فصل: تفسير الآيات رقم (105- 122)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 122‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ‏(‏105‏)‏ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏106‏)‏ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ‏(‏107‏)‏ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ‏(‏108‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏109‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏110‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏112‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ‏(‏113‏)‏ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏114‏)‏ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏115‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏116‏)‏ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ‏(‏117‏)‏ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏118‏)‏ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ‏(‏119‏)‏ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏120‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ‏(‏121‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ‏(‏122‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق‏}‏ أي محقاً ‏{‏لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله‏}‏ بما عرفك وأوحى به إليك‏.‏ وقال الشيخ أبو منصور رحمه الله‏:‏ بما ألهمك بالنظر في أصوله المنزلة، وفيه دلالة جواز الاجتهاد في حقه ‏{‏وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ‏}‏ لأجل الخائنين ‏{‏خَصِيماً‏}‏ مخاصماً أي ولا تخاصم اليهود لأجل بني ظفر ‏{‏واستغفر الله‏}‏ مما هممت به ‏{‏إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلاَ تجادل عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ‏}‏ يخونونها بالمعصية جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم لأن الضرر راجع إليهم، والمراد به طعمة ومن عاونه من قومه وهم يعلمون أنه سارق، أو ذكر بلفظ الجمع ليتناول طعمه وكل من خان خيانته ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً‏}‏ وإنما قيل بلفظ المبالغة لأنه تعالى عالم من طعمة أنه مُفْرط في الخيانة وركوب المآثم‏.‏ ورُوي أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطاً بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله‏.‏ وقيل‏:‏ إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقطع يد سارق فجاءت أمه تبكي وتقول‏:‏ هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه، فقال‏:‏ كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة‏.‏

‏{‏يَسْتَخْفُونَ‏}‏ يستترون ‏{‏مِنَ الناس‏}‏ حياء منهم وخوفاً من ضررهم ‏{‏وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله‏}‏ ولا يستحيون منه ‏{‏وَهُوَ مَعَهُمْ‏}‏ وهو عالم بهم مطلع عليهم لا يخفى عليه خافٍ من سرهم، وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياة والخشية من ربهم مع علمهم أنهم في حضرته لا سترة ولا غيبة ‏{‏إِذْ يُبَيِّتُونَ‏}‏ يدبرون وأصله أن يكون ليلاً ‏{‏مَا لاَ يرضى مِنَ القول‏}‏ وهو تدبير طعمة أن يرمي بالدرع في دار زيد ليسرّق دونه ويحلف أنه لم يسرقها، وهو دليل على أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس حيث سمى التدبير قولاً ‏{‏وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً‏}‏ عالماً علم إحاطة‏.‏

‏{‏هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء‏}‏ «ها» للتنبيه في «أنتم» و«أولاء»» وهما مبتدأ وخبر ‏{‏جادلتم‏}‏ خاصمتم وهي جملة مبينة لوقوع «أولاء» خبراً كقولك لبعض الاسخياء «أنت حاتم تجود بمالك»‏.‏ أو «أولاء» اسم موصول بمعنى «الذين» و«جادلتم» صلته والمعنى‏:‏ هبوا أنكم خاصمتم ‏{‏عَنْهُمْ‏}‏ عن طعمة وقومه ‏{‏فِي الحياة الدنيا فَمَن يجادل الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه‏؟‏ وقرئ «عنه» أي عن طعمة ‏{‏أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً‏}‏ حافظاً ومحامياً من بأس الله وعذابه‏.‏ ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً‏}‏ ذنباً دون الشرك ‏{‏أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ‏}‏ بالشرك أو سوءاً قبيحاً يتعدى ضرره إلى الغير كما فعل طعمة بقتادة واليهودي، أو يظلم نفسه بما يختص به كالحلف الكاذب ‏{‏ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله‏}‏ يسأل مغفرته ‏{‏يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ له وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة ‏{‏وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ‏}‏ لأن وباله عليها ‏{‏وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً‏}‏ فلا يعاقب بالذنب غير فاعله ‏{‏وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً‏}‏ صغيرة ‏{‏أَوْ إِثْماً‏}‏ أو كبيرة، أو الأول ذنب بينه وبين ربه، والثاني ذنب في مظالم العباد ‏{‏ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً‏}‏ كما رمى طعمة زيداً ‏{‏فَقَدِ احتمل بهتانا‏}‏ كذباً عظيماً ‏{‏وَإِثْماً مُّبِيناً‏}‏ ذنباً ظاهراً، وهذا لأنه بكسب الإثم آثم ويرمي البريء باهت فهو جامع بين الأمرين، والبهتان كذب يبهت من قيل عليه ما لا علم له به ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ‏}‏ أي عصمته ولطفه من الإطلاع على سرهم ‏{‏لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ‏}‏ من بني ظفر، أو المراد بالطائفة بنو ظفر الضمير في «منهم» يعود إلى الناس ‏{‏أَن يُضِلُّوكَ‏}‏ عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل مع علمهم بأن الجاني صاحبهم ‏{‏وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ‏}‏ لأن وباله عليهم ‏{‏وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ‏}‏ لأنك إنما عملت بظاهر الحال وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك ‏{‏وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب‏}‏ القرآن ‏{‏والحكمة‏}‏ والسنة ‏{‏وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ‏}‏ من أمور الدين والشرائع أو من خفيات الأمور وضمائر القلوب ‏{‏وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً‏}‏ فيما علمك وأنعم عليك‏.‏

‏{‏لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ‏}‏ من تناجي الناس ‏{‏إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ‏}‏ إلا نجوى من أمر، وهو مجرور بدل من «كثير» أو من «نجواهم» أو منصوب على الانقطاع بمعنى ولكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير ‏{‏أَوْ مَعْرُوفٍ‏}‏ أي قرض أو إغاثة ملهوف أو كل جميل، أو المراد بالصدقة الزكاة وبالمعروف التطوع ‏{‏أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس‏}‏ أي إصلاح ذات البين ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك‏}‏ المذكور ‏{‏ابتغاء مرضات الله‏}‏ طلب رضا الله وخرج عنه من فعل ذلك رياء أو ترؤساً وهو مفعول له‏.‏ والإشكال أنه قال «إلا من أمر» ثم قال و«من يفعل ذلك» والجواب أنه ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله لأنه إذا دخل الآمر به في زمرة الخيرين كان الفاعل فيهم أدخل، ثم قال و«ومن يفعل ذلك» فذكر الفاعل وقرن به الوعد بالأجر العظيم‏.‏ أو المراد ومن يأمر بذلك فعبر عن الأمر بالفعل ‏{‏فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ «يؤتيه»‏:‏ أبو عمرو وحمزة‏.‏ ‏{‏وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى‏}‏ ومن يخالف الرسول من بعد وضوح الدليل وظهور الرشد ‏{‏وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين‏}‏ أي السبيل الذي هم عليه من الدين الحنيفي، وهو دليل على أن الإجماع حجة لا تجوز مخالفتها كما لا تجوز مخالفة الكتاب والسنة، لأن الله تعالى جمع بين أتباع غير سبيل المؤمنين وبين مشاقة الرسول في الشرط، وجعل جزاءه الوعيد الشديد فكان اتباعهم واجباً كموالاة الرسول ‏{‏نُوَلِّهِ مَا تولى‏}‏ نجعله والياً لما تولى من الضلال وندعه وما اختاره في الدنيا ‏{‏وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ‏}‏ في العقبي ‏{‏وَسَاءَتْ مَصِيراً‏}‏ قيل‏:‏ هي في طعمة وارتداده‏.‏

‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ مر تفسيره في هذه السورة ‏{‏وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً‏}‏ عن الصواب ‏{‏إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ‏}‏ ما يعبدون من دون الله ‏{‏إِلاَّ إناثا‏}‏ جمع أنثى وهي اللات والعزى ومناة، ولم يكن حي من العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بني فلان‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يقولون في أصنامهم هن بنات الله ‏{‏وَإِن يَدْعُونَ‏}‏ يعبدون ‏{‏إِلاَّ شيطانا‏}‏ لأنه هو الذي أغراهم على عبادة الأصنام فأطاعوه فجعلت طاعتهم له عبادة ‏{‏مَّرِيداً‏}‏ خارجاً عن الطاعة عارياً عن الخير ومنه الأمرد ‏{‏لَّعَنَهُ الله وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ‏}‏ صفتان يعني شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله وهذا القول الشنيع ‏{‏مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً‏}‏ مقطوعاً واجباً لي في كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وواحد لله‏.‏

‏{‏وَلأُضِلَّنَّهُمْ‏}‏ بالدعاء إلى الضلالة والتزيين والوسوسة ولو كان إنفاذ الضلالة إليه لأضل الكل ‏{‏وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ‏}‏ ولألقين في قلوبهم الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال ‏{‏وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءَاذَانَ الأنعام‏}‏ البتك‏:‏ القطع‏.‏ والتبتيك للتكثير والتكرير أي لأحملنهم على أن يقطعوا آذان الأنعام، وكانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكراً وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ‏{‏وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله‏}‏ بفقء عين الحامي وإعفائه عن الركوب، أو بالخصاء وهو مباح في البهائم محظور في بني آدم، أو بالوشم أو بنفي الأنساب واستلحاقها، أو بتغيير الشيب بالسواد، أو بالتحريم والتحليل، أو بالتخنث، أو بتبديل فطرة الله التي هي دين الإسلام لقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏‏.‏ ‏{‏وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مّن دُونِ الله‏}‏ وأجاب إلى ما دعاه إليه ‏{‏فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً‏}‏ في الدارين ‏{‏يَعِدُهُمْ‏}‏ يوسوس إليهم أن لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب ‏{‏وَيُمَنِّيهِمْ‏}‏ ما لا ينالون ‏{‏وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً‏}‏ هو أن يرى شيئاً يظهر خلافه ‏{‏أولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً‏}‏ معدلاً ومفراً‏.‏

‏{‏والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ ولم يتبعوا الشيطان في الأمر بالكفر ‏{‏سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَدًا‏}‏ وقرأ النخعي «سيدخلهم» ‏{‏وَعْدَ الله حَقّا‏}‏ مصدران الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره ‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً‏}‏ قولاً وهو استفهام بمعنى النفي أي لا أحد أصدق منه وهو تأكيد ثالث، وفائدة هذه التوكيدات مقابلة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 129‏]‏

‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏123‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ‏(‏124‏)‏ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ‏(‏125‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ‏(‏126‏)‏ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ‏(‏127‏)‏ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏128‏)‏ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏129‏)‏‏}‏

‏{‏لَّيْسَ بأمانيكم‏}‏ ليس الأمر على شهواتكم وأمانيكم أيها المشركون أن تنفعكم الأصنام ‏{‏وَلا أَمَانِيّ أَهْلِ الكتاب‏}‏ ولا على شهوات اليهود والنصارى حيث قالوا‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ‏{‏لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 80‏]‏‏.‏ ‏{‏مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ‏}‏ أي من المشركين وأهل الكتاب بدليل قوله ‏{‏وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً‏}‏ وهذا وعيد للكفار لأنه قال بعده ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ فقوله «وهو مؤمن» حال و«من» الأولى للتبعيض، والثانية لبيان الإبهام في «من يعمل»، وفيه إشارة إلى أن الأعمال ليست من الإيمان ‏{‏فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة‏}‏ «يدخلون»‏:‏ مكي وأبو عمرو وأبو بكر ‏{‏وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً‏}‏ قدر النقير وهو النقرة في ظهر النواة والراجع في ‏{‏وَلاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ لعمال السوء وعمال الصالحات جميعاً‏.‏ وجاز أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دليلاً على ذكره عند الآخر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ «وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات»‏.‏ بعد ذكر تمني أهل الكتاب كقوله ‏{‏بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ عقيب قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة‏}‏ ‏{‏ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله‏}‏ أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له لا يعرف لها رباً ولا معبوداً سواء ‏{‏وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏ عامل للحسنات ‏{‏واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً‏}‏ مائلاً عن الأديان الباطلة وهو حال من المتبع أو من إبراهيم ‏{‏واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً‏}‏ هو في الأصل المخال وهو الذي يخالك أي يوافقك في خلالك، أو يداخلك خلال منزلك، أو يسد خللك كما يسد خلله، فالخلة صفاء مودة توجب الاختصاص بتخلل الأسرار، والمحبة أصفى لأنها من حبة القلب وهي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب كقوله «والحوادث جمة»‏.‏ وفائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته وطريقته لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلاً كان جديراً بأن تتبع ملته وطريقته، ولو جعلتها معطوفة على الجمل قبلها ولم يكن لها معنى وفي الحديث ‏"‏ اتخذ الله إبراهيم خليلاً لإطعامه الطعام وإفشائه السلام وصلاته بالليل والناس نيام ‏"‏ وقيل‏:‏ أوحي إليه إنما اتخذتك خليلاً لأنك تحب أن تعطي ولا تعطى‏.‏ وفي رواية «لأنك تعطي الناس ولا تسألهم»‏.‏

وفي قوله ‏{‏وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ دليل على أن اتخاذه خليلاً لاحتياج الخليل إليه لا لاحتياجه تعالى إليه لأنه منزه عن ذلك ‏{‏وَكَانَ الله بِكُلّ شَيْءً مُّحِيطاً‏}‏ عالماً‏.‏

‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النساء‏}‏ ويسألونك الإفتاء في النساء والإفتاء تبيين المبهم ‏{‏قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يتامى النساء‏}‏ أي الله يفتيكم والمتلو في الكتاب أي القرآن في معنى اليتامى يعني قوله‏:‏

‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِي اليتامى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وهو من قولك «أعجبني زيد وكرمه» و«ما يتلى» في محل الرفع بالعطف على الضمير في «يفتيكم» أو على لفظ «الله» و«في يتامى النساء» صلة «يتلى» أي يتلى عليكم في معناهن‏.‏ ويجوز أن يكون «في يتامى النساء» بدلاً من «فيهن» والإضافة بمعنى «من» ‏{‏الاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ‏}‏ ما فرض لهن من الميراث وكان الرجل منهم يضم اليتيمة إلى نفسه ومالها، فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها ‏{‏وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ‏}‏ أي في أن تنكحوهن لجمالهن أو عن أن تنكحوهن لدمامتهن ‏{‏والمستضعفين مِنَ الولدان‏}‏ أي اليتامى وهو مجرور معطوف على «يتامى النساء»، وكانوا في الجاهلية إنما يورثون الرجال القوام بالأمور دون الأطفال والنساء ‏{‏وَأَن تَقُومُواْ لليتامى‏}‏ مجرور كالمستضعفين بمعنى يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا، أو منصوب بمعنى ويأمركم أن تقوموا وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا لهم حقوقهم ‏{‏بالقسط‏}‏ بالعدل في ميراثهم ومالهم ‏{‏وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ‏}‏ شرط وجوابه ‏{‏فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً‏}‏ أي فيجازيكم عليه‏.‏

‏{‏وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً‏}‏ توقعت منه ذلك لما لاح لها من مخايله وأمارته‏.‏ والنشوز أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته وأن يؤذيها بسب أو ضرب ‏{‏أَوْ إِعْرَاضاً‏}‏ عنها بأن يقل محادثتها ومؤانستها بسبب كبر سن أو دمامة أو سوء في خلق أو خلق أو ملال أو طموح عين إلى أخرى أو غير ذلك ‏{‏فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا‏}‏ كوفي‏.‏ «يصّالحا»‏:‏ غيرهم أي يتصالحا وهو أصله فأبدلت التاء صاداً وأدغمت‏.‏ ‏{‏صُلحاً‏}‏ في معنى مصدر كل واحد من الفعلين‏.‏ ومعنى الصلح أن يتصالحا على أن تطيب له نفساً عن القسمة أو عن بعضها أو تهب له بعض المهر أو كله أو النفقة ‏{‏والصلح خَيْرٌ‏}‏ من الفرقة أو من النشوز أو من الخصومة في كل شيء، أو والصلح خير من الخيور كما أن الخصومة شر من الشرور، وهذه الجملة اعتراض كقوله ‏{‏وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح‏}‏ أي جعل الشح حاضراً لها لا يغيب عنها أبداً ولا تنفك عنه يعني أنها مطبوعة عليه‏.‏ والمراد أن المرأة لا تكاد تسمح بقسمها والرجل لا يكاد يسمح بأن يقسم لها إذا رغب عنها، فكل واحد منهما يطلب ما فيه راحته‏.‏ «وأحضرت» يتعدى إلى مفعولين والأول «الأنفس»‏.‏ ثم حث على مخالفة الطبع ومتابعة الشرط بقوله ‏{‏وَإِن تُحْسِنُواْ‏}‏ بالإقامة على نسائكم، وإن كرهتموهن وأحببتم غيرهن وتصبروا على ذلك مراعاة لحق الصحبة ‏{‏وَتَتَّقُواْ‏}‏ النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة ‏{‏فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ من الإحسان والتقوى ‏{‏خَبِيراً‏}‏ فيثيبكم عليه‏.‏

وكان عمران الخارجي من أدمّ بني آدم وامرأته من أجملهم فنظرت إليه وقالت‏:‏ الحمد لله على أني وإياك من أهل الجنة‏.‏ قال‏:‏ كيف‏؟‏ فقالت‏:‏ لأنك رزقت مثلي فشكرت ورزقت مثلك فصبرت والجنة موعودة للشاكرين والصابرين ‏{‏وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء‏}‏ ولن تستطيعوا العدل بين النساء والتسوية حتى لا يقع ميل البتة، فتمام العدل أن يسوى بينهن بالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والمحالمة والمفاكهة وغيرها‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أن تعدلوا في المحبة وكان عليه السلام يقسم بين نسائه فيعدل ويقول‏:‏ ‏"‏ هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك ‏"‏ يعني المحبة لأن عائشة رضي الله عنها كانت أحب إليه‏.‏ ‏{‏وَلَوْ حَرَصْتُمْ‏}‏ بالغتم في تجري ذلك ‏{‏فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل‏}‏ فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمها من غير رضا منها يعني أن اجتناب كل الميل في حد اليسر فلا تُفْرطوا فيه إن وقع منكم التفريط في العدل كله، وفيه ضرب من التوبيخ‏.‏ و«كل» نصب على المصدر لأن له حكم ما يضاف إليه ‏{‏فَتَذَرُوهَا كالمعلقة‏}‏ وهي التي ليست بذات بعلٍ ولا مطلقة ‏{‏وَإِن تُصْلِحُواْ‏}‏ بينهن ‏{‏وَتَتَّقُواْ‏}‏ الجور ‏{‏فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ يغفر لكم ميل قلوبكم ويرحمكم فلا يعاقبكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 141‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ‏(‏130‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ‏(‏131‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏132‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ‏(‏133‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏134‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏135‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏136‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ‏(‏137‏)‏ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏138‏)‏ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ‏(‏139‏)‏ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ‏(‏140‏)‏ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ‏(‏141‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن يَتَفَرَّقَا‏}‏ أي إن لم يصطلح الزوجان على شيء وتفرقا بالخلع أو بتطليقه إياها وإيفائه مهرها ونفقة عدتها ‏{‏يُغْنِ الله كُلاًّ‏}‏ كل واحد منهما ‏{‏مِّن سَعَتِهِ‏}‏ من غناه أي يرزقه زوجاً خيراً من زوجه وعيشاً أهنأ من عيشه ‏{‏وَكَانَ الله واسعا‏}‏ بتحليل النكاح ‏{‏حَكِيماً‏}‏ بالإذن في السراح، فالسعة الغنى والقدرة والواسع الغني المقتدر‏.‏ ثم بين غناه وقدرته بقوله ‏{‏وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ خلقاً والمتملكون عبيده رقا‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ هو اسم للجنس فيتناول الكتب السماوية ‏{‏مِن قَبْلِكُم‏}‏ مّن الأمم السالفة وهو متعلق ب «وصينا»أو ب «أتوا» ‏{‏وإياكم‏}‏ عطف على «الذين أوتوا» ‏{‏أَنِ اتقوا الله‏}‏ بأن اتقوا أو تكون «أن» المفسرة لأن التوصية في معنى القول، والمعنى أن هذه وصية قديمة ما زال يوصي الله بها عباده ولستم بها مخصوصين لأنهم بالتقوى يسعدون عنده ‏{‏وَإِن تَكْفُرُواْ‏}‏ عطف على «اتقوا» لأن المعنى أمرناهم وأمرناكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم إن تكفروا ‏{‏فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض وَكَانَ الله غَنِيّاً‏}‏ عن خلقه وعن عبادتهم ‏{‏حَمِيداً‏}‏ مستحقاً لأن يحمد لكثرة نعمه وإن لم يحَمده أحد‏.‏ وتكرير قوله‏:‏ «لله ما في السماوات وما في الأرض»‏.‏ تقرير لما هو موجب تقواه لأن الخلق لما كان كله له وهو خالقهم ومالكهم فحقه أن يكون مطاعاً في خلقه غير معصي‏.‏ وفيه دليل على أن التقوى أصل الخير كله، وقوله‏:‏ «وإن تكفروا»‏.‏ عقيب التقوى دليل على أن المراد الاتقاء عن الشرك ‏{‏وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏ فاتخذوه وكيلاً ولا تتكلوا على غيره‏.‏

ثم خوفهم وبين قدرته بقوله ‏{‏إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ‏}‏ يعدمكم ‏{‏أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِاخَرِينَ‏}‏ ويوجد إنساً آخرين مكانكم أو خلقاً آخرين غير الإنس ‏{‏وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً‏}‏ بليغ القدرة ‏{‏مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا‏}‏ كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة ‏{‏فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة‏}‏ فما له يطلب أحدهما دون الآخر والذي يطلبه أخسهما ‏{‏وَكَانَ الله سَمِيعاً‏}‏ للأقوال ‏{‏بَصِيراً‏}‏ بالأفعال وهو وعد ووعيد‏.‏

‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط‏}‏ مجتهدين في إقامة العدل حتى لا تجوروا ‏{‏شُهَدَاءَ‏}‏ خبر بعد خبر ‏{‏لِلَّهِ‏}‏ أي تقيمون شهاداتكم لوجه الله ‏{‏وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ‏}‏ ولو كانت الشهادة على أنفسكم والشهادة على نفسه هي الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق، وهذا لأن الدعوى والشهادة والإقرار يشترك جميعها في الإخبار عن حق لأحد على أحد غير أن الدعوى إخبار عن حق لنفسه على الغير، والإقرار للغير على نفسه، والشهادة للغير على الغير ‏{‏أَوِ الوالدين والأقربين‏}‏ أي ولو كانت الشهادة على آبائكم وأمهاتكم وأقاربكم ‏{‏إِن يَكُنْ‏}‏ المشهود عليه ‏{‏غَنِيّاً‏}‏ فلا يمنع الشهادة عليه لغناه طلباً لرضاه ‏{‏أَوْ فَقَيراً‏}‏ فلا يمنعها ترحماً عليه ‏{‏فالله أولى بِهِمَا‏}‏ بالغني والفقير أي بالنظر لهما والرحمة‏.‏

وإنما ثنى الضمير في «بهما» وكان حقه أن يوحد، لأن المعنى إن يكن أحد هذين لأنه يرجع إلى ما دل عليه قوله‏:‏ «غنياً أو فقيراً»‏.‏ وهو جنس الغني والفقير كأنه قيل‏:‏ فالله أولى بجنسي الغني والفقير أي بالأغنياء والفقراء ‏{‏فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى‏}‏ إرادة ‏{‏أن تعدلوا‏}‏ عن الحق من العدول أو كراهة أن تعدلوا بين الناس من العدل ‏{‏وَإِن تَلُوُاْ‏}‏ بواو واحدة وضم اللام‏:‏ شامي وحمزة من الولاية ‏{‏أَوْ تُعْرِضُواْ‏}‏ أي وإن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عن إقامتها‏.‏ غيرهما‏:‏ «تلووا» بواوين وسكون اللام من اللي أي وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها ‏{‏فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً‏}‏ فيجازيكم عليه‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ‏}‏ خطاب للمسلمين ‏{‏ءَامَنُواْ‏}‏ اثبتوا على الإيمان ودوموا عليه، ولأهل الكتاب لأنهم آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا ببعض، أو للمنافقين أي يا أيها الذين آمنوا نفاقاً آمنوا إخلاصاً ‏{‏بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ أي محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ‏}‏ أي الفرقان ‏{‏والكتاب الذى أَنَزلَ مِن قَبْلُ‏}‏ أي جنس ما أنزل على الأنبياء قبله من الكتب ويدل عليه قوله و«كتبه»‏.‏ نزل وأنزل بالبناء للمفعول‏:‏ مكي وشامي وأبو عمرو، وعلى البناء للفاعل فيهما‏:‏ غيرهم‏.‏ وإنما قيل «نزل على رسوله» و«أنزل من قبل» لأن الفرقان نزل مفرقاً منجماً في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر‏}‏ أي ومن يكفر بشيء من ذلك ‏{‏فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً‏}‏ لأن الكفر ببعضه كفر بكله‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين ءَامَنُواْ‏}‏ بموسى عليه السلام ‏{‏ثُمَّ كَفَرُواْ‏}‏ حين عبدوا العجل ‏{‏ثُمَّ ءَامَنُواْ‏}‏ بموسى بعد عوده ‏{‏ثُمَّ كَفَرُواْ‏}‏ بعيسى عليه السلام ‏{‏ثُمَّ ازدادوا كُفْراً‏}‏ بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً‏}‏ إلى النجاة أو إلى الجنة، أو هم المنافقون آمنوا في الظاهر وكفروا في السر مرة بعد أخرى، وازدياد الكفر منهم ثباتهم عليه إلى الموت يؤيده قوله ‏{‏بَشِّرِ المنافقين‏}‏ أي أخبرهم ووضع بشر مكانه تهكماً بهم ‏{‏بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ مؤلماً ‏{‏الذين‏}‏ نصب على الذم أو رفع بمعنى أريد الذين أو هم الذين ‏{‏يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة‏}‏ كان المنافقون يوالون الكفرة يطلبون منهم المنعة والنصرة ويقولون‏:‏ لا يتم أمر محمد عليه السلام ‏{‏فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً‏}‏ ولمن أعزه كالنبي عليه السلام والمؤمنين كما قال

‏{‏وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏‏.‏

‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ‏}‏ بفتح النون‏:‏ عاصم‏.‏ وبضمها‏:‏ غيره ‏{‏فِي الكتاب‏}‏ القرآن ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايات الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ حتى يشرعوا في كلام غير الكفر والاستهزاء بالقرآن، والخوض‏:‏ الشروع و«أن» مخففة من الثقيلة أي أنه إذا سمعتم أي نزل عليكم أن الشأن كذا‏.‏ والشأن ما أفادته الجملة بشرطها وجزائها و«أن» مع ما في حيزها في موضع الرفع ب «نُزل» أو في موضع النصب ب «نَزل» والمنزل عليهم في الكتاب هو ما نزل عليهم بمكة من قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِي ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 68‏]‏‏.‏ وذلك أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزئون به، فنهى المسلمين عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه، وكان المنافقون بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين بمكة فنهوا أن يقعدوا معهم كما نهوا عن مجالسة المشركين بمكة ‏{‏إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ‏}‏ أي في الوزر إذا مكثتم معهم، ولم يرد به التمثيل من كل وجه فإن خوض المنافقين فيه كفر ومكث هؤلاء معهم معصية ‏{‏إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً‏}‏ لاجتماعهم في الكفر والاستهزاء ‏{‏الذين‏}‏ بدل من «الذين يتخذون» أو صفة للمنافقين أو نصب على الذم منهم ‏{‏يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ‏}‏ ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو إخفاق ‏{‏فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله‏}‏ نصرة وغنيمة ‏{‏قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ‏}‏ مظاهرين فأشركونا في الغنيمة ‏{‏وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ‏}‏ سمى ظفر المسلمين فتحاً تعظيماً لشأنهم لأنه أمر عظيم تفتح له أبواب السماء، وظفر الكافرين نصيباً تخسيساً لحظهم لأنه لمظة من الدنيا يصيبونها‏.‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ للكافرين ‏{‏أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ‏}‏ ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم فأبقينا عليكم، والاستحواذ الاستيلاء والغلبة ‏{‏وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ المؤمنين‏}‏ بأن ثبطناهم عنكم وخيلنا لهم ما ضعفت قلوبهم به ومرضوا عن قتالكم وتوانينا في مظاهرتهم عليكم فهاتوا نصيباً لنا مما أصبتم ‏{‏فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ‏}‏ أيها المؤمنون والمنافقون ‏{‏يَوْمَ القيامة‏}‏ فيدخل المنافقين النار والمؤمنين الجنة ‏{‏وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً‏}‏ أي في القيامة بدليل أول الآية كذا عن علي رضي الله عنه، أو حجة كذا عن ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 153‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏142‏)‏ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏143‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏144‏)‏ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ‏(‏145‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏146‏)‏ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ‏(‏147‏)‏ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ‏(‏148‏)‏ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ‏(‏149‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏150‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏151‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏152‏)‏ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏153‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ المنافقين يخادعون الله‏}‏ أي يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر‏.‏ والمنافق من أظهر الإيمان وأبطن الكفر، أو أولياء الله وهم المؤمنون فأضاف خداعهم إلى نفسه تشريفاً لهم ‏{‏وَهُوَ خَادِعُهُمْ‏}‏ وهو فاعل بهم ما يفعل المغالب في الخداع حيث تركهم معصومي الدماء والأموال في الدنيا، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في العقبى‏.‏ والخادع اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه‏.‏ وقيل‏:‏ يجزيهم جزاء خداعهم‏.‏ ‏{‏وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى‏}‏ متثاقلين كراهة، أما الغفلة فقد يبتلى بها المؤمن وهو جمع كسلان كسكارى في سكران ‏{‏يُرَاءَونَ الناس‏}‏ حال أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة‏.‏ والمرأة مفاعلة من الرؤية لأن المرائي يريهم عمله وهم يرونه استحساناً ‏{‏وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ولا يصلون إلا قليلاً لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس، أو لا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكراً قليلاً نادراً‏.‏ قال الحسن‏:‏ لو كان ذلك القليل لله تعالى لكان كثيراً ‏{‏مُّذَبْذَبِينَ‏}‏ نصب على الذم أي مردّدين يعني ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر فهم مترددون بينهما متحيرون، وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين أي يدفع فلا يقر في جانب واحد إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب ‏{‏بَيْنَ ذلك‏}‏ بين الكفر والإيمان ‏{‏لآَ إلى هؤلاءآء‏}‏ لا منسوبين إلى هؤلاء فيكونوا مؤمنين ‏{‏وَلآَ إِلَى هؤلاءآء‏}‏ ولا منسوبين إلى هؤلاء فيسموا مشركين ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً‏}‏ طريقاً إلى الهدى‏.‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المؤمنين أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً‏}‏ حجة بينه في تعذيبكم ‏{‏إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار‏}‏ أي في الطبق الذي في قعر جنهم، والنار سبع دركات سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض‏.‏ وإنما كان المنافق أشد عذاباً من الكافر لأنه أمن السيف في الدنيا فاستحق الدرك الأسفل في العقبى تعديلاً، ولأنه مثله في الكفر وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله‏.‏ والدرك بسكون الراء‏:‏ كوفي غير الأعشى، وبفتح الراء‏:‏ غيرهم‏.‏ وهما لغتان، وذكر الزجاج أن الاختيار فتح الراء‏.‏ ‏{‏وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً‏}‏ يمنعهم من العذاب ‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ‏}‏ من النفاق وهو استثناء من الضمير المجرور في «ولن تجد لهم نصير» ‏{‏وَأَصْلَحُواْ‏}‏ ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النفاق ‏{‏واعتصموا بالله‏}‏ ووثقوا به كما يثق المؤمنون الخلص ‏{‏وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ‏}‏ لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه ‏{‏فأولئك مَعَ المؤمنين‏}‏ فهم أصحاب المؤمنين ورفاقهم في الدارين ‏{‏وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً‏}‏ فيشاركونهم فيه‏.‏

وحذفت الياء في الخط هنا إتباعاً للفظ‏.‏ ثم استفهم مقرراً أنه لا يعذب المؤمن الشاكر فقال ‏{‏مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ‏}‏ لله ‏{‏وَءَامَنتُمْ‏}‏ به ف «ما» منصوبة ب «يفعل» أي أي شيء يفعل بعذابكم‏؟‏ فالإيمان معرفة المنعم، والشكر الاعتراف بالنعمة، والكفر بالمنعم والنعمة عناد، فلذا استحق الكافر العذاب‏.‏ وقدم الشكر على الإيمان لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع فيشكر شكراً مبهماً، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً مفصلاً فكان الشكر متقدماً على الإيمان ‏{‏وَكَانَ الله شاكرا‏}‏ يجزيكم على شكركم أو يقبل اليسير من العمل ويعطي الجزيل من الثواب ‏{‏عَلِيماً‏}‏ عالماً بما تصنعون‏.‏

‏{‏لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول‏}‏ ولا غير الجهر ولكن الجهر أفحش ‏{‏إَلاَّ مَن ظُلِمَ‏}‏ إلا جهر من ظلم استثنى من الجهر الذي لا يحبه الله جهر المظلوم وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه من السوء‏.‏ وقيل‏:‏ الجهر بالسوء من القول هو الشتم إلا من ظلم فإنه إن رد عليه مثله فلا حرج عليه ‏{‏وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 41‏]‏ ‏{‏وَكَانَ الله سَمِيعاً‏}‏ لشكوى المظلوم ‏{‏عَلِيماً‏}‏ بظلم الظالم‏.‏ ثم حث على العفو وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار بعد ما أطلق الجهر به حثاً على الأفضل، وذكر إبداء الخير وإخفاءه تشبيباً للعفو فقال ‏{‏إِن تُبْدُواْ خَيْراً‏}‏ مكان جهر السوء ‏{‏أَوْ تُخْفُوهُ‏}‏ فتعملوه سراً ثم عطف العفو عليهما فقال ‏{‏أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء‏}‏ أي تمحوه عن قلوبكم والدليل على أن العفو هو المقصود بذكر إبداء الخير وإخفائه قوله ‏{‏فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً‏}‏ أي إنه لم يزل عفواً عن الآثام مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنته‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ‏}‏ كاليهود كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام والإنجيل والقرآن، وكالنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ‏{‏وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً‏}‏ أي ديناً وسطاً بين الإيمان والكفر ولا واسطة بينهما ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون‏}‏ هم الكاملون في الكفر لأن الكفر بواحد كفر بالكل ‏{‏حَقّاً‏}‏ تأكيد لمضمون الجملة كقولك «هذا عبد الله حقاً» أي حق ذلك حقاً وهو كونهم كاملين في الكفر، أو هو صفة لمصدر الكافرين أي هم الذين كفروا حقاً ثابتاً يقيناً لا شك فيه ‏{‏وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً‏}‏ في الآخرة ‏{‏والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ‏}‏ وإنما جاز دخول «بين» على «أحد» لأنه عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما ‏{‏أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ‏}‏ وبالياء‏:‏ حفص ‏{‏أُجُورَهُمْ‏}‏ أي الثواب الموعود لهم ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً‏}‏ يستر السيئات ‏{‏رَّحِيماً‏}‏ يقبل الحسنات، والآية تدل على بطلان قول المعتزلة في تخليد المرتكب الكبيرة لأنه أخبر أن من آمن بالله ورسله ولم يفرق بين أحد منهم يؤتيه أجره، ومرتكب الكبيرة ممن آمن بالله ورسله ولم يفرق بين أحد فيدخل تحت الوعد، وعلى بطلان قول من لا يقول بقدم صفات الفعل من المغفرة والرحمة لأنه قال‏:‏ «وكان الله غفوراً رحيماً» وهم يقولون‏:‏ ما كان الله غفوراً رحيماً في الأزل ثم صار غفوراً رحيماً‏.‏

ولما قال فنحاص وأصحابه للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن كنت نبياً صادقاً فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى عليه السلام نزل ‏{‏يَسْئَلُكَ * أَهْلِ الكتاب أن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ‏}‏ وبالتخفيف‏:‏ مكي وأبو عمرو ‏{‏كتابا مّنَ السماء‏}‏ أي جملة كما نزلت التوراة جملة، وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ولو سألوه مسترشدين لأعطاهم لأن إنزال القرآن جملة ممكن ‏{‏فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك‏}‏ هذا جواب شرط مقدر معناه‏:‏ إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى أكبر من ذلك‏.‏ وإنما أسند السؤال إليهم وقد وجد من آبائهم في أيام موسى عليه السلام وهم النقباء السبعون لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ‏{‏فَقَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً‏}‏ عياناً أي أرنا نره جهرة ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة‏}‏ العذاب الهائل أو النار المحرقة ‏{‏بِظُلْمِهِمْ‏}‏ على أنفسهم بسؤال شيء في غير موضعه، أو بالتحكم على نبيهم في الآيات وتعنتهم في سؤال الرؤية لا بسؤال الرؤية لأنها ممكنة كإنزال القرآن جملة، ولو كان ذلك بسبب سؤال الرؤية لكان موسى بذلك أحق فإنه قال ‏{‏رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏ وما أخذته الصاعقة بل أطمعه وقيده بالممكن ولا يعلق بالممكن إلا ما هو ممكن الثبوت ثم أحياهم ‏{‏ثُمَّ اتخذوا العجل‏}‏ إلهاً ‏{‏مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات‏}‏ التوراة والمعجزات التسع ‏{‏فَعَفَوْنَا عَن ذلك‏}‏ تفضلاً ولم نستأصلهم ‏{‏وَءَاتَيِْنَا مُوسَى سلطانا مُّبِيناً‏}‏ حجة ظاهرة على من خالفه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏154- 158‏]‏

‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏154‏)‏ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏155‏)‏ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ‏(‏156‏)‏ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ‏(‏157‏)‏ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏158‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بميثاقهم‏}‏ بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه ‏{‏وَقُلْنَا لَهُمُ‏}‏ والطور مطل عليهم ‏{‏ادخلوا الباب سُجَّداً‏}‏ أي ادخلوا باب إيلياء مطأطئين عند الدخول رؤوسكم ‏{‏وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ‏}‏ لا تجاوزوا الحد «تَعدّوُا»‏:‏ ورش «تعدوا» بإسكان العين وتشديد الدال‏:‏ مدني غير ورش وهما مدغماً «تعتدوا» وهي قراءة أبي إلا أنه أدغم التاء في الدال وأبقى العين ساكنة في رواية، وفي رواية نقل فتح التاء إلى العين ‏{‏فِى السبت‏}‏ بأخذ السمك ‏{‏وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً‏}‏ عهداً مؤكداً‏.‏

‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِم‏}‏ أي فبنقضهم و«ما» مزيدة للتوكيد والباء يتعلق بقوله «حرمنا عليهم طيبات» تقديره حرمنا عليهم طيبات بنقضهم ميثاقهم، وقوله «فبظلم من الذين هادوا» بدل من قوله «فبما نقضهم» ‏{‏ميثاقهم‏}‏ ومعنى التوكيد تحقيق أن تحريم الطيبات لم يكن إلا بنقض العهد وما عطف عليه من الكفر وقتل الأنبياء وغير ذلك ‏{‏وَكُفْرِهِم بئايات الله‏}‏ أي معجزات موسى عليه السلام ‏{‏وَقَتْلِهِمُ الأنبياء‏}‏ كزكريا ويحيى وغيرهما ‏{‏بِغَيْرِ حَقٍّ‏}‏ بغير سبب يستحقون به القتل ‏{‏وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ جمع أغلف أي محجوبة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والوعظ ‏{‏بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ‏}‏ هو رد وإنكار لقولهم «قلوبنا غلف» ‏{‏فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ كعبد الله بن سلام وأصحابه ‏{‏وَبِكُفْرِهِمْ‏}‏ معطوف على «فبما نقضهم» أو على ما يليه من قوله‏:‏ «بكفرهم»‏.‏ ولما تكرر منهم الكفر لأنهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم عطف بعض كفرهم على بعض‏:‏ ‏{‏وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً‏}‏ هو النسبة إلى الزنا ‏{‏وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح‏}‏ سمي مسيحاً لأن جبريل عليه السلام مسحه بالبركة فهو ممسوح، أو لأنه كان يمسح المريض والأكمة والأبرص فيبرأ فسمي مسيحاً بمعنى الماسح ‏{‏عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله‏}‏ هم لم يعتقدوه رسول الله لكنهم قالوا استهزاء كقول الكفار لرسولنا ‏{‏يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏ ويحتمل أن الله وصفه بالرسول وإن لم يقولوا ذلك‏.‏

‏{‏وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبّهَ لَهُمْ‏}‏ روي أن رهطاً من اليهود سبوه وسبوا أمه فدعا عليهم‏:‏ اللهم أنت ربي وبكلمتك خلقتني، اللهم العن من سبني وسب والدتي، فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير‏.‏ فاجتمعت اليهود على قتله فأخبره الله بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من صحبة اليهود، فقال لأصحابه‏:‏ أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة‏؟‏ فقال رجل منهم‏:‏ أنا، فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب‏.‏ وقيل‏:‏ كان رجل ينافق عيسى فلما أرادوا قتله قال‏:‏ أنا أدلكم عليه فدخل بيت عيسى ورفع عيسى وألقى الله شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى‏.‏

وجاز هذا على قوم متعنتين حكم الله بأنهم لا يؤمنون، «وشبه» مسند إلى الجار والمجرور وهو «لهم» كقولك «خيل إليه» كأنه قيل‏:‏ ولكن وقع لهم التشبيه‏.‏ أو مسند إلى ضمير المقتول لدلالة «إنا قتلنا» عليه كأنه قيل‏:‏ ولكن شبه لهم من قتلوه ‏{‏وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ‏}‏ في عيسى يعني اليهود قالوا‏:‏ إن الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا، أو اختلف النصارى قالوا‏:‏ إله وابن إله وثالث ثلاثة ‏{‏لَفِى شَكّ مّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن‏}‏ استثناء منقطع لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم يعني ولكنهم يتبعون الظن‏.‏ وإنما وصفوا بالشك وهو أن لا يترجح أحد الجانبين، ثم وصفوا بالظن وهو أن يترجح أحدهما، لأن المراد أنهم شاكون مالهم به من علم ولكن إن لاحت لهم أمارة فظنوا فذاك‏.‏ وقيل‏:‏ وإن الذين اختلفوا فيه أي في قتله لفي شك منه أي من قتله لأنهم كانوا يقولون إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا، وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى‏!‏ ‏{‏وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً‏}‏ أي قتلاً يقيناً، أو ما قتلوه متيقنين، أو ما قتلوه حقاً فيجعل «يقيناً» تأكيداً لقوله «وما قتلوه» أي حق انتفاء قتله حقاً ‏{‏بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ‏}‏ إلى حيث لا حكم فيه لغير الله أو إلى السماء ‏{‏وَكَانَ الله عَزِيزاً‏}‏ في انتقامه من اليهود ‏{‏حَكِيماً‏}‏ فيما دبر من رفعه إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏159- 171‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ‏(‏159‏)‏ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ‏(‏160‏)‏ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏161‏)‏ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏162‏)‏ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏(‏163‏)‏ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ‏(‏164‏)‏ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏165‏)‏ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏166‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏167‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ‏(‏168‏)‏ إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏169‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏170‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏171‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ‏}‏ «ليؤمنن به» جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره‏:‏ وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به ونحوه ‏{‏وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 164‏]‏ والمعنى‏:‏ وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى عليه السلام وبأنه عبد الله ورسوله يعني إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف‏.‏ أو بالكتاب الضميران لعيسى يعني وإن منهم أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله‏.‏ رُوي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام، أو الضمير «في به» يرجع إلى الله أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم والثاني إلى الكتابي ‏{‏وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً‏}‏ يشهد على اليهود بأنهم كذبوه وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله ‏{‏فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ‏}‏ وهي ما ذكر في سورة الأنعام ‏{‏وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏ الآية‏.‏ والمعنى ما حرمنا عليهم الطيبات إلا لظلم عظيم ارتكبوه وهو ما عدد قبل هذا ‏{‏وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ وبمنعهم عن الإيمان ‏{‏كَثِيراً‏}‏ أي خلقاً كثيراً أو صداً كثيراً ‏{‏وَأَخْذِهِمُ * الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ كان الربا محرماً عليهم كما حرم علينا وكانوا يتعاطونه ‏{‏وَأَكْلِهِمْ أموال الناس بالباطل‏}‏ بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة ‏{‏وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ‏}‏ دون من آمن ‏{‏عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ في الآخرة ‏{‏لكن الراسخون فِى العلم‏}‏ أي الثابتون فيه المتقون كابن سلام وأضرابه ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ من أهل الكتاب ‏{‏والمؤمنون‏}‏ أي المؤمنون منهم والمؤمنون من المهاجرين والأنصار‏.‏ وارتفع «الراسخون» على الابتداء ‏{‏يُؤْمِنُونَ‏}‏ خبره ‏{‏بِمَا أُنزَلَ إِلَيْكَ‏}‏ أي القرآن ‏{‏وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ أي سائر الكتب ‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏ منصوب على المدح لبيان فضل الصلاة، وفي مصحف عبد الله «والمقيمون» وهي قراءة مالك بن دينار وغيره ‏{‏والمؤتون الزكواة‏}‏ مبتدأ ‏{‏والمؤمنون بالله واليوم الآخر‏}‏ عطف عليه والخبر ‏{‏أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ وبالياء‏:‏ حمزة‏.‏

‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، واحتجاج عليهم بأن شأنه في الوحي إليه كشأن سائر الأنبياء الذين سلفوا ‏{‏كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ‏}‏ كهود وصالح وشعيب وغيرهم‏.‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ‏}‏ أي أولاد يعقوب ‏{‏وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وهارون وسليمان وَءاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً‏}‏ «زُبوراً»‏:‏ حمزة مصدر بمعنى مفعول سمي به الكتاب المنزل على داود عليه السلام ‏{‏وَرُسُلاً‏}‏ نصب بمضمر في معنى أوحينا إليك وهو أرسلنا ونبأنا ‏{‏قَدْ قصصناهم عَلَيْكَ مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل هذه السورة ‏{‏وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ‏}‏ سأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء قال

‏"‏ مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ‏"‏ قال‏:‏ كم الرسل منهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ ثلثمائة وثلاثة عشر أول الرسل آدم وآخرهم نبيكم محمد عليه السلام وأربعة مِن العرب هود وصالح وشعيب ومحمد عليه السلام ‏"‏ والآية تدل على أن معرفة الرسل بأعيانهم ليست بشرط لصحة الإيمان بل من شرطه أن يؤمن بهم جميعاً إذ لو كان معرفة كل واحد منهم شرطاً لقص علينا كل ذلك ‏{‏وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً‏}‏ أي بلا واسطة‏.‏

‏{‏رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏}‏ الأوجه أن ينتصب على المدح أي أعني رسلاً، ويجوز أن يكون بدلاً من الأول، وأن يكون مفعولاً أي وأرسلنا رسلاً‏.‏ واللام في ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل‏}‏ يتعلق ب «مبشرين» ومنذرين والمعنى أن إرسالهم إزاحة للعلة وتتميم لإلزام الحجة لئلا يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولاً فيوقظنا من سنة الغفلة، وينبهنا بما وجب الانتباه له، ويعلمنا ما سبيل معرفته السمع كالعبادات والشرائع أعني في حق مقاديرها وأوقاتها وكيفياتها دون أصولها فإنها مما يعرف بالعقل ‏{‏وَكَانَ الله عَزِيزاً‏}‏ في العقاب على الإنكار ‏{‏حَكِيماً‏}‏ في بعث الرسل للإنذار‏.‏

ولما نزل «إنا أوحينا إليك» قالوا ما نشهد لك بهذا فنزل ‏{‏لكن الله يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ‏}‏ ومعنى شهادة الله بما أنزل إليه إثباته لصحته بإظهار المعجزات كما تثبت الدعاوى بالبينات إذ الحكيم لا يؤيد الكاذب بالمعجزة ‏{‏أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏ أي أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه، أو أنزله بما علم من مصالح العباد، وفيه نفي قول المعتزلة في إنكار الصفات فإنه أثبت لنفسه العلم ‏{‏والملئكة يَشْهَدُونَ‏}‏ لك بالنبوة ‏{‏وكفى بالله شَهِيداً‏}‏ شاهداً وإن لم يشهد غيره ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وهم اليهود ‏{‏وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ ومنعوا الناس عن سبيل الحق بقولهم للعرب «إنا لا نجده في كتابنا» ‏{‏قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً‏}‏ عن الرشد ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ بالله ‏{‏وَظَلَمُواْ‏}‏ محمداً عليهم السلام بتغيير نعته وإنكار نبوته ‏{‏لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ‏}‏ ما داموا على الكفر ‏{‏وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً‏}‏ وكان تخليدهم في جهنم سهلاً عليه، والتقدير يعاقبهم خالدين فهوحال مقدرة والآيتان في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون ويموتون على الكفر‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الناس قَدْ جَاءكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبّكُمْ‏}‏ أي بالإسلام أو هو حال أي محقاً ‏{‏فَئَامِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ‏}‏ وكذلك ‏{‏انتهوا خَيْراً لَّكُمْ‏}‏ انتصابه بمضمر، وذلك أنه لما بعثهم على الإيمان وعلى الانتهاء عن التثليث علم أنه يحملهم على أمر فقال «خيراً لكم» أي اقصدوا وأتوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث وهو الإيمان به والتوحيد ‏{‏وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السماوات والأرض‏}‏ فلا يضره كفركم ‏{‏وَكَانَ الله عَلِيماً‏}‏ بمن يؤمن وبمن يكفر ‏{‏حَكِيماً‏}‏ لا يسوي بينهما في الجزاء‏.‏

‏{‏يأَهْلَ الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ‏}‏ لا تجاوزوا الحد فغلت اليهود في حط المسيح عن منزلته حتى قالوا إنه ابن الزنا، وغلت النصارى في رفعه عن مقداره حيث جعلوه ابن الله ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق‏}‏ وهو تنزيهه عن الشريك والولد ‏{‏إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ‏}‏ لا ابن الله ‏{‏رَسُولُ الله‏}‏ خبر المبتدأ وهو «المسيح» و«عيسى» عطف بيان أو بدل ‏{‏وَكَلِمَتُهُ‏}‏ عطف على «رسول الله»‏.‏ وقيل له «كلمة» لأنه يهتدي به كما يهتدي بالكلام ‏{‏ألقاها إلى مَرْيَمَ‏}‏ حال «وقد» معه مرادة أي أوصلها إليها وحصلها فيها ‏{‏وَرُوحٌ‏}‏ معطوف على الخبر أيضاً‏.‏ وقيل له «روح» لأنه كان يحيي الموتى كما سمي القرآن روحاً بقوله ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏ لما أنه يحيي القلوب ‏{‏مِّنْهُ‏}‏ أي بتخليقه وتكوينه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السموات وَمَا فِي الارض جَمِيعاً مّنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏ وبه أجاب عليّ بن الحسين بن واقد غلاماً نصرانياً كان للرشيد في مجلسه حيث زعم أن في كتابكم حجة على أن عيسى من الله ‏{‏فَئَامِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي ولا تقولوا الآلهة ثلاثة ‏{‏انتهوا‏}‏ عن التثليث ‏{‏خَيْراً لَّكُمْ‏}‏‏.‏ والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة وأن المسيح ولد الله من مريم ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏‏.‏ ‏{‏وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا الله‏}‏ مبتدأ ‏{‏إِلَهٌ‏}‏ خبرة ‏{‏واحد‏}‏ توكيد ‏{‏سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ‏}‏ أسبحه تسبيحاً من أن يكون له ولد ‏{‏لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِى الأرض‏}‏ بيان لتنزهه مما نسب إليه بمعنى أن كل ما فيهما خلقه وملكه فكيف يكون بعض ملكه جزءًا منه‏.‏ إذ البنوة والملك لا يجتمعان، على أن الجزء إنما يصح في الأجسام وهو يتعالى عن أن يكون جسماً ‏{‏وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏ حافظاً ومدبراً لهما ولما فيهما، ومن عجز عن كفاية أمر يحتاج إلى ولد يعينه‏.‏

ولما قال وفد نجران لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لم تعيب صاحبنا عيسى‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ وأي شيء أقول‏؟‏ ‏"‏ قالوا‏:‏ تقول إنه عبد الله ورسوله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ إنه ليس بعار أن يكون عبد الله ‏"‏ قالوا‏:‏ بلى، نزل قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 176‏]‏

‏{‏لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ‏(‏172‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏173‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ‏(‏174‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏175‏)‏ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏176‏)‏‏}‏

‏{‏لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح‏}‏ أي لن يأنف ‏{‏أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ‏}‏ هو رد على النصارى ‏{‏وَلاَ الملئكة‏}‏ رد على من يعبدهم من العرب وهو عطف على «المسيح» ‏{‏المقربون‏}‏ أي الكروبيون الذين حول العرش كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في طبقتهم‏.‏ والمعنى‏:‏ ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عباداً لله فحذف ذلك لدلالة عبد الله عليه إيجازاً‏.‏ وتشبثت المعتزلة والقائلون بتفضيل الملك على البشر بهذه الآية وقالوا‏:‏ الارتقاء إنما يكون إلى الأعلى‏.‏ يقال‏:‏ فلان لا يستنكف عن خدمتي ولا أبوه، ولو قال «ولا عبده» لم يحسن وكان معنى قوله «ولا الملائكة المقربون» ولا من هو أعلى منه قدراً وأعظم منه خطراً، ويدل عليه تخصيص المقربين‏.‏ والجواب أنا نسلم تفضيل الثاني على الأول ولكن هذا لا يمس ما تنازعنا فيه، لأن الآية تدل على أن الملائكة المقربين بأجمعهم أفضل من عيسى، ونحن نسلم بأن جميع الملائكة المقربين أفضل من رسول واحد من البشر‏.‏ إلى هذا ذهب بعض أهل السنة، ولأن المراد أن الملائكة مع ما لهم من القدرة الفائقة قدر البشر والعلوم اللوحية وتجردهم عن التولد الازدواجي رأساً لا يستنكفون عن عبادته، فكيف بمن يتولد من آخر ولا يقدر على ما يقدرون ولا يعلم ما يعلمون‏!‏ وهذا لأن شدة البطش وسعة العلوم وغرابة التكون هي التي تورث الحمقى أمثال النصارى وهم الترفع عن العبودية حيث رأوا المسيح ولد من غير أب وهو يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى وينبئ بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، فبرءوه من العبودية فقيل لهم هذه الأوصاف في الملائكة أتم منها في المسيح، ومع هذا لم يستنكفوا عن العبودية فكيف المسيح‏!‏ والحاصل أن خواص البشر وهم الأنبياء عليهم السلام أفضل من خواص الملائكة وهم الرسل منهم، كجبريل وميكائيل وعزرائيل ونحوهم، وخواص الملائكة أفضل من عوام المؤمنين من البشر، وعوام المؤمنين من البشر أفضل من عوام الملائكة، ودليلنا على تفضيل البشر على الملك ابتداء أنهم قهروا نوازع الهوى في ذات الله تعالى مع أنهم جبلوا عليها فضاهت الأنبياء عليهم السلام الملائكة عليهم السلام في العصمة وتفضلوا عليهم في قهر البواعث النفسانية والدواعي الجسدانية، فكانت طاعتهم أشق لكونها مع الصوارف بخلاف طاعة الملائكة لأنهم جبلوا عليها فكانت أزيد ثواباً بالحديث ‏{‏وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ‏}‏ يترفع ويطلب الكبرياء ‏{‏فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً‏}‏ فيجازيهم على استنكافهم واستكبارهم‏.‏

ثم فصل فقال‏:‏

‏{‏فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الذين استنكفوا واستكبروا فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً‏}‏ فإن قلت‏:‏ التفصيل غير مطابق للمفصل لأن التفصيل اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد، قلت‏:‏ هو مثل قولك «جمع الإمام الخوارج» فمن لم يخرج عليه كساه وحمله، ومن خرج عليه نكل به‏.‏

وصحة ذلك لوجهين‏:‏ أحدهما أنه حذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه لأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله تعالى بعد هذا‏:‏ «فأما الذين آمنوا باللّه واعتصموا به»‏.‏ والثاني أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم فكان داخلاً في جملة التنكيل بهم فكأنه قيل‏:‏ ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب الله‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الناس قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ أي رسول يبهر المنكر بالإعجاز ‏{‏وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً‏}‏ قرآناً يستضاء به في ظلمات الحيرة ‏{‏فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ‏}‏ بالله أو بالقرآن ‏{‏فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ‏}‏ أي جنة ‏{‏وَفَضَّلَ‏}‏ زيادة النعمة ‏{‏وَيَهْدِيهِمْ‏}‏ ويرشدهم ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ إلى الله أو إلى الفضل أو إلى صراطه ‏{‏صراطا مُّسْتَقِيماً‏}‏ ف «صراطاً» حال من المضاف المحذوف‏.‏

‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة‏}‏ كان جابر بن عبد الله مريضاً فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني كلالة فكيف أصنع في مالي‏؟‏ فنزلت ‏{‏إِنِ امرؤا هَلَكَ‏}‏ ارتفع «امرؤ» بمضمر يفسره الظاهر ومحل ‏{‏لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ‏}‏ الرفع على الصفة أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد، والمراد بالولد الابن وهو مشترك يقع على الذكر والأنثى لأن الابن يسقط الأخت ولا تسقطها البنت ‏{‏وَلَهُ أُخْتٌ‏}‏ أي لأب وأم أو لأب ‏{‏فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ‏}‏ أي الميت ‏{‏وَهُوَ يَرِثُهَا‏}‏ أي الأخ يرث الأخت جميع مالها إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها ‏{‏إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ‏}‏ أي ابن لأن الابن يسقط الأخ دون البنت‏.‏ فإن قلت‏:‏ الابن لا يسقط الأخ وحده فالأب نظيره في الإسقاط، فلم اقتصر على نفي الولد‏؟‏ قلت‏:‏ بين حكم انتفاء الولد ووكل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة وهو قوله عليه السلام ‏"‏ ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر ‏"‏ والأب أولى من الأخ ‏{‏فَإِن كَانَتَا اثنتين‏}‏ أي فإن كانت الأختان اثنتين دل على ذلك وله أخت ‏{‏فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً‏}‏ أي وإن كان من يرث بالإخوة‏.‏ والمراد بالإخوة الإخوة والأخوات تغليباً لحكم الذكورة ‏{‏رّجَالاً وَنِسَاء‏}‏ ذكوراً وإناثاً ‏{‏فَلِلذَّكَرِ‏}‏ منهم ‏{‏مِثْلُ حَظّ الأنثيين يُبَيّنُ الله لَكُمْ‏}‏ الحق فهو مفعول «يبين» ‏{‏أَن تَضِلُّواْ‏}‏ كراهة أن تضلوا ‏{‏والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ‏}‏ يعلم الأشياء بكنهها قبل كونها وبعده‏.‏

سورة المائدة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏2‏)‏ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود‏}‏ يقال وفى بالعهد وأوفى به، والعقد العهد الموثق شبه بعقد الحبل ونحوه وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف، أو ما عقد الله عليكم، أو ما تعاقدتم بينكم‏.‏ والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه، وأنه كلام قدم مجملاً ثم عقب بالتفصيل وهو قوله ‏{‏أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام‏}‏ والبهيمة كل ذات أربع قوائم في البر والبحر، وإضافتها إلى الأنعام للبيان وهي بمعنى «من» كخاتم فضة ومعناه، البهيمة من الأنعام وهي الأزواج الثمانية‏.‏ وقيل‏:‏ بهيمة الأنعام‏:‏ الظباء وبقر الوحش ونحوهما ‏{‏إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ آية تحريمه وهو قوله «حرمت عليكم الميتة» الآية ‏{‏غَيْرَ مُحِلّي الصيد‏}‏ حال من الضمير في «لكم» أي أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الصيد ‏{‏وَأَنتُمْ حُرُمٌ‏}‏ حال من «محلى الصيد» كأنه قيل‏:‏ أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يضيق عليكم، والحرم جمع حرام وهو المحرم ‏{‏إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ‏}‏ من الأحكام أو من التحليل والتحريم ونزل نهياً عن تحليل ما حرم ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله‏}‏ جمع شعيرة وهي اسم ما أشعر أي جعل شعاراً وعلماً للنسك به من مواقف الحج ومرامي الجمار والمطاف والمسعى والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر ‏{‏وَلاَ الشهر الحرام‏}‏ أي أشهر الحج ‏{‏وَلاَ الهدى‏}‏ وهو ما أهدي إلى البيت وتقرب به إلى الله تعالى من النسائك وهو جمع هدية ‏{‏وَلاَ القلائد‏}‏ جمع قلادة وهي ما قلد به الهدي من نعل أو عروة مزادة أو لحاء شجر أو غيره ‏{‏وَلا ءَامّينَ البيت الحرام‏}‏ ولا تحلوا قوماً قاصدين المسجد الحرام وهم الحجاج والعمار، وإحلال هذه الأشياء أن يتهاون بحرمة الشعائر وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها، وأن يحدثوا في أشهر الحج ما يصدون به الناس عن الحج وأن يتعرضوا للهدى بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله‏.‏ وأما القلائد فجاز أن يراد بها ذوات القلائد وهي البدن وتعطف على الهدى للاختصاص لأنها أشرف الهدى كقوله‏:‏ ‏{‏وَجِبْرِيلَ وميكال‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏‏.‏ كأنه قيل‏:‏ والقلائد منها خصوصاً، وجاز أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي أي ولا تحلوا قلائدها فضلاً أن تحلوها كما قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها ‏{‏يَبْتَغُونَ‏}‏ حال من الضمير في «آمين» ‏{‏فَضْلاً مّن رَّبِّهِمْ‏}‏ أي ثواباً ‏{‏ورضوانا‏}‏ وأن يرضى عنهم أي لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم تعظيماً لهم ‏{‏وَإِذَا حَلَلْتُمْ‏}‏ خرجتم من الإحرام ‏{‏فاصطادوا‏}‏ إباحة للاصطياد بعد حظره عليهم بقوله «غير محلي الصيد وأنتم حرم»‏.‏

‏{‏وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ‏}‏ جرم مثل كسب في تعديته إلى مفعول واحد واثنين، تقول جرم ذنباً نحو كسبه وجرمته ذنباً نحو كسبته إياه، وأول المفعولين ضمير المخاطبين والثاني «أن تعتدوا» «وأن صدوكم» متعلق بالشنآن بمنعى العلة وهو شدة البغض، وبسكون النون شامي وأبو بكر، والمعنى‏:‏ ولا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه‏.‏ «إن صدوكم» على الشرط‏:‏ مكي وأبو عمرو ويدل على الجزاء ما قبله وهو «لا يجرمنكم» ومعنى صدهم إياهم عن المسجد الحرام منع أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة، ومعنى الاعتداء الانتقام منهم بإلحاق مكروه بهم ‏{‏وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى‏}‏ على العفو والإغضاء ‏{‏وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان‏}‏ على الانتقام والتشفي، أو البر فعل المأمور، والتقوى ترك المحظور، والإثم ترك المأمور والعدوان فعل المحظور، ويحوز أن يراد العموم لكل بر وتقوى، ولكل إثم وعدوان فيتناول بعمومه العفو والانتصار ‏{‏واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ لمن عصاه وما اتقاه‏.‏

ثم بين ما كان أهل الجاهلية يأكلونه فقال ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة‏}‏ أي البهيمة التي تموت حتف أنفها ‏{‏والدم‏}‏ أي المسفوح وهو السائل ‏{‏وَلَحْمَ الخنزير‏}‏ وكله نجس‏.‏ وإنما خص اللحم لأنه معظم المقصود ‏{‏وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ‏}‏ أي رفع الصوت به لغير الله وهو قولهم «باسم اللات والعزى» عند ذبحه ‏{‏والمنخنقة‏}‏ التي خنقوها حتى ماتت أو انخنقت بالشبكة أو غيرها ‏{‏والموقوذة‏}‏ التي أثخنوها ضرباً بعصا أو حجر حتى ماتت ‏{‏والمتردية‏}‏ التي تردت من جبل أو في بئر فماتت ‏{‏والنطيحة‏}‏ المنطوحة وهي التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح ‏{‏وَمَا أَكَلَ السبع‏}‏ بعضه ومات بجرحه ‏{‏إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ‏}‏ إلا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح، والاستثناء يرجع إلى المنخنقة وما بعدها، فإنه إذا أدركها وبها حياة فذبحها وسمى عليها حلت ‏{‏وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب‏}‏ كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها يعظمونها بذلك ويتقربون إليها تسمى الأنصاب واحدها نصب، أو هو جمع والواحد نصاب ‏{‏وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام‏}‏ في موضع الرفع بالعطف على الميتة أي حرمت عليكم الميتة وكذا وكذا والاستقسام بالأزلام وهي القداح المعلمة واحدها زلم وزلم، كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو غير ذلك يعمد إلى قداح ثلاثة على واحد منها مكتوب «أمرني ربي» وعلى الآخر «نهاني» والثالث «غُفْلٌ»‏.‏ فإن خرج الآمر مضى لحاجته، وإن خرج الناهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاده، فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة ما قسم له مما لم يقسم له بالأزلام‏.‏

قال الزجاج‏:‏ لا فرق بين هذا وبين قول المنجمين «لا تخرج من أجل نجم كذا واخرج لطلوع نجم كذا»‏.‏ وفي شرح التأويلات رد هذا وقال‏:‏ لا يقول المنجم «إن نجم كذا يأمر بكذا ونجم كذا ينهى عن كذا» كما كان فعل أولئك، ولكن المنجم جعل النجوم دلالات وعلامات على أحكام الله تعالى‏.‏ ويجوز أن يجعل الله في النجوم معاني وأعلاماً يدرك بها الأحكام ويستخرج بها الأشياء ولا لائمة في ذلك إنما اللائمة عليه فيما يحكم على الله ويشهد عليه‏.‏ وقيل‏:‏ هو الميسر وقسمتهم الجزور على الأنصباء المعلومة ‏{‏ذلكم فِسْقٌ‏}‏ الاستقسام بالأزلام خروج عن الطاعة، ويحتمل أن يعود إلى كل محرم في الآية‏.‏

‏{‏اليوم‏}‏ ظرف ل «يئس» ولم يرد به يوم بعينه وإنما معناه الآن، وهذا كما تقول «أنا اليوم قد كبرت» تريد الآن‏.‏ وقيل‏:‏ أريد يوم نزولها وقد نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع ‏{‏يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ‏}‏ يئسوا منه أن يبطلوه أو يئسوا من دينكم أن يغلبوه لأن الله تعالى وفى بوعده من إظهاره على الدين كله ‏{‏فَلاَ تَخْشَوْهُمْ‏}‏ بعد إظهار الدين وزوال الخوف من الكفار وانقلابهم مغلوبين بعدما كانوا غالبين ‏{‏واخشون‏}‏ بغير ياء في الوصل والوقف أي أخلصوا لي الخشية‏.‏

‏{‏اليوم‏}‏ ظرف لقوله ‏{‏أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ بأن كفيتم خوف عدوكم وأظهرتكم عليهم كما يقول الملوك «اليوم كمل لنا الملك» أي كفينا من كنا نخافه، أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام والتوقيف على شرائع الإسلام وقوانين القياس ‏{‏وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي‏}‏ بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين وهدم منار الجاهلية ومناسكهم ‏{‏وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً‏}‏ حال‏.‏ اخترته لكم من بين الأديان وآذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده ‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏ ‏{‏فَمَنِ اضطر‏}‏ متصل بذكر المحرمات، وقوله «ذلكم فسق» اعتراض أكد به معنى التحريم، وكذا ما بعده لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملل ومعناه، فمن اضطر إلى الميتة أو إلى غيرها ‏{‏فِي مَخْمَصَةٍ‏}‏ مجاعة ‏{‏غَيْرَ‏}‏ حال ‏{‏مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ‏}‏ مائل إلى إثم أي غير متجاوز سد الرمق ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ لا يؤاخذه بذلك ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بإباحة المحظور للمعذور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏4‏)‏ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْئَلُونَكَ‏}‏ في السؤال معنى القول فلذا وقع بعده ‏{‏مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ يقولون لك ماذا أحل لهم‏.‏ وإنما لم يقل «ماذا أحل لنا» حكاية لما قالوا، لأن «يسألونك» بلفظ الغيبة كقولك «أقسم زيد ليفعلن» ولو قيل «لأفعلن» وأحل لنا لكان صواباً‏.‏ و«ماذا» مبتدأ و«أحل لهم» خبره كقولك «أي شيء أحل لهم» ومعناه ماذا أحل لهم من المطاعم كأنهم حين تلى عليهم ما حرم عليه من خبيثات المآكل سألوا عما أحل لهم منها فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات‏}‏ أي ما ليس بخبيث منها أو هو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب الله أو سنة أو إجماع أو قياس ‏{‏وَمَا عَلَّمْتُمْ‏}‏ عطف على «الطيبات» أي أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف، أو تجعل «ما» شرطية وجوابها «فكلوا» ‏{‏مّنَ الجوارح‏}‏ أي الكواسب للصيد من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والعقاب والصقر والبازي والشاهين، وقيل‏:‏ هي من الجراحة فيشترط للحل الجرح ‏{‏مُكَلِّبِينَ‏}‏ حال من «علمتم»‏.‏ وفائدة هذه الحال مع أنه استغنى عنها ب «علمتم» أن يكون من يعلم الجوارح موصوفاً بالتكليب، والمكلب مؤدب الجوارح ومعلمها مشتق من الكلب، لأن التأديب في الكلاب أكثر فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه، أو لأن السبع يسمى كلباً ومنه الحديث ‏"‏ اللهم سلط عليه كلباً من كلابك ‏"‏ فأكله الأسد‏.‏ ‏{‏تُعَلِّمُونَهُنَّ‏}‏ حال أو استئناف ولا موضع له‏.‏ وفيه دليل على أن على كل آخذ علماً أن لا يأخذه إلا من أقتل أهله علماً وأنحرهم دراية، فكم من آخذ عن غير متقن قد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله‏.‏ ‏{‏مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله‏}‏ من التكليب ‏{‏فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ‏}‏ الإمساك على صاحبه أن لا يأكل منه فإن أكل منه لم يؤكل إذا كان صيد كلب ونحوه، فأما صيد البازي ونحوه فأكله لا يحرمه وقد عرف في موضعه‏.‏

والضمير في ‏{‏واذكروا اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ يرجع إلى ما أمسكن على معنى وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته، أو إلى ما علمتم من الجوارح أي سموا عليه عند إرساله ‏{‏واتقوا الله‏}‏ واحذروا مخالفة أمره في هذا كله ‏{‏إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب‏}‏ إنه محاسبكم على أفعالكم ولا يلحقه فيه لبث‏.‏ ‏{‏اليوم‏}‏ الآن ‏{‏أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات‏}‏ كرره تأكيداً للمنة ‏{‏وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ‏}‏ أي ذبائحهم لأن سائر الأطعمة لا يختص حلها بالملة ‏{‏وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ‏}‏ فلا جناح عليكم أن تطعموهم لأنه لوكان حراماً عليهم طعام المؤمنين لما ساغ لهم إطعامهم ‏{‏والمحصنات مِنَ المؤمنات‏}‏ هن الحرائر أو العفائف، وليس هذا بشرط لصحة النكاح بل هو للاستحباب لأنه يصح نكاح الإماء من المسلمات ونكاح غير العفائف‏.‏

وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين لنطفهم وهو معطوف على «الطيبات» أو مبتدأ والخبر محذوف أي والمحصنات من المؤمنات حل لكم ‏{‏والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ هن الحرائر الكتابيات أو العفائف الكتابيات ‏{‏إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ أعطيتموهن مهورهن ‏{‏مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين‏}‏ متزوجين غير زانين ‏{‏وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ‏}‏ صدائق والخدن يقع على الذكر والأنثى ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان‏}‏ بشرائع الإسلام وما أحل الله وحرم ‏{‏فَقَدْ حَبِطَ‏}‏ بطل ‏{‏عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏6‏)‏ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏7‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏10‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ‏}‏ أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 98‏]‏ أي إذا أردت أن تقرأ القرآن، فعبر عن إرادة الفعل بالفعل لأن الفعل مسبب عن الإرادة فأقيم المسبب مقام السبب لملابسة بينهما طلباً للإيجاز، ونحوه «كما تدين تدان» عبر عن الفعل الابتدائي الذي هو سبب الجزاء بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه، وتقديره‏:‏ وأنتم محدثون‏.‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أو من النوم لأنه دليل الحدث‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة يتوضأون لكل صلاة‏.‏ وقيل‏:‏ كان الوضوء لكل صلاة واجباً أول ما فرض ثم نسخ ‏{‏وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق‏}‏ «إلى» تفيد معنى الغاية مطلقاً، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل فما فيه دليل على الخروج ‏{‏فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 280‏]‏ لأن الإعسار علة الإنظار وبوجود الميسرة تزول العلة، ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظراً في الحالتين معسراً وموسراً‏.‏ وكذلك ‏{‏أتموا الصيام إلى الليل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ لو دخل الليل لوجب الوصال‏.‏ ومما فيه دليل على الدخول قولك «حفظت القرآن من أوله إلى آخره» لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ لوقوع العلم بأنه عليه السلام لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله، وقوله «إلى المرافق» لا دليل فيه على أحد الأمرين فأخذ الجمهور بالاحتياط، فحكموا بدخولها في الغسل، وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدير الماء على مرفقيه ‏{‏وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ‏}‏ المراد إلصاق المسح بالرأس، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه؛ فأخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب، والشافعي باليقين فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح، وأخذنا ببيان النبي عليه السلام وهو ما روي أنه مسح على ناصيته وقدرت الناصية بربع الرأس ‏{‏وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين‏}‏ بالنصب‏:‏ شامي ونافع وعلي وحفص‏.‏ والمعنى‏:‏ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم على التقديم والتأخير‏.‏ غيرهم بالجر بالعطف على الرؤوس لأن الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة، تغسل بصب الماء عليها فكانت مظنة للإسراف المنهي عنه فعطفت على الممسوح لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها‏.‏ وقيل‏:‏ «إلى الكعبين» فجيء بالغاية إماطة لظن ظانٍ يحسبها ممسوحة لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة، وقال في جامع العلوم إنها مجرورة للجوار وقد صح أن النبي عليه السلام رأى قوماً يمسحون على أرجلهم فقال‏:‏ ‏"‏ ويل للأعقاب من النار ‏"‏ وعن عطاء‏:‏ والله ما علمت أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على القدمين وإنما أمر بغسل هذه الأعضاء ليطهرها من الأوساخ التي تتصل بها لأنها تبدو كثيرا، والصلاة خدمة الله تعالى، والقيام بين يديه متطهراً من الأوساخ أقرب إلى التعظيم فكان أكمل في الخدمة كما في الشاهد إذا أراد أن يقوم بين يدي الملك، ولهذا قيل‏:‏ إن الأولى أن يصلي الرجل في أحسن ثيابه، وإن الصلاة متعمماً أفضل من الصلاة مكشوف الرأس لما أن ذلك أبلغ في التعظيم ‏{‏وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا‏}‏ فاغسلوا أبدانكم‏.‏

‏{‏وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مّنْكُمْ‏}‏ قال الرازي معناه وجاء حتى لا يلزم المريض والمسافر التيمم بلا حدث ‏{‏مّن الغآئط‏}‏ المكان المطمئن وهو كناية عن قضاء الحاجة ‏{‏أَوْ لامستم النساء‏}‏ جامعتم ‏{‏فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءَ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ‏}‏ في باب الطهارة حتى لا يرخص لكم في التيمم ‏{‏ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ‏}‏ بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء ‏{‏وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ وليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ نعمته فيثيبكم ‏{‏واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ بالإسلام ‏{‏وميثاقه الذى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏}‏ أي عاقدكم به عقداً وثيقاً وهو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره فقبلوا وقالوا سمعنا وأطعناه‏.‏ وقيل‏:‏ هو الميثاق ليلة العقبة وفي بيعة الرضوان ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في نقض الميثاق ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ بسرائر الصدور من الخير والشر وهو وعد ووعيد‏.‏

‏{‏&

يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بالقسط‏}‏ بالعدل ‏{‏وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ‏}‏ عدي «يجرمنكم» بحرف الاستعلاء مضمناً معنى فعل يتعدى به كأنه قيل‏:‏ ولا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم ‏{‏اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى‏}‏ أي العدل أقرب إلى التقوى‏.‏ نهاهم أوّلاً أن تحملهم البغضاء على ترك العدل، ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيداً وتشديداً، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله تعالى‏:‏ «هو أقرب للتقوى» تعالى وإذا كان وجوب العدل مع الكفار بهذه الصفة من القوة فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فيما أمر ونهى ‏{‏إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ وعد ووعيد ولذا ذكر بعدها آية الوعد وهو قوله تعالى ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ «وعد» يتعدى إلى مفعولين‏:‏ فالأول «الذين آمنوا»، والثاني محذوف استغني عنه بالجملة التي هي قوله ‏{‏لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ والوعيد وهو قوله ‏{‏والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتِنَا أولئك أَصْحَابُ الجحيم‏}‏ أي لا يفارقونها‏.‏

‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ‏}‏ روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني قريظة ومعه الشيخان أبو بكر وعمر- والختنان يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين فقالوا‏:‏ نعم يا أبا القاسم اجلس حتى نطعمك ونقرضك، فأجلسوه في صفة وهموا بالفتك به، وعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه فأمسك الله يده ونزل جبريل فأخبره بذلك فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية‏.‏ «إذ» ظرف للنعمة ‏{‏أَن يَبْسُطُواْ‏}‏ بأن يبسطوا ‏{‏إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ‏}‏ بالقتل يقال بسط لسانه إليه إذا شتمه وبسط إليه يده إذا بطش به ‏{‏وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 2‏]‏ ومعنى بسط اليد مدها إلى المبطوش به ‏{‏فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ‏}‏ فمنعها أن تمد إليكم ‏{‏واتقوا الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ فإنه الكافي والدافع والمانع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 19‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏12‏)‏ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏13‏)‏ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏14‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏16‏)‏ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِي إسراءيل وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً‏}‏ هو الذي ينقب عن أحوال القوم ويفتش عنها‏.‏ ولما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله بالمسير إلى أريحا أرض الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة وقال لهم‏:‏ إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها وإني ناصركم، وأمر الله موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقة عليهم، فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل وتكفل لهم به النقباء وسار بهم، فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون فرأوا أجراماً عظيمة وقوة وشوكة فهابوا ورجعوا فحدثوا قومهم وقد نهاهم أن يحدثوهم فنكثوا الميثاق إلا كالب بن يوقنا ويوشع بن نون وكانا من النقباء ‏{‏وَقَالَ الله إِنّى مَعَكُمْ‏}‏ أي ناصركم ومعينكم‏.‏ وتقف هنا لابتدائك بالشرط الداخل عليه اللام الموطئة للقسم وهو ‏{‏لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَءَاتَيْتُمُ الزكواة‏}‏ وكانتا فريضتين عليهم ‏{‏وَآمَنتُم بِرُسُلِي‏}‏ من غير تفريق بين أحد منهم ‏{‏وَعَزَّرْتُمُوهُمْ‏}‏ وعظمتموهم أو نصرتموهم بأن تردّوا عنهم أعداءهم، والعزر في اللغة الردّ ويقال عزرت فلاناً أي أدّبته يعني فعلت به ما يردعه عن القبيح كذا قاله الزجاج ‏{‏وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً‏}‏ بلا مَنٍّ وقيل‏:‏ هو كل خير‏.‏ واللام في ‏{‏لأُِّّكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سيئاتكم‏}‏ جواب للقسم وهذا الجواب سادّ مسد جواب القسم والشرط جميعاً ‏{‏وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ‏}‏ أي بعد ذلك الشرط المؤكد المتعلق بالوعد العظيم ‏{‏فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل‏}‏ أخطأ طريق الحق، نعم من كفر قبل ذلك فقد ضل سواء السبيل أيضاً ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم‏.‏

‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم‏}‏ «ما» مزيد لإفادة تفخيم الأمر ‏{‏لعناهم‏}‏ طردناهم وأخرجناهم من رحمتنا أو مسخناهم أو ضربنا عليهم الجزية ‏{‏وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً‏}‏ يابسة لا رحمة فيها ولا لين‏.‏ «قسيّة»‏:‏ حمزة وعلي أي رديئة من قولهم‏:‏ «درهم قسي» أي رديء ‏{‏يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مواضعه‏}‏ يفسرونه على غير ما أنزل وهو بيان لقسوة قلوبهم لأنه لا قسوة أشد من الافتراء على الله وتغيير وحيه ‏{‏وَنَسُواْ حَظَّا‏}‏ وتركوا نصيباً جزيلاً وقسطاً وافياً ‏{‏مّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ‏}‏ من التوراة يعني أن تركهم وإعراضهم عن التوراة إغفال حظ عظيم، أو قست قلوبهم وفسدت فحرفوا التوراة وزلت أشياء منها عن حفظهم‏.‏ عن ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ تركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته ‏{‏وَلاَ تَزَالُ‏}‏ يا محمد ‏{‏تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ‏}‏ أي هذه عادتهم وكان عليها أسلافهم، كانوا يخونون الرسل وهؤلاء يخونونك ويهمون بالفتك بك، وقوله «على خائنة» أي على خيانة أو على فعلة ذات خيانة أو على نفس أو فرقة خائنة، ويقال‏:‏ «رجل خائنة» كقولهم «رجل راوية للشعر» للمبالغة‏.‏

‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ‏}‏ وهم الذين آمنوا منهم ‏{‏فاعف عَنْهُمْ‏}‏ بعث على مخالفتهم، أو فاعف عن مؤمنيهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم ‏{‏واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين‏}‏ و«من» في قوله‏:‏

‏{‏وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم‏}‏ وهو الإيمان بالله والرسل وأفعال الخير يتعلق بأخذنا أي وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم، فقدم على الفعل الجار والمجرور وفصل بين الفعل والواو بالجار والمجرور‏.‏ وإنما لم يقل «من النصارى» لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصر الله وهم الذين قالوا لعيسى‏:‏ نحن أنصار الله‏.‏ ثم اختلفوا بعد نسطورية ويعقوبية وملكانية أنصاراً للشيطان ‏{‏فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا‏}‏ فألصقنا وألزمنا من غرى بالشيء إذا لزمه ولصق به ومنه الغراء الذي يلصق به ‏{‏بَيْنَهُمْ‏}‏ بين فرق النصارى المختلفين ‏{‏العداوة والبغضاء إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ بالأهواء المختلفة ‏{‏وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ‏}‏ أي في القيامة بالجزاء والعقاب‏.‏

‏{‏ياأهل الكتاب‏}‏ خطاب لليهود والنصارى، والكتاب للجنس ‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا‏}‏ محمد عليه السلام ‏{‏يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب‏}‏ من نحو صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن نحو الرجم ‏{‏وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ‏}‏ مما تخفونه لا يبينه أو يعفو عن كثير منكم لان يؤاخذه ‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وكتاب مُّبِينٌ‏}‏ يريد القرآن لكشفه ظلمات الشرك والشك ولإبانته ما كان خافياً على الناس من الحق، أو لأنه ظاهر الإعجاز، أو النور محمد عليه السلام لأنه يهتدى به كما سمي سراجاً ‏{‏يَهْدِي بِهِ الله‏}‏ أي بالقرآن ‏{‏مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ‏}‏ من آمن منهم ‏{‏سُبُلَ السلام‏}‏ طرق السلامة والنجاة من عذاب الله أو سبل الله فالسلام السلامة أو الله ‏{‏وَيُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور‏}‏ من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ بإرادته وتوفيقه ‏{‏وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ * لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ‏}‏ معناه بت القول على أن الله هو المسيح لا غير‏.‏ قيل‏:‏ كان في النصارى قوم يقولون ذلك، أو لأن مذهبهم يؤدي إليه حيث إنهم اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت ‏{‏قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً‏}‏ فمن يمنع من قدرته ومشيئته شيئاً ‏{‏إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً‏}‏ أي إن أراد أن يهلك من دعوه إلهاً من المسيح وأمه يعني أن المسيح عبد مخلوق كسائر العباد‏.‏

وعطف «من في الأرض جميعاً» على «المسيح وأمه» إبانة أنهما من جنسهم لا تفاوت بينهما وبينهم، والمعنى أن من اشتمل عليه رحم الأمومية متى يفارقه نقص البشرية، ومن لاحت عليه شواهد الحدثية أنى يليق به نعت الربوبية، ولو قطع البقاء عن جميع ما أوجد لم يعد نقص إلى الصمدية‏.‏

‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ‏}‏ أي يخلق من ذكر وأنثى ويخلق من أنثى بلا ذكر كما خلق عيسى، ويخلق من ذكر من غير أنثى كما خلق حواء من آدم، ويخلق من غير ذكر وأنثى كما خلق آدم، أو يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة له فلا اعتراض عليه لأنه الفعال لما يريد ‏{‏والله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ أي أعزة عليه كالابن على الأب، أو أشياع ابني الله عزير والمسيح كما قيل لأشياع أبي خبيب وهو عبد الله بن الزبير الخبيبيون، وكما كان يقول رهط مسيلمة نحن أبناء الله ويقول أقرباء الملك وحشمه نحن أبناء الملوك أو نحن أبناء رسل الله ‏{‏قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم‏}‏ أي فإن صح أنكم أبناء الله وأحباؤه فلم تعذبون بذنوبكم بالمسخ والنار أياماً معدودة على زعمكم، وهل يمسخ الأب ولده وهل يعذب الولد ولده بالنار‏؟‏ ثم قال رداً عليهم ‏{‏بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ‏}‏ أي أنتم خلق من خلقه لا بنوه ‏{‏يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ‏}‏ لمن تاب عن الكفر فضلاً ‏{‏وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ‏}‏ من مات عليه عدلاً ‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المصير‏}‏ فيه تنبيه على عبودية المسيح لأن الملك والبنوة متنافيان‏.‏

‏{‏ياأهل الكتاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا‏}‏ محمد عليه السلام ‏{‏يُبَيِّنُ لَكُمْ‏}‏ أي الشرائع وحذف لظهوره، أو ما كنتم تخفون وحذف لتقدم ذكره أو لا يقدر المبين ويكون المعنى يبذل لكم البيان وهو حال أي مبيناً لكم ‏{‏على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل‏}‏ متعلق ب «جاءكم» أي جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع من الوحي، وكان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة أو خمسمائة سنة وستون سنة ‏{‏أَن تَقُولُواْ‏}‏ كراهة أن تقولوا ‏{‏مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ‏}‏ والفاء في ‏{‏فَقَدْ جَاءَكُمْ‏}‏ متعلق بمحذوف أي لا تعتذروا فقد جاءكم ‏{‏بَشِيرٌ‏}‏ للمؤمنين ‏{‏وَنَذِيرٌ‏}‏ للكافرين، والمعنى الامتنان عليهم بأن الرسول بعث إليهم حتى انطمست آثار الوحي أحوج ما يكونون إليه ليهشوا إليه ويعدوه أعظم نعمة من الله وتلزمهم الحجة فلا يعتلوا غداً بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم من غفلتهم ‏{‏والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ فكان قادراً على إرسال محمد عليه السلام ضرورة‏.‏