فصل: تفسير الآيات رقم (18- 24)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 24‏]‏

‏{‏قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ‏(‏18‏)‏ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ‏(‏19‏)‏ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ‏(‏20‏)‏ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ‏(‏21‏)‏ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى ‏(‏22‏)‏ لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى ‏(‏23‏)‏ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا‏}‏ أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة ‏{‏وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِى‏}‏ أخبط ورق الشجر على غنمي لتأكل ‏{‏وَلِيَ فِيهَا مَأَرِبُ‏}‏ ‏{‏وَلِيُّ‏}‏ حفص جمع مأربة بالحركات الثلاث وهي الحاجة ‏{‏أخرى‏}‏ والقياس أخر‏.‏ وإنما قال ‏{‏أخرى‏}‏ رداً إلى الجماعة أو لنسق الآي وكذا ‏{‏الكبرى‏}‏ ولما ذكر بعضها شكراً أجمل الباقي حياء من التطويل، أو ليسأل عنها الملك العلام فيزيد في الإكرام‏.‏ والمآرب الأخر أنها كانت تماشيه وتحدثه وتحارب العدو والسباع وتصير رشاء فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً وتكونان شمعتين بالليل وتحمل زاده ويركزها فتثمر ثمرة يشتهيها ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب، وكانت تقيه الهوام‏.‏ والزيادة على الجواب لتعداد النعم شكراً، أو لأنها جواب سؤال آخر لأنه لما قال ‏{‏هِىَ عَصَايَ‏}‏ قيل له‏:‏ ما تصنع بها فأخذ يعدد منافعها‏.‏

‏{‏قَالَ أَلْقِهَا ياموسى‏}‏ اطرح عصاك لتفزع مما تتكئ عليه فلا تسكن إلا بنا وترى فيها كنه ما فيها من المآرب فتعتمد علينا في المطالب ‏{‏فألقاها‏}‏ فطرحها ‏{‏فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى‏}‏ تمشي سريعاً قيل انقلبت ثعباناً يبتلع الصخر والشجر، فلما رآها تبتلع كل شيء خاف‏.‏ وإنما وصفت بالحية هنا وبالثعبان وهو العظيم من الحيات وبالجان وهو الدقيق في غيرها لأن الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير، وجاز أن تنقلب حية صفراء دقيقة ثم يتزايد جرمها حتى تصير ثعباناً فأريد بالجان أول حالها وبالثعبان مآلها، أو لأنها كانت في عظم الثعبان وسرعة الجان‏.‏ وقيل‏:‏ كان بين لحييها أربعون ذراعاً‏.‏ ولما ‏{‏قَالَ‏}‏ له ربه ‏{‏خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ‏}‏ بلغ من ذهاب خوفه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها ‏{‏سَنُعِيدُهَا‏}‏ سنردها ‏{‏سِيَرتَهَا الأولى‏}‏ تأنيث الأول، والسيرة‏:‏ الحالة التي يكون عليها الإنسان غريزية كانت أو مكتسبة وهي في الأصل فعلة من السير كالركبة من الركوب ثم استعملت بمعنى الحالة والطريقة‏.‏ وانتصبت على الظرف أي سنعيدها في طريقتها الأولى أي في حال ما كانت عصا‏.‏ والمعنى نردها عصاً كما كانت، وأرى ذلك موسى عند المخاطبة لئلا يفزع منها إذا انقلبت حية عند فرعون، ثم نبه على آية أخرى فقال‏.‏

‏{‏واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ‏}‏ إلى جنبك تحت العضد وجناحا الإنسان جنباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا جناحين لأنه يجنحهما أي يميلهما عند الطيران والمعنى أدخلها تحت عضدك ‏{‏تَخْرُجْ بَيْضَاء‏}‏ لها شعاع كشعاع الشمس يغشى البصر ‏{‏مِنْ غَيْرِ سُوء‏}‏ برص ‏{‏آيةً أُخرى‏}‏ لنبوتك بيضاء وآية حالان معاً ومن غير سوء صلة بيضاء كقولك «ابيضت من غير سوء» وجاز أن ينتصب ‏{‏ءايَةً‏}‏ بفعل محذوف يتعلق به الأَمر‏.‏

‏{‏لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى‏}‏ أي خذ هذه الآية أيضاً بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى العظمى، أو نريك بهما الكبرى من آياتنا أو المعنى فعلنا ذلك لنريك من آياتنا الكبرى‏.‏

‏{‏اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى‏}‏ جاوز حد العبودية إلى دعوى الربوبية، ولما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي وعرف أنه كلف أمراً عظيماً يحتاج إلى صدر فسيح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 39‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ‏(‏25‏)‏ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ‏(‏26‏)‏ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ‏(‏27‏)‏ يَفْقَهُوا قَوْلِي ‏(‏28‏)‏ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ‏(‏29‏)‏ هَارُونَ أَخِي ‏(‏30‏)‏ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ‏(‏31‏)‏ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ‏(‏32‏)‏ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ‏(‏33‏)‏ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ‏(‏34‏)‏ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ‏(‏35‏)‏ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ‏(‏36‏)‏ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ‏(‏37‏)‏ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ‏(‏38‏)‏ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ رَبّ اشرح لِي صَدْرِى‏}‏ وسعه ليحتمل الوحي والمشاق ورديء الأخلاق من فرعون وجنده ‏{‏وَيَسّرْ لِى أَمْرِى‏}‏ وسهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون‏.‏ واشرح لي صدري آكد من اشرح صدري لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل لأنه يقول اشرح لي ويسر لي علم أن ثمة مشروحاً وميسراً ثم رفع الإبهام بذكر الصدر والأمر ‏{‏واحلل‏}‏ افتح ‏{‏عُقْدَةً مّن لّسَانِي‏}‏ وكان في لسانه رتة للجمرة التي وضعها على لسانه في صباه، وذلك أن موسى أخذ لحية فرعون ولطمه لطمة شديدة في صغره فأراد قتله فقالت آسية‏:‏ أيها الملك إنه صغير لا يعقل فجعلت في طشت ناراً وفي طشت يواقيت ووضعتهما لدى موسى فقصد اليواقيت فأمال الملك يده إلى النار فرفع جمرة فوضعها على لسانه فاحترق لسانه فصار لكنة منها‏.‏ وروي أن يده احترقت واجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ ولما دعاه قال‏:‏ إلى أي رب تدعوني‏؟‏ قال‏:‏ إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها‏.‏ و‏{‏مّن لّسَانِي‏}‏ صفة لعقدة كأنه قيل‏:‏ عقدة من عقد لساني، وهذا يشعر بأنه لم تزل العقدة بكمالها وأكثرهم على ذهاب جميعها ‏{‏يَفْقَهُواْ قَوْلِي‏}‏ عند تبليغ الرسالة‏.‏

‏{‏واجعل لّي وَزِيراً‏}‏ ظهيراً اعتمد عليه من الوزر الثقل لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنته، أو من الوزر الملجأ لأن الملك يعتصم برأيه ويلتجئ إليه في أموره، أو معيناً من الموازرة وهي المعاونة ف ‏{‏وَزِيراً‏}‏ مفعول أول ل ‏{‏اجَعَلَ‏}‏ والثاني ‏{‏مّنْ أَهْلِي‏}‏ أو ‏{‏لِي‏}‏ أَوْ ‏{‏وَزِيراً‏}‏ مفعولاه وقوله ‏{‏هارون‏}‏ عطف بيان ل ‏{‏وَزِيراً‏}‏ وقوله ‏{‏أَخِي‏}‏ بدل أو عطف بيان آخر و‏{‏وَزِيراً‏}‏ و‏{‏هارون‏}‏ مفعولاه وقدم ثانيهما على أولهما عناية بأمر الوزارة ‏{‏اشدد بِهِ أَزْرِى‏}‏ قو به ظهري وقيل الأزر القوة ‏{‏وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي‏}‏ اجعله شريكي في النبوة والرسالة‏.‏ ‏{‏اشدد‏}‏ و‏{‏أشركه‏}‏ على حكاية النفس شامي على الجواب، والباقون على الدعاء والسؤال ‏{‏كَيْ نُسَبّحَكَ‏}‏ نصلي لك وننزهك تسبيحاً ‏{‏كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً‏}‏ في الصلوات وخارجها ‏{‏إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً‏}‏ عالماً بأحوالنا فأجابه الله تعالى حيث ‏{‏قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى‏}‏ أعطيت مسؤولك فالسؤل الطلبة فعل بمعنى مفعول كخبز بمعنى مخبوز‏.‏ ‏{‏سولك‏}‏ بلا همز‏:‏ أبو عمرو‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ مَنَنَّا‏}‏ أنعمنا ‏{‏عَلَيْكَ مَرَّةً‏}‏ كرة ‏{‏أخرى‏}‏ قبل هذه ثم فسرها فقال ‏{‏إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمّكَ مَا يوحى‏}‏ إلهاماً أو مناماً حين ولدت وكان فرعون يقتل أمثالك‏.‏ و‏{‏إِذْ‏}‏ ظرف ل ‏{‏مَنَنَّا‏}‏ ثم فسر ما يوحى بقوله ‏{‏أَنِ اقذفيه‏}‏ ألقيه ‏{‏فِى التابوت‏}‏ و‏{‏أن‏}‏ مفسرة لأن الوحي بمعنى القول ‏{‏فاقذفيه فِى اليم‏}‏ النيل ‏{‏فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل‏}‏ الجانب وسمي ساحلاً لأن الماء يسحله أي يقشره، والصيغة أمر ليناسب ما تقدم ومعناه الإخبار أي يلقيه اليم بالساحل ‏{‏يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّي وَعَدُوٌّ لَّهُ‏}‏ يعني فرعون والضمائر كلها راجعة إلى موسى عليه السلام، ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت يفضي إلى تناثر النظم والمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل وإن كان هو التابوت لكن موسى في جوف التابوت‏.‏

رُوي أنها جعلت في التابوت قطناً محلوجاً فوضعته فيه وقيرته ثم ألقته في اليم، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينما هو جالس على رأس بركة مع آسية إذا بالتابوت فأمر به فأخرج ففتح فإذا بصبي أصبح الناس وجهاً فأحبه فرعون حباً شديداً فذلك قوله ‏{‏وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى‏}‏ يتعلق ‏{‏مِنّي‏}‏ ب ‏{‏ألقيت‏}‏ يعني إني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب فما رآه أحد إلا أحبه‏.‏ قال قتادة‏:‏ كان في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه ‏{‏وَلِتُصْنَعَ‏}‏ معطوف على محذوف تقديره وألقيت عليك محبة لتحب ولتصنع ‏{‏على عَيْنِى‏}‏ أي لتربى بمرأى مني وأصله من صنع الفرس أي أحسن القيام عليه يعني أنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به ‏{‏وَلِتُصْنَعَ‏}‏ بسكون اللام والجزم‏:‏ يزيد على أنه أمر منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 50‏]‏

‏{‏إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ‏(‏40‏)‏ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ‏(‏41‏)‏ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ‏(‏42‏)‏ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏43‏)‏ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ‏(‏44‏)‏ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ‏(‏45‏)‏ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ‏(‏46‏)‏ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ‏(‏47‏)‏ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏48‏)‏ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ‏(‏49‏)‏ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ تَمْشِى‏}‏ بدل من ‏{‏إِذْ أَوْحَيْنَا‏}‏ لأن مشي أخته كان منة عليه ‏{‏أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ‏}‏ رُوي أن أخته مريم جاءت متعرفة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها وكان لا يقبل ثدي امرأة فقالت‏:‏ هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه فيربيه وأرادت بذلك المرضعة الأم‏.‏ وتذكير الفعل للفظ ‏{‏مِنْ‏}‏، فقالوا‏:‏ نعم فجاء بالأم فقبل ثديها وذلك قوله ‏{‏فرجعناك‏}‏ فرددناك ‏{‏إلى أُمّكَ‏}‏ كما وعدناها بقولنا ‏{‏إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏كَى تَقَرَّ عَيْنُها‏}‏ بلقائك ‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ‏}‏ على فراقك ‏{‏وَقَتَلْتَ نَفْساً‏}‏ قبطياً كافراً ‏{‏فنجيناك مِنَ الغم‏}‏ من القود‏.‏ قيل الغم‏:‏ القتل بلغة قريش وقيل‏:‏ اغتم بسبب القتل خوفاً من عقاب الله تعالى ومن اقتصاص فرعون فغفر الله له باستغفاره ‏{‏قَالَ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فاغفر لِى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 16‏]‏ ونجاه من فرعون بأن ذهب به من مصر إلى مدين ‏{‏وفتناك فُتُوناً‏}‏ ابتليناك ابتلاء بإيقاعك في المحن وتخليصك منها، والفتون مصدر كالقعود أو جمع فتنة أي فتناك ضروباً من الفتن، والفتنة المحنة وكل ما يبتلي الله به عباده فتنة‏.‏ ‏{‏وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏ ‏{‏فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ‏}‏ هي بلدة شعيب عليه السلام على ثمان مراحل من مصر‏.‏ قال وهب‏:‏ لبث عند شعيب ثمانياً وعشرين سنة، عشر منها مهر لصفوراء، وأقام عنده ثمان عشرة سنة بعدها حتى ولد له أولاد‏.‏ ‏{‏ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى‏}‏ أي موعد ومقدار للرسالة وهو أربعون سنة ‏{‏واصطنعتك لِنَفْسِي‏}‏ اخترتك واصطفيتك لوحي ورسالتي لتتصرف على إرادتي ومحبتي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ اخترتك لأمري وجعلتك القائم بحجتي والمخاطب بيني وبين خلقي كأني أقمت عليهم الحجة وخاطبتهم‏.‏

‏{‏اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بئاياتى‏}‏ بمعجزاتي ‏{‏وَلاَ تَنِيَا‏}‏ تفترا من الونى وهو الفتور والتقصير ‏{‏فِى ذِكْرِى‏}‏ أي اتخذا ذكري جناحاً تطيران به أو أريد بالذكر تبليغ الرسالة فالذكر يقع على سائر العبادات وتبليغ الرسالة من أعظمها ‏{‏اذهبا إلى فِرْعَوْنَ‏}‏ كرر لأن الأول مطلق والثاني مقيد ‏{‏إِنَّهُ طغى‏}‏ جاوز الحد بإدعائه الربوبية ‏{‏فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً‏}‏ الطفا له في القول لما له من حق تربية موسى، أو كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث‏:‏ أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة‏.‏ أو عداه شباباً لا يهرم بعده وملكاً لا ينزع عنه إلا بالموت، أو هو قوله ‏{‏هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ فتخشى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 19‏]‏ أي يخاف أن يكون الأمر كما تصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة‏.‏ وإنما قال ‏{‏لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ‏}‏ مع علمه أنه لا يتذكر لأن الترجي لهما، أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يطمع أن يثمر عمله‏.‏

وجدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لعله يتذكر متذكر أو يخشى خاش وقد كان ذلك من كثير من الناس‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏لَعَلَّ‏}‏ من الله تعالى واجب وقد تذكر ولكن حين لم ينفعه التذكر‏.‏ وقيل‏:‏ تذكر فرعون وخشي وأراد اتباع موسى فمنعه هامان وكان لا يقطع أمراً دونه‏.‏ وتليت عند يحيى بن معاذ فبكى وقال‏:‏ هذا رفقك بمن يقول أنا إله فكيف بمن قال أنت الإله‏؟‏ وهذا رفقك بمن قال أنا ربكم الأعلى فكيف بمن قال سبحان ربي الأعلى‏.‏

‏{‏قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا‏}‏ يعجل علينا بالعقوبة ومنه الفارط يقال فرط عليه أي عجل ‏{‏أَوْ أَن يطغى‏}‏ يجاوز الحد في الإساءة إلينا ‏{‏قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا‏}‏ أي حافظكما وناصركما ‏{‏أَسْمِعْ‏}‏ أقوالكما ‏{‏وأرى‏}‏ أفعالكما‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أسمع دعاءكما فأجيبه وأرى ما يراد بكما فأمنع لست بغافل عنكما فلا تهتما ‏{‏فَأْتِيَاهُ‏}‏ أي فرعون ‏{‏فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ‏}‏ إليك ‏{‏فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل‏}‏ أي أطلقهم عن الاستعباد والاسترقاق ‏{‏وَلاَ تُعَذّبْهُمْ‏}‏ بتكليف المشاق ‏{‏قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ‏}‏ بحجة على صدق ما ادعيناه، وهذه الجملة جارية من الجملة الأولى وهي ‏{‏إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ‏}‏ مجرى البيان والتفسير والتفصيل لأن دعوى الرسالة لا تثبث إلا ببينتها وهي المجيء بالآي فقال فرعون‏:‏ وما هي‏؟‏ فأخرج يده لها شعاع كشعاع الشمس ‏{‏والسلام على مَنِ اتبع الهدى‏}‏ أي سلم من العذاب من أسلم وليس بتحية‏.‏ وقيل‏:‏ وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين‏.‏

‏{‏إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العذاب‏}‏ في الدنيا والعقبى ‏{‏على مَن كَذَّبَ‏}‏ بالرسل ‏{‏وتولى‏}‏ أعرض عن الإيمان وهي أرجى آي القرآن لأنه جعل جنس السلام للمؤمن وجنس العذاب على المكذب وليس وراء الجنس شيء، فأتياه وأديا الرسالة وقالا له ما أمرا به‏.‏

‏{‏قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى‏}‏ خاطبهما ثم نادى أحدهما لأن موسى هو الأصل في النبوة وهارون تابعه ‏{‏قَالَ رَبُّنَا الذى أعطى كُلَّ شَئ خَلْقَهُ‏}‏ ‏{‏خَلَقَهُ‏}‏ أول مفعولي ‏{‏أعطى‏}‏ أي أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، أو ثانيهما أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذا الأنف والرجل واليد كل واحد منها مطابق للمنفعة المنوطة بها، وقرأ نصير ‏{‏خَلَقَهُ‏}‏ صفة للمضاف أو للمضاف إليه أي أعطى كل شيء مخلوق عطاء ‏{‏ثُمَّ هدى‏}‏ عرف كيف يرتفق بما أعطى للمعيشة في الدنيا والسعادة في العقبى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 62‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ‏(‏51‏)‏ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ‏(‏52‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ‏(‏53‏)‏ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏54‏)‏ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ‏(‏55‏)‏ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ‏(‏56‏)‏ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ‏(‏57‏)‏ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ‏(‏58‏)‏ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ‏(‏59‏)‏ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ‏(‏60‏)‏ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ‏(‏61‏)‏ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى‏}‏ فما حال الأمم الحالية والرمم البالية، سأله عن حال من تقدم من القرون وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى مجيباً ‏{‏عِلْمُهَا عِندَ رَبّى‏}‏ مبتدأ وخبر ‏{‏فِى كتاب‏}‏ أي اللوح خبر ثانٍ أي هذا سؤال عن الغيب وقد استأثر الله به لا يعلمه إلا هو وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ ‏{‏لاَّ يَضِلُّ رَبّى‏}‏ أي لا يخطئ شيئاً يقال‏:‏ ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له أي لا يخطئ في سعادة الناس وشقاوتهم ‏{‏وَلاَ يَنسَى‏}‏ ثوابهم وعقابهم‏.‏ وقيل‏:‏ لا ينسى ما علم فيذكره الكتاب ولكن ليعلم الملائكة أن معمول الخلق يوافق معلومه‏.‏

‏{‏الذى‏}‏ مرفوع صفة ل ‏{‏رَبّى‏}‏ أو خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح ‏{‏جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً‏}‏ كوفي وغيرهم ‏{‏مهادا‏}‏ وهما لغتان لما يبسط ويفرش ‏{‏وَسَلَكَ‏}‏ أي جعل ‏{‏لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً‏}‏ طرقاً ‏{‏وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء‏}‏ أي مطراً ‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ‏}‏ بالماء‏.‏ نقل الكلام من الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع للافتنان‏.‏ وقيل‏:‏ تم كلام موسى ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بقوله ‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ‏}‏ وقيل‏:‏ هذا كلام موسى أي فأخرجنا نحن بالحراثة والغرس ‏{‏أزواجا‏}‏ أصنافاً ‏{‏مّن نبات‏}‏ هو مصدر سمي به النابت فاستوى فيه الواحد والجمع ‏{‏شتى‏}‏ صفة للأزواج أو للنبات جمع شتيت كمريض ومرضى أي إنها مختلفة النفع واللون والرائحة والشكل بعضها للناس وبعضها للبهائم، ومن نعمة الله تعالى أن أرزاقنا تحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجاتنا مما لا نقدر على أكله قائلين ‏{‏كُلُواْ وارعوا أنعامكم‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏فَأَخْرَجْنَا‏}‏ والمعنى أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ في الذي ذكرت ‏{‏لآيَاتٍ‏}‏ لدلالات ‏{‏لأُِوْلِي النهى‏}‏ لذوي العقول واحدها نهية لأنها تنهى عن المحظور أو ينتهى إليها في الأمور ‏{‏مِنْهَا‏}‏ من الأرض ‏{‏خلقناكم‏}‏ أي أباكم آدم عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ يعجن كل نطفة بشيء من تراب مدفنه فيخلق من التراب والنطفة معاً أو لأن النطفة من الأغذية وهي من الأرض ‏{‏وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ‏}‏ إذا متم فدفنتم ‏{‏وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ‏}‏ عند البعث ‏{‏تَارَةً أخرى‏}‏ مرة أخرى والمراد بإخراجهم أنه يؤلف أجزاءهم المتفرقة المختلطة بالتراب ويردهم كما كانوا أحياء ويخرجهم إلى المحشر، عدد الله عليهم ما علق بالأرض من مرافقهم حيث جعلها لهم فراشاً ومهاداً يتقلبون عليها، وسوى لهم فيها مسالك يترددون فيها كيف شاؤوا، وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم وعلوفات بهائمهم وهي أصلهم الذي منه تفرعوا، وأمهم التي منها ولدوا وهي كفانهم إذا ماتوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 71‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ‏(‏63‏)‏ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ‏(‏64‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ‏(‏65‏)‏ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ‏(‏66‏)‏ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ‏(‏67‏)‏ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ‏(‏68‏)‏ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ‏(‏69‏)‏ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ‏(‏70‏)‏ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ إِنْ هاذان لساحران‏}‏ يعني موسى وهارون‏.‏ قرأ أبو عمرو ‏{‏إن هَذينِ لساحران‏}‏ وهو ظاهر ولكنه مخالف للإمام، وابن كثير وحفص والخليل وهو أعرف بالنحو واللغة ‏{‏إِنْ هاذان لساحران‏}‏ بتخفيف ‏{‏إن‏}‏ مثل قولك «إن زيد لمنطلق» واللام هي الفارقة بين «إن» النافية والمخففة من الثقيلة‏.‏ وقيل‏:‏ هي بمعنى «ما» واللام بمعنى إلا أي ما هذان إلا ساحران دليله قراءة أبيّ ‏{‏إن ذان إلا ساحران‏}‏ وغيرهم ‏{‏إِنْ هاذان لساحران‏}‏ قيل هي لغة بلحارث بن كعب وخثعم ومراد وكنانة فالتثنية في لغتهم بالألف أبداً فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب كعصا وسعدى قال‏:‏

إن أباها وأبا أباها *** قد بلغا في المجد غايتاها

وقال الزجاج‏:‏ إن بمعنى نعم، قال الشاعر‏:‏

ويقلن شيب قد علا *** ك وقد كبرت فقلت إنه

أي نعم والهاء للوقف‏.‏ و‏{‏هذان‏}‏ مبتدأ و‏{‏ساحران‏}‏ خبر مبتدأ محذوف واللام داخلة على المبتدأ المحذوف تقديره‏:‏ هذان لهما ساحران فيكون دخولهما في موضعها الموضوع لها وهو الابتداء، وقد يدخل اللام في الخبر كما يدخل في المبتدأ قال‏:‏

خالي لأنت ومن جرير خاله *** قال‏:‏ فعرضته على المبرد فرضيه وقد زيفه أبو عليّ‏.‏ ‏{‏يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ‏}‏ مصر ‏{‏بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ‏}‏ بدينكم وشريعتكم ‏{‏المثلى‏}‏ الفضلى تأنيث الأمثل وهو الأفضل ‏{‏فَأَجْمِعُواْ‏}‏ فأحكموا أي اجعلوه مجمعاً عليه حتى لا تختلفوا‏.‏ ‏{‏فَأَجْمِعُواْ‏}‏ أبو عمرو ويعضده ‏{‏فَجَمَعَ كَيْدَهُ‏}‏ ‏{‏كَيْدَكُمْ‏}‏ هو ما يكاد به ‏{‏ثُمَّ ائتوا صَفّاً‏}‏ مصطفين حال أمروا بأن يأتوا صفاً لأنه أهيب في صدور الرائين ‏{‏وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى‏}‏ وقد فاز من غلب وهو اعتراض‏.‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي السحرة ‏{‏ياموسى إِمَّا أَن تُلْقِيَ‏}‏ عصاك أولاً ‏{‏وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى‏}‏ ما معنا وموضع «أن» مع ما بعده فيهما نصب بفعل مضمر، أو رفع بأنه خبر مبتدأ محذوف معناه اختر أحد الأمرين، أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا‏.‏ وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن معه وكأنه تعالى ألهمهم ذلك وقد وصلت إليهم بركته وعلم موسى اختيار إلقائهم أولاً حتى ‏{‏قَالَ بَلْ أَلْقُواْ‏}‏ أنتم أولاً ليبرزوا ما معهم من مكايد السحر ويظهر الله سلطانه ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه، ويسلط المعجزة على السحر فتمحقه فيصير آية نيرة للناظرين وعبرة بينة للمعتبرين فألقوا ‏{‏فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ‏}‏ يقال في ‏{‏إِذَا‏}‏ هذه‏:‏ إذا المفاجأة والتحقيق أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها وجملة تضاف إليها، وخصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة والجملة ابتدائية لا غير والتقدير‏:‏ ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي ‏{‏يُخَيَّلُ‏}‏ وبالتاء‏:‏ ابن ذكوان ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ إلى موسى ‏{‏مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى‏}‏ رفع بدل اشتمال من الضمير في ‏{‏يُخَيَّلُ‏}‏ أي يخيل الملقى‏.‏

رُوي أنهم لطخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت فخيلت ذلك‏.‏

‏{‏فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً موسى‏}‏ أضمر في نفسه خوفاً ظنًّا منه أنها تقصده للجبلة البشرية أو خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه ‏{‏قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى‏}‏ الغالب القاهر‏.‏ وفي ذكر «إن» و«أنت» وحرف التعريف ولفظ العلو وهو الغلبة الظاهرة مبالغة بينة‏.‏

‏{‏وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ‏}‏ بسكون اللام والفاء وتخفيف القاف‏:‏ حفص و‏{‏تَلْقَفْ‏}‏‏:‏ ابن ذكوان، الباقون ‏{‏تَلْقَفْ‏}‏ ‏{‏مَا صَنَعُواْ‏}‏ زوراً وافتعلوا أي اطرح عصاك تبتلع عصيهم وحبالهم‏.‏ ولم يقل عصاك تعظيماً لها أي لا تحتفل بما صنعوا فإن ما في يمينك أعظم منها، أو تحقيراً أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الفرد الذي في يمينك فإنه بقدرتنا يتلقفها على وحدته وكثرتها ‏{‏إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ‏}‏ كوفي غير عاصم سحر بمعنى ذي سحر أو ذوي سحر أو هم لتوغلهم في السحر كأنهم السحر، و‏{‏كَيْدَ‏}‏ بالرفع على القراءتين و«ما» موصولة أو مصدرية‏.‏ وإنما وحد ‏{‏ساحر‏}‏ ولم يجمع لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد، فلو جمع لخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى إلى قوله ‏{‏وَلاَ يُفْلِحُ الساحر‏}‏ أي هذا الجنس ‏{‏حَيْثُ أتى‏}‏ أينما كان فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا فلعظم ما رأوا من الآية وقعوا إلى السجود فذلك قوله ‏{‏فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّداً‏}‏ قال الأخفش‏:‏ من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا فما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين‏.‏ رُوي أنهم رأوا الجنة ومنازلهم فيها في السجود فرفعوا رؤوسهم ثم ‏{‏قَالُواْ امَنَّا بِرَبّ هارون وموسى‏}‏ وإنما قدم «هارون» هنا وأخر في الشعراء محافظة للفاصلة ولأن الواو لا توجب ترتيباً ‏{‏قَالَ ءامَنتُمْ‏}‏ بغير مد‏:‏ حفص، وبهمزة ممدودة‏:‏ بصري وشامي وحجازي، وبهمزتين‏:‏ غيرهم ‏{‏لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ‏}‏ أي لموسى‏.‏ يقال‏:‏ آمن له وآمن به ‏{‏إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذى عَلَّمَكُمُ السحر‏}‏ لعظيمكم أو لمعلمكم، تقول أهل مكة للمعلم‏:‏ أمرني كبيري ‏{‏فَلأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ‏}‏ القطع من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لأن كل واحد من العضوين يخالف الآخر بأن هذا يد وذاك رجل وهذا يمين وذاك شمال، و«من» لابتداء الغاية لأن القطع مبتدأ وناشئ من مخالفة العضو، ومحل الجار والمجرور النصب على الحال يعني لأقطعنها مختلفات لأنها إذا خالف بعضها بعضاً فقد اتصفت بالاختلاف، شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن المظروف في الظرف فلهذا قال ‏{‏وَلأُصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النخل‏}‏ وخص النخل لطول جذوعها ‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً‏}‏ أنا على ترك إيمانكم بي أو رب موسى على ترك الإيمان به‏.‏ وقيل‏:‏ يريد نفسه لعنه الله وموسى صلوات الله وسلامه عليه بدليل قوله ‏{‏آمنتم له‏}‏ واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله كقوله ‏{‏يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 61‏]‏ ‏{‏وأبقى‏}‏ أدوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 84‏]‏

‏{‏قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏72‏)‏ إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏73‏)‏ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏74‏)‏ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا ‏(‏75‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏76‏)‏ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ‏(‏77‏)‏ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ‏(‏78‏)‏ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ‏(‏79‏)‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ‏(‏80‏)‏ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ‏(‏81‏)‏ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ‏(‏82‏)‏ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ‏(‏83‏)‏ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ‏}‏ لن نختارك ‏{‏على مَا جَاءنَا مِنَ البينات‏}‏ القاطعة الدالة على صدق موسى ‏{‏والذى فَطَرَنَا‏}‏ عطف على ‏{‏مَا جَاءنَا‏}‏ أي لن نختارك على الذي جاءنا ولا على الذي خلقنا، أو قسم وجوابه ‏{‏لَن نُّؤْثِرَكَ‏}‏ مقدم على القسم ‏{‏فاقض مَا أَنتَ قَاضٍ‏}‏ فاصنع ما أنت صانع من القتل والصلب قال‏:‏

وعليهما مسرودتان قضاهما *** أي صنعهما أو احكم ما أنت حاكم ‏{‏إنما تقضي هذه الحياة الدنيا‏}‏ أي في هذه الحياة الدنيا فانتصب على الظرف أي إنما تحكم فينا مدة حياتنا‏.‏

‏{‏أَنَاْ ءامَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ‏}‏ «ما» موصولة منصوبة بالعطف على ‏{‏خطايانا‏}‏ ‏{‏مِنَ السحر‏}‏ حال من «ما»، روي أنهم قالوا لفرعون‏:‏ أرنا موسى نائماً ففعل فوجدوه تحرسه عصاه فقالوا‏:‏ ما هذا بسحر الساحر إذا نام بطل سحره فكرهوا معارضته خوف الفضيحة فأكرههم فرعون على الإتيان بالسحر وضر فرعون جهله به ونفعهم علمهم بالسحر فكيف بعلم الشرع ‏{‏والله خَيْرُ‏}‏ ثواباً لمن أطاعه ‏{‏وأبقى‏}‏ عقاباً لمن عصاه وهو رد لقول فرعون ‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى‏}‏‏.‏

‏{‏أَنَّهُ‏}‏ هو ضمير الشأن ‏{‏مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً‏}‏ كافراً ‏{‏فَإِنَّ لَهُ‏}‏ للمجرم ‏{‏جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا‏}‏ فيستريح بالموت ‏{‏وَلاَ يحيى‏}‏ حياة ينتفع بها ‏{‏وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً‏}‏ مات على الإيمان ‏{‏قَدْ عَمِلَ الصالحات‏}‏ بعد الإيمان ‏{‏فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدرجات العلى‏}‏ جمع العليا ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ بدل من ‏{‏الدرجات‏}‏ ‏{‏تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا‏}‏ دائمين ‏{‏وذلك جَزَاء مَن تزكى‏}‏ تطهر من الشرك بقول لا إله إلا الله‏.‏ قيل‏:‏ هذه الآيات الثلاث حكاية قولهم‏.‏ وقيل‏:‏ خبر من الله تعالى لا على وجه الحكاية وهو أظهر ‏{‏وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى‏}‏ لما أراد الله تعالى إهلاك فرعون وقومه أمر موسى أن يخرج بهم من مصر ليلاً ويأخذ بهم طريق البحر ‏{‏فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِى البحر‏}‏ اجعل لهم من قولهم ضرب له في ماله سهماً ‏{‏يَبَساً‏}‏ أي يابساً وهو مصدر وصف به يقال‏:‏ يبس يَبسا ويُبسا ‏{‏لاَّ تَخَافُ‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏فاضرب‏}‏ أي اضرب لهم طريقاً غير خائف‏.‏ ‏{‏لاَ تَخَفْ‏}‏ حمزة على الجواب ‏{‏دَرَكاً‏}‏ هو اسم من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك ‏{‏وَلاَ تخشى‏}‏ الغرق وعلى قراءة حمزة ‏{‏وَلاَ تخشى‏}‏ استئناف أي وأنت لا تخشى أو يكون الألف للإطلاق كما في ‏{‏وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏ فخرج بهم موسى من أول الليل وكانوا سبعين ألفاً وقد استعاروا حليهم فركب فرعون في ستمائة ألف من القبط فقص أثرهم فذلك قوله ‏{‏فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ‏}‏ هو حال أي خرج خلفهم ومعه جنوده ‏{‏فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم‏}‏ أصابهم من البحر ‏{‏مَا غَشِيَهُمْ‏}‏ هو من جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة أي غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله عز وجل ‏{‏وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ‏}‏ عن سبيل الرشاد ‏{‏وَمَا هدى‏}‏ وما أرشدهم إلى الحق والسداد وهذا رد لقوله

‏{‏وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 29‏]‏‏.‏ ثم ذكر منته على بني إسرائيل بعد ما أنجاهم من البحر وأهلك فرعون وقومه بقوله ‏{‏يابنى إسراءيل‏}‏ أي أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي وقلنا يا بني إسرائيل ‏{‏قَدْ أنجيناكم مّنْ عَدُوّكُمْ‏}‏ أي فرعون ‏{‏وواعدناكم‏}‏ بإيتاء الكتاب ‏{‏جَانِبِ الطور الأيمن‏}‏ وذلك أن الله عز وجل وعد موسى أن يأتي هذا المكان ويختار سبعين رجلاً يحضرون معه لنزول التوراة‏.‏ وإنما نسب إليهم المواعدة لأنها كانت لنبيهم ونقبائهم وإليهم رجعت منافعها التي قام بها شرعهم ودينهم‏.‏ و‏{‏الأيمن‏}‏ نصب لأنه صفة ‏{‏جَانِبٍ‏}‏ وقرئ بالجر على الجواز ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى‏}‏ في التيه وقلنا لكم‏.‏

‏{‏كُلُواْ مِن طيبات‏}‏ حلالات ‏{‏مَا رزقناكم‏}‏ ‏{‏أنجيتكم‏}‏ ‏{‏وواعدتكم‏}‏ ‏{‏ورزقتكم‏}‏ كوفي غير عاصم ‏{‏وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ‏}‏ ولا تتعدوا حدود الله فيه بأن تكفروا النعم وتنفقوها في المعاصي أو لا يظلم بعضكم بعضاً ‏{‏فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى‏}‏ عقوبتي ‏{‏وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هوى‏}‏ هلك أو سقط سقوطاً لا نهوض بعده، وأصله أن يسقط من جبل فيهلك وتحقيقه سقط من شرف الإيمان إلى حفرة من حفر النيران‏.‏ قرأ علي ‏{‏فَيَحِلَّ‏}‏ ‏{‏ويحلل‏}‏ والباقون بكسرهما‏.‏ فالمكسور في معنى الوجوب من حل الدين يحل إذا وجب أداؤه، والمضموم في معنى النزول ‏{‏وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ‏}‏ عن الشرك ‏{‏وَءامَنَ‏}‏ وحد الله تعالى وصدقه فيما أنزل ‏{‏وَعَمِلَ صالحا‏}‏ أدى الفرائض ‏{‏ثُمَّ اهتدى‏}‏ ثم استقام وثبت على الهدى المذكور وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح‏.‏

‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ‏}‏ أي وأي شيء عجل بك ‏{‏عَن قَومِكَ ياموسى‏}‏ أي عن السبعين الذين اختارهم وذلك أنه مضى معهم إلى الطور على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه وأمرهم أن يتبعوه قال الله تعالى ‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ‏}‏ أي وأي شيء أوجب عجلتك استفهام إنكار و‏{‏مَا‏}‏ مبتدأ و‏{‏أَعْجَلَكَ‏}‏ الخبر ‏{‏قَالَ هُمْ أُوْلاء على أَثَرِى‏}‏ أي هم خلفي يلحقون بي وليس بيني وبينهم إلا مسافة يسيرة‏.‏ ثم ذكر موجب العجلة فقال ‏{‏وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ‏}‏ أي إلى الموعد الذي وعدت ‏{‏لترضى‏}‏ لتزداد عني رضاً وهذا دليل على جواز الاجتهاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 96‏]‏

‏{‏قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ‏(‏85‏)‏ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ‏(‏86‏)‏ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ‏(‏87‏)‏ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ‏(‏88‏)‏ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ‏(‏89‏)‏ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ‏(‏90‏)‏ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ‏(‏91‏)‏ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ‏(‏92‏)‏ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ‏(‏93‏)‏ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ‏(‏94‏)‏ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ‏(‏95‏)‏ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ‏}‏ ألقيناهم في فتنة ‏{‏مِن بَعْدِكَ‏}‏ من بعد خروجك من بينهم والمراد بالقوم الذين خلفهم مع هارون ‏{‏وَأَضَلَّهُمُ السامرى‏}‏ بدعائه إياهم إلى عبادة العجل وإجابتهم له وهو منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة‏.‏ وقيل‏:‏ كان علجاً من كرمان فاتخذ عجلاً واسمه موسى بن ظفر وكان منافقاً ‏{‏فَرَجَعَ موسى‏}‏ من مناجات ربه ‏{‏إلى قَوْمِهِ غضبان أَسِفًا‏}‏ شديد الغضب أو حزيناً ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً‏}‏ وعدهم الله أن يعطيهم التوراة التي فيها هدى ونور وكانت ألف سورة كل سوره ألف آية يحمل أسفارها سبعون جملاً ولا وعد أحسن من ذلك ‏{‏أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد‏}‏ أي مدة مفارقتي إياكم، والعهد الزمان، يقال‏:‏ طال عهدي بك أي طال زماني بسبب مفارقتك ‏{‏أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ أي أردتم أن تفعلوا فعلاً يجب به عليكم الغضب من ربكم ‏{‏فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى‏}‏ وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الآيات فأخلفوا موعده باتخاذ العجل‏.‏

‏{‏قَالُواْ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا‏}‏ بفتح الميم‏:‏ مدني وعاصم، وبضمها‏:‏ حمزة وعلي، وبكسرها‏:‏ غيرهم، أي ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفنا موعدك ولكنا غلبنا من جهة السامري وكيده ‏{‏ولكنا حُمّلْنَا‏}‏ بالضم والتشديد‏:‏ حجازي وشامي وحفص، وبفتح الحاء والميم مع التخفيف‏:‏ غيرهم ‏{‏أَوْزَاراً مّن زِينَةِ القوم‏}‏ أثقالاً من حلي القبط، أو أرادوا بالأوزار أنها آثام وتبعات لأنهم قد استعاروها ليلة الخروج من مصر بعلة أن لنا غداً عيداً، فقال السامري‏:‏ إنما حبس موسى لشؤم حرمتها لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي على أن الغنائم لم تكن تحل حينئذ فأحرقوها فخبأ في حفرة النار قالب عجل فانصاغت عجلاً مجوفاً فخار بدخول الريح في مجار منه أشباه العروق‏.‏ وقيل‏:‏ نفخ فيه تراباً من موضع قوائم فرس جبريل عليه السلام يوم الغرق وهو فرس حياة فحيي فخار ومالت طباهم إلى الذهب فعبدوه ‏{‏فَقَذَفْنَاهَا‏}‏ في نار السامري التي أوقدها في الحفرة وأمرنا أن نطرح فيها الحلي ‏{‏فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامرى‏}‏ ما معه من الحلي في النار أو ما معه من التراب الذي أخذه من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام‏.‏

‏{‏فَأَخْرَجَ لَهُمْ‏}‏ السامري من الحفرة ‏{‏عِجْلاً‏}‏ خلقه الله تعالى من الحلي التي سبكتها النار ابتلاء ‏{‏جَسَداً‏}‏ مجسداً ‏{‏لَّهُ خُوَارٌ‏}‏ صوت وكان يخور كما تخور العجاجيل ‏{‏فَقَالُواْ‏}‏ أي السامري وأتباعه ‏{‏هذا إلهكم وإله موسى‏}‏ فأجاب عامتهم إلا اثني عشر ألفاً ‏{‏فَنَسِىَ‏}‏ أي فنسي موسى ربه هنا وذهب يطلبه عند الطور، أو هو ابتداء كلام من الله تعالى أي نسي السامري ربه وترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر، أو نسي السامري الاستدلال على أن العجل لا يكون إلهاً بدليل قوله ‏{‏أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ‏}‏ أي أنه لا يرجع ف ‏{‏أن‏}‏ مخففة من الثقيلة ‏{‏إِلَيْهِمْ قَوْلاً‏}‏ أي لا يجيبهم ‏{‏وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً‏}‏ أي هو عاجز عن الخطاب والضر والنفع فكيف تتخذونه إلهاً وقيل‏:‏ إنه ما خار إلا مرة ‏{‏وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ‏}‏ لمن عبدوا العجل ‏{‏هارون مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل رجوع موسى إليهم ‏{‏ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ‏}‏ ابتليتم بالعجل فلا تعبدوه ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن‏}‏ لا العجل ‏{‏فاتبعونى‏}‏ كونوا على ديني الذي هو الحق ‏{‏وَأَطِيعُواْ أَمْرِى‏}‏ في ترك عبادة العجل ‏{‏قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عاكفين‏}‏ أي لن نزال مقيمين على العجل وعبادته ‏{‏حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى‏}‏ فننظره هل يعبده كما عبدناه وهل صدق السامري أم لا‏.‏

فلما رجع موسى ‏{‏قَالَ يَا هارون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ‏}‏ بعبادة العجل‏.‏

‏{‏أَلاَّ تَتَّبِعَنِ‏}‏ بالياء في الوصل والوقف‏:‏ مكي، وافقه أبو عمرو ونافع في الوصل، وغيرهم بلا ياء أي ما دعاك إلى ألا تتبعني لوجود التعلق بين الصارف عن فعل الشي وبين الداعي إلى تركه‏.‏ وقيل‏:‏ «لا» مزيدة والمعنى أي شيء منعك أن تتبعني حين لم يقبلوا قولك وتلحق بي وتخبرني‏؟‏ أو ما منعك أن تتبعني في الغضب لله، وهلا قاتلت من كفر بمن آمن ومالك لم تباشر الأمر كما كنت أباشره أنا لو كنت شاهداً‏؟‏ ‏{‏أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى‏}‏ أي الذي أمرتك به من القيام بمصالحهم‏.‏ ثم أخذ بشعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله غضباً وإنكاراً عليه لأن الغيرة في الله ملكته ‏{‏قَالَ يَبْنَؤُمَّ‏}‏ وبخفض الميم‏:‏ شامي وكوفي غير حفص، وكان لأبيه وأمه عند الجمهور ولكنه ذكر الأم استعطافاً وترفيقاً ‏{‏لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى‏}‏ ثم ذكر عذره فقال ‏{‏إِنّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ‏}‏ إن قاتلت بعضهم ببعض ‏{‏فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ‏}‏ أو خفت أن تقول إن فارقتهم واتبعتك ولحق بي فريق وتبع السامري فريق‏:‏ ‏{‏فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ‏}‏ ‏{‏وَلَمْ تَرْقُبْ‏}‏ ولم تحفظ ‏{‏قَوْلِي‏}‏ اخلفني في قومي وأصلح‏.‏ وفيه دليل على جواز الاجتهاد‏.‏

ثم أقبل موسى على السامري منكراً عليه حيث ‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكَ‏}‏ ما أمرك الذي تخاطب عليه‏؟‏ ‏{‏ياسامري قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ‏}‏ وبالتاء‏:‏ حمزة وعلي، وقال الزجاج‏:‏ بصر علم وأبصر نظر أي علمت ما لم يعلمه بنو اسرائيل‏.‏ قال موسى‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ رأيت جبريل على فرس الحياة فألقي في نفسي أن أقبض من أثره فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ولحم ودم ‏{‏فَقَبَضْتُ قَبْضَةً‏}‏ القبضة المرة من القبض وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر ل «ضرب» الأمير‏.‏ وقريء ‏{‏فقبصت قبضة‏}‏ فالضاد بجميع الكف والصاد بأطراف الأصابع ‏{‏مِّنْ أَثَرِ الرسول‏}‏ أي من أثر فرس الرسول وقريء بها ‏{‏فَنَبَذْتُهَا‏}‏ فطرحتها في جوف العجل ‏{‏وكذلك سَوَّلَتْ‏}‏ زينت ‏{‏لِى نَفْسِى‏}‏ أن أفعله ففعلته اتباعاً لهواي وهو اعتراف بالخطأ واعتذار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 108‏]‏

‏{‏قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ‏(‏97‏)‏ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏98‏)‏ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ‏(‏99‏)‏ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ‏(‏100‏)‏ خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ‏(‏101‏)‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ‏(‏102‏)‏ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ‏(‏103‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ‏(‏104‏)‏ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ‏(‏105‏)‏ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ‏(‏106‏)‏ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ‏(‏107‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ له موسى ‏{‏فاذهب‏}‏ من بيننا طريداً ‏{‏فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة‏}‏ ما عشت ‏{‏أَن تَقُولَ‏}‏ لمن أراد مخالطتك جاهلاً بحالك ‏{‏لاَ مِسَاسَ‏}‏ أي لا يمسني أحد ولا أمسه فمنع من مخالطة الناس منعاً كلياً وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته، وإذا اتفق أن يماس أحداً حم الماس والممسوس‏.‏ وكان يهيم في البرية يصيح لا مساس ويقال‏:‏ إن ذلك موجود في أولاده إلى الآن‏.‏ وقيل‏:‏ أراد موسى عليه السلام أن يقتله فمنعه الله تعالى منه لسخائه ‏{‏وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ‏}‏ أي لن يخلفك الله موعده الذي وعدك على الشرك والفساد في الأرض ينجزه لك في الآخرة بعدما عاقبك بذاك في الدنيا ‏{‏لَّن تُخْلَفَهُ‏}‏ مكي وأبو عمر وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفاً ‏{‏وانظر إلى إلهك الذى ظَلْتَ عَلَيْهِ‏}‏ وأصله ظللت فحذف اللام الأولى تخفيفاً ‏{‏عَاكِفاً‏}‏ مقيماً ‏{‏لَّنُحَرّقَنَّهُ‏}‏ بالنار ‏{‏ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ‏}‏ لنذرينه ‏{‏فِى اليم نَسْفاً‏}‏ فحرقه وذراه في البحر فشرب بعضهم من مائة حباً له فظهرت على شفاههم صفرة الذهب‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا إلهكم الله الذى لا إله إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَئ عِلْماً‏}‏ تمييز أي وسع علمه كل شيء‏.‏

ومحل الكاف في ‏{‏كذلك‏}‏ نصب أي مثل ما اقتصصنا عليك قصة موسى وفرعون ‏{‏نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ‏}‏ من أخبار الأمم الماضية تكثيراً لبيناتك وزيادة في معجزاتك ‏{‏وَقَدْ آتيناك‏}‏ أي أعطيناك ‏{‏مّن لَّدُنَّا‏}‏ من عندنا ‏{‏ذِكْراً‏}‏ قرآناً فهو ذكر عظيم وقرآن كريم فيه النجاة لمن أقبل عليه، وهو مشتمل على الأقاصيص والأخبار الحقيقة بالتفكر والاعتبار ‏{‏مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ‏}‏ عن هذا الذكر وهو القرآن ولم يؤمن به ‏{‏فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً‏}‏ عقوبة ثقيلة سماها وزراً تشبيهاً في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل الثقيل الذي ينقض ظهره ويلقى عليه بهره، أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم ‏{‏خالدين‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏يَحْمِلُ‏}‏ وإنما جمع على المعنى ووحد في ‏{‏فَإِنَّهُ‏}‏ حملاً على لفظ من ‏{‏فِيهِ‏}‏ في الوزر أي في جزاء الوزر وهو العذاب ‏{‏وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً‏}‏ ساء في حكم بئس وفيه مبهم يفسره ‏{‏حِمْلاً‏}‏ وهو تمييز واللام في ‏{‏لَهُمْ‏}‏ للبيان كما في ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏ والمخصوص بالذم محذوف لدلالة الوزر السابق عليه تقديره ساء الحمل حملاً وزرهم‏.‏

‏{‏يَوْمَ يُنفَخُ‏}‏ بدل من ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏، ‏{‏ننفخ‏}‏ أبو عمرو ‏{‏فِى الصور‏}‏ القرن أو هو جمع صورة أي ننفخ الأرواح فيها دليله قراءة قتادة الصور بفتح الوّاو جمع صورة ‏{‏وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً‏}‏ حال أي عمياً كما قال

‏{‏وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 97‏]‏ وهذا لأن حدقة من يذهب نور بصره تزرق ‏{‏يتخافتون‏}‏ يتسارون ‏{‏بَيْنَهُمْ‏}‏ أي يقول بعضهم لبعض سراً لهول ذلك اليوم ‏{‏إِن لَّبِثْتُمْ‏}‏ ما لبثتم في الدنيا ‏{‏إِلاَّ عَشْراً‏}‏ أي عشر ليال يستقصرون مدة لبثهم في القبور أو في الدنيا لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور فيتأسفون عليها ويصفونها بالقصر، لأن أيام السرور قصار، أو لأنها ذهبت عنهم والذاهب وإن طالت مدته قصير بالانتهاء، أو لاستطالتهم الآخرة لأنها أبداً يستقصر إليها عمر الدنيا ويتقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة، وقد رجح الله قول من يكون أشد تقالاً منهم بقوله ‏{‏نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً‏}‏ أعد لهم قولاً ‏{‏إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً‏}‏ وهو كقوله ‏{‏قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العادين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 113‏]‏‏.‏

‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال‏}‏ سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ما يصنع بالجبال يوم القيامة‏؟‏ وقيل‏:‏ لم يسئل وتقديره إن سألوك ‏{‏فَقُلْ‏}‏ ولذا قرن بالفاء بخلاف سائر السؤالات مثل قوله ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ وقوله ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إصلاح لهم خير‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 220‏]‏ ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏ ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 83‏]‏ لأنها سؤالات تقدمت فورد جوابها ولم يكن فيها معنى الشرط فلم يذكر الفاء‏.‏

‏{‏يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً‏}‏ أي يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها كما يذرى الطعام‏.‏ وقال الخليل‏:‏ يقلعها ‏{‏فَيَذَرُهَا‏}‏ فيذر مقارها أو يجعل الضمير للأرض للعلم بها كقوله ‏{‏مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏ ‏{‏قَاعاً صَفْصَفاً‏}‏ مستوية ملساء ‏{‏لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً‏}‏ انخفاضاً ‏{‏وَلا أَمْتاً‏}‏ ارتفاعاً والعوج بالكسر إن كان في المعاني كما أن المفتوح في الأعيان والأرض عين، ولكن لما استوت الأرض استواء لا يمكن أن يوجد فيها اعوجاج بوجه ما وإن دقت الحيلة ولطفت جرت مجرى المعاني ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ أضاف اليوم إلى وقت نسف الجبال أي يوم إذ نسفت وجاز أن يكون بدلاً بعد بدل من يوم القيامة ‏{‏يَتَّبِعُونَ الداعى‏}‏ إلى المحشر أي صوت الداعي وهو إسرافيل حين ينادي على صخرة بيت المقدس‏:‏ أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلمي إلى عرض الرحمن فيقبلون من كل أوب إلى صوبه لا يعدلون عنه ‏{‏لاَ عِوَجَ لَهُ‏}‏ أي لا يعوج له مدعو بل يستوون إليه من غير انحراف متبعين لصوته ‏{‏وَخَشَعَتِ‏}‏ وسكنت ‏{‏الأصوات للرحمن‏}‏ هيبة وإجلالاً ‏{‏فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً‏}‏ صوتاً خفيفاً لتحريك الشفاه‏.‏ وقيل‏:‏ هو من همس الإبل وهو صوت أخفافها إذا مشت أي لا تسمع إلا خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 112‏]‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ‏(‏109‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ‏(‏110‏)‏ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن‏}‏ محل من رفع على البدل من ‏{‏الشفاعة‏}‏ بتقدير حذف المضاف أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن أي أذن للشافع في الشفاعة ‏{‏وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً‏}‏ أي رضي قولاً لأجله بأن يكون المشفوع له مسلماً أو نصب على أنه مفعول ‏{‏تَنفَعُ‏}‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ أي يعلم ما تقدمهم من الأحوال وما يستقبلونه ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً‏}‏ أي بما أحاط به علم الله فيرجع الضمير إلى «ما» أو يرجع الضمير إلى الله لأنه تعالى ليس بمحاط به ‏{‏وَعَنَتِ‏}‏ خضعت وذلت ومنه قيل للأسير‏:‏ عانٍ ‏{‏الوجوه‏}‏ أي أصحابها ‏{‏لِلْحَىّ‏}‏ الذي لا يموت وكل حياة يتعقبها الموت فهي كأن لم تكن ‏{‏القيوم‏}‏ الدائم القائم على كل نفس بما كسبت أو القائم بتدبير الخلق ‏{‏وَقَدْ خَابَ‏}‏ يئس من رحمة الله ‏{‏مَنْ حَمَلَ ظُلْماً‏}‏ من حمل إلى موقف القيامة شركاً لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ولا ظلم أشد من جعل المخلوق شريك من خلقه ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات‏}‏ الصالحات الطاعات ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ مصدق بما جاء به محمد عليه السلام، وفيه دليل أنه يستحق اسم الإيمان بدون الأعمال الصالحة وأن الإيمان شرط قبولها ‏{‏فَلاَ يَخَافُ‏}‏ أي فهو لا يخاف ‏{‏فَلاَ يخف‏}‏ على النهي‏:‏ مكي ‏{‏ظُلْماً‏}‏ أن يزداد في سيئاته ‏{‏وَلاَ هَضْماً‏}‏ ولا ينقص من حسناته وأصل الهضم النقص والكسر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 116‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ‏(‏113‏)‏ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ‏(‏114‏)‏ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ‏(‏115‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ‏(‏116‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك‏}‏ عطف على كذلك نقص أي ومثل ذلك الإنزال ‏{‏أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا‏}‏ بلسان العرب ‏{‏وَصَرَّفْنَا‏}‏ كررنا ‏{‏فِيهِ مِنَ الوعيد لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ يجتنبون الشرك ‏{‏أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ‏}‏ الوعيد أو القرآن ‏{‏ذِكْراً‏}‏ عظة أو شرفاً بإيمانهم به وقيل «أو» بمعنى الواو‏.‏

‏{‏فتعالى الله‏}‏ ارتفع عن فنون الظنون وأوهام الأفهام وتنزه عن مضاهاة الأنام ومشابهة الأجسام ‏{‏الملك‏}‏ الذي يحتاج إليه الملوك ‏{‏الحق‏}‏ المحق في الألوهية‏.‏ ولما ذكر القرآن وإنزاله قال استطراداً‏:‏ وإذا لقنك جبريل ما يوحى إليك من القرآن فتأن عليك ريثما يسمعك ويفهمك ‏{‏وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان‏}‏ بقراءته ‏{‏مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ‏}‏ من قبل أن يفرغ جبريل من الإبلاغ ‏{‏وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً‏}‏ بالقرآن ومعانيه‏.‏ وقيل‏:‏ ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى ءادَمَ‏}‏ أي أوحينا إليه أن لا يأكل من الشجرة‏.‏ يقال في أوامر الملوك ووصاياهم تقدم الملك إلى فلان وأوصى إليه وعزم عليه وعهد إليه، فعطف قصة آدم على ‏{‏وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد‏}‏ والمعنى وأقسم قسماً لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل وجودهم فخالف إلى ما نهي عنه كما أنهم يخالفون يعني أن أساس أمر بني آدم على ذلك وعرقهم راسخ فيه ‏{‏فَنَسِىَ‏}‏ العهد أي النهي والأنبياء عليهم السلام يؤاخذون بالنسيان الذي لو تكلفوا لحفظوه ‏{‏وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً‏}‏ قصداً إلى الخلاف لأمره أو لم يكن آدم من أولي العزم‏.‏ والوجود بمعنى العلم ومفعولاه ‏{‏لَهُ عَزْماً‏}‏ أو بمعنى نقيض العدم أي وعد منا له عزما و‏{‏لَهُ‏}‏ متعلق ب ‏{‏نَجِدْ‏}‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْنَا‏}‏ منصوب ب «اذكر» ‏{‏للملائكة اسجدوا لآِدَمَ‏}‏ قيل‏:‏ هو السجود اللغوي الذي هو الخضوع والتذلل أو كان آدم كالقبلة لضرب تعظيم له فيه ‏{‏فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ‏}‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إبليس كان ملكاً من جنس المستثنى منهم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الملائكة لباب الخليقة من الأرواح ولا يتناسلون وإبليس من نار السموم‏.‏ وإنما صح استثناؤه منهم لأنه كان يصحبهم ويعبد الله معهم ‏{‏أبى‏}‏ جملة مستأنفة كأنه جواب لمن قال لم لم يسجد، والوجه أن لا يقدر له مفعول وهو السجود المدلول عليه بقوله ‏{‏فَسَجَدُواْ‏}‏ وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 121‏]‏

‏{‏فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ‏(‏117‏)‏ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ‏(‏118‏)‏ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ‏(‏119‏)‏ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ‏(‏120‏)‏ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ‏(‏121‏)‏‏}‏

‏{‏فَقُلْنَا يائادم أن هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ‏}‏ حيث لم يسجد لك ولم ير فضلك ‏{‏فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة‏}‏ فلا يكونن سبباً لإخراجكما ‏{‏فتشقى‏}‏ فتتعب في طلب القوت ولم يقل «فتشقيا» مراعاة لرؤوس الآي، أو دخلت تبعاً، أو لأن الرجل هو الكافل لنفقة المرأة‏.‏ وروي أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق من جبينه ‏{‏إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا‏}‏ في الجنة ‏{‏وَلاَ تعرى‏}‏ عن الملابس لأنها معدة أبداً فيها ‏{‏وَأَنَّكَ‏}‏ بالكسر‏:‏ نافع وأبو بكر عطفاً على «إن» الأولى، وغيرهما بالفتح عطفاً على ‏{‏أَلاَّ تَجُوعَ‏}‏ ومحله نصب ب «أن» وجاز للفصل كما تقول «إن في علمي أنك جالس» ‏{‏لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا‏}‏ لا تعطش لوجود الأشربة فيها ‏{‏وَلاَ تضحى‏}‏ لا يصيبك حر الشمس إذ ليس فيها شمس فأهلها في ظل ممدود‏.‏

‏{‏فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان‏}‏ أي أنهى إليه الوسوسة كأسر إليه ‏{‏قَالَ يَاءادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد‏}‏ أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود لأن من أكل منها خلد بزعمه ولا يموت ‏{‏وَمُلْكٍ لاَّ يبلى‏}‏ لا يفنى ‏{‏فَأَكَلاَ‏}‏ أي آدم وحواء ‏{‏مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا‏}‏ عوراتهما ‏{‏سَوْءتُهُمَا‏}‏ ‏{‏وَطَفِقَا‏}‏ طفق يفعل كذا مثل جعل يفعل وهو ك «كاد» في وقوع الخبر فعلاً مضارعاً إلا أنه للشروع في أول الأمر وكاد للدنو منه ‏{‏يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة‏}‏ أي يلزقان الورق بسواتهما للتستر وهو ورق التين ‏{‏وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى‏}‏ ضل عن الرأي‏.‏ وعن ابن عيسى خاب، والحاصل أن العصيان وقوع الفعل على خلاف الأمر والنهي، وقد يكون عمداً فيكون ذنباً وقد لا يكون عمداً فيكون زلة‏.‏ ولما وصف فعله بالعصيان خرج فعله من أن يكون رشداً فكان غياً، لأن الغي خلاف الرشد‏.‏ وفي التصريح بقوله ‏{‏وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى‏}‏ والعدول عن قوله و«زل آدم» مزجرة بليغة وموعظة كافة للمكلفين كأنه قيل لهم‏:‏ انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبي المعصوم حبيب الله زلته بهذه الغلظة فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من الصغائر فضلاً عن الكبائر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏122- 125‏]‏

‏{‏ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ‏(‏122‏)‏ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ‏(‏123‏)‏ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ‏(‏124‏)‏ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ‏(‏125‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ‏}‏ قربه إليه اصطفاه‏.‏ وقريء به وأصل الكلمة الجمع يقال جبى إلى كذا فاجتبيته ‏{‏فَتَابَ عَلَيْهِ‏}‏ قبل توبته ‏{‏وهدى‏}‏ وهداه إلى الاعتذار والاستغفار‏.‏

‏{‏قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً‏}‏ يعني آدم وحواء ‏{‏بَعْضُكُمْ‏}‏ يا ذرية آدم ‏{‏لِبَعْضٍ عَدُوٌّ‏}‏ بالتحاسد في الدنيا والاختلاف في الدين ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى‏}‏ كتاب وشريعة ‏{‏فَمَنِ اتبع هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ‏}‏ في الدنيا ‏{‏وَلاَ يشقى‏}‏ في العقبى‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة يعني أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضل في الدنيا عن طريق الدين، فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه ‏{‏وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى‏}‏ عن القرآن ‏{‏فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً‏}‏ ضيقاً وهو مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث‏.‏ عن ابن جبير‏:‏ يسلبه القناعة حتى لا يشبع فمع الدين التسليم والقناعة والتوكل فتكون حياته طيبة، ومع الإعراض الحرص والشح فعيشه ضنك وحاله مظلمة كما قال بعض المتصوفة‏:‏ لا يعرض أحدكم عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه ‏{‏وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى‏}‏ عن الحجة‏.‏ عن ابن عباس‏:‏ أعمى البصر وهو كقوله‏:‏ ‏{‏وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 97‏]‏ وهو الوجه ‏{‏قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً‏}‏ في الدنيا

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 130‏]‏

‏{‏قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ‏(‏126‏)‏ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ‏(‏127‏)‏ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏128‏)‏ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ‏(‏129‏)‏ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ‏(‏130‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ كذلك‏}‏ أي مثل ذلك فعلت أنت‏.‏ ثم فسر فقال ‏{‏أَتَتْكَ اياتنا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى‏}‏ أي أتتك آياتنا واضحة فلم تنظر إليها بعين المعتبر وتركتها وعميت عنها فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك‏.‏

‏{‏وكذلك نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بئايات رَبّهِ وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى‏}‏ لما توعد المعرض عن ذكره بعقوبتين‏:‏ المعيشة الضنك في الدنيا وحشره أعمى في العقبى ختم آيات الوعيد بقوله ‏{‏ولعذاب الآخرة أشد وأبقى‏}‏ أي للحشر على العمى الذي يزول أبداً أشد من ضيق العيش المنقضي ‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ‏}‏ أي الله بدليل قراءة زيد عن يعقوب بالنون ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون يَمْشُونَ‏}‏ حال من الضمير المجرور في ‏{‏لهم‏}‏ ‏{‏فِى مساكنهم‏}‏ يريد أن قريشاً يمشون في مساكن عاد وثمود وقوم لوط ويعاينون آثار هلاكهم ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لأِوْلِى النهى‏}‏ لذوي العقول إذا تفكروا علموا أن استئصالهم لكفرهم فلا يفعلون مثل ما فعلوا ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ‏}‏ أي الحكم بتأخير العذاب عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏لَكَانَ لِزَاماً‏}‏ لازماً فاللزام مصدر لزم فوصف به ‏{‏وَأَجَلٌ مُّسَمًّى‏}‏ القيامة وهو معطوف على كلمة، والمعنى ولولا حكم سبق بتأخير العذاب عنهم وأجل مسمى وهو القيامة لكان العذاب لازماً لهم في الدنيا كما لزم القرون الماضية الكافرة‏.‏

‏{‏فاصبر على مَا يَقُولُونَ‏}‏ فيك ‏{‏وَسَبّحْ‏}‏ وصل ‏{‏بِحَمْدِ رَبّكَ‏}‏ في موضع الحال وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه ‏{‏قَبْلَ طُلُوعِ الشمس‏}‏ يعني صلاة الفجر ‏{‏وَقَبْلَ غُرُوبِهَا‏}‏ يعني الظهر والعصر لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها ‏{‏ومن ءانآي الليل فسبّح وأطراف النهار‏}‏ أي وتعهد أناء الليل أي ساعاته وأطراف النهار مختصاً لها بصلاتك‏.‏ وقد تناول التسبيح في آناء الليل وصلاة العتمة، وفي أطراف النهار صلاة المغرب، وصلاة الفجر على التكرار إرادة الاختصاص كما اختصت في قوله ‏{‏والصلاة الوسطى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏ عند البعض‏.‏ وإنما جمع وأطراف النهار وهما طرفان لأمن الإلباس وهو عطف على قبل ‏{‏لَعَلَّكَ ترضى‏}‏ لعل للمخاطب أي اذكر الله في هذه الأوقات رجاء أن تنال عند الله ما به ترضى نفسك ويسر قلبك‏.‏ ‏{‏وترضى‏}‏ علي وأبو بكر أي يرضيك ربك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏131- 132‏]‏

‏{‏وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏131‏)‏ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ‏(‏132‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ‏}‏ أي نظر عينيك ومد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه وإعجاباً به، وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه وذلك أن يباده الشيء بالنظر ثم يغض الطرف‏.‏ ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في ملابسهم ومراكبهم حتى قال الحسن‏:‏ لا تنظروا إلى دقدقة هماليج الفسقة، ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية من تلك الرقاب‏.‏ وهذا لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة فالناظر إليها محصل لغرضهم ومغر لهم على اتخاذها ‏{‏إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ‏}‏ أصنافاً من الكفرة ويجوز أن ينتصب حالاً من هاء الضمير والفعل واقع على ‏{‏منهم‏}‏ كأنه قال إلى الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم وناساً منهم ‏{‏زَهْرَةَ الحياة الدنيا‏}‏ زينتها وبهجتها وانتصب على الذم أو على إبداله من محل به أو على إبداله من أزواجا على تقدير ذوي زهرة ‏{‏لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏ لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب لوجود الكفران منهم أو لنعذبهم في الآخرة بسببه ‏{‏وَرِزْقُ رَبّكَ‏}‏ ثوابه وهو الجنة أو الحلال الكافي ‏{‏خَيْرٌ وأبقى‏}‏ مما رزقوا ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ‏}‏ أمتك أو أهل بيتك ‏{‏بالصلاة واصطبر‏}‏ أنت دوام ‏{‏عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً‏}‏ أي لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك ‏{‏نَّحْنُ نَرْزُقُكَ‏}‏ وإياهم فلا تهتم لأمر الرزق وفرغ بالك لأمر الآخرة لأن من كان في عمل الله كان الله في عمله‏.‏ وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ‏:‏ ‏{‏ولا تمدن عينيك‏}‏‏.‏ الآية ثم ينادي الصلاة، الصلاة رحمكم الله‏.‏ وكان بكر بن عبد الله المزني إذا أصاب أهله خصاصة قال‏:‏ قوموا فصلوا بهذا أمر الله ورسوله‏.‏ وعن مالك بن دينار مثله‏.‏ وفي بعض المسانيد أنه عليه السلام كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية ‏{‏والعاقبة للتقوى‏}‏ أي وحسن العاقبة لأهل التقوى بحذف المضافين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏133- 135‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏133‏)‏ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ‏(‏134‏)‏ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ‏(‏135‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ أي الكافرون ‏{‏لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ مّن رَّبّهِ‏}‏ هلا يأتينا محمد بآية من ربه تدل على صحة نبوته ‏{‏أَوَ لَمْ تَأْتِهِم‏}‏ ‏{‏أو لم تأتهم‏}‏ مدني وحفص وبصري ‏{‏بَيّنَةُ مَا فِى الصحف الأولى‏}‏ أي الكتب المتقدمة يعني أنهم اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوة فقيل لهم‏:‏ أو لم تأتكم آية هي أم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعني القرآن من قبل أن القرآن برهان ما في سائر الكتب المنزلة ودليل صحته لأنه معجزة وتلك ليست بمعجزات فهي مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها ‏{‏وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ‏}‏ من قبل الرسول أو القرآن ‏{‏لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا‏}‏ هلا ‏{‏أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ‏}‏ بالنصب على جواب الاستفهام بالفاء ‏{‏بآياتك مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ‏}‏ بنزول العذاب ‏{‏ونخزى‏}‏ في العقبى ‏{‏قُلْ كُلٌّ‏}‏ أي كل واحد منا ومنكم ‏{‏مُّتَرَبّصٌ‏}‏ منتظر للعاقبة وبما يؤول إليه أمرنا وأمركم ‏{‏فَتَرَبَّصُواْ‏}‏ إذا جاءت القيامة ‏{‏مِنْ أصحاب‏}‏ مبتدأ وخبر ومحلهما نصب ‏{‏الصراط السوي‏}‏ المستقيم ‏{‏وَمَنِ اهتدى‏}‏ إلى النعيم المقيم‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يقرأ أهل الجنة إلا سورة طه ويس» والله أعلم بالصواب‏.‏

سورة الأنبياء

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ‏(‏1‏)‏ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏اقترب‏}‏ دنا ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ اللام صلة لاقتراب‏.‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالناس المشركون لأن ما يتلوه من صفات المشركين ‏{‏حِسَابَهُمْ‏}‏ وقت محاسبة الله إياهم ومجازاته على أعمالهم يعني يوم القيامة، وإنما وصفه بالاقتراب لقلة ما بقي بالإضافة إلى ما مضى ولأن كل آتٍ قريب ‏{‏وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ‏}‏ عن حسابهم وعما يفعل بهم ثم ‏{‏مُّعْرِضُونَ‏}‏ عن التأهب لذلك اليوم فالاقتراب عام والغفلة والإعراض يتفاوتان بتفاوت المكلفين، فرب غافل عن حسابه لاستغراقه في دنياه وإعراضه عن مولاه، ورب غافل عن حسابه لاستهلاكه في مولاه وإعراضه عن دنياه فهو لا يفيق إلا برؤية المولى، والأول إنما يفيق في عسكر الموتى فالواجب عليك أن تحاسب نفسك قبل أن تحاسب وتتنبه للعرض قبل أن تنبه، وتعرض عن الغافلين وتشتغل بذكر خالق الخلق أجمعين لتفوز بلقاء رب العالمين ‏{‏مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ‏}‏ شيء من القرآن ‏{‏مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ‏}‏ في التنزيل إتيانه، مبتدأة تلاوته، قريب عهده باستماعهم، والمراد به الحروف المنظومة‏.‏ ولا خلاف في حدوثها ‏{‏إِلاَّ استمعوه‏}‏ من النبي عليه السلام أو غيره ممن يتلوه ‏{‏وَهُمْ يَلْعَبُونَ‏}‏ يستهزئون به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏

‏{‏لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏3‏)‏ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏4‏)‏ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏لاَهِيَةً‏}‏ حال من ضمير يلعبون أو ‏{‏وهم يلعبون‏}‏ و‏{‏لاهية‏}‏ حالان من الضمير في استمعوه‏.‏ ومن قرأ ‏{‏لاَهِيَةً‏}‏ بالرفع يكون خبراً بعد خبر لقوله‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ وارتفعت ‏{‏قُلُوبِهِمْ‏}‏ ب ‏{‏لاهية‏}‏ وهي من لها عنه إذا ذهل وغفل، والمعنى قلوبهم غافلة عما يراد بها، ومنها قال أبو بكر الوارق‏:‏ القلب اللاهي المشغول بزينة الدنيا وزهرتها الغافل عن الآخرة وأهوالها ‏{‏وَأَسَرُّواْ‏}‏ وبالغوا في إخفاء ‏{‏النجوى‏}‏ وهي اسم من التناجي‏.‏ ثم أبدل ‏{‏الذين ظَلَمُواْ‏}‏ من واو ‏{‏وأسروا‏}‏ إيذاناً بأنهم الموسومون بالظلم فيما أسروا به، أو جاء على لغة من قال «أكلوني البراغيث»، أو هو مجرور المحل لكونه صفة أو بدلاً من الناس، أو هو منصوب المحل على الذم، أو هو مبتدأ خبره ‏{‏أسروا النجوى‏}‏ فقدم عليه أي والذين ظلموا أسروا النجوى ‏{‏هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ‏}‏ هذا الكلام كله في محل النصب بدل من النجوى أي وأسروا هذا الحديث ويجوز أن يتعلق ب «قالوا» مضمراً والمعنى أنهم اعتقدوا أن الرسول لا يكون إلا ملكاً وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة فهو ساحر ومعجزته سحر، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار‏:‏ أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر ‏{‏قَالَ رَبّى‏}‏ حمزة وعلي وحفص أي قال محمد وغيرهم ‏{‏قل ربي‏}‏ أي قل يا محمد للذين أسروا النجوى ‏{‏يَعْلَمُ القول فِى السماء والأرض‏}‏ أي يعلم قول كل قائل هو في السماء أو الأرض سراً كان أو جهراً ‏{‏وَهُوَ السميع‏}‏ لأقوالهم ‏{‏العليم‏}‏ بما في ضمائرهم‏.‏

‏{‏بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ‏}‏ أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام رآها في نومه فتوهمها وحياً من الله إليه، ثم إلى أنه كلام مفترى من عنده، ثم إلى أنه قول شاعر وهكذا الباطل لجلج والمبطل رجاع غير ثابت على قول واحد، ثم قالوا إن كان صادقاً في دعواه وليس الأمر كما يظن ‏{‏فليأتنا بآية‏}‏ بمعجزة ‏{‏كَمَا أُرْسِلَ الأولون‏}‏ كما أرسل من قبله باليد البيضاء والعصا وإبراء الأكمه وإحياء الموتى، وصحة التشبيه في قوله كما ‏{‏أرسل الأولون‏}‏ من حيث إنه في معنى كما أتى الأولون بالآيات لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات، ألا ترى أنه لا فرق بين قولك «أرسل محمد» وبين قولك «أتى بالمعجزة» فرد الله عليهم قولهم بقوله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏7‏)‏ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏مَا ءامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ‏}‏ من أهل قرية ‏{‏أهلكناها‏}‏ صفة ل ‏{‏قرية‏}‏ عند مجيء الآيات المقترحة لأنهم طلبوها تعنتاً ‏{‏أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي أولئك لم يؤمنوا بالآيات لما أتتهم أفيؤمن هؤلاء المقترحون لو أتيناهم بما اقترحوا مع أنهم أعني منهم، والمعنى أن أهل القرى اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعاهدوا أنهم يؤمنون عندها فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا فأهلكهم الله فلو أعطينا هؤلاء ما يقترحون لنكثوا أيضاً‏.‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً‏}‏ هذا جواب قولهم هل هذا إلا بشر مثلكم ‏{‏نُّوحِى إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏{‏نُوحِى‏}‏ حفص ‏{‏فاسألوا أَهْلَ الذكر‏}‏ العلماء بالكتابين فإنهم يعرفون أن الرسل الموحى إليهم كانوا بشراً ولم يكونوا ملائكة وكان أهل مكة يعتمدون على قولهم ‏{‏إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك‏.‏ ثم بين أنه كمن تقدمه من الأنبياء بقوله ‏{‏وَمَا جعلناهم جَسَداً‏}‏ وحد الجسد لإرادة الجنس ‏{‏لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام‏}‏ صفة ل ‏{‏جسداً‏}‏ يعني وما جعلنا الأنبياء قبله ذوي جسد غير طاعمين ‏{‏وَمَا كَانُواْ خالدين‏}‏ كأنهم قالوا هلا كان ملكاً لا يطعم ويخلد، إما معتقدين أن الملائكة لا يموتون أو مسمين بقاءهم الممتد وحياتهم المتطاولة خلودا ‏{‏ثُمَّ صدقناهم الوعد‏}‏ بإنجائهم والأصل في الوعد مثل ‏{‏واختار موسى قَوْمَهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏ أي من قومه ‏{‏فأنجيناهم‏}‏ مما حل بقومهم ‏{‏وَمَن نَّشَاء‏}‏ هم المؤمنون ‏{‏وَأَهْلَكْنَا المسرفين‏}‏ المجاوزين الحد بالكفر ودل الإخبار بإهلاك المسرفين على أن من نشاء غيرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 13‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏10‏)‏ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏11‏)‏ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ‏(‏12‏)‏ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ‏}‏ يا معشر قريش ‏{‏كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ‏}‏ شرفكم إن عملتم به أو لأنه بلسانكم أو فيه موعظتكم أو فيه ذكر دينكم ودنياكم والجملة أي فيه ذكركم صفة ل ‏{‏كتاباً‏}‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ ما فضلتكم به على غيركم فتؤمنوا ‏{‏وَكَمْ‏}‏ نصب بقوله ‏{‏قَصَمْنَا‏}‏ أي أهلكنا ‏{‏مِن قَرْيَةٍ‏}‏ أي أهلها بدليل قوله ‏{‏كَانَتْ ظالمة‏}‏ كافرة وهي واردة عن غضب شديد وسخط عظيم لأن القصم أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف الفصم فإنه كسر بلا إبانة ‏{‏وَأَنشَأْنَا‏}‏ خلقنا ‏{‏بَعْدَهَا قَوْماً ءاخَرِينَ‏}‏ فسكنوا مساكنهم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أَحَسُّواْ‏}‏ أي المهلكون ‏{‏بَأْسَنَا‏}‏ عذابنا أي علموا علم حس ومشاهدة ‏{‏إِذَا هُمْ مّنْهَا‏}‏ من القرية و‏{‏إذا‏}‏ للمفاجأة و‏{‏هم‏}‏ مبتدأ والخبر ‏{‏يَرْكُضُونَ‏}‏ يهربون مسرعين، والركض ضرب الدابة بالرجل فيجوز أن يركبوا دوابهم يركضونها هاربين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب، أو شبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين لدوابهم فقيل لهم ‏{‏لاَ تَرْكُضُواْ‏}‏ والقائل بعض الملائكة ‏{‏وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ‏}‏ نعمتم فيه من الدنيا ولين العيش‏.‏ قال الخليل‏:‏ المترف الموسع عليه عيشه القليل فيه همه ‏{‏ومساكنكم لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ‏}‏ أي يقال لهم استهزاء بهم‏:‏ ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غداً عما جرى عليكم ونزل بأموالكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم حتى يسألكم عبيدكم ومن ينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقولوا لكم بم تأمرون وكيف نأتي ونذر كعادة المنعمين المخدمين، أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في نوازل الخطوب، أو يسألكم الوافدون عليكم والطماع ويستمطرون سحاب أكفكم، أو قال بعضهم لبعض‏:‏ لا تركضوا وارجعوا إلى منازلكم وأموالكم لعلكم تسألون مالاً وخراجاً فلا تقتلون، فنودي من السماء يا لثارات الأنبياء وأخذتهم السيوف فثم

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 17‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏14‏)‏ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ‏(‏15‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏16‏)‏ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ يَا وَيْلَنَآ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين‏}‏ اعترافهم بذلك حين لا ينفعهم الاعتراف‏.‏

‏{‏فَمَا زَالَت تِلْكَ‏}‏ هي إشارة إلى يا ويلنا ‏{‏دَعْوَاهُمْ‏}‏ دعاءهم و‏{‏تلك‏}‏ مرفوع على أنه اسم ‏{‏زالت‏}‏ و‏{‏دعواهم‏}‏ الخبر ويجوز العكس ‏{‏حتى جعلناهم حَصِيداً‏}‏ مثل الحصيد أي الزرع المحصود ولم يجمع كما لم يجمع المقدر ‏{‏خامدين‏}‏ ميتين خمود النار و‏{‏حصيدا خامدين‏}‏ مفعول ثان ل «جعل» أي جعلناهم جامعين لمماثلة الحصد والخمود كقولك «جعلته حلواً حامضاً» أي جعلته جامعاً للطعمين‏.‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ‏}‏ اللعب فعل يروق أوله ولا ثبات له، ولاعبين حال من فاعل ‏{‏خلقنا‏}‏ والمعنى وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلق للهو واللعب، وإنما سويناها ليستدل بها على قدرة مدبرها ولنجازي المحسن والمسيء على ما تقتضيه حكمتنا، ثم نزه ذاته عن سمات الحدوث بقوله ‏{‏لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً‏}‏ أي ولداً أو امرأة كأنه رد على من قال‏:‏ عيسى ابنه ومريم صاحبته ‏{‏لاتخذناه مِن لَّدُنَّا‏}‏ من الولدان أو الحور ‏{‏إِن كُنَّا فاعلين‏}‏ أي إن كنا ممن يفعل ذلك ولسنا ممن يفعله لاستحالته في حقنا‏.‏ وقيل‏:‏ هو نفي كقوله ‏{‏وإن أدري‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 109‏]‏ أي ما كنا فاعلين

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 21‏]‏

‏{‏بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ‏(‏19‏)‏ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ نَقْذِفُ‏}‏ «بل» إضراب عن اتخاذ اللهو وتنزيه منه لذاته كأنه قال سبحاننا أن نتخذ اللهو بل من سنتنا أن نقذف أي نرمي ونسلط ‏{‏بالحق‏}‏ بالقرآن ‏{‏عَلَى الباطل‏}‏ الشيطان أو بالإسلام على الشرك أو بالجد على اللعب ‏{‏فَيَدْمَغُهُ‏}‏ فيكسره ويدحض الحق الباطل، وهذه استعارة لطيفة لأن أصل استعمال القذف والدمغ في الأجسام، ثم استعير القذف لإيراد الحق على الباطل والدمغ لإذهاب الباطل فالمستعار منه حسي والمستعار له عقلي فكأنه قيل‏:‏ بل نورد الحق الشبيه بالجسم القوي على الباطل الشبيه بالجسم الضعيف فيبطله إبطال الجسم القوي الضعيف ‏{‏فَإِذَا هُوَ‏}‏ أي الباطل ‏{‏زَاهِقٌ‏}‏ هالك ذاهب ‏{‏وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ‏}‏ الله به من الولد ونحوه‏.‏

‏{‏وَلَهُ مَن فِى السماوات والأرض‏}‏ خلقاً وملكاً فأنى يكون شيء منه ولداً له وبينهما تنافٍ ويوقف على ‏{‏الأرض‏}‏ لأن ‏{‏ومن عنده‏}‏ منزلة ومكانة لا منزلاً ولا مكاناً يعني الملائكة مبتدأ خبره ‏{‏لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ لا يتعظمون ‏{‏عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ‏}‏ ولا يعيون ‏{‏يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ‏}‏ حال من فاعل ‏{‏يسبحون‏}‏ أي تسبيحهم متصل دائم في جميع أوقاتهم لا تتخلله فترة بفراغ أو بشغل آخر فتسبيحهم جارٍ مجرى التنفس منا‏.‏ ثم أضرب عن المشركين منكراً عليهم وموبخاً فجاء ب «أم» التي بمعنى «بل» والهمزة فقال ‏{‏أَمِ اتخذوا الِهَةً مّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ‏}‏ يحيون الموتى ومن الأرض صفة ل ‏{‏الهة‏}‏ لأن الهتهم كانت متخذة من جواهر الأرض كالذهب والفضة والحجر أو تعبد في الأرض فنسبت إليها كقولك «فلان من المدينة» أي مدني، أو متعلق ب ‏{‏اتخذوا‏}‏ ويكون فيه بيان غاية الاتخاذ، وفي قوله ‏{‏هم ينشرون‏}‏ زيادة توبيخ وإن لم يدعوا أن أصنامهم تحيي الموتى، وكيف يدعون ومن أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات لأنه يلزم من دعوى الألوهية لها دعوى الإنشار، لأن العاجز عنه لا يصح أن يكون إلهاً إذ لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور والإنشار من جملة المقدورات‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏ينشرون‏}‏ بفتح الياء وهما لغتان أنشر الله الموتى ونشرها أي أحياها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏22‏)‏ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ‏(‏23‏)‏ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله‏}‏ أي غير الله وصفت الهة ب «إلا» كما وصفت ب «غير» لو قيل الهة غير الله، ولا يجوز رفعه على البدل لأن «لو» بمنزلة «إن» في أن الكلام معه موجب والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب كقوله تعالى ‏{‏وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 81‏]‏ ولا يجوز نصبه استثناء لأن الجمع إذا كان منكراً لا يجوز أن يستثنى منه عند المحققين لأنه لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لولا الاستثناء، والمعنى لو كان يدبر أمر السماوات والأرض آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما ‏{‏لَفَسَدَتَا‏}‏ لخربتا لوجود التمانع وقد قررناه في أصول الكلام‏.‏

ثم نزه ذاته فقال ‏{‏فسبحان الله رَبّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ من الولد والشريك‏.‏

‏{‏لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ‏}‏ لأنه المالك على الحقيقة، ولو اعترض على السلطان بعض عبيده مع وجود التجانس وجواز الخطأ عليه وعدم الملك الحقيقي لاستقبح ذلك وعد سفهاً، فمن هو مالك الملوك ورب الأرباب وفعله صواب كله أولى بأن لا يعترض عليه ‏{‏وَهُمْ يُسْئَلُونَ‏}‏ لأنهم مملوكون خطاؤون فما أخلقهم بأن يقال لهم لم فعلتم في كل شيء فعلوه‏.‏ وقيل‏:‏ وهم يسئلون يرجع إلى المسيح والملائكة أي هم مسئولون فكيف يكونون آلهة والألوهية تنافي الجنسية والمسئولية ‏{‏أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً‏}‏ الإعادة لزيادة الإفادة فالأول للإنكار من حيث العقل، والثاني من حيث النقل أي وصفتم الله تعالى بأن يكون له شريك فقيل لمحمد ‏{‏قُلْ هَاتُواْ برهانكم‏}‏ حجتكم على ذلك وذا عقلي وهو يأباه كما مر، أو نقلي وهو الوحي وهو أيضاً يأباه فإنكم لا تجدون كتاباً من الكتب السماوية إلا وفيه توحيده وتنزيهه عن الأنداد ‏{‏هذا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ‏}‏ يعني أمته ‏{‏وَذِكْرُ مَن قَبْلِى‏}‏ يعني أمم الأنبياء من قبلي وهو وارد في توحيد الله ونفي الشركاء عنه‏.‏ ‏{‏معي‏}‏ حفص‏.‏ فلما لم يمتنعوا عن كفرهم أضرب عنهم فقال ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق‏}‏ أي القرآن وهو نصب ب ‏{‏يعلمون‏}‏ وقرئ ‏{‏الحق‏}‏ أي هو الحق ‏{‏فَهُمُ‏}‏ لأجل ذلك ‏{‏مُّعْرِضُونَ‏}‏ عن النظر فيما يجب عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 28‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ‏(‏25‏)‏ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ‏(‏26‏)‏ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ‏}‏ ‏{‏إِلاَّ نُوحِى‏}‏ كوفي غير أبي بكر وحماد ‏{‏أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون‏}‏ وحدوني فهذه الآية مقررة لما سبقها من آي التوحيد ‏{‏وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً سُبْحَانَهُ‏}‏ نزلت في خزاعة حيث قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله فنزه ذاته عن ذلك ثم أخبر عنهم بأنهم عباد بقوله ‏{‏بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ‏}‏ أي بل هم عباد مكرمون مشرفون مقربون وليسوا بأولاد إذ العبودية تنافي الولادة ‏{‏لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول‏}‏ أي بقولهم فأنيبت اللام مناب الإضافة، والمعنى أنهم يتبعون قوله فلا يسبق قولهم قوله ولا يتقدمون قوله بقولهم ‏{‏وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي كما أن قولهم تابع لقوله فعملهم أيضاً مبني على أمره لا يعملون عملاً لم يأمروا به ‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ أي ما قدموا وأخروا من أعمالهم ‏{‏وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى‏}‏ أي لمن رضي الله عنه وقال لا إله إلا الله ‏{‏وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ‏}‏ خائفون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏30‏)‏ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ‏}‏ من الملائكة ‏{‏إِنّى إله مّن دُونِهِ‏}‏ من دون الله ‏{‏إني‏}‏ مدني وأبو عمرو ‏{‏فَذَلِكَ‏}‏ مبتدأ أي فذلك القائل خبره ‏{‏نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ‏}‏ وهو جواب الشرط ‏{‏كذلك نَجْزِى الظالمين‏}‏ الكافرين الذين وضعوا الإلهية في غير موضعها وهذا على سبيل الفرض والتمثيل لتحقق عصمتهم‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة والضحاك‏:‏ قد ‏{‏تحقق الوعيد في إبليس فإنه ادعى الإلهية لنفسه ودعا إلى طاعة نفسه وعبادته‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ ‏{‏ألم ير‏}‏ مكي ‏{‏أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا‏}‏ أي جماعة السماوات وجماعة الأرض فلذا لم يقل كن ‏{‏رَتْقاً‏}‏ بمعنى المفعول أي كانتا مرتوقتين وهو مصدر فلذا صلح أن يقع موقع مرتوقتين ‏{‏ففتقناهما‏}‏ فشققناهما، والفتق الفصل بين الشيئين والرتق ضد الفتق‏.‏ فإن قيل‏:‏ متى رأوهما رتقاً حتى جاء تقريرهم بذلك‏؟‏ قلنا‏:‏ إنه وارد في القرآن الذي هو معجزة فقام مقام المرئي المشاهد، ولأن الرؤية بمعنى العلم وتلاصق الأرض والسماء وتباينهما جائزان في العقل، فالاختصاص بالتباين دون التلاصق لا بد له من مخصص وهو القديم جل جلاله‏.‏ ثم قيل‏:‏ إن السماء كانت لاصقة بالأرض لافضاء بينهما ففتقناهما أي فصلنا بينهما بالهواء‏.‏ وقيل‏:‏ كانت السماوات مرتتقة طبقة واحدة ففتقها الله تعالى وجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرض كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها وجعلها سبع أرضين‏.‏ وقيل‏:‏ كانت السماء رتقاً لا تمطر والأرض رتقاً لا تنبت ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَئ حَىّ‏}‏ أي خلقنا من الماء كل حيوان كقوله ‏{‏والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 45‏]‏ أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله ‏{‏خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 37‏]‏

‏{‏أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يصدقون بما يشاهدون‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا فِى الأرض رَوَاسِىَ‏}‏ جبالاً ثوابت من رسا إذا ثبت ‏{‏أَن تَمِيدَ بِهِمْ‏}‏ لئلا تضطرب بهم فحذف «لا» واللام، وإنما جاز حذف «لا» لعدم الالتباس كما تزاد لذلك في ‏{‏لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 29‏]‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً‏}‏ أي طرقاً واسعة جمع فج وهو الطريق الواسع ونصب على الحال من ‏{‏سُبُلاً‏}‏ متقدمة، فإن قلت‏:‏ أي فرق بين قوله تعالى ‏{‏لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 20‏]‏ وبين هذه‏؟‏ قلت‏:‏ الأول للإعلام بأنه جعل فيها طرقاً واسعة، والثاني لبيان أنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثم ‏{‏لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ ليهتدوا بها إلى البلاد المقصودة‏.‏