فصل: الجزء الثالث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


الجزء الثالث

سورة الكهف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ‏(‏1‏)‏ قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عَبْدِهِ‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏الكتاب‏}‏ القرآن، لقن الله عباده ووفقهم كيف يثنون عليه ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي نعمة الإسلام، وما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم ‏{‏وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا‏}‏ أي شيئاً من العرج والعوج في المعاني كالعوج في الأعيان، يقال في رأيه عوج وفي عصاه عوج، والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معانيه وخروج شيء منه من الحكمة ‏{‏قَيِّماً‏}‏ مستقيماً وانتصابه بمضمر وتقديره، جعله قيماً لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة، وفائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة وفي أحدهما غنى عن الآخر التأكيد، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند التصفح، أو قيماً على سائر الكتب مصدقا لها شاهداً بصحتها ‏{‏لّيُنذِرَ‏}‏ «أنذر» متعدٍ إلى مفعولين كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 40‏]‏ فاقتصر على أحدهما، وأصله لينذر الذين كفروا ‏{‏بَأْسًا‏}‏ عذاباً ‏{‏شَدِيداً‏}‏ وإنما اقتصر على أحد مفعولي «أنذر» لأن المنذر به هو المسوق إليه فاقتصر عليه ‏{‏مِن لَّدُنْهُ‏}‏ صادراً من عنده ‏{‏وَيُبَشّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ‏}‏ أي بأن لهم ‏{‏أَجْرًا حَسَنًا‏}‏ أي الجنة، ‏{‏ويبشر‏}‏ حمزة وعليَّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 7‏]‏

‏{‏مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ‏(‏3‏)‏ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ‏(‏4‏)‏ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ‏(‏5‏)‏ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏مَّاكِثِينَ‏}‏ حال من «هم» في ‏{‏لهم‏}‏ ‏{‏فِيهِ‏}‏ في الأجر وهو الجنة ‏{‏أَبَدًا وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا‏}‏ ذكر المنذرين دون المنذر به بعكس الأول استغناء بتقديم ذكره‏.‏

‏{‏مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ أي بالولد أو باتخاذه يعني أن قولهم هذا لم يصدر عن علم ولكن عن جهل مفرط فإن قلت‏:‏ إتخاذ الله ولداً في نفسه محال فكيف قيل ‏{‏ما لهم به من علم‏}‏ قلت‏:‏ معناه ما لهم به من علم لأنه ليس مما يعلم لاستحالته وانتفاء العلم بالشيء إما للجهل بالطريق الموصل إليه، أو لأنه في نفسه محال‏.‏ ‏{‏وَلاَ لائَبَائِهِمْ‏}‏ المقلدين ‏{‏كَبُرَتْ كَلِمَةً‏}‏ نصب على التمييز وفيه معنى التعجب كأنه قيل‏:‏ ما أكبرها كلمة‏!‏ والضمير في ‏{‏كبرت‏}‏ يرجع إلى قولهم ‏{‏اتخذ الله ولداً‏}‏ وسميت كلمة كما يسمعون القصيدة بها ‏{‏تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ‏}‏ صفة ل ‏{‏كلمة‏}‏ تفيد استعظاماً لاجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم، فإن كثيراً مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس من المنكرات لا يتمالكون أن يتفوهوا به بل يكظمون عليه فكيف بمثل هذا المنكر ‏{‏إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا‏}‏ ما يقولون ذلك إلا كذباً هو صفة لمصدر محذوف أي قولاً كذباً ‏{‏فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ‏}‏ قاتل نفسك ‏{‏على ءاثارهم‏}‏ أي آثار الكفار، شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الأسف على توليهم برجل فارقه أحبته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجداً عليهم وتلهفا على فراقهم ‏{‏إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث‏}‏ بالقرآن ‏{‏أَسَفاً‏}‏ مفعول لهُ أي لفرط الحزن، والأسف المبالغة في الحزن والغضب ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا‏}‏ أي ما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها ‏{‏لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ وحسن العمل الزهد فيها وترك الاغترار بها‏.‏ ثم زهد في الميل إليها بقوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 12‏]‏

‏{‏وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ‏(‏8‏)‏ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ‏(‏9‏)‏ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ‏(‏10‏)‏ فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ‏(‏11‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا‏}‏ من هذه الزينة ‏{‏صَعِيداً‏}‏ أرضاً ملساء ‏{‏جُرُزاً‏}‏ يابساً لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة، والمعنى نعيدها بعد عمارتها خراباً بإماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار وغير ذلك‏.‏

ولما ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض بما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها وإزالة ذلك كله كأن لم يكن قال‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أصحاب الكهف والرقيم‏}‏ يعني أن ذلك أعظم من قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة، والكهف‏:‏ الغار الواسع في الجبل والرقيم اسم كلبهم أو قريتهم أو اسم كتاب كتب في شأنهم أو اسم الجبل الذي فيه الكهف ‏{‏كَانُواْ مِنْ ءاياتنا عَجَبًا‏}‏ أي كانوا آية عجباً من آياتنا وصفاً بالمصدر أو على ذات عجب ‏{‏إِذْ‏}‏ أي اذكر إذ ‏{‏أَوَى الفتية إِلَى الكهف فَقَالُواْ رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رحمةً‏}‏ أي رحمة من خزائن رحمتك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء ‏{‏وَهَيّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا‏}‏ أي الذي نحن عليه من مفارقة الكفار ‏{‏رَشَدًا‏}‏ حتى نكون بسببه راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا رشداً كله كقولك «رأيت منك أسداً»أو يسر لنا طريق رضاك ‏{‏فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ فِى الكهف‏}‏ أي ضربنا عليها حجاباً من النوم يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأَصوات فحذف المفعول الذي هو الحجاب ‏{‏سِنِينَ عَدَدًا‏}‏ ذوات عدد فهو صفة لسنين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي تعد عدداً لكثرتها لأن القليل يعلم مقداره من غير عدد فإذا كثر عُدَّ فأما ‏{‏دراهم معدودة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 20‏]‏ فهي على القلة لأنهم كانوا يعدون القليل ويزنون الكثير ‏{‏ثُمَّ بعثناهم‏}‏ أيقظناهم من النوم ‏{‏لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ‏}‏ المختلفين منهم في مدة لبثهم لأنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك وذلك قوله ‏{‏قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ‏}‏ وكان الذين قالوا ‏{‏ربكم أعلم بما لبثتم‏}‏ هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول، أو أي الحزبين المختلفين من غيرهم ‏{‏أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا‏}‏ غاية‏.‏ و‏{‏أحصى‏}‏ فعل ماض و‏{‏أمدا‏}‏ ظرف ل ‏{‏أحصى‏}‏ أو مفعول له، والفعل الماضي خبر المبتدأ وهو أي والمتبدأ مع خبره سد مسد مفعولي «نعلم»‏.‏ والمعنى أيهم ضبط أمداً لأوقات لبثهم وأحاط علماً بأمد لبثهم‏؟‏ ومن قال‏:‏ «أحصى» أفعل من الإحصاء وهو العد فقد زل لأن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏لنعلم‏}‏ مع أنه تعالى لم يزل عالماً بذلك، لأن المراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم ليزدادوا إيماناً واعتباراً، وليكون لطفاً لمؤمني زمانهم، وآية بينة لكفاره‏.‏ أو المراد لنعلم اختلافهما موجوداً كما علمناه قبل وجوده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ‏(‏13‏)‏ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق‏}‏ بالصدق ‏{‏إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ‏}‏ جمع فتى والفتوة بذل الندى وكف الأذى وترك الشكوى واجتناب المحارم واستعمال المكارم‏.‏ وقيل‏:‏ الفتى من لا يدعي قبل الفعل ولا يزكي نفسه بعد الفعل ‏{‏ءَامَنُواْ بِرَبّهِمْ وزدناهم هُدًى‏}‏ يقينا، وكانوا من خواص دقيانوس قد قذف الله في قلوبهم الإيمان وخاف بعضهم بعضاً وقالوا‏:‏ ليخل اثنان اثنان منا فيظهر كلاهما ما يضمر لصاحبه ففعلوا فحصل اتفاقهم على الإيمان ‏{‏وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ‏}‏ وقويناها بالصبر على هجران الأوطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران وجسرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام ‏{‏إِذْ قَامُواْ‏}‏ بين يدي الجبار وهو دقيانوس من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام ‏{‏فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض‏}‏ مفتخرين ‏{‏لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها‏}‏ ولئن سميناهم آلهة ‏{‏لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا‏}‏ قولاً ذا شطط وهو الإفراط في الظلم والإبعاد فيه من شط يشط ويشط إذا بعد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏15‏)‏ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ‏(‏16‏)‏ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏هَؤُلاء‏}‏ مبتدأ ‏{‏قَوْمُنَا‏}‏ عطف بيان ‏{‏اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً‏}‏ خبر وهو إخبار في معنى الإنكار ‏{‏لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم‏}‏ هلا يأتون على عبادتهم فحذف المضاف ‏{‏بسلطان بَيّنٍ‏}‏ بحجة ظاهرة وهو تبكيت لأن الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ بنسبة الشريك إليه‏.‏

‏{‏وَإِذِ اعتزلتموهم‏}‏ خطاب من بعضهم لبعض حين صممت عزيمتهم على الفرار بدينهم ‏{‏وَمَا يَعْبُدُونَ‏}‏ نصب عطف على الضمير أي وإذ اعتزلتموهم وإذ اعتزلتم معبوديهم ‏{‏إِلاَّ الله‏}‏ استثناء متصل لأنهم كانوا يقرون بالخالق ويشركون معه غيره كأهل مكة، أو منقطع أي وإذ اعتزلتم الكفار والأصنام التي يعبدونها من دون الله، أو هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله ‏{‏فَأْوُواْ إِلَى الكهف‏}‏ صيروا إليه أو اجعلوا الكهف مأواكم ‏{‏يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ‏}‏ من رزقه ‏{‏وَيُهَيّئ لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا‏}‏ ‏{‏مَرفقاً‏}‏ مدني وشامي وهو ما يرتفق به أي ينتفع‏.‏ وإنما قالوا ذلك ثقة بفضل الله وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم، أو أخبرهم به نبي في عصرهم ‏{‏وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ‏}‏ بتخفيت الزاي‏:‏ كوفي، ‏{‏تزَّور‏}‏ شامي، ‏{‏تزَّاور‏}‏ غيرهم وأصله تتزاور فخفف بإدغام التاء في الزاي أو حذفها والكل من الزور وهو الميل، ومنه زاره إذا مال إليه، والزور الميل عن الصدق ‏{‏عَن كَهْفِهِمْ‏}‏ أي تميل عنه ولا يقع شعاعها عليهم ‏{‏ذَاتَ اليمين‏}‏ جهة اليمين وحقيقتها الجهة المسماة باليمين ‏{‏وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ‏}‏ تقطعهم أي تتركهم وتعدل عنهم ‏{‏ذَاتَ الشمال وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ‏}‏ في متسع من الكهف‏.‏ والمعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح معرض لإصابة الشمس لولا أن الله يحجبها عنهم‏.‏ وقيل‏:‏ منفسح من غارهم ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم ولا يحسون كرب الغار ‏{‏ذلك مِنْ آيات الله‏}‏ أي ما صنعه الله بهم من إزورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة آية من آيات الله يعني أن ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم اختصاصاً لهم بالكرامة‏.‏ وقيل‏:‏ باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش فهم في مقنأة أبداً، ومعنى ذلك من آيات الله أن شأنهم وحديثهم من آيات الله ‏{‏مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد‏}‏ مثل ما مر في «سبحان» وهو ثناء عليهم بأنهم جاهدوا في الله وأسلموا له وجوههم فأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية ‏{‏وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا‏}‏ أي من أضله فلا هادي له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَحْسَبُهُمْ‏}‏ بفتح السين‏:‏ شامي وحمزة وعاصم غير الأعشى، وهو خطاب لكل أحد ‏{‏أَيْقَاظًا‏}‏ جمع يقظ ‏{‏وَهُمْ رُقُودٌ‏}‏ نيام‏.‏ قيل‏:‏ عيونهم مفتحة وهم نيام فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظاً ‏{‏وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال‏}‏ قيل‏:‏ لهم تقلّبتان في السنة‏.‏ وقيل‏:‏ تقلبة واحدة في يوم عاشوراء ‏{‏وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ‏}‏ حكاية حال ماضية لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي ‏{‏بالوصيد‏}‏ بالفناء أو بالعتبة ‏{‏لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ‏}‏ لو أشرفت عليهم فنظرت إليهم ‏{‏لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ‏}‏ لأعرضت عنهم وهربت منهم ‏{‏فِرَاراً‏}‏ منصوب على المصدر لأن معنى ‏{‏وليت منهم‏}‏ فررت منهم ‏{‏وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ‏}‏ ويتشديد اللام‏:‏ حجازي للمبالغة ‏{‏رُعْبًا‏}‏ تمييز‏.‏ وبضم العين‏:‏ شامي وعلي، وهو الخوف الذي يرعب الصدر أي يملؤه وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة أو لطول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم‏.‏ وعن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال‏:‏ أريد أن أدخل فقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لقد قيل لمن هو خير منك ‏{‏لوليت منهم فراراً‏}‏ فدخلت جماعة بأمره فأحرقتهم ريح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك بعثناهم‏}‏ وكان أنمناهم تلك النومة كذلك أيقظناهم إظهاراً للقدرة على الإنامة والبعث جميعاً ‏{‏لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ‏}‏ ليسأل بعضهم بعضاً ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم فيعتبروا ويستدلوا على عظم قدرة الله ويزدادوا يقيناً ويشكروا ما أنعم الله به عليهم ‏{‏قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ‏}‏ رئيسهم ‏{‏كَمْ لَبِثْتُمْ‏}‏ كم مدة لبثكم‏؟‏ ‏{‏قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ جواب مبني على غالب الظن، وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب ‏{‏قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ‏}‏ بمدة لبثكم إنكار عليهم من بعضهم كأنهم قد علموا بالأدلة أو بإلهام أن المدة متطاولة وأن مقدارها لا يعلمه إلا الله‏.‏ ورُوي أنهم دخلوا الكهف غدوة وكان انتباههم بعد الزوال فظنوا أنهم في يومهم، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا ذلك‏:‏ وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما على أن الصحيح عددهم سبعة لأنه قد قال في الآية‏:‏ ‏{‏قال قائل منهم كم لبثتم‏}‏ وهذا واحد، وقالوا في جوابه ‏{‏لبثنا يوماً أو بعض يوم‏}‏ وهو جمع وأقله ثلاثة، ثم قال ‏{‏ربكم أعلم بما لبثتم‏}‏ وهذا قول جمع آخرين فصاروا سبعة ‏{‏فابعثوا أَحَدَكُمْ‏}‏ كأنهم قالوا ربكم أعلم بذلك لا طريق لكم إلى علمه فخذوا في شيء آخر مما يهمكم فابعثوا أحدكم أي يمليخا ‏{‏بِوَرِقِكُمْ‏}‏ هي الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة، وبسكون الراء‏:‏ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر ‏{‏هذه إلى المدينة‏}‏ هي طرسوس وحملهم الورق عند فرارهم دليل على أن حمل النفقة وما يصلح للمسافر هو رأي المتوكلين على الله دون المتكلين على الاتفاقات وعلى ما في أوعية القوم من النفقات‏.‏ وعن بعض العلماء أنه كان شديد الحنين إلى بيت الله ويقول‏:‏ ما لهذا السفر إلا شيئان شد الهميان والتوكل على الرحمن ‏{‏فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا‏}‏ أي أهلها فخذف كما في ‏{‏واسئل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ و«أي» مبتدأ وخبره ‏{‏أزكى‏}‏ أحل وأطيب أو أكثر وأرخص ‏{‏طَعَامًا‏}‏ تمييز ‏{‏فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ‏}‏ وليتكلف اللطف فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن أو في أمر التخفي حتى لا يعرف ‏{‏وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا‏}‏ ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور بنا من غير قصد منه فسمى ذلك إشعاراً منه بهم لأنه سبب فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏20‏)‏ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

والضمير في ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ راجع إلى الأهل المقدر في ‏{‏أيها‏}‏ ‏{‏إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ‏}‏ يطلعوا عليكم ‏{‏يَرْجُمُوكُمْ‏}‏ يقتلوكم أخبث القتلة ‏{‏أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ‏}‏ بالإكراه، والعود بمعنى الصيرورة كثير في كلامهم ‏{‏وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا‏}‏ ‏{‏إذاً‏}‏ يدل على الشرط أي ولن تفلحوا إن دخلتم في دينهم أبداً‏.‏

‏{‏وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ‏}‏ وكما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم ‏{‏لِيَعْلَمُواْ‏}‏ أي الذين أطلعناهم على حالهم ‏{‏أَنَّ وَعْدَ الله‏}‏ وهو البعث ‏{‏حَقّ‏}‏ كائن لأن حالهم في نومهم وانتباههم بعدها كحال من يموت ثم يبعث ‏{‏وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا‏}‏ فإنهم يستدلون بأمرهم على صحة البعث ‏{‏إِذْ يتنازعون‏}‏ متعلق ب ‏{‏أعثرنا‏}‏ أي أعثرناهم عليهم حين يتنازع أهل ذلك الزمان ‏{‏بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ‏}‏ أمر دينهم ويختلفون في حقيقة البعث فكان بعضهم يقول‏:‏ تبعث الأرواح دون الأجساد، وبعضهم يقول‏:‏ تبعث الأجساد مع الأرواح ليرتفع الخلاف وليتبين أن الأجساد تبعث حية حساسة فيها أرواحها كما كانت قبل الموت ‏{‏فَقَالُواْ‏}‏ حين توفى الله أصحاب الكهف ‏{‏ابنوا عَلَيْهِمْ بنيانا‏}‏ أي على باب كهفهم لئلا يتطرق إليهم الناس ضناً بتربتهم ومحافظة عليها كما حفظت تربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحظيرة ‏{‏رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ‏}‏ من كلام المتنازعين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم، فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا ‏{‏ربهم أعلم بهم‏}‏ أو من كلام الله عز وجل رداً لقول الخائضين في حديثهم ‏{‏قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ‏}‏ من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم ‏{‏لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ‏}‏ على باب الكهف ‏{‏مَّسْجِدًا‏}‏ يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم‏.‏

رُوي أن أهل الإنجيل عظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم حتى عبدوا الأصنام وأكرهوا على عبادتها وممن شدد في ذلك دقيانوس، فأراد فتية من أشراف قومه على الشرك وتوعدهم بالقتل فأبوا إلا الثبات على الإيمان والتصلب فيه، ثم هربوا إلى الكهف ومروا بكلب فتبعهم فطردوه‏.‏ فأنطقه الله تعالى فقال‏:‏ ما تريدون مني إني أحب أحباء الله فناموا وأنا أحرسكم‏.‏ وقيل‏:‏ مرواً براعٍ معه كلب فتبعهم على دينهم ودخلوا الكهف فضرب الله على آذانهم، وقبل أن يبعثهم الله مَلِكَ مدينتهم رجل صالح مؤمن، وقد اختلف أهل مملكته في البعث معترفين وجاحدين، فدخل الملك بيته وأغلق بابه ولبس مسحاً وجلس على رماد وسأل ربه أن يبين لهم الحق، فألقى الله في نفس رجل من رعيانهم فهدم ما سد به فم الكهف ليتخذه حظيرة لغنمه‏.‏ ولما دخل المدينة من بعثوه لابتياع الطعام وأخرج الورق وكان من ضرب دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملك فقص عليه القصة، فانطلق الملك وأهل المدينة معه وأبصروهم وحمدوا الله على الآية الدالة على البعث‏.‏ ثم قالت الفتية للملك‏:‏ نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس، ثم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله أنفسهم فألقى الملك عليهم ثيابه وأمر فجعل لكل واحد تابوت من ذهب فرآهم في المنام كارهين للذهب فجعلها من الساج وبنى على باب الكهف مسجدا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏ الضمير في ‏{‏سيقولون‏}‏ لمن خاض في قصتهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين، وأهل الكتاب سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه فيهم فنزلت إخباراً بما سيجري بينهم من اختلافهم في عددهم، وأن المصيب منهم من يقول سبعة وثامنهم كلبهم‏.‏ ويُروى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد‏:‏ وكان يعقوبيا كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم‏.‏ وقال العاقب‏:‏ وكان نسطوريا كانوا خمسة سادسهم كلبهم‏.‏ وقال المسلمون‏:‏ كانوا سبعة وثامنهم كلبهم‏.‏ فحقق الله قول المسلمين‏.‏ وإنما عرفوا ذلك بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما ذكرنا من قبل‏.‏ وعن علي رضي الله عنه‏:‏ هم سبعة نفر أسماؤهم‏:‏ يمليخا ومكشلينا ومشليينار هؤلاء أصحاب يمين الملك وكان عن يساره مرنوش ودبرنوش وشاذنوش وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره والسابع الراعي الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس، واسم مدينتهم أفسوس واسم كلبهم قطمير‏.‏ وسين الاستقبال وإن دخل في الأول دون الآخرين فهما داخلان في حكم السين كقولك «قد أكرم وأنعم» تريد معنى التوقع في الفعلين جميعاً، أو أريد ب ‏{‏يفعل‏}‏ معنى الاستقبال الذي هو صالح له ‏{‏ثلاثة‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هم ثلاثة، وكذلك ‏{‏خمسة‏}‏ و‏{‏سبعة‏}‏ و‏{‏رابعهم كلبهم‏}‏ جملة من مبتدأ وخبر واقعة صفة ل ‏{‏ثلاثة‏}‏ وكذلك ‏{‏سادسهم كلبهم‏}‏ و‏{‏ثامنهم كلبهم رجماً بالغيب‏}‏ رمياً بالخبر الخفي وإتيانا به كقوله ‏{‏ويقذفون بالغيب‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 53‏]‏ أي يأتون به، أو وضع الرجم موضع الظن فكأنه قيل‏:‏ «ظنا» بالغيب لأنهم أكثروا أن يقولوا رجم بالظن مكان قولهم ظن حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين‏.‏ والواو الداخلة على الجملة الثالثة هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة النكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في قولك «جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وفي يده سيف» وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف‏.‏ والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا ‏{‏سبعة وثامنهم كلبهم‏}‏ قالوه عن ثبات علم ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم دليله أن الله تعالى أتبع القولين الأولين قوله ‏{‏رجماً بالغيب‏}‏ وأتبع القول الثالث قوله ‏{‏قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم‏}‏ أي قل ربي أعلم بعدّتهم وقد أخبركم بها بقوله ‏{‏سبعة وثامنهم كلبهم‏}‏ ‏{‏مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أنا من ذلك القليل‏.‏

وقيل‏:‏ إلا قليل من أهل الكتاب، والضمير في ‏{‏سيقولون‏}‏ على هذا لأهل الكتاب خاصة أي سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا ولا علم بذلك إلا في قليل منهم وأكثرهم على ظن وتخمين ‏{‏فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ‏}‏ فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف ‏{‏إِلاَّ مِرَآء ظاهرا‏}‏ إلا جدالاً ظاهراً غير متعمق فيه وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك فحسب ولا تزيد من غير تجهيل لهم أو بمشهد من الناس ليظهر صدقك ‏{‏وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً‏}‏ ولا تسأل أحداً منهم عن قصتهم سؤال متعنت له حتى يقول شيئاً فترده عليه وتزيف ما عنده ولا سؤال مسترشد لأن الله تعالى قد أرشدك بأن أوحى إليك قصتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ‏(‏23‏)‏ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَئ‏}‏ لأجل شيء تعزم عليه ‏{‏إِنّى فَاعِلٌ ذلك‏}‏ الشيء ‏{‏غَداً‏}‏ أي فيما يستقبل من الزمان ولم يرد الغد خاصة ‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ أن تقوله بأن يأذن ذلك لك فيه، أو ولا تقولنه إلا بأن يشاء الله أي إلا بمشيئته، وهو في موضع الحال أي إلا ملتبساً بمشيئة الله قائلاً إن شاء الله‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ ولا تقولن إني أفعل ذلك إلا بمشيئة الله تعالى، لأن قول القائل «أنا أفعل ذلك إن شاء الله» معناه‏:‏ لا أفعله إلا بمشيئة الله، وهذا نهي تأديب من الله لنبيه حين قالت اليهود لقريش‏:‏ سلوه عن الروح وعن أصحاب الكهف وذي القرنين فسألوه فقال‏:‏ ائتوني غداً أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه ‏{‏واذكر رَّبَّكَ‏}‏ أي مشيئة ربك وقل إن شاء الله ‏{‏إِذَا نَسِيتَ‏}‏ إذا فرط منك نسيان لذلك، والمعنى إذا نسيت كلمة الاستثناء ثم تنبهت عليها فتداركها بالذكر، عن الحسن‏:‏ مادام في مجلس الذكر‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ولو بعد سنة‏.‏ وهذا محمول على تدارك التبرك بالاستثناء، فأما الاستثناء المغير حكماً فلا يصح إلا متصلاً، وحُكي أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رحمه الله خالف ابن عباس رضي الله عنهما في الاستثناء المنفصل فاستحضره لينكر عليه فقال له أبو حنيفة‏:‏ هذا يرجع عليك إنك تأخذ البيعة بالأيمان أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك‏؟‏ فاستحسن كلامه وأمر الطاعن فيه بإخراجه من عنده‏.‏ أو معناه واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء تشديداً في البعث على الاهتمام بها، أو صل صلاة نسيتها إذا ذكرتها، أو إذا نسيت شيئاً فاذكره ليذكرك المنسي ‏{‏وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِى رَبّى لأَِقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا‏}‏ يعني إذا نسيت شيئاً فاذكر ربك، وذكر ربك عند نسيانه أن تقول‏:‏ عسى ربي أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه رشداً وأدنى خيراً ومنفعه‏.‏ ‏{‏أن يهدين‏}‏، ‏{‏إن ترن‏}‏، ‏{‏أن يؤتين‏}‏، ‏{‏أن تعلمن‏}‏‏.‏ مكى في الحالين، ووافقه أبو عمرو ومدني في الوصل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةِ سِنِينَ‏}‏ يريد لبثهم فيه أحياء مضروباً على آذانهم هذه المدة وهو بيان لما أجمل في قوله‏:‏ ‏{‏فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً‏}‏ وسنين عطف بيان لثلثمائة‏.‏ ثلثمائة سنين بالإضافة‏:‏ حمزة وعليّ، على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله ‏{‏بالأخسرين أعمالاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 103‏]‏ ‏{‏وازدادوا تِسْعًا‏}‏ أي تسع سنين لدلالة ما قبله عليه ‏{‏تسعاً‏}‏ مفعول به لأن «زاد» تقتضي مفعولين ف «ازداد» يقتضي مفعولاً واحداً ‏{‏قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ‏}‏ أي هو أعلم من الذين اختلفوا فيهم بمدة لبثهم والحق ما أخبرك به، أو هو حكاية لكلام أهل الكتاب و‏{‏قل الله أعلم‏}‏ رد عليهم، والجمهور على أن هذا إخبار من الله سبحانه وتعالى أنهم لبثوا في كهفهم كذا مدة ‏{‏لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض‏}‏ ذكر اختصاصه بعلم ما غاب في السماوات والأرض وخفي فيها من أحوال أهلها ‏{‏أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ‏}‏ أي وأسمع به والمعنى ما أبصره بكل موجود وما أسمعه لكل مسموع ‏{‏مَالَهُم‏}‏ لأهل السموات والأرض ‏{‏مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ‏}‏ من متول لأمورهم ‏{‏وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ‏}‏ في قضائه ‏{‏أَحَدًا‏}‏ منهم، ولا تشرك على النهي‏:‏ شامي‏.‏ كانوا يقولون له ائت بقرآن غير هذا أو بدله فقيل له‏:‏ ‏{‏واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كتاب رَبّكَ‏}‏ أي من القرآن ولا تسمع لما يهذون به من طلب التبديل فإنه ‏{‏لاَ مُبَدّلَ لكلماته‏}‏ أي لا يقدر أحد على تبديلها أو تغييرها إنما يقدر على ذلك هو وحده ‏{‏وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏ ملتجأ تعدل إليه إن هممت بذلك‏.‏ ولما قال قوم من رؤساء الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ نحِّ هؤلاء الموالي وهم صهيب وعمار وخباب وسلمان وغيرهم من فقراء المسلمين حتى نجالسك نزل‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ‏(‏28‏)‏ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم‏}‏ واحبسها معهم وثبتها ‏{‏بالغداة والعشى‏}‏ دائبين على الدعاء في كل وقت، أو بالغداة لطلب التوفيق والتيسير، والعشي لطلب عفو التقصير، أوهما صلاة الفجر والعصر‏.‏ ‏{‏بالغُدوة‏}‏ شامي ‏{‏يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ رضا الله ‏{‏وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ‏}‏ ولا تجاوز، عداه إذا جاوزه وعدى ب «عن» لتضمن «عدا» معنى «نبا» في قولك «نبت عنه عينه»، وفائدة التضمين إعطاء مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى قد ‏{‏تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا‏}‏ في موضع الحال ‏{‏وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا‏}‏ من جعلنا قلبه غافلاً عن الذكر وهو دليل لنا على أنه تعالى خالق أفعال العباد ‏{‏واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏ مجاوزاً عن الحق ‏{‏وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ‏}‏ أي الإسلام أو القرآن، و‏{‏الحق‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هو ‏{‏فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ‏}‏ أي جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك‏.‏ وجيء بلفظ الأمر والتخيير لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ماشاء من النجدين‏.‏ ثم ذكر جزاء من اختار الكفر فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا‏}‏ هيأنا ‏{‏للظالمين‏}‏ للكافرين فقيد بالسياق كما تركت حقيقة الأمر والتخيير بالسياق وهو قوله ‏{‏إنا أعتدنا للظالمين‏}‏ ‏{‏نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا‏}‏ شبه ما يحيط بهم من النار بالسرادق وهي الحجرة التي تكون حول الفسطاط، أو هو دخان يحيط بالكفار قبل دخولهم النار، أو هو حائط من نار يطيف بهم ‏{‏وَإِن يَسْتَغِيثُواْ‏}‏ من العطش ‏{‏يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل‏}‏ هو دردى الزيت أو ما أذيب من جواهر الأرض وفيه تهكم بهم ‏{‏يَشْوِى الوجوه‏}‏ إذا قدم ليشرب انشوى الوجوه من حرارته ‏{‏بِئْسَ الشراب‏}‏ ذلك ‏{‏وَسَاءتْ‏}‏ النار ‏{‏مُرْتَفَقًا‏}‏ متكأ من الرفق وهذه لمشاكلة قوله‏:‏ ‏{‏وحسنت مرتفقا‏}‏ وإلا فلا ارتفاق لأهل النار‏.‏

وبين جزاء من اختار الإيمان فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ‏(‏30‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏31‏)‏ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ‏}‏ كلام مستأنف بيان للأجر المبهم، ولك أن تجعل ‏{‏إنَّا لا نضيع‏}‏ و‏{‏أولئك‏}‏ خبرين معاً‏.‏ والمراد من أحسن منهم عملاً كقولك «السمن منوان بدرهم»، أو لأن ‏{‏من أحسن عملاً‏}‏ و‏{‏الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ ينتظمهما معنى واحد فأقام من «أحسن» مقام الضمير ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ‏}‏ «من» للإبتداء، وتنكير أساور وهي جمع أسورة التي هي جمع سوار لإبهام أمرها في الحسن ‏{‏مّن ذَهَبٍ‏}‏ «من» للتبيين ‏{‏وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ‏}‏ ما رَقَّ من الديباج ‏{‏وَإِسْتَبْرَقٍ‏}‏ ما غلظ منه أي يجمعون بين النوعين ‏{‏مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك‏}‏ خص الاتكاء لأنه هيئة المتنعمين والملوك على أسرتهم ‏{‏نِعْمَ الثواب‏}‏ الجنة ‏{‏وَحَسُنَتْ‏}‏ الجنة والأرائك ‏{‏مُرْتَفَقًا‏}‏ متكأ‏.‏

‏{‏واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ‏}‏ ومثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين وكانا أخوين في بني إسرائيل، أحدهما كافر اسمه قطروس، والآخر مؤمن اسمه يهوذا‏.‏ وقيل‏:‏ هما المذكوران في«والصافات» في قوله‏:‏ ‏{‏قال قائل منهم إني كان لي قرين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 51‏]‏ ورثاً من أبيهما ثمانية آلاف دينار فجعلاها شطرين، فاشترى الكافر أرضاً بألف دينار فقال المؤمن‏:‏ اللهم إن أخي اشترى أرضاً بألف دينار وأنا أشتري منك أرضاً في الجنة بألف فتصدق به، ثم بنى أخوه داراً بألف فقال‏:‏ اللهم إني أشتري منك داراً في الجنة بألف فتصدق به، ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال‏:‏ اللهم إني جعلت ألفاً صداقاً للحور، ثم اشترى أخوه خدماً ومتاعاً بألف دينار فقال‏:‏ اللهم إني اشتريت منك الولدان المخلدين بألف فتصدق، به ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله ‏{‏جَعَلْنَا لأَِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب‏}‏ بساتين من كروم ‏{‏وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ‏}‏ وجعلنا النخل محيطاً بالجنتين وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة‏.‏ يقال حفوه إذا أطافوا به، وحففته بهم أي جعلتهم حافين حوله وهو متعد إلى مفعول واحد فتزيد الباء مفعولاً ثانياً ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا‏}‏ جعلناها أرضاً جامعة للأقوات والفواكه، ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ‏(‏33‏)‏ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏كِلْتَا الجنتين اتَتْ‏}‏ أعطت حمل على اللفظ لأن اللفظ «كلتا» مفرد ولو قيل «آتتا» على المعنى لجاز ‏{‏أُكُلُهَا‏}‏ ثمرها ‏{‏وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ‏}‏ ولم تنقص من أكلها ‏{‏شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خلالهما نَهَراً‏}‏ نعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص ثم بما هو أصل الخير ومادته من أمر الشرب فجعله أفضل ما يسقى به وهو النهر الجاري فيها‏.‏

‏{‏وَكَانَ لَهُ‏}‏ لصاحب الجنتين ‏{‏ثَمَرٌ‏}‏ أنواع من المال من ثمر ماله إذا كثره أي كانت له إلى الجنتين الموصوفتين الأموال الكثيرة من الذهب والفضة وغيرهما له ثمر‏.‏ ‏{‏وأحيط بثمره‏}‏ بفتح الميم والثاء‏:‏ عاصم، وبضم الثاء وسكون الميم‏:‏ أبو عمرو، وبضمهما‏:‏ غيرهما ‏{‏فَقَالَ لصاحبه وَهُوَ يُحَاوِرُهُ‏}‏ يراجعه الكلام من حار يحور إذا رجع، يعني قطروس أخذ بيد المسلم يطوف به في الجنتين ويريه ما فيهما ويفاخره بما ملك من المال دونه ‏{‏أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً‏}‏ أنصاراً وحشماً، أو أولاداً ذكوراً لأنهم ينفرون معه دون الإناث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 39‏]‏

‏{‏وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ‏(‏35‏)‏ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ‏(‏36‏)‏ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ‏(‏37‏)‏ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏38‏)‏ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وَدَخَلَ جَنَّتَهُ‏}‏ إحدى جنتيه أو سماها جنة لاتحاد الحائط، وجنتين للنهر الجاري بينهما ‏{‏وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ‏}‏ ضار لها بالكفر ‏{‏قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً‏}‏ أي أن تهلك هذه الجنة، شك في بيدودة جنته لطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بالمهلة، وترى أكثر الأغنياء من المسلمين تنطق ألسنة أحوالهم بذلك ‏{‏وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً‏}‏ كائنة ‏{‏وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً‏}‏ إقسام منه على أنه إن رد إلى ربه على سبيل الفرض كما يزعم صاحبه ليجدن في الآخرة خيراً من جنته في الدنيا إدعاء لكرامته عليه ومكانته عنده ‏{‏منقلباً‏}‏ تمييز أي مرجعاً وعاقبة ‏{‏قَالَ لَهُ صاحبه وَهُوَ يحاوره أَكَفَرْتَ بالذى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ‏}‏ أي خلق أُصلك لأن خلق أصله سبب في خلقه وكان خلقه خلقاً له ‏{‏ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ‏}‏ أي خلقك من نطفة ‏{‏ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً‏}‏ عدلك وكملك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال جعله كافراً بالله لشكه في البعث‏.‏

‏{‏لَكُنَّا‏}‏ بالألف في الوصل‏:‏ شامي، الباقون بغير ألف، وبالألف في الوقف اتفاق، وأصله لكن أنا فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون لكن فتلاقت النونان فأدغمت الأولى في الثانية بعد أن سكنت ‏{‏هُوَ الله رَبّى‏}‏ هو ضمير الشأن والشأن الله ربي والجملة خبر «أنا» والراجع منها إليه ياء الضمير، وهو استدراك لقوله ‏{‏أكفرت‏}‏ قال لأخيه أنت كافر بالله لكني مؤمن موحد كما تقول‏:‏ زيد غائب لكن عمراً حاضر، وفيه حذف أي أقول هو الله بدليل عطف ‏{‏وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا وَلَوْلاَ‏}‏ وهلا ‏{‏إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء الله‏}‏ «ما»موصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدأ محذوف تقديره‏:‏ الأمر ما شاء الله، أو شرطية منصوبة الموضع والجزاء محذوف يعني أي شيء شاء الله كان والمعنى هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك الله منها الأمر ما شاء الله، اعترافا بأنها وكل ما فيها إنما حصل بمشيئة الله، وأن أمرها بيده إن شاء تركها عامرة وإن شاء خربها، ‏{‏لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله‏}‏ إقراراً بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها هو بمعونته وتأييده‏.‏ من قرأ ‏{‏إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً‏}‏ بنصب ‏{‏أقل‏}‏ فقد جعل ‏{‏أنا‏}‏ فصلاً ومن رفع وهو الكسائي جعله مبتدأ و‏{‏أقل‏}‏ خبره والجملة مفعولاً ثانياً ل «ترني» وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَوَلَدًا‏}‏ نصرة لمن فسر النفر بالأولاد في قوله‏:‏ ‏{‏وأعز نفرا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 42‏]‏

‏{‏فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ‏(‏40‏)‏ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ‏(‏41‏)‏ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏فعسى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ‏}‏ في الدنيا أو في العقبي ‏{‏وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا‏}‏ عذاباً ‏{‏مِّنَ السماء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا‏}‏ أرضاً بيضاء يزلق عليها لملاستها ‏{‏أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا‏}‏ غائراً أي ذاهباً في الأرض ‏{‏فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا‏}‏ فلا يتأتى منك طلبه فضلاً عن الوجود، والمعنى إن ترن أفقر منك فأنا أتوقع من صنع الله أن يقلب ما بي ومابك من الفقر والغنى فيرزقني لإيماني جنة خيراً من جنتك، ويسلبك لكفرك نعمته ويخرب بساتينك‏.‏

‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ‏}‏ هو عبارة عن إهلاكه وأصله من أحاط به العدو لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه ثم استعمل في كل إهلاك ‏{‏فَأَصْبَحَ‏}‏ أي الكافر ‏{‏يُقَلّبُ كَفَّيْهِ‏}‏ يضرب إحداهما على الآخر ندماً وتحسراً وإنما صار تقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر لأن النادم يقلب كفيه ظهراً لبطن كما كنى عن ذلك بِعَضِّ الكف والسقوط في اليد، ولأنه في معنى الندم عُدي تعديته ب «على» كأنه قيل‏:‏ فأصبح يندم ‏{‏عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا‏}‏ أي في عمارتها ‏{‏وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا‏}‏ يعني أن المعرشة سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم ‏{‏وَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا‏}‏ تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتي من جهة كفره وطغيانه فتمنى لو لم يكن مشركاً حتى لا يهلك الله بستانه حين لم ينفعه التمني، ويجوز أن يكون توبة من الشرك وندماً على ما كان منه ودخولاً في الإيمان

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 45‏]‏

‏{‏وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ‏(‏43‏)‏ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ‏(‏44‏)‏ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ‏}‏ يقدرون على نصرته ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ أي هو وحده القادر على نصرته لا يقدر أحد غيره أن ينصره إلا أنه لم ينصره لحكمة ‏{‏وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً‏}‏ وما كان ممتنعاً بقوته عن انتقام الله ‏{‏هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق‏}‏ ‏{‏يكن‏}‏ بالياء و‏{‏الولاية‏}‏ بكسر الواو‏:‏ حمزة وعلي فهي بالفتح النصرة والتولي، وبالكسر السلطان والملك، والمعنى هنالك أي في ذلك المقام وتلك الحال النصرة لله وحده لا يملكها غيره ولا يستطيعها أحد سواه تقريراً لقوله ‏{‏ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله‏}‏ أو هنالك السلطان والملك صلى الله عليه وسلم لا يغلب، أو في مثل تلك الحالة الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر يعني أن قوله ‏{‏ياليتني لم أشرك بربي أحداً‏}‏ كلمة ألجيء إليها فقالها جزعاً مما دهاه من شؤم كفره ولولا ذلك لم يقلها‏.‏ أو هنالك الولاية لله ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم يعني أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن وصدق قوله ‏{‏فعسى ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء‏}‏ ويؤيده قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقباً‏}‏ أي لأوليائه، أو ‏{‏هنالك‏}‏ إشارة إلى الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله كقوله‏:‏ ‏{‏لمن الملك اليوم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏ ‏{‏الحق‏}‏ بالرفع‏:‏ أبو عمرو وعلي صفة ل ‏{‏الولاية‏}‏ أو خبر مبتدأ محذوف أي هي الحق أو هو الحق‏.‏ غيرهما بالجر صفة لله‏.‏ و‏{‏عقبا‏}‏ ً بسكون القاف‏:‏ عاصم وحمزة، وبضمها‏:‏ غيرهما، وفي الشواذ «عقبى» على وزن «فعلى» وكلها بمعنى العاقبة‏.‏

‏{‏واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَاء أنزلناه مِنَ السماء‏}‏ أي هي كماء أنزلناه ‏{‏فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض‏}‏ فالتف بسببه وتكاثف حتى خالط بعضه بعضاً أو أثر في النبات الماء فاختلط به حتى روى ‏{‏فَأَصْبَحَ هَشِيمًا‏}‏ يابساً متكسراً الواحدة هشيمة ‏{‏تَذْرُوهُ الرياح‏}‏ تنسفه وتطيره‏.‏ ‏{‏الريح‏}‏ حمزة وعلي ‏{‏وَكَانَ الله على كُلّ شَئ‏}‏ من الإنشاء والإفناء ‏{‏مُّقْتَدِرًا‏}‏ قادراً، شبه حال الدنيا في نضرتها وبهجتها وما يتعقبها من الهلاك والإفناء بحال النبات يكون أخضر ثم يهيج فتطيره الريح كأن لم يكن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 49‏]‏

‏{‏الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ‏(‏46‏)‏ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏47‏)‏ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ‏(‏48‏)‏ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا‏}‏ لا زاد القبر وعدة العقبى ‏{‏والباقيات الصالحات‏}‏ أعمال الخير التي تبقى ثمرتها للإنسان، أو الصلوات الخمس، أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ‏{‏خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا‏}‏ جزاء ‏{‏وَخَيْرٌ أَمَلاً‏}‏ لأنه وعد صادق وأكثر الآمال كاذبه يعني أن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ويصيبه في الآخرة ‏{‏وَيَوْمَ‏}‏ واذكر يوم ‏{‏نُسَيّرُ الجبال‏}‏ ‏{‏تُسيَّر الجبال‏}‏ مكي وشامي وأبو عمرو أي تسير في الجو، أو يذهب بها بأن تجعل هباء منثوراً منبثاً ‏{‏وَتَرَى الأرض بَارِزَةً‏}‏ ليس عليها ما يسترها مما كان عليها من الجبال والأشجار ‏{‏وحشرناهم‏}‏ أي الموتى ‏{‏فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً‏}‏ أي فلم نترك‏.‏ غادره أي تركه ومنه الغدر ترك الوفاء والغدير ما غادره السيل ‏{‏وَعُرِضُواْ على رَبّكَ صَفَّا‏}‏ مصطفين ظاهرين ترى جماعتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحداً، شبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان ‏{‏لَّقَدْ جِئْتُمُونَا‏}‏ أي قلنا لهم لقد جئتمونا، وهذا المضمر يجوز أن يكون عامل النصب في ‏{‏يوم نسير‏}‏ ‏{‏كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ أي لقد بعثناكم كما أنشأناكم أول مرة، أو جئتمونا عراة لا شيء معكم كما خلقناكم أولاً‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏وحشرناهم‏}‏ ماضياً بعد ‏{‏نسير‏}‏ و‏{‏ترى‏}‏ للدلالة على حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال‏.‏ كأنه قيل‏:‏ وحشرناهم قبل ذلك ‏{‏بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا‏}‏ وقتاً لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور أو مكان وعد للمحاسبة‏.‏

‏{‏وَوُضِعَ الكتاب‏}‏ أي صحف الأعمال ‏{‏فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ‏}‏ خائفين ‏{‏مِمَّا فِيهِ‏}‏ من الذنوب ‏{‏وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَّالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً‏}‏ أي لا يترك شيئاً من المعاصي ‏{‏إِلاَّ أَحْصَاهَا‏}‏ حصرها وضبطها ‏{‏وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا‏}‏ في الصحف عتيداً أو جزاء ما عملوا ‏{‏وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏ فيكتب عليه ما لم يعمل أو يزيد في عقابه أو يعذبه بغير جرم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 51‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ‏(‏50‏)‏ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآِدَمَ‏}‏ فسجود تحية أو سجود انقياد ‏{‏فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن‏}‏ وهو مستأنف كأن قائلاً قال‏:‏ ما له لم يسجد‏؟‏ فقيل‏:‏ كان من الجن ‏{‏فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ‏}‏ خرج عما أمره ربه به من السجود وهو دليل على أنه كان مأموراً بالسجود مع الملائكة ‏{‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ‏}‏ الهمزة للإنكار والتعجب كأنه قيل‏:‏ أعقيب ما وجد منه تتخذونه وذريته ‏{‏أَوْلِيَاء مِن دُونِى‏}‏ وتستبدلونهم بي‏؟‏ ومن ذريته «لا قيس» موسوس الصلاة و«الأعور» صاحب الزنا و«بتر» صاحب المصائب ومطوس صاحب الأراجيف و«داسم» يدخل ويأكل مع من لم يسم الله تعالى ‏{‏وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ‏}‏ أعداء ‏{‏بِئْسَ للظالمين بَدَلاً‏}‏ بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله فأطاعه بدل طاعة الله ‏{‏مَّا أَشْهَدتُّهُمْ‏}‏ أي إبليس وذريته ‏{‏خَلَقَ السماوات والأرض‏}‏ يعني أنكم اتخذتموهم شركاء لي في العبادة وإنما يكونون شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهية فنفى مشاركتهم الإلهية بقوله ‏{‏ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض‏}‏ لأعتضد بهم في خلقها أو أشاورهم فيه أي تفردت بخلق الأشياء فأفردوني في العبادة ‏{‏وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏ ‏{‏وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين‏}‏ أي وما كنت متخذهم ‏{‏عَضُداً‏}‏ أي أعواناً فوضع ‏{‏المضلين‏}‏ موضع الضمير ذمًّا لهم بالإضلال، فإذا لم يكونوا عضداً لي في الخلق فمالكم تتخذونهم شركاء لي في العبادة‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 56‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ‏(‏52‏)‏ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ‏(‏53‏)‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ‏(‏54‏)‏ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ‏(‏55‏)‏ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ‏}‏ الله للكفار، وبالنون‏:‏ حمزة ‏{‏نَادُواْ‏}‏ ادعوا بصوت عالٍ ‏{‏شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ‏}‏ أنهم فيكم شركائي ليمنعوكم من عذابي، وأراد الجن وأضاف الشركاء إليه على زعمهم توبيخاً لهم ‏{‏فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً‏}‏ مهلكا من وبق يبق وبوقاً إذا هلك، أو مصدر كالموعد أي وجعلنا بينهم وادياً من أودية جهنم وهو مكان الهلاك والعذاب الشديد مشتركاً يهلكون فيه جميعاً، أو الملائكة وعزيراً وعيسى‏.‏ والموبق البرزخ البعيد أي وجعلنا بينهم أمداً بعيداً لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان ‏{‏وَرَأَى المجرمون النار فَظَنُّواْ‏}‏ فَأيقنوا ‏{‏أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا‏}‏ مخالطوها واقعون فيها ‏{‏وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا‏}‏ عن النار ‏{‏مَصْرِفًا‏}‏ معدلاً ‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذا القرءان لِلنَّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ‏}‏ يحتاجون إليه ‏{‏وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَئ جَدَلاً‏}‏ تمييز أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل إن فصلتها واحداً بعد واحد خصومة ومماراة بالباطل يعني أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء ‏{‏وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الهدى‏}‏ أي سببه وهو الكتاب والرسول ‏{‏وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب‏}‏ «أن» الأولى نصب، والثانية رفع، وقبلها مضاف محذوف تقديره‏:‏ وما منع الناس الإيمان والاستغفار إلا انتظار أن تأتيهم سنة الأولين وهي الإهلاك، أو انتظار أن يأتيهم العذاب أي عذاب الآخرة ‏{‏قُبُلاً‏}‏ كوفي أي أنواعاً جمع قبيل‏.‏ الباقون ‏{‏قِبلا‏}‏ أي عياناً‏.‏

‏{‏وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏}‏ يوقف عليه ويستأنف بقوله‏:‏ ‏{‏ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل‏}‏ هو قولهم للرسل ‏{‏ما أنتم إلا بشر مثلنا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 15‏]‏ و‏{‏لو شاء الله لأنزل ملائكة‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 24‏]‏ ونحو ذلك ‏{‏لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق‏}‏ ليزيلوا ويبطلوا بالجدال النبوة ‏{‏واتخذوا ءاياتى‏}‏ القرآن ‏{‏وَمَا أُنْذِرُواْ‏}‏ «ما» موصولة والراجع من الصلة محذوف أي وما أنذروه من العقاب، أو مصدرية أي وإنذارهم ‏{‏هُزُواً‏}‏ موضع استهزاء بسكون الزاي والهمزة‏:‏ حمزة، وبإبدال الهمزة واوا‏:‏ حفص، وبضم الزاي والهمزة‏:‏ غيرهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 59‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏57‏)‏ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ‏(‏58‏)‏ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ‏}‏ بالقرآن ولذلك رجع الضمير إليها مذكراً في قوله أن ‏{‏يفقهوه‏}‏ ‏{‏فَأَعْرَضَ عَنْهَا‏}‏ فلم يتذكر حين ذكر ولم يتدبر ‏{‏وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ‏}‏ عاقبة ما قدمت يداه من الكفر والمعاصي غير متفكر فيها ولا ناظر في أن المسيء والمحسن لا بد لهما من جزاء‏.‏ ثم علل إعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏ أغطية جمع كنان وهو الغطاء ‏{‏أن يفقهوهُ وفي ءاذانهم وَقراً‏}‏ ثقلاً عن استماع الحق وجمع بعد الإفراد حملاً على لفظ من ومعناه ‏{‏وَإِن تَدْعُهُمْ‏}‏ يا محمد ‏{‏إِلَى الهدى‏}‏ إلى الإيمان ‏{‏فَلَنْ يَهْتَدُواْ‏}‏ فلا يكون منهم اهتداء ألبتة ‏{‏إِذَا‏}‏ جزاء وجواب فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سبباً في انتفائه، وعلى أنه جواب للرسول على تقدير قوله مالي لا أدعوهم حرصاً على إسلامهم‏؟‏ فقيل ‏{‏وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً‏}‏ ‏{‏أَبَدًا‏}‏ مدة التكليف كلها‏.‏

‏{‏وَرَبُّكَ الغفور‏}‏ البليغ المغفرة ‏{‏ذُو الرحمة‏}‏ الموصوف بالرحمة ‏{‏لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب‏}‏ أي ومن رحمته ترك مؤاخذته أهل مكة عاجلاً مع فرط عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ‏}‏ وهم يوم بدر ‏{‏لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً‏}‏ منجى ولا ملجأ يقال‏:‏ وآل إذا نجا ووأل إليه إذا لجأ إليه ‏{‏وَتِلْكَ‏}‏ مبتدأ ‏{‏القرى‏}‏ صفة لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس والخبر ‏{‏أهلكناهم‏}‏ أو ‏{‏تلك القرى‏}‏ نصب بإضمار «أهلكنا» على شريطة التفسير، والمعنى وتلك أصحاب القرى أهلكناهم والمراد قوم نوح وعاد وثمود ‏{‏لَمَّا ظَلَمُواْ‏}‏ مثل ظلم أهل مكة ‏{‏وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا‏}‏ وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر والمهلك الإهلاك ووقته‏.‏ وبفتح الميم وكسر اللام‏:‏ حفص، وبفتحهما‏:‏ أبو بكر أي لوقت هلاكهم أو لهلاكهم والموعد وقت أو مصدر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ‏}‏ واذكر إذ ‏{‏قَالَ موسى لفتاه‏}‏ هو يوشع بن نون‏.‏ وإنما قيل ‏{‏فتاه‏}‏ لأنه كان يخدمه ويتبعه ويأخذ منه العلم ‏{‏لا أَبْرَحُ‏}‏ لا أزال وقد حذف الخبر لدلالة الحال والكلام عليه، أما الأولى فلأنها كانت حال سفر وأما الثاني فلأن قوله‏:‏ ‏{‏حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين‏}‏ غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له فلا بد أن يكون المعنى لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين وهو المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر عليهما السلام وهو ملتقى بحر فارس والروم‏.‏ وسمي خضراً لأنه أينما يصلي يخضر ما حوله ‏{‏أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً‏}‏ أو أسير زماناً طويلاً قيل ثمانون سنة‏.‏ رُوي أنه لما ظهر موسى عليه السلام على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط سأل ربه‏:‏ أي عبادك أحب إليك‏؟‏ قال‏:‏ الذي يذكرني ولا ينساني‏.‏ قال‏:‏ فأي عبادك أقضى‏؟‏ قال‏:‏ الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال‏:‏ فأي عبادك أعلم‏؟‏ قال‏:‏ الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى، فقال‏:‏ إن كان في عبادك من هو أعلم مني فدلني عليه‏.‏ قال‏:‏ أعلم منك الخضر‏.‏ قال‏:‏ أين أطلبه‏؟‏ قال‏:‏ على الساحل عند الصخرة قال‏:‏ يا رب كيف لي به‏؟‏ قال‏:‏ تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك‏.‏ فقال لفتاه‏:‏ إذا فقدت الحوت فأخبرني، فذهبا يمشيان فرقد موسى فاضطرب الحوت ووقع في البحر، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فأتيا الصخرة فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى فقال‏:‏ وإني بأرضنا السلام‏:‏ فعرفه نفسه فقال‏:‏ يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 66‏]‏

‏{‏فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ‏(‏61‏)‏ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ‏(‏62‏)‏ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ‏(‏63‏)‏ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا ‏(‏64‏)‏ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ‏(‏65‏)‏ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا‏}‏ مجمع البحرين ‏{‏نَسِيَا حُوتَهُمَا‏}‏ أي نسي أحدهما وهو يوشع لأنه كان صاحب الزاد دليله ‏{‏فإني نسيت الحوت‏}‏ وهو كقولهم«نسوا زادهم» وإنما ينساه متعهد الزاد‏.‏ قيل‏:‏ كان الحوت سمكة مملوحة فنزلا ليلة على شاطئ عين الحياة ونام موسى‏.‏ فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت ووقعت في الماء ‏{‏فاتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر‏}‏ أي اتخذ طريقاً له من البر إلى البحر ‏{‏سَرَباً‏}‏ نصب على المصدر أي سرب فيه سرباً يعني دخل فيه واستر به ‏{‏فَلَمَّا جَاوَزَا‏}‏ مجمع البحرين ثم نزلا وقد سارا ما شاء الله ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى ‏{‏لفتاه ءاتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً‏}‏ تعبا ولم يتعب ولا جاع قبل ذلك ‏{‏قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة‏}‏ هي موضع الموعد ‏{‏فَإِنّى نَسِيتُ الحوت‏}‏ ثم اعتذر فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْسَانِيهُ‏}‏ وبضم الهاء‏:‏ حفص ‏{‏إِلاَّ الشيطان‏}‏ بإلقاء الخواطر في القلب ‏{‏أَنْ أَذْكُرَهُ‏}‏ بدل من الهاء في ‏{‏أنسانيه‏}‏ أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان ‏{‏واتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر عَجَبًا‏}‏ وهو أن أثره بقي إلى حيث سار ‏{‏قَالَ ذلك مَا كُنَّا نَبْغِ‏}‏ نطلب‏.‏ وبالياء‏:‏ مكي، وافقه أبو عمرو وعلي ومدني في الوصل، وبغير ياء فيهما‏:‏ غيرهما اتباعاً لخط المصحف و‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى اتخاذه سبيلاً أي ذلك الذي كنا نطلب لأن ذهاب الحوت كان علماً على لقاء الخضر عليه السلام ‏{‏فارتدا على ءاثَارِهِمَا‏}‏ فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه ‏{‏قَصَصًا‏}‏ يقصان قصصاً أي يتبعان آثارهما اتباعاً‏.‏ قال الزجاج‏:‏ القصص اتباع الأثر ‏{‏فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا‏}‏ أي الخضر راقداً تحت ثوب أو جالساً في البحر ‏{‏ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا‏}‏ هي الوحي والنبوة أو العلم أو طول الحياة ‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا‏}‏ يعني الإخبار بالغيوب‏.‏ وقيل‏:‏ العلم اللدني ما حصل للعبد بطريق الإلهام‏.‏

‏{‏قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً‏}‏ أي علماً ذا رشد أرشد به في ديني ‏{‏رشَدا‏}‏ أبو عمرو وهما لغتان كالبخل والبخل، وفيه دليل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وأن كان قد بلغ نهايته وإن يتواضع لمن هو أعلم منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 71‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏67‏)‏ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ‏(‏68‏)‏ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ‏(‏69‏)‏ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏70‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ‏}‏ وبفتح الياء‏:‏ حفص، وكذا ما بعده في هذه السورة ‏{‏صَبْراً‏}‏ أي عن الإنكار والسؤال ‏{‏وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً‏}‏ تمييز، نفي استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد وعلل ذلك بأنه يتولى أموراً هي في ظاهرها مناكير والرجل الصالح لا يتمالك أن يجزع إذا رأى ذلك فيكف إذا كان نبياً‏!‏ ‏{‏قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا‏}‏ من الصابرين عن الإنكار والإعراض ‏{‏وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً‏}‏ في محل النصب عطف على ‏{‏صابراً‏}‏ أي ستجدني صابراً وغير عاص، أو هو عطف على ‏{‏ستجدني‏}‏ ولا محل له ‏{‏قَالَ فَإِنِ اتبعتنى فَلاَ تَسْأَلْنى‏}‏ بفتح اللام وتشديد النون‏:‏ مدني وشامي، وبسكون اللام وتخفيف النون‏:‏ غيرهما، والياء ثابتة فيهما إجماعاً ‏{‏عَن شَئ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً‏}‏ أي فمن شرط اتباعك لي أنك إذا رأيت مني شيئاً وقد علمت أنه صحيح إلا أنه خفي عليك وجه صحته فأنكرت في نفسك أن لا تفاتحني بالسؤال ولا تراجعني فيه حتى أكون أنا الفاتح عليك، وهذا من أدب المتعلم مع العالم والمتبوع مع التابع‏.‏

‏{‏فانطلقا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة خَرَقَهَا‏}‏ فانطلقا على ساحل البحر يطلبان السفينة فلما ركباها قال أهلها‏:‏ هما من اللصوص، وقال صاحب السفينة‏:‏ أرى وجوه الأنبياء فحملوهما بغير نول، فلما لججوا أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء فجعل موسى يسد الخرق بثيابه ثم ‏{‏قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا‏}‏ ‏{‏ليَغرق‏}‏ حمزة وعلي من غرق ‏{‏لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا‏}‏ أتيت شيئاً عظيماً من أمر الأمر إذا عظم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 74‏]‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏72‏)‏ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ‏(‏73‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي الخضر ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً‏}‏ فلما رأى موسى أن الخرق لا يدخله الماء ولم يفر من السفينة ‏{‏قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ‏}‏ بالذي نسيته أو بشيء نسيته أو بنسياني أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي، أو أراد بالنسيان الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة ‏{‏وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِى عُسْراً‏}‏ رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه أي ولا تغشني عسراً من أمري وهو اتباعه إياه أي ولا تعسر على متابعتك ويسرها عليَّ بالإغضاء وترك المناقشة ‏{‏فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ‏}‏ قيل‏:‏ ضرب برأسه الحائط‏.‏ وقيل‏:‏ أضجعه ثم ذبحه بالسكين‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏فقتله‏}‏ بالفاء وقال‏:‏ ‏{‏خرقها‏}‏ بغير فاء، لأن ‏{‏خرقها‏}‏ جعل جزاء للشرط وجعل ‏{‏قتله‏}‏ من جملة الشرط معطوفاً عليه والجزاء ‏{‏قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا‏}‏ وإنما خولف بينهما لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام ‏{‏زَكِيَّةً‏}‏ ‏{‏زاكية‏}‏ حجازي وأبو عمرو وهي الطاهرة من الذنوب، إما لأنها طاهرة عنده لأنه لم يرها قد أذنبت أو لأنها صغيرة لم يبلغ الحنث ‏{‏بِغَيْرِ نَفْسٍ‏}‏ أي لم تقتل نفساً فيقتص منها‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نجدة الحروري كتب إليه كيف جاز قتله وقد نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان‏؟‏ فكتب إليه‏:‏ إن علمت من حال الولدان ما علمه موسى فلك أن تقتل‏.‏

‏{‏لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً‏}‏ وبضم الكاف حيث كان‏:‏ مدني وأبو بكر وهو المنكر‏.‏ وقيل‏:‏ النكر أقل من الإمر لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفنية، أو معناه جئت شيئاً أنكر من الأول لأن الخرق يمكن تداركه بالسد ولا يمكن تدارك القتل

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 77‏]‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏75‏)‏ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ‏(‏76‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً‏}‏ زاد ‏{‏لك‏}‏ هنا لأن النكر فيه أكثر ‏{‏قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَئ بَعْدَهَا‏}‏ بعد هذه الكرة أو المسألة ‏{‏فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً‏}‏ أعذرت فيما بيني وبينك في الفراق‏.‏ و‏{‏لدني‏}‏ بتخفيف النون‏:‏ مدني وأبو بكر‏.‏

‏{‏فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ‏}‏ هي أنطاكية أو الأيلة وهي أبعد أرض الله من السماء ‏{‏استطعما أَهْلَهَا‏}‏ استضافاً ‏{‏فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا‏}‏ ضيفه أنزله وجعله ضيفه قال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ كانوا أهل قرية لئاماً ‏"‏ وقيل‏:‏ شر القرى التي تبخل بالقرى ‏{‏فَوَجَدَا فِيهَا‏}‏ في القرية ‏{‏جِدَاراً‏}‏ طوله مائة ذراع ‏{‏يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ‏}‏ يكاد يسقط استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة كما استعير الهم والعزم لذلك ‏{‏فَأَقَامَهُ‏}‏ بيده أو مسحه بيده فقام واستوى، أو نقضه وبناه كان الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم وقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسائلة فلم يجدا مواسياً، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رآى من الحرمان ومساس الحاجة أن ‏{‏قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً‏}‏ أي لطلبت على عملك جعلا حتى تستدفع به الضرورة‏.‏ ‏{‏لتخذت‏}‏ بتخفيف التاء وكسر الخاء وإدغام الذال‏:‏ بصري، وبإظهارها‏:‏ مكي، وبتشديد التاء وفتح الخاء وإظهار الذال‏:‏ حفص، وبتشديد التاء وفتح الخاء وإدغام الذال في التاء‏:‏ غيرهم‏.‏ والتاء في «تخذ» أصل كما في «تبع»، و«اتخذ» افتعل منه كاتبع من تبع وليس من الأخذ في شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 83‏]‏

‏{‏قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏78‏)‏ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ‏(‏79‏)‏ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ‏(‏80‏)‏ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ‏(‏81‏)‏ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏82‏)‏ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ‏}‏ هذا إشارة إلى السؤال الثالث أي هذا الاعتراض سبب الفراق، والأصل هذا فراق بيني وبينك، وقد قرئ به فأضيف المصدر إلى الظرف كما يضاف إلى المفعول به ‏{‏سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً‏}‏ ‏{‏أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لمساكين يَعْمَلُونَ فِى البحر‏}‏ قيل‏:‏ كانت لعشرة أخوة خمسة منهم زمنى وخمسة يعلمون في البحر ‏{‏فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا‏}‏ أجعلها ذات عيب ‏{‏وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ‏}‏ أمامهم أو خلفهم وكان طريقهم في رجوعهم عليه وما كان عندهم خبره فأعلم الله به الخضر وهو جلندي ‏{‏يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً‏}‏ أي يأخذ كل سفينة صالحة لا عيب فيها غصباً وإن كانت معيبة تركها، وهو مصدر أو مفعول له‏.‏ فإن قلت‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فأردت أن أعيبها‏}‏ مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب‏.‏ قلت‏:‏ المراد به التأخير وإنما قدم للعناية‏.‏

‏{‏وَأَمَّا الغلام‏}‏ وكان اسمه الحسين ‏{‏فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طغيانا وَكُفْراً‏}‏ فخفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين طغياناً عليهما وكفرا لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه ويلحق بهما شراً وبلاء، أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه وهو من كلام الخضر‏.‏ وإنما خشي الخضر منه ذلك لأنه تعالى أعلمه بحاله وأطلعه على سر أمره وإن كان من قول الله تعالى، فمعنى ‏{‏فخشينا‏}‏ فعلمنا إن عاش أن يصير سبباً لكفر والديه ‏{‏فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا‏}‏ ‏{‏يبَدِّلهما ربهما‏}‏ مدني وأبو عمرو ‏{‏خَيْراً مّنْهُ زكواة‏}‏ طهارة ونقاء من الذنوب ‏{‏وَأَقْرَبَ رُحْماً‏}‏ رحمة وعطفا، و‏{‏زكاة‏}‏ و‏{‏رحما‏}‏ تمييز‏.‏ روي أنه ولدت لهما جارية تزوجها نبي فولدت نبياً أو سبعين نبياً أو أبدلهما ابناً مؤمناً مثلهما شامي وهما لغتان ‏{‏وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لغلامين‏}‏ أصرم وصريم ‏{‏يَتِيمَيْنِ فِى المدينة‏}‏ هي القرية المذكورة ‏{‏وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا‏}‏ أي لوح من ذهب مكتوب فيه‏:‏ عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله‏.‏ أو مال مدفون من ذهب وفضة أو صحف فيها علم والأول أظهر‏.‏ وعن قتادة‏:‏ أحل الكنز لمن قبلنا وحرم علينا، وحرمت الغنيمة عليها وأحلت لنا‏.‏ ‏{‏وَكَانَ أَبُوهُمَا‏}‏ قيل‏:‏ جدهما السابع ‏{‏صالحا‏}‏ ممن يصحبني‏.‏ وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما‏:‏ بم حفظ الله الغلامين‏؟‏ قال‏:‏ بصلاح أبيهما‏.‏ قال‏:‏ فأبي وجدي خير منه ‏{‏فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا‏}‏ أي الحلم ‏{‏وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً‏}‏ مفعول له أو مصدر منصوب ب ‏{‏أراد ربك‏}‏ لأنه في معنى رحمهما ‏{‏مّن رَّبّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ‏}‏ وما فعلت ما رأيت ‏{‏عَنْ أَمْرِى‏}‏ عن اجتهادي وإنما فعلته بأمر الله والهاء تعود إلى الكل أو إلى الجدار ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأجوبة الثلاثة ‏{‏تَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً‏}‏ حذف التاء تخفيفاً‏.‏

وقد زل أقدام أقوام من الضلال في تفضيل الولي على النبي وهو كفر جلي حيث قالوا‏:‏ أمر موسى بالتعلم من الخضر وهو وليّ‏.‏ والجواب أن الخضر نبي وإن لم يكن كما زعم البعض، فهذا ابتلاء في حق موسى عليه السلام على أن أهل الكتاب يقولون‏:‏ إن موسى هذا ليس موسى بن عمران إنما هو موسى بن مانان، ومن المحال أن يكون الوليّ وليًّا إلا بإيمانه بالنبي ثم يكون النبي دون الوليّ، ولا غضاضة في طلب موسى العلم لأن الزيادة في العلم مطلوبة‏.‏ وإنما ذكر أولاً ‏{‏فأردت‏}‏ لأنه إفساد في الظاهر وهو فعله، وثالثاً ‏{‏فأراد ربك‏}‏ لأنه إنعام محض وغير مقدور البشر، وثانياً ‏{‏فأردنا‏}‏ لأنه إفساد من حيث الفعل إنعام من حيث التبديل‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معنى فأردنا فأراد الله عز وجل ومثله في القرآن كثير‏.‏

‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ‏}‏ أي اليهود على جهة الإمتحان، أو أبو جهل وأشياعه ‏{‏عَن ذِى القرنين‏}‏ هو الإسكندر الذي ملك الدنيا‏.‏ قيل‏:‏ ملكها مؤمنان‏:‏ ذو القرنين وسليمان، وكافران‏:‏ نمرود وبختنصر وكان بعد نمرود‏.‏ وقيل‏:‏ كان عبداً صالحاً ملّكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة وسخر له النور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه‏.‏ وقيل‏:‏ نبياً‏.‏ وقيل‏:‏ ملكاً من الملائكة‏.‏ وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ليس بملك ولا نبي ولكن كان عبداً صالحاً ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات ثم بعثه الله، فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمي ذا القرنين وفيكم مثله أراد نفسه‏.‏ قيل‏:‏ كان يدعوهم إلى التوحيد فيقتلونه فيحييه الله تعالى‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ «سمي ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا» يعني جانبيها شرقها وغربها‏.‏ وقيل‏:‏ كان له قرنان أي ضفيرتان، أو انقرض في وقته قرنان من الناس، أو لأنه ملك الروم وفارس أو الترك والروم، أو كان لتاجه قرنان أو على رأسه ما يشبه القرنين، أو كان كريم الطرفين أبا وأما وكان من الروم ‏{‏قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ‏}‏ من ذي القرنين ‏{‏ذِكْراً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 86‏]‏

‏{‏إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ‏(‏84‏)‏ فَأَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏85‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض‏}‏ جعلنا له فيها مكانة واعتلاء ‏{‏وَءَاتَيِنَاه مِن كُلّ شَئ‏}‏ أراده من أغراضه ومقاصده في ملكه ‏{‏سَبَباً‏}‏ طريقاً موصلاً إليه ‏{‏فَأَتْبَعَ سَبَباً‏}‏ والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة فأراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً‏.‏ يوصله إليه حتى بلغ، وكذلك أراد المشرق فأتبع سبباً، وأراد بلوغ السدين فأتبع سبباً‏.‏ ‏{‏فأتبع سبباً‏}‏ ‏{‏ثم أتبع‏}‏ كوفي وشامي الباقون‏:‏ بوصل الألف وتشديد التاء‏.‏ عن الأصمعي‏:‏ أتبع لحق واتبع اقتفى وإن لم يلحق ‏{‏حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس‏}‏ أي منتهى العمارة نحو المغرب وكذا المطلع قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بدء أمره أنه وجد في الكتب أن أحد أولاد سام يشرب من عين الحياة فيخلد فجعل يسير في طلبها والخضر وزيره وابن خالته فظفر فشرب ولم يظفر ذو القرنين» ‏{‏وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ‏}‏ ذات حمأة من حمئت البئر إذا صارت فيها الحمأة‏.‏ ‏{‏حامية‏}‏ شامي وكوفي غير حفص بمعنى حارة‏.‏ عن أبي ذر‏:‏ كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال‏:‏ «أتدري يا أبا ذر أين تغرب هذه‏؟‏» قلت الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ «فإنها تغرب في عين حامية‏.‏» وكان ابن عباس رضي الله عنهما عند معاوية فقرأ معاوية ‏{‏حامية‏}‏ فقال‏:‏ ابن عباس‏:‏ حمئة فقال معاوية لعبد الله بن عمرو‏:‏ كيف تقرؤها‏؟‏ فقال‏:‏ كما يقرأ أمير المؤمنين‏.‏ ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب‏؟‏ قال‏:‏ في ماء وطين كذلك نجده في التوراة فوافق قول ابن عباس رضي الله عنهما، ولا تنافي فجاز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعاً ‏{‏وَوَجَدَ عِندَهَا‏}‏ عند تلك العين ‏{‏قَوْماً‏}‏ عراة من الثياب لباسهم جلود الصيد وطعامهم ما لفظ البحر وكانوا كفاراً ‏{‏قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً‏}‏ إن كان نبياً فقد أوحى الله إليه بهذا وإلا فقد أوحي إلى نبي فأمره النبي به، أو كان إلهاماً خير بين أن يعذبهم بالقتل إن أصروا على أمرهم وبين أن يتخذ فيهم حسناً بإكرامهم وتعليم الشرائع إن آمنوا، أو التعذيب القتل وإتخاذ الحسن الأسر لأنه بالنظر إلى القتل إحسان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 90‏]‏

‏{‏قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏87‏)‏ وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ‏(‏88‏)‏ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏89‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ ذو القرنين ‏{‏أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ‏}‏ بالقتل ‏{‏ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً‏}‏ في القيامة يعني أما من دعوته إلى الإسلام فأبى إلا البقاء على الظلم العظيم وهو الشرك فذاك هو المعذب في الدارين‏.‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالحا‏}‏ أي عمل ما يقتضيه الإيمان ‏{‏فَلَهُ جَزَاء الحسنى‏}‏ فله جزاء الفعلة الحسنى التي هي كلمة الشهادة‏.‏ ‏{‏جزاءً الحسنى‏}‏ كوفي غير أبي بكر أي فله الفعلة الحسنى جزاء ‏{‏وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً‏}‏ أي ذا يسر أي لا نأمره بالصعب الشاق ولكن بالسهل المتيسر من الزكاة والخراج وغير ذلك ‏{‏ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ‏}‏ هم الزنج ‏{‏لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا‏}‏ من دون الشمس ‏{‏سِتْراً‏}‏ أي أبنية عن كعب أرضهم لا تمسك الأبنية وبها أسراب فإذا طلعت الشمس دخلوها فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم، أو الستر اللباس‏.‏ عن مجاهد‏:‏ من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 94‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ‏(‏91‏)‏ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏92‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ‏(‏93‏)‏ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي أمر ذي القرنين كذلك أي كما وصفناه تعظيماً لأمره ‏{‏وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ‏}‏ من الجنود والآلات وأسباب الملك ‏{‏خُبْراً‏}‏ نصب على المصدر لأن في ‏{‏أحطنا‏}‏ معنى خبرنا، أو بلغ مطلع الشمس مثل ذلك أي كما بلغ مغربها، أو تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم يعني أنهم كفرة مثلهم وحكمهم مثل حكمهم في تعذيبه لمن بقي منهم على الكفر وإحسانه إلى من آمن منهم ‏{‏ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ‏}‏ بين الجبلين وهما جبلان سد ذو القرنين ما بينهما‏.‏ ‏{‏السَّدين‏}‏ و‏{‏سًداً‏}‏ مكي وأبو عمرو وحفص ‏{‏السُّدين‏}‏ و‏{‏سدا‏}‏ حمزة وعلي، وبضمهما‏:‏ غيرهم‏.‏ قيل‏:‏ ما كان مسدوداً خلقة فهو مضموم، وما كان من عمل العباد فهو مفتوح‏.‏ وانتصب ‏{‏بين‏}‏ على أنه مفعول به ل ‏{‏بلغ‏}‏ كما انجر بالإضافة في ‏{‏هذا فراق بيني وبينك‏}‏ وكما ارتفع في ‏{‏لقد تقطع بينكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏ لأنه من الظروف التي تستعمل أسماء وظروفاً وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق ‏{‏وَجَدَ مِن دُونِهِمَا‏}‏ من ورائهما ‏{‏قَوْماً‏}‏ هم الترك ‏{‏لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً‏}‏ أي لا يكادون يفهمونه إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها‏.‏ ‏{‏يُفقهون‏}‏ حمزة وعلي أن لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه لأن لغتهم غريبة مجهولة‏.‏

‏{‏قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ‏}‏ هما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف، وهمزهما عاصم فقط‏.‏ وهما من ولد يافث أو يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم ‏{‏مُفْسِدُونَ فِى الأرض‏}‏ قيل كانوا يأكلون الناس‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يخرجوا أيام الربيع فلا يتركون شيئاً أخضر إلا أكلوه، ولا يابساً إلا احتملوه، ولا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح‏.‏ وقيل‏:‏ هم على صنفين طوال مفرطو الطول وقصار مفرطو القصر ‏{‏فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً‏}‏ ‏{‏خراجا‏}‏ حمزة وعلي أي جعلاً نخرجه من أموالنا ونظيرهما النول والنوال ‏{‏على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 96‏]‏

‏{‏قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ‏(‏95‏)‏ آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏قال ما مكَّني‏}‏ بالإدغام وبفكه مكي ‏{‏فِيهِ رَبّى خَيْرٌ‏}‏ أي ما جعلني فيه مكيناً من كثرة المال واليسار خير مما تبذلون لي من الخرج فلا حاجة لي إليه ‏{‏فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ‏}‏ بفعلة وصناع يحسنون البناء والعمل وبالآلات ‏{‏أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا‏}‏ جداراً وحاجزاً حصيناً موثقاً والردم أكبر من السد ‏{‏ءَاتُونِي زُبَرَ الحديد‏}‏ قطع الحديد والزبرة القطعة الكبيرة‏.‏ قيل‏:‏ حفر الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينها الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافيخ حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى، فاختلط والتصق بعضه وصار جلداً وصلدا، وقيل‏:‏ بعدما بين السدين فإنه فرسخ ‏{‏حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين‏}‏ بفتحتين جانبي الجبلين لأنها يتصادفان أي يتقابلان‏.‏ ‏{‏الصُّدَفين‏}‏ مكى وبصرى وشامي‏.‏ ‏{‏الصُّدْفين‏}‏ أبو بكر ‏{‏قَالَ انفخوا‏}‏ أي قال ذو القرنين للعملة‏:‏ انفخوا في الحديد ‏{‏حتى إِذَا جَعَلَهُ‏}‏ أي المنفوخ فيه وهو الحديد ‏{‏نَارًا‏}‏ كالنار ‏{‏قَالَ آتُونِى‏}‏ أعطوني ‏{‏أَفْرِغْ‏}‏ أصب ‏{‏عَلَيْهِ قِطْراً‏}‏ نحاساً مذاباً لأنه يقطر وهو منصوب ب ‏{‏أفرغ‏}‏ وتقديره آتوني قطراً أفرغ عليه قطراً فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ‏{‏قال ائتوني‏}‏ بوصل الألف‏:‏ حمزة وإذا ابتدأ كسر الألف أي جيئوني‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 101‏]‏

‏{‏فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ‏(‏97‏)‏ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ‏(‏98‏)‏ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ‏(‏99‏)‏ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ‏(‏100‏)‏ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا اسطاعوا‏}‏ بحذف التاء للخفة لأن التاء قريبة المخرج من الطاء ‏{‏أَن يَظْهَرُوهُ‏}‏ أن يعلوا السد ‏{‏وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْبًا‏}‏ أي لا حيلة لهم فيه من صعود لارتفاعه ولا نقب لصلابته ‏{‏قَالَ هذا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى‏}‏ أي هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده، أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته ‏{‏فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى‏}‏ فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتي ‏{‏جَعَلَهُ‏}‏ أي السد ‏{‏دَكَّاء‏}‏ أي مدكوكا مبسوطاً مسوى بالأرض وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك‏.‏ ‏{‏دكاء‏}‏ كوفي أي أرضاً مستوية ‏{‏وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً‏}‏ آخر قول ذي القرنين ‏{‏وَتَرَكْنَا‏}‏ وجعلنا ‏{‏بَعْضُهُمْ‏}‏ بعض الخلق ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ‏}‏ يختلط ‏{‏فِى بَعْضِ‏}‏ أي يطربون ويختلطون إنسهم وجنهم حيارى، ويجوز أن يكون الضمير ليأجوج ومأجوج وأنهم يموجون حين يخرجون مما وراء السد مزدحمين في البلاد‏.‏ ورُوي أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه، ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة بيت المقدس، ثم يبعث الله نغفا في أقفائهم فيدخل في آذانهم فيموتون ‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور‏}‏ لقيام الساعة ‏{‏فجمعناهم‏}‏ أي جمع الخلائق للثواب والعقاب ‏{‏جَمْعاً‏}‏ تأكيد ‏{‏وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ للكافرين عَرْضاً‏}‏ وأظهرناها لهم فرأوها وشاهدوها ‏{‏الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاء عَن ذِكْرِي‏}‏ عن آياتي التي ينظر إليها أو عن القرآن فأذكره بالتعظيم أو عن القرآن وتأمل معانيه ‏{‏وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً‏}‏ أي وكانوا صما عنه إلا أنه أبلغ إذ الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به وهؤلاء كأنهم أصميت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع‏.‏