فصل: تفسير الآيات رقم (32- 34)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏32‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ‏(‏33‏)‏ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً‏}‏ في موضعه عن السقوط كما قال ‏{‏وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 65‏]‏ أو محفوظاً بالشهب عن الشياطين كما قال‏:‏ ‏{‏وحفظناها مِن كُلّ شيطان رَّجِيمٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏وَهُمْ‏}‏ أي الكفار ‏{‏عَنْ ءاياتها‏}‏ عن الأدلة التي فيها كالشمس والقمر والنجوم ‏{‏مُّعْرِضُونَ‏}‏ غير متفكرين فيها فيؤمنون‏.‏

‏{‏وَهُوَ الذى خَلَقَ اليل‏}‏ لتسكنوا فيه ‏{‏والنهار‏}‏ لتتصرفوا فيه ‏{‏والشمس‏}‏ لتكون سراج النهار ‏{‏والقمر‏}‏ ليكون سراج الليل ‏{‏كُلٌّ‏}‏ التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي كلهم والضمير للشمس والقمر والمراد بهما جنس الطوالع، وجمع جمع العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة ‏{‏فِى فَلَكٍ‏}‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ الفلك السماء‏.‏ والجمهور على أن الفلك موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر والنجوم و‏{‏كل‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏يَسْبَحُونَ‏}‏ يسيرون أي يدورون والجملة في محل النصب على الحال من الشمس والقمر ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد‏}‏ البقاء الدائم ‏{‏أفأين مِتَّ‏}‏ بكسر الميم مدني وكوفي غير أبي بكر ‏{‏فَهُمُ الخالدون‏}‏ والفاء الأول لعطف جملة على جملة والثاني لجزاء الشرط، كانوا يقدرون أنه سيموت فنفى الله عنه الشماتة بهذا أي قضي الله أن لا يخلد في الدنيا بشر أفإن مت أنت أيبقى هؤلاء

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 37‏]‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ‏(‏35‏)‏ وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏36‏)‏ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت وَنَبْلُوكُم‏}‏ ونختبركم سمي ابتلاء وإن كان عالماً بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم لأنه في صورة الاختبار ‏{‏بالشر‏}‏ بالفقر والضر ‏{‏والخير‏}‏ الغني والنفع ‏{‏فِتْنَةً‏}‏ مصدر مؤكد ل ‏{‏نبلوكم‏}‏ من غير لفظه ‏{‏وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ‏}‏ فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر والشكر‏.‏ وعن ابن ذكوان ‏{‏ترجعون‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا رَاكَ الذين كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ‏}‏ ما يتخذونك ‏{‏إِلاَّ هُزُواً‏}‏ مفعول ثان ل ‏{‏يتخذونك‏}‏ نزلت في أبي جهل مر به النبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال‏:‏ هذا نبي بني عبد مناف ‏{‏أهذا الذى يَذْكُرُ‏}‏ يعيب ‏{‏ءالِهَتَكُمْ‏}‏ والذكر يكون بخير وبخلافه فإن كان الذاكر صديقاً فهو ثناء وإن كان عدواً فذم ‏{‏وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن‏}‏ أي بذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية ‏{‏هُمْ كافرون‏}‏ لا يصدقون به أصلاً فهم أحق أن يتخذوا هزواً منك فإنك محق وهم مبطلون‏.‏ وقيل‏:‏ بذكر الرحمن أي بما أنزل عليك من القرآن هم كافرون جاحدون، والجملة في موضع الحال أي يتخذونك هزواً وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله تعالى، وكرر ‏{‏هُمْ‏}‏ للتأكيد، أو لأن الصلة حالت بينه وبين الخبر فأعيد المبتدأ ‏{‏خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ‏}‏ فسر بالجنس‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت حين كان النضر بن الحارث يستعجل بالعذاب‏.‏ والعجل والعجلة مصدران، وهو تقديم الشيء على وقته، والظاهر أن المراد الجنس وأنه ركب فيه العجلة فكأنه خلق من العجل ولأنه يكثر منه، والعرب تقول لمن يكثر منه الكرم «خلق من الكرم» فقدم أولاً ذم الإنسان على إفراط العجلة وأنه مطبوع عليها ثم منعه وزجره كأنه قال‏:‏ ليس ببدع منه أن يستعجل فإنه مجبول على ذلك وهو طبعه وسجيته فقد ركب فيه‏.‏ وقيل‏:‏ العجل الطين بلغه حمير قال شاعرهم

والنخل ينبت بين الماء والعجل *** وإنما منع عن الاستعجال وهو مطبوع عليه كما أمره بقمع الشهوة وقد ركبها فيه، لأنه أعطاه القوة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة و‏{‏من عجل‏}‏ حال أي عجلاً ‏{‏سأوريكم آياتي‏}‏ نقماتي ‏{‏فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ‏}‏ بالإتيان بها وهو بالياء عند يعقوب وافقه سهل وعياش في الوصل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 41‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏39‏)‏ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏40‏)‏ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد‏}‏ إتيان العذاب أو القيامة ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ قيل‏:‏ هو أحد وجهي استعجالهم ‏{‏لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ‏}‏ جواب «لو» محذوف و‏{‏حين‏}‏ مفعول به ل ‏{‏يعلم‏}‏ أي لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه بقولهم ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ وهو وقت تحيط بهم فيه النار من وراء وقدام فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم ولا يجدون ناصراً ينصرهم لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكن جهلهم به هو الذي هونه عندهم ‏{‏بَلْ تَأْتِيهِم‏}‏ الساعة ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ فجأة ‏{‏فَتَبْهَتُهُمْ‏}‏ فتحيرهم أي لا يكفونها بل تفجأهم فتغلبهم ‏{‏فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا‏}‏ فلا يقدرون على دفعها ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ يمهلون ‏{‏وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ‏}‏ فحل ونزل ‏{‏بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ‏}‏ جزاء ‏{‏مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏ سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به بأن له في الأنبياء أسوة وأن ما يفعلونه به يحيق بهم كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 45‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏42‏)‏ أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ‏(‏43‏)‏ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏44‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم‏}‏ يحفظكم ‏{‏باليل والنهار مِنَ الرحمن‏}‏ أي من عذابه إن أتاكم ليلاً أو نهاراً ‏{‏بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏ أي بل هم معرضون عن ذكره ولا يخطورنه ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسه حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكاليء فصلحوا للسؤال عنه، والمعنى أنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكاليء، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم‏.‏

ثم أضرب عن ذلك بقوله ‏{‏أَمْ لَهُمْ الِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا‏}‏ لما في «أم» من معنى «بل» فقال‏:‏ ألهم الهة تمنعهم من العذاب تتجاوز منعنا وحفظنا‏.‏ ثم استأنف بقوله ‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ‏}‏ فبين أن ما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد كيف يمنع غيره وينصره‏.‏ ثم قال ‏{‏بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَءابَاءهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر‏}‏ أي ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعاً لهم بالحياة الدنيا وإمهالاً كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وظنوا أنهم دائمون على ذلك وهو أمل كاذب ‏{‏أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا‏}‏ أي نقص أرض الكفر ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردها دار إسلام، وذكر ‏{‏نَأْتِى‏}‏ يشير بأن الله يجريه على أيدي المسلمين وإن عساكرهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها ‏{‏أَفَهُمُ الغالبون‏}‏ أفكفار مكة يغلبون بعد أن نقصنا من أطراف أرضهم أي ليس كذاك بل يغلبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنصرنا‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بالوحى‏}‏ أخوفكم من العذاب القرآن ‏{‏وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء‏}‏ بفتح الياء والميم ورفع الصم، ‏{‏ولا تسمع الصم‏}‏ شامي على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏إِذَا مَا يُنذَرُونَ‏}‏ يخوفون‏.‏ واللام في ‏{‏الصم‏}‏ للمعهد وهو إشارة إلى هؤلاء المنذرين، والأصل ولا يسمعون إذا ما ينذرون فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامهم وسدهم أسماعهم إذا ما أنذروا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 48‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏46‏)‏ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ‏(‏47‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ‏}‏ دفعة يسيرة ‏{‏مّنْ عَذَابِ رَبّكَ‏}‏ صفة ل ‏{‏نفحة‏}‏ ‏{‏لَيَقُولُنَّ ياويلنا إِنَّا كُنَّا ظالمين‏}‏ أي ولئن مسهم من هذا الذي ينذرون به أدنى شيء لذلوا ودعوا بالويل على أنفسهم وأقروا أنهم ظلموا أنفسهم حين تصاموا وأعرضوا، وقد بولغ حيث ذكر المس والنفحة لأن النفح يدل على القلة يقال نفحه بعطية‏:‏ رضخه بها مع أن بناءها للمرة‏.‏ وفي المس والنفحة ثلاث مبالغات لأن النفح في معنى القلة والنزارة يقال‏:‏ نفحته الدابة وهو رمح لين، ونفحه بعطية رضخه والبناء للمرة‏.‏

‏{‏وَنَضَعُ الموازين‏}‏ جمع ميزان وهو ما يوزن به الشيء فتعرف كميته‏.‏ وعن الحسن‏:‏ هو ميزان له كفتان ولسان‏.‏ وإنما جمع الموازين لتعظيم شأنها كما في قوله ‏{‏يا أيها الرسل‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏ والوزن لصحائف الأعمال في قول ‏{‏القسط‏}‏ وصفت الموازين بالقسط وهو العدل مبالغة كأنها في نفسها قسط، أو على حذف المضاف أي ذوات القسط ‏{‏لِيَوْمِ القيامة‏}‏ لأهل يوم القيامة أي لأجلهم ‏{‏فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً‏}‏ من الظلم ‏{‏وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ‏}‏ وإن كان الشيء مثقال حبة ‏{‏مثقال‏}‏ بالرفع‏:‏ مدني وكذا في «لقمان» على «كان» التامة ‏{‏مّنْ خَرْدَلٍ‏}‏ صفة ل ‏{‏حبة‏}‏ ‏{‏أَتَيْنَا بِهَا‏}‏ أحضرناها‏.‏ وأنت ضمير المثقال لإضافته إلى الحبة كقولهم «ذهبت بعض أصابعه» ‏{‏وكفى بِنَا حاسبين‏}‏ عالمين حافظين، عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لأن من حفظ شيئاً حسبه وعلّه‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْراً‏}‏ قيل‏:‏ هذه الثلاثة هي التوراة فهي فرقان بين الحق والباطل، وضياء يستضاء به ويتوصل به إلى سبيل النجاة، وذكر أي شرف أو وعظ وتنبيه أو ذكر ما يحتاج الناس إليه في مصالح دينهم‏.‏ ودخلت الواو على الصفات كما في قوله ‏{‏وَسَيّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيّا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏ وتقول «مررت بزيد الكريم والعالم والصالح»‏.‏ ولما انتفع بذلك المتقون خصهم بقوله‏:‏ ‏{‏لّلْمُتَّقِينَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 55‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ‏(‏49‏)‏ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏50‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ‏(‏51‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ‏(‏53‏)‏ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏54‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

ومحل ‏{‏الذين‏}‏ جر على الوصفية أو نصب على المدح أو رفع عليه ‏{‏يَخْشَوْنَ رَبَّهُم‏}‏ يخافونه ‏{‏بالغيب‏}‏ حال أي يخافونه في الخلاء ‏{‏وَهُمْ مّنَ الساعة‏}‏ القيامة وأهوالها ‏{‏مُشْفِقُونَ‏}‏ خائفون ‏{‏وهذا‏}‏ القرآن ‏{‏ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ‏}‏ كثير الخير غزير النفع ‏{‏أنزلناه‏}‏ على محمد ‏{‏أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ‏}‏ استفهام توبيخ أي جاحدون أنه منزل من عند الله‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ‏}‏ هداه ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل موسى وهرون أو من قبل محمد عليه السلام ‏{‏وَكُنَّا بِهِ‏}‏ بابراهيم أو برشده ‏{‏عالمين‏}‏ أي علمنا أنه أهل لما آتيناه ‏{‏إِذْ‏}‏ إما أن تتعلق ب ‏{‏اتيناه‏}‏ أو ب ‏{‏رشده‏}‏ ‏{‏قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل‏}‏ أي الأصنام المصورة على صورة السباع والطيور والإنسان، وفيه تجاهل لهم ليحقر آلهتهم مع علمه بتعظيمهم لها ‏{‏التى أَنتُمْ لَهَا عاكفون‏}‏ أي لأجل عبادتها مقيمون‏.‏ فلما عجزوا عن الإتيان بالدليل على ذلك‏.‏

‏{‏قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين‏}‏ فقلدناهم ‏{‏قَالَ‏}‏ إبراهيم ‏{‏لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ أراد أن المقلدين والمقلدين منخرطون في سلك ضلال ظاهر لا يخفى على عاقل، وأكد ب ‏{‏أنتم‏}‏ ليصح العطف لأن العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع ‏{‏قَالُواْ أَجِئْتَنَا بالحق‏}‏ بالجد ‏{‏أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين‏}‏ أي أجاد أنت فيما تقول أم لاعب استعظاماً منهم إنكاره عليهم واستبعاداً لأن يكون ما هم عليه ضلالاً، فثم أضرب عنهم مخبراً بأنه جاد فيما قال غير لاعب مثبتاً لربوبية الملك العلام وحدوث الأصنام بقوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 61‏]‏

‏{‏قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏56‏)‏ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ‏(‏57‏)‏ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ‏(‏58‏)‏ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏59‏)‏ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ‏(‏60‏)‏ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذى فطَرَهُنَّ‏}‏ أي التماثيل فأنى يعبد المخلوق ويترك الخالق ‏{‏وَأَنَاْ على ذلكم‏}‏ المذكور في التوحيد شاهد ‏{‏من الشاهدين وتالله‏}‏ أصله «والله» وفي التاء معنى التعجب من تسهيل الكيد على يده مع صعوبته وتعذره لقوة سلطة نمروذ‏.‏

‏{‏لاكِيدَنَّ أصنامكم‏}‏ لأكسرنها ‏{‏بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ‏}‏ بعد ذهابكم عنها إلى عيدكم، قال ذلك سراً من قومه فسمعه رجل واحد فعرض بقوله ‏{‏إِنّى سَقِيمٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 89‏]‏ أي سأسقم ليتخلف‏.‏ فرجع إلى بيت الأصنام ‏{‏فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً‏}‏ قطعاً من الجذ وهو القطع جمع جذاذة كزجاجة وزجاج جذاذ بالكسر‏:‏ علي، جمع جذيذ أي مجذوذ كخفيف وخفاف ‏{‏إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ‏}‏ للأصنام أو للكفار أي فكسرها كلها بفأس في يده إلا كبيرها فعلق الفأس في عنقه ‏{‏لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ‏}‏ إلى الكبير ‏{‏يَرْجِعُونَ‏}‏ فيسألونه عن كاسرها فتبين لهم عجزه، أو إلى إبراهيم ليحتج عليهم، أو إلى الله لما رأوا عجز آلتهم ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الكفار حين رجعوا من عيدهم ورأوا ذلك ‏{‏مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين‏}‏ أي إن من فعل هذا الكسر لشديد الظلم لجراءته على الآلهة الحقيقة عندهم بالتوقير والتعظيم ‏{‏قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم‏}‏ الجملتان صفتان ل ‏{‏فتى‏}‏ إلا أن الأول وهو ‏{‏يذكرهم‏}‏ أي يعيبهم لا بد منه للسمع لأنك لا تقول «سمعت زيداً» وتسكت حتى تذكر شيئاً مما يسمع بخلاف الثاني‏.‏ وارتفاع ‏{‏إبراهيم‏}‏ بأنه فاعل ‏{‏يقال‏}‏ فالمراد الاسم المسمى أي الذي يقال له هذا الاسم ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي نمروذ وأشراف قومه ‏{‏فَأْتُواْ بِهِ‏}‏ أحضروا إبراهيم ‏{‏على أَعْيُنِ الناس‏}‏ في محل الحال بمعنى معايناً مشاهداً أي بمرأى منهم ومنظر ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ‏}‏ عليه بما سمع منه أو بما فعله كأنهم كرهوا عقابه بلا بينة أو يحضرون عقوبتنا له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ‏(‏62‏)‏ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ‏(‏63‏)‏ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

فلما أحضروه ‏{‏قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِئَالِهَتِنَآ ياإبراهيم قَالَ‏}‏ إبراهيم ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ‏}‏ عن الكسائي‏:‏ إنه يقف عليه أي فعله من فعله، وفيه حذف الفاعل وأنه لا يجوز، وجاز أن يكون الفاعل مسنداً إلى الفتى المذكور في قوله ‏{‏سمعنا فتى يذكرهم‏}‏ أو إلى ‏{‏إبراهيم‏}‏ في قوله ‏{‏يا إبراهيم‏}‏ ثم قال ‏{‏كَبِيرُهُمْ هذا‏}‏ وهو مبتدأ وخبر‏.‏ والأكثر أنه لا وقف، والفاعل ‏{‏كبيرهم‏}‏ وهذا وصف أو بدل، ونسب الفعل إلى كبيرهم وقصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي تبكيتاً لهم وإلزاماً للحجة عليهم لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح علموا عجز كبيرهم وأنه لا يصلح إلهاً، وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط رشيق أنيق‏:‏ أأنت كتبت هذا وصاحبك أمي فقلت له «بل كتبته أنت» كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي، لأن إثباته للعاجز منكما والأمر كائن بينكما استهزاء به وإثبات للقادر، ويمكن أن يقال‏:‏ غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة وكان غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له، فأسند الفعل إليه لأن الفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه، ويجوز أن يكون حكاية لما يقود إلى تجويزه مذهبهم كأنه قال لهم‏:‏ ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعى إلهاً أن يقدر على هذا‏.‏ ويحكى أنه قال‏:‏ غضب أن تعبد هذه الصغار معه وهو أكبر منها فكسرهن، أو هو متعلق بشرط لا يكون وهو نطق الأصنام فيكون نفياً للمخبر عنه أي بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون، وقوله ‏{‏فَاسْئَلُوهُمْ‏}‏ اعتراض‏.‏ وقيل‏:‏ عرض بالكبير لنفسه وإنما أضاف نفسه إليهم لاشتراكهم في الحضور ‏{‏فَاسْئَلُوهُمْ‏}‏ عن حالهم ‏{‏إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ‏}‏ وأنتم تعلمون عجزهم عنه‏.‏

‏{‏فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ‏}‏ فرجعوا إلى عقولهم وتفكروا بقلوبهم لما أخذ بمخانقهم ‏{‏فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون‏}‏ على الحقيقة بعبادة ما لا ينطق لا من ظلمتموه حين قلتم ‏{‏من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين‏}‏ فإن من لا يدفع عن رأسه الفاس، كيف يدفع عن عابديه البأس‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 68‏]‏

‏{‏ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ‏(‏65‏)‏ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ‏(‏66‏)‏ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ نُكِسُواْ على رُؤُوسَهُمْ‏}‏ قال أهل التفسير‏:‏ أجرى الله تعالى الحق على لسانهم في القول الأول، ثم أدركتهم الشقاوة أي ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم، يقال‏:‏ نكسته قلبته فجعلت أسفله أعلاه أي استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤوا بالفكرة الصالحة ثم انقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة وقالوا ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ‏}‏ فكيف تأمرنا بسؤالها‏؟‏ والجملة سدت مسد مفعولي ‏{‏علمت‏}‏ والمعنى لقد علمت عجزهم عن النطق فكيف نسألهم‏؟‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ محتجاً عليهم ‏{‏أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً‏}‏ هو في موضع المصدر أي نفعاً ‏{‏وَلاَ يَضُرُّكُمْ‏}‏ إن لم تعبدوه ‏{‏أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ «أف» صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر، ضجر مما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق فتأفف بهم واللام لبيان المتأفف به أي لكم ولآلهتكم هذا التأفف ‏{‏أف‏}‏ مدني وحفص، ‏{‏أفّ‏}‏ مكي وشامي ‏{‏أفّ‏}‏ غيرهم ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أن من هذا وصفه لا يجوز أن يكون إلهاً‏.‏

فلما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب ‏{‏قَالُواْ حَرّقُوهُ‏}‏ بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظع ‏{‏وانصروا ءالِهَتَكُمْ‏}‏ بالانتقام منه ‏{‏إِن كُنتُمْ فاعلين‏}‏ أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصراً مؤزراً فاختاروا له أهول المعاقبات وهو الإحراق بالنار وإلا فرطتم في نصرتها، والذي أشار بإحراقه نمروذ أو رجل من أكراد فارس‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتاً بكوثى وجمعوا شهراً أصناف الخشب ثم أشعلوا ناراً عظيمة كادت الطير تحترق في الجو من وهجها، ثم وضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً فرموا به فيها وهو يقول‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل، وقال له جبريل‏:‏ هل لك حاجة‏؟‏ فقال‏:‏ أما إليك فلا‏.‏ قال‏:‏ فسل ربك‏.‏ قال‏:‏ حسبي من سؤالي علمه بحالي‏.‏ وما أحرقت النار إلا وثاقه‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ إنما نجا بقوله «حسبي الله ونعم الوكيل»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 72‏]‏

‏{‏قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ‏(‏69‏)‏ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ‏(‏70‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْنَا يَا نَارُ كُونِى بَرْداً وسلاما‏}‏ أي ذات برد وسلام فبولغ في ذلك كأن ذاتها برد وسلام ‏{‏على إبراهيم‏}‏ أراد ابردي فيسلم منك إبراهيم‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها‏.‏ والمعنى أن الله تعالى نزع عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق وأبقاها على الإضاءة والإشراق كما كانت وهو على كل شيء قدير ‏{‏وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً‏}‏ إحراقاً ‏{‏فجعلناهم الأخسرين‏}‏ فأرسل على نمروذ وقومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ودخلت بعوضة في دماغ نمروذ فأهلكته ‏{‏ونجيناه‏}‏ أي إبراهيم ‏{‏وَلُوطاً‏}‏ ابن أخيه هاران من العراق ‏{‏إِلَى الأرض التى بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين‏}‏ أي أرض الشام وبركتها أن أكثر الأنبياء منها فانتشرت في العالمين آثارهم الدينية وهي أرض خصب يطيب فيها عيش الغني والفقير‏.‏ وقيل‏:‏ ما من ماء عذب في الأرض إلا وينبع أصله من صخرة بيت المقدس‏.‏ روي أنه نزل بفلسطين ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة‏.‏ وقال عليه السلام ‏"‏ «إنها ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم» ‏"‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً‏}‏ قيل‏:‏ هو مصدر كالعافية من غير لفظ الفعل السابق أي وهبنا له هبة‏:‏ وقيل‏:‏ هي ولد الولد وقد سأل ولداً فأعطيه وأعطي يعقوب نافلة أي زيادة فضلاً من غير سؤال وهي حال من ‏{‏يعقوب‏}‏ ‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ أي إبراهيم وإسحق ويعقوب وهو المفعول الأول لقوله ‏{‏جَعَلْنَا‏}‏ والثاني ‏{‏صالحين‏}‏ في الدين والنبوة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 76‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ‏(‏73‏)‏ وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ‏(‏74‏)‏ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏75‏)‏ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏وجعلناهم أَئِمَّةً‏}‏ يقتدى بهم في الدين ‏{‏يَهْدُونَ‏}‏ الناس ‏{‏بِأَمْرِنَا‏}‏ بوحينا ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات‏}‏ وهي جميع الأعمال الصالحة وأصله أن تفعل الخيرات ثم فعلا الخيرات ثم فعل الخيرات‏.‏ وكذلك قوله ‏{‏وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة‏}‏ والأصل وإقامة الصلاة إلا أن المضاف إليه جعل بدلاً من الهاء ‏{‏وَكَانُواْ لَنَا عابدين‏}‏ لا للإصنام فأنتم يا معشر العرب أولاد إبراهيم فاتبعوه في ذلك‏.‏

‏{‏وَلُوطاً‏}‏ انتصب بفعل يفسره ‏{‏آتَيْنَاهُ حُكْمًا‏}‏ حكمة وهي ما يجب فعله من العمل أو فصلاً بين الخصوم أو نبوة ‏{‏وَعِلْماً‏}‏ فقهاً ‏{‏ونجيناه مِنَ القرية‏}‏ من أهلها وهي سدوم ‏{‏التى كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث‏}‏ اللواطة والضراط وحذف المارة بالحصى وغيرها ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فاسقين‏}‏ خارجين عن طاعة الله ‏{‏وأدخلناه فِى رَحْمَتِنَا‏}‏ في أهل رحمتنا أو في الجنة ‏{‏إِنَّهُ مِنَ الصالحين‏}‏ أي جزاء له على صلاحه كما أهلكنا قومه عقاباً على فسادهم ‏{‏وَنُوحاً‏}‏ أي واذكر نوحاً ‏{‏إِذْ نادى‏}‏ أي دعا على قومه بالهلاك ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل هؤلاء المذكورين ‏{‏فاستجبنا لَهُ‏}‏ أي دعاءه ‏{‏فنجيناه وَأَهْلَهُ‏}‏ أي المؤمنين من ولده وقومه ‏{‏مِنَ الكرب العظيم‏}‏ من الطوفان وتكذيب أهل الطغيان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 79‏]‏

‏{‏وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏77‏)‏ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ‏(‏78‏)‏ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏ونصرناه مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ منعناه منهم أي من أذاهم ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فأغرقناهم أَجْمَعِينَ‏}‏ صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم‏.‏

‏{‏وَدَاوُودَ وسليمان‏}‏ أي واذكرهما ‏{‏إِذْ‏}‏ بدل منهما ‏{‏يَحْكُمَانِ فِى الحرث‏}‏ في الزرع أو الكرم ‏{‏إِذْ‏}‏ ظرف ل ‏{‏يحكمان‏}‏ ‏{‏نَفَشَتْ‏}‏ دخلت ‏{‏فِيهِ غَنَمُ القوم‏}‏ ليلاً فأكلته وأفسدته والنفش انتشار الغنم ليلاً بلا راع ‏{‏وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ‏}‏ أرادهما والمتحاكمين إليهما ‏{‏شاهدين‏}‏ أي كان ذلك بعلمنا ومرأى منا‏.‏

‏{‏ففهمناها‏}‏ أي الحكومة أو الفتوى ‏{‏سليمان‏}‏ وفيه دليل على أن الصواب كان مع سليمان صلوات الله عليه‏.‏ وقصته أن الغنم رعت الحرث وأفسدته بلا راع ليلاً فتحاكما إلى داود فحكم بالغنم لأهل الحرث وقد استوت قيمتاهما أي قيمة الغنم كانت على قدر النقصان من الحرث فقال سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة غير هذا أرفق بالفريقين، فعزم عليه ليحكمن فقال‏:‏ أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها والحرث إلى رب الغنم حتى يصلح الحرث ويعود كهيئته يوم أفسد ثم يترادان‏.‏ فقال‏:‏ القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك، وكان ذلك باجتهاد منهما وهذا كان في شريعتهم، فأما في شريعتنا فلا ضمان عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم بالليل أو بالنهار إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد، وعند الشافعي رحمه الله يجب الضمان بالليل‏.‏ وقال الجصاص‏:‏ إنما ضمنوا لأنهم أرسلوها‏.‏ ونسخ الضمان بقوله عليه السلام «العجماء جبار» وقال مجاهد‏:‏ كان هذا صلحاً وما فعله داود كان حكماً والصلح خير ‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ من داود وسليمان ‏{‏آتيناه حُكْماً‏}‏ نبوة ‏{‏وَعِلْماً‏}‏ معرفة بموجب الحكم ‏{‏وَسَخَّرْنَا‏}‏ وذللنا ‏{‏مَّعَ دَاوُودُ الجبال يُسَبّحْنَ‏}‏ وهو حال بمعنى مسبحات أو استئناف كأن قائلاً قال‏:‏ كيف سخرهن‏؟‏ فقال‏:‏ يسبحن ‏{‏والطير‏}‏ معطوف على الجبال أو مفعول معه، وقدمت الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأغرب وأدخل في الإعجاز لأنها جماد‏.‏ روي أنه كان يمر بالجبال مسبحاً وهي تتجاوبه‏:‏ وقيل‏:‏ كانت تسير معه حيث سار ‏{‏وَكُنَّا فاعلين‏}‏ بالأنبياء مثل ذلك وإن كان عجباً عندكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 82‏]‏

‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ‏(‏80‏)‏ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ‏(‏81‏)‏ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ‏}‏ أي عمل اللبوس والدروع واللبوس اللباس والمراد الدرع ‏{‏لِتُحْصِنَكُمْ‏}‏ شامي وحفص أي الصنعة، وبالنون‏:‏ أبو بكر وحماد أي الله عز وجل، وبالياء‏:‏ غيرهم أي اللبوس أو الله عز وجل ‏{‏مّن بَأْسِكُمْ‏}‏ من حرب عدوكم ‏{‏فَهَلْ أَنتُمْ شاكرون‏}‏ استفهام بمعنى الأمر أي فاشكروا الله على ذلك ‏{‏ولسليمان الريح‏}‏ أي وسخرنا له الريح ‏{‏عَاصِفَةً‏}‏ حال أي شديدة الهبوب ووصفت في موضع آخر بالرخاء لأنها تجري باختياره، وكانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفة لهبوبها على حكم إرادته ‏{‏تَجْرِى بِأَمْرِهِ‏}‏ بأمر سليمان ‏{‏إِلَى الأرض التى بَارَكْنَا فِيهَا‏}‏ بكثرة الأنهار والأشجار والثمار والمراد الشام، وكان منزله بها وتحمله الريح من نواحي الأرض إليها ‏{‏وَكُنَّا بِكُلّ شَئ عالمين‏}‏ وقد أحاط علمنا بكل شيء فتجري الأشياء كلها على ما يقتضيه علمنا ‏{‏وَمِنَ الشياطين‏}‏ أي وسخرنا منهم ‏{‏مَن يَغُوصُونَ لَهُ‏}‏ في البحار بأمره لاستخراج الدر وما يكون فيها ‏{‏وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك‏}‏ أي دون الغوص وهو بناء المحاريب والتماثيل والقصور والقدور والجفان ‏{‏وَكُنَّا لَهُمْ حافظين‏}‏ أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 85‏]‏

‏{‏وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏83‏)‏ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ‏(‏84‏)‏ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَيُّوبَ‏}‏ أي واذكر أيوب ‏{‏إِذْ نادى رَبَّهُ أَنّى‏}‏ أي دعا بأني ‏{‏مَسَّنِىَ الضر‏}‏ الضر بالفتح الضرر في كل شيء وبالضم الضرر في النفس من مرض أو هزال ‏{‏وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين‏}‏ ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب فكأنه قال‏:‏ أنت أهل أن ترحم وأيوب أهل أن يرحم فارحمه واكشف عنه الضر الذي مسه‏.‏ عن أنس رضي الله عنه‏:‏ أخبر عن ضعفه حين لم يقدر على النهوض إلى الصلاة ولم يشتك وكيف يشكو من قيل له ‏{‏إِنَّا وجدناه صَابِراً نّعْمَ العبد‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 44‏]‏ وقيل‏:‏ إنما شكا إليه تلذذاً بالنجوى لا منه تضرراً بالشكوى، والشكاية إليه غاية القرب كما أن الشكاية منه غاية البعد ‏{‏فاستجبنا لَهُ‏}‏ أجبنا دعاءه ‏{‏فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ‏}‏ فكشفنا ضره إنعاماً عليه ‏{‏وآتيناه أهله ومثلهم معهم‏}‏ روي أن أيوب عليه السلام كان رومياً من ولد إسحاق بن إبراهيم عليه السلام وله سبعة بنين وسبع بنات وثلاثة آلاف بعير وسبعة الاف شاة وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد ونخيل، فابتلاه الله تعالى بذهاب ولده وماله وبمرض في بدنه ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو ثلاث سنين، وقالت له امرأته يوماً‏:‏ لو دعوت الله عز وجل‏.‏ فقال‏:‏ كم كانت مدة الرخاء‏؟‏ فقالت‏:‏ ثمانين سنة‏.‏ فقال‏:‏ أنا أستحي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي‏.‏ فلما كشف الله عنه أحيا ولده بأعيانهم ورزقه مثلهم معهم ‏{‏رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا‏}‏ هو مفعول له ‏{‏وذكرى للعابدين‏}‏ يعني رحمة لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كصبره فيثابوا كثوابه‏.‏

‏{‏وإسماعيل‏}‏ بن إبراهيم ‏{‏وَإِدْرِيسَ‏}‏ بن شيت بن آدم ‏{‏وَذَا الكفل‏}‏ أي اذكرهم وهو الياس أو زكريا أو يوشع بن نون، وسمي به لأنه ذو الحظ من الله والكفل الحظ ‏{‏كُلٌّ مّنَ الصابرين‏}‏ أي هؤلاء المذكورون كلهم موصوفون بالصبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 88‏]‏

‏{‏وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏86‏)‏ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏87‏)‏ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏وأدخلناهم فِى رَحْمَتِنَا‏}‏ نبوتنا أو النعمة في الآخرة ‏{‏إِنَّهُمْ مّنَ الصالحين‏}‏ أي ممن لا يشوب صلاحهم كدر الفساد‏.‏

‏{‏وَذَا النون‏}‏ أي اذكر صاحب الحوت والنون الحوت فأضيف إليه ‏{‏إِذ ذَّهَبَ مغاضبا‏}‏ حال أي مراغماً لقومه‏.‏ ومعنى مغاضبته لقومه أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها‏.‏ روي أنه برم بقومه لطول ما ذكرهم فلم يتعظوا وأقاموا على كفرهم فراغمهم وظن أن ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضباً لله وبغضاً للكفر وأهله وكان عليه أن يصابر وينتظر الإذن من الله تعالى في المهاجرة عنهم فابتلي ببطن الحوت ‏{‏فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ‏}‏ نضيق ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل يوماً على معاوية فقال‏:‏ لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك‏.‏ قال‏:‏ وما هي يا معاوية‏؟‏ فقرأ الآية‏.‏ فقال‏:‏ أو يظن نبي الله أن لا يقدر عليه‏؟‏ قال‏:‏ هذا من القدر لا من القدرة ‏{‏فنادى فِى الظلمات‏}‏ أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله ‏{‏ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏ أو ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت ‏{‏أن‏}‏ أي بأنه ‏{‏لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ‏}‏ أو بمعنى أي ‏{‏سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين‏}‏ لنفسي في خروجي من قومي قبل أن تأذن لي في الحديث ‏"‏ ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له ‏"‏ وعن الحسن‏:‏ ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم‏.‏ ‏{‏فاستجبنا لَهُ ونجيناه مِنَ الغم‏}‏ غم الزلة والوحشة والوحدة ‏{‏وكذلك نُنجِى المؤمنين‏}‏ إذا دعونا واستغاثوا بنا‏.‏ ‏{‏نجى‏}‏ شامي وأبو بكر بإدغام النون في الجيم عند البعض لأن النون لا تدغم في الجيم‏.‏ وقيل‏:‏ تقديره نجى النجاء المؤمنين فسكن الياء تخفيفاً وأسند الفعل إلى المصدر ونصب المؤمنين بالنجاء لكن فيه إقامة المصدر مقام الفاعل مع وجود المفعول وهذا لا يجوز، وفيه تسكين الياء وبابه الضرورات‏.‏ وقيل‏:‏ أصله «ننجى» من التنجية فحذفت النون الثانية لاجتماع النونين كما حذفت إحدى التاءين في ‏{‏تَنَزَّلُ الملائكة‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 4‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 91‏]‏

‏{‏وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ‏(‏89‏)‏ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ‏(‏90‏)‏ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً‏}‏ سأل ربه أن يرزقه ولداً يرثه ولا يدعه وحيداً بلا وارث، ثم رد أمره إلى الله مستسلماً فقال ‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين‏}‏ أي فإن لم تزرقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث أي باق ‏{‏فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى‏}‏ ولداً ‏{‏وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ‏}‏ جعلناها صالحة للولادة بعد العقار أي بعد عقرها أو حسنة وكانت سيئة الخلق ‏{‏إنهم‏}‏ أي الأنبياء المذكورين ‏{‏كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الخيرات‏}‏ أي أنهم إنما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم لمبادرتهم أبواب الخير ومسارعتهم في تحصيلها ‏{‏وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً‏}‏ أي طمعاً وخوفاً كقوله ‏{‏يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُو رَّحْمَةِ رَبّهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏ وهما مصدران في موضع الحال أو المفعول له أي للرغبة فينا والرهبة منا ‏{‏وَكَانُواْ لَنَا خاشعين‏}‏ متواضعين خائفين‏.‏

‏{‏والتى‏}‏ أي واذكر التي ‏{‏أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا‏}‏ حفظته من الحلال والحرام ‏{‏فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا‏}‏ أجرينا فيها روح المسيح أو أمرنا جبريل فنفخ في جيب درعها فأحدثنا بذلك النفخ عيسى في بطنها، وإضافة الروح إليه تعالى لتشريف عيسى عليه السلام ‏{‏وجعلناها وابنها ءايَةً‏}‏ مفعول ثان ‏{‏للعالمين‏}‏ وإنما لم يقل آيتين كما قال ‏{‏وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 12‏]‏ لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير فحل، أو التقدير وجعلناها آية وابنها كذلك ف ‏{‏آية‏}‏ مفعول المعطوف عليه ويدل عليه قراءة من قرأ ‏{‏آيتين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 96‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ‏(‏92‏)‏ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ‏(‏93‏)‏ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ‏(‏94‏)‏ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏95‏)‏ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ لأمة الملة وهذه إشارة إلى ملة الإسلام وهي ملة جميع الأنبياء‏.‏ و‏{‏أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ حال أي متوحدة غير متفرقة والعالم ما دل عليه اسم الإشارة أي أن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها لا تنحرفون عنها يشار إليها ملة واحدة غير مختلفة ‏{‏وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون‏}‏ أي ربيتكم اختياراً فاعبدوني شكراً وافتخاراً والخطاب للناس كافة‏.‏

‏{‏وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ‏}‏ أصل الكلام وتقطعتم إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات، والمعنى وجعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً وصاروا فرقاً وأحزاباً‏.‏ ثم توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة ‏{‏كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون‏}‏ فنجازيهم على أعمالهم ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات‏}‏ شيئاً ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ بما يجب الإيمان به ‏{‏فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ‏}‏ أي فإن سعيه مشكور مقبول والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه وقد نفى نفي الجنس ليكون أبلغ ‏{‏وَإِنَّا لَهُ‏}‏ للسعي أي الحفظة بأمرنا ‏{‏كاتبون‏}‏ في صحيفة عمله فنثيبه به ‏{‏وَحَرَامٌ‏}‏ ‏{‏وحرم‏}‏ كوفي غير حفص وخلف وهما لغتان كحل وحلال وزناً وضده معنى والمراد بالحرام الممتنع وجوده ‏{‏على قَرْيَةٍ أهلكناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ والمعنى ممتنع على مهلك غير ممكن أن لا يرجع إلى الله بالبعث، أو حرام على قرية أهلكناها أي قدرنا إهلاكهم أو حكمنا بإهلاكهم ذلك وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعي المشكور غير المكفور أنهم لا يرجعون من الكفر إلى الإسلام‏.‏

‏{‏حتى‏}‏ هي التي يحكى بعدها الكلام والكلام المحكي الجملة من الشرط والجزاء أعني ‏{‏إِذَا‏}‏ و«ما» في حيزما ‏{‏فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ‏}‏ أي فتح سدهما فحذف المضاف كما حذف المضاف إلى قرية ‏{‏فتّحت‏}‏‏:‏ شامي وهما قبيلتان من جنس الإنس‏.‏ يقال‏:‏ الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج ومأجوج ‏{‏وَهُمْ‏}‏ راجع إلى الناس المسوقين إلى المحشر‏.‏ وقيل‏:‏ هم يأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السد ‏{‏مّن كُلّ حَدَبٍ‏}‏ نشز من الأرض أي ارتفاع ‏{‏يَنسِلُونَ‏}‏ يسرعون

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 101‏]‏

‏{‏وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏97‏)‏ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ‏(‏98‏)‏ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏99‏)‏ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏100‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏واقترب الوعد الحق‏}‏ أي القيامة وجواب ‏{‏إذا‏}‏ ‏{‏فَإِذَا هِىَ‏}‏ وهي «إذا» المفاجأة وهي تقع في المجازاة سادة مسد الفاء كقوله ‏{‏إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 36‏]‏ فإذا جاءت الفاء معها تعاونتاً على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد، ولو قيل فهي شاخصة أو إذا هي شاخصة كان سديداً وهي ضمير مبهم يوضحه الأبصار ويفسره ‏{‏شاخصة أبصار الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي مرتفعة الأجفان لا تكاد تطرف من هول ما هم فيه ‏{‏ياويلنا‏}‏ متعلق بمحذوف تقديره يقولون يا ويلنا و‏{‏يقولون‏}‏ حال من ‏{‏الذين كفروا‏}‏ ‏{‏قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذا‏}‏ اليوم ‏{‏بَلْ كُنَّا ظالمين‏}‏ بوضعنا العبادة في غير موضعها‏.‏

‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ يعني الأصنام وإبليس وأعوانه لأنهم بطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم ‏{‏حَصَبُ‏}‏ حطب وقرئ ‏{‏حطب‏}‏ ‏{‏جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ‏}‏ فيها داخلون ‏{‏لَوْ كَانَ هَؤُلاء ءالِهَةً‏}‏ كما زعمتم ‏{‏مَّا وَرَدُوهَا‏}‏ ما دخلوا النار ‏{‏وَكُلٌّ‏}‏ أي العابد والمعبود ‏{‏فِيهَا‏}‏ في النار ‏{‏خالدون لَهُمْ‏}‏ للكفار ‏{‏فِيهَا زَفِيرٌ‏}‏ أنين وبكاء وعويل‏.‏

‏{‏وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ شيئاً ما لأنهم صاروا صماً وفي السماع نوع أنس فلم يعطوه‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى‏}‏ الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن وهي السعادة أو البشرى بالثواب أو التوفيق للطاعة فنزلت جواباً لقول ابن الزبعري عند تلاوته عليه السلام على صناديد قريش ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ إلى قوله ‏{‏خالدون‏}‏ أليس اليهود عبدوا عزيراً، والنصارى المسيح، وبنو مليح الملائكة على أن قوله ‏{‏وما تعبدون‏}‏ لا يتناولهم لأن «ما» لمن لا يعقل إلا أنهم أهل عناد فزيد في البيان ‏{‏أولئك‏}‏ يعني عزيراً والمسيح والملائكة ‏{‏عَنْهَا‏}‏ عن جهنم ‏{‏مُبْعَدُونَ‏}‏ لأنهم لم يرضوا بعبادتهم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بقوله ‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى‏}‏ جميع المؤمنين لما روي أن عليًّا رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال‏:‏ «أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف» وقال الجنيد رحمه الله‏:‏ سبقت لهم منا العناية في البداية فظهرت لهم الولاية في النهاية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 104‏]‏

‏{‏لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ‏(‏102‏)‏ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏103‏)‏ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا‏}‏ صوتها الذي يحس وحركة تلهبها وهذه مبالغة في الإبعاد عنها أي لا يقربونها حتى لا يسمعوا صوتها وصوت من فيها ‏{‏وَهُمْ فِى مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ‏}‏ من النعيم ‏{‏خالدون‏}‏ مقيمون والشهوة طلب النفس اللذة ‏{‏لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر‏}‏ النفخة الأخيرة ‏{‏وتتلقاهم الملئكة‏}‏ أي تستقبلهم الملائكة مهنئين على أبواب الجنة يقولون ‏{‏هذا يَوْمُكُمُ الذى كُنتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ أي هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم في الدنيا‏.‏

العامل في ‏{‏يَوْمَ نَطْوِى السماء‏}‏ ‏{‏لا يحزنهم‏}‏ أو ‏{‏تتلقاهم‏}‏ ‏{‏تطوى السماء‏}‏ يزيد، وطيها تكوير نجومها ومحو رسومها أو هو ضد النشر نجمعها ونطويها ‏{‏كَطَىّ السجل‏}‏ أي لصحيفة ‏{‏لِلْكُتُبِ‏}‏ حمزة وعلي وحفص أي للمكتوبات أي لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة وغيرهم للكتاب أي كما يطوى الطومار للكتابة، أو لما يكتب فيه لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء ثم يوقع على المكتوب‏.‏ وقيل‏:‏ السجل‏:‏ ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه‏.‏ وقيل‏:‏ كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والكتاب على هذا اسم الصحيفة المكتوب فيها والطي مضاف إلى الفاعل وعلى الأول إلى المفعول ‏{‏كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ‏}‏ انتصب الكاف بفعل مضمر يفسره ‏{‏نعيده‏}‏ و«ما» موصولة أي نعيد مثل الذي بدأناه نعيده، و‏{‏أول خلق‏}‏ ظرف ل ‏{‏بدأنا‏}‏ أي أول ما خلق، أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى‏.‏ وأول الخلق إيجاده أي فكما أوجده أو لا يعيده ثانياً تشبيهاً للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء‏.‏ والتنكير في خلق مثله في قولك «هو أول رجل جاءني» تريد أول الرجال ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلاً رجلاً فكذلك معنى ‏{‏أول خلق‏}‏ أول الخلق بمعنى أول الخلائق لأن الخلق مصدر لا يجمع ‏{‏وَعْداً‏}‏ مصدر مؤكد لأن قوله ‏{‏تعيده‏}‏ عدة للإعادة ‏{‏عَلَيْنَا‏}‏ أي وعدا كائناً لا محالة ‏{‏إِنَّا كُنَّا فاعلين‏}‏ ذلك أي محققين هذا الوعد فاستعدوا له وقدموا صالح الأعمال للخلاص من هذه الأهوال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 107‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ‏(‏105‏)‏ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ‏(‏106‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور‏}‏ كتاب داود عليه السلام ‏{‏مِن بَعْدِ الذكر‏}‏ التوراة ‏{‏أن الأرض‏}‏ أي الشام ‏{‏يَرِثُهَا عِبَادِىَ‏}‏ ساكنة الياء‏:‏ حمزة غيره بفتح الياء ‏{‏الصالحون‏}‏ أي أمة محمد عليه السلام، أو الزبور بمعنى المزبور أي المكتوب يعني ما أنزل على الأنبياء من الكتب‏.‏ والذكر أم الكتاب يعني اللوح لأن الكل أخذوا منه‏.‏ دليله قراءة حمزة وخلف بضم الزاي على جمع الزبر بمعنى المزبور والأرض أرض الجنة‏.‏

‏{‏إِنَّ فِى هذا‏}‏ أي القرآن أو في المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ ‏{‏لبلاغا‏}‏ لكفاية وأصله ما تبلغ به البغية ‏{‏لّقَوْمٍ عابدين‏}‏ موحدين وهم أمة محمد عليه السلام ‏{‏وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً‏}‏ قال عليه السلام «إنما أنا رحمة مهداة» ‏{‏للعالمين‏}‏ لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه ومن لم يتبع فإنما أتى من نفسه حيث ضيع نصيبه منها‏.‏ وقيل‏:‏ هو رحمة للمؤمنين في الدارين وللكافرين في الدنيا بتأخير العقوبة فيها‏.‏ وقيل‏:‏ هو رحمة للمؤمنين والكافرين في الدنيا بتأخير عذاب الاستئصال والمسخ والخسف‏.‏ و‏{‏رحمة‏}‏ مفعول له أو حال أي ذا رحمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 112‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏108‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ‏(‏109‏)‏ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ‏(‏110‏)‏ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏111‏)‏ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا‏}‏ إنما لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم نحو «إنما زيد قائم وإنما يقوم زيد»‏.‏ وفاعل ‏{‏يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ‏}‏ والتقدير يوحي إليَّ وحدانية إلهي، ويجوز أن يكون المعنى أن الذي يوحي إليّ فتكون «ما» موصولة ‏{‏فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ‏}‏ استفهام بمعنى الأمر أي أسلموا ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ عن الإسلام ‏{‏فَقُلْ ءاذَنتُكُمْ‏}‏ أعلمتكم ما أمرت به ‏{‏على سَوَاء‏}‏ حال أي مستوين في الإعلام به ولم أخصص بعضكم، وفيه دليل بطلان مذهب الباطنية ‏{‏وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ‏}‏ أي لا أدري متى يكون يوم القيامة لأن الله تعالى لم يطلعني عليه ولكني أعلم بأنه كائن لا محالة، أو لا أدري متى يحل بكم العذاب إن لم تؤمنوا ‏{‏إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ‏}‏ إنه عالم بكل شيء يعلم ما تجاهرونني به من الطعن في الإسلام وما تكتمونه في صدوركم من الأحقاد للمسلمين وهو مجازيكم عليه‏.‏

‏{‏وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ‏}‏ وما أدري لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا امتحان لكم لينظر كيف تعملون ‏{‏ومتاع إلى حِينٍ‏}‏ وتمتيع لكم إلى الموت ليكون ذلك حجة عليكم ‏{‏قَالَ رَبّ احكم بالحق‏}‏ اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل، أو بما يحق عليهم من العذاب ولا تحابهم وشدد عليهم كما قال «واشدد وطأتك على مضر»‏.‏ ‏{‏قال رب‏}‏ حفص على حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏رب احكم‏}‏ يزيد ‏{‏ربي أحكم‏}‏ زيد عن يعقوب ‏{‏وَرَبُّنَا الرحمن‏}‏ العاطف على خلقه ‏{‏المستعان‏}‏ المطلوب منه المعونة ‏{‏على مَا تَصِفُونَ‏}‏ وعن ابن ذكوان بالياء، كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه وكانوا يطمعون أن تكون الشوكة لهم والغلبة فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وخذلهم أي الكفار وهو المستعان على ما يصفون‏.‏

سورة الحج

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ‏(‏1‏)‏ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الناس اتقوا رَبَّكُمُ‏}‏ أمر بني آدم بالتقوى، ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول صفة بقوله ‏{‏إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَئ عَظِيمٌ‏}‏ لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوروها بعقولهم حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم بامتثال ما أمرهم به ربهم من التردي بلباس التقوى الذي يؤمنهم من تلك الأفزاع‏.‏ والزلزلة شدة التحريك والإزعاج، وإضافة الزلزلة إلى الساعة إضافة المصدر إلى فاعله كأنها هي التي تزلزل الأرض على المجاز الحكمي، أو إلى الظرف لأنها تكون فيها كقوله ‏{‏بَلْ مَكْرُ الليل والنهار‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 33‏]‏ ووقتها يكون يوم القيامة أو عند طلوع الشمس من مغربها، ولا حجة فيها للمعتزلة في تسمية المعدوم شيئاً فإن هذا اسم لها حال وجودها وانتصب ‏{‏يَوْمَ تَرَوْنَهَا‏}‏ أي الزلزلة أو الساعة بقوله ‏{‏تَذْهَلُ‏}‏ تغفل‏.‏ والذهول‏:‏ الغفلة ‏{‏كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ‏}‏ عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل‏.‏ وقيل ‏{‏مرضعة‏}‏ ليدل على أن ذلك الهول إذا حدث وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة إذ المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به ‏{‏وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ‏}‏ أي حبلى ‏{‏حِمْلِهَا‏}‏ ولدها قبل تمامه‏.‏ عن الحسن‏:‏ تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام ‏{‏وَتَرَى الناس‏}‏ أيها الناظر ‏{‏سكارى‏}‏ على التشبيه لما شاهدوا بساط العزة وسلطنة الجبروت وسرادق الكبرياء حتى قال كل نبي‏:‏ نفسي نفسي ‏{‏وَمَا هُم بسكارى‏}‏ على التحقيق ‏{‏ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ‏}‏ فخوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وطير تمييزهم وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه‏.‏ وعن الحسن‏:‏ وترى الناس سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب‏.‏ ‏{‏سكرى‏}‏ فيهما بالإمالة‏:‏ حمزة وعلي وهو كعطشى في عطشان‏.‏ رُوي أنه نزلت الآيتان ليلاً في غزوة بني المصطلق فقرأهما النبي عليه السلام فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 4‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ‏(‏3‏)‏ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله‏}‏ في دين الله ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ حال‏.‏ نزلت في النضر بن الحرث وكان جدلاً يقول‏:‏ الملائكة بنات الله، والقرآن‏:‏ أساطير الأولين، والله غير قادر على إحياء من بلي، أو هي عامة في كل من يخاصم في الدين بالهوى ‏{‏وَيَتَّبِعْ‏}‏ في ذلك ‏{‏كُلَّ شيطان مَّرِيدٍ‏}‏ عاتٍ مستمر في الشر‏.‏ ولا وقف على ‏{‏مريد‏}‏ لأن ما بعده صفته ‏{‏كُتِبَ عَلَيْهِ‏}‏ قضي على الشيطان ‏{‏أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ‏}‏ تبعه أي تبع الشيطان ‏{‏فأَنَّه‏}‏ فأن الشيطان ‏{‏يُضِلُّهُ‏}‏ عن سواء السبيل ‏{‏وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير‏}‏ النار‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الفاء في فأنه للعطف و«أن» مكررة للتأكيد‏.‏ ورد عليه أبو علي وقال‏:‏ إن «من» إن كان للشرط فالفاء دخل لجزاء الشرط، وإن كان بمعنى الذي فالفاء دخل على خبر المبتدأ والتقدير‏:‏ فالأمر أنه يضله‏.‏ قال‏:‏ والعطف والتأكيد يكون بعد تمام الأول، والمعنى كتب على الشيطان إضلال من تولاه وهدايته إلى النار‏.‏

ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ البعث‏}‏ يعني إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم وقد كنتم في الابتداء تراباً وماء، وليس سبب إنكاركم البعث إلا هذا وهو صيرورة الخلق تراباً وماء ‏{‏فَإِنَّا خلقناكم‏}‏ أي أباكم ‏{‏مّن تُرَابٍ ثُمَّ‏}‏ خلقتم ‏{‏مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ‏}‏ أي قطعة دم جامدة ‏{‏ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ‏}‏ أي لحمة صغيرة قدر ما يمضغ ‏{‏مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ‏}‏ المخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب كأن الله عز وجل يخلق المضغة متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم‏.‏ وإنما نقلناكم من حال إلى حال ومن خلقة إلى خلقة ‏{‏لّنُبَيّنَ لَكُمْ‏}‏ بهذا التدريج كمال قدرتنا وحكمتنا، وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولاً ثم من نطفة ثانياً ولا مناسبة بين التراب والماء وقدر أن يجعل النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظاماً قادر على إعادة ما بدأه ‏{‏وَنُقِرُّ‏}‏ بالرفع عند غير المفضل مستأنف بعد وقف‏.‏ أي نحن نثبت ‏{‏فِى الأرحام مَا نَشَاء‏}‏ ثبوته ‏{‏إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ أي وقت الولادة وما لم نشأ ثبوته أسقطته الأرحام ‏{‏ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ‏}‏ من الرحم ‏{‏طِفْلاً‏}‏ حال وأريد به الجنس فلذا لم يجمع، أو أريد به ثم نخرج كل واحد منكم طفلاً ‏{‏ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ‏}‏ ثم نربيكم لتبلغوا ‏{‏أَشُدَّكُمْ‏}‏ كمال عقلكم وقوتكم وهو من ألفاظ الجموع التي لا يستعمل لها واحد ‏{‏وَمِنكُمْ مَّن يتوفى‏}‏ عند بلوغ الأشد أو قبله أو بعده ‏{‏وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر‏}‏ أخسه يعني الهرم والخرف ‏{‏لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً‏}‏ أي لكيلا يعلم شيئاً من بعد ما كان يعلمه أو لكيلا يستفيد علماً وينسى ما كان عالماً به‏.‏

ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال ‏{‏وَتَرَى الأرض هَامِدَةً‏}‏ ميتة يابسة ‏{‏فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت‏}‏ تحركت بالنبات ‏{‏وَرَبَتْ‏}‏ وانتفخت‏.‏ ‏{‏وربأت‏}‏ حيث كان‏:‏ يزيد ارتفعت ‏{‏وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ‏}‏ صنف ‏{‏بَهِيجٍ‏}‏ حسن صار للناظرين إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 10‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏6‏)‏ وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏7‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ‏(‏8‏)‏ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏9‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏بِأَنَّ الله هُوَ الحق‏}‏ أي ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحكم حاصل بهذا وهو أن الله هو الحق أي الثابت الوجود ‏{‏وَأَنَّهُ يُحْىِ الموتى‏}‏ كما أحيا الأرض ‏{‏وَأَنَّهُ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ قادر ‏{‏وَأَنَّ الساعة ءاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِى القبور‏}‏ أي أنه حكيم لا يخلف الميعاد وقد وعد الساعة والبعث فلا بد أن يفي بما وعد ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله‏}‏ في صفاته فيصفه بغير ما هو له‏.‏ نزلت في أبي جهل ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ ضروري ‏{‏وَلاَ هُدًى‏}‏ أي استدلال لأنه يهدي إلى المعرفة ‏{‏وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ‏}‏ أي وحي والعلم للإنسان من أحد هذه الوجوه الثلاثة ‏{‏ثَانِىَ عِطْفِهِ‏}‏ حال أي لاوياً عنقه عن طاعة الله كبراً وخيلاء‏.‏ وعن الحسن‏:‏ ‏{‏ثاني عطفه‏}‏ بفتح العين أي مانع تعطفه إلى غيره ‏{‏لِيُضِلَّ‏}‏ تعليل للمجادلة‏.‏ ‏{‏ليضل‏}‏ مكي وأبو عمرو ‏{‏عَن سَبِيلِ الله‏}‏ دينه ‏{‏لَهُ فِى الدنيا خِزْىٌ‏}‏ أي القتل يوم بدر ‏{‏وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق‏}‏ أي جمع له عذاب الدارين ‏{‏ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ‏}‏ أي السبب في عذاب الدارين هو ما قدمت نفسه من الكفر والتكذيب، وكنى عنها باليد لأن اليد آلة الكسب ‏{‏وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ فلا يأخذ أحداً بغير ذنب ولا بذنب غيره وهو عطف على ‏{‏بما‏}‏ أي وبأن الله‏.‏ وذكر الظلام بلفظ المبالغة لاقترانه بلفظ الجمع وهو العبيد، ولأن قليل الظلم منه مع علمه بقبحه واستغنائه كالكثير منا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ‏(‏11‏)‏ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ‏}‏ على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة وهو حال أي مضطرباً ‏{‏فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ‏}‏ صحة في جسمه وسعة في معيشته ‏{‏اطمأن‏}‏ سكن واستقر ‏{‏بِهِ‏}‏ بالخير الذي أصابه أو بالدين فعبد الله ‏{‏وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ‏}‏ شر وبلاء في جسده وضيق في معيشته ‏{‏انقلب على وَجْهِهِ‏}‏ جهته أي ارتد ورجع إلى الكفر كالذي يكون على طرف من العسكر، فإن أحس بظفر وغنيمة قر واطمأن وإلا فر وطار على وجهه‏.‏ قالوا‏:‏ نزلت في أعاريب قدموا المدينة مهاجرين وكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهراً سوياً وولدت امرأته غلاماً سوياً وكثر ماله وماشيته قال‏:‏ ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيراً واطمأن، وإن كان الأمر بخلافه قال‏:‏ ما أصبت إلا شراً وانقلب عن دينه ‏{‏خَسِرَ الدنيا والآخرة‏}‏ حال «وقد» مقدرة دليله قراءة روح وزيد ‏{‏خاسر الدنيا والآخرة‏}‏ والخسران في الدنيا بالقتل فيها وفي الآخرة بالخلود في النار ‏{‏ذلك‏}‏ أي خسران الدارين ‏{‏هُوَ الخسران المبين‏}‏ الظاهر الذي لا يخفى على أحد‏.‏

‏{‏يَدْعُواْ مِن دُونِ الله‏}‏ يعني الصنم فإنه بعد الردة يفعل كذلك ‏{‏مَا لاَ يَضُرُّهُ‏}‏ إن لم يعبده ‏{‏وَمَا لاَ يَنفَعُهُ‏}‏ إن عبده ‏{‏ذلك هُوَ الضلال البعيد‏}‏ عن الصواب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 16‏]‏

‏{‏يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ‏(‏13‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ‏(‏14‏)‏ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ‏(‏15‏)‏ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏يَدْعُواْ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ‏}‏ والإشكال أنه تعالى نفى الضر والنفع عن الأصنام قبل هذه الآية وأثبتهما لها هنا‏.‏ والجواب أن المعنى إذا فهم ذهب هذا الوهم، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جماداً لا يملك ضراً ولا نفعاً وهو يعتقد فيه أنه ينفعه ثم قال يوم القيامة‏:‏ يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ولا يرى لها أثر الشفاعة لمن ضره أقرب من نفعه ‏{‏لَبِئْسَ المولى‏}‏ أي الناصر الصاحب ‏{‏وَلَبِئْسَ العشير‏}‏ المصاحب وكرر يدعوا كأنه قال‏:‏ يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ثم قال لمن ضره بكونه معبوداً أقرب من نفعه بكونه شفيعاً‏.‏

‏{‏إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ هذا وعد لمن عبد الله بكل حال لا لمن عبد الله على حرف ‏{‏مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِى الدنيا والآخرة‏}‏ المعنى أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة فمن ظن من أعاديه غير ذلك ‏{‏فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ‏}‏ بحبل ‏{‏إِلَى السماء‏}‏ إلى سماء بيته ‏{‏ثُمَّ لْيَقْطَعْ‏}‏ ثم ليختنق به، وسمي الاختناق قطعاً لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه‏.‏ وبكسر اللام بصري وشامي ‏{‏فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ‏}‏ أي الذي يغيظه أو «ما» مصدرية أي غيظه، والمعنى فليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه‏.‏ وسمي فعله كيداً على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده إنما كاد به نفسه والمراد ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ ‏{‏وكذلك أنزلناه‏}‏ ومثل ذلك الإنزال أنزل القرآن كله ‏{‏ءايات بينات‏}‏ واضحات ‏{‏وَأَنَّ الله يَهْدِى مَن يُرِيدُ‏}‏ أي ولأن الله يهدي به الذين يعلم أنهم يؤمنون، أو يثبت الذي آمنوا ويزيدهم هدى أنزله كذلك مبيّناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏17‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏18‏)‏ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أَشْرَكُواْ‏}‏ قيل‏:‏ الأديان خمسة‏:‏ أربعة للشيطان وواحد للرحمن، والصابئون نوع من النصارى فلا تكون ستة ‏{‏إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ في الأحوال والأماكن فلا يجازيهم جزاء واحداً ولا يجمعهم في موطن واحد‏.‏ وخبر ‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏ ‏{‏إن الله يفصل بينهم‏}‏ كما تقول «إن زيداً إن أباه قائم» ‏{‏إِنَّ الله على كُلّ شَئ شَهِيدٌ‏}‏ عالم به حافظ له فلينظر كل امرئ معتقده، وقوله وفعله وهو أبلغ وعيد

‏{‏أَلَم تَرَ‏}‏ ألم تعلم يا محمد علماً يقوم مقام العيان ‏{‏أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب‏}‏ قيل‏:‏ إن الكل يسجد له ولكنا لا نقف عليه كما لا نقف على تسبيحها قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مّن شَئ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏ وقيل‏:‏ سمي مطاوعة غير المكلف له فيما يحدث فيه من أفعاله وتسخيره له سجوداً له تشبيهاً لمطاوعته بسجود المكلف الذي كل خضوع دونه ‏{‏وَكَثِيرٌ مّنَ الناس‏}‏ أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة، أو هو مرفوع على الابتداء ‏{‏ومن الناس‏}‏ صفة له والخبر محذوف وهو مثاب ويدل عليه قوله ‏{‏وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب‏}‏ أي وكثير منهم حق عليه العذاب بكفره وإبائه السجود ‏{‏وَمَن يُهِنِ الله‏}‏ بالشقاوة ‏{‏فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ‏}‏ بالسعادة ‏{‏إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء‏}‏ من الإكرام والإهانة وغير ذلك، وظاهر هذه الآية والتي قبلها ينقض على المعتزلة قولهم لأنهم يقولون شاء أشياء ولم يفعل وهو يقول يفعل ما يشاء‏.‏

‏{‏هذان خَصْمَانِ‏}‏ أي فريقان مختصمان؛ فالخصم صفة وصف بها الفريق وقوله ‏{‏اختصموا‏}‏ للمعنى و‏{‏هذان‏}‏ للفظ والمراد المؤمنون والكافرون‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ رجع إلى أهل الأديان المذكورة‏:‏ فالمؤمنون خصم وسائر الخمسة خصم ‏{‏فِى رَبّهِمْ‏}‏ في دينه وصفاته، ثم بين جزاء كل خصم بقوله ‏{‏فالذين كَفَرُواْ‏}‏ وهو فصل الخصومة المعنى بقوله ‏{‏إن الله يفصل بينهم يوم القيامة‏}‏ ‏{‏قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ‏}‏ كأن الله يقدر لهم نيراناً على مقادير جثتهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة، واختير لفظ الماضي لأنه كائن لا محالة فهو كالثابت المتحقق ‏{‏يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ‏}‏ بكسر الهاء والميم، بصري، وبضمهما‏:‏ حمزة وعلي وخلف، وبكسر الهاء وضم الميم‏:‏ غيرهم ‏{‏الحميم‏}‏ الماء الحار‏.‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 23‏]‏

‏{‏يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ‏(‏20‏)‏ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ‏(‏21‏)‏ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏22‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏يُصْهَرُ‏}‏ يذاب ‏{‏بِهِ‏}‏ بالحميم ‏{‏مَا فِى بُطُونِهِمْ والجلود‏}‏ أي يذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم فيؤثر في الظاهر والباطن ‏{‏وَلَهُمْ مَّقَامِعُ‏}‏ سياط مختصة بهم ‏{‏مِنْ حَدِيدٍ‏}‏ يضربون بها ‏{‏كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا‏}‏ من النار ‏{‏مِنْ غَمّ‏}‏ بدل الاشتمال من منها بإعادة الجار، أو الأولى لابتداء الغاية والثانية بمعنى من أجل يعني كلما أرادوا الخروج من النار من أجل غم يلحقهم فخرجوا ‏{‏أُعِيدُواْ فِيهَا‏}‏ بالمقامع، ومعنى الخروج عند الحسن أن النار تضربهم بلهبها فتلقيهم إلى أعلاها فضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً، والمراد إعادتهم إلى معظم النار لا أنهم ينفصلون عنها بالكلية ثم يعودون إليها ‏{‏وَذُوقُواْ‏}‏ أي وقيل لهم ذوقوا ‏{‏عَذَابَ الحريق‏}‏ هو الغليظ من النار المنتشر العظيم الإهلاك‏.‏

ثم ذكر جزاء الخصم الآخر فقال‏:‏

‏{‏إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ‏}‏ جمع أسورة جمع سوار ‏{‏مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً‏}‏ بالنصب‏:‏ مدني وعاصم وعلي ويؤتون لؤلؤاً وبالجر‏:‏ غيرهم عطفاً على ‏{‏من ذهب‏}‏ وبترك الهمزة الأولى في كل القرآن‏:‏ أبو بكر وحماد ‏{‏وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ‏}‏ إبريسم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 26‏]‏

‏{‏وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ‏(‏24‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏25‏)‏ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول وَهُدُواْ إلى صراط الحميد‏}‏ أي أرشد هؤلاء في الدنيا إلى كلمة التوحيد و‏{‏إلى صراط الحميد‏}‏ أي الإسلام أو هداهم الله في الآخرة وألهمهم أن يقولوا‏:‏ الحمد لله الذي صدقنا وعده وهداهم إلى طريق الجنة‏.‏ والحميد الله المحمود بكل لسان‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ أي يمنعون عن الدخول في الإسلام ويصدون، حال من فاعل ‏{‏كفروا‏}‏ أي وهم يصدون أي الصدود منهم مستمر دائم كما يقال «فلان يحسن إلى الفقراء» فإنه يراد به استمرار وجود الإحسان منه في الحال والاستقبال ‏{‏والمسجد الحرام‏}‏ أي ويصدون عن المسجد الحرام والدخول فيه ‏{‏الذى جعلناه لِلنَّاسِ‏}‏ مطلقاً من غير فرق بين حاضر وبادٍ، فإن أريد به البيت فالمعنى أنه قبلة لجميع الناس ‏{‏سَوَآء‏}‏ بالنصب‏:‏ حفص مفعول ثانٍ ل ‏{‏جعلناه‏}‏ أي جعلناه مستوياً ‏{‏العاكف فِيهِ والباد‏}‏ وغير المقيم‏.‏ بالياء‏:‏ مكي وافقه أبو عمرو في الوصل وغيره بالرفع على أنه خبر والمبتدأ مؤخر أي العاكف فيه والباد سواء، والجملة مفعول ثانٍ ‏{‏للناس‏}‏ حال ‏{‏وَمَن يُرِدْ فِيهِ‏}‏ في المسجد الحرام ‏{‏بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ‏}‏ حالان مترادفان ومفعول ‏{‏يرد‏}‏ متروك ليتناول كل متناول كأنه قال‏:‏ ومن يرد فيه مراداً ما عادلاً عن القصد ظالماً، فالإلحاد العدول عن القصد ‏{‏نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ في الآخرة وخبر «إن» محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره‏:‏ إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم وكل من ارتكب فيه ذنباً فهو كذلك‏.‏

‏{‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت‏}‏ واذكر يا محمد حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة وقد رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء، فأعلم الله إبراهيم مكانه بريح أرسلها فكنست مكان البيت فبناه على أسه القديم ‏{‏أن‏}‏ هي المفسرة للقول المقدر أي قائلين له ‏{‏لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ‏}‏ من الأصنام والأقذار‏:‏ وبفتح الياء‏:‏ مدني وحفص ‏{‏لِلطَّائِفِينَ‏}‏ لمن يطوف به ‏{‏والقائمين‏}‏ والمقيمين بمكة ‏{‏والركع السجود‏}‏ المصلين جمع راكع وساجد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَذّن فِى الناس بالحج‏}‏ ناد فيهم، والحج هو القصد البليغ إلى مقصد منيع‏.‏ ورُوي أنه صعد أبا قبيس فقال‏:‏ يا أيها الناس حجوا بيت ربكم‏.‏ فأجاب من قدر له أن يحج من الأصلاب والأرحام بلبيك اللهم لبيك‏.‏ وعن الحسن أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع‏.‏ والأول أظهر وجواب الأمر ‏{‏يَأْتُوكَ رِجَالاً‏}‏ مشاة جمع راجل كقائم وقيام ‏{‏وعلى كُلّ ضَامِرٍ‏}‏ حال معطوفة على رجال كأنه قال‏:‏ رجالاً وركباناً‏.‏ والضامر البعير المهزول، وقدم الرجال على الركبان إظهاراً لفضيلة المشات كما ورد في الحديث ‏{‏يَأْتِينَ‏}‏ صفة ل ‏{‏كل ضامر‏}‏ لأنه في معنى الجمع‏.‏ وقرأ عبد الله ‏{‏يأتون‏}‏ صفة للرجال والركبان ‏{‏مِن كُلّ فَجّ‏}‏ طريق ‏{‏عَميِقٍ‏}‏ بعيد‏.‏ قال محمد بن ياسين‏:‏ قال لي شيخ في الطواف‏:‏ من أين أنت‏؟‏ فقلت‏:‏ من خراسان‏.‏ قال‏:‏ كم بينكم وبين البيت‏؟‏ قلت‏:‏ مسيرة شهرين أو ثلاثة‏.‏ قال‏:‏ فأنتم جيران البيت‏؟‏ فقلت‏:‏ أنت من أين جئت‏؟‏ قال‏:‏ من مسيرة خمس سنوات وخرجت وأنا شاب فاكتهلت‏.‏ قلت‏:‏ والله هذه الطاعة الجميلة والمحبة الصادقة فقال‏:‏

زر من هويت وإن شطت بك الدار *** وحال من دونه حجب وأستار

لا يمنعنك بعدٌ عن زيارته *** إن المحب لمن يهواه زوّار

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

واللام في ‏{‏لّيَشْهَدُواْ‏}‏ ليحضروا متعلق ب ‏{‏أذن‏}‏ أو ب ‏{‏يأتوك‏}‏ ‏{‏منافع لَهُمْ‏}‏ نكرها لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادة، وهذا لأن العبادة شرعت للابتلاء بالنفس كالصلاة والصوم، أو بالمال كالزكاة، وقد اشتمل الحج عليهما مع ما فيه من تحمل الأثقال وركوب الأهوال وخلع الأسباب وقطيعة الأصحاب وهجر البلاد والأوطان وفرقة الأولاد والخلان، والتنبيه على ما يستمر عليه إذا انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء‏.‏ فالحاج إذا دخل البادية لا يتكل فيها إلا على عتاده، ولا يأكل إلا من زاده، فكذا المرء إذا خرج من شاطئ الحياة وركب بحر الوفاء لا ينفع وحدته إلا ما سعى في معاشه لمعاده، ولا يؤنس وحشته إلا ما كان يأنس به من أوراده، وغسل من يحرم وتأهبه ولبسه غير المخيط وتطيبه مرآة لما سيأتي عليه من وضعه على سريره لغسله وتجهيزه‏.‏ مطيباً بالحنوط ملففاً في كفن غير مخيط‏.‏ ثم المحرم يكون أشعث حيران فكذا يوم الحشر يخرج من القبر لهفان، ووقوف الحجيج بعرفات آملين رغباً ورهباً سائلين خوفاً وطمعاً وهم من بين مقبول ومخذول كموقف العرصات ‏{‏لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 105‏]‏ والإفاضة إلى المزدلفة بالمساء هو السوق لفصل القضاء، ومنى هو موقف المنى للمذنبين إلى شفاعة الشافعين، وحلق الرأس والتنظيف كالخروج من السيئات بالرحمة والتخفيف، والبيت الحرام الذي من دخله كان آمناً من الإيذاء والقتال أنموذج لدار السلام التي هي من نزلها بقي سالماً من الفناء والزوال غير أن الجنة حفت بمكاره النفس العادية كما أن الكعبة حفت بمتالف البادية، فمرحباً بمن جاوز مهالك البوادي شوقاً إلى اللقاء يوم التنادي‏.‏ ‏{‏وَيَذْكُرُواْ اسم الله‏}‏ عند الذبح ‏{‏فِى أَيَّامٍ معلومات‏}‏ هي عشر ذي الحجة عند أبي حنيفة رحمه الله وآخرها يوم النحر وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وأكثر المفسرين رحمهم الله وعند صاحبيه هي أيام النحر وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما ‏{‏على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام‏}‏ أي على ذبحه وهو يؤيد قولهما والبهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز‏.‏

‏{‏فَكُلُواْ مِنْهَا‏}‏ من لحومها، والأمر للإباحة، ويجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران لأنه دم نسك فأشبه الأضحية، ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا ‏{‏وَأَطْعِمُواْ البائس‏}‏ الذي أصابه بؤس أي شدة ‏{‏الفقير‏}‏ الذي أضعفه الإعسار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ‏}‏ ثم ليزيلوا عنهم أدرانهم كذا قاله نفطويه‏.‏ قيل‏:‏ قضاء التفث قص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد، والتفث‏:‏ الوسخ والمراد قضاء إزالة التفث‏.‏ وقال ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ قضاء التفث مناسك الحج كلها ‏{‏وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ‏}‏ مواجب حجهم والعرب تقول لكل من خرج عما وجب عليه‏:‏ وفى بنذره وإن لم ينذر، أو ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم، ‏{‏وليوفوا‏}‏ بسكون اللام والتشديد‏:‏ أبو بكر ‏{‏وَلْيَطَّوَّفُواْ‏}‏ طواف الزيارة الذي هو ركن الحج ويقع به تمام التحلل‏.‏ اللامات الثلاث ساكنة عند غير ابن عياش وأبي عمرو ‏{‏بالبيت العتيق‏}‏ القديم لأنه أول بيت وضع للناس بناه آدم ثم جدده إبراهيم، أو الكريم ومنه عتاق الخيل لكرائمها، وعتاق الرقيق لخروجه من ذل العبودية إلى كرم الحرية، أو لأنه أعتق من الغرق لأنه رفع زمن الطوفان، أو من أيدي الجبابرة؛ كم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله، أو من أيدي الملاك فلم يملك قط وهو مطاف أهل الغبراء كما أن العرش مطاف أهل السماء، فإن الطالب إذا هاجته معية الطرب وجذبته جواذب الطلب جعل يقطع مناكب الأرض مراحل ويتخذ مسالك المهالك منازل، فإذا عاين البيت لم يزده التسلي به إلا اشتياقاً ولم يفده التشفي باستلام الحجر إلا احتراقاً، فيرده الأسف لهفان ويردده اللهف حوله في الدوران، وطواف الزيارة آخر فرائض الحج الثلاث، وأولها الإحرام وهو عقد الالتزام يشبه الاعتصام بعروة الإسلام حتى لا يرتفض بارتكاب ما هو محظور فيه ويبقى عقده مع ما يفسده وينافيه، كما أن عقد الإسلام لا ينحل بازدحام الآثام وترتفع ألف حوبة بتوبة‏.‏ وثانيها الوقوف بعرفات بسمة الابتهال في صفة الاهتبال، وصدق الاعتزال عن دفع الاتكال على مراتب الأعمال وشواهد الأحوال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك أو تقديره ليفعلوا ذلك ‏{‏وَمَن يُعَظّمْ حرمات الله‏}‏ الحرمة ما لا يحل هتكه وجميع ما كلفه الله عز وجل بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها، فيحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصاً بما يتعلق بالحج‏.‏ وقيل‏:‏ حرمات الله البيت الحرام والمشعر الحرام والشهر الحرام والبلد الحرام ‏{‏فَهُوَ‏}‏ أي التعظيم ‏{‏خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ‏}‏ ومعنى التعظيم العلم بأنها واجبة المراعاة والحفظ والقيام بمراعاتها ‏{‏وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام‏}‏ أي كلها ‏{‏إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ آية تحريمه وذلك قوله ‏{‏حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ الآية‏.‏ والمعنى أن الله تعالى أحل لكم الأنعام كلها إلا ما بيّن في كتابه، فحافظوا على حدوده ولا تحرموا شيئاً مما أحل كتحريم البعض البحيرة ونحوها، ولا تحلوا مما حرم كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغيرهما‏.‏ ولما حث على تعظيم حرماته أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور بقوله ‏{‏فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور‏}‏ لأن ذلك من أعظم الحرمات وأسبقها حظراً‏.‏ و‏{‏من الأوثان‏}‏ بيان للرجس لأن الرجس مبهم يتناول غير شيء كأنه قيل‏:‏ فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان‏.‏ وسمى الأوثان رجساً على طريقة التشبيه يعني أنكم كما تنفرون بطباعكم عن الرجس فعليكم أن تنفروا عنها‏.‏ وجمع بين الشرك وقول الزور أي الكذب والبهتان أو شهادة الزور وهو من الزور وهو الانحراف، لأن الشرك من باب الزور إذ المشرك زاعم أن الوثن يحق له العبادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 34‏]‏

‏{‏حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ‏(‏31‏)‏ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ‏(‏32‏)‏ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏33‏)‏ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏حُنَفَاء للَّهِ‏}‏ مسلمين ‏{‏غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ‏}‏ حال كحنفاء ‏{‏وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ‏}‏ سقط ‏{‏مّنَ السماء‏}‏ إلى الأرض ‏{‏فَتَخْطَفُهُ الطير‏}‏ أي تسلبه بسرعة ‏{‏فتخطّفه‏}‏ أي تتخطفه مدني ‏{‏أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح‏}‏ أي تسقطه والهوي السقوط ‏{‏فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏ بعيد‏.‏ يجوز أن يكون هذا تشبيهاً مركباً، ويجوز أن يكون مفرقاً‏.‏ فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال‏:‏ من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق قطعاً في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة‏.‏ وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي أشرك بالله بالساقط من السماء‏.‏ والأهواء المردية بالطير المتخطفة والشيطان الذي هو يوقعه في الضلال بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر ذلك ‏{‏وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله‏}‏ تعظيم الشعائر وهي الهدايا لأنها من معالم الحج أن يختارها عظام الأجرام حساناً ثماناً غالية الأثمان ‏{‏فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب‏}‏ أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات‏.‏ وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى ‏{‏لَكُمْ فِيهَا منافع‏}‏ من الركوب عند الحاجة وشرب ألبانها عند الضرورة ‏{‏إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ إلى أن تنحر ‏{‏ثُمَّ مَحِلُّهَا‏}‏ أي وقت وجوب نحرها منتهية ‏{‏إلى البيت العتيق‏}‏ والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت إذ الحرم حريم البيت ومثله في الاتساع قولك «بلغت البلد» وإنما اتصل مسيرك بحدوده‏.‏ وقيل‏:‏ الشعائر المناسك كلها وتعظيمها إتمامها ومحلها إلى البيت العتيق يأباه ‏{‏وَلِكُلّ أُمَّةٍ‏}‏ جماعة مؤمنة قبلكم ‏{‏جَعَلْنَا مَنسَكًا‏}‏ حيث كان بكسر السين بمعنى الموضع‏:‏ علي وحمزة أي موضع قربان‏.‏ وغيرهما‏:‏ بالفتح على المصدر أي إراقة الدماء وذبح القرابين ‏{‏لّيَذْكُرُواْ اسم الله‏}‏ دون غيره ‏{‏على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام‏}‏ أي عند نحرها وذبحها ‏{‏فإلهكم إله واحد‏}‏ أي اذكروا على الذبح اسم الله وحده فإن إلهكم إله واحد، وفيه دليل على أن ذكر اسم الله شرط الذبح يعني أن الله تعالى شرع لكل أمة أن ينسكوا له أي يذبحوا له على وجه التقرب، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه تقدست أسماؤه على النسائك‏.‏ وقوله ‏{‏فَلَهُ أَسْلِمُواْ‏}‏ أي أخلصوا له الذكر خاصة واجعلوه له سالماً أي خالصاً لا تشوبوه بإشراك ‏{‏وَبَشّرِ المخبتين‏}‏ المطمئنين بذكر الله أو المتواضعين الخاشعين من الخبت وهو المطمئن من الأرض‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا‏.‏ وقيل‏:‏ تفسيره ما بعده أي