فصل: سورة الإنسان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


سورة الإنسان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ‏(‏1‏)‏ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏2‏)‏ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قال ابن عباس ومقاتل والكلبي ويحيى بن سلام‏:‏ هي مكية، وقال آخرون فيها مكي من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزّلنا عليك القرآنَ تنزيلاً‏}‏ إلى آخرها وما تقدم مدني‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هلْ أتَى على الإنسان حينٌ من الدهْرِ لم يكُنْ شيئاً مذكوراً‏}‏ في قوله «هل» وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها في هذا الموضع بمعنى قد، وتقدير الكلام‏:‏ «قد أتى على الإنسان» الآية، على معنى الخبر، قاله الفراء وأبو عبيدة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه بمعنى «أتى على الإنسان» الآية، على وجه الاستفهام، حكاه ابن عيسى‏.‏

وفي هذا «الإنسان» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه آدم، قاله قتادة والسدي وعكرمة، وقيل إنه خلقه بعد خلق السموات والأرض، وما بينهما في آخر اليوم السادس وهو آخر يوم الجمعة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه كل إنسان، قاله ابن عباس وابن جريج‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حينٌ من الدهر‏}‏ ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدهأ‏:‏ أنه أربعون سنة مرت قبل أن ينفخ فيه الروح، وهو ملقى بين مكة والطائف، قاله ابن عباس في رواية أبي صالح عنه‏.‏

الثاني‏:‏ أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة، ثم نفخ فيه الروح، وهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ أن الحين المذكور ها هنا وقت غير مقدر وزمان غير محدود، قاله ابن عباس أيضاً‏.‏

وفي قوله ‏{‏لم يكن شيئاً مذكوراً‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لم يكن شيئاً مذكوراً في الخلق، وإن كان عند الله شيئاً مذكوراً، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أي كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً، لا يذكر ولا يعرف، ولا يدري ما اسمه، ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً، قاله الفراء، وقطرب وثعلب‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره‏:‏ هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئاً مذكوراً، لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيواناً‏.‏

‏{‏إنّا خلقْنا الإنسانَ من نُطْفَةٍ أمْشاجٍ‏}‏ يعني بالإنسان في هذا الموضع كل إنسان من بني آدم في قول جميع المفسرين‏.‏

وفي النطفة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ماء الرجل وماء المرأة إذا اختلطا فهما نطفة، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أن النطفة ماء الرجل، فإذا اختلط في الرحم وماء المرأة صارا أمشاجاً‏.‏

وفي الأمشاج أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الأخلاط، وهو أن يختلط ماء الرجل بماء المرأة، قاله الحسن وعكرمة، ومنه قول رؤبة بن العجاج‏:‏

يطرحن كل مُعْجَل نشاجِ *** لم يُكْسَ جلداً في دم أمشاج‏.‏

الثاني‏:‏ أن الأمشاج الألوان، قاله ابن عباس، وقال مجاهد‏:‏

نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء‏.‏

روى سعيد عن قتادة عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما سبق أو علا فمنه يكون الشبه»‏.‏

الثالث‏:‏ أن الأمشاج‏:‏ الأطوار، وهو أن الخلق يكون طوراً نطفة، وطوراً علقة، وطوراً مضغة، ثم طوراً عظماً، ثم يكسى العظم لحماً، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ أن الأمشاج العروق التي تكون في النطفة، قاله ابن مسعود‏.‏

وفي قوله ‏{‏نَبْتَلِيه‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ نختبره‏.‏

الثاني‏:‏ نكلفه بالعمل‏.‏

فإن كان معناه الاختبار ففيما يختبر به وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ نختبره بالخير والشر، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ نختبر شكره في السراء، وصبره في الضراء، قاله الحسن‏.‏

ومن جعل معناه التكليف ففيما كلفه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ العمل بعد الخلق، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ الدين، ليكون مأموراً بالطاعة، ومنهياً عن المعاصي‏.‏

‏{‏فَجَعَلْناه سميعاً بصيراً‏}‏ ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أي يسمع بالأذنين ويبصر بالعينين أمتناناً بالنعمة عليه‏.‏

الثاني‏:‏ ذا عقل وتمييز ليكون أعظم في الامتنان حيث يميزه من جميع الحيوان‏.‏

وقال الفراء ومقاتل‏:‏ في الآية تقديم وتأخير أي فجعلناه سميعاً بصيراً أن نبتليه، فعلى هذا التقديم في الكلام اختلفوا في ابتلائه على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما قدمناه من جعله اختباراً أو تكليفاً‏.‏

الثاني‏:‏ لنبتليه بالسمع والبصر، قاله ابن قتيبة‏.‏

‏{‏إنّا هَدَيْناه السّبيلَ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ سبيل الخير والشر، قاله عطية‏.‏

الثاني‏:‏ الهدى من الضلالة، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ سبيل الشقاء والسعادة، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ خروجه من الرحم، قاله أبو صالح والضحاك والسدي‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ سبيل منافِعِه ومضارِّه التي يهتدي إليها بطبعه، وقيل‏:‏ كمال عقله‏.‏

‏{‏إمّا شاكراً وإمّا كَفوراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إما مؤمناً وإما كافراً، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ إما شكوراً للنعمة وإما كفوراً بها، قاله قتادة‏.‏

وجمع بين الشاكر والكفور ولم يجمع بين الشكور والكفور- مع إجتماعهما في معنى المبالغة- نفياً للمبالغة في الشكر وإثباتاً لها في الكفر، لأن شكر الله تعالى لا يُؤدَّى فانتفت عنه المبالغة، ولم تنتف عن الكفر المبالغة، فقل شكره لكثرة النعم عليه، وكثر كفره وإن قل مع الإحسان إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 12‏]‏

‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ‏(‏5‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏6‏)‏ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ‏(‏7‏)‏ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ‏(‏11‏)‏ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏إن الإبرار يَشْربونَ‏}‏ في الأبرار قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الصادقون، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ المطيعون، قاله مقاتل‏.‏

وفيما سُمّوا أبراراً ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ سمّوا بذلك لأنهم برّوا الآباء والأبناء، قاله ابن عمر‏.‏

الثاني‏:‏ لأنهم كفوا الأذى، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ لأنهم يؤدون حق الله ويوفون بالنذر، قاله قتادة‏.‏

وقوله ‏{‏مِن كأسٍ‏}‏ يعني الخمر، قال الضحاك‏:‏ كل كأس في القرآن فإنما عنى به الخمر‏.‏

وفي وقوله ‏{‏كان مِزاجها كافوراً‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن كافوراً عين في الجنة اسمها كافور، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الكافور من الطيب فعلى هذا في المقصود منه في مزاج الكأس به ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ برده، قال الحسن‏:‏ ببرد الكافور وطعم الزنجبيل‏.‏

الثاني‏:‏ بريحه، قاله قتادة‏:‏ مزج بالكافور وختم بالمسك‏.‏

الثالث‏:‏ طعمه، قال السدي‏:‏ كأن طعمه طعم الكافور‏.‏

‏{‏عَينْاً يَشْرَبُ بها عبادُ اللَّهِ‏}‏ يعني أولياء اللَّه، لأن الكافر لا يشرب منها شيئاً وإن كان من عباد الله، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ينتفع بها عباد الله، قاله الفراء‏.‏

الثاني‏:‏ يشربها عباد الله‏.‏

قال مقاتل‏:‏ هي التسنيم، وهي أشرف شراب لاجنة، يشرب بها المقربون صِرفاً، وتمزج لسائر أهل الجنة بالخمر واللبن والعسل‏.‏

‏{‏يُفَجِّرونَها تفْجيراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يقودونها إلى حيث شاءوا من الجنة، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ يمزجونها بما شاءوا، قاله مقاتل‏.‏

ويحتمل وجهاً ثالثاً‏:‏ أن يستخرجوه من حيث شاءوا من الجنة‏.‏

وفي قوله «تفجيراً» وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه مصدر قصد به التكثير‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم يفجرونه من تلك العيون عيوناً لتكون أمتع وأوسع‏.‏

‏{‏يُوفُونَ بالنّذْرِ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يوفون بما افترض الله عليهم من عبادته، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ يوفون بما عقدوه على أنفسهم من حق الله، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ يوفون بالعهد لمن عاهدوه، قاله الكلبي‏.‏

الرابع‏:‏ يوفون بالإيمان إذا حلفوا بها، قاله مقاتل‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ أنهم يوفون بما أُنذِروا به من وعيده‏.‏

‏{‏ويَخافون يوْماً كان شَرُّه مُسْتَطيراً‏}‏ قال الكلبي عذاب يوم كان شره مستطيراً، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فاشياً، قاله ابن عباس والأخفش‏.‏

الثاني‏:‏ ممتداً، قاله الفراء، ومنه قول الأعشى‏:‏

فبانتْ وقد أَوْرَثَتْ في الفؤادِ *** صَدْعاً على نأيها مُستطيرا

أي ممتداً‏.‏

ويحتمل وجهاً ثالثاً يعني سريعاً‏.‏

‏{‏ويُطْعمونَ الطعامَ على حُبِّهِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ على حب الطعام، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ على شهوته، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ على قلته، قاله قطرب‏.‏

‏{‏مسكيناً ويتيماً وأسيراً‏}‏ في الأسير ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه المسجون المسلم، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه العبد، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ أسير المشركين، قاله الحسن وسعيد بن جبير‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ ثم نسخ أسير المشركين بالسيف، وقال غيره بل هو ثابت الحكم في الأسير بإطعامه، إلا أن يرى الإمام قتله‏.‏

ويحتمل وجهاً رابعاً‏:‏ أن يريد بالأسير الناقص العقل، لأنه في أسر خبله وجنونه، وإن أسر المشركين انتقام يقف على رأي الإمام وهذا بر وإحسان‏.‏

‏{‏إنّما نُطْعِمُكم لوجْهِ اللهِ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ إنهم لم يقولوا ذلك، لكن علمه الله منهم فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب‏.‏

‏{‏لا نُريدُ منكم جزاءً ولا شُكوراً‏}‏ جزاء بالفعال، وشكوراً بالمقال وقيل إن هذه الآية نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر، وهم سبعة من المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعيد وأبو عبيدة‏.‏

‏{‏إنّا نخافُ من ربِّنا يوماً عَبوساً قمْطريراً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن العبوس الذي يعبس الوجوه من شره، والقمطرير الشديد، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ أن العبوس الضيق، والقمطرير الطويل، قاله ابن عباس، قال الشاعر‏:‏

شديداً عبوساً قمطريراً تخالهُ *** تزول الضحى فيه قرون المناكب‏.‏

الثالث‏:‏ أن العُبوس بالشفتين، والقمطرير بالجبهة والحاجبين، فجعلها من صفات الوجه المتغير من شدائد ذلك اليوم، قاله مجاهد، وأنشد ابن الأعرابي‏:‏

يَغْدو على الصّيْدِ يَعودُ مُنكَسِرْ *** ويَقْمَطُّر ساعةً ويكْفَهِرّ‏.‏

‏{‏فَوَقاهمُ الله شَرَّ ذلك اليومِ ولَقّاهُمْ نَضْرةً وسُروراً‏}‏ قال الحسن النضرة من الوجوه، والسرور في القلوب‏.‏

وفي النضرة ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها البياض والنقاء، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الحسن والبهاء، قاله ابن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ أنها أثر النعمة، قاله ابن زيد‏.‏

‏{‏وجَزاهم بما صَبروا‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ بما صبروا على طاعة الله‏.‏

الثاني‏:‏ بما صبروا على الوفاء بالنذر‏.‏

‏{‏جَنَّةً وحريراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ جنة يسكنونها، وحريراً يلبسونه‏.‏

الثاني‏:‏ أن الجنة المأوى، والحرير أبد العيش في الجنة، ومنه لبس الحرير ليلبسون من لذة العيش‏.‏

واختلف فيمن نزلت هذه الآية على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما حكاه الضحاك عن جابر أنها نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذراً فوفاه‏.‏

الثاني‏:‏ ما حكاه عمرو عن الحسن أنها نزلت في علي وفاطمة‏.‏‏.‏‏.‏ رضي الله عنهما- وذلك أن علياً وفاطمة نذرا صوماً فقضياه، وخبزت فاطمة ثلاثة أقراص من شعير ليفطر علّي على أحدها وتفطر هي على الآخر، ويأكل الحسن والحسين الثالث، فسألها مسكين فتصدقت عليه بأحدها، ثم سألها يتيم فتصدقت عيله بالآخر، ثم سألها أسير فتصدقت عليه بالثالث، وباتوا طاوين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 22‏]‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ‏(‏13‏)‏ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ‏(‏14‏)‏ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ ‏(‏15‏)‏ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ‏(‏16‏)‏ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا ‏(‏17‏)‏ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ‏(‏18‏)‏ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ‏(‏19‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ‏(‏20‏)‏ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ‏(‏21‏)‏ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏مُتّكِئينَ فيها على الأرائِك‏}‏ وفيها مع ما قدّمناه من تفسيرها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الأسرّة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنها كل ما يتكأ عليه، قاله الزجاج‏.‏

‏{‏لا يَرَوْنَ فيها شمْساً ولا زَمْهَريراً‏}‏ أما المراد بالشمس ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم في ضياء مستديم لا يحتاجون فيه إلى ضياء، فيكون عدم الشمس مبالغة في وصف الضياء‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم لا يرون فيها شمساً فيتأذون بحرها، فيكون عدمها نفياً لأذاها‏.‏

وفي الزمهرير ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه البرد الشديد، قال عكرمة لأنهم لا يرون في الجنة حراً ولا برداً‏.‏

الثاني‏:‏ أنه لون في العذاب، قاله ابن مسعود‏.‏

الثالث‏:‏ أنه من هذا الموضع القمر، قاله ثعلب وأنشد‏:‏

وليلةٍ ظلامُها قد اعتكَرْ *** قطْعتها والزمهريرُ ما ظَهَرْ

وروي ما زهر، ومعناه أنهم في ضياء مستديم لا ليل فيه ولا نهار، لأن ضوء النهار بالشمس، وضوء الليل بالقمر‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وذُلِّلّتْ قُطوفُها تذْليلاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لا يرد أيديهم عنها شوك ولا بعد، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه إذا قام ارتفعت، وإذا قعد نزلت، قاله مجاهد‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أن يكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها وتخلص من نواها‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وأَكْوابٍ كانت قَواريرَا * قواريرَا من فِضّةٍ‏}‏ أما الأكواب فقد ذكرنا ما هي من جملة الأواني‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ «قوارير من فضة» وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها من فضة من صفاء القوارير، قاله الشعبي‏.‏

الثاني‏:‏ أنها من قوارير في بياض الفضة، قاله أبو صالح‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ قوارير كل أرض من تربتها، وأرض الجنة الفضة فلذلك كانت قواريرها فضة‏.‏

‏{‏قَدَّرُوها تقْديراً‏}‏ فيه خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم قدروها في أنفسهم فجاءت على ما قدروها، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ على قدر ملء الكف، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ على مقدار لا تزيد فتفيض، ولا تنقص فتغيض، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ على قدر ريهم وكفايتهم، لأنه ألذ وأشهى، قاله الكلبي‏.‏

الخامس‏:‏ قدرت لهم وقدروا لها سواء، قاله الشعبي‏.‏

‏{‏ويُسْقَونَ فيها كأساً كان مِزاجُها زَنْجبيلاً‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ تمزج بالزنجبيل، وهو مما تستطيبه العرب لأنه يحذو اللسان ويهضم المأكول، قاله السدي وابن أبي نجيح‏.‏

الثاني‏:‏ أن الزنجبيل اسم للعين التي فيها مزاج شراب الأبرار، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أن الزنجبيل طعم من طعوم الخمر يعقب الشرب منه لذة، حكاه ابن شجرة، ومنه قول الشاعر‏:‏

وكأن طعْمَ الزنجبيلِ به *** اذْ ذُقْتُه وسُلافَةَ الخمْرِ

‏{‏عْيناً فيها تُسَمّى سَلْسَبيلاً‏}‏ فيه ستة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه اسم لها، قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ معناه سلْ سبيلاً إليها، قاله علّي رضي الله عنه‏.‏

الثالث‏:‏ يعني سلسلة السبيل، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ سلسلة يصرفونها حيث شاءوا، قاله قتادة‏.‏

الخامس‏:‏ أنها تنسلّ في حلوقهم انسلالاً، قاله ابن عباس‏.‏

السادس‏:‏ أنها الحديدة الجري، قاله مجاهد أيضاً، ومنه قول حسان بن ثابت‏:‏

يَسْقُون من وَرَدَ البريصَ عليهم *** كأساً تُصَفِّقُ بالرحيق السِّلْسَل

وقال مقاتل‏:‏ إنما سميت السلسبيل لأنها تنسل عليهم في مجالسهم وغرفهم وطرقهم‏.‏

‏{‏ويَطوفُ عليهم وِلْدانٌ مُخَلّدونَ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ مخلدون لا يموتون، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ صغار لا يكبرون وشبابٌ لا يهرمون، قاله الضحاك والحسن‏.‏

الثالث‏:‏ أي مُسَوَّرون، قاله ابن عباس، قال الشاعر‏:‏

ومُخَلّداتٍ باللُّجَيْنِ كأنما *** أعْجازُهنّ أقاوزُ الكُثْبانِ‏.‏

‏{‏إذا رَأَيْتَهم حَسِبْتَهم لُؤْلُؤاً مَنْثوراً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم مشبهون باللؤلؤ المنثور لكثرتهم، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ لصفاء ألوانهم وحسن منظرهم وهو معنى قول سفيان‏.‏

‏{‏وإذا رأَيْتَ ثمَّ‏}‏ يعني الجنة‏.‏

‏{‏رأَيْتَ نَعيماً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يريد كثرة النعمة‏.‏

الثاني‏:‏ كثرة النعيم‏.‏

‏{‏ومُلْكاً كبيراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لسعته وكثرته‏.‏

الثاني‏:‏ لاستئذان الملائكة عليهم وتحيتهم بالسلام‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أنهم لا يريدون شيئاً إلا قدروا عليه‏.‏

‏{‏وسقاهم ربُّهم شَراباً طَهوراً‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه وصفه بذلك لأنهم لا يبولون منه ولا يُحْدِثون عنه، قاله عطية، قال إبراهيم التميمي‏:‏ هو عَرَق يفيض من أعضائهم مثل ريح المسك‏.‏

الثاني‏:‏ لأن خمر الجنة طاهرة، وخمر الدنيا نجسة، فلذلك وصفه الله تعالى بالطهور، قاله ابن شجرة‏.‏

الثالث‏:‏ أن أنهار الجنة ليس فيها نجس كما يكون في أنهار الدنيا وأرضها حكاه ابن عيسى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 31‏]‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا ‏(‏23‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا ‏(‏24‏)‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏25‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ‏(‏27‏)‏ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ‏(‏28‏)‏ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏29‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏30‏)‏ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏ولا تُطِعْ منهم آثِماً أو كَفوراً‏}‏ قيل إنه عنى أبا جهل، يريد بالآثم المرتكب للمعاصي، وبالكفور الجاحد للنعم‏.‏

‏{‏واذكُر اسمَ رَبِّك بُكرَةً وأصيلاً‏}‏ يعني في أول النهار وآخره، ففي أوله صلاة الصبح، وفي آخره صلاة الظهر والعصر‏.‏

‏{‏ومِنَ الليلِ فاسْجدْ له‏}‏ يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة‏.‏

‏{‏وسَبِّحْهُ ليلاً طويلاً‏}‏ يعني التطوع من الليل‏.‏

قال ابن عباس وسفيان‏:‏ كل تسبيح في القرآن هو صلاة‏.‏

‏{‏إنّ هؤلاءِ يُحِبّونَ العاجلةَ‏}‏ يحتمل في المراد بهم قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أراد بهم اليهود وما كتموه من صفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحة نبوّته‏.‏ الثاني‏:‏ أنه أراد المنافقين لاستبطانهم الكفر‏.‏

ويحتمل قوله ‏{‏يحبون العاجلة‏}‏ وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أخذ الرشا على ما كتموه إذا قيل إنهم اليهود‏.‏

الثاني‏:‏ طلب الدنيا إذا قيل إنهم المنافقون‏.‏

‏{‏ويَذَرُونَ وراءَهم يوماً ثقيلاً‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يحل بهم من القتل والجلاء إذا قيل إنهم اليهود‏.‏

الثاني‏:‏ يوم القيامة إذا قيل إنهم المنافقون‏.‏

فعلى هذا يحتمل قوله «ثقيلاً» وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ شدائده وأحواله‏.‏

الثاني‏:‏ للقِصاص من عباده‏.‏

‏{‏نحن خَلقْناهم وشَدَدْنا أَسْرَهم‏}‏ في أسرهم ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني مفاصلهم، قاله أبو هريرة‏.‏

الثاني‏:‏ خلقهم، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة قال لبيد‏:‏

ساهم الوجه شديد أسْرُه *** مشرف الحارك محبوك الكفل‏.‏

الثالث‏:‏ أنه القوة، قاله ابن زيد، قال ابن أحمر في وصف فرس‏:‏

يمشي لأوظفةٍ شدادٍ أسْرُها *** صُمِّ السنابِك لاتقى بالجَدْجَدِ‏.‏

ويحتمل هذا القول منه تعالى وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ امتناناً عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية‏.‏

الثاني‏:‏ تخويفاً لهمن بسلب النعم‏.‏

‏{‏وإذا شئنا بدّلْنا أمثالَهم تبديلاً‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أمثال من كفر بالنعم وشكرها‏.‏

الثاني‏:‏ من كفر بالرسل بمن يؤمن بها‏.‏

‏{‏إنّ هذه تَذْكِرةٌ‏}‏ يحتمل بالمراد ب «هذه» وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ هذه السورة‏.‏

الثاني‏:‏ هذه الخلقة التي خلق الإنسان عليها‏.‏

ويحتمل قوله «تذكرة» وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ إذكار ما غفلت عنه عقولهم‏.‏

الثاني‏:‏ موعظة بما تؤول إليه أمورهم‏.‏

‏{‏فَمَنْ شاءَ اتَخَذَ إلى ربِّه سَبيلاً‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ طريقاً إلى خلاصه‏.‏

الثاني‏:‏ وسيلة إلى جنته‏.‏

سورة المرسلات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 15‏]‏

‏{‏وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ‏(‏1‏)‏ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ‏(‏4‏)‏ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏5‏)‏ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ‏(‏9‏)‏ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ‏(‏11‏)‏ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ‏(‏12‏)‏ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ‏(‏13‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ‏(‏14‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمرسلات عُرْفاً‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ الملائكة ترسل بالمعروف، قاله أبو هريرة وابن مسعود‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم الرسل يرسلون بما يُعرفون به من المعجزات، وهذا قول أبي صالح‏.‏

الثالث‏:‏ أنها الرياح ترسل بما عرفها الله تعالى‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أنها السحب لما فيها من نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت فيه، ومن أرسلت إليه‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ أنها الزواجر والمواعظ‏.‏

وفي قوله «عُرْفاً» على هذا التأويل ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ متتابعات كعُرف الفرس، قاله ابن مسعود‏.‏

الثاني‏:‏ جاريات، قاله الحسن يعني القلوب‏.‏

الثالث‏:‏ معروفات في العقول‏.‏

‏{‏فالعاصِفاتِ عَصْفاً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الرياح العواصف، قاله ابن مسعود‏.‏

الثاني‏:‏ الملائكة، قاله مسلم بن صبيح‏.‏

ويحتمل قولاً ثالثاً‏:‏ أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف‏.‏

وفي قوله «عصفاً» وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما تذروه في جريها‏.‏

الثاني‏:‏ ما تهلكه بشدتها‏.‏

‏{‏والنَّاشِراتِ نَشْراً‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الرياح تنشر السحاب، قاله ابن مسعود‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الملائكة تنشر الكتب، قاله أبو صالح أيضاً‏.‏

الثالث‏:‏ أنه المطر ينشر النبات، قاله ابو صالح أيضاً‏.‏

الرابع‏:‏ أنه البعث للقيامة تُنشر فيه الأرواح، قاله الربيع‏.‏

الخامس‏:‏ أنها الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏فالفارِقات فَرقاً‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ الملائكة التي تفرق بين الحق والباطل، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ الرسل الذين يفرقون بين الحلال والحرام، قاله أبو صالح‏.‏

الثالث‏:‏ أنها الرياح، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ القرآن‏.‏

وفي تأويل قوله «فَرْقاً» على هذا القول وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فرقه آية آية، قاله الربيع‏.‏

الثاني‏:‏ فرق فيه بين الحق والباطل، قاله قتادة‏.‏

‏{‏فالمُلْقِياتِ ذِكْراً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الملائكة تلقي ما حملت من الوحي والقرآن إلى من أرسلت إليه من الأنبياء، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ الرسل يلقون على أممهم ما أنزل إليهم، قاله قطرب‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أنها النفوس تلقي في الأجساد ما تريد من الأعمال‏.‏

‏{‏عُذْراً أو نُذْراً‏}‏ يعني عذراً من الله إلى عباده، ونُذْراً إليهم من عذابه‏.‏

ويحتمل ثانياً‏:‏ عذراً من الله بالتمكن، ونذراً بالتحذير‏.‏

وفي ما جعله عذراً أو نذراً ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ الملائكة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ الرسل، قاله أبو صالح‏.‏

الثالث‏:‏ القرآن، قاله السدي‏.‏

‏{‏إنما تُوعَدُونَ لَواقعٌ‏}‏ هذا جواب ما تقدم من القسم، لأن في أول السورة قسم، أقسم الله تعالى إنما توعدون على لسان الرسول من القرآن في أن البعث والجزاء واقع بكم ونازل عليكم‏.‏

ثم بيّن وقت وقوعه فقال‏:‏

‏{‏فإذا النجومُ طُمِسَتْ‏}‏ أي ذهب ضوؤها ومحي نورها كطمس الكتاب‏.‏

‏{‏وإذا السماءُ فُرِجَتْ‏}‏ أي فتحت وشققت‏.‏

‏{‏وإذا الجبالُ نُسِفَتْ‏}‏ أي ذهبت، وقال الكلبي‏:‏ سويت بالأرض‏.‏

‏{‏وإذا الرّسُلُ أُقِّتَتْ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني أُودت، قاله إبراهيم‏.‏

الثاني‏:‏ أُجلت، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ جمعت، قاله ابن عباس‏.‏

وقرأ أبو عمرو «وقتت» ومعناها عرفت ثوابها في ذلك اليوم، وتحتمل هذه القراءة وجهاً آخر أنها دعيت للشهادة على أممها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 28‏]‏

‏{‏أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ ‏(‏17‏)‏ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏18‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏19‏)‏ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏20‏)‏ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏21‏)‏ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏22‏)‏ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ‏(‏23‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏24‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ‏(‏25‏)‏ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ‏(‏26‏)‏ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ‏(‏27‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏ألم نُهلِكِ الأوَّلينِ‏}‏ يعني من العصاة، وفيمن أريد بهم وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ قوم نوح عليه السلام لعموم هلاكهم بالطوفان لأن هلاكهم أشهر وأعم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قوم كل نبي استؤصلوا، لأنه في خصوص الأمم أندر‏.‏

‏{‏ثُمّ نُتْبِعُهُم الآخِرينَ‏}‏ يعني في هلاكهم بالمعصية كالأولين، إما بالسيف وإما بالهلاك‏.‏

‏{‏كذلك نَفْعَلُ بالمْجرمين‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهمأ‏:‏ أنه تهويل لهلاكهم في الدنيا اعتباراً‏.‏

الثاني‏:‏ أنه إخبار بعذابهم في الآخرة استحقاقاً‏.‏

‏{‏أَلمْ نَخْلُقْكُم مِنْ ماءٍ مَهينٍ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ من صفوة الماء، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ من ماء ضعيف، قاله مجاهد وقتادة‏.‏

الثالث‏:‏ من مني سائل، قاله ابن كامل‏.‏

‏{‏فَجَعَلْناه في قرارٍ مَكينٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ قاله وهب بن منبّه في رحم أُمّه لا يؤذيه حَرّ ولا برد‏.‏

الثاني‏:‏ مكين حريز لا يعود فيخرج ولا يبث في الجسد فيدوم، قاله الكلبي‏.‏

‏{‏إلى قَدَرٍ مَعْلُومٍِ‏}‏ إلى يوم ولادته‏.‏

‏{‏فقدرنا فنِعْم القادِرون‏}‏ في قراءة نافع مشددة، وقرأ الباقون مخففة، فمن قرأ بالتخفيف فتأويلها‏:‏ فملكنا فنعم المالكون‏.‏ ومن قرأ بالتشديد فتأويلها‏:‏

فقضينا فنعم القاضون، وقال الفراء‏:‏ هما لغتان ومعناهما واحد‏.‏

‏{‏ألمْ نجْعَلِ الأرضَ كِفاتاً‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني كِنّاً، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ غطاء، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ مجمعاً، قاله المفضل‏.‏

الرابع‏:‏ وعاء قال الصمصامة بن الطرماح‏:‏

فأنت اليومَ فوق الأرض حيٌّ *** وأنت غداً تَضُمُّكَ من كِفات‏.‏

‏{‏أحْياءً وأَمْواتاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الأرض تجمع الناس أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها، قاله قتادة والشعبي‏.‏

الثاني‏:‏ أن من الأرض أحياء بالعمارة والنبات، وأمواتاً بالجدب والجفاف، وهو أحد قولي مجاهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 40‏]‏

‏{‏انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏29‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ‏(‏30‏)‏ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ‏(‏31‏)‏ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ‏(‏32‏)‏ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ‏(‏33‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏34‏)‏ هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏35‏)‏ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ‏(‏36‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏37‏)‏ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ‏(‏39‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏انْطَلِقوا إلى ظِلٍّ ذي ثلاثِ شُعَبٍ‏}‏ قيل إن الشعبة تكون فوقه، والشعبة عن يمينه، والشعبة عن شماله، فتحيط به، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أن الشعب الثلاث الضريع والزقوم والغسلين، قاله الضحاك‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أن الثلاث الشعب‏:‏ اللهب والشرر والدخان، لأنه ثلاثة أحوال هي غاية أوصاف النار إذا اضطرمت واشتدت‏.‏

‏{‏لا ظَليلٍ‏}‏ في دفع الأذى عنه‏.‏

‏{‏ولا يُغْني مِن اللّهَب‏}‏ واللهب ما يعلو عن النار إذا اضطرمت من أحمر وأصفر وأخضر‏.‏

‏{‏إنها تَرْمي بِشَرَرٍ كالقَصْرِ‏}‏ والشرر ما تطاير من قطع النار، وفي قوله «كالقصر» خمسة أوجه‏.‏

أحدها‏:‏ أنه أصول الشجر العظام، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ كالجبل، قاله مقاتل‏.‏

الثالث‏:‏ القصر من البناء وهو واحد القصور، قاله ابن مسعود‏.‏

الرابع‏:‏ أنها خشبة كان أهل الجاهلية يقصدونها، نحو ثلاثة أذرع، يسمونها القصر، قاله ابن عباس‏.‏

الخامس‏:‏ أنها أعناق الدواب، قاله قتادة‏.‏

ويحتمل وجهاً سادساً‏:‏ أن يكون ذلك وصفاً من صفات التعظيم، كنى عنه باسم القصر، لما في النفوس من استعظامه، وإن لم يُردْ به مسمى بعينه‏.‏

‏{‏كأنّه جِمالةٌ صُفْرٌ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني جِمالاً صُفراً وأراد بالصفر السود، سميت صفراً لأن سوادها يضرب إلى الصفرة، وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة، قال الشاعر‏:‏

تلك خَيْلي منه وتلك رِكابي *** هُنّ صُفْرٌ أولادُها كالزبيبِ‏.‏

الثاني‏:‏ أنها قلوس السفن، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ أنها قطع النحاس، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

وفي تسميتها بالجمالات الصفر وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لسرعة سيرها‏.‏

الثاني‏:‏ لمتابعة بعضها لبعض‏.‏

‏{‏فإنْ كانَ لكم كَيْدٌ فَكِيدُونِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ إن استطعتم أن تمتنعوا عني فامتنعوا، وهو معنى قول الكلبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 50‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ‏(‏41‏)‏ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏42‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏44‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏45‏)‏ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ‏(‏46‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ‏(‏48‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وإذا قِيلَ لهم ارْكَعوا لا يَرْكَعون‏}‏ أي صلّوا لا يصلّون، قال مقاتل‏.‏

نزلت في ثقيف امتنعوا عن الصلاة فنزل ذلك فيهم، وقيل إنه قال ذلك لأهل الآخرة تقريعاً لهم‏.‏

‏{‏فبأيِّ حديثٍ بَعْدَه يُؤْمنُون‏}‏ أي فبأي كتاب بعد القرآن يصدّقون‏.‏

سورة النبأ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 16‏]‏

‏{‏عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏1‏)‏ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ‏(‏3‏)‏ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ‏(‏6‏)‏ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ‏(‏7‏)‏ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ‏(‏8‏)‏ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ‏(‏9‏)‏ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ‏(‏10‏)‏ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ‏(‏11‏)‏ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ‏(‏12‏)‏ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ‏(‏14‏)‏ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ‏(‏15‏)‏ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏عَمَّ يتساءَلونَ عن النبإ العَظيمِ‏}‏ يعني عن أي شيء يتساءل المشركون‏؟‏ لأن قريشاً حيث بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت تجادل وتَختصم في الذي دعا إليه‏.‏

وفي ‏{‏النبأ العظيم‏}‏ أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ القرآن، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ يوم القيامة، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ البعث بعد الموت، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏الذي هُمْ فيه مُختَلِفَونَ‏}‏ هو البعث، فأما الموت فلم يختلفوا فيه، وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه اختلف فيه المشركون من بين مصدق منهم ومكذب، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ اختلف فيه المسلمون والمشركون، فصدّق به المسلمون وكذّب به المشركون، قاله يحيى بن سلام‏.‏

‏{‏كَلاَّ سيعْلَمون ثم كلا سيعلمون‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه وعيد بعد وعيد للكفار، قاله الحسن، فالأول‏:‏ كلا سيعلمون ما ينالهم من العذاب في القيامة، والثاني‏:‏ كلا سيعلمون ما ينالهم من العذاب في جهنم‏.‏

القول الثاني‏:‏ أن الأول للكفار فيما ينالهم من العذاب في النار، والثاني للمؤمنين فيما ينالهم من الثواب في الجنة، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏وجَعَلْنا نَوْمَكم سُباتاً‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ نعاساً، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ سكناً، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ راحة ودعة، ولذلك سمي يوم السبت سبتاً لأنه يوم راحة ودعة، قال أبو جعفر الطبري‏:‏ يقال سبت الرجل إذا استراح‏.‏

الرابع‏:‏ سُباتا أي قطعاً لأعمالهم، لأن أصل السبات القطع ومنه قولهم سبت الرجل شعره إذا قطعه، قال الأنباري‏:‏ وسمي يوم السبت لانقطاع الأعمال فيه‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ أن السبات ما قرت فيه الحواس حتى لم تدرك بها الحس‏.‏

‏{‏وجَعَلْنا اللّيلَ لِباساً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ سكناً، قاله سعيد بن جبير والسدي‏.‏

الثاني‏:‏ غطاء، لأنه يغطي سواده كما يغطى الثوب لابسه، قاله أبو جعفر الطبري‏.‏

‏{‏وجَعَلنا النهارَ مَعاشاً‏}‏ يعني وقت اكتساب، وهو معاش لأنه يعاش فيه‏.‏

ويحتمل ثانياً‏:‏ أنه زمان العيش واللذة‏.‏

‏{‏وجَعَلْنا سِراجاً وَهّاجاً‏}‏ يعني بالسراج الشمس، وفي الوهّاج أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ المنير، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ المتلألئ، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه من وهج الحر، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ أنه الوقّاد، الذي يجمع بين الضياء والجمال‏.‏

‏{‏وأَنْزَلْنا من المُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ان المعصرات الرياح، قاله ابن عباس وعكرمة، قال زيد بن أسلم هي الجنوب‏.‏

الثاني‏:‏ أنها السحاب، قاله سفيان والربيع‏.‏

الثالث‏:‏ أن المعصرات السماء، قاله الحسن وقتادة‏.‏

وفي الثجاج قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الكثير قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ المنصبّ، قاله ابن عباس، وقال عبيد بن الأبرص‏:‏

فثجّ أعلاه ثم ارتج أسفلُه *** وضاق ذَرْعاً بحمل الماء مُنْصاحِ

‏{‏لنُخرج به حبّاً ونَباتاً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ان الحب ما كان في كمام الزرع الذي يحصد، والنبات‏:‏ الكلأ الذي يرعى، وهذا معنى قول الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ أن الحب اللؤلؤ، والنبات‏:‏ العشب، قال عكرمة‏:‏ ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبتت في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أن الحب ما بذره الآدميّون، والنبات ما لم يبذروه‏.‏

‏{‏وجنّاتٍ أَلْفافاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الزرع المجتمع بعضه إلى جنب بعض، قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الشجرالملتف بالثمر، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ أنها ذات الألوان، قاله الكلبي‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أنها التي يلف الزرع أرضها والشجر أعاليها، فيجتمع فيها الزرع والشجر ملتفات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 30‏]‏

‏{‏إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ‏(‏18‏)‏ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ‏(‏19‏)‏ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ‏(‏20‏)‏ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ‏(‏21‏)‏ لِلطَّاغِينَ مَآَبًا ‏(‏22‏)‏ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ‏(‏23‏)‏ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ‏(‏24‏)‏ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ‏(‏25‏)‏ جَزَاءً وِفَاقًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ‏(‏27‏)‏ وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا ‏(‏28‏)‏ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ‏(‏29‏)‏ فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏إنّ يومَ الفصلِ‏}‏ يعني يوم القيامة، سمي بذلك لأنه يفصل فيه الحكم بين الأولين والآخرين والمثابين والمعاقبين‏.‏

‏{‏كانَ مِيقاتاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ميعاداً للإجتماع‏.‏

والثاني‏:‏ وقتاً للثواب والعقاب‏.‏

‏{‏وسُيِّرتِ الجبالُ فكانتْ سَراباً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ سُيّرت أي أزيلت عن مواضعها‏.‏

الثاني‏:‏ نسفت من أصولها‏.‏

«فكانت سراباً» فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فكانت هباءً‏.‏

الثاني‏:‏ كالسراب لا يحصل منه شيء كالذي يرى السراب يظنه ماء وليس بماء‏.‏

‏{‏إنّ جهنّمَ كانت مِرْصاداً‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يعني أنها راصدة فجازتهم بأعمالهم، قاله أبو سنان‏.‏

الثاني‏:‏ أن على النار رصداً، لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه، فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجئ بجواز لم يجز، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ أن المرصاد وعيد أوعد الله به الكفار، قاله قتادة‏.‏

‏{‏للطّاغينَ مَآباً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ مرجعاً ومنقلباً، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ مأولى ومنزلاً، قاله قتادة‏.‏

والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر أو في دنياه بالظلم‏.‏

‏{‏لابِثينَ فيها أَحْقاباً‏}‏ يعني كلما مضى حقب جاء حقب وكذلك إلى الأبد واختلفوا في مدة الحقب على سبعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ثمانون سنة، قاله أبو هريرة‏.‏

الثاني‏:‏ أربعون سنة، قاله ابن عمر‏.‏

الثالث‏:‏ سبعون سنة، قاله السدي‏.‏

الرابع‏:‏ أنه ألف شهر، رواه أبو أمامة مرفوعاً‏.‏

الخامس‏:‏ ثلاثمائة سنة، قاله بشير بن كعب‏.‏

السادس‏:‏ سبعون ألف سنة، قاله الحسن‏.‏

السابع‏:‏ أنه دهر طويل غير محدود، قاله قطرب‏.‏

وفي تعليق لبثهم بالأحقاب قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه على وجه التكثير، كلما مضت أحقاب جاءَت بعدها أحقاب، وليس ذلك بحد لخلودهم في النار‏.‏

الثاني‏:‏ أن ذلك حد لعذابهم بالحميم والغسّاق، فإذا انقضت الأحقاب عذبوا بغير ذلك من العذاب‏.‏

‏{‏لا يَذُوقونَ فيها بَرداً ولا شَراباً‏}‏ في البرد ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه برد الماء، وبرد الهواء، وهو قول كثير من المفسرين‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الراحة، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه النوم، قاله مجاهد والسدي وأبو عبيدة‏.‏

وأنشد قول الكندي‏:‏

بَرَدَتْ مَراشِفُها علىَّ فَصَدَّني *** عنها وعن تَقْبيلِها البَرْدُ

يعني النوم‏.‏

والشراب ها هنا‏:‏ العذاب‏.‏

ويحتمل أن يريد بالشراب الري، لأن الشراب يروي وهم فيها عطاش أبداً‏.‏

‏{‏إلاّ حَميماً وغَسّاقاً‏}‏ أما الحميم ففيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الحارّ الذي يحرق، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ دموع أعينهم في النار تجتمع في حياض في النار فيُسقونْه، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه نوع من الشراب لأهل النار، قاله السدي‏.‏ وأما الغسّاق ففيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدهاك أنه القيح الغليظ، قاله ابن عمر‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الزمهرير البارد الذي يحرق من برده، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنه صديد أهل النار، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ أنه المنتن باللغة الطحاوية، قاله ابن زيد‏.‏

‏{‏جزاءً وِفاقاً‏}‏ وهو جمع وفق، قال أهل التأويل‏:‏ وافق سوءُ الجزاء سوءَ العمل‏.‏

‏{‏إنهم كانوا لا يَرْجُونَ حِساباً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ لا يخافون وعيد الله بحسابهم ومجازاتهم، وهذا معنى قول قتادة‏.‏

‏{‏وكذّبوا بآياتِنا كِذّاباً‏}‏ يعني بآيات القرآن، وفي «كِذّاباً» وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الكذب الكثير‏.‏

الثاني‏:‏ تكذيب بعضهم لبعض، ومنه قول الشاعر‏:‏

فَصَدَقْتُها وَكَذَبْتُها *** والمرءُ يَنْفعُهُ كِذابُهْ

وهي لغة يمانية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 36‏]‏

‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ‏(‏31‏)‏ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ‏(‏32‏)‏ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ‏(‏33‏)‏ وَكَأْسًا دِهَاقًا ‏(‏34‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ‏(‏35‏)‏ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏إنّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ نجاة من شرها، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ فازوا بأن نجوا من النار بالجنة، ومن العذاب بالرحمة، قاله قتادة، وتحقيق هذا التأويل أنه الخلاص من الهلاك، ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها مفازة تفاؤلاً بالخلاص منها‏.‏

‏{‏وكَواعِبَ أَتْراباً‏}‏ في الكواعب قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ النواهد، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ العذارى، قاله الضحاك، ومنه قول قيس بن عاصم‏:‏

وكم مِن حَصانٍ قد حَويْنا كريمةٍ *** ومِن كاعبٍ لم تَدْرِ ما البؤسُ مُعْصر

وفي الاتراب أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ الأقران، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ الأمثال، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ المتصافيات، قاله عكرمة‏.‏

الرابع‏:‏ المتآخيات، قاله السدي‏.‏

‏{‏وكأساً دِهاقاً‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ مملوءة، قاله ابن عباس، ومنه قول الشاعر‏:‏

أتانا عامرٌ يَبْغي قِرانا *** فأَتْرَعنا له كأساً دِهاقاً

الثاني‏:‏ متتابعة يتبع بعضها بعضاً، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ صافية، رواه عمر بن عطاء، قال الشاعر‏:‏

لأنْتِ آلى الفؤادِ أَحَبُّ قُرْباً *** مِن الصّادي إلى كأسٍ دِهَاقِ‏.‏

‏{‏لا يَسْمعونَ فيها لَغْواً ولا كِذّاباً‏}‏ في اللغو ها هنا أربعة أقاويل‏:‏

أحدها الباطل، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ الحلف عند شربها، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ الشتم، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ المعصية، قاله الحسن‏.‏

وفي «كِذّاباً» ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدهاك لا يكذب بعضهم بعضاً، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الخصومة، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ أنه المأثم، قاله قتادة‏.‏

وفي قوله ‏{‏لا يَسْمَعونَ فيها‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في الجنة، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ في شرب الخمر، قاله يحيى بن سلام‏.‏

‏{‏جزاءً من ربكَ عَطاءً حِساباً‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ كافياً، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ كثيراً، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ حساباً لما عملوا، فالحساب بمعنى العد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 40‏]‏

‏{‏رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ‏(‏37‏)‏ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا ‏(‏39‏)‏ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏يومَ يقومُ والرُّوحُ الملائكةُ صَفّاً‏}‏ في الروح ها هنا ثمانية أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ الروح خلق من خلق الله كهيئة الناس وليسوا أناساً، وهم جند للَّه سبحانه، قاله أبو صالح‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم أشرف الملائكة، قاله مقاتل بن حيان‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم حفظة على الملائكة، قاله ابن أبي نجيح‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم حفظة على الملائكة خلقاً، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ أنه ملك من أعظم الملائكة خلقاً، قاله ابن عباس‏.‏

الخامس‏:‏ هو جبريل عليه السلام، قاله سعيد بن جبير‏.‏

السادس‏:‏ أنهم بنو آدم، قاله قتادة‏.‏

السابع‏:‏ أنهم بنو آدم، قاله قتادة‏.‏

الثامن‏:‏ أنه القرآن، قاله زيد بن أسلم‏.‏

‏{‏لا يتكلمونَ إلا مَنْ أَذِنَ له الرحمنُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يشفعون إلا من أذن له الرحمن في الشفاعة، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ لا يتكلمون في شيء إلا من أذن له الرحمن شهادة أن لا إله إلا الله، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏وقالَ صَواباً‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يعني حقاً، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ قول لا إله إلا الله، قاله أبو صالح‏.‏

الثالث‏:‏ أن الروح يقول يوم القيامة‏:‏ لا تُدخل الجنة إلا بالرحمة، ولا النار إلا بالعمل، فهو معنى قوله «وقال صواباًَ» قاله الحسن‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أنه سؤال الطالب وجواب المطلوب، لأن كلام الخلق في القيامة مقصور على السؤال والجواب‏.‏

‏{‏ذلك اليومُ الحقُّ‏}‏ يعني يوم القيامة، وفي تسميته الحق وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأن مجئيه حق وقد كانوا على شك‏.‏

الثاني‏:‏ أنّ الله تعالى يحكم فيه بالحق بالثواب والعقاب‏.‏

‏{‏فمن شاءَ اتّخَذ إلى ربِّه مآباً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ سبيلاً، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ مرجعاً، قاله ابن عيسى‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ اتخذ ثواباً لاستحقاقه بالعمل لأن المرجع يستحق على المؤمن والكافر‏.‏

‏{‏إنّا أنذْرْناكم عَذاباَ قريباً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ عقوبة الدنيا، لأنه أقرب العذابين، قاله قتادة، وقاله مقاتل‏:‏ هو قتل قريش ببدر‏.‏

الثاني‏:‏ عذاب يوم القيامة، لأنه آت وكل آت قريب، وهو معنى قول الكلبي‏.‏

‏{‏يومَ ينظُرُ المْرءُ ما قدَّمَتْ يَداهُ‏}‏ يعني يوم ينظر المرء ما قدّم من عمل خير، قال الحسن‏:‏ قدَّم فقَدِم على ما قَدَّم‏.‏ ويحتمل أن يكون عامّاً في نظر المؤمن إلى ما قدّم من خير، ونظر الكافر إلى ما قدّم من شر‏.‏

‏{‏ويقولُ الكافرُ يا لَيْتني كنتُ تُراباً‏}‏ قال مجاهد يبعث الحيوان فيقاد للمنقورة من الناقرة، وللمركوضة من الراكضة، وللمنطوحة من الناطحة، ثم يقول الرب تعالى‏:‏ كونوا تراباً بلا جنة ولا نار، فيقول الكافر حينئذ‏:‏ يا ليتني كنت تراباً وفي قوله ذلك وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يا ليتني صرت اليوم مثلها تراباً بلا جنة ولا نار، قاله مجاهد‏.‏ الثاني‏:‏ يا ليتني كنت مثل هذا الحيوان في الدنيا وأكون اليوم تراباً، قاله أبو هريرة‏:‏ وهذه من الأماني الكاذبة كما قال الشاعر‏:‏

ألا يا ليتني والمْرءُ مَيْتُ *** وما يُغْني من الحدثانِ لَيْت‏.‏

قال مقاتل‏:‏ نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم ينظر المرء ما قدّمت يداهُ‏}‏ في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ونزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً‏}‏ في أخيه الأسود بن عبد الأسد‏.‏

سورة النازعات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ‏(‏1‏)‏ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ‏(‏2‏)‏ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ‏(‏3‏)‏ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ‏(‏4‏)‏ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ‏(‏6‏)‏ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ‏(‏7‏)‏ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ‏(‏8‏)‏ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ‏(‏10‏)‏ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً ‏(‏11‏)‏ قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ‏(‏12‏)‏ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ‏(‏13‏)‏ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏والنَّأزِعاتِ غَرْقاً‏}‏ فيه ستة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ هي الملائكة تنزع نفوس بني آدم، قاله ابن مسعود ومسروق‏.‏

الثاني‏:‏ هو الموت ينزع النفوس، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ هي النفوس حين تنزع، قاله السدي‏.‏

الرابع‏:‏ هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، ومن المشرق إلى المغرب، قاله الحسن وقتادة‏.‏

والخامس‏:‏ هي القسيّ تنزع بالسهم، قاله عطاء‏.‏

السادس‏:‏ هي الوحش تنزع من الكلأ وتنفر، حكاه يحيى بن سلام، ومعنى «غرقاً» أي إبعاداً في النزع‏.‏

‏{‏والناشِطات نَشْطاً‏}‏ فيه ستة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ هي الملائكة تنشط أرواح المؤمنين بسرعة كنشط العقال، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ النجوم التي تنشط من مطالعها إلى مغاربها، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ هو الموت ينشط نفس الإنسان، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ هي النفس حيث نشطت بالموت، قاله السدي‏.‏

الخامس‏:‏ هي الأوهاق، قاله عطاء‏.‏

السادس‏:‏ هي الوحش تنشط من بلد إلى بلد، كما أن الهموم تنشط الإنسان من بلد إلى بلد، قاله أبو عبيدة، وانشد قول همام بن قحافة‏:‏

أمْسَتْ همومي تنشط المناشِطا *** الشامَ بي طَوْراً وطَوْراً واسطاً‏.‏

‏{‏والسّابحاتِ سَبْحاً‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ هي الملائكة سبحوا إلى طاعة الله من بني آدم، قاله ابن مسعود والحسن‏.‏

الثاني‏:‏ هي النجوم تسبح في فلكها، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ هو الموت يسبح في نفس ابن آدم، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ هي السفن تسبح في الماء، قاله عطاء‏.‏

الخامس‏:‏ هي الخيل، حكاه ابن شجرة، كما قال عنترة‏:‏

والخيلُ تعْلم حين تس *** بَحُ في حياضِ المْوتِ سَبْحاً

ويحتمل سادساً‏:‏ أن تكون السابحات الخوض في أهوال القيامة‏.‏

‏{‏فالسّابقاتِ سَبْقاً‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، قاله عليّ رضي الله عنه ومسروق‏.‏

وقال الحسن‏:‏ سبقت إلى الايمان‏.‏

الثاني‏:‏ هي النجوم يسبق بعضها بعضاً، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ هوالموت يسبق إلى النفس، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ هي النفس تسبق بالخروج عند الموت، قاله الربيع‏.‏

الخامس‏:‏ هي الخيل، قاله عطاء‏.‏

ويحتمل سادساً‏:‏ أن تكون السابقات ما سبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار‏.‏

‏{‏فالمُدَبِّرات أمْراً‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ هي الملائكة، قاله الجمهور، فعلى هذا في تدبيرها بالأمر وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تدبير ما أمرت به وأرسلت فيه‏.‏

الثاني‏:‏ تدبير ما وكلت فيه من الرياح والأمطار‏.‏

الثاني‏:‏ هي الكواكب السبعة، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل؛ وعلى هذا في تدبيرها للأمر وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ تدبير طلوعها وأفولها‏.‏

الثاني‏:‏ تدبير ما قضاه الله فيها من تقلب الأحوال‏.‏

ومن أول السورة إلى هذا الموضع قسم أقسم الله به، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن ذكرها بخالقها‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أقسم بها وإن كانت مخلوقة لا يجوز لمخلوق أن يقسم بها، لأن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه‏.‏

وجواب ما عقد له القسم ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه مضمر محذوف وتقديره لو أظْهر‏:‏ لتُبْعَثُن ثم لُتحاسبُن، فاستغنى بفحوى الكلام وفهم السامع عن إظهاره، قاله الفراء‏.‏

الثاني‏:‏ أنه مظهر، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لعبرةً لمن يخشى‏}‏ قاله مقاتل‏.‏

الثالث‏:‏ هو قوله تعالى‏:‏

‏{‏يومَ ترْجفُ الراجفةُ * تَتْبعُها الرادِفةُ‏}‏ وفيهما ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الراجفة القيامة، والرادفة البعث، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أن الراجفة النفخة الأولى تميت الأحياء، والرادفة‏:‏ النفخة الثانية تحيي الموتى، قاله الحسن وقتادة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «بينهما أربعون، ما زادهم على ذلك ولا سألوه، وكانوا يرون أنها أربعون سنة»‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ الأولى من الدنيا، والثانية من الآخرة‏.‏

الثالث‏:‏ أن الراجفة الزلزلة التي ترجف الأرض والجبال والرادفة إذا دكّتا دكة واحدة، قاله مجاهد‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أن الراجفة أشراط الساعة، والرادفة‏:‏ قيامها‏.‏

‏{‏قلوبٌ يومئذٍ واجِفَةٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ خائفة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ طائرة عن أماكنها، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏أَبْصارُها خاشِعَة‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ذليلة، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ خاضعة، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏يقولون أئنا لَمْردودُونَ في الحافِرةِ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن الحافرة الحياة بعد الموت، قاله ابن عباس والسدي وعطية‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الأرض المحفورة، قاله ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ أنها النار، قاله ابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ أنها الرجوع إلى الحالة الأولى تَكذيباً بالبعث، من قولهم رجع فلان على قومه إذا رجع من حيث جاء، قاله قتادة، قال الشاعر‏:‏

أحافرة على صَلَعٍ وشيْبٍ *** معاذَ اللَّه من جَهْلٍ وطَيْشِ

‏{‏أَئِذا كْنَا عِظاماً نَخِرةً‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ بالية، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ عفنة، قاله ابن شجرة‏.‏

الثالث‏:‏ خالية مجوفة تدخلها الرياح فتنخر، أي تصوّت، قاله عطاء والكلبي‏.‏

ومن قرأ «ناخرة» فإن الناخرة البالية، والنخرة التي تنخر الريح فيها‏.‏

‏{‏تلك إذاً كَرّةٌ خاسِرةٌ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ باطلة لا يجيء منها شيء، كالخسران، وليست كاسبة، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ معناه لئن رجعنا أحياء بعد الموت لنخسرنّ بالنار، قاله قتادة ومحمد بن كعب‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ إذا كنا ننتقل من نعيم الدنيا إلى عذاب الآخرة فهي كرة خاسرة‏.‏

‏{‏فإنّما هي زجْرةٌ واحدةٌ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ نفخة واحدة يحيا بها الجميع فإذا هم قيام ينظرون، قاله الربيع بن أنس‏.‏

الثاني‏:‏ الزجرة الغضب، وهو غضب واحد، قاله الحسن‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أنه لأمر حتم لا رجعة فيه ولا مثنوية‏.‏

‏{‏فَإذَا هم بالسّاهرةِ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ وجه الأرض، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد، والعرب تسمي وجه الأرض ساهرة لأن فيها نوم الحيوان وسهره، قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

وفيها لحْمُ ساهرةٍ وبَحرٌ *** وما فاهوا به لهمُ مُقيم

وقال آخر يوم ذي قار لفرسه‏:‏

أَقْدِمْ مَحاجِ إنها الأساوِره *** ولا يهولنّك رِجْلٌ بادِرهْ

فإنما قَصْرُكَ تُرْبُ السّاهرهْ *** ثم تعودُ، بَعْدها في الحافرهْ

من بَعْد ما صِرْتَ عظاماً ناخِرهْ *** الثاني‏:‏ أنه اسم مكان من الأرض بعينه بالشام، وهو الصقع الذي بين جبل أريحا وجبل حسّان، يمده الله تعالى كيف يشاء، قاله عثمان بن أبي العاتكة‏.‏

الثالث‏:‏ أنها جبل بيت المقدس، قاله وهب بن منبه‏.‏

الرابع‏:‏ أنه جهنم، قاله قتادة‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ أنها عرضة القيام لأنها أول مواقف الجزاء، وهم في سهر لا نوم فيه‏.‏