً جَميلاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ اصفح عنهم وقل سلام، قاله ابن جريج‏.‏

الثاني‏:‏ أن يعرض عن سفههم ويريهم صغر عداوتهم‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الهجر الخالي من ذم وإساءة‏.‏

وهذا الهجر الجميل قبل الإذن في السيف‏.‏

‏{‏وذَرْني والمُكَذِّبينَ أُولي النّعْمةِ‏}‏ قال يحيى بن سلام‏:‏

بلغني أنهم بنو المغيرة، وقال سعيد بن جبير‏:‏ أُخبرت أنهم اثنا عشر رجلاً من قريش‏.‏

ويحتمل قوله تعالى‏:‏ «أولي النّعْمةِ» ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه قال تعريفاً لهم إن المبالغين في التكذيب هم أولي النعمة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قال ذلك تعليلاً، أي الذين أطغى هم أولوا النعمة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه قال توبيخاًً أنهم كذبوا ولم يشكروا من أولاهم النعمة‏.‏

‏{‏ومهِّلْهم قليلاً‏}‏ قال ابن جريج‏:‏ إلى السيف‏.‏

‏{‏إنّ لدينا أنْكالاً وجَحيماً‏}‏ في «أنكالاً» ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أغلالاً، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ أنها القيود، قاله الأخفش وقطرب، قالت الخنساء‏:‏

دَعاك فَقَطّعْتَ أنكاله *** وقد كُنّ قبْلك لا تقطع‏.‏

الثالث‏:‏ أنها أنواع العذاب الشديد، قاله مقاتل، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إن الله تعالى يحب النكل على النكل، قيل‏:‏ وما النكل‏؟‏ قال‏:‏ الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب» ومن ذلك سمي القيد نكلاً لقوته، وكذلك الغل، وكل عذاب قوي واشتد‏.‏

‏{‏وطعاماً ذا غُصَّةٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولايخرج، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنها شجرة الزقوم، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏وكانت الجبالُ كَثيباً مَهيلاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ رملاً سائلاً، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أن المهيل الذي إذا وطئه القدم زل من تحتها وإذا أخذت أسفله انهال أعلاه، قاله الضحاك والكلبي‏.‏

‏{‏فأخَذْناه أَخْذاً وبيلاً‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدهما‏:‏ شديداً، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ متتابعاً، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ ثقيلاً غليظاً، ومنه قيل للمطر العظيم وابل، قاله الزجاج‏.‏

الرابع‏:‏ مهلكاً، ومنه قول الشاعر‏:‏

أكْلتِ بَنيكِ أَكْلَ الضّبِّ حتى *** وَجْدتِ مرارةَ ‏[‏الكلإ الوبيل‏]‏‏.‏

‏{‏فكيف تتّقونَ‏}‏ يعني يوم القيامة‏.‏

‏{‏إن كفَرتم يوماً يجْعَل الولدان شيباً‏}‏ الشيب‏:‏ جمع أشيب، والأشيب والأشمط الذي اختلط سواد شعره ببياضه، وهو الحين الذي يقلع فيه ذو التصابي عن لهوه، قال الشاعر‏:‏

طرْبتَ وما بك ما يُطرِب *** وهل يلعب الرجلُ الأَشْيَبُ

وإنما شاب الولدان في يوم القيامة من هوْله‏.‏

‏{‏السماءُ مُنفطرٌ به‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ممتلئة به، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ مثقلة، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ مخزونة به، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ منشقة من عظمته وشدته، قاله ابن زيد‏.‏

‏{‏وكانَ وعْدُه مَفْعولاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ وعده بأن السماء منفطر به، وكون الجبال كثيباً مهيلاً، وأن يجعل الولدان شيباً، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ وعده بأن يظهر دينه على الدين كله، قاله مقاتل‏.‏

الثالث‏:‏ وعده بما بشّر وأنذر من ثوابه وعقابه‏.‏

وفي المعنى المكنى عنه في قوله «به» وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن السماء منفطرة باليوم الذي يجعل الولدان شيباً، فيكون اليوم قد جعل الولدان شيباً، وجعل السماء منفطرة ويكون انفطارها للفناء‏.‏

الثاني‏:‏ معناه أن السماء منفطرة بما ينزل منها بأن يوم القيامة يجعل الولدان شيباً، ويكون انفطارها بانفتاحها لنزول هذا القضاء منها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏19‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ واللَّهُ يُقدِّرُ الليلَ والنهارَ‏}‏ يعني يقدر ساعتهما، فاحتمل ذلك وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ تقديرهما لأعمال عباده‏.‏

الثاني‏:‏ لقضائه في خلْقه‏.‏

‏{‏عَلِمَ أن لن تُحْصُوهُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لن تطيقوا قيام الليل، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ يريد تقدير نصف الليل وثلثه وربعه، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏فتابَ عليكم‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ فتاب عليكم من تقصيركم فيما مضى، فاقرؤوا في المستبقل ما تيسر‏.‏

الثاني‏:‏ فخفف عنكم‏.‏

‏{‏فاقْرءُوا ما تيسّر مِنَ القُرآنِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فصلّوا ما تيسّر من الصلاة، فعبر عن الصلاة بالقرآن لما يتضمنها من القرآن‏.‏

فعلى هذا يحتمل في المراد بما تيسر من الصلاة وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يتطوع به من نوافله لأن الفرض المقدر لا يؤمر فيه بما تيسر‏.‏

الثاني‏:‏ أنه محمول على فروض الصلوات الخمس لانتقال الناس من قيام الليل إليها، ويكون قوله «ما تيسر» محمولاً على صفة الأداء في القوة والضعف، والصحة والمرض، ولا يكون محمولاً على العدد المقدر شرعاً‏.‏

الثاني‏:‏ أن المراد بذلك قراءة ما تيسر من القرآن حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ‏.‏

فعلى هذا فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المراد به قراءة القرآن في الصلاة فيكون الأمر به واجباً لوجوب القراءة في الصلاة‏.‏

واختلف في قدر ما يلزمه أن يقرأ به من الصلاة، فقدره مالك والشافعي بفاتحة الكتاب، لا يجوز العدول عنها ولا الاقتصار على بعضها، وقدرها أبو حنيفة بآية واحدة من أيّ القرآن كانت‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن المراد به قراءة القرآن من غير الصلاة، فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولاً على الوجوب أو على الاستحباب‏؟‏ على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه محمول على الوجوب ليقف بقراءته على إعجازه، ودلائل التوحيد فيه وبعث الرسل، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه، لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه محمول على الاستحباب دون الوجوب، وهذا قول الأكثرين لأنه لو وجب عليه أن يقرأه وجب عليه أن يحفظه‏.‏ وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ جميع القرآن، لأن اللَّه تعالى قد يسره على عباده، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ ثلث القرآن، حكاه جويبر‏.‏

الثالث‏:‏ مائتا آية، قاله السدي‏.‏

الرابع‏:‏ مائة آية، قاله ابن عباس‏.‏

الخامس‏:‏ ثلاث آيات كأقصر سورة، قاله أبو خالد الكناني‏.‏

‏{‏عَلِم أنْ سيكونُ منكم مَّرْضَى‏}‏ ذكر الله أسباب التخفيف، فذكر منها المرض لأنه يُعجز‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وآخرون يَضْرِبون في الأرض‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم المسافرون، كما قال عز وجلّ‏:‏ ‏{‏وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ أنه التقلُّب للتجارة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يبتغونَ من فضلِ اللَّه‏}‏، قاله ابن مسعود يرفعه، وهو قول السدي‏.‏

‏{‏وآخَرونَ يُقاتِلون في سبيل اللَّهِ‏}‏ يعني في طاعته، وهم المجاهدون‏.‏

‏{‏فاقْرؤوا ما تيسّر منه‏}‏ نسخ ما فرضه في أول السورة من قيام الليل وجعل ما تيسر منه تطوعاً ونفلاً، لأن الفرض لا يؤمر فيه بفعل ما تيسر منه‏.‏

وقد ذكرنا في أول السورة الأقاويل في مدة الفرض‏.‏

‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ يعني المفروضة، وهي الخمس لوقتها‏.‏

‏{‏وآتُوا الزكاةَ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها ها هنا طاعة اللَّه والإخلاص له، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنها صدقة الفطر، قاله الحارث العكلي‏.‏

الثالث‏:‏ أنها زكاة الأموال كلها، قاله قتادة وعكرمة‏.‏

‏{‏وأقْرِضوا اللَّه قَرْضاً حَسَناً‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه النوافل بعد الفروض، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، قاله ابن حبان‏.‏

الثالث‏:‏ النفقة على الأهل، قاله زيد بن أسلم‏.‏

الرابع‏:‏ النفقة من سبيل الله، وهذا قول عمر رضي الله عنه‏.‏

الخامس‏:‏ أنه أمر بفعل جميع الطاعات التي يستحق عليها الثواب‏.‏

‏{‏تجدُوه عِندَ اللهِ‏}‏ يعني تجدوا ثوابه عند الله ‏{‏هو خيراً‏}‏ يعني مما أعطيتم وفعلتم‏.‏

‏{‏وأعظم أجرا‏}‏ قال أبو هريرة‏:‏ الجنة‏.‏

ويحتمل أن يكون «أعظم أجرا» الإعطاء بالحسنة عشراً‏.‏

‏{‏واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ‏}‏ يعني من ذنوبكم‏.‏

‏{‏إنّ اللَّه غَفورٌ‏}‏ لما كان قبل التوبة‏.‏

‏{‏رحيمُ‏}‏ بكم بعدها، قاله سعيد بن جبير‏.‏

سورة المدثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ‏(‏1‏)‏ قُمْ فَأَنْذِرْ ‏(‏2‏)‏ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ‏(‏3‏)‏ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ‏(‏4‏)‏ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ‏(‏5‏)‏ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ‏(‏6‏)‏ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ‏(‏8‏)‏ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ‏(‏9‏)‏ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها المدَّثِّر‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يا أيها المدثر بثيابه، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ بالنبوة وأثقالها، قاله عكرمة‏.‏

‏{‏قم‏}‏ من نومك ‏{‏فأنذر‏}‏ قومك عذاب ربك‏.‏

ويحتمل وجهاً ثالثاً‏:‏ يا أيها الكاتم لنبوته اجهر بإنذارك‏.‏

ويحتمل هذا الإنذار وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ إعلامهم بنبوته لأنه مقدمة الرسالة‏.‏

الثاني‏:‏ دعاؤهم إلى التوحيد لأنه المقصود بها‏.‏

قال ابن عباس وجابر هي أول سورة نزلت‏.‏

‏{‏وثيابَك فَطِّهرْ‏}‏ فيه خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن المراد بالثياب العمل‏.‏

الثاني‏:‏ القلب‏.‏

الثالث‏:‏ النفْس‏.‏

الرابع‏:‏ النساء والزوجات‏.‏

الخامس‏:‏ الثياب الملبوسات على الظاهر‏.‏

فمن ذهب على أن المراد بها العمل قال تأويل الآية‏:‏ وعملك فأصلح، قاله مجاهد، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

«يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات فيها» يعني عمله الصالح والطالح‏.‏

ومن ذهب إلى أن المراد بالثياب القلب فالشاهد عليه قول امرئ القيس‏:‏

وإن تك قد ساءتك مني خليقةٌ *** فسلّي ثيابي من ثيابكِ تنسلِ

ولهم في تأويل الآية وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي، قاله ابن عباس وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ وقلبك فطهر من الغدر وهذا مروي عن ابن عباس، واستشهد بقول الشاعر‏:‏

فإني بحْمدِ الله لا ثوْبَ فاجر *** لبست ولا مِن غَدْرةٍ أَتَقَنّع‏.‏

ومن ذهب إلى أن المراد بالثياب النفس فلأنها لابسة الثياب، فكنى عنها بالثياب، ولهم في تأويل الآية ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه ونفسك فطهر مما نسبك إليه المشركون من شعر أو سحر أو كهانة أو جنون، رواه ابن أبي نجيح وأبو يحيى عن مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ ونفسك فطهرها مما كنت تشكو منه وتحذر، من قول الوليد بن المغيرة، قاله عطاء‏.‏

الثالث‏:‏ ونفسك فطهرها من الخطايا، قاله عامر‏.‏

ومن ذهب إلى أن المراد النساء والزوجات فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هن لباس لكم وأنتم لباس لهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ ولهم في تأويل الآية وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه ونساءك فطهر باختيار المؤمنات العفائف‏.‏

الثاني‏:‏ الاستمتاع بهن من القبل دون الدبر، وفي الطهر دون الحيض، حكاهما ابن بحر‏.‏

ومن ذهب إلى أن المراد بها الثياب الملبوسة على الظاهر، فلهم في تأويله أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه وثيابك فأنْقِ، رواه عطاء عن ابن عباس، ومنه قول امرئ القيس‏:‏

ثياب بني عَوفٍ طهارى نقيّةٌ *** وأَوْجُهُهُمْ عند المشاهد غُرّان

الثاني‏:‏ وثيابك فشمّر وقصّر، قاله طاووس‏.‏

الثالث‏:‏ وثيابك فطهر من النجاسات بالماء، قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء‏.‏

الرابع‏:‏ معناه لا تلبس ثياباً إلا ‏[‏من‏]‏ كسب حلال مطهرة من الحرام‏.‏

‏{‏والرُّجْزَ فاهْجُرْ‏}‏ فيه ستة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني الآثام والأصنام، قاله جابر وابن عباس وقتادة والسدي‏.‏

الثاني‏:‏ والشرك فاهجر، قاله ابن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ والذنب فاهجر، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ والإثم فاهجر، قال السدي‏.‏

الخامس‏:‏ والعذاب فاهجر، حكاه أسباط‏.‏

السادس‏:‏ والظلم فاهجر، ومنه قول رؤبة بن العجاج‏.‏

كم رامنا من ذي عديد منه *** حتى وَقَمْنا كيدَه بالرجزِ‏.‏

قاله السدي‏:‏ الرَّجز بنصب الراء‏:‏ الوعيد‏.‏

‏{‏ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة، قال الضحاك‏:‏ هذا حرمه الله تعالى على رسول وأباحه لأمته‏.‏

الثاني‏:‏ معناه لا تمنن بعملك تستكثر على ربك، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ معناه لا تمنن بالنبوة على الناس تأخذ عليها منهم أجراً، قاله ابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ معناه لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه، قاله مجاهد‏.‏

ويحتمل تأويلاً خامساً‏:‏ لا تفعل الخير لترائي به الناس‏.‏

‏{‏ولِربِّك فاصْبِرْ‏}‏ أما قوله «وَلِرَبِّكَ» ففيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لأمر ربك‏.‏

الثاني‏:‏ لوعد ربك‏.‏

الثالث‏:‏ لوجه ربك‏.‏

وفي قوله «فاصْبِرْ سبعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ فاصْبِرْ على ما لاقيت من الأذى والمكروه قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ على محاربة العرب ثم العجم، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ على الحق فلا يكن أحد أفضل عندك فيه من احد، قاله السدي‏.‏

الرابع‏:‏ فاصْبِرْ على عطيتك لله، قاله إبراهيم‏.‏

الخامس‏:‏ فاصْبِرْ على الوعظ لوجه الله، قاله عطاء‏.‏

السادس‏:‏ على انتظام ثواب عملك من الله تعالى، وهو معنى قول ابن شجرة‏.‏

السابع‏:‏ على ما أمرك الله من أداء الرسالة وتعليم الدين، حكاه ابن عيسى‏.‏

‏{‏فإذا نُقِرَ في الناقُورِ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني نفخ في الصور، قاله ابن عباس، وهل المراد النفخة الأولى أو الثانية‏؟‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الأولى‏.‏

والثاني‏:‏ الثانية‏.‏

- الثاني‏:‏ أن الناقور القلب يجزع إذا دعي الإنسان للحساب، حكاه ابن كامل‏.‏

ويحتمل تأويلاً ثالثاً‏:‏ أن الناقور صحف الأعمال إذا نشرت للعرض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 30‏]‏

‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا ‏(‏12‏)‏ وَبَنِينَ شُهُودًا ‏(‏13‏)‏ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ‏(‏14‏)‏ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ‏(‏15‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا ‏(‏16‏)‏ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ‏(‏17‏)‏ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ‏(‏18‏)‏ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏19‏)‏ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏20‏)‏ ثُمَّ نَظَرَ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ‏(‏24‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ‏(‏25‏)‏ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ‏(‏26‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ‏(‏27‏)‏ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ‏(‏28‏)‏ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ‏(‏29‏)‏ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏ذرْني ومَنْ خَلَقْتُ وَحيداً‏}‏ قال المفسرون يعني الوليد بن المغيرة المخزومي وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه، وإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة لأذى الرسول‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ «وحيداً» تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الله تفرد بخلقه وحده‏.‏

الثاني‏:‏ خلقه وحيداً في بطن أُمّه لا مال له ولا ولد، قاله مجاهد، فعلى هذا الوجه في المراد بخلقه وحيداً وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يعلم به قدر النعمةعليه فيما أعطي من المال والولد‏.‏

الثاني‏:‏ أن يدله بذلك على أنه يبعث وحيداً كما خلق وحيداً‏.‏

‏{‏وجَعَلْتُ له مالاً مَمْدوداً‏}‏ فيه ثمانية أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ألف دينار، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أربعة الآف دينار، قاله سفيان‏.‏

الثالث‏:‏ ستة الآف دينار، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ مائة ألف دينار، قاله مجاهد‏.‏

الخامس‏:‏ أنها أرض يقال لها ميثاق، وهذا مروي عن مجاهد أيضاً‏.‏

السادس‏:‏ أنها غلة شهر بشهر، قاله عمر رضي الله عنه‏.‏

السابع‏:‏ أنه الذي لا ينقطع شتاء ولا صيفاً، قاله السدي‏.‏

الثامن‏:‏ أنها الأنعام التي يمتد سيرها في أقطار الأرض للمرعى والسعة، قاله ابن بحر‏.‏

ويحتمل تاسعاً‏:‏ أن سيتوعب وجوه المكاسب فيجمع بين زيادة الزراعة وكسب التجارة ونتاج المواشي فيمد بعضها ببعض لأن لكل مكسب وقتاً‏.‏

ويحتمل عاشراً‏:‏ أنه الذي يتكون نماؤه من أصله كالنخل والشجر‏.‏

‏{‏وبَنينَ شُهوداً‏}‏ اختلف في عددهم على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم كانوا عشرة، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ قال الضحاك‏:‏ كان له سبعة ولدوا بمكة، وخمسة ولدوا بالطائف‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم كانوا ثلاثة عشر رجلاً، قاله ابن جبير‏.‏

وفي قوله «شهوداً» ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم حضور معه لا يغيبون عنه، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه إذا ذكر ذكروا معه، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم كلهم رب بيت، قاله ابن جبير‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أنهم قد صاروا مثله من شهود ما كان يشهده، والقيام بما كان يباشره‏.‏

‏{‏ومَهّدْت له تَمْهيداً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدها‏:‏ مهدت له من المال والولد، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ مهدت له الرياسة في قومه، قاله ابن شجرة‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أنه مهد له الأمر في وطنه حتى لا ينزعج عنه بخوف ولا حاجة‏.‏

‏{‏ثم يَطْمَعُ أنْ أَزيدَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ثم يطمع أن أدخله الجنة، كلاّ، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أن أزيده من المال والولد «كلاّ» قال ابن عباس‏:‏

فلم يزل النقصان في ماله وولده‏.‏

ويحتمل وجهاً ثالثاً‏:‏ ثم يطمع أن أنصره على كفره‏.‏

‏{‏كلاّ إنه كان لآياتِنَا عَنيداً‏}‏ في المراد «بآياتنا» ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ القرآن، قاله ابن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ الحق، قاله مجاهد‏.‏

وفي قوله «عنيداً» أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ معاند، قاله مجاهد وأبو عبيدة، وأنشد قول الحارثي‏:‏

إذا نزلت فاجعلاني وسطا *** إني كبير لا أطيق العُنَّدا

الثاني‏:‏ مباعد، قاله أبو صالح، ومنه قول الشاعر‏:‏

أرانا على حال تفرِّق بيننا *** نوى غُرْبَةٍ إنّ الفراق عنود‏.‏

الثالث‏:‏ جاحد، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ مُعْرض، قاله مقاتل‏.‏

ويحتمل تأويلاً خامساً‏:‏ أنه المجاهر بعداوته‏.‏

‏{‏سأرْهِقُه صَعُوداً‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ مشقة من العذاب، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه عذاب لا راحة فيه، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ أنها صخرة في النار ملساء يكلف أن يصعدها، فإذا صعدها زلق منها، وهذا قول السدي‏.‏

الرابع‏:‏ ما رواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم «سأرهقه صعودا» قال‏:‏ «هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده، فإذا وضع يده عيله ذابت، وإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت، وإذا رفعها عادت»‏.‏

ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل قولاً خامساً‏:‏ أنه تصاعد نفسه للنزع وإن لم يتعقبه موت ليعذب من داخل جسده كما يعذب من خارجه‏.‏

‏{‏إنه فكَّر وقَدَّر‏}‏ قال قتادة‏:‏ زعموا أن الوليد بن المغيرة قال‏:‏ لقد نظرت فيما قال هذا الرجل فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يُعْلَى، وما أشك أنه سحر، فهو معنى قوله «فكر وقدّر» أي فكر في القرآن فيما إنه سحر وليس بشعر‏.‏

ويحتمل وجهاً ثالثاً‏:‏ أن يكون فكّر في العداوة وقدّر في المجاهدة‏.‏

‏{‏فقُتِلَ كيف قَدَّرَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي عوقب ثم عوقب، فيكون العقاب تكرر عليه مرة بعد أخرى‏.‏

الثاني‏:‏ أي لعن ثم لعن كيف قدر أنه ليس بشعر ولا كهانة، وأنه سحر‏.‏

‏{‏ثم نَظَرَ‏}‏ يعني الوليد بن المغيرة، وفي ما نظر فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه نظر في الوحي المنزل من القرآن، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ أنه نظر إلى بني هاشم حين قال في النبي صلى الله عليه وسلم إنه ساحر، ليعلم ما عندهم‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ ثم نظر إلى نفسه فيما أُعطِي من المال والولد فطغى وتجبر‏.‏

‏{‏ثم عَبَسَ وبَسَرَ‏}‏ أما عبس فهو قبض ما بين عينينه، وبَسَرَ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ كلح وجهه، قاله قتادة، ومنه قول بشر بن أبي خازم‏:‏

صبحنا تميماً غداة الجِفار *** بشهباءَ ملمومةٍ باسِرةَ

الثاني‏:‏ تغيّر، قاله السدي، ومنه قول توبة‏:‏

وقد رابني منها صدودٌ رأيتُه *** وإعْراضها عن حاجتي وبُسورها‏.‏

واحتمل أن يكون قد عبس وبسر على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه‏.‏ واحتمل أن يكون على من آمن به ونصره‏.‏

وقيل إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحاورة، وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة‏.‏

‏{‏ثم أَدْبَر واسْتَكْبَرَ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أدبر عن الحق واستكبر عن الطاعة‏.‏

الثاني‏:‏ أدبر عن مقامه واستكبر في مقاله‏.‏

‏{‏فقال إنْ هذا إلا سِحْرٌ يُؤْثَر‏}‏ قال ابن زيد‏:‏ إن الوليد بن المغيرة قال‏:‏ إنْ هذا القرآن إلا سحر يأثره محمد عن غيره فأخذه عمن تقدمه‏.‏

ويحتمل وجهاً آخر‏:‏ أن يكون معناه أن النفوس تؤثر لحلاوته فيها كالسحر‏.‏

‏{‏إنْ هذا إلا قَوْلَ البَشِرِ‏}‏ أي ليس من كلام الله تعالى، قال السدي‏:‏ يعنون أنه من قول أبي اليسر عَبْدٌ لبني الحضرمي كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك‏.‏

‏{‏سأصْليه سَقَرَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه اسم من أسماء جهنم مأخوذ من قولهم‏:‏ سقرته الشمس إذا آلمت دماغه، فسميت جهنم بذلك لشدة إيلامها‏.‏

‏{‏وما أدراك ما سَقَر لا تُبقي ولا تذر‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا تبقي من فيها حياً، ولا تذره ميتاً، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ لا تبقي أحداً من أهلها أن تتناوله، ولا تذره من العذاب، حكاه ابن عيسى‏.‏

ويحتمل وجهاً ثالثاً‏:‏ لا تبقيه صحيحاً، ولا تذره مستريحاً‏.‏

‏{‏لوّاحَةً للبَشَرِ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ مغيرة لألوانهم، قال أبو رزين تلفح وجوههم لفحة تدعهم أشد سواداً من الليل‏.‏

الثاني‏:‏ تحرق البشر حتى تلوح العظم، قاله عطية‏.‏

الثالث‏:‏ أن بشرة أجسادهم تلوح على النار، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ أن اللواح شدة العطش، والمعنى أنها معطشة للبشر، أي لأهلها، قاله الأخفش، وأنشد‏:‏

سَقَتْني على لوْحٍ من الماءِ شَرْبةً *** سقاها به الله الرهامَ الغواديا‏.‏

يعني باللوح شدة العطش‏:‏

ويحتمل خامساً‏:‏ أنها تلوح للبشر بهولها حتى تكون أشد على من سبق إليها، وأسرّ لمن سلم منها‏.‏

وفي البشر وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الإنس من أهل النار، قالهالأخفش والأكثرون‏.‏

الثاني‏:‏ أنه جمع بشرة، وهي جلدة الإنسان الظاهرة، قاله مجاهد وقتادة‏.‏

‏{‏عليها تسعةَ عَشَرَ‏}‏ هؤلاء خزنة جهنم وهم الزبانية، وعددهم هذا الذي ذكره الله تعالى، وروى عامر عن البراء أن رهطاً من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم، فأهوى بأصابع كفيه مرتين، فأمسك الإبهام في الثانية، وأخبر الله عنهم بهذا العدد، وكان الاقتصار عليه دون غيره من الأعداد إخباراً عمن وكل بها وهو هذا العدد، وموافقة لما نزل به التوراة والإنجيل من قبل‏.‏

وقد يلوح لي في الاقتصار على هذا العدد معنى خفي يجوز أن يكون مراداً، وهو أن تسعة عشر عدد يجمع أكثر القليل من العدد وأقل الكثير، لأن العدد آحاد وعشرات ومئون وألوف، والآحاد أقل الأعداد، وأكثر الآحاد تسعة، وما سوى الآحاد كثير وأقل الكثير عشرة، فصارت التسعة عشر عدداً يجمع من الأعداد أكثر قليلها، وأقل كثيرها، فلذلك ما وقع عليها الاقتصار والله أعلم للنزول عن أقل القليل وأكثر الكثير فلم يبق إلا ما وصفت‏.‏

ويحتمل وجهاً ثانياً‏:‏ أن يكون الله حفظ جهنم حتى ضبطت وحفظت بمثل ما ضبطت به الأرض وحفظت به من الجبال حتى رست وثبتت، وجبال الأرض التي أرسيت بها واستقرت عليها تسعة عشر جبلاً، وإن شعب فروعها تحفظ جهنم بمثل هذا العدد، لأنها قرار لعُصاة الأرض من الإنس والجن، فحفظت مستقرهم في النار بمثل العدد الذي حفظ مستقرهم في الأرض، وحد الجبل ما أحاطت به أرض تتشعب فيها عروقه ظاهره ولا باطنه، وقد عد قوم جبال الأرض فإذا هي مائة وتسعون جبلاً، واعتبروا انقطاع عروقها رواسي وأوتاداً، فهذان وجهان يحتملهما الاستنباط، والله أعلم بصواب ما استأثر بعلمه‏.‏

وذكر من يتعاطى العلوم العقلية وجهاً ثالثاً‏:‏ أن الله تعالى حفظ نظام خلقه ودبر ما قضاه في عباده بتسعة عشر جعلها المدبرات أمراً وهي سبعة كواكب واثنا عشر برجاً، فصار هذا العدد أصلاً في المحفوظات العامة، فلذلك حفظ جهنم، وهذا مدفوع بالشرع وإن راق ظاهره‏.‏

ثم نعود إلى تفسير الآية، روى قتادة أن الله تعالى لما قال‏:‏

«عليها تسعة عشر» قال أبو جهل‏:‏ يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم أن يأخذوا واحداً منهم وأنتم أكثر منهم‏.‏

قال السدي‏:‏ وقال أبو الأشد بن الجمحي‏:‏ لا يهولنكم التسعة عشر أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الأيسر التسعة ثم تمرون إلى الجنة، يقولها مستهزئاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 37‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ‏(‏31‏)‏ كَلَّا وَالْقَمَرِ ‏(‏32‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ‏(‏33‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ‏(‏34‏)‏ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ‏(‏35‏)‏ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ‏(‏36‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وما جَعَلْنَا أصحابَ النارِ إلا ملائكةً وما جعلْنا عدَّتهم إلا فِتْنةً للذين كَفَروا‏}‏ وروى ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم نعت خزنة جهنم فقال‏:‏ كأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي، يجرون شعورهم، لأحدهم مثل قوة الثقلين، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمي بهم في النار، ويرمي الجبل عليهم‏.‏

‏{‏ليَسْتَيْقِنَ الذين أُوتوا الكتابَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ليستيقنوا عدد الخزنة لموافقة التوراة والإنجيل، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ ليستيقنوا أن محمداً نبي لما جاء به من موافقة عدة الخزنة‏.‏

‏{‏ويَزْدادَ الذين آمَنوا إيماناً‏}‏ بذلك، قاله جريج‏.‏

‏{‏وما هي إلا ذِكْرى للبَشَرِ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ وما نار جهنم إلا ذكرى للبشر، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ وما هذه النار في الدنيا إلا تذكرة لنار الآخرة، حكاه ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ وما هذه السورة إلا تذكرة للناس، قاله ابن شجرة‏.‏

‏{‏كلا والقَمرِ‏}‏ الواو في «والقمر» واو القسم، أقسم الله تعالى به، ثم أقسم بما بعده فقال‏:‏

‏{‏والليلِ إذا أَدْبَرَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إذ ولّى، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ إذ أقبل عند إدبار النهار قاله أبو عبيدة، وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن إذا دبر، وهي قراءة ابن مسعود وأُبي بن كعب‏.‏

واختلف في أدبر ودبر على قولين‏:‏

- أحدهما‏:‏ أنهما لغتان ومعناهما واحد، قاله الأخفش‏.‏

- الثاني‏:‏ أن معناهما مختلفان، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه دبر إذا خلقته خلفك، وأدبر إذا ولى أمامك، قاله أبو عبيدة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه دبر إذا جاء بعد غيره وعلى دبر، وأدبر إذا ولى مدبراً، قاله ابن بحر‏.‏

‏{‏والصُّبْحِ إذا أَسْفَرَ‏}‏ يعني أضاء وهذا قسم ثالث‏.‏

‏{‏إنها لإحْدَى الكُبَرِ‏}‏ فيها ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أي أن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم لإحدى الكبر، أي الكبيرة من الكبائر، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أي أن هذه النار لإحدى الكبر، أي لإحدى الدواهي‏.‏

الثالث‏:‏ أن هذه الآية لإحدى الكبر، حكاه ابن عيسى‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أن قيام الساعة لإحدى الكبر، والكُبَرُ هي العظائم والعقوبات والشدائد، قال الراجز‏:‏

يا ابن المُغَلّى نزلتْ إحدى الكُبَرْ *** داهية الدهرِ وصَمّاءُ الغِيَرْ‏.‏

‏{‏نذيراً للبشر‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن محمداً صلى الله عليه وسلم نذير للبشر حين قاله له «قم فأنذر» قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ أن النار نذير للبشر، قال الحسن‏:‏ والله ما أنذر الخلائق قط بشيء أدهى منها‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أن القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد‏.‏

‏{‏لمن شاءَ منكم أن يتقدّم أو يتأَخّرَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن يتقدم في طاعة الله، أو يتأخر عن معصية الله، وهذا قول ابن جريج‏.‏

الثاني‏:‏ أن يتقدم في الخير أو يتأخر في الشر، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثالث‏:‏ أن يتقدم إلى النار أو يتأخر عن الجنة، قاله السدي‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ لمن شاء منكم أن يستكثر أو يقصر، وهذا وعيد وإن خرج مخرج الخبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 56‏]‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ‏(‏38‏)‏ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ‏(‏39‏)‏ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏40‏)‏ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏41‏)‏ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ‏(‏42‏)‏ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ‏(‏43‏)‏ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ‏(‏44‏)‏ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏46‏)‏ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ‏(‏47‏)‏ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ‏(‏48‏)‏ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ‏(‏49‏)‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ‏(‏50‏)‏ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ‏(‏51‏)‏ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ‏(‏52‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏53‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ‏(‏54‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏55‏)‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏كلُّ نفْسٍ بما كَسَبَتْ رَهينةٌ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ان كل نفس مرتهنة محتسبة بعملها لتحاسب عليه، إلا أصحاب اليمين، وهم أطفال المسلمين فإنه لا حساب عليهم لأنه لا ذنوب لهم، قاله عليٌّ رضي الله عنه‏.‏

الثاني‏:‏ كل نفس من أهل النار مرتهنة في النار إلا أصحاب اليمين وهم المسلمون، فإنهم لا يرتهنون، وهم إلى الجنة يسارعون، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ كل نفس بعملها محاسبة إلا أصحاب اليمين وهم أهل الجنة، فإنهم لا يحاسبون، قاله ابن جريج‏.‏

‏{‏وكنّا نَخُوض مع الخائضينَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ نكذب مع المكذبين، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ كلما غوى غاو غوينا معه، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ قولهم محمد كاهن، محمد ساحر، محمد شاعر، قاله ابن زيد‏.‏

ويحتمل رابعاً، وكنا أتباعاً ولم نكن مبتوعين‏.‏

‏{‏وكنّا نًكذّب بيوم الدِّين‏}‏ يعني يوم الجزاء وهو يوم القيامة‏.‏

‏{‏حتى أتانا اليقين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الموت، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ البعث يوم القيامة‏.‏

‏{‏فما لهم عن التَذْكِرَةِ مُعْرِضين‏}‏ قال قتادة‏:‏ عن القرآن‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ عن الاعتبار بعقولهم‏.‏

‏{‏كأنهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرةٌ‏}‏ قرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء، يعني مذعورة وقرأ الباقون بكسرها، يعني هاربة، وأنشد الفراء‏:‏

أمْسِكْ حمارَك إنه مُستنفِرٌ *** في إثْر أحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لغُرَّبِ‏.‏

‏{‏فَرَّتْ من قَسْورةٍ‏}‏ فيه ستة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن القسورة الرماة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه القناص أي الصياد، ومنه قول علي‏:‏

يا ناس إني مثل قسورةٍ *** وإنهم لعداة طالما نفروا‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الأسد، قاله أبو هريرة، روى يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه الأسد بلسان الحبشة، قال الفرزدق‏:‏

إلى هاديات صعاب الرؤوس *** فساروا للقسور الأصيد‏.‏

الرابع‏:‏ أنهم عصب من الرجال وجماعة، رواه أبو حمزة عن ابن عباس‏.‏

الخامس‏:‏ أنه أصوات الناس، رواه عطاء عن ابن عباس‏.‏

السادس‏:‏ أنه النبيل، قاله قتادة‏.‏

‏{‏بل يريد كلُّ امرئ منهم أنْ يُؤْتى صحُفاً مُنَشّرةً‏}‏ يعني كتباً منشورة وفيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن يؤتى كتاباً من الله أن يؤمن بمحمد، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أن يؤتى براءة من النار أنه لا يقذف بها، قاله أبو صالح‏.‏

الثالث‏:‏ أن يؤتى كتاباً من الله بما أحل له وحرم عليه، قاله مقاتل‏.‏

الرابع‏:‏ أن كفار قريش قالوا إن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب الواحد ذنباً وجده مكتوباً في رقعة، فما بالنا لا نرى ذلك فنزلت الآية، قاله الفراء‏.‏

‏{‏هو أهل التقْوَى وأهل المغْفِرةِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ هو أهل أن تتقى محارمه، وأهل أن يغفر الذنوب، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ هو أهل أن يتقى أن يجعل معه إله غيره، وأهل لمن اتقاه أن يغفر له، وهذا معنى قول رواه أنس مرفوعاً‏.‏

الثالث‏:‏ هو أهل أن يتقى عذابه وأهل أن يعمل بما يؤدي إلى مغفرته‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أهل الانتقام والإنعام‏.‏

سورة القيامة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 15‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ‏(‏1‏)‏ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ‏(‏2‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ‏(‏3‏)‏ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ‏(‏4‏)‏ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ‏(‏5‏)‏ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ‏(‏7‏)‏ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ‏(‏8‏)‏ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ‏(‏10‏)‏ كَلَّا لَا وَزَرَ ‏(‏11‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ‏(‏12‏)‏ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ‏(‏13‏)‏ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا أُقسِم بيومِ القيامةِ‏}‏ اختلفوا في «لا» المبتدأ بها في أول الكلام على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها صلة دخلت مجازاً ومعنى الكلام أقسم بيوم القيامة، قاله ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة، ومثله قول الشاعر‏:‏

تَذكّرْت ليلى فاعْتَرْتني صَبابةٌ *** وكاد ضمير القلْبِ لا يتَقطّع‏.‏

الثاني‏:‏ أنها دخلت توكيداً للكلام كقوله‏:‏ لا والله، وكقول امرئ القيس‏:‏

فلا وأبيكِ ابنةَ العامريّ *** لا يدّعي القوم أني أَفِرْ‏.‏

قاله أبو بكر بن عياش‏.‏

الثالث‏:‏ أنها رد لكلام مضى من كلام المشركين في إنكار البعث، ثم ابتدأ القسم فقال‏:‏ أقسم بيوم القيامة، فرقاً بين اليمين المستأنفة وبين اليمين تكون مجدداً، قاله الفراء‏.‏

وقرأ الحسن‏:‏ لأقْسِمُ بيوم القيامة، فجعلها لاماً دخلت على ما أُقسم إثباتاً للقسم، وهي قراءة ابن كثير‏.‏

‏{‏ولا أُقْسِم بالنّفْسِ اللوّامةِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه تعالى أقسم بالنفس اللوامة كما أقسم بيوم القيامة فيكونان قَسَمَيْن، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة، قاله الحسن، ويكون تقدير الكلام‏:‏ أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة‏.‏ وفي وصفها باللوامة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها صفة مدح، وهو قول من جعلها قسماً‏:‏

الثاني‏:‏ أنها صفة ذم، وهو قول من نفى أن يكون قسماً‏.‏

فمن جعلها صفة مدح فلهم في تأويلها ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها التي تلوم على ما فات وتندم، قاله مجاهد، فتلوم نفسها على الشر لم فعلته، وعلى الخير أن لم تستكثر منه‏.‏

الثاني‏:‏ أنها ذات اللوم، حكاه ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ أنها التي تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها‏.‏

فعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون اللوامة بمعنى اللائمة‏.‏

ومن جعلها صفة ذم فلهم في تأويلها ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها المذمومة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنها التي تلام على سوء ما فعلت‏.‏

الثالث‏:‏ أنها التي لا صبر لها على محن الدنيا وشدائدها، فهي كثيرة اللوم فيها، فعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون اللوامة بمعنى الملومة‏.‏

‏{‏أيَحْسَب الإنسان‏}‏ يعني الكافر‏.‏

‏{‏أنْ لن نَجْمَعَ عِظامَه‏}‏ فنعيدها خلقاً جديداً بعد أن صارت رفاتاً‏.‏

‏{‏بلى قادِرينَ على أنْ نُسوّيَ بَنانه‏}‏ في قوله «بلى» وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه تمام قوله «أن لن نجمع عظامه» أي بلى نجمعها، قاله الأخفش‏.‏

الثاني‏:‏ أنها استئناف بعد تمام الأول بالتعجب بلى قادرين، الآية وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بلى قادرين على أن نسوي مفاصله ونعيدها للبعث خلقاً جديداً، قاله جرير بن عبد العزيز‏.‏

الثاني‏:‏ بلى قادرين على أن نجعل كفه التي يأكل بها ويعمل حافر حمار أو خف بعير، فلا يأكل إلا بفيه، ولا يعمل بيده شيئاً، قاله ابن عباس وقتادة‏.‏

‏{‏بل يريد الإنسان ليَفْجُرَ أمامَه‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ معناه أن يقدم الذنب ويؤخر التوبة، قاله القاسم بن الوليد‏.‏

الثاني‏:‏ يمضي أمامه قدُماً لا ينزع عن فجور، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ بل يريد أن يرتكب الآثام في الدنيا لقوة أمله، ولا يذكر الموت، قاله الضحاك‏.‏

الرابع‏:‏ بل يريد أن يكذب بالقيامة ولا يعاقب بالنار، وهو معنى قول ابن زيد‏.‏

ويحتمل وجهاً خامساً‏:‏ بل يريد أن يكذب بما في الآخرة كما كذب بما في الدنيا، ثم وجدت ابن قتيبة قد ذكره وقال إن الفجور التكذيب واستشهد بأن أعرابياً قصد عمر بن الخطاب وشكا إليه نقب إبله ودبرها، وسأله أن يحمله على غيرها، فلم يحمله، فقال الأعرابي‏:‏

أقسم بالله أبو حفصٍ عُمَرْ *** ما مسّها مِن نَقَبٍ ولا دَبَرْ

فاغفر له اللهم إنْ كان فجَرْ *** يعني إن كان كذبني بما ذكرت‏.‏

‏{‏فإذا بَرِقَ البصرُ‏}‏ فيه قراءتان‏:‏

إحداهما‏:‏ بفتح الراء، وقرأ بها أبان عن عاصم، وفي تأويلها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني خفت وانكسر عند الموت، قاله عبد الله بن أبي إسحاق‏.‏

الثاني‏:‏ شخص وفتح عينه عند معاينة ملك الموت فزعاً، وأنشد الفراء‏:‏

فنْفسَكَ فَانْعَ ولا تْنعَني *** وداوِ الكُلومَ ولا تَبْرَقِ‏.‏

أي ولا تفزع من هول الجراح‏.‏

الثانية‏:‏ بكسر الراء وقرأ بها الباقون، وفي تأويلها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ عشى عينيه البرق يوم القيامة، قاله أشهب العقيلي، قال الأعشى‏:‏

وكنتُ أرى في وجه مَيّةَ لمحةً *** فأبرِق مَغْشيّاً عليّ مكانيا‏.‏

الثاني‏:‏ شق البصر، قاله أبو عبيدة وأنشد قول الكلابي‏:‏

لما أتاني ابن عمير راغباً *** أعطيتُه عيساً صِهاباً فبرق‏.‏

‏{‏وخَسَفَ القمرُ‏}‏ أي ذهب ضوؤه، حتى كأنّ نوره ذهب في خسفٍ من الأرض‏.‏

‏{‏وجُمِعَ الشمسُ والقمرُ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه جمع بينهما في طلوعهما من المغرب ‏[‏أسودين مكورين‏]‏ مظلمين مقرنين‏.‏

الثاني‏:‏ جمع بينهما في ذهاب ضوئهما بالخسوف لتكامل إظلام الأرض على أهلها، حكاه ابن شجرة‏.‏

الثالث‏:‏ جمع بينهما في البحر حتى صارا نار الله الكبرى‏.‏

‏{‏يقولُ الإنسانُ يومئذٍ أين المفرُّ‏}‏ أي أين المهرب، قال الشاعر‏:‏

أين أفِرّ والكباشُ تنتطحْ *** وأيّ كبشٍ حاد عنها يفتضحْ‏.‏

ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ «أين المفر» من الله استحياء منه‏.‏

الثاني‏:‏ «أين المفر» من جهنم حذراً منها‏.‏

ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون من الكافر خاصة من عرصة القيامة دون المؤمن، ثقة المؤمن ببشرى ربه‏.‏

الثاني‏:‏ أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوه منها‏.‏

ويحتمل هذا القول وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ من قول الله للإنسان إذا قاله «أين المفر» قال الله له «كلاّ لا وَزَرَ» الثاني‏:‏ من قول الإنسان إذا علم أنه ليس له مفر قال لنفسه «كلا لا وَزَرَ» ‏{‏كلاّ لا وَزَرَ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أي لا ملجأ من النار، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ لا حصن، قاله ابن مسعود‏.‏

الثالث‏:‏ لا جبل، ‏[‏قاله الحسن‏]‏‏.‏

الرابع‏:‏ لا محيص، قاله ابن جبير‏.‏

‏{‏إلى ربِّك يومئذٍ المُسْتَقَرُّ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المستقر المنتهى، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه استقرار أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، قاله ابن زيد‏.‏

‏{‏يُنَبّأ الإنسان يوميئذٍ بما قدَّمَ وأَخّرَ‏}‏ يعني يوم القيامة وفي «بما قدم وأخر» خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ ما قدم قبل موته من خير أو شر يعلم به بعد موته، قاله ابن عباس وابن مسعود‏.‏

الثاني‏:‏ ما قدم من معصية، وأخر من طاعة، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ بأول عمله وآخره، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ بما قدم من الشر وأخر من الخير، قال عكرمة‏.‏

الخامس‏:‏ بما قدم من فرض وأخر من فرض، قاله الضحاك‏.‏

ويحتمل سادساً‏:‏ ما قدم لدنياه، وما أخر لعقباه‏.‏

‏{‏بل الإنسانُ على نَفْسِه بَصيرةٌ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه شاهد على نفسه بما تقدم به الحجة عليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ أن جوارحه شاهدة عليه بعمله، قاله ابن عباس، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم نَخْتِمُ على أفواههم وتُكَلِّمنا أيْديهم وتشْهدُ أرجُلُهم بما كانوا يكْسِبون‏}‏‏.‏

الثالث‏:‏ معناه بصير بعيوب الناس غافل عن عيب نفسه فيما يستحقه لها وعليها من ثواب وعقاب‏.‏

والهاء في «بصيرة» للمبالغة‏.‏

‏{‏ولو أَلْقَى معاذيرَه‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ معناه لو اعتذر يومئذ لم يقبل منه، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ يعني لو ألقى معاذيره أي لو تجرد من ثيابه، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ لو أظهر حجته، قاله السدي وقال النابغة‏:‏

لدىّ إذا ألقى البخيلُ معاذِرَه‏.‏ *** الرابع‏:‏ معناه ولو أرخى ستوره، والستر بلغة اليمن معذار، قاله الضحاك، قال الشاعر‏:‏

ولكنّها ضَنّتْ بمنزلِ ساعةٍ *** علينا وأطّت فوقها بالمعاذرِ

ويحتمل خامساً‏:‏ أنه لو ترك الاعتذار واستسلم لم يُترك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 25‏]‏

‏{‏لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ‏(‏17‏)‏ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ‏(‏18‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ‏(‏19‏)‏ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ‏(‏20‏)‏ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏21‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ‏(‏22‏)‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ‏(‏23‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ‏(‏24‏)‏ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏لا تُحرِّكْ به لسانَكَ لِتعْجَلَ به‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه القرآن حرك به لسان يستذكره‏.‏ مخافة أن ينساه، وكان ناله منه شدة، فنهاه الله تعالى عن ذلك وقال‏:‏ ‏{‏إنّ علينا جَمْعَه وقرآنه‏}‏، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له وحلاوته في لسانه، فنهي عن ذلك حتى يجتمع، لأن بعضه مرتبط ببعض، قاله عامر الشعبي‏.‏

‏{‏إنّ علينا جَمْعَهُ وقُرْآنَه‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ إن علينا جمعه في قلبك لتقرأه بلسانك، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ عيلنا حفظه وتأليفه، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ عيلنا أن نجمعه لك حتى تثبته في قلبك، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏فإذا قرأناه فاتّبعْ قُرْآنَه‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ فإذا بيّناه فاعمل بما فيه، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ فإذا أنزلناه فاستمع قرآنه، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

الثالث‏:‏ فإذا تلي عليك فاتبع شرائعه وأحكامه، قاله قتادة‏.‏

‏{‏ثم إنْ علينا بَيانَه‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ بيان ما فيه من أحكام وحلال وحرام، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ علينا بيانه بلسانك إذا نزل به جبريل حتى تقرأه كما أقرأك، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ علينا أن نجزي يوم القيامة بما فيه من وعد أو وعيد، قاله الحسن‏.‏

‏{‏كلاّ بل تُحِبُّونَ العاجلةَ * وتذَرُونَ الآخِرَة‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تحبون ثواب الدنيا وتذرون ثواب الآخرة، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ تحبون عمل الدنيا وتذرون عمل الآخرة‏.‏

‏{‏وُجوهٌ يومئذٍ ناضِرةٌ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني حسنة، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ مستبشرة، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ ناعمة، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ مسرورة، قاله عكرمة‏.‏

‏{‏إلى رَبِّها ناظرةٌ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ تنظر إلى ربها في القيامة، قاله الحسن وعطية العوفي‏.‏

الثاني‏:‏ إلى ثواب ربها، قاله ابن عمر ومجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ تنتظر أمر ربها، قاله عكرمة‏.‏

‏{‏ووجوهُ يومئذٍ باسرةٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ كالحة، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ متغيرة، قاله السدي‏.‏

‏{‏تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بها فاقِرةٌ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الفاقرة الداهية، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ الشر، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ الهلاك، قاله السدي‏.‏

الرابع‏:‏ دخول النار، قاله ابن زيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 40‏]‏

‏{‏كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ‏(‏26‏)‏ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ‏(‏27‏)‏ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ‏(‏28‏)‏ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ‏(‏29‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ‏(‏30‏)‏ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ‏(‏31‏)‏ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏32‏)‏ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ‏(‏33‏)‏ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏35‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ‏(‏36‏)‏ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ‏(‏37‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏38‏)‏ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏39‏)‏ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏كلا إذا بَلَغَتِ التّراقِيَ‏}‏ يعني بلوغ الروح عند موته إلى التراقي، وهي أعلى الصدر، واحدها ترقوه‏.‏

‏{‏وقيلَ مَنْ راقٍ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ قال أَهْله‏:‏ من راقٍ يرقيه بالرُّقى وأسماء الله الحسنى، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ مَنْ طبيبٌ شافٍ، قاله أبو قلابة، قال الشاعر‏:‏

هل للفتى مِن بنات الدهرِ من واقى *** أم هل له من حمامِ الموتِ من راقي

الثالث‏:‏ قال الملائكة‏:‏ مَن راقٍ يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس‏.‏

‏{‏وظَنَّ أنّه الفِراق‏}‏ أي تيقن أنه مفارق الدنيا‏.‏

‏{‏والْتَفّتِ الساقُ بالساقِ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ اتصال الدنيا بالآخرة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ الشدة بالشدة والبلاء بالبلاءِ، وهو شدة كرب الموت بشدة هول المطلع، قاله عكرمة ومجاهد، ومنه قول حذيفة بن أنس الهذلي‏:‏

أخو الحرب إن عضّت به الحربُ عضّها *** وإن شمّرتْ عن ساقها الحرب شمّرا‏.‏

الثالث‏:‏ التفّت ساقاه عند الموت، وحكى ابن قتيبة عن بعض المفسرين أن التفاف الساق بالساق عند الميثاق، قال الحسن‏:‏

ماتت رجلاه فلم تحملاه وقد كان عليهما جوّالاً‏.‏

الرابع‏:‏ أنه اجتمع أمران شديدان عليه‏:‏ الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه، قاله ابن زيد‏.‏

‏{‏إلى ربِّك يومئذٍ المساقُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ المنطلق، قاله خارجة‏.‏

الثاني‏:‏ المستقر، قاله مقاتل‏.‏

‏{‏فلا صَدَّقَ ولا صَلَّى‏}‏ هذا في أبي جهل، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فلا صدّق بكتاب الله ولا صلّى للَّه، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ فلا صدّق بالرسالة ولا آمن بالمرسل، وهو معنى قول الكلبي‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه‏.‏

‏{‏ولكن كَذَّبَ وتَوَلَّى‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ كذب الرسول وتولى عن المرسل‏.‏

الثاني‏:‏ كذب بالقرآن وتولى عن الطاعة‏.‏

‏{‏ثم ذَهَبَ إلى أَهْلِه يَتَمَطَّى‏}‏ يعني أبا جهل، وفيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يختال في نفسه، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ يتبختر في مشيته، قال زيد بن أسلم وهي مشية بني مخزوم‏.‏

الثالث‏:‏ أن يلوي مطاه، والمطا‏:‏ الظهر، وجاء النهي عن مشية المطيطاء وذلك أن الرجل يلقي يديه مع الكفين في مشيه‏.‏

‏{‏أوْلَى لك فأوْلَى * ثم أوْلَى لك فأوْلَى‏}‏ حكى الكلبي ومقاتل‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل ببطحاء مكة وهو يتبختر في مشيته، فدفع في صدره وهمزه بيده وقال‏:‏

«أوْلى لك فأولى» فقال أبو جهل‏:‏

إليك عني أوعدني يا ابن أبي كبشة ما تستطيع أنت ولا ربك الذي أرسلك شيئاً، فنزلت هذه الآية‏.‏

وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ وليك الشر، قال قتادة، وهذا وعيد على وعيد‏.‏

الثاني‏:‏ ويل لك، قالت الخنساء‏:‏

هَممْتُ بنفسي بعض الهموم *** فأوْلى لنَفْسيَ أوْلَى لها‏.‏

سأحْمِلُ نَفْسي على آلةٍ *** فإمّا عليها وإمّا لها‏.‏

الآلة‏:‏ الحالة، والآلة‏:‏ السرير أيضاً الذي يحمل عليه الموتى‏.‏

‏{‏أيَحْسَبُ الإنسانُ أنْ يُتْرَك سُدىً‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ فهل لا يفترض عليه عمل، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ يظن ألا يبعث، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ ملغى لا يؤمر ولا ينهى، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ عبث لا يحاسب ولا يعاقب، قال الشاعر‏:‏

فأُقسِم باللَّه جهدَ اليمين *** ما ترك اللَّه شيئاً سُدى

‏{‏ألمْ يكُ نُطْفةً مِنْ مَنيٍّ يُمْنَى‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن معنى يُمنى يراق، ولذلك سميت منى لإراقة الدماء فيها‏.‏

الثاني‏:‏ بمعنى ينشأ ويخلق، ومنه قول يزيد بن عامر‏:‏

فاسلك طريقك تمشي غير مختشعٍ *** حتى تلاقيَ ما يُمني لك الماني‏.‏

الثالث‏:‏ أنه بمعنى يشترك أي اشتراك ماء الرجل بماء المرأة‏.‏

‏{‏ثم كان عَلَقَةً‏}‏ يعني أنه كان بعد النطفة علقة‏.‏

‏{‏فخَلَقَ فسوَّى‏}‏ يحتمل وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ خلق من الأرحام قبل الولادة وسوي بعدها عند استكمال القوة وتمام الحركة‏.‏

الثاني‏:‏ خلق الأجسام وسواها للأفعال، فجعل لكل جارحة عملاً، والله أعلم‏.‏