فصل: سورة العصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


سورة العصر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏وَالْعَصْرِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ‏(‏2‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏والعَصْرِ‏}‏ وهذا قَسَمٌ، فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن العصر الدهر، قاله ابن عباس وزيد بن أسلم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه العشي ما بين زوال الشمس وغروبها، قاله الحسن وقتادة، ومنه قول الشاعر‏:‏

تَرَوّحْ بنا يا عمرُو قد قصر العَصْرُ *** وفي الرَّوْحةِ الأُولى الغنيمةُ والأَجْرُ

وخصه بالقسم لأن فيه خواتيم الأعمال‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أن يريد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم لفضله بتجديد النبوة فيه‏.‏

وفيه رابع‏:‏ أنه أراد صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى، لأنها أفضل الصلوات، قاله مقاتل‏.‏

‏{‏إنّ الإنسانَ لَفي خُسْر‏}‏ يعني بالإنسان جنس الناس‏.‏

وفي الخسر أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لفي هلاك، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ لفي شر، قاله زيد بن أسلم‏.‏

الثالث‏:‏ لفي نقص، قاله ابن شجرة‏.‏

الرابع‏:‏ لفي عقوبة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان عاقبة أمْرِها خُسْراً‏}‏ وكان عليّ رضي الله عنه يقرؤها‏:‏ والعصر ونوائب الدهر إنّ الإنسان لفي خُسْرِ وإنه فيه إلى آخر الدهر‏.‏

‏{‏إلا الذين آمنوا وعَمِلوا الصّالحاتِ وتَواصَوْا بالحَقِّ‏}‏ في الحق ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه التوحيد، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أنه القرآن، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الله، قاله السدي‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أن يوصي مُخَلَّفيه عند حضور المنية ألا يمُوتنَّ إلا وهم مسلمون‏.‏

‏{‏وتَوَاصوا بالصَّبْر‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ على طاعة الله، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ على ما افترض الله، قاله هشام بن حسان‏.‏

ويحتمل تأويلاً ثالثاً‏:‏ بالصبر عن المحارم واتباع الشهوات‏.‏

سورة الهمزة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ‏(‏1‏)‏ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ‏(‏2‏)‏ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ‏(‏3‏)‏ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ‏(‏4‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ‏(‏5‏)‏ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ‏(‏6‏)‏ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ‏(‏8‏)‏ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏وَيْلٌ لكلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن الهمزة المغتاب، واللمزة العيّاب، قاله ابن عباس، ومنه قول زياد الأعجم‏:‏

تُدْلي بوُدّي إذا لاقيتني كَذِباً *** وإن أُغَيّبْ فأنْتَ الهامزُ اللُّمَزة

الثاني‏:‏ أن الهمزة الذي يهمز الناس، واللمزة الذي يلمزهم بلسانه، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ أن الهمزة الذي يهمز في وجهه إذا أقبل، واللمزة الذي يلمزه من خلفه إذا أدبر، قاله أبو العالية، ومنه قول حسان‏:‏

همزتك فاخْتَضَعْتَ بذُلَّ نفْسٍ *** بقافيةٍ تأَجج كالشُّواظِ

الرابع‏:‏ أن الهمزة الذي يعيب جهراً بيد أو لسان، واللمزة الذي يعيبهم سراً بعين أو حاجب، قاله عبد الملك بن هشام‏.‏

قال رؤبة‏:‏

في ظل عَصْرَيْ باطِلي وَلَمزِي ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

واختلفوا فيمن نزلت فيه على خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ في أُبي بن خلف، قاله عمار‏.‏

الثاني‏:‏ في جميل بن عامر الجمحي، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ في الأخنس بن شريق الثقفي، قاله السدي‏.‏

الرابع‏:‏ في الوليد بن المغيرة، قاله ابن جريج‏.‏

الخامس‏:‏ أنها مرسلة على العموم من غير تخصيص، وهو قول الأكثرين‏.‏

‏{‏الذي جَمَعَ مَالاً وعَدَّدَه‏}‏ فيه اربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني أحصى عدده، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ عددّ أنواع ماله، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ لما يكفيه من الشين، قاله عكرمة‏.‏

الرابع‏:‏ اتخذ ماله لمن يرثه من أولاده‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ أنه فاخر بعدده وكثرته‏.‏

‏{‏يَحْسَبُ أَنّ مالَه أَخْلَدَهُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يزيد في عمره، قال عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ يمنعه من الموت، قال السدي‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ ينفعه بعد موته‏.‏

‏{‏كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ في الحُطَمَةِ‏}‏ وفيها ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه اسم باب من أبواب جهنم، قاله ابن واقد، وقال الكلبي هو الباب السادس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه اسم درك من أدراك جهنم، وهو الدرك الرابع، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ أنه اسم من أسماء جهنم، قاله ابن زيد‏.‏

وفي تسميتها بذلك وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأنها تحطم ما أُلقي فيها، أي تكسره وتهده، ومنه قول الراجز‏:‏

إنا حَطْمنا بالقضيب مُصْعَبا *** يومَ كَسَرنا أَنْفَه ليَغْضَبا

‏{‏التي تَطّلِعُ على الأَفئدةِ‏}‏ روى خالد بن أبي عمران عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النار تأكل أهلها حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت، ثم إذا صدروا تعود، فذلك قوله ‏{‏نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة‏}‏ ويحتمل اطلاعها على الأفئدة وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لتحس بألم العذاب مع بقاء الحياة ببقائها‏.‏

الثاني‏:‏ استدل بما في قلوبهم من آثار المعاصي وعقاب على قدر استحقاقهم لألم العذاب، وذلك بما استبقاه الله تعالى من الإمارات الدالة عليه‏.‏

‏{‏إنَّها عليهم مْؤْصَدَةٌ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ مطبقة، قاله الحسن والضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ مغلقة بلغة قريش، يقولون آصد الباب إذا أغلقه، قاله مجاهد ومنه قول عبيد الله بن قيس الرقيات‏:‏

إن في القَصْر لو دَخَلنْا غَزالاً *** مُصْفقاً مُوصَداً عليه الحجابُ

الثالث‏:‏ مسدودة الجوانب لا ينفتح منها جانب، قاله سعيد بن المسيب، وقال مقاتل بن سليمان‏:‏ لا يدخلها روْح ولا يخرج منها غم‏.‏

‏{‏في عَمَدٍ مُمَدَّدةٍ‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها موصدة بعمد ممددة، قاله ابن مسعود، وهي في قراءته «بعَمَدٍ ممدّدة»‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم معذبون فيها بعُمد محددة، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أن العُمد الممدة الأغلال في أعناقهم، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ أنها قيود في أرجلهم، قاله أبو صالح‏.‏

الخامس‏:‏ معناه في دهر ممدود، قاله أبو فاطمة‏.‏

سورة الفيل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ‏(‏1‏)‏ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ‏(‏2‏)‏ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ‏(‏3‏)‏ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ‏(‏4‏)‏ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألمْ تَرَ كيفَ فَعَلَ ربُّكَ بأصْحابِ الفِيل‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ألم تخبر فتعلم كيف فعل ربك بأصحاب الفيل‏.‏

الثاني‏:‏ ألم ترَ آثار ما فعل ربك بأصحاب الفيل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير أصحاب الفيل‏.‏

واختلف في مولده عليه السلام من عام الفيل على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن مولده بعد أربعين سنة من عام الفيل، قاله مقاتل‏:‏

الثاني‏:‏ بعد ثلاث وعشرين سنة منه، قاله الكلبي وعبيد بن عمير‏.‏

الثالث‏:‏ أنه عام الفيل، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي عنه أنه قال‏:‏ ولدت يوم الفيل‏.‏

واختلف في سبب الفيل على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ ماحكاه ابن عباس‏:‏ أن أبرهة بن الصباح بنى بيعة بيضاء يقال لها القليس، وكتب إلى النجاشي إني لست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب، فسمع ذلك رجل من كنانة، فخرج إلى القليس ودخلها ليلاً فأحدث فيها، فبلغ ذلك أبرهة فحلف بالله ليسيرن إلى الكعبة فيهدمها، فجمع الأحابيش وجنّد الأجناد، وسار، ودليله أبو رغال، حتى نزل بالمغمّس، وجعل على مقدمته الأسود بن مقصود حتى سبى سرح مكة وفيه مائتا بعير لعبد المطلب قد قلّد بعضها، وفيه يقول عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف‏:‏

لأهمّ أخْزِ الأسود بن مقصودِ *** الآخذ الهجمة فيها التقليدْ

بين حراء، وثبير فالبيد *** يحبسها وفي أُولات التطريدْ

فضمّها إلى طماطم سُودْ *** قد أجْمعوا ألا يكون معبودْ‏.‏

ويهْدموا البيت الحرام المعمود *** والمروتين والمشاعر السودْ

اخْفره يا ربِّ وأنت محمودْ *** وتوجه عبد المطلب وكان وسيماً جسيماً لا تأخذه العين إلى أبرهة، وسأله في إبله التي أخذت، فقال أبرهة‏:‏ لقد كنت أعجبتني حين رأيتك وقد زهدت الآن فيك، قال‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ جئت لأهدم بيتاً هو دينك ودين آبائك فلم تكلمني فيه، وكلمتني في مائتي بعير لك، فقال عبد المطلب‏:‏ الإبل أنا ربها، وللبيت رب سيمنعه، فقال أبرهة‏:‏ ما كان ليمنعه مني، فقال عبد المطلب‏:‏ لقد طلبته تبّع وسيف بن ذي يزن وكسرى فلم يقدروا عليه، وأنت ذاك فرد عليه إبله، وخرج عبد المطلب وعاد إلى مكة، فأخبر قريشاً بالتحرز في الجبال، وأتى البيت وأخذ بحلقة الباب وجعل يقول‏:‏

لاهمّ إنّ العْبدَ يَمْ *** نَعُ رحْلَهُ فامْنَع حَلالَكْ‏.‏

لا يَغْلبنّ صَليبُهم *** ومحالُهم غَدْواً مِحالكْ‏.‏

إنْ كنتَ تاركَهم وقب *** لَتَنا فأمْرٌ ما بدا لَكَ‏.‏

المحال‏:‏ القوة‏.‏ الثاني‏:‏ ما حكاه الكلبي ومقاتل يزيد أحدهما وينقص أن فتية من قريش خرجوا إلى أرض الحبشة تجاراً، فنزلوا على ساحل البحر على بيعة النصارى في حقف من أحقافها، قال الكلبي تسمى البيعة ما سرجيان، وقال مقاتل‏:‏ تسمى الهيكل، فأوقدوا ناراً لطعامهم وتركوها وارتحلوا فهبت ريح عاصف فاضطرمت البيعة ناراً فاحترقت، فأتى الصريخ إلى النجاشي فأخبره، فاستشاط غضباً، وأتاه أبرهة بن الصبّاح وحجر بن شراحبيل وأبو يكسوم الكِنْديون، وضمنوا له إحراق الكعبة وسبي مكة، وكان النجاشي هو الملك، وأبرهة صاحب الجيش، وأبو يكسوم نديم الملك وقيل وزيره، وحجر بن شراحبيل من قواده، وقال مجاهد‏:‏ أبو يكسوم هو أبرهة بن الصبّاح، فساروا بالجيش ومعهم الفيل، قال الأكثرون‏:‏ هو فيل واحد، وقال الضحاك‏:‏ كانت ثمانية فيلة، ونزلوا بذي المجاز، واستاقوا سرح مكة، وفيها إبل عبد المطلب، وأتى الراعي نذيراً فصعد الصفا وصاح‏:‏ واصباحاه‏!‏ ثم أخبر الناس بمجيء الجيش والفيل، فخرج عبد المطلب وتوجه إلى أبرهة وسأله في إبله، فردّها مستهزئاً ليعود لأخذها إذا دخل مكة‏.‏

واختلف في النجاشي هل كان معهم أم لا، فقال قوم‏:‏ كان معهم، وقال الآخرون‏:‏ لم يكن معهم‏.‏

وتوجه الجيش إلى مكة لإحراق الكعبة، فلما ولى عبد المطلب بإبله احترزها في جبال مكة، وتوجه إلى مكة من طريق منى، وكان الفيل إذا بعث إلى الحرم أحجم، وإذا عدل به عنه أقدم، قال محمد بن إسحاق‏:‏ كان اسم الفيل محمود، وقالت عائشة‏:‏ رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين مقعدين يستطعمان أهل مكة‏.‏

ووقفوا بالمغمّس فقال عبد الله بن مخزوم‏:‏

أنت الجليل ربنا لم تدنس *** أنت حبست الفيل بالمغمّس

حبسته في هيئة المكركس *** وما لهم من فرجٍ ومنفسِ‏.‏

المكركس‏:‏ المطروح المنكوس‏.‏

وبصر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية البحر، فقال عبد المطلب‏:‏ إن هذه لطير غريبة بأرضنا، ما هي بنجدية ولا تهامية ولا حجازية، وإنها أشباه اليعاسيب، وكان في مناقيرها وأرجلها حجارة، فلما أطلت على القوم ألقتها عليهم حتى هلكوا، قال عطاء بن أبي رباح‏:‏ جاءت الطير عشية فبانت، ثم صبحتهم بالغداة فرمتهم، وقال عطية العوفي‏:‏ سألت عنها أبا سعيد الخدري‏:‏ فقال‏:‏ حمام مكة منها‏.‏

وأفلت من القوم أبرهة ورجع إلى اليمن فهلك في الطريق‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ أبرهة هو جد النجاشي الذي كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أيقنوا بهلاك القوم، قال الشاعر‏:‏

أين المفر والإله الطالبْ *** والأَشرمُ المغلوبُ ليس الغالبْ

يعني بالأشرم أبرهة، سمي بذلك لأن أرياط ضربه بحربة فشرم أنفة وجبينه، أي وقع بعضه على بعض‏.‏

وقال أبو الصلت بن مسعود، وقيل بل قاله عبد المطلب‏:‏

إنّ آياتِ ربِّنا ناطِقاتٌ *** لا يُماري بهنّ إلا الكَفُور‏.‏

حَبَسَ الفيلَ بالمغّمس حتى *** مَرَّ يعْوي كأنه مَعْقورُ‏.‏

‏{‏ألمْ يَجْعَلْ كَيْدَهم في تَضْليل‏}‏ لأنهم أرادوا كيد قريش بالقتل والسبي، وكيد البيت بالتخريب والهدم‏.‏

يحكى عن عبد المطلب بعد ما حكيناه عنه أنه أخذ بحلقة الباب وقال‏:‏

يا رب لا نرجو لهم سواكا *** يا رب فامنع منهم حماكا‏.‏

إن عدو البيت من عاداكا *** امنعهم أن يخربوا قراكا‏.‏

ثم إن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله على فرس له سريع، ينظر ما لقوا فإذا القوم مشدخون، فرجع يركض كاشفاً عن فخده، فلما رأى ذلك أبوه قال‏:‏ إن ابني أفرس العرب وما كشف عن فخذه إلا بشيراً أو نذيراً‏.‏ فلما دنا من ناديهم بحيث يُسمعهم قالوا‏:‏ ما وراءك‏؟‏ قال‏:‏ هلكوا جميعاً، فخرج عبد المطلب وأصحابه فأخذوا أموالهم، فكانت أموال بني عبد المطلب، وبها كانت رياسة عبد المطلب لأنه احتمل ما شاء من صفراء وبيضاء، ثم خرج أهل مكة بعده فنهبوا، فقال عبد المطلب‏:‏

أنتَ مَنعْتَ الحُبْشَ والأَفْيالا *** وقد رَعَوا بمكةَ الأَجيالا

وقد خَشِينا منهم القتالا *** وكَلَّ أمرٍ لهمن مِعضالا

وشكراً وحْمداً لك ذا الجلالا‏.‏ *** ويحتمل تضليل كيدهم وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن كيدهم أضلهم حتى هلكوا‏.‏

الثاني‏:‏ أن هلاكهم أضل كيدهم حتى بطل‏.‏

‏{‏وأرْسَلَ عليهم طَيْراً أَبابِيلَ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها من طير السماء، قاله سعيد بن جبير‏:‏ لم ير قبلها ولا بعدها مثلها ويروي جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إنها طير بين السماء والأرض تعشعش وتفرخ»‏.‏

القول الثاني‏:‏ أنها العنقاء المغرب التي تضرب بها الأمثال، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ أنها من طير الأرض، أرسلها الله تعالى من ناحية البحر، مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجران في رجليه، وحجر في منقاره، قاله الكلبي، وكانت سوداً، خضر المناقير طوال الأعناق، وقيل‏:‏ بل كانت أشباه الوطاويط، وقالت عائشة‏:‏ كن أشباه الخطاطيف‏.‏

واختلف في «أبابيل» على خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الكثيرة، قاله الحسن وطاوس‏.‏

الثاني‏:‏ المتتابعة التي يتبع بعضها بعضاً، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنها المتفرقة من ها هنا وها هنا، قاله ابن مسعود والأخفش، ومنه قول الشاعر‏:‏

إن سلولاً عداك الموت عارفة *** لولا سلول مشينا أبابيلا

أي متفرقين‏.‏

الرابع‏:‏ أن الأبابيل المختلفة الألوان، قاله زيد بن أسلم‏.‏

الخامس‏:‏ أن تكون جمعاً بعد جمع، قاله أبو صالح وعطاء، ومنه قول الشاعر‏:‏

وأبابيل من خيول عليها *** كأسود الأداء تحت العوالي‏.‏

وقال إسحاق بن عبد الله بن الحارث‏:‏ الأبابيل مأخوذ من الإبل المؤبلة، وهي الأقاطيع‏.‏

واختلف النحويون هل للأبابيل واحد من جنسه، فذهب أبو عبيدة والفراء وثعلب إلى أنه لا واحد له كالعباديد والسماطيط، وذهب آخرون إلى أن له واحد، واختلفوا في واحده، فذهب أبو جعفر الرؤاسي إلى أن واحدة إبّالة مشددة، وقال الكسائي‏:‏ واحدها إبول، وقال ابن كيسان واحدة إبيّل‏.‏

‏{‏تَرْميهم بحجارةٍ مِن سِجّيلٍ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن السجيل كلمة فارسية هي سنك وكل، أولها حجر، وآخرها‏:‏ طين، قال ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أن السجيل هو الشديد، قاله أبو عبيدة، ومنه قول ابن مقبل‏:‏

ورجْلةٍ يضْرِبون البَيْضَ عن عَرَضٍ *** ضَرْباً تواصى به الأَبطالُ سِجِّيلاً

الثالث‏:‏ أن السجيل اسم السماء الدنيا، فنسبت الحجارة إليها لنزولها منها، قاله ابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ أنه اسم بحر من الهواء، منه جاءت الحجارة فنسبت إليه، قاله عكرمة وفي مقدار الحجر قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه حصى الخذف، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ كان الحجر فوق العدسة ودون الحمصة، قاله أبو صالح‏:‏ رأيت في دار أم هانئ نحو قفيز من الحجارة التي رمي بها أصحاب الفيل مخططة بحمرة كأنها الجزع، وقال ابن مسعود‏:‏ ولما رمت الطير بالحجارة بعث الله ريحها فزادتها شدة، وكانت لا تقع على أحد إلا هلك ولم يسلم منهم إلا رجل من كندة، فقال‏:‏

فإنكِ لو رأيْتِ ولم تريهِ *** لدى جِنْبِ المغَمِّسِ ما لَقينا

خَشيتُ الله إذ قدْبَثَّ طَيْراً *** وظِلَّ سَحابةٍ مرَّتْ علينا

وباتت كلُّها تدْعو بحقٍّ *** كأنَّ لها على الحُبْشانِ دَيْنا

‏{‏فجعَلَهم كعَصْفٍ مأكولٍ‏}‏ فيه خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن العصف ورق الزَّرع، والمأكول الذي قد أكله الدود، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أن العصف المأكول هو الطعام، وهذا قول حسين بن ثابت‏.‏

الثالث‏:‏ أنه قشر الحنطة إذا أكل ما فيه، رواه عطاء بن السائب‏.‏

الرابع‏:‏ أنه ورق البقل إذا أكلته البهائم فراثته، قاله ابن زيد‏.‏

الخامس‏:‏ أن العصف التين والمأكول القصيل للدواب، قاله سعيد بن جبير والحسن، واختلف فيما فعله الله بهم، فقال قوم‏:‏ كان ذلك معجزة لنبيّ كان في ذلك الزمان، وقيل إنه كان خالد بن سنان‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل كان تمهيداً وتوطيداً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه ولد في عامه وقيل في يومه‏.‏

سورة قريش

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ‏(‏1‏)‏ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ‏(‏2‏)‏ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ‏(‏3‏)‏ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

وفي قوله تعالى ‏{‏لإيلافِ قُريْشٍ‏}‏ الإيلاف مأخوذ من أَلِف يأْلَف، وهي العادة المألوفة، ومنه قولهم ائتلف القوم‏.‏

وفي قوله ‏{‏لإيلاف قريش‏}‏ أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ نعمتي على قريش، لأن نعمة الله عليهم أن ألفه لهم، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ لإيلاف الله لهم لأنه آلفهم إيلافاً، قاله الخليل بن أحمد‏.‏

الثالث‏:‏ لإيلاف قريش حَرَمي وقيامهم ببيتي، وهذا معنى قول الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ لإيلاف ما ذكره من رحلة الشتاء والصيف في معايشهم، قاله مكحول‏.‏

وفي اللام التي في «لإيلاف قريش» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه صلة يرجع إلى السورة المتقدمة من قولهم ‏{‏ألم تر كيف‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏فجعلهم كعصْف مأكولٍ‏}‏ لإيلاف قريش، فصار معناه أن ما فعله بأصحاب الفيل لأجل إيلاف قريش، قاله ثعلب، وكان عمر وأبيّ بن كعب لا يفصلان بين السورتين ويقرآنهما كالسورة الواحدة، ويريان أنهما سورة واحدة، أي‏:‏ ألم تر لإيلاف قريش‏.‏

الثاني‏:‏ أن اللام صلة ترجع إلى ما بعدها من قوله ‏{‏فَلْيَعْبُدوا رب هذا البَيْتِ‏}‏ ويكون معناه لنعمتي على قريش فَلْيَعْبُدوا رَبَّ هذا البيت، قاله أهل البصرة، وقرأ عكرمة، ليألف قريش، وكان يعيب على من يقرأ «لإيلاف قريش»‏.‏

وقرأ بعض أهل مكة‏:‏ إلاف قريش، واستشهد بقول أبي طالب يوصي أخاه أبا لهب برسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

فلا تَتْركْنهُ ما حَييتَ لمعظمٍ *** وكن رجلاً ذا نَجدةٍ وعفافِ

تَذودُ العِدا عن عُصْبةٍ هاشميةٍ *** ألا فُهُمُ في الناس خيرُ إلافِ

وأما قريش تلده فهم بنو النضير بن كنانة، وقيل بنو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، ومن لم تلده فهر فليس من قريش، وعلى المشهور أن بني النضر بن كنانة ومن تلده‏:‏ من قريش، وإن لم يكونوا من بني فهر، وقد كانوا متفرقين في غير الحرم فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوه مسكناً، قال الشاعر‏:‏

أبونا قصيٌّ كان يُدْعى مجمّعاً *** به جمع اللَه القبائلَ مِن فهر

واختلفوا في تسميتهم قريشاً على أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ لتجمعهم بعد التفرق، والتقريش التجميع، ومنه قول الشاعر‏:‏

إخوةٌ قرَّشوا الذنوب علينا *** في حَديثٍ مِن دَهْرِهم وقَديمِ

الثاني‏:‏ لأنهم كانوا تجاراً يأكلون من مكاسبهم، والتقريش التكسب‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم كانوا يفتشون الحاج عن ذي الخلة فيسدون خلته، والقرش‏:‏ التفتيش، قال الشاعر‏:‏

أيها الشامتُ المقِّرشُ عَنّا *** عند عَمرو فهل له إبْقاءُ

الرابع‏:‏ أن قريشاً اسم دابة في البحر، من أقوى دوابه، سميت قريشاً لقوتها وأنها تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى، قاله ابن عباس واستشهد بقول الشاعر‏:‏

هكذا في العباد حيُّ قريش *** يأكلون البلادَ أكْلاً كشيشاً

ولهم آخرَ الزمان نبيٌّ *** يَكثر القتل فيهمُ والخموشا

يملأُ الأرضَ خَيلةً ورجالاً *** يحشُرون المطيَّ حشْراً كميشاً

تأكل الغثَّ والسَمينَ ولا تت *** رُكُ يوماً في جناحين ريشاً‏.‏

وقريش هي التي تسكن البح *** ر بها سميت قريش قريشاً‏.‏

سلّطت بالعلو في لجج البحر *** على سائر البحور جيوشاً‏.‏

‏{‏إيلافِهم رِحْلَةَ الشتاءِ والصَّيْفِ‏}‏ كانت لقريش في كل عام رحلتان والرحلة السفرة، لما يعانى فيها من الرحيل والنزول، رحلة في الصيف ورحلة في الشتاء طلباً للتجارة والكسب‏.‏

واختلف في رحلتي الشتاء والصيف على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن كلتا الرحلتين إلى فلسطين، لكن رحلة الشتاء في البحر، طلباً للدفء، ورحلة الصيف على بصرى وأذرعات، طلباً للهواء، قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ أن رحلة الشتاء إلى اليمن لأنها بلاد حامية، ورحلة الصيف إلى الشام لأنها بلاد باردة، قاله ابن زيد‏.‏

فإن قيل فما المعنى في تذكيرهم رحلة الشتاء والصيف‏؟‏ ففيه جوابان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم كانوا في سفرهم آمنين من العرب لأنهم أهل الحرم، فذكرهم ذلك ليعلموا نعمته عليهم في أمنهم مع خوف غيرهم‏.‏

الثاني‏:‏ لأنهم كانوا يكسبون فيتوسعون ويطعمون ويصلون، كما قال الشاعر فيهم‏:‏

يا أيها الرجلُ المحوِّل رَحْلَه *** هَلاَّ نَزَلْتَ بآلِ عبدِ مَنافِ‏.‏

الآخذون العهدَ من آفاقِها *** والراحلون لرحلة الإيلافِ‏.‏

والرائشون وليس يُوجد رائشٌ *** والقائلون هَلُمَّ للأَضْيافِ‏.‏

والخالطون غنيَّهم بفقيرهم *** حتى يصير فقيرُهم كالكافي‏.‏

عمرو العلا هشم الثريد لقومه *** ورجال مكة مسنتون عجافِ‏.‏

فذكرهم الله تعالى هذه النعمة‏.‏

ولابن عباس في رحلة الشتاء والصيف قول ثالث‏:‏ أنهم كانوا يشتون بمكة لدفئها، ويصيفون بالطائف لهوائها، كما قال الشاعر‏:‏

تَشْتي بِمكة نعمةً *** ومَصيفُها بالطائِف

وهذه من جلائل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف، فذكرهم الله تعالى هذه النعمة‏.‏

‏{‏فَلْيَعْبدوا ربَّ هذا البَيْتِ‏}‏ أمرهم الله تعالى بعبادته، وفي تعريف نفسه لهم بأنه رب هذا البيت وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأنه كانت لهم أوثان، فميز نفسه عنها‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم بالبيت شرفوا على سائر العرب، فذكر لهم ذلك تذكيراً بنعمته‏.‏

وفي معنى هذا الأمر والضمير في دخول الفاء على قوله «فليعبدوا» أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ فليعبدوا رب هذا البيت بأنه أنعم عليهم برحلة الشتاء والصيف‏.‏

الثاني‏:‏ فليألفوا عبادة رب هذا البيت كما ألفوا رحلة الشتاء والصيف‏.‏

الثالث‏:‏ فليعبدوا رب هذا البيت لأنه أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف‏.‏

الرابع‏:‏ فليتركوا رحلة الشتاء والصيف بعبادة رب هذا البيت، فإنه يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف ليتوفروا بالمقام على نصرة رسوله والذب عن دينه‏.‏

‏{‏الذي أطْعَمَهم من جُوعٍ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أطعمهم من جوع بما أعطاهم من الأموال وساق إليهم من الأرزاق، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ أطعمهم من جوع بما استجاب فيهم دعوة إبراهيم عليه السلام‏.‏ حين قال‏:‏ ‏{‏وارْزُقهم من الثمرات‏}‏ قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أن جوعاً أصابهم في الجاهلية، فألقى الله في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاماً، فحملوه، فخافت قريش منهم وظنوا أنهم قدموا لحربهم، فخرجوا إليهم متحرزين، فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام وأعانوهم بالأقوات، فهو معنى قوله ‏{‏الذي أطعمهم من جوع‏}‏‏.‏

‏{‏وآمَنَهُم مِنْ خوْفٍ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ آمنهم من خوف العرب أن يسبوهم أو يقاتلوهم تعظيماً لحرمة الحرم، لما سبقت لهم من دعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال‏:‏

‏{‏ربِّ اجْعَلْ هذا بلداً آمِناً‏}‏، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ من خوف الحبشة مع الفيل، قاله الأعمش‏.‏

الثالث‏:‏ آمنهم من خوف الجذام، قاله الضحاك والسدي وسفيان الثوري‏.‏

الرابع‏:‏ يعني آمن قريشاً ألا تكون الخلافة إلا فيهم، قاله علّي رضي الله عنه‏.‏

سورة الماعون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ‏(‏1‏)‏ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ‏(‏2‏)‏ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏3‏)‏ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ‏(‏4‏)‏ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ‏(‏5‏)‏ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ‏(‏6‏)‏ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏أرأيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدِّينِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني بالحساب، قاله عكرمة ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ بحكم الله تعالى، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ بالجزاء الثواب والعقاب‏.‏

واختلف فيمن نزل هذا فيه على خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في العاص بن وائل السهمي، قاله الكلبي ومقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ في الوليد بن المغيرة، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ في أبي جهل‏.‏

الرابع‏:‏ في عمرو بن عائذ، قاله الضحاك‏.‏

الخامس‏:‏ في أبي سفيان وقد نحر جزوراً، فأتاه يتيم، فسأله منها، فقرعه بعصا، قاله ابن جريج‏.‏

‏{‏فذلك الذي يَدُعُّ اليتيمَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ بمعنى يحقر البيت، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ يظلم اليتيم، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ يدفع اليتيم دفعاً شديداً، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يُدَعُّونَ إلى نارِ جهنَّمَ دعّاً‏}‏ أي يُدفعون إليها دفعاً‏.‏

وفي دفعه اليتيم وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يدفعه عن حقه ويمنعه من ماله ظلماً له وطمعاً فيه، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ يدفعه إبعاداً له وزجراً، وقد قرئ «يَدَعُ اليَتيم» مخففة، وتأويله على هذه القراءة يترك اليتيم فلا يراعيه اطراحاً له وإعراضاً عنه‏.‏

ويحتمل على هذه القراءة تأويلاً ثالثاً‏:‏ يدع اليتيم لاستخدامه وامتهانه قهراً واستطالة‏.‏

‏{‏ولا يَحُضُّ على طعامِ المِسْكِينِ‏}‏ أي لا يفعله ولا يأمر به، وليس الذم عاماً حتى يتناول من تركه عجزاً، ولكنهم كانوا يبخلون ويعتذرون لأنفسهم يقولون ‏{‏أنطعم من لو يشاءُ الله أطْعَمَهُ‏}‏ فنزلت هذه الآية فيهم، ويكون معنى الكلام لا يفعلونه إن قدروا، ولا يحثون عليه إن عجزوا‏.‏

‏{‏فَويْلٌ للمُصَلَّينَ‏}‏ الآية، وفي إطلاق هذا الذم إضمار، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه المنافق، إن صلاها لوقتها لم يرج ثوابها، وإن صلاها لغير وقتها لم يخش عقابها، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أن إضماره ظاهر متصل به، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين هم‏}‏ الآية‏.‏ وإتمام الآية في قوله‏:‏ ‏{‏فويل للمصلين‏}‏ ما بعدها من قوله‏:‏ ‏{‏الذين هم عن صلاتهم ساهون‏}‏ إضماراً فيها وإن كان نطقاً ظاهراً‏.‏

وليس السهو الذي يطرأ عليه في صلاته ولا يقدر على دفعه عن نفسه هو الذي ذم به، لأنه عفو‏.‏

وفي تأويل ما استحق به هذا الذم ستة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن معنى ساهون أي لاهون، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ غافلون، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أن لا يصلّيها سراً ويصليها علانية رياء للمؤمنين، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ هو الذي يلتفت يمنة ويسرة وهواناً بصلاته، قاله أبو العالية‏.‏

الخامس‏:‏ هو ألا يقرأ ولا يذكر الله، قاله قطرب‏.‏

السادس‏:‏ هو ما روى مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن «الذين هم عن صلاتهم ساهون» فقال‏:‏ «هم الذين يؤخرون الصلاة عن مواقيتها»‏.‏

‏{‏الذين هم يُراءونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ المنافقون الذين يراءون بصلاتهم، يصلّونها مع الناس إذا حضروا، ولا يُصلّونها إذا غابوا، قاله علي وابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه عامّ في ذم كل من راءى لعمله ولم يقصد به إخلاصاً لوجه ربه‏.‏ روي عن النبي صلى الله عيله وسلم أنه قال‏:‏ «يقول الله تعالى‏:‏ مَن عَمِل عملا لغيري فقد أشرك بي وأنا أغنى الشركاء عن الشرك»‏.‏

‏{‏ويَمْنَعُونَ الماعونَ‏}‏ فيه ثمانية تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن الماعون الزكاة، قاله علي وابن عمر والحسن وعكرمة وقتادة، قال الراعي‏:‏

أخليفة الرحمن إنا مَعْشَرٌ *** حُنَفاءُ نسجُد بكرةً وأصيلاً‏.‏

عَرَبٌ نرى لله في أمْوالِنا *** حقَّ الزكاة مُنزّلا تنزيلاً

قَوْمٌ على الإسلام لمّا يَمْنعوا *** ماعونَهم ويضَيِّعوا التهْليلا

الثاني‏:‏ أنه المعروف، قاله محمد بن كعب‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الطاعة، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ أنه المال بلسان قريش، قاله سعيد بن المسيب والزهري‏.‏

الخامس‏:‏ أنه الماء إذا احتيج إليه ومنه الماء المعين وهو الجاري، قال الأعشى‏:‏

بأجود منا بماعونه *** إذا ما سماؤهم لم تغِم

السادس‏:‏ أنه ما يتعاوره الناس بينهم، مثل الدلو والقدر والفاس، قاله ابن عباس، وقد روي مأثوراً‏.‏

السابع‏:‏ أنه منع الحق، قاله عبد الله بن عمر‏.‏

الثامن‏:‏ أنه المستغل من منافع الأموال، مأخوذ من المعنى وهو القليل، قاله الطبري وابن عيسى‏.‏

ويحتمل تاسعاً‏:‏ أنه المعونة بما خف فعله وقل ثقله‏.‏

سورة الكوثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ‏(‏1‏)‏ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏إنّا أَعْطَيْناك الكَوْثَر‏}‏ فيه تسعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن الكوثر النبوة، قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ القرآن، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ الإسلام، حكاه المغيرة‏.‏

الرابع‏:‏ أنه نهر في الجنة، رواه ابن عمر وأنس مرفوعاً‏.‏

الخامس‏:‏ أنه حوض النبي صلى الله عليه وسلم الذي يكثر الناس عليه يوم القيامة قاله عطاء‏.‏

السادس‏:‏ أنه الخير الكثير، قاله ابن عباس‏.‏

السابع‏:‏ أنه كثرة أمته، قاله أبو بكر بن عياش‏.‏

الثامن‏:‏ أنه الإيثار، قاله ابن كيسان‏.‏

التاسع‏:‏ أنه رفعة الذكر، وهو فوعل من الكثرة‏.‏

‏{‏فَصَلِّ لِربِّكَ وانحَرْ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ الصلاة المكتوبة، وهي صلاة الصبح بمزدلفة، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ صلاة العيد، قاله عطاء‏.‏

الثالث‏:‏ معناه اشكر ربك، قاله عكرمة‏.‏

‏{‏وانحَرْ‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ وانحر هديك أو أضحيتك، قاله ابن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ وانحر أي وسل، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ معناه أن يضع اليمين على الشمال عند نحره في الصلاة، قاله عليّ وابن عباس رضي الله عنهما‏.‏

الرابع‏:‏ أن يرفع يديه في التكبير، رواه عليّ‏.‏

الخامس‏:‏ أنه أراد واستقبل القبلة في الصلاة بنحرك، قاله أبو الأحوص ومنه قول الشاعر‏:‏

أبا حَكَمٍ هَلْ أَنْتَ عَمُّ مُجالدٍ *** وسيدُ أهْلِ الأبْطحِ المتناحرِ

أي المتقابل‏.‏

‏{‏إنّ شانِئَكَ هو الأبْتَرُ‏}‏ في شانئك وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ مبغضك، قاله ابن شجرة‏.‏

الثاني‏:‏ عدوّك، قاله ابن عباس‏.‏

وفي «الأبتر» خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الحقير الذليل، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ معناه الفرد الوحيد، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الذي لا خير فيه حتى صار مثل الأبتر، وهذا قول مأثور الرابع‏:‏ أن قريشاً كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده، قد بتر فلان فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه القاسم بمكة، وابراهيم بالمدينة، قالوا بتر محمد فليس له من يقوم بأمره من بعده، فنزلت الآية، قاله السدي وابن زيد‏.‏

الخامس‏:‏ أن الله تعالى لما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا قريش إلى الإيمان، قالوا ابتتر منا محمد، أي خالفنا وانقطع عنا، فأخبر الله تعالى رسوله أنهم هم المبترون، قاله عكرمة وشهر بن حوشب‏.‏

واختلف في المراد من قريش بقوله ‏{‏إنّ شانئك هو الأبتر‏}‏ على ثلاثة أقاويل‏:‏ أحدها‏:‏ أنه أبو لهب، قاله عطاء‏.‏

الثاني‏:‏ أبو حهل، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنه العاص بن وائل، قاله عكرمة، والله أعلم‏.‏

سورة الكافرون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ‏(‏1‏)‏ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ‏(‏2‏)‏ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‏(‏3‏)‏ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ‏(‏4‏)‏ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‏(‏5‏)‏ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏قُل يا أيُّها الكافِرونَ‏}‏ الآيات، ذكر محمد بن إسحاق أن سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأمية بن خلف لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا محمد هلم فلتعبد ما نعبد‏.‏ ونعبد ما تعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا كنا قد كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما بيديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى ‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏ فصار حرف الأمر في هذه السورة وسورة الإخلاص والمعوذتين متلوّاً، لأنها نزلت جواباً، عنى بالكافرين قوماً معينين، لا جميع الكافرين، لأن منهم من آمن، فعبد الله، ومنهم من مات أو قتل على كفره، وهم المخاطبون بهذا القول فمنهم المذكورون‏.‏

‏{‏لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدونَ‏}‏ يعني من الأوثان‏.‏

‏{‏ولا أنتم عابدون ما أَعْبُدُ‏}‏ يعني الله تعالى وحده، الآيات‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما فائدة هذا التكرار‏؟‏

قيل‏:‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن قوله في الأول «لا أعبد» و«لا تعبدون» يعني في الحال، وقوله الثاني‏:‏ يعني في المستقبل، قاله الأخفش‏.‏

الثاني‏:‏ أن الأول في قوله «لا أعبد» و«لا أنتم» الآية يعني في المستقبل، والثاني‏:‏ إخبار عنه وعنهم في الماضي، فلم يكن ذلك تكراراً لاختلاف المقصود فيهما‏.‏

فإن قيل‏:‏ فلم قال «ما أَعْبُدُ» ولم يقل «من أَعبُدُ»‏؟‏

قيل‏:‏ لأنه مقابل لقوله‏:‏ ‏{‏ولا أنا عابد ما عَبَدْتُم‏}‏ وهي أصنام وأوثان، ولا يصلح فيها إلا «ما» دون «من» فحمل الثاني على الأول ليتقابل الكلام ولا يتنافى‏.‏

‏{‏لكم دِينكم ولي دينِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لكم دينكم الذي تعتقدونه من الكفر، ولي ديني الذي أعتقده من الإسلام، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ لكم جزاء عملكم، ولي جزاء عملي‏.‏

وهذا تهديد منه لهم، ومعناه وكفى بجزاء عملي ثواباً، قاله ابن عيسى‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ليس في القرآن سورة أشد لغيظ إبليس من هذه السورة، لأنها توحيد وبراءة من الشرك‏.‏

سورة النصر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ‏(‏1‏)‏ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ‏(‏2‏)‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏إذا جاءَ نَصْرُ اللهِ والفتحُ‏}‏ أما النصر فهو المعونة مأخوذ من قولهم قد نصر الغيث الأرض إذا أعان على نباتها ومنع من قحطها، قال الشاعر‏:‏

إذا انسلَخَ الشهرُ الحرامُ فَودِّعي *** بلادَ تميمٍ وانْصُري أرضَ عامِرِ

وفي المعنيّ بهذا النصر قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ نصر الرسول على قريش، قاله الطبري‏.‏

الثاني‏:‏ نصره على كل من قاتله من أعدائه، فإن عاقبة النصر كانت له‏.‏

وقيل‏:‏ إذا جاء نصره بإظهاره إياك على أعدائك، والفتح‏:‏ فتحه مكة وقيل المراد حين نصر الله المؤمنين وفتح مكة وسائر البلاد عليهم‏.‏ وإنما عبر عن الحصول بالمجيء تجوزاً للإشعار بأن المقدرات متوجهة حين إلى أوقاتها المعينة لها، فتعرف منها شيئاً فشيئاً، وقد قرب النصر من قوته فكن مترقباً لوروده مستعداً لشكره‏.‏

وفي هذا الفتح قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ فتح مكة، قاله الحسن ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ فتح المدائن والقصور، قاله ابن عباس وابن جبير، وقيل ما فتحه عليه من العلوم‏.‏

‏{‏ورأيْتَ الناسَ يَدْخُلون في دِيْنِ اللهِ أَفْواجاً‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم أهل اليمن، ورورى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الدين يمانٍ والفقه يمانٍ والحكمة يمانية» وروي عنه عليه السلام أنه قال‏:‏ «إني لأجد نَفَس ربكم مِن قِبل اليمن» وفيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الفرج لتتابع إسلامهم أفواجاً‏.‏

الثاني‏:‏ معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه بأهل اليمن، وهم الأنصار‏.‏

القول الثاني‏:‏ أنهم سائر الأمم الذين دخلوا في الإسلام، قاله محمد بن كعب‏.‏

وقال الحسن‏:‏ لما فتح الله على رسوله مكة، قالت العرب بعضهم لبعض‏:‏ أيها القوم ليس لكم به ولا بالقوم يد، فجعلوا يدخلون في دين الله أفواجاً أمة أمة‏.‏

قال الضحاك‏:‏ والأمة أربعون رجلاً، وقال ابن عباس‏:‏ الأفواج «الزمر»، وقال الكلبي‏:‏ الأفواج القبائل‏.‏

وروى جابر بن عبد الله قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إنّ الناس دخلوا في دين الله أفواجاً وسيخرجون أفواجاً»‏.‏

«أفواجاً» جماعات كثيفة كأهل مكة والطائف واليمن وهوازن وقبائل سائر العرب‏.‏

«يدخلون» حال، على أن «رأيت» بمعنى أبصرت، أو مفعول ثان على أن رأيت بمعنى علمت‏.‏

‏{‏فسبّحْ بحْمد ربِّك واسْتَغْفِره إنه كان توّاباً‏}‏ في أمره بهذا التسبيح والاستغفار وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه أراد بالتسبيح الصلاة، قاله ابن عباس، وبالاستغفار مداومة الذكر‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراد صريح التسبيح، الذي هو التنزيه والاستغفار من الذنوب‏.‏

روت عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يكثر أن يقول‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، فقلت‏:‏ يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها‏؟‏ فقال‏:‏

«جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها»

وفي قوله ‏{‏إنه كان توّاباً‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ قابل التوبة‏.‏

والثاني‏:‏ متجاوز عن الصغائر‏.‏

وفي أمره بهذابعد النصر والفتح وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ليكون ذلك منه شكراً لله تعالى على نعمه، لأن تجديد النعم يوجب تجديد الشكر‏.‏

الثاني‏:‏ أنه نعى إليه نفسه، ليجد في عمله‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ وداعٌ من الله، ووداعٌ من الدنيا، فلم يعش بعدها إلا سنتين مستديماً التسبيح والاستغفار كما أُمِرَ، وكان قد لبث أربعين سنة لم يوح إليه، ورأى رؤيا النبوة سنتين، ومات في شهر ربيع الأول وفيه هاجر‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ نزلت هذه السورة بعد فتح الطائف، والفتح فتح مكة، والناس أهل اليمن، وهي آية موت النبي صلى الله عليه وسلم فلما نزلت قرأها على أبي بكر وعمر ففرحا بالنصر وبدخول الناس أفواجاً في دين الله عز وجل، وسمعها العباس فبكى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما يبكيك يا عم‏؟‏» فقال‏:‏ نعيت إليك نفسك، قال‏:‏ «إنه لكما تقول»‏.‏

وهذه السورة تسمى التوديع، عاش النبي بعدها حولاً على قول مقاتل، وحولين على قول ابن عباس، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قابل، فنزل ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ الآية، فعاش بعدها ثمانين يوماً، ثم نزلت «لقد جاءكم رسول» فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً، ثم نزلت ‏{‏واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله‏}‏ فعاش بعدها واحداً وعشرين يوماً‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ عاش بعدها سبعة أيام، والله أعلم وصلوات الله عليه متتابعة لا تنقطع على مر الأزمان وكر الأوان، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين‏.‏

سورة المسد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ‏(‏1‏)‏ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ‏(‏2‏)‏ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ‏(‏3‏)‏ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ‏(‏4‏)‏ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبّتْ يدا أبي لهب‏}‏ اختلف في سبب نزولها في أبي لهب على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ما حكاه عبد الرحمن بن زيد أن أبا لهب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ماذا أُعطَى إن آمنتُ بك يا محمد‏؟‏ قال‏:‏ ما يعطَى المسلمون، قال‏:‏ ما عليهم فضل‏؟‏ قال‏:‏ وأي شيء تبتغي‏؟‏ قال‏:‏ تبَّا لهذا من دين أن أكون أنا وهؤلاء سواء، فأنزل الله فيه‏:‏ ‏{‏تبت يدا أبي لهب‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ ما رواه ابن عباس أنه لما نزل ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليها، ثم نادى يا صباحاه‏!‏ فاجتمع الناس إليه، فقال‏:‏ أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، صدقتموني‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب‏:‏ تبّا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا‏؟‏‏!‏ فأنزل الله تعالى هذه السورة‏.‏

الثالث‏:‏ ما حكاه عبد الرحمن بن كيسان أنه كان إذا وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وفْدٌ انطلق إليهم أبو لهب، فيسألونه عن رسول الله ويقولون‏:‏ أنت أعلم به، فيقول لهم أبو لهب‏:‏ إنه كذاب ساحر، فيرجعون عنه ولا يلقونه، فأتاه وفد، ففعل معهم مثل ذلك، فقالوا‏:‏ لا ننصرف حتى نراه ونسمع كلامه، فقال لهم أبو لهب‏:‏ إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتبّاً له وتعساً، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فاكتأب له، فأنزل الله تعالى «تَبّتْ» السورة، وفي «تبّتْ» خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ خابت، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ ضلّت، وهو قول عطاء‏.‏

الثالث‏:‏ هلكت، قاله ابن جبير‏.‏

الرابع‏:‏ صفِرت من كل خير، قاله يمان بن رئاب‏.‏

حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان بن عفان سمع الناس هاتفاً يقول‏:‏

لقد خلّوْك وانصدعوا *** فما آبوا ولا رجعوا

ولم يوفوا بنذرِهمُ *** فيا تبَّا لما صَعنوا

والخامس‏:‏ خسرت، قاله قتادة، ومنه قول الشاعر‏:‏

تواعَدَني قوْمي ليَسْعوْا بمهجتي *** بجارية لهم تَبّا لهم تبّاً

وفي قوله ‏{‏يَدَا أَبِي لَهَبٍ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني نفس أبي لهب، وقد يعبر عن النفس باليد كما قال تعالى ‏{‏ذلك بما قدمت يداك‏}‏ أي نفسك‏.‏

الثاني‏:‏ أي عمل أبي لهب، وإنما نسب العمل إلى اليد لأنه في الأكثر يكون بها‏.‏

وقيل إنه كني أبا لهب لحُسنه وتلهّب وجنته، وفي ذكر الله له بكنيته دون اسمه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه كان بكنيته أشهر منه باسمه‏.‏

الثاني‏:‏ لأنه كان مسمى بعبد هشم، وقيل إنه عبد العزى فلذلك عدل عنه‏.‏

الثالث‏:‏ لأن الاسم أشرف من الكنية، لأن الكنية إشارة إليه باسم غيره، ولذلك دعا الله أنبياءه بأسمائهم‏.‏

وفي قوله ‏{‏وتَبَّ‏}‏ أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه تأكيد للأول من قوله ‏{‏تبت يدا أبي لهب‏}‏ فقال بعده «وتب» تأكيداً‏.‏ الثاني‏:‏ يعني تبت يدا أبي لهب بما منعه الله تعالى من أذى لرسوله، وتب بما له عند الله من أليم عقابه‏.‏

الثالث‏:‏ يعني قد تبّ، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ يعني وتبّ ولد أبي لهب، قاله مجاهد‏.‏

وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ تبت يدا أبي لهبٍ وقد تب، جعله خبراً، وهي على قراءة غيره تكون دعاء كالأول‏.‏

وفيما تبت عنه يدا أبي لهب وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ عن التوحيد، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ عن الخيرات، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏ما أَغْنَى عَنْه مالُه وما كَسَب‏}‏ في قوله «ما أغنى عنه» وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما دفع عنه‏.‏

الثاني‏:‏ ما نفعه، قاله الضحاك‏.‏

وفي ‏{‏مالُه‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أراد أغنامه، لأنه كان صاحب سائمة، قاله أبو العالية‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراد تليده وطارفه، والتليد‏:‏ الموروث، والطارف‏:‏ المكتسب‏.‏

وفي قوله ‏{‏وما كَسَبَ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ عمله الخبيث، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ ولده، قاله ابن عباس‏.‏

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أولادكم من كسبكم»

وكان ولده عتبة بن أبي لهب مبالغاً في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم كأبيه، فقال حين نزلت ‏{‏والنجم إذا هوى‏}‏ كفرت بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، وتفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم سلط عليه كلباً من كلابك» فأكله الأسد‏.‏

وفيما لم يغن عنه ماله وما كسب وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في عداوته النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثاني‏:‏ في دفع النار عنه يوم القيامة‏.‏

‏{‏سَيَصْلَى ناراً ذاتَ لَهَبٍ‏}‏ في سين سيصلى وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه سين سوف‏.‏

الثاني‏:‏ سين الوعيد، كقوله تعالى ‏{‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ‏}‏ و‏{‏سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا‏}‏ وفي ‏{‏يَصْلًى‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ صلي النار، أي حطباً ووقوداً، قاله ابن كيسان‏.‏

الثاني‏:‏ يعني تُصليه النار، أي تنضجه، وهو معنى قول ابن عباس، فيكون على الوجه الأول صفة له في النار، وعلى الوجه الثاني صفة للنار‏.‏

وفي ‏{‏ناراً ذاتَ لَهَبٍ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ذات ارتفاع وقوة واشتعال، فوصف ناره ذات اللهب بقوتها، لأن قوة النار تكون مع بقاء لهبها‏.‏

الثاني‏:‏ ما في هذه الصفة من مضارعة كنيته التي كانت من نذره ووعيده‏.‏

وهذه الآية تشتمل على امرين‏:‏

أحدهما‏:‏ وعيد من الله حق عليه بكفره‏.‏

الثاني‏:‏ إخبار منه تعالى بأنه سيموت على كفره، وكان خبره صدقاً، ووعيده حقاً‏.‏

‏{‏وامرأتُهُ حَمّالَةَ الحَطَبِ‏}‏ وهي أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان‏.‏

وفي ‏{‏حمالة الحطب‏}‏ أربعة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أنها كانت تحتطب الشوك فتلقيه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنها كانت تعيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر، فكان يحتطب فعيرت بأنها كانت تحتطب، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنها كانت تحتطب الكلام وتمشي بالنميمة، قاله الحسن والسدي فسمي الماشي بالنميمة حمال الحطب لأنه يشعل العداوة كما تشعل النار الحطب، قال الشاعر‏:‏

إنّ بني الأَدْرَمِ حَمّالو الحَطَبْ *** هم الوُشاةُ في الرِّضا وفي الغَضَبْ‏.‏

عليهمُ اللعْنةُ تَتْرى والحرَبْ‏.‏ *** وقال آخر‏:‏

مِنَ البِيضِ لم تُصْطَدْ على ظهر لأمةٍ *** ولم تمشِ بَيْن الحيّ بالحَطَب والرطْبِ‏.‏

الرابع‏:‏ أنه أراد ما حملته من الآثام في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كالحطب في مصيره إلى النار‏.‏

‏{‏في جِيدِها حَبْل مِنْ مَسَدِ‏}‏ جيدها‏:‏ عنقها‏.‏

وفي ‏{‏حبل من مسد‏}‏ سبعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه سلسلة من حديد، قاله عروة بن الزبير، وهي التي قال الله تعالى فيها‏:‏ ‏{‏ذرعها سبعون ذراعاً‏}‏ قال الحسن‏:‏ سميت السلسلة مسداً لأنها ممسودة، أي مفتولة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه حبل من ليف النخل، قاله الشعبي، ومن قول الشاعر‏:‏

أعوذ بالله مِن لَيْل يُقرّبني *** إلى مُضاجعةٍ كالدَّلْكِ بالمسَدِ‏.‏

الثالث‏:‏ أنها قلادة من ودع، على وجه التعيير لها، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ أنه حبل ذو ألوان من أحمر وأصفر تتزين به في جيدها، قاله الحسن، ذكرت به على وجه التعيير أيضاً‏.‏

الخامس‏:‏ أنها قلادة من جوهر فاخر، قالت لأنفقنها في عداوة محمد، ويكون ذلك عذاباً في جيدها يوم القيامة‏.‏

السادس‏:‏ أنه إشارة إلى الخذلان، يعني أنها مربوطة عن الإيمان بما سبق لها من الشقاء كالمربوطة في جيدها بحبل من مسد‏.‏

السابع‏:‏ أنه لما حملت أوزار كفرها صارت كالحاملة لحطب نارها التي تصلى بها‏.‏

روى الوليد بن كثير عن ابن تدرس عن أسماء بنت أبي بكر أنه لما نزلت «تبت يدا» في أبي لهب وامرأته أم جميل أقبلت ولها ولولة وفي يدها قهر وهي تقول‏:‏

مُذَمَّماً عَصَيْنَا *** وأَمْرَهُ أَبَيْنا

ودِينَه قَلَيْنا‏.‏ *** ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال‏:‏ يا رسول الله قد أقبلت وإني أخاف أن تراك، فقال‏:‏ إنها لن تراني، وقرأ قرآناً اعتصم به، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً‏}‏ فأقبلت على أبي بكر، ولم تر رسول الله، فقالت‏:‏ يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني، فقال‏:‏ لا ورب هذا البيت، ما هجاك، فولت فعثرت في مرطها، فقالت‏:‏ تعس مذمم، وانصرفت‏.‏

سورة الإخلاص

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ الصَّمَدُ ‏(‏2‏)‏ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ‏(‏3‏)‏ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُو اللهُ أَحَدٌ‏}‏ اختلف في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم هذا الله خَلَق الخلْق، فمن خلَقَ الله‏؟‏ فنزلت هذه السورة جواباً لهم، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أن مشركي قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك، فأنزل الله هذه السورة، وقال‏:‏ يا محمد انسبني إلى هذا، وهذا قول أُبي بن كعب‏.‏

الثالث‏:‏ ما رواه أبو روق عن الضحاك أن المشركين أرسلوا عامر بن الطفيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ قل له شققت عصانا وسببت آلهتنا وخالفت دين آبائك، فإن كنت فقيراً أغنيناك وإن كنت مجنوناً داويناك، وإن هويت امرأة زوجناكها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لست بفقير ولا مجنون ولا هويت امرأة، أنا رسول الله إليكم، أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته»، أرسلوه ثانية وقالوا له‏:‏ قل له بيّن لنا جنس معبودك، فأنزل الله هذه السورة، فأرسلوه ثالثة وقالوا‏:‏ قل له لنا ثلاثمائة وستون صنماً لا تقوم بحوائجنا، فكيف يقوم إله واحِد بحوائج الخلق كلهم‏؟‏ فأنزل الله سورة الصافات إلى قوله ‏{‏إن إلهاكم لواحد‏}‏ يعني في جميع حوائجكم، فأرسلوه رابعة وقالوا‏:‏ قل له بيّن لنا أفعال ربك، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض‏}‏ الآية، وقوله ‏{‏الذي خلقكم ثم رزقكم‏}‏‏.‏

‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ خرج مخرج جواب السائل عن الله تعالى، فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏قل هو اللهُ أحَدٌ‏}‏ والأحد‏:‏ هو المتفرد بصفاته الذي لا مِثل له ولا شبه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فلم قال «أحَدٌ» على وجه النكرة، ولم يقل الأحَدُ‏؟‏ قيل عنه جوابان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه حذف لام التعريف على نية إضمارها فصارت محذوفة في الظاهر، مثبتة في الباطن، ومعناه قل هو الله الأحد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه ليس بنكرة، وإنما هو بيان وترجمة، قاله المبرد‏.‏

فأما الأحد والواحد ففيهما وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الأحد لا يدخل العدد، والواحد يدخل في العدد، لأنك تجعل للواحد ثانياً، ولا تجعل للأحد ثانياً‏.‏

الثاني‏:‏ أن الأحد يستوعب جنسه، والواحد لا يستوعب، لأنك لو قلت فلان لا يقاومه أحد، لم يجز أن يقاومه اثنان ولا أكثر، فصار الأحد أبلغ من الواحد‏.‏

وفي تسميتها بسورة الإخلاص ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لأن في قراءتها خلاصاً من عذاب الله‏.‏

الثاني‏:‏ لأن فيها إخلاص لله من كل عيب ومن كل شريك وولد، قاله عبد الله ابن المبارك‏.‏

الثالث‏:‏ لأنها خالصة لله ليس فيها أمر ولا نهي‏.‏

‏{‏اللَّهُ الصّمَدُ‏}‏ فيه عشرة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن الصمد المصمت الذي لا جوف له، قاله الحسن وعكرمه والضحاك وابن جبير، قال الشاعر‏:‏

شِهابُ حُروب لا تَزالُ جيادُه *** عوابسَ يعْلُكْنَ الشكيمَ المُصَمّدا

الثاني‏:‏ هو الذي لا يأكل ولا يشرب، قاله الشعبي‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الباقي الذي لا يفنى، قاله قتادة، وقال الحسن‏:‏ إنه الدائم الذي لم يزل ولا يزال‏.‏

الرابع‏:‏ هو الذي لم يلد ولم يولد، قاله محمد بن كعب‏.‏

الخامس‏:‏ أنه الذي يصمد الناس إليه في حوائجهم، قاله ابن عباس، ومنه قول الشاعر‏:‏

ألا بكّر الناعي بخَيريْ بني أسدْ *** بعمرِو بن مَسعودٍ وبالسيّد الصَّمَد‏.‏

السادس‏:‏ أنه السيد الذي قد انتهى سؤدده، قاله أبو وائل وسفيان وقال الشاعر‏:‏

عَلوْتُه بحُسامٍ ثم قلت له *** خُذْها حُذَيْفَ فأنت السيّد الصَّمَدُ‏.‏

السابع‏:‏ أنه الكامل الذي لا عيب فيه، قاله مقاتل، ومنه قول الزبرقان‏:‏

ساروا جَميعاً بنصْفِ الليلِ واعْتَمدوا *** ألاّ رهينةَ إلا السيّدُ الصَمَدُ‏.‏

الثامن‏:‏ أنه المقصود إليه في الرغائب، والمستغاث به في المصائب، قاله السدي‏.‏

التاسع‏:‏ أنه المستغني عن كل أحد قاله أبو هريرة‏.‏

العاشر‏:‏ أنه الذي يفعل مايشاء ويحكم بما يريد، قاله الحسين بن فضيل‏.‏

‏{‏لم يَلِدْ ولم يُولَدْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لم يلد فيكون والداً، ولم يولد فيكون ولداً، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ لم يلد فيكون في العز مشاركاً، ولم يولد فيكون موروثاً هالكاً، قاله الحسين بن فضيل‏.‏

وإنما كان كذلك لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن هاتين صفتا نقص فانتفتا عنه‏.‏

الثاني‏:‏ أنه لا مثل له، فلو وَلَدَ أو وُلدِ لصار ذا مثل، والله تعالى منزه عن أن يكون له مثل‏.‏

‏{‏ولم يَكُن له كُفُواً أَحَدٌ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لم يكن له مثل ولا عديل، قاله أبي بن كعب وعطاء‏.‏

الثاني‏:‏ يعني لم تكن له صاحبة، فنفى عنه الولد والوالدة والصاحبة، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه لا يكافئه في خلقه أحد، قاله قتادة وفيه تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ ولم يكن له أحدٌ كُفواً، فقدم خبر كان على اسمها لتنساق أواخر الآي على نظم واحد‏.‏

سورة الفلق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ‏(‏1‏)‏ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ‏(‏2‏)‏ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ‏(‏3‏)‏ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ‏(‏4‏)‏ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

وهذه والناس معوذتا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سحرته اليهود، وقيل إن المعوذتين كان يقال لهما «المقشقشتان» أي مبرئتان من النفاق، وزعم ابن مسعود أنهما دعاء تعوذ به وليستا من القرآن، وهذا قول خالف به الإجماع من الصحابة وأهل البيت‏.‏

‏{‏قُلْ أَعُوذُ بربِّ الفَلَقِ‏}‏ فيه ستة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن الفلق سجن في جهنم، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه اسم من أسماء جهنم، قاله أبو عبد الرحمن‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الخلق كله، قاله الضحاك‏.‏

الرابع‏:‏ أنه فلق الصبح، قاله جابر بن عبد الله ومنه قول الشاعر‏:‏

يا ليلةً لم أَنَمْها بِتُّ مُرْتفقا *** أرْعى النجومَ إلى أنْ نوَّرَ الفَلَقُ‏.‏

الخامس‏:‏ أنها الجبال والصخور تنفلق بالمياه‏.‏

السادس‏:‏ أنه كل ما انفلق عن جميع ما خلق من الحيوان والصبح والحب والنوى وكل شيء من نبات وغيره، قاله الحسن‏.‏

ولأصحاب الغوامض أنه فلق القلوب للأفهام حتى وصلت إليها ووصلت فيها، وأصل الفلق الشق الواسع، وقيل للصبح فلق لفلق الظلام عنه كما قيل له فجر لانفجار الضوء منه‏.‏

‏{‏مِن شَرِّ ما خَلَق‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن شر ما خلق جهنم، قاله ثابت البناني‏.‏

الثاني‏:‏ إبليس وذريته، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ من شر ما خلق في الدنيا والآخرة، قاله ابن شجرة‏.‏

وفي هذا الشر وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه محمول على عمومه في كل شر‏.‏

الثاني‏:‏ أنه خاص في الشر الذي يستحق المصاب به الثواب‏.‏

‏{‏ومن شَرِّ غاسقٍ إذا وَقَبَ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني الشمس إذا غربت، قاله ابن شهاب‏.‏

الثاني‏:‏ القمر إذا ولج أي دخل في الظلام‏.‏

روى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت‏:‏ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم نظر إلى القمر فقال‏:‏ يا عائشة تعوذي بالله من شر غاسقٍ إذا وقب، وهذا الغاسق إذا وقب‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الثريا إذا سقطت، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عنذ وقوعها، وترتفع عند طلوعها، قاله ابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ أنه الليل، لأنه يخرج السباع من آجامها، والهوام من مكامنها ويبعث أهل الشر على العبث والفساد، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي، قال الشاعر‏:‏

يا طيْفَ هِنْدٍ لقد أبقيْتَ لي أرَقا *** إذ جئْتَنا طارِقاً والليلُ قد غَسَقا

وأصل الغسق الجريان بالضرر، مأخوذ من قولهم غسقت القرحة إذا جرى صديدها، والغسّاق‏:‏ صديد أهل النار، لجريانه بالعذاب وغسقت عينه إذا جرى دمعها بالضرر في الحلق‏.‏

فعلى تأويله أنه الليل في قوله «إذا وقب» أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ إذا أظلم، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ إذا دخل، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ إذا ذهب، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ إذا سكن، قاله اليمان بن رئاب‏.‏

‏{‏ومِن شَرِّ النّفّاثاتِ في العُقَدِ‏}‏ قال أهل التأويل‏:‏ من السواحر ينفثن في عقد الخيوط للسحر، قال الشاعر‏:‏

أعوذ بربي من النافثا *** تِ في عِضَه العاضه المعْضِه

وربما فعل قوم في الرقى مثل ذلك، طلباً للشفاء، كما قال متمم بن نويرة‏:‏

نَفَثْت في الخيط شبيه الرُّقَى *** من خشيةِ الجِنّة والحاسدِ‏.‏

وقد روى الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه»، النفث‏:‏ النفخ في العقد بلا ريق، والتفل‏:‏ النفخ فيها بريق، وفي ‏{‏شر النفاثات في العقد‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه إيهام للأذى وتخيل للمرض من غير أن يكون له تأثير في الأذى والمرض، إلا استشعار ربما أحزن، أو طعام ضار ربما نفذ بحيلة خفية‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قد يؤذى بمرض لعارض ينفصل فيتصل بالمسحور فيؤثر فيه كتأثير العين، وكما ينفصل من فم المتثائب ما يحدث في المقابل له مثله‏.‏

الثالث‏:‏ أنه قد يكون ذلك بمعونة من خدم الجن يمتحن الله بعض عباده‏.‏

فأما المروي من سحر النبي صلى الله عليه وسلم فقد أثبته أكثرهم، وأن قوماً من اليهود سحروه وألقوا عقدة سحره في بئر حتى أظهره الله عليها‏.‏

روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى شكوى شديدة، فبينا هو بين النائم واليقظان إذا ملكان أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أحدهما‏:‏ ما شكواه‏؟‏ فقال الآخر‏:‏ مطبوب، ‏(‏أي مسحور، والطب‏:‏ السحر‏)‏ قال‏:‏ ومن طبّه‏؟‏ قال‏:‏ لبيد بن الأعصم اليهودي فطرحه في بئر ذروان تحت صخرة فيها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر فاستخرج السحر منها، ويروى أن فيه إحدى عشرة عقدة، فأمر بحل العقد، فكان كلما حل عقدة وجد راحة، حتى حلت العقد كلها، فكأنما أنشط من عقال، فنزلت عليه المعوذتان، وهما إحدى عشرة آية بعدد العقد، وأمر أن يتعوذ بهما‏.‏

وأنكره آخرون، ومنعوا منه في رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن صح في غيره، لما في استمراره عليه من خبل العقل، وأن الله تعالى قد أنكر على من قال في رسوله حيث يقول‏:‏ ‏{‏إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً‏}‏‏.‏

‏{‏ومن شر حاسد إذا حسد‏}‏ أما الحسد فهو تمني زوال نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها، والمنافسة هي تمني مثلها وإن لم تزل، فالحسد شر مذموم، والمنافسة رغبة مباحة، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «المؤمن يغبط والمنافق يحسد»‏.‏

وفي الاستعاذة من شر حاسد إذا حسد وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ من شر نفسه وعينه، فإنه ربما أصاب بها فعان وضر، والمعيون المصاب بالعين، وقال الشاعر‏:‏

قد كان قومُك يَحْسبونك سيّدا *** وإخال أنك سيدٌ مَعْيونُ

الثاني‏:‏ أن يحمله فرط الحسد على إيقاع الشر بالمحسود فإنه يتبع المساوئ ويطلب العثرات، وقد قيل إن الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء والأرض فحسد إبليس آدم حتى أخرجه من الجنة، وأما في الأرض فحسد قابيل بن آدم لأخيه هابيل حتى قتله، نعوذ بالله من شر ما استعاذنا منه‏.‏

وافتتح السورة ب «قُلْ» لأن الله تعالى أمر نبيه أن يقولها، وهي من السورة لنزولها معها، وقد قال بعض فصحاء السلف‏:‏ احفظ القلاقل، وفيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ قل «قل» في كل سورة ذكر في أوائلها لأنه منها‏.‏

والثاني‏:‏ احفظ السورة التي في أولها «قل» لتأكيدها بالأمر بقراءتها‏.‏

سورة الناس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ‏(‏1‏)‏ مَلِكِ النَّاسِ ‏(‏2‏)‏ إِلَهِ النَّاسِ ‏(‏3‏)‏ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ‏(‏4‏)‏ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ‏(‏5‏)‏ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أعُوذُ بِربِّ النّاسِ‏}‏ وإنما ذكر أنه رب الناس، وإن كان ربّاً لجميع الخلق لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ لأن الناس معظمون، فأعلم بذكرهم أنه رب لهم وإن عظموا‏.‏

الثاني‏:‏ لأنه أمر بالاستعاذة من شرهم، فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يُعيذ منهم‏.‏ ‏{‏مَلِكِ النّاسِ * إلَهِ النّاسِ‏}‏ لأن في الناس ملوكاً، فذكر أنه ملكهم، وفي الناس من يعبد غيره فذكر أنه إلههم ومعبودهم‏.‏

‏{‏مِن شَرَّ الوَسْواسِ الخَنّاسِ‏}‏ الخّناس هو الشيطان، وفي تسميته بذلك وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ لأنه كثير الاختفاء، ومنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏فلا أُقْسِمُ بالخُنَّس‏}‏ يعني النجوم لاختفائها بعد الظهور‏.‏

الثاني‏:‏ لأنه يرجع عن ذكر الله، والخنس الرجوع، قال الراجز‏:‏

وصاحب يَمْتَعِسُ امْتِعاسا *** يزدادُ من خَنسِه خناسا

وأما «الوسواس» ها هنا ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الشيطان لأنه يوسوس للإنسان، وقد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله «الوسواس الخناس» قال‏:‏ الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله تعالى خنس، فعلى هذا يكون في تأويل الخناس وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الراجع بالوسوسة على الهوى‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الخارج بالوسوسة في اليقين‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أنه وسواس الإنسان من نفسه، وهي الوسوسة التي يحدث بها نفسه‏.‏

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إنّ الله تعالى تجاوز لأمتى عما وسوست به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به»‏.‏

‏{‏الذي يُوسْوِسُ في صُدورِ النّاسِ‏}‏ وسوسة الشيطان هي الدعاء إلى طاعته بما يصل إلى القلب من قول متخيل، أو يقع في النفس من أمر متوهم ومنه الموسوس إذا غلب عليه الوسوسة، لما يعتريه من المسرة، وأصله الصوت الخفي، قال الأعشى‏:‏

تسمع للحلْي وسواساً إذا انصرفت *** كما استعان بريح عشرق زجل‏.‏

‏{‏من الجِنّة والنّاسِ‏}‏ أما وسواس الجنة فهو وسواس الشيطان على ما قدمناه، وأما وسواس الناس ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها وسوسة الإنسان من نفسه، قاله ابن جريج‏.‏

الثاني‏:‏ أنه إغواء من يغويه من الناس‏.‏

قال قتادة‏:‏ إن من الإنس شياطين، وإن من الجن شياطين، فنعوذ بالله من شياطين الإنس والجن‏.‏

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوّذ حسناً وحسيناً فيقول‏:‏ أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة، ومن كل عْينٍ لامّةٍ، ونحن نسعتيذ بالله مما عوذ ونستمده جميل ما عوّد‏.‏

وفقنا الله وقارئه لتدبر ما فيه وتفهم معانيه، فيه توفيقنا وعليه توكلنا، والحمد لله وحده وكفى، وصلواته على رسوله محمد المصطفى، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين‏.‏