فصل: تفسير الآيات رقم (96- 107)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 107‏]‏

‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏96‏)‏ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏97‏)‏ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏98‏)‏ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏99‏)‏ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏100‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ‏(‏102‏)‏ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏103‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏104‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ ‏(‏106‏)‏ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر‏}‏ مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل ‏{‏وَطَعَامُهُ‏}‏ وما يطعم من صيده‏.‏ والمعنى‏:‏ أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده ‏{‏متاعا لَّكُمْ‏}‏ مفعول له أي أحل لكم تمتيعاً لكم ‏{‏وَلِلسَّيَّارَةِ‏}‏ وللمسافرين‏.‏ والمعنى‏:‏ أحل لكم طعامه تمتيعاً لتُنّائكم يأكلونه طرياً ولسيارتكم يتزودونه قديداً كما تزود موسى عليه السلام الحوت في مسيره إلى الخضر‏.‏ ‏{‏وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر‏}‏ ما صيد فيه وهو ما يفرخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات كالبط فإنه بري لأنه يتولد في البر والبحر له مرعى كما للناس متجر ‏{‏مَا دُمْتُمْ حُرُماً‏}‏ محرمين ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في الاصطياد في الحرم أو في الإحرام ‏{‏الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏

تبعثون فيجزيكم على أعمالكم‏.‏

‏{‏جَعَلَ الله الكعبة‏}‏ أي صير ‏{‏البيت الحرام‏}‏ بدل أو عطف بيان ‏{‏قِيَاماً‏}‏ مفعول ثانٍ أو «جعل» بمعنى «خلق» و«قياماً» حال ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ أي انتعاشاً لهم في أمر دينهم ونهوضاً إلى أغراضهم في معاشهم ومعادهم لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وأنواع منافعهم‏.‏ قيل‏:‏ لو تركوه عاماً لم ينظروا ولم يؤخروا ‏{‏والشهر الحرام‏}‏ والشهر الذي يؤدي فيه الحج وهو ذو الحجة لأن في اختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه شأناً قد علمه الله، أو أريد به جنس الأشهر الحرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم‏.‏ ‏{‏والهدى‏}‏ ما يهدى إلى مكة ‏{‏والقلائد‏}‏ والمقلد منه خصوصاً وهو البدن فالثواب فيه أكثر وبهاء الحج معه أظهر ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى جعل الكعبة قياماً أو إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره ‏{‏لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الأرض وَأَنَّ الله بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ أي لتعلموا أن الله يعلم مصالح ما في السموات وما في الأرض وكيف لا يعلم وهو بكل شيء عليم ‏{‏اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ لمن استخف بالحرم والإحرام ‏{‏وَأَنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ لآثام من عظم المشاعر العظام ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بالجاني الملتجئ إلى البلد الحرام ‏{‏مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ‏}‏ تشديد في إيجاب القيام بما أمر به، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط ‏{‏والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ‏}‏ فلا يخفى عليه نفاقكم ووفاقكم‏.‏

‏{‏قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب‏}‏ لما أخبر أنه يعلم ما يبدون وما يكتمون ذكر أنه لا يستوي خبيثهم وطيبهم بل يميز بينهما، فيعاقب الخبيث أي الكافر ويثيب الطيب أي المسلم ‏{‏وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث فاتقوا الله‏}‏ وآثروا الطيب وإن قل على الخبيث وإن كثر‏.‏

وقيل‏:‏ هو عام في حلال المال وحرامه وصالح العمل وطالحه وجيد الناس ورديئهم‏.‏

‏{‏ياأولي الألباب‏}‏ أي العقول الخالصة ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء امتحاناً فنزل‏:‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَسْئَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ‏}‏ قال الخليل وسيبويه وجمهور البصريين‏:‏ أصله «شيئاء» بهمزتين بينهما ألف وهي فعلاء من لفظ شيء وهمزتها الثانية للتأنيث ولذا لم تنصرف ك «حمراء» وهي مفردة لفظاً جمع معنى، ولما استثقلت الهمزتان المجتمعتان قدمت الأولى التي هي لام الكلمة فجعلت قبل الشين فصار وزنها «لفعاء»، والجملة الشرطية والمعطوفة عليها أي قوله ‏{‏إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْئَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرءان تُبْدَ لَكُمْ‏}‏ صفة ل «أشياء» أي وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي وهو ما دام الرسول بين أظهركم «تبد لكم» تلك التكاليف التي تسوؤكم أي تغمكم وتشق عليكم وتؤمرون بتحملها فتعرضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها ‏{‏عَفَا الله عَنْهَا‏}‏ عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها ‏{‏والله غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏ لا يعاقبكم إلا بعد الإنذار‏.‏ والضمير في ‏{‏قَدْ سَأَلَهَا‏}‏ لا يرجع إلى «أشياء» حتى يعدى ب «عن» بل يرجع إلى المسألة التي دلت عليها «لا تسألوا» أي قد سأل هذه المسألة ‏{‏قَوْمٌ مّن قَبْلِكُمْ‏}‏ من الأولين ‏{‏ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا‏}‏ صاروا بسببها ‏{‏كافرين‏}‏ كما عرف في بني إسرائيل‏.‏

‏{‏مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ‏}‏ كان أهل الجاهلية إذا انتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا إذنها أي شقوها وامتنعوا من ركوبها وذبحها، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى واسمها البحيرة‏.‏ وكان يقول الرجل‏:‏ إذا قدمت من سفري أو برأت من مرضي فناقتي سائبة وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها‏.‏ وقيل‏:‏ كان الرجل إذا أعتق عبداً قال‏:‏ هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث‏.‏ وكانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع ذكراً أكله الرجال، وإن كان أنثى أرسلت في الغنم، وكذا إن كان ذكراً وأنثى وقالوا‏:‏ أوصلت أخاها فالوصيلة بمعنى الواصلة‏.‏ وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا‏:‏ قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى‏.‏ ومعنى «ما جعل» ما شرع ذلك ولا أمر به ‏{‏ولكن الذين كَفَرُواْ‏}‏ بتحريمهم ما حرموا ‏{‏يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب‏}‏ في نسبتهم هذا التحريم إليه ‏{‏وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ أن الله لم يحرم ذلك وهم عوامهم ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول‏}‏ أي هلموا إلى حكم الله ورسوله بأن هذه الأشياء غير محرمة ‏{‏قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا‏}‏ أي كافينا ذلك، «حسبنا» مبتدأ والخبر «ما وجدنا» «وما» بمعنى «الذي» والواو في ‏{‏أَوَ لَّوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ‏}‏ للحال قد دخلت عليها همزة الإنكار وتقديره‏:‏ أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم ‏{‏لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ‏}‏ أي الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ انتصب «أنفسكم» ب «عليكم» وهو من أسماء الأفعال أي الزموا إصلاح أنفسكم‏.‏

والكاف والميم في «عليكم» في موضع جر لأن اسم الفعل هو الجار والمجرور لا على وحدها ‏{‏لاَ يَضُرُّكُمْ‏}‏ رفع على الاستئناف، أو جزم على جواب الأمر، وإنما ضمت الراء إتباعاً لضمة الضاد ‏{‏مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم‏}‏ كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العناد من الكفرة يتمنون دخولهم في الإسلام فقيل لهم‏:‏ عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها لا يضركم الضّلاّل عن دينكم إذا كنتم مهتدين، وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن تركهما مع القدرة عليهما لا يجوز‏.‏ ‏{‏إلى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً‏}‏ رجوعكم ‏{‏فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ثم يجزيكم على أعمالكم‏.‏

روي أنه خرج بديل مولى عمرو بن العاص وكان من المهاجرين مع عدي وتميم وكانا نصرانيين إلى الشام، فمرض بديل وكتب كتاباً فيه ما معه وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله‏.‏ ومات ففتشا متاعه، فأخذا إناء من فضة فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل‏:‏

‏{‏يِأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ شهادة بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان‏}‏ ارتفع «اثنان» لأنه خبر المبتدأ وهو «شهادة» بتقدير شهادة بينكم شهادة اثنين، أو لأنه فاعل «شهادة بينكم» أي فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان‏.‏ واتسع في «بين» فأضيف إليه المصدر‏.‏ «وإذا حضر» ظرف للشهادة و«حين الوصية» بدل منه، وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية لأن حضور الموت من الأمور الكائنة، «وحين الوصية» بدل منه فيدل على وجوب الوصية ولو وجدت بدون الاختيار لسقط الابتلاء فنقل إلى الوجوب، وحضور الموت مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل ‏{‏ذَوَا عَدْلٍ‏}‏ صفة ل «اثنان» ‏{‏مِّنكُمْ‏}‏ من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت ‏{‏أو آخران‏}‏ عطف على «اثنان» ‏{‏مِنْ غَيْرِكُمْ‏}‏ من الأجانب ‏{‏إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض‏}‏ سافرتم فيها‏.‏ «وأنتم» فاعل فعل يفسره الظاهر ‏{‏فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت‏}‏ أو منكم من المسلمين ومن غيركم من أهل الذمة‏.‏ وقيل‏:‏ منسوخ إذ لا يجوز شهادة الذمي على المسلم، وإنما جازت في أول الإسلام لقلة المسلمين ‏{‏تَحْبِسُونَهُمَا‏}‏ تقفونهما للحلف هو استئناف كلام أو صفة لقوله «أو آخران من غيركم» أي أو آخران من غيركم محبوسان، «وإن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت» اعتراض بين الصفة والموصوف ‏{‏مِن بَعْدِ الصلاة‏}‏ من بعد صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس‏.‏

وعن الحسن رحمه الله‏:‏ بعد العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما‏.‏ وفي حديث بديل أنها لما نزلت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا بعديِّ وتميم فاستحلفهما عند المنبر فحلفا ثم وجد الإناء بمكة فقالوا‏:‏ إنا اشتريناه من تميم وعدي‏.‏ ‏{‏فَيُقْسِمَانِ بالله‏}‏ فيحلفان به ‏{‏إِنِ ارتبتم‏}‏ شككتم في أمانتهما وهو اعتراض بين «يقسمان» وجوابه وهو ‏{‏لاَ نَشْتَرِي‏}‏ وجواب الشرط محذوف أغنى عنه معنى الكلام والتقدير‏:‏ إن ارتبتم في شأنهما فحلفوهما ‏{‏بِهِ‏}‏ بالله أو بالقسم ‏{‏ثَمَناً‏}‏ عوضاً من الدنيا ‏{‏وَلَوْ كَانَ‏}‏ أي المقسم له ‏{‏ذَا قربى‏}‏ أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال ولو كان من نقسم له قريباً منا ‏{‏وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله‏}‏ أي الشهادة التي أمر الله بحفظها وتعظيمها ‏{‏إنّآ إذاً‏}‏ إن كتمنا ‏{‏لَّمِنَ الآثمين‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن أريد بهما الشاهدان فقد نسخ تحليف الشاهدين، وإن أريد الوصيان فلم ينسخ تحليفهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 115‏]‏

‏{‏ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏108‏)‏ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏109‏)‏ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏110‏)‏ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ‏(‏111‏)‏ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنْ عُثِرَ‏}‏ فإن اطلع ‏{‏على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً‏}‏ فعل ما أوجب إثماً واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين ‏{‏فئاخران‏}‏ فشاهدان آخران ‏{‏يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ‏}‏ أي من الذين استحق عليهم الإثم، ومعناه من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته، وفي قصة بديل أنه لما ظهرت خيانة الرجلين حلف رجلان من ورثته إنه إناء صاحبهما وإن شهادتهما أحق من شهادتهما ‏{‏الأولاين‏}‏ الأحقان بالشهادة لقرابتهما أو معرفتهما‏.‏ وارتفاعهما على «هما الأوليان» كأنه قيل‏:‏ ومن هما‏؟‏ فقيل‏:‏ الأوليان‏.‏ أو هما بدل من الضمير في «يقومان» أو من ««آخران»‏.‏ «استحق عليهم الأوليان»‏.‏ حفص أي من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين‏.‏ «الأوَّلين»‏:‏ حمزة وأبو بكر على أنه وصف للذين استحق عليهم مجرور أو منصوب على المدح‏.‏ وسموا أولين لأنهم كانوا أولين في الذكر في قوله «شهادة بينكم» ‏{‏فَيُقْسِمَانِ بالله لشهادتنا أَحَقُّ مِن شهادتهما‏}‏ أي ليميننا أحق بالقبول من يمين هذين الوصيين الخائنين ‏{‏وَمَا اعتدينا‏}‏ وما تجاوزنا الحق في يميننا ‏{‏إِنَّآ إِذاً لَّمِنَ الظالمين‏}‏ أي إن حلفنا كاذبين ‏{‏ذلك‏}‏ الذي مر ذكره من بيان الحكم ‏{‏أدنى‏}‏ أقرب ‏{‏أَن يَأْتُواْ‏}‏ أي الشهداء على نحو تلك الحادثة ‏{‏بالشهادة على وَجْهِهَا‏}‏ كما حملوها بلا خيانة فيها ‏{‏أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم‏}‏ أي تكرر أيمان شهود آخرين بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور كذبهم ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في الخيانة واليمين الكاذبة ‏{‏واسمعوا‏}‏ سمع قبول وإجابة ‏{‏والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين‏}‏ الخارجين عن الطاعة‏.‏ فإن قلت‏:‏ ما معنى «أو» هنا‏؟‏ قلت‏:‏ معناه ذلك أقرب من أن يؤدّوا الشهادة بالحق والصدق، إما لله أو لخوف العار والافتضاح برد الأيمان، وقد احتج به من يرى ردّ اليمين على المدعي، والجواب أن الورثة قد ادّعوا على النصرانيين أنهما قد اختانا فحلفا، فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتما فأنكرت الورثة فكانت اليمين على الورثة لإنكارهما الشراء‏.‏

‏{‏يَوْمَ‏}‏ منصوب ب «اذكروا» أو احذروا ‏{‏يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ‏}‏ ما الذي أجابتكم به أممكم حين دعوتموهم إلى الإيمان‏؟‏ وهذا السؤال توبيخ لمن أنكرهم‏.‏ «وماذا» منصوب ب «أجبتم» نصب المصدر على معنى أيَّ إجابة أجبتم ‏{‏قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا‏}‏ بإخلاص قومنا دليله ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب‏}‏ أو بما أحدثوا بعدنا دليله «كنت أنت الرقيب عليهم» أو قالوا ذلك تأدباً أي علمنا ساقط مع علمك ومغمور به فكأنه لا علم لنا ‏{‏إِذْ قَالَ الله‏}‏ بدل من «يوم يجمع» ‏{‏ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى والدتك‏}‏ حيث طهرتها واصطفيتها على نساء العالمين‏.‏

والعامل في ‏{‏إِذْ أَيَّدتُّكَ‏}‏ أي قويتك «نعمتي» ‏{‏بِرُوحِ القدس‏}‏ جبريل عليه السلام أيد به لتثبت الحجة عليهم، أو بالكلام الذي يحيا به الدين، وأضافه إلى القدس لأنه سبب الطهر من أو ضارم الآثام دليله ‏{‏تُكَلّمُ الناس فِى المهد‏}‏ حال أي تكلمهم طفلاً إعجازاً ‏{‏وَكَهْلاً‏}‏ تبليغاً ‏{‏وَإِذْ عَلَّمْتُكَ‏}‏ معطوف على «إذ أيدتك» ونحوه «وإذ تخلق»‏.‏ «وإذ تخرج»‏.‏ «وإذ كففت»‏.‏ «وإذ أوحيت» ‏{‏الكتاب‏}‏ الخط ‏{‏والحكمة‏}‏ الكلام المحكم الصواب ‏{‏والتوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ‏}‏ تقدر ‏{‏مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير‏}‏ هيئة مثل هيئة الطير ‏{‏بِإِذْنِى‏}‏ بتسهيلي ‏{‏فَتَنفُخُ فِيهَا‏}‏ الضمير للكاف لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها، ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه، وكذا الضمير في ‏{‏فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي‏}‏ وعطف ‏{‏وَتُبْرِئ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي‏}‏ على «تخلق» ‏{‏وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى‏}‏ من القبور أحياء ‏{‏بِإِذْنِي‏}‏ قيل‏:‏ أخرج سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية‏.‏

‏{‏وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إسراءيل عَنكَ‏}‏ أي اليهود حين هموا بقتله ‏{‏إِذْ جِئْتَهُمْ‏}‏ ظرف ل «كففت» ‏{‏بالبينات فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ ساحر حمزة وعلي ‏{‏وَإِذْ أَوْحَيْتُ‏}‏ ألهمت ‏{‏إِلَى الحواريين‏}‏ الخواص أو الأصفياء ‏{‏أن آمنوا‏}‏ أي آمنوا ‏{‏بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون‏}‏ أي اشهد بأننا مخلصون من أسلم وجهه ‏{‏إِذْ قَالَ الحواريون‏}‏ أي اذكروا إذ ‏{‏ياعيسى ابن مَرْيَمَ‏}‏ «عيسى» نصب على اتباع حركته حركة الابن نحو «يا زيد بن عمرو» ‏{‏هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ‏}‏ هل يفعل أو هل يطيعك ربك إن سألته، فاستطاع وأطاع بمعنى كاستجاب وأجاب‏.‏ هل تستطيع ربك على أي هل تستطيع سؤال ربك فحذف المضاف، والمعنى‏:‏ هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله ‏{‏أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا‏}‏ «ينزول»‏:‏ مكي وبصري ‏{‏مَآئِدَةً مِّنَ السمآء‏}‏ هي الخوان إذا كان عليه الطعام من مادَه إذا أعطاه كأنها تميد من تقدم إليها ‏{‏قَالَ اتقوا الله‏}‏ في اقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ إذ الإيمان يوجب التقوى‏.‏

‏{‏قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا‏}‏ تبركاً ‏{‏وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا‏}‏ ونزداد يقيناً كقول إبراهيم عليه السلام ‏{‏ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏ ‏{‏وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا‏}‏ أي نعلم صدقك عياناً كما علمناه استدلالاً ‏{‏وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين‏}‏ بما عاينا لمن بعدنا‏.‏ ولما كان السؤال لزيادة العلم لا للتعنت ‏{‏قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم‏}‏ أصله «يا الله» فحذف «يَا» وعوض منه «الميم» ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ نداء ثانٍ ‏{‏أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء تَكُونُ لَنَا عِيداً‏}‏ أي يكون يوم نزولها عيداً‏.‏

قيل‏:‏ هو يوم الأحد ومن ثم اتخذه النصارى عيداً، والعيد‏:‏ السرور العائد ولذا يقال «يوم عيد» فكان معناه‏:‏ تكون لنا سروراً وفرحاً ‏{‏لأَِوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا‏}‏ بدل من «لنا» بتكرير العامل أي لمن في زماننا من أهل ديننا، ولمن يأتي بعدنا، أو يأكل منها آخر الناس كما يأكل أولهم، أو للمتقدمين منا والأتباع ‏{‏وآيةً مِنكَ‏}‏ على صحة نبوّتي ثم أكد ذلك بقوله ‏{‏وارزقنا وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين‏}‏ وأعطنا ما سألناك وأنت خير المعطين ‏{‏قَالَ الله إِنّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ‏}‏ بالتشديد‏:‏ مدني وشامي وعاصم‏.‏ وعد الإنزال وشرط عليهم شرطاً بقوله ‏{‏فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ‏}‏ بعد إنزالها منكم ‏{‏فَإِنّي أُعَذّبُهُ عَذَاباً‏}‏ أي تعذيباً كالسلام بمعنى التسليم‏.‏ والضمير في ‏{‏لآَّ أُعَذِّبُهُ‏}‏ للمصدر ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء ‏{‏أَحَداً مِّنَ العالمين‏}‏ عن الحسن أن المائدة لم تنزل ولو نزلت لكانت عيداً إلى يوم القيامة لقوله‏:‏ «وآخرنا»‏.‏ والصحيح أنها نزلت‏.‏ فعن وهب نزلت مائدة منكوسة تطير بها الملائكة عليها كل طعام إلا اللحم‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يجدون عليها ما شاءُوا‏.‏ وقيل‏:‏ كانت تنزل حيث كانوا بكرة وعشياً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 120‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏116‏)‏ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏117‏)‏ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏118‏)‏ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏119‏)‏ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله‏}‏ الجمهور على أن هذا السؤال يكون في يوم القيامة دليله سياق الآية وسباقها‏.‏ وقيل‏:‏ خاطبه به حين رفعه إلى السماء دليله لفظ «إذ» ‏{‏قَالَ سبحانك‏}‏ من أن يكون لك شريك ‏{‏مَا يَكُونُ لِي‏}‏ ما ينبغي لي ‏{‏أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ‏}‏ أن أقول قولاً لا يحق لي أن أقوله ‏{‏إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ‏}‏ إن صح أني قلته فيما مضى فقد علمته، والمعنى‏:‏ أني لا أحتاج إلى الاعتذار لأنك تعلم أني لم أقله ولو قلته لعلمته لأنك ‏{‏تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي‏}‏ ذاتي ‏{‏وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ‏}‏ ذاتك‏.‏ فنفس الشيء ذاته وهويته والمعنى‏:‏ تعلم معلومي ولا أعلم معلومك ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب‏}‏ تقرير للجملتين معاً لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ولأن ما يعلم علام الغيوب لا ينتهي إليه علم أحد‏.‏

‏{‏مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ‏}‏ أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني به‏.‏ ثم فسر ما أمر به فقال‏:‏ ‏{‏أَنِ اعبدوا الله رَبّي وَرَبَّكُمْ‏}‏ ف «أن» مفسرة بمعنى «أي» ‏{‏وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً‏}‏ رقيباً ‏{‏مَّا دُمْتُ فِيهِمْ‏}‏ مدة كوني فيهم ‏{‏فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ الحفيظ ‏{‏وَأَنتَ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ من قولي وفعلي وقولهم وفعلهم ‏{‏إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ علم عيسى عليه السلام أن منهم من آمن ومنهم من أقام على الكفر فقال في جملتهم «إن تعذبهم» أي إن تعذب من كفر منهم فإنهم عبادك الذين علمتهم جاحدين لآياتك مكذبين لأنبيائك وأنت العادل في ذلك فإنهم قد كفروا بعد وجوب الحجة عليهم، وإن تغفر لهم أي لمن أقلع منهم وآمن فذلك تفضل منك، وأنت عزيز لا يمتنع عليك ما تريد، حكيم في ذلك، أو عزيز قوي قادر على الثواب، حكيم لا يعاقب إلا عن حكمة وصواب‏.‏

‏{‏قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ‏}‏ برفع اليوم والإضافة على أنه خبر هذا أي يقول الله تعالى «هذا يوم ينفع الصادقين» فيه صدقهم المستمر في دنياهم وآخرتهم‏.‏ والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب على المفعولية كما تقول «قال زيد عمرو منطلق»، وبالنصب‏:‏ نافع‏.‏ على الظرف أي قال الله هذا لعيسى عليه السلام يوم ينفع الصادقين صدقهم وهو يوم القيامة ‏{‏لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ الله عَنْهُمْ‏}‏ بالسعي المشكور ‏{‏وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ بالجزاء الموفور ‏{‏ذلك الفوز العظيم‏}‏ لأنه باقٍ بخلاف الفوز في الدنيا فهو غير باقٍ ‏{‏للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ‏}‏ عظم نفسه عما قالت النصارى إن معه إلهاً آخر ‏{‏وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ من المنع والإعطاء والإيجاد والإفناء، نسأله أن يوفقنا لمرضاته ويجعلنا من الفائزين بجناته، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

سورة الأنعام

مكية وهي مائة وخمس وستون آية كوفي أربع وستون بصرى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 12‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ‏(‏2‏)‏ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ‏(‏3‏)‏ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏4‏)‏ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ‏(‏6‏)‏ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ‏(‏8‏)‏ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏الحمد للَّهِ‏}‏ تعليم اللفظ والمعنى مع تعريض الاستغناء أي الحمد له وإن لم تحمدوه ‏{‏الذى خَلَقَ السماوات والأرض‏}‏ جمع السموات لأنها طباق بعضها فوق بعض‏.‏ والأرض وإن كانت سبعة عند الجمهور فليس بعضها فوق بعض بل بعضها موال لبعض‏.‏ «جعل» يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله ‏{‏وَجَعَلَ الظلمات والنور‏}‏ وإلى مفعولين إن كان بمعنى «صير» كقوله ‏{‏وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 19‏]‏ وفيه رد قول الثنوية بقدم النور والظلمة، وأفرد النور لإرادة الجنس ولأن ظلمة كل شيء تختلف باختلاف ذلك الشيء، نظيره ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الموضع المظلم يخالف كل واحد منها صاحبها، والنور ضرب واحد لا يختلف كما تختلف الظلمات، وقدم الظلمات لقوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ خلق اللّه خلقه في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل ‏"‏ ‏{‏ثْمَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ بعد هذا البيان ‏{‏بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ يساوون به الاوثان، تقول عدلت بذا أي ساويته به، والباء في ‏{‏بِرَبِّهِمْ‏}‏ لا للكفر، أو ثم الذين كفروا بربهم يعدلون عنه أي يعرضرن عنه فتكون الباء صلة للكفر وصلة ‏{‏يَعْدِلُونَ‏}‏ أي عنه محذوفة، وعطف ‏{‏ثْمَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ على ‏{‏الحمد للَّهِ‏}‏ على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق إلا نعمة، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته، أو على خلق السماوات على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه‏.‏ ومعنى «ثم» استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته‏.‏ ‏{‏هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ‏}‏ «من» لابتداء الغاية أي ابتداء خلق أصلكم يعنى آدم منه ‏{‏ثُمَّ قضى أَجَلاً‏}‏ أي حكم أجل الموت ‏{‏وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ‏}‏ أجل القيامة، أو الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني ما بين الموت والبعث وهو البرزخ‏.‏ أو الأول، والثاني الموت، أو الثاني هو الأول وتقديره‏:‏ وهو أجل مسمى أي معلوم، و‏{‏أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ مبتدأ والخبر ‏{‏عِندَهُ‏}‏ وقدم المبتدأ وإن كان نكرة والخبر ظرفاً وحقه التأخير لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ‏}‏ تشكون من المرية أو تجادلون من المراء‏.‏ ومعنى «ثم» استبعاد أن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم ‏{‏وَهُوَ الله‏}‏ مبتدأ وخبر ‏{‏السماوات وَفِي الأرض‏}‏ متعلق بمعنى اسم الله كأنه قيل‏:‏ وهو المعبود فيهما كقوله ‏{‏وَهُوَ الذي فِي السماء إله وَفِي الأرض إله‏}‏

‏[‏الزخرف‏:‏ 84‏]‏ أو المعروف بالإلهية فيهما، أو هو الذي يقال له الله فيهما، والأول تفريع على أنه مشتق وغيره على أنه غير مشتق ‏{‏يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ‏}‏ خبر بعد خبر أو كلام مبتدأ أي هو يعلم سركم وجهركم ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ‏}‏ من الخير والشر ويثيب عليه ويعاقب، و«من» في ‏{‏وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ‏}‏ للاستغراق وفي ‏{‏مِّنْ ءايات رَبِّهِمْ‏}‏ للتبعيض أي وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار ‏{‏إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ‏}‏ تاركين للنظر لا يلتفتون إليه لقلة خوفهم وتدبرهم في العواقب ‏{‏فَقَدْ كَذَّبُواْ‏}‏ مردود على كلام محذوف كأنه قيل‏:‏ إن كانوا معرضين على الآيات فقد كذبوا ‏{‏بالحق لَمَّا جَاءَهُمْ‏}‏ أي بما هو أعظم آية وأكبرها وهو القرآن الذي تُحدوا به فعجزوا عنه ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أنباؤا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ‏}‏ إي أنباء الشيء الذي كانوا به يستهزءون وهو القرآن أي أخباره وأحواله يعني سيعلمون بأي شيء استهزؤوا وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا، أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته‏.‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ‏}‏ يعني المكذبين ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ‏}‏ هو مدة انقضاء أهل كل عصر وهو ثمانون سنة أو سبعون ‏{‏مكناهم‏}‏ في موضع جر صفة ل «قرن» وجمع على المعنى ‏{‏فِي الأرض ما لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ‏}‏ التمكين في البلاد إعطاء المكنة والمعنى‏:‏ لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا ‏{‏وَأَرْسَلْنَا السماء‏}‏ المطر ‏{‏عَلَيْهِم مِّدْرَاراً‏}‏ كثيراً وهو حال من السماء ‏{‏وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ‏}‏ من تحت أشجارهم والمعنى عاشوا في الخصب بين الأنهار والثمار وسقيا الغيث المدرار ‏{‏فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ ولم يغن ذلك عنهم شيئاً ‏{‏وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ‏}‏ بدلاً منهم ‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا‏}‏ مكتوباً ‏{‏فِي قِرْطَاسٍ‏}‏ في ورق ‏{‏فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ هو للتأكيد لئلا يقولوا سكرت أبصارنا ومن المحتج عليهم العمى ‏{‏لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ تعنتاً وعناداً للحق بعد ظهوره ‏{‏وَقَالُواْ لَوْلآ‏}‏ هلا ‏{‏أُنزِلَ عَلَيْهِ‏}‏ على النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏مَلَكٌ‏}‏ يكلمنا أنه نبي فقال الله ‏{‏وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر‏}‏ لقضي أمر هلاكهم ‏{‏ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ‏}‏ لا يمهلون بعد نزوله طرفة عين لأنهم إذا شاهدوا ملكاً في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون‏.‏ ومعنى «ثم» بعدما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الإنظار، جعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأه الشدة أشد من نفس الشدة ‏{‏وَلَوْ جعلناه مَلَكاً‏}‏ ولو جعلنا الرسول ملكاً كما اقترحوا لأنهم كانوا يقولون تارة لولا أنزل على محمد ملك، وتارة يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة ‏{‏لجعلناه رَجُلاً‏}‏ لأرسلناه في صورة رجل كما كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعم الأحوال في صورة دحية، لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة في صورهم ‏{‏وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ‏}‏ ولخلطنا وأشكلنا عليهم من أمره إذا كان سبيله كسبيلك يا محمد، فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة الإنسان هذا إنسان وليس بملك‏.‏

يقال لبست الأمر على القوم وألبسته إذا أشبهته وأشكلته عليهم‏.‏

ثم سلى نبيه على ما أصابه من استهزاء قومه بقوله ‏{‏وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ‏}‏ فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزئون به وهو الحق حيث أهلكوا من أجل استهزائهم به و«منهم» متعلق ب «سخروا» كقوله ‏{‏فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 79‏]‏ والضمير للرسل والدال مكسورة عند أبي عمرو وعاصم لا لتقاء الساكنين، وضمها غيرهما إتباعاً لضم التاء ‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين‏}‏ والفرق بين فانظروا وبين ‏{‏ثُمَّ انظروا‏}‏ إن النظر جعل مسبباً عن السير في «فانظروا» فكأنه قيل‏:‏ سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين‏.‏ ومعنى ‏{‏سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا‏}‏ إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها وإيجاب النظر في آثار الهالكين على ذلك ب «ثم» لتباعد ما بين الواجب والمباح ‏{‏قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض‏}‏ «من» استفهام و«ما» معنى الذي في موضع الرفع على الابتداء و«لمن» خبره ‏{‏قُل لِلَّهِ‏}‏ تقرير لهم أي هو لله لا خلاف بيني وبينكم، ولا تقدرون أن تضيفوا منه شيئاً إلى غيره ‏{‏كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة‏}‏ أصل كتب أوجب ولكن لا يجوز الإجراء على ظاهره إذ لا يجب على الله شيء للعبد، فالمراد به أنه وعد ذلك وعداً مؤكداً وهو منجزه لا محالة‏.‏ وذكر النفس للاختصاص ورفع الوسائط، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر وإشراكهم به من لا يقدر على خلق شيء بقوله ‏{‏لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ فيجازيكم على إشراككم ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ في اليوم أو في الجمع ‏{‏الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم‏}‏ نصب على الذم أي أريد الذين خسروا أنفسهم باختيارهم الكفر ‏{‏فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ وقال الأخفش‏:‏ «الذين» بدل من «كم» في ‏{‏لَيَجْمَعَنَّكُمْ‏}‏ أي ليجمعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم والوجه هو الأول لأن سيبويه قال‏:‏ لا يجوز «مررت بي المسكين ولا بك المسكين» فتجعل «المسكين» بدلاً من الياء أو الكاف لأنهما في غاية الوضوح فلا يحتاجان إلى البدل والتفسير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 26‏]‏

‏{‏وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏13‏)‏ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏14‏)‏ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏15‏)‏ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏18‏)‏ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏19‏)‏ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏21‏)‏ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ‏(‏23‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏25‏)‏ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَهُ‏}‏ عطف على ‏{‏لِلَّهِ‏}‏ ‏{‏مَا سَكَنَ فِي اليل والنهار‏}‏ من السكنى حتى يتناول الساكن والمتحرك أو من السكون ومعناه ما سكن وتحرك فيهما فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر كقوله ‏{‏تَقِيكُمُ الحر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 82‏]‏ أي الحر والبرد، وذكر السكون لأنه أكثر من الحركة وهو احتجاج على المشركين لأنهم لم ينكروا أنه خالق الكون ومدبره ‏{‏وَهُوَ السميع العليم‏}‏ يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان‏.‏

‏{‏قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً‏}‏ ناصراً ومعبوداً وهو مفعول ثان ل ‏{‏اتخذ‏}‏ والأول ‏{‏غَيْرَ‏}‏ وإنما أدخل همزة الاستفهام على مفعول ‏{‏اتخذ‏}‏ لا عليه لأن الإنكار في اتخاذ غير الله ولياً لا في اتخاذ الولي فكان أحق بالتقديم ‏{‏فَاطِرَ السماوات والأرض‏}‏ بالجر صفة لله أي مخترعهما‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ما عرفت معنى الفاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما‏:‏ أنا فطرتها أي ابتدأتها ‏{‏وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ‏}‏ وهو يرزق ولا يرزق أي المنافع كلها من عنده ولا يجوز عليه الانتفاع ‏{‏قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ‏}‏ لأن النبي سابق أمته في الإسلام كقوله‏:‏ ‏{‏وبذلك أُمِرْتُ وَأَنتَ أَوَّلُ المسلمين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 163‏]‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين‏}‏ وقيل لي لا تكونن من المشركين ولو عطف على ما قبله لفظاً لقيل‏:‏ وأن لا أكون، والمعنى‏:‏ أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك ‏{‏قُلْ إِنّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ أي إني أخاف عذاب يوم عظيم وهو القيامة إن عصيت ربي فالشرط معترض بين الفاعل والمفعول به محذوف الجواب ‏{‏مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ‏}‏ العذاب ‏{‏يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ‏}‏ الله الرحمة العظمى وهي النجاة‏.‏

‏{‏مَّن يُصْرَفْ‏}‏ حمزة وعلي وأبو بكر‏.‏ أي من يصرف الله عنه العذاب ‏{‏وَذَلِكَ الفوز المبين‏}‏ النجاة الظاهرة ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ‏}‏ من مرض أو فقر أوغير ذلك من بلاياه ‏{‏فَلاَ كاشف لَهُ إلا هُوَ‏}‏ فلا قادر على كشفه إلا هو ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ‏}‏ من غنى أو صحة ‏{‏فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ‏}‏ فهو قادر على إدامته وإزالته ‏{‏وَهُوَ القاهر‏}‏ مبتدأ وخبر أي الغالب المقتدر ‏{‏فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ خبر بعد خبر أي عال عليهم بالقدرة‏.‏ والقهر بلوغ المراد بمنع غيره من بلوغه ‏{‏وَهُوَ الحكيم‏}‏ في تنفيذ مراده ‏{‏الخبير‏}‏ بأهل القهر من عباده‏.‏

‏{‏قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شهادة‏}‏ ‏{‏أَيُّ شَيْء‏}‏ مبتدأ و‏{‏أَكْبَرُ‏}‏ خبره و‏{‏شَهَادَةً‏}‏ تمييز و«أي» كلمة يراد بها بعض ما تضاف إليه، فإذا كانت استفهاماً كان جوابها مسمى باسم ما أضيفت إليه‏.‏

وقوله ‏{‏قُلِ الله‏}‏ جواب أي الله أكبر شهادة ف ‏{‏الله‏}‏ مبتدأ والخبر محذوف فيكون دليلاً على أنه يجوز إطلاق اسم الشيء على الله تعالى، وهذا لأن الشيء اسم للموجود ولا يطلق على المعدوم والله تعالى موجود فيكون شيئاً ولذا نقول الله تعالى شيء لا كالأشياء‏.‏ ثم ابتدأ ‏{‏شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ‏}‏ أي هو شهيد بيني وبينكم، ويجوز أن يكون الجواب ‏{‏الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ لإنه إذا كان الله شهيداً بينه وبينهم فأكبر شيء شهادة شهيد له ‏{‏وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرءان لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ‏}‏ أي ومن بلغه القرآن إلى قيام الساعة في الحديث ‏"‏ من بلغه القرآن فكأنما رأى محمد ‏"‏ صلى الله عليه وسلم و«من» في محل النصب بالعطف على «كم» والمراد به أهل مكة والعائد إليه محذوف أي ومن بلغه، وفاعل ‏{‏بَلَغَ‏}‏ ضمير القرآن ‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله ءَالِهَةً أخرى‏}‏ استفهام إنكار وتبكيت ‏{‏قُلْ لا أشهد‏}‏ بما تشهدون وكرر ‏{‏قُلْ‏}‏ توكيداً ‏{‏إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ‏}‏ «ما» كافة «أن» عن العمل وهو مبتدأ و‏{‏إله‏}‏ خبره و‏{‏واحد‏}‏ صفة أو بمعنى الذي في محل النصب «إن» وهو مبتدأ وإله خبره والجملة صلة «الذي» و‏{‏واحد‏}‏ خبر «إن» وهذا الوجه أوقع ‏{‏وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏ به‏.‏

‏{‏الذين ءاتيناهم الكتاب‏}‏ يعنى اليهود والنصارى‏.‏ والكتاب‏:‏ التوراة والإنجيل ‏{‏يَعْرِفُونَهُ‏}‏ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في الكتابين ‏{‏كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ‏}‏ بحلاهم ونعوتهم وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوته ثم قال ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين ‏{‏فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ به ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ‏}‏ استفهام يتضمن معنى النفي أي لا أحد أظلم لنفسه، والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وأشنعه اتخاذ المخلوق معبوداً ‏{‏مِمَّنِ افترى‏}‏ اختلق ‏{‏عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ فيصفه بما لا يليق به ‏{‏أَوْ كَذَّبَ بئاياته‏}‏ بالقرآن والمعجزات ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ إن الأمر والشأن ‏{‏لاَ يُفْلِحُ الظالمون‏}‏ جمعوا بين أمرين باطلين، فكذبوا على الله مالا حجة عليه وكذبوا بما ثبت بالحجة حيث قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله، وسموا القرآن والمعجزات سحراً‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ‏}‏ هو مفعول به والتقدير‏:‏ واذكر يوم نحشرهم ‏{‏جَمِيعاً‏}‏ حال من ضمير المفعول ‏{‏ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ‏}‏ مع الله غيره توبيخاً، وبالياء فيهما‏:‏ يعقوب ‏{‏أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ‏}‏ آلهتكم التي جعلتموها شركاء الله ‏{‏الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ أي تزعمونهم شركاء فحذف المفعولان ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ‏}‏ وبالياء‏:‏ حمزة وعلي ‏{‏فِتْنَتُهُمْ‏}‏ كفرهم ‏{‏إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ يعني ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه إلا جحوده والتبرؤ منه والحلف على الانتفاء من التدين به، أو ثم لم يكم جوابهم إلا أن قالوا‏:‏ فسمي فتنة لأنه كذب‏.‏

وبرفع الفتنة مكي وشامي وحفص؛ فمن قرأ ‏{‏تَكُنْ‏}‏ بالتاء ورفع الفتنة فقد جعل الفتنة اسم ‏{‏تَكُنْ‏}‏ و‏{‏أَن قَالُواْ‏}‏ الخبر أي لم تكن فتنتهم إلا قولهم، ومن قرأ بالياء ونصب الفتنة جعل ‏{‏أَن قَالُواْ‏}‏ اسم ‏{‏يَكُنِ‏}‏ أي لم يكن فتنتهم إلا قولهم، ومن قرأ بالتاء ونصب الفتنة حمل على المقالة‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ حمزة وعلي، على النداء أي ياربنا وغيرهما بالجر على النعت من اسم الله ‏{‏انظُرْ‏}‏ يامحمد ‏{‏كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ‏}‏ بقولهم ‏{‏مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ إذا جمع الله الخلائق ورأى المشركون سعة رحمة الله وشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين قال بعضهم لبعض‏:‏ تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجو مع أهل التوحيد فإذا قال لهم الله‏:‏ أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون قالوا‏:‏ والله ربنا ما كنا مشركين، فيختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُم‏}‏ وغاب عنهم ‏{‏مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ إلهيته وشفاعته ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ‏}‏ حين تتلو القرآن‏.‏ روي أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر‏:‏ ما يقول محمد‏؟‏ فقال‏:‏ والله ما أدري ما يقول محمد ألا إنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية‏.‏ فقال أبو سفيان‏:‏ إني لأراه حقاً فقال أبو جهل‏:‏ كلا فنزلت ‏{‏وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏ أغطية جمع كنان وهو الغطاء مثل عنان وأعنة أن يفقهوه‏}‏ كراهة أن يفقهوه ‏{‏وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا‏}‏ ثقلا يمنع من السمع، ووحد الوقر لأنه مصدر وهو عطف على ‏{‏أَكِنَّةً‏}‏ وهو حجة لنا في الأصلح على المعتزلة ‏{‏وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حتى إِذَا جَاءُوكَ يجادلونك يَقُولُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ «حتى» هي التي تقع بعدها الجمل، والجملة قوله ‏{‏إذا جاؤك يقول الذين كفروا‏}‏ و‏{‏يجادلونك‏}‏ في موضع الحال، ويجوز أن تكون جارة ويكون ‏{‏إذا جاءوك‏}‏ في موضع الجر بمعنى حتى وقت مجيئهم و‏{‏يجادلونك‏}‏ حال و‏{‏يقول الذين كفروا‏}‏ تفسير له، والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك، وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون ‏{‏إِنْ هَذَآ‏}‏ ما القرآن ‏{‏إِلاَّ أساطير الأولين‏}‏ فيجعلون كلام الله أكاذيب، وواحد الأساطير أسطورة‏.‏

‏{‏وَهُمْ‏}‏ أي المشركون ‏{‏يَنْهَوْنَ عَنْهُ‏}‏ ينهون الناس عن القرآن أو عن الرسول واتباعه والإيمان به ‏{‏ويَنْئَوْنَ عَنْهُ‏}‏ ويبعدون عنه بأنفسهم فيضلون ويضلون ‏{‏وَإِن يُهْلِكُونَ‏}‏ بذلك ‏{‏إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ أي لا يتعداهم الضرر إلى غيرهم وإن كانوا يظنون أنهم يضرون رسول الله وقيل‏:‏ عنى به أبو طالب لأنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى عنه فلا يؤمن به والأول أشبه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 35‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏27‏)‏ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏28‏)‏ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‏(‏29‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏30‏)‏ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏31‏)‏ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏32‏)‏ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏34‏)‏ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ ترى‏}‏ حذف جوابه أي ولو ترى لشاهدت أمراً عظيماً ‏{‏إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار‏}‏ أروها حتى يعاينوها أو حبسوا على الصراط فوق النار ‏{‏فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ‏}‏ إلى الدنيا تمنوا الرد الدنيا ليؤمنوا وتم تمنيهم ثم ابتدأوا بقوله ‏{‏وَلاَ نُكَذِّبَ بئايات رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏ واعدين الإيمان كأنهم قالوا‏:‏ ونحن لا نكذب ونؤمن‏.‏ ‏{‏وَلاَ نُكَذِّبَ‏}‏ ‏{‏وَنَكُونَ‏}‏ حمزة وعلي وحفص على جواب التمني بالواو وبإضمار «أن» ومعناه أن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين، وافقهما في ‏{‏وَنَكُونَ‏}‏ شامي ‏{‏بَلْ‏}‏ للإضراب عن الوفاء بما تمنوا ‏{‏بَدَا لَهُمْ‏}‏ ظهر لهم ‏{‏مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ‏}‏ من الناس ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ في الدنيا من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو في المنافقين وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه، أو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَلَوْ رُدُّواْ‏}‏ إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار ‏{‏لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ من الكفر ‏{‏وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ فيما وعدوا من أنفسهم لا يوفون به ‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ عطف على ‏{‏لعادوا‏}‏ أي ولو ردوا لكفروا ولقالوا ‏{‏إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا‏}‏ كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة، أو على قوله ‏{‏وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ أي وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء وهم الذين قالوا إن إلا حياتنا الدنيا وهي كناية عن الحياة، أو هو ضمير القصة ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ‏}‏ مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاقبه، أو وقفوا على جزاء ربهم ‏{‏قَالَ‏}‏ جواب لسؤال مقدر كأنه قيل‏:‏ ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه‏؟‏ فقيل‏:‏ قال ‏{‏أَلَيْسَ هذا‏}‏ أي البعث ‏{‏بالحق‏}‏ بالكائن الموجود وهذا تعيير لهم على التكذيب للبعث‏.‏ وقولهم لما كانوا يسمعون من حديث البعث ما هو بحق ‏{‏قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا‏}‏ أقروا وأكدوا الإقرار باليمين ‏{‏قَالَ‏}‏ الله تعالى ‏{‏فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ بكفركم‏.‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله‏}‏ ببلوغ الآخرة وما يتصل بها، أو هو مجرى على ظاهره لأن منكر البعث منكر للرؤية ‏{‏حتى‏}‏ غاية ل ‏{‏كَذَّبُواْ‏}‏ لا ل ‏{‏خسر‏}‏ لأن خسرانهم لا غاية له ‏{‏إِذَا جَاءتْهُمُ الساعة‏}‏ أي القيامة لأن مدة تأخرها مع تابد ما بعدها كساعة واحدة ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ فجأة وانتصابها على الحال يعني باغتة، أو على المصدر كأنه قيل‏:‏ بغتتهم الساعة بغتة وهي ورود الشيء على صاحبه من غير علمه بوقته ‏{‏قَالُواْ ياحسرتنا‏}‏ نداء تفجع معناه ياحسرة احضري فهذا أوانك ‏{‏على مَا فَرَّطْنَا‏}‏ قصرنا ‏{‏فِيهَا‏}‏ في الحياة الدنيا أو في الساعة أي قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها ‏{‏وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ‏}‏ آثامهم ‏{‏على ظُهُورِهِمْ‏}‏ خص الظهر لأن المعهود حمل الأثقال على الظهور كما عهد الكسب بالأيدي، وهو مجاز عن اللزوم على وجه لا يفارقهم‏.‏

وقيل‏:‏ إن الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شيء صورة وأخبثه ريحاً فيقول‏:‏ أنا عملك السيء فطالما ركبتني في الدنيا وأنا أركبك اليوم ‏{‏أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ‏}‏ بئس شيئاً يحملونه، وأفاد «ألا» تعظيم ما يذكر بعده ‏{‏وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏ جواب لقولهم ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا‏}‏ واللعب ترك ما ينفع بما لا ينفع، واللهو الميل عن الجد إلى الهزل‏.‏ قيل‏:‏ ما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو‏.‏ وقيل‏:‏ ما أعمال الحياة الدنيا إلا لعب ولهو لا تعقب منفعة كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة ‏{‏وَلَلدَّارُ‏}‏ مبتدأ ‏{‏الآخرة‏}‏ صفتها‏:‏ ‏{‏وَلَدَارُ الآخرة‏}‏ بالإضافة‏:‏ شامي‏.‏ أي ولدار الساعة الآخرة لأن الشيء لا يضاف إلى صفته‏.‏ وخبر المبتدأ على القراءتين ‏{‏خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ وفيه دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لعب ولهو ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ بالتاء‏:‏ مدني وحفص‏.‏

ولما قال أبو جهل‏:‏ ما نكذبك يا محمد وإنك عندنا لمصدق وإنما نكذب ما جئتنا به نزل ‏{‏قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ‏}‏ الهاء ضمير الشأن ‏{‏لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ‏}‏ لا ينسبونك إلى الكذب‏.‏ وبالتخفيف‏:‏ نافع وعلى من أكذبه إذا وجده كاذباً ‏{‏ولكن الظالمين بآيات الله يَجْحَدُونَ‏}‏ من أقامة الظاهر مقام المضمر، وفيه دلالة على أنهم ظلموا في جحودهم والتاء يتعلق ب ‏{‏يَجْحَدُونَ‏}‏ أو ب ‏{‏الظالمين‏}‏ كقوله ‏{‏فَظَلَمُواْ بِهَا‏}‏ ‏[‏الاعراف‏:‏ 103‏]‏ والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله، لأن تكذيب الرسول تكذيب المرسل‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ‏}‏ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو دليل على أن قوله ‏{‏فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ‏}‏ ليس بنفي لتكذيبه وإنما هو من قولك لغلامك إذا أهانه بعض الناس «إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني» ‏{‏فَصَبَرُواْ‏}‏ والصبر حبس النفس على المكروه ‏{‏على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ‏}‏ على تكذيبهم وإيذائهم ‏{‏حتى أتاهم نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لكلمات الله‏}‏ لمواعيده من قوله ‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171، 172‏]‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏ ‏{‏وَلَقدْ جَآءكَ مِن نَّبَإِىْ المرسلين‏}‏ بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا من مصابرة المشركين، وأجاز الأخفش أن تكون «من» زائدة والفاعل ‏{‏نَّبَإِ المرسلين‏}‏ وسيبويه لا يجيز زيادتها في الواجب كان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم ويحب مجيء الآيات ليسلموا فنزل ‏{‏وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ‏}‏ عظم وشق ‏{‏إِعْرَاضُهُمْ‏}‏ عن الإسلام ‏{‏فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً‏}‏ منفذاً تنفيذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها ‏{‏فِى الأرض‏}‏ صفة ل ‏{‏نَفَقاً‏}‏ ‏{‏أَوْ سُلَّماً فِي السماء فَتَأْتِيَهُمْ‏}‏ منها ‏{‏بِئَايَةٍ‏}‏ فافعل، وهو جواب ‏{‏فَإِن استطعت‏}‏ و‏{‏إِنِ استطعتم‏}‏ وجوابها جواب ‏{‏وَإِن كَانَ كَبُرَ‏}‏ والمعنى إنك لا تستطيع ذلك، والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم ‏{‏وَلَوْ شَاءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى‏}‏ لجعلهم بحيث يختارون الهدى، ولكن لما علم أنهم يختارون الكفر لم يشأ أن يجمعهم على ذلك كذا قاله الشيخ أبو منصور رحمه الله ‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين‏}‏ من الذين يجهلون ذلك‏.‏

ثم أخبر أن حرصه على هدايتهم لا ينفع لعدم سمعهم كالموتى بقوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 41‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏36‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏37‏)‏ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏39‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏40‏)‏ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ‏}‏ أي إنما يجيب دعاءك الذين يسمعون دعاءك بقلوبهم ‏{‏والموتى‏}‏ مبتدأ إي الكفار ‏{‏يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ‏}‏ فحينئذ يسمعون وأما قبل ذلك فلا ‏{‏وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ‏}‏ هلا أنزل عليه ‏{‏ءايَةٌ مّن رَّبّهِ‏}‏ كما نقترح من جعل الصفا ذهباً وتوسيع أرض مكة وتفجير الأنهار خلالها ‏{‏قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزِّلَ ءَايَةً‏}‏ كما اقترحوا ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ إن الله قادر على أن ينزل تلك الآية، أو لا يعلمون ما عليهم في الآية من البلاء لو أنزلت ‏{‏وَمَا مِن دَابَّةٍ‏}‏ هي اسم لما يدب وتقع على المذكر والمؤنث ‏{‏فِي الأرض‏}‏ في موضع جر صفة ل ‏{‏دَابَّةٍ‏}‏ ‏{‏وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ قيد الطيران بالجناحين لنفي المجاز لأن غير الطائر قد يقال فيه طار إذا أسرع ‏{‏إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم‏}‏ في الخلق والموت والبعث والاحتياج إلى مدبر يدبر أمرها ‏{‏مَّا فَرَّطْنَا‏}‏ ما تركنا ‏{‏فِي الكتاب‏}‏ في اللوح المحفوظ ‏{‏مِن شَيْءٍ‏}‏ من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت، أو الكتاب القرآن‏.‏ وقوله ‏{‏مِن شَيْءٍ‏}‏ أي من شيء يحتاجون إليه فهو مشتمل على ما تعبدنا به عبارة وإشارة ودلالة واقتضاء ‏{‏ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ‏}‏ يعني الأمم كلها من الدواب والطيور فينصف بعضها من بعض كما رُوي أنه يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول‏:‏ كوني تراباً‏.‏ وإنما قال ‏{‏إِلاَّ أُمَمٌ‏}‏ مع إفراد الدابة والطائر لمعنى الاستغراق فيهما‏.‏ ولما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما يشهد لربوبيته وينادي على عظمته قال ‏{‏والذين كَذَّبُواْ باياتنا صُمٌّ‏}‏ لا يسمعون كلام المنبه ‏{‏وَبُكْمٌ‏}‏ لا ينطقون بالحق خابطون ‏{‏فِي الظلمات‏}‏ أي ظلمة الجهل والحيرة والكفر، غافلون عن تأمل ذلك والتفكر فيه‏.‏ ‏{‏صُمٌّ وَبُكْمٌ‏}‏ خبر ‏{‏الذين‏}‏ ودخول الواو لا يمنع من ذلك، و‏{‏فِي الظلمات‏}‏ خبر آخر‏.‏ ثم قال إيذاناً بأنه فعال لما يريد ‏{‏مَن يَشَأْ الله يُضْلِلْهُ‏}‏ أي من يشأ الله ضلاله يضلله ‏{‏وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ وفيه دلالة خلق الأفعال وإرادة المعاصي ونفي الأصلح‏.‏

‏{‏قُلْ أَرَءَيتَكُم‏}‏ وبتليين الهمزة‏:‏ مدني، وبتركه‏:‏ علي، ومعناه هل علمتم أن الأمر كما يقال لكم فأخبروني بما عندكم، والضمير الثاني لا محل له من الإعراب والتاء ضمير الفاعل ومتعلق الاستخبار محذوف تقديره أرأيتكم ‏{‏إِنْ أتاكم عَذَابُ الله أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة‏}‏ من تدعون‏.‏ ثم بكتهم بقوله ‏{‏أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ‏}‏ أي أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضر أم تدعون الله دونها ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في أن الأصنام آلهة فادعوها لتخلصكم ‏{‏بَلْ إياه تَدْعُونَ‏}‏ بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة ‏{‏فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ‏}‏ أي ما تدعونه إلى كشفه ‏{‏إِن شَاءَ‏}‏ إن أراد أن يتفضل عليكم ‏{‏وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ‏}‏ وتتركون آلهتكم، أو لا تذكرون آلهتكم في ذلك الوقت لأن أذهانكم مغمورة بذكر ربكم وحده إذ هو القادر على كشف الضر دون غيره، ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله ‏{‏أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ أرأيتكم أغير اللّه تدعون إن أتاكم عذاب اللّه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 55‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏42‏)‏ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ‏(‏44‏)‏ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏45‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ‏(‏46‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏48‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏49‏)‏ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏50‏)‏ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏51‏)‏ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏52‏)‏ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ‏(‏53‏)‏ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏54‏)‏ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ‏}‏ رسلاً فالمفعول محذوف فكذبوهم ‏{‏فأخذناهم بالبأساء والضراء‏}‏ بالبؤس والضر، والأول القحط والجوع والثاني المرض ونقصان الأنفس والأموال ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ يتذللون ويتخشعون لربهم ويتوبون عن ذنوبهم فالنفوس تتخشع عند نزول الشدائد‏.‏

‏{‏فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ‏}‏ أي هلا تضرعوا بالتوبة ومعناه نفي التضرع كأنه قيل‏:‏ يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا ولكنه جاء ب «لولا» ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم ‏{‏ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ فلم يزجروا بما ابتلوا به ‏{‏وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ‏}‏ وصاروا معجبين بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم ‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ‏}‏ من البأساء والضراء أي تركوا الاتعاظ به ولم يزجرهم ‏{‏فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبواب كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ من الصحة والسعة وصنوف النعمة ‏{‏فَتَحْنَا‏}‏ شامي ‏{‏حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ‏}‏ من الخير والنعمة ‏{‏أخذناهم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ‏}‏ آيسون متحسرون وأصله الإطراق حزناً لما أصابه أو ندماً على مافاته و«إذا» للمفاجأة ‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ‏}‏ أي أهلكوا عن آخرهم ولم يترك منهم أحد ‏{‏والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين‏}‏ إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة وأنه من أجل النعم وأجزل القسم، أو احمدوا الله على إهلاك من لم يحمد الله‏.‏

ثم دل على قدرته وتوحيده بقوله ‏{‏قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم‏}‏ بأن أصمكم وأعماكم ‏{‏وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ‏}‏ فسلب العقول والتمييز ‏{‏مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ‏}‏ بما أخذ وختم عليه‏.‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ رفع بالابتداء و‏{‏إِلَهٌ‏}‏ خبره و‏{‏غَيْرِ‏}‏ صفة ل ‏{‏إله‏}‏ وكذا ‏{‏يَأْتِيَكُمُ‏}‏ والجملة في موضع مفعولي ‏{‏أَرَءيْتُمْ‏}‏ وجواب الشرط محذوف ‏{‏انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ‏}‏ لهم ‏{‏الآيات‏}‏ نكررها ‏{‏ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ‏}‏ يعرضون عن الآيات بعد ظهورها، والصدوف الإعراض عن الشيء ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله بَغْتَةً‏}‏ بأن لم تظهر أماراته ‏{‏أَوْ جَهْرَةً‏}‏ بأن ظهرت أماراته‏.‏ وعن الحسن‏:‏ ليلاً أو نهاراً ‏{‏هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون‏}‏ ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بربهم ‏{‏وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏}‏ بالجنان والنيران للمؤمنين والكفار، ولن نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة والأدلة الساطعة ‏{‏فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ‏}‏ أي داوم على إيمانه ‏{‏فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ فلا خوف يعقوب‏.‏

‏{‏والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا يَمَسُّهُمُ العذاب‏}‏ جعل العذاب ماساً كأنه حي يفعل بهم ما يريد من الآلام ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏}‏ بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله تعالى بالكفر ‏{‏قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ الله‏}‏ أي قسمه بين الخلق وأرزاقه، ومحل ‏{‏وَلا أَعْلَمُ الغيب‏}‏ النصب عطفاً على محل ‏{‏عِندِي خَزَائِنُ الله‏}‏ لأنه من جملة المقول كأنه قال‏:‏ لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول ‏{‏وَلآ أَقُولُ لَكُمْ إِنّي مَلَكٌ‏}‏ أي لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله وعلم الغيب ودعوى الملكية، وإنما أدعي ما كان لكثير من البشر وهو النبوة ‏{‏إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ‏}‏ أي ما أخبركم إلا بما أنزل الله علي ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير‏}‏ مثل للضال والمهتدي، أو لمن اتبع ما يوحى إليه ومن لم يتبع، أو لمن يدعي المستقيم وهو النبوة والمحال وهو الإلهية ‏{‏أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ فلا تكونوا ضالين أشباه العميان أو فتعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر، أو فتعلموا أن اتباع ما يوحى إلي مما لا بد لي منه، ‏{‏وَأَنذِرْ بِهِ‏}‏ بما يوحى ‏{‏الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ‏}‏ هم المسلمون المقرّون بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه، أو أهل الكتاب لأنهم مقرون بالبعث ‏{‏لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏يُحْشَرُواْ‏}‏ أي يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعاً لهم ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ يدخلون في زمرة أهل التقوى‏.‏

ولما أمر النبي عليه السلام بإنذار غير المتقين ليتقوا، أمر بعد ذلك بتقريب المتقين ونهى عن طردهم بقوله‏:‏

‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي‏}‏ وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم أي عبادته ويواظبون عليها‏.‏ والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام، أو معناه يصلون صلاة الصبح والعصر أو الصلوات الخمس‏.‏ ‏{‏بالغُدوة‏}‏ شامي‏.‏ ووسمهم بالإخلاص في عبادتهم بقوله ‏{‏يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ فالوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته، نزلت في الفقراء بلال وصهيب وعمار وأضرابهم حين قال رؤساء المشركين‏:‏ لو طردت هؤلاء السقاط لجالسناك‏.‏ فقال عليه السلام‏:‏ «ما أنا بطارد المؤمنين» فقالوا‏:‏ اجعل لنا يوماً ولهم يوماً وطلبوا بذلك كتاباً فدعا علياً رضي الله عنه ليكتب فقام الفقراء وجلسوا ناحية فنزلت، فرمى عليه الصلاة والسلام بالصحيفة وأتى الفقراء فعانقهم ‏{‏مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ‏}‏ كقوله ‏{‏إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّي‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 113‏]‏ ‏{‏وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْءٍ‏}‏ وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم فقال‏:‏ حسابهم عليهم لازم لهم لا يتعداهم إليك كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم ‏{‏فَتَطْرُدَهُمْ‏}‏ جواب النفي وهو ‏{‏مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم‏}‏ ‏{‏فَتَكُونَ مِنَ الظالمين‏}‏ جواب النهي وهو ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ‏}‏ ويجوز أن يكون عطفاً على ‏{‏فَتَطْرُدَهُمْ‏}‏ على وجه التسبيب لأن كونه ظالماً مسبب عن طردهم ‏{‏وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ‏}‏ ومثل ذلك الفتن العظيم ابتليتا الأغنياء بالفقراء ‏{‏لِّيَقُولُواْ‏}‏ أي الأغنياء ‏{‏أهؤلاءآء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا‏}‏ أي أنعم الله عليهم بالإيمان ونحن المقدمون والرؤساء وهم الفقراء إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنوناً عليهم من بينهم بالخير ونحوه

‏{‏لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 11‏]‏ ‏{‏أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين‏}‏ بمن يشكر نعمته‏.‏

‏{‏وَإِذَا جَاءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ‏}‏ إِما أن يكون أمراً بتبليغ سلام الله إليهم، وإما أن يكون أمراً بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم‏.‏ وكذا قوله ‏{‏كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة‏}‏ من جملة ما يقول لهم ليبشرهم بسعة رحمة الله وقبوله التوبة منهم ومعناه وعدكم بالرحمة وعداً مؤكداً ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ الضمير للشأن ‏{‏مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا‏}‏ ذنباً ‏{‏بِجَهَالَةٍ‏}‏ في موضع الحال أي عمله وهو جاهل بما يتعلق به من المضرة، أو جعل جاهلاً لإيثاره المعصية على الطاعة ‏{‏ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ‏}‏ من بعد السوء أو العمل ‏{‏وَأَصْلَحَ‏}‏ أخلص توبته ‏{‏فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ ‏{‏فَإِنَّهُ‏}‏ شامي وعاصم‏.‏ الأول بدل الرحمة، والثاني خبر مبتدأ محذوف أي فشأنه أنه غفور رحيم‏.‏ ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ ‏{‏فَإِنَّهُ‏}‏ مدني الأول بدل الرحمة، والثاني مبتدأ‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ ‏{‏فَإِنَّهُ‏}‏ غيرهم على الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل‏:‏ إنه من عمل منكم ‏{‏وكذلك نُفَصَّلُ الآياتِ وَلتستبينَ‏}‏ وبالياء‏:‏ حمزة وعلي وأبو بكر ‏{‏سَبِيلُ المجرمين‏}‏ بالنصب‏:‏ مدني‏.‏ غيره‏:‏ بالرفع‏.‏ فرفع السبيل مع التاء والياء لأنها تذكر وتؤنث، ونصب السبيل مع التاء على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم يقال استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته، والمعنى ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه ومن يرجى إسلامه ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلاً منهم بما يجب أن يعامل به فصلنا ذلك التفصيل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 67‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ‏(‏57‏)‏ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏58‏)‏ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏59‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏60‏)‏ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ‏(‏61‏)‏ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ‏(‏62‏)‏ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏63‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏64‏)‏ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏66‏)‏ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ أي صرفت وزجرت بأدلة العقل والسمع عن عبادة ما تعبدون من دون الله ‏{‏قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ‏}‏ أي لا أجري في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى دون اتباع الدليل، وهو بيان سبب الذي منه وقعوا في الضلال ‏{‏قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً‏}‏ أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال ‏{‏وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين‏}‏ وما أنا من المهتدين في شيء يعني أنكم كذلك ولما نفي أن يكون الهوى متبعاً نبه على ما يجب اتباعه بقوله ‏{‏قُلْ إِنّي على بَيّنَةٍ مِّن رَّبّي‏}‏ أي إني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه على حجة واضحة ‏{‏وَكَذَّبْتُم بِهِ‏}‏ حيث أشركتم به غيره‏.‏ وقيل‏:‏ على بينة من ربي على حجة من جهة ربي وهو القرآن وكذبتم به بالبينة، وذكر الضمير على تأويل البرهان أو البيان أو القرآن‏.‏ ثم عقبه بما دل على أنهم أحقاء بأن يعاقبوا بالعذاب فقال ‏{‏مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ‏}‏ يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم ‏{‏فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ ‏{‏إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ‏}‏ في تأخير عذابكم ‏{‏يَقُصُّ الحق‏}‏ حجازي وعاصم أي يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدره من قص أثره‏.‏ الباقون ‏{‏يَقْضِ الحق‏}‏ في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل، والحق صفة لمصدر يقضي وقوله ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين‏}‏ أي القاضين بالقضاء الحق إذ الفصل هو القضاء، وسقوط الياء من الخط لاتباع اللفظ لالتقاء الساكنين ‏{‏قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى‏}‏ أي في قدرتي وإمكاني ‏{‏مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ‏}‏ من العذاب ‏{‏لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي ‏{‏والله أَعْلَمُ بالظالمين‏}‏ فهو ينزل عليكم العذاب في وقت يعلم أنه أردع‏.‏

‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏ المفاتح جمع مفتح وهو المفتاح، أو هي خزائن العذاب والرزق، أو ما غاب عن العباد من الثواب والعقاب والآجال والأحوال‏.‏ جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة لأن المفاتح يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالأغلاق والأقفال، ومن علم مفاتحها وكيفية فتحها توصل إليها فأراد أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده لا يتوصل إليها غيره كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها فهو المتوصل إلى ما في المخازن‏.‏ قيل‏:‏ عنده مفاتح الغيب وعندك مفاتح الغيب، فمن آمن بغيبه أسبل الله الستر على عيبه ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا فِي البر‏}‏ من النبات والدواب ‏{‏والبحر‏}‏ من الحيوان والجواهر وغيرهما ‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا‏}‏ «ما» للنفي و«من» للاستغراق أي يعلم عددها وأحوالها قبل السقوط وبعده ‏{‏وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظلمات الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ‏}‏ عطف على ‏{‏وَرَقَةٍ‏}‏ وداخل في حكمها وقوله ‏{‏إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ‏}‏ كالتكرير لقوله ‏{‏إِلاَّ يَعْلَمُهَا‏}‏ لأن معنى ‏{‏إِلاَّ يَعْلَمُهَا‏}‏ ومعنى ‏{‏إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ‏}‏ واحد وهو علم الله أو اللوح‏.‏

ثم خاطب الكفرة بقوله ‏{‏وَهُوَ الذي يتوفاكم باليل‏}‏ أي يقبض أنفسكم عن التصرف بالتمام في المنام ‏{‏وَيَعْلَمَ مَا جَرَحْتُم بالنهار‏}‏ كسبتم فيه من الآثام ‏{‏ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ‏}‏ ثم يوقظكم في النهار، أو التقدير ثم يبعثكم في النهار ويعلم ما جرحتم فيه فقدم الكسب لأنه أهم، وليس فيه أنه لا يعلم ما جرحنا بالليل ولا أنه لا يتوفانا بالنهار فدل أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه ‏{‏ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى‏}‏ لتوفى الآجال على الاستكمال ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ رجوعكم بالبعث بعد الموت ‏{‏ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ في ليلكم ونهاركم‏.‏ قال بعض أهل الكلام‏:‏ أن لكل حاسة من هذه الحواس روحاً تقبض عند النوم ثم ترد إليها إذا ذهب النوم، فأما الروح التي تحيا بها النفس فإنها لا تقبض إلا عند انقضاء الأجل‏.‏ والمراد بالأرواح المعاني والقوى التي تقوم بالحواس ويكون بها السمع والبصر والأخذ والمشي والشم‏.‏ ومعنى ‏{‏ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ‏}‏ أي يوقظم ويرد إليكم أرواح الحواس فيستدل به على منكري البعث لأنه بالنوم يذهب أرواح هذه الحواس ثم يردها إليها فكذا يحيي الأنفس بعد موتها‏.‏

‏{‏وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً‏}‏ ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون ليكون ذلك أزجر للعباد عن ارتكاب الفساد إذا تفكروا أن صحائفهم تقرأ على رؤوس الأشهاد ‏{‏حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت‏}‏ «حتى» لغاية حفظ الأعمال أي وذلك دأب الملائكة مع المكلف مدة الحياة إلى أن يأتيه الممات ‏{‏تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا‏}‏ أي استوفت روحه وهم ملك الموت وأعوانه ‏{‏توفيه‏}‏ و‏{‏استوفيه‏}‏ بالإمالة‏:‏ حمزة ‏{‏رُسُلُنَا‏}‏ أبو عمرو ‏{‏وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ‏}‏ لا يتوانون ولا يؤخرون ‏{‏ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله‏}‏ إلى حكمه وجزائه أي رد المتوفون برد الملائكة ‏{‏مولاهم‏}‏ مالكهم الذي يلي عليهم أمورهم ‏{‏الحق‏}‏ العدل الذي لا يحكم إلا بالحق وهما صفتان لله ‏{‏أَلاَ لَهُ الحكم‏}‏ يومئذ لا حكم فيه لغيره ‏{‏وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين‏}‏ لا يشغله حساب عن حساب يحاسب جميع الخلق في مقدار حلب شاة وقيل‏:‏ الرد إلى من رباك خير من البقاء مع من آذاك‏.‏

‏{‏قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ‏}‏ ‏{‏يُنَجِّيكُمْ‏}‏ ابن عباس ‏{‏مِّن ظلمات البر والبحر‏}‏ مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما، أو ظلمات البر الصواعق والبحر الأمواج وكلاهما في الغيم والليل ‏{‏تَدْعُونَهُ‏}‏ حال من ضمير المفعول في ‏{‏يُنَجِّيكُمْ‏}‏ ‏{‏تَضَرُّعًا‏}‏ معلنين الضراعة وهو مصدر في موضع الحال، وكذا ‏{‏وَخُفْيَةً‏}‏ أي مسرين في أنفسكم ‏{‏خفية‏}‏ حيث كان‏:‏ أبو بكر وهما لغتان ‏{‏وَخُفْيَةً لَّئِنْ أنجانا‏}‏ عاصم وبالإمالة حمزة وعلي‏.‏

الباقون ‏{‏أَنْجَيْتَنَا‏}‏ والمعنى يقولون لئن خلصنا ‏{‏مِنْ هذه‏}‏ الظلمات ‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين‏}‏ لله تعالى ‏{‏قُلِ الله يُنَجّيكُمْ‏}‏ بالتشديد كوفي ‏{‏مِّنْهَا‏}‏ من الظلمات ‏{‏وَمِن كُلِّ كَرْبٍ‏}‏ وغم وحزن ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ‏}‏ ولا تشكرون‏.‏

‏{‏قُلْ هُوَ القادر‏}‏ هو الذي عرفتموه قادراً أو هو الكامل القدرة فاللام يحتمل العهد والجنس ‏{‏على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ‏}‏ كما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة ‏{‏أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ كما غرّق فرعون وخسف بقارون، أو من قبل سلاطينكم وسفلتكم، أو هو حبس المطر والنبات ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً‏}‏ أو يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم مشايعة لإمام‏.‏ ومعنى خلطهم أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال ‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ يقتل بعضكم بعضاً‏.‏ والبأس السيف وعنه عليه الصلاة والسلام «سألت الله تعالى أن لا يبعث على أمتي عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف» ‏{‏انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الآيات‏}‏ بالوعد والوعيد ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ‏}‏ بالقرآن أو بالعذاب ‏{‏قَوْمُكَ‏}‏ قريش ‏{‏وَهُوَ الحق‏}‏ أي الصدق أو لا بد أن ينزل بهم ‏{‏قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ‏}‏ بحفيظ وكل إليّ أمركم إنما أنا منذر ‏{‏لِكُلِّ نَبَاءٍ‏}‏ لكل شيء ينبأ به يعني إنباءهم بأنهم يعذبون وإيعادهم به ‏{‏مُّسْتَقَرٌّ‏}‏ وقت استقرار وحصول لا بد منه ‏{‏وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ تهديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 82‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏68‏)‏ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏69‏)‏ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏73‏)‏ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏74‏)‏ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ‏(‏75‏)‏ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ‏(‏76‏)‏ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ‏(‏77‏)‏ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏78‏)‏ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏79‏)‏ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏80‏)‏ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏81‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِي ءاياتنا‏}‏ أي القرآن يعني يخوضون فى الاستهزاء بها والطعن فيها، وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ ولا تجالسهم وقم عنهم ‏{‏حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ غير القرآن مما يحل فحينئذ يجوز أن تجالسهم ‏{‏وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان‏}‏ ما نهيت عنه ‏{‏يُنسِيَنَّكَ‏}‏ شامي نسّي وأنسى واحد ‏{‏فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى‏}‏ بعد أن تذكر ‏{‏مَعَ القوم الظالمين * وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم‏}‏ من حساب هؤلاء الذين يخوضون في القرآن تكذيباً واستهزاء ‏{‏مِّن شَيْءٍ‏}‏ أي وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء مما يحاسبون عليه من ذنوبهم ‏{‏ولكن‏}‏ عليهم أن يذكروهم ‏{‏ذِكْرِى‏}‏ إذا سمعوهم يخوضون بالقيام عنهم وإظهار الكراهة لهم وموعظتهم‏.‏ ومحل ‏{‏ذِكْرِى‏}‏ نصب أي ولكن يذكرونهم ذكرى أي تذكيراً، أورفع والتقدير ولكن عليهم ذكرى؛ ‏{‏ذِكْرِى‏}‏ مبتدأ والخبر محذوف‏.‏

‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ لعلهم يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم ‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ‏}‏ الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام ‏{‏لَعِباً وَلَهْواً‏}‏ سخروا به واستهزءوا‏.‏ ومعنى ‏{‏ذَرْهُمْ‏}‏ أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم، واللهو ما يشغل الإنسان من هوى أو طرب ‏{‏وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وَذَكّرْ بِهِ‏}‏ وعظ بالقرآن ‏{‏أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ مخافة أن تسلم إلى الهلكة والعذاب وترتهن بسوء كسبها، وأصل الإبسال المنع ‏{‏لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ‏}‏ ينصرها بالقوة ‏{‏وَلاَ شَفِيعٌ‏}‏ يدفع عنها بالمسألة‏.‏ ولا وقف على ‏{‏كَسَبَتْ‏}‏ في الصحيح لأن قوله ‏{‏لَيْسَ لَهَا‏}‏ صفة لنفس والمعنى وذكر بالقرآن كراهة أن تبسل نفس عادمة ولياً وشفيعاً بكسبها ‏{‏وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ‏}‏ نصب على المصدر وإن تفد كل فداء، والعدل الفدية لأن الفادي يعدل المفدي بمثله، وفاعل ‏{‏لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا‏}‏ لا ضمير العدل لأن العدل هنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ، وأما في قوله ‏{‏وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 48‏]‏ فبمعنى المفدى به فصح إسناده إليه ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى المتخذين من دينهم لعباً ولهواً وهو مبتدأ والخبر ‏{‏الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ وقوله ‏{‏لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ‏}‏ أي ماء سخين حار خبر ثان ل ‏{‏أولئك‏}‏ والتقدير‏:‏ أولئك المبسلون ثابت لهم شراب من حميم أو مستأنف‏.‏ ‏{‏وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ‏}‏ بكفرهم‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ لأبي بكر يقل لابنه عبد الرحمن وكان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان ‏{‏أَنَدْعُواْ‏}‏ أنعبد ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ الضار النافع ‏{‏مَا لاَ يَنفَعُنَا‏}‏ ما لا يقدر على نفعنا إن دعوناه ‏{‏وَلاَ يَضُرُّنَا‏}‏ إن تركنا ‏{‏وَنُرَدُّ‏}‏ وأنرد ‏{‏على أعقابنا‏}‏ راجعين إلى الشرك ‏{‏بَعْدَ إِذْ هدانا الله‏}‏ للإسلام وأنقذنا من عبادة الأصنام ‏{‏كالذي استهوته الشياطين‏}‏ كالذي ذهبت به الغيلان ومردة الجن‏.‏

والكاف في محل النصب على الحال من الضمير في ‏{‏نُرَدُّ على أعقابنا‏}‏ أي أننكص مشبهين من استهوته الشياطين وهو استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها كأن معناه طلبت هويه ‏{‏فِي الأرض‏}‏ في المهمه ‏{‏حَيْرَانَ‏}‏ حال من مفعول ‏{‏استهوته‏}‏ أي تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري كيف يصنع ‏{‏لَهُ‏}‏ لهذا المستهوي ‏{‏أصحاب‏}‏ رفقة ‏{‏يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى‏}‏ إلى أن يهدوه الطريق‏.‏ سمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له ‏{‏ائتنا‏}‏ وقد اعتسف المهمة تابعاً للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم، وهذا مبني على ما يقال إن الجن تستهوي الإنسان، والغيلان تستولي عليه، فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان، والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم ‏{‏قُلْ إِنَّ هُدَى الله‏}‏ وهو الإسلام ‏{‏هُوَ الهدى‏}‏ وحده وما وراءه ضلال ‏{‏وَأُمِرْنَا‏}‏ محله النصب بالعطف على محل ‏{‏إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى‏}‏ على أنهما مقولان كأنه قيل‏:‏ قل هذا القول وقل أمرنا ‏{‏لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالمين * وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة‏}‏ والتقدير‏:‏ وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإسلام ولإقامة الصلاة ‏{‏واتقوه وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق‏}‏ بالحكمة أو محقاً ‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ على الخبر دون الجواب ‏{‏قَوْلُهُ الحق‏}‏ مبتدأ و‏{‏يَوْمَ يَقُولُ‏}‏ خبره مقدماً عليه كما تقول «يوم الجمعة قولك الصدق» أي قولك الصدق كائن يوم الجمعة واليوم بمعنى الحين‏.‏ والمعنى أنه خلق السماوات والأرض بالحق والحكمة وحين يقول لشيء من الأشياء كن فيكون ذلك الشيء، قوله الحق والحكمة أي لا يكوَّن شيئاً من السماوات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب ‏{‏وَلَهُ الملك‏}‏ مبتدأ وخبر ‏{‏يَوْمَ يُنفَخُ‏}‏ ظرف لقوله ‏{‏وَلَهُ الملك‏}‏ ‏{‏فِي الصور‏}‏ هو القرن بلغة اليمن أو جمع صورة ‏{‏عالم الغيب‏}‏ هو عالم الغيب ‏{‏والشهادة‏}‏ أي السر والعلانية ‏{‏وَهُوَ الحكيم‏}‏ في الإفناء والإحياء ‏{‏الخبير‏}‏ بالحساب والجزاء‏.‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأَبِيهِ ءَازَرَ‏}‏ هو اسم أبيه أو لقبه لأنه لا خلاف بين النسابين أن اسم أبيه تارخ، وهو عطف بيان لأبيه وزنه فاعل ‏{‏أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً‏}‏ استفهام توبيخ أي أتتخذها آلهة وهي لا تستحق الإلهية ‏{‏إِنّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضلال مُّبِينٍ * وكذلك‏}‏ أي وكما أريناه قبح الشرك ‏{‏نُرِي إبراهيم مَلَكُوتَ السماوات والأرض‏}‏ أي نري بصيرته لطائف خلق السماوات والأرض، ونرى حكاية حال ماضية‏.‏ والملكوت أبلغ من الملك لأن الواو والتاء تزادان للمبالغة‏.‏

قال مجاهد‏:‏ فرجت له السموات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى نظره إلى العرش، وفرجت له الأرضون السبع حتى نظر إلى ما فيهن ‏{‏وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين‏}‏ فعلنا ذلك أو ليستدل، وليكون من الموقنين عياناً كما أيقن بياناً ‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل‏}‏ أي أظلم وهو عطف على ‏{‏قَالَ إبراهيم لأَبِيهِ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إبراهيم‏}‏ جملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه ‏{‏رَءاَ كَوْكَباً‏}‏ أي الزهرة أو المشتري، وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئاً منها ليس بإله لقيام دليل الحدوث فيها، ولأن لها محدثاً أحدثها ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها‏.‏ فلما رأى الكوكب الذي كانوا يعبدونه ‏{‏قَالَ هذا رَبّي‏}‏ أي قال لهم هذا ربي في زعمكم، أو المراد أهذا استهزاء بهم وإنكاراً عليهم، والعرب تكتفي عن حرب الاستفهام بنغمة الصوت‏.‏ والصحيح أن هذا قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه لأنه أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب، ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة ‏{‏فَلَمَّا أَفَلَ‏}‏ غاب ‏{‏قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين‏}‏ أي لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين عن حال إلى حال لأن ذلك من صفات الأجسام ‏{‏فَلَمَّا رَءَا القمر بَازِغاً‏}‏ مبتدئاً في الطلوع ‏{‏قَالَ هذا رَبّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضآلين‏}‏ نبه قومه على أن من اتخذ القمر إلها فهو ضال، وإنما احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال لأن الاحتجاج به أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب ‏{‏فَلَمَّا رَءا الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبّي‏}‏ وإنما ذكره لأنه أراد الطالع، أو لأنه جعل المبتدأ مثل الخبر لأنهما شيء واحد معنى، وفيه صيانة الرب عن شبهة التأنيث ولهذا قالوا في صفات الله تعالى علام ولم يقولوا علامة وإن كان الثاني أبلغ تفادياً من علامة التأنيث ‏{‏هذا أَكْبَرُ‏}‏ من باب استعمال النصفة أيضاً مع خصومه ‏{‏فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنّي بَرِئ مّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏ من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها‏.‏ وقيل‏:‏ هذا كان نظره واستدلاله في نفسه فحكاه الله تعالى، والأول أظهر لقوله ‏{‏ياقوم إِنّي بَرِئ مّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏ ‏{‏إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِى فَطَرَ السماوات والأرض‏}‏ أي للذي دلت هذه المحدثات على أنه منشئها ‏{‏حَنِيفاً‏}‏ حال أي مائلاً عن الأديان كلها إلى الإسلام ‏{‏وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين‏}‏ بالله شيئاً من خلقه‏.‏

‏{‏وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ‏}‏ في توحيد الله تعالى ونفى الشركاء عنه ‏{‏قَالَ أَتُحَآجُّونّي فِي الله‏}‏ في توحيده‏.‏

‏{‏أَتُحَاجُّونّي‏}‏ مدني وابن ذكوان ‏{‏وَقَدْ هدان‏}‏ إلى التوحيد، وبالياء في الوصل‏:‏ أبو عمرو‏.‏ ولما خوفوه أن معبوداتهم تصيبه بسوء قال ‏{‏وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبّي شَيْئاً‏}‏ أي لا أخاف معبوداتكم في وقت قط لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرة إلا إذا شاء ربي أن يصيبني منها بضر، فهو قادر على أن يجعل فيما شاء نفعاً وفيما شاء ضراً لا الأصنام ‏{‏وَسِعَ رَبّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً‏}‏ فلا يصيب عبداً شيء من ضر أو نفع إلا بعلمه ‏{‏أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ فتميزوا بين القادر والعاجز ‏{‏وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ‏}‏ معبوداتكم وهي مأمونة الخوف ‏{‏وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ‏}‏ بإشراكه ‏{‏عَلَيْكُمْ سلطانا‏}‏ حجة إذ

الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة، والمعنى وما لكم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف ‏{‏فَأَيُّ الفريقين‏}‏ أي فريقي الموحدين والمشركين ‏{‏أَحَقُّ بالأمن‏}‏ من العذاب ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ولم يقل «فأينا» احترازاً من تزكية نفسه، ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله ‏{‏الذين ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ‏}‏ بشرك عن الصديق رضي الله عنه ‏{‏أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ‏}‏ تم كلام إبراهيم عليه السلام‏.‏