فصل: سورة لقمان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


سورة لقمان

مكية وهي ثلاث أو أربع وثلاثون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏3‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏آلم تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم‏}‏ ذي الحكمة أو وصف بصفة الله عز وجل على الإسناد المجازي ‏{‏هُدًى وَرَحْمَةً‏}‏ حالان من الآيات والعامل معنى الإشارة في ‏{‏تلك‏}‏ حمزة بالرفع على أن ‏{‏تلك‏}‏ مبتدأ و‏{‏آيات الكتاب‏}‏ خبره و‏{‏هدى‏}‏ خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هي هدى ورحمة ‏{‏لّلْمُحْسِنِينَ‏}‏ للذين يعملون الحسنات المذكورة في قوله ‏{‏الدين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ ونظيره قول أوس

الألمعيّ الذي يظن بك ال *** ظن كأن قد رأى وقد سمعا

أو للذين يعملون جميع ما يحسن‏.‏ ثم خص منهم القائمين بهذه الثلاثة لفضلها

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك على هُدًى‏}‏ مبتدأ وخبر ‏{‏مّن رَّبّهِمُ‏}‏ صفة ل ‏{‏هدى‏}‏ ‏{‏وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ عطف عليه ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث‏}‏ نزلت في النضر بن الحرث وكان يشتري أخبار الأكاسرة من فارس ويقول‏:‏ إن محمداً يقص طرفاً من قصة عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث الأكاسرة فيميلون إلى حديثه ويتركون استماع القرآن‏.‏ واللهو كل باطل ألهى عن الخير وعما يعني ولهو الحديث نحو السمر بالأساطير التي لا أصل لها والغناء وكان ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما يحلفان أنه الغناء‏.‏ وقيل‏:‏ الغناء مفسدة للقلب منفدة للمال مسخطة للرب‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين‏:‏ أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت ‏"‏ والاشتراء من الشراء كما روي عن النضر، أو من قوله ‏{‏اشتروا الكفر بالإيمان‏}‏ أي استبدلوه منه واختاروه عليه أي يختارون حديث الباطل على حديث الحق‏.‏ وإضافة اللهو إلى الحديث للتبيين بمعنى «من»، لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره فبيّن بالحديث والمراد بالحديث الحديث المنكر كما جاء في الحديث ‏"‏ الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش ‏"‏ أو للتبعيض كأنه قيل‏:‏ ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه‏.‏

‏{‏لِيُضِلَّ‏}‏ أي ليصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن، ‏{‏ليضَل‏}‏ مكي وأبو عمرو أي ليثبت على ضلاله الذي كان عليه ويزيد فيه ‏{‏عَن سَبِيلِ الله‏}‏ عن دين الإسلام والقرآن ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ أي جهلاً منه بما عليه من الوزر به ‏{‏وَيَتَّخِذَهَا‏}‏ أي السبيل بالنصب كوفي غير أبي بكر عطفاً على ‏{‏ليضل‏}‏ ومن رفع عطفه على ‏{‏يشتري‏}‏ ‏{‏هُزُواً‏}‏ بسكون الزاي والهمزة‏:‏ حمزة، وبضم الزاي بلا همز‏:‏ حفص، وغيرهم بضم الزاي والهمزة ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ أي يهينهم و«من» لإبهامه يقع على الواحد والجمع أي النضر وأمثاله

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 11‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏10‏)‏ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا ولى مُسْتَكْبِراً‏}‏ أعرض عن تدبرها متكبراً رافعاً نفسه عن الإصغاء إلى القرآن ‏{‏كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا‏}‏ يشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو حال من ‏{‏مستكبرا‏}‏ والأصل كأنه والضمير ضمير الشأن ‏{‏كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً‏}‏ ثقلاً وهو حال من ‏{‏لم يسمعها‏}‏ ‏{‏أذنيه‏}‏‏:‏ نافع ‏{‏فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جنات النعيم‏}‏ ولا وقف عليه لأن ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏لهم‏}‏ ‏{‏وَعْدَ الله حَقّا‏}‏ مصدران مؤكدان الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره إذ لهم جنات النعيم في معنى وعدهم الله جنات النعيم، فأكد معنى الوعد بالوعد، و‏{‏حقاً‏}‏ يدل على معنى الثبات فأكد به معنى الوعد ومؤكدهما ‏{‏لهم جنات النعيم‏}‏ ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ الذي لا يغلبه شيء فيهين أعداءه بالعذاب المهين ‏{‏الحكيم‏}‏ بما يفعل فيثيب أولياءه بالنعيم المقيم‏.‏

‏{‏خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ‏}‏ جمع عماد ‏{‏تَرَوْنَهَا‏}‏ الضمير للسماوات وهو استشهاد برؤيتهم لها غير معمودة على قوله ‏{‏بغير عمد‏}‏ كما تقول لصاحبك «أنا بلا سيف ولا رمح تراني»، ولا محل لها من الأعراب لأنها مستأنفة أو في محل الجرصفة ل ‏{‏عمد‏}‏ أي بغير عمد مرئية يعني أنه عمدها بعمد لا ترى وهي إمساكها بقدرته ‏{‏وألقى فِى الأرض رَوَاسِىَ‏}‏ جبالاً ثوابت ‏{‏أَن تَمِيدَ بِكُمْ‏}‏ لئلا تضطرب بكم ‏{‏وَبَثَّ‏}‏ ونشر ‏{‏فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ‏}‏ صنف ‏{‏كَرِيمٍ‏}‏ حسن ‏{‏هذا‏}‏ إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته ‏{‏خَلَقَ الله‏}‏ أي مخلوقه ‏{‏فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ‏}‏ يعني آلهتهم بكّتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله، فأروني ما خلقته الهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة ‏{‏بَلِ الظالمون فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورط في ضلال ليس بعده ضلال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏12‏)‏ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة‏}‏ وهو لقمان ابن باعوراء ابن أخت أيوب أو ابن خالته‏.‏ وقيل‏:‏ كان من أولاد آزر وعاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام، فلما بعث قطع الفتوى فقيل له فقال‏:‏ ألا أكتفي إذا كفيت‏؟‏ وقيل‏:‏ كان خياطاً‏.‏ وقيل نجاراً وقيل راعياً وقيل، كان قاضياً في بني إسرائيل‏.‏ وقال عكرمة والشعبي‏:‏ كان نبياً‏.‏ والجمهور على أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً‏.‏ وقيل‏:‏ خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة وهي الإصابة في القول والعمل‏.‏ وقيل‏:‏ تتلمذ لألف وتتلمذ له ألف نبي‏.‏ و«أن» في ‏{‏أَنِ اشكر للَّهِ‏}‏ مفسرة والمعنى أي اشكر الله لأن إيتاء الحكمة في معنى القول، وقد نبه الله تعالى على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما وعبادة الله والشكر له حيث فسر إيتاء الحكمة بالحث على الشكر‏.‏ وقيل‏:‏ لا يكون الرجل حكيماً حتى يكون حكيماً في قوله وفعله ومعاشرته وصحبته، وقال السري السقطي‏:‏ الشكر أن لا تعصي الله بنعمه‏.‏ وقال الجنيد‏:‏ أن لا ترى معه شريكاً في نعمه‏.‏ وقيل‏:‏ هو الإقرار بالعجز عن الشكر‏.‏ والحاصل أن شكر القلب المعرفة، وشكر اللسان الحمد، وشكر الأركان الطاعة، ورؤية العجز في الكل دليل قبول الكل‏.‏ ‏{‏وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ‏}‏ لأن منفعته تعود إليه فهو يريد المزيد ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ النعمة ‏{‏فَإِنَّ الله غَنِىٌّ‏}‏ غير محتاج إلى الشكر ‏{‏حَمِيدٌ‏}‏ حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد ‏{‏وَإِذْ‏}‏ أي واذكر إذ ‏{‏قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ‏}‏ أنعم أواشكم ‏{‏وَهُوَ يَعِظُهُ يابنى‏}‏ بالإسكان مكي ‏{‏يا بني‏}‏ حفص بفتحه في كل القرآن ‏{‏لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ لأنه تسوية بين من لا نعمة إلا وهي منه ومن لا نعمة له أصلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏14‏)‏ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ‏}‏ أي حملته تهن وهناً على وهن أي تضعف ضعفاً فوق ضعف أي يتزايد ضعفها ويتضاعف لأن الحمل كلما ازداد أو عظم ازدادت ثقلاً وضعفاً ‏{‏وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ‏}‏ أي فطامه عن الرضاع لتمام عامين ‏{‏أَنِ اشكر لِى ولوالديك‏}‏ هو تفسير ل ‏{‏وصينا‏}‏ أي وصيناه بشكرنا وبشكر والديه‏.‏ وقوله ‏{‏حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين‏}‏ اعتراض بين المفسر والمفسر لأنه لما وصى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاق في حمله وفصاله هذه المدة الطويلة تذكيراً «بحقها العظيم مفرداً»‏.‏ وعن ابن عيينة‏:‏ من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكرهما ‏{‏إِلَىَّ المصير‏}‏ أي مصيرك إليّ وحسابك عليّ ‏{‏وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ أراد بنفي العلم به نفيه أي لا تشرك بي ما ليس بشيء يريد الأصنام ‏{‏فَلاَ تُطِعْهُمَا‏}‏ في الشرك ‏{‏وصاحبهما فِى الدنيا مَعْرُوفاً‏}‏ صفة مصدر محذوف أي صحاباً معروفاً حسناً بخلق جميل وحلم واحتمال وبر وصلة ‏{‏واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ‏}‏ أي سبيل المؤمنين في دينك ولا تتبع سبيلهما فيه وإن كنت مأموراً بحسن مصاحبتهما في الدنيا‏.‏ وقال ابن عطاء‏:‏ صاحب من ترى عليه أنوار خدمتي‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ أي مرجعك ومرجعهما ‏{‏فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ فأجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما‏.‏ وقد اعترض بهاتين الآيتين على سبيل الاستطراد تأكيداً لما في وصية لقمان من النهي عن الشرك يعني إنا وصيناه بوالديه وأمرناه أن لا يطيعهما في الشرك وإن جهدا كل الجهد لقبحه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏16‏)‏ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏يابنى إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ‏}‏ بالرفع‏:‏ مدني، والضمير للقصة وأنت المثقال لإضافته إلى الحبة كما قال‏:‏

كما شرقت صدر القناة من الدم

و«كان» تامة والباقون بالنصب والضمير للهنة من الإساءة والإحسان أي إن كانت مثلاً في الصغر كحبة خردل ‏{‏فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السماوات أَوْ فِى الأرض‏}‏ أي فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة، أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلي والأكثر على أنها التي عليها الأرض وهي السجين يكتب فيها أعمال الفجار وليست من الأرض ‏{‏يَأتِ بِهَا الله‏}‏ يوم القيامة فيحاسب بها عاملها ‏{‏إِنَّ الله لَطِيفٌ‏}‏ بتوصل علمه إلى كل خفي ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ عالم بكنهه أو لطيف باستخراجها خبير بمستقرها ‏{‏يابنى أَقِمِ الصلاة وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر واصبر على مَا أَصَابَكَ‏}‏ في ذات الله تعالى إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، أو على ما أصابك من المحن فإنها تورث المنح ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ الذي وصيتك به ‏{‏مِنْ عَزْمِ الأمور‏}‏ أي مما عزمه الله من الأمور أي قطعه قطع إيجاب وإلزام أي أمر به أمراً حتماً، وهو من تسمية المفعول بالمصدر وأصله من معزومات الأمور أي مقطوعاتها ومفروضاتها، وهذا دليل على أن هذه الطاعات كانت مأموراً بها في سائر الأمم‏.‏

‏{‏وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ‏}‏ أي ولا تعرض عنهم تكبراً‏.‏ ‏{‏تصاعر‏}‏ أبو عمرو ونافع وحمزة وعلي، وهو بمعنى تصعّر، والصعر داء يصيب البعير يلوي منه عنقه والمعنى‏:‏ أقبل على الناس بوجهك تواضعاً ولا تولهم شق وجهك وصفحته كما يفعله المتكبرون ‏{‏وَلاَ تَمْشِ فِى الأرض مَرَحًا‏}‏ أي تمرح مرحاً، أو أوقع المصدر موقع الحال أي مرحاً، أو ولا تمش لأجل المرح والأشر ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ‏}‏ متكبر ‏{‏فَخُورٌ‏}‏ من يعدد مناقبه تطاولا

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ‏(‏19‏)‏ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏واقصد‏}‏ القصد التوسط بين العلو والتقصير ‏{‏فِى مَشْيِكَ‏}‏ أي اعدل فيه حتى يكون مشياً بين مشيين لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثوب الشطار‏.‏ قال عليه السلام ‏"‏ سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن ‏"‏ وأما قول عائشة في عمر رضي الله عنه‏:‏ كان إذا مشى أسرع، فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت، وعن ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ولكن مشياً بين ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ معناه وانظر موضع قدميك متواضعاً ‏{‏واغضض مِن صَوْتِكَ‏}‏ وانقص منه أي اخفض صوتك ‏{‏إِنَّ أَنكَرَ الأصوات‏}‏ أي أوحشها ‏{‏لَصَوْتُ الحمير‏}‏ لأن أوله زفير وآخره شهيق كصوت أهل النار‏.‏ وعن الثوري‏:‏ صياح كل شيء تسبيح إلا الحمار فإنه يصيح لرؤية الشيطان ولذلك سماه الله منكراً‏.‏ وفي تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير وتمثيل أصواتهم بالنهاق تنبيه على أن أرفع الصوت في غاية الكراهة يؤيده ما روي أنه عليه السلام كان يعجبه أن يكون الرجل خفيض الصوت ويكره أن يكون مجهور الصوت‏.‏ وإنما وحد صوت الحمير ولم يجمع لأنه لم يرد أن يذكر صوت كل واحد من احاد هذا الجنس حتى يجمع، بل المراد أن كل جنس من الحيوان له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس فوجب توحيده‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السماوات‏}‏ يعني الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك ‏{‏وَمَا فِى الأرض‏}‏ يعني البحار والأنهار والمعادن والدواب وغير ذلك ‏{‏وَأَسْبَغَ‏}‏ وأتم ‏{‏عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ‏}‏ مدني وأبو عمرو وسهل وحفص‏.‏ ‏{‏نعمة‏}‏ غيرهم والنعمة كل نفع قصد به الإحسان ‏{‏ظاهرة‏}‏ بالمشاهدة ‏{‏وَبَاطِنَةً‏}‏ ما لا يعلم إلا بدليل ثم قيل‏:‏ الظاهرة البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح الظاهرة، والباطنة القلب والعقل والفهم وما أشبه ذلك‏.‏ ويروى في دعاء موسى عليه السلام‏:‏ إلهي دلني على أخفى نعمتك على عبادك فقال‏:‏ أخفى نعمتي عليهم النفس‏.‏ وقيل‏:‏ تخفيف الشرائع وتضعيف الذرائع والخلق ونيل العطايا وصرف البلايا وقبول الخلق ورضا الرب‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الظاهرة ما سوّى من خلقك والباطنة ما ستر من عيوبك‏.‏ ‏{‏ومِنَ الناس مَن يجادل فِى الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ‏}‏ نزلت في النضر بن الحرث وقد مر في «الحج»

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 23‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏21‏)‏ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏22‏)‏ وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير‏}‏ معناه أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم أي في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب‏.‏

‏{‏وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله‏}‏ عدِّي هنا ب «إلى»، وفي ‏{‏بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 112‏]‏ باللام فمعناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالماً لله أي خالصاً له، ومعناه مع «إلى» أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه والمراد التوكل عليه والتفويض إليه ‏{‏وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏ فيما يعمل ‏{‏فَقَدِ استمسك‏}‏ تمسك وتعلق ‏{‏بالعروة‏}‏ هي ما يعلق به الشيء ‏{‏الوثقى‏}‏ تأنيث الأوثق مثل حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه ‏{‏وإلى الله عاقبة الأمور‏}‏ أي هي صائرة إليه فيجازي عليها ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ ولم يسلم وجهه لله ‏{‏فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ‏}‏ من حزن، ‏{‏يُحزِنك‏}‏ نافع من أحزن أي لا يهمنك كفر من كفر ‏{‏إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ فنعاقبهم على أعمالهم ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ إن الله يعلم ما في صدور عباده فيفعل بهم على حسبه

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 27‏]‏

‏{‏نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏24‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏26‏)‏ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏نُمَتّعُهُمْ‏}‏ زماناً ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ بدنياهم ‏{‏ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ‏}‏ نلجئهم ‏{‏إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ شديد شبه إلزامهم التعذيب وإرهاقهم إياه باضطرار المضطر إلى الشيء، والغلظ مستعار من الأجرام الغليظة والمراد، الشدة والثقل على المعذب‏}‏ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحمد لِلَّهِ‏}‏ إلزام لهم على إقرارهم بأن الذي خلق السماوات والأرض هو الله وحده، وأنه يجب أن يكون له الحمد والشكر وأن لا يعبد معه غيره‏.‏ ثم قال ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن ذلك يلزمهم وإذا نبهوا عليه لم يتنبهوا ‏{‏لِلَّهِ مَا فِى السماوات والأرض إِنَّ الله هُوَ الغنى‏}‏ عن حمد الحامدين ‏{‏الحميد‏}‏ المستحق للحمد وإن لم يحمدوه‏.‏

قال المشركون‏:‏ إن هذا أي الوحي كلام سينفذ فأعلم الله أن كلامه لا ينفذ بقوله ‏{‏وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كلمات الله‏}‏ والبحر بالنصب أبو عمرو ويعقوب عطفاً على اسم «أن» وهو «ما»، والرفع على محل «أن» ومعمولها أي ولو ثبت كون الأشجار أقلاماً وثبت البحر ممدوداً بسبعة أبحر، أو على الابتداء والواو للحال على معنى‏:‏ ولو أن الأشجار أقلام في حال كون البحر ممدوداً وقرئ يُمِدّهُ وكان مقتضى الكلام أن يقال‏:‏ ولو أن الشجر أقلام والبحر مداد، لكن أغنى عن ذكر المداد قوله ‏{‏يمده‏}‏ لأنه من قولك «مد الدواة وأمدها» جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة وجعل الأبحر السبعة مملوءة مداداً فهي تصب فيه مدادها أبداً صباً لا ينقطع‏.‏ والمعنى‏:‏ ولو أن أشجار الأرض أقلام والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله لما نفدت كلماته وتفدت الأقلام والمداد كقوله‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبّى لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏ فإن قلت‏:‏ زعمت أن قوله ‏{‏والبحر يمده‏}‏ حال في أحد وجهي الرفع وليس فيه ضمير راجع إلى ذي الحال‏.‏ قلت‏:‏ هو كقولك «جئت والجيش مصطف» وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف‏.‏ وإنما ذكر شجرة على التوحيد لأنه أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا وقد بريت أقلاماً، وأوثر الكلمات وهي جمع قلة على الكلم وهي جمع كثرة لأن معناه أن كلمات لا تفي بكتبتهالبحار فكيف بكلمه ‏{‏أَنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ لا يعجزه شيء ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ لا يخرج من علمه وحكمته شيء فلا تنفد كلماته وحكمه

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 30‏]‏

‏{‏مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏28‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة‏}‏ إلا كخلق نفس واحدة وبعث نفس واحدة فحذف للعلم به أي سواء في قدرته القليل والكثير فلا يشغله شأن عن شأن ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ لقول المشركين إنه لا بعث ‏{‏بَصِيرٌ‏}‏ بأعمالهم فيجازيهم‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ اليل فِى النهار‏}‏ يدخل ظلمة الليل في ضوء النهار إذا أقبل الليل ‏{‏وَيُولِجُ النهار فِى اليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر‏}‏ لمنافع العباد ‏{‏كُلٌّ‏}‏ أي كل واحد من الشمس والقمر ‏{‏يَجْرِى‏}‏ في فلكه ويقطعه ‏{‏إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ إلى يوم القيامة أو إلى وقت معلوم الشمس إلى آخر السنة والقمر إلى آخر الشهر ‏{‏وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ وبالياء‏:‏ عياش‏.‏ دل أيضاً بتعاقب الليل والنهار وزيادتهما ونقصانهما وجرى النيرين في فلكيهما على تقدير وحساب وبإحاطته بجميع أعمال الخلق على عظم قدرته وكمال حكمته ‏{‏ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ‏}‏ بالياء‏:‏ عراقي غير أبي بكر ‏{‏مِن دُونِهِ الباطل وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير‏}‏ أي ذلك الوصف الذي وصف به من عجائب قدرته وحكمته التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون، فكيف بالجماد الذي يدعونه من دون الله‏!‏ إنما هو بسبب أنه هو الحق الثابت الإلهية وأن من دونه باطل الإلهية وأنه هو العلي الشأن الكبير السلطان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 33‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ‏(‏32‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك‏}‏ وقريء ‏{‏الفلك‏}‏ وكل فُعْل يجوز فيه فعل كما يجوز في كل فُعُل فُعْل ‏{‏تَجْرِى في البحر بنعمت الله‏}‏ بإحسانه ورحمته أو بالريح لأن الريح من نعم الله ‏{‏لِيُرِيَكُمْ مّنْ ءاياته‏}‏ عجائب قدرته في البحر إذا ركبتموها ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ‏}‏ على بلائه ‏{‏شَكُورٍ‏}‏ لنعمائه، وهما صفتا المؤمن فالإيمان نصفان‏:‏ نصفه شكر ونصفه صبر فكأنه قال‏:‏ إن في ذلك لآيات لكل مؤمن‏.‏

‏{‏وَإِذَا غَشِيَهُمْ‏}‏ أي الكفار ‏{‏مَّوْجٌ كالظلل‏}‏ الموج يرتفع فيعود مثل الظلل والظلة كل ما أظلك من جبل أو سحاب أو غيرهما ‏{‏دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ‏}‏ أي باقٍ على الإيمان والإخلاص الذي كان منه ولم يعد إلى الكفر، أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر يعني أن ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط والمقتصد قليل نادر ‏{‏وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا‏}‏ أي بحقيقتها ‏{‏إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ‏}‏ غدار والختر أقبح الغدر ‏{‏كَفُورٌ‏}‏ لربه ‏{‏ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ‏}‏ لا يقضي عنه شيئاً والمعنى لا يجزيء فيه فحذف ‏{‏وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً‏}‏ وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف عليه لأن الجملة الاسمية آكد من الجملة الفعلية وقد انضم إلى ذلك قوله ‏{‏هو‏}‏ وقوله ‏{‏مولود‏}‏ والسبب في ذلك أن الخطاب للمؤمنين وعليتهم قبض آباؤهم على الكفر فأريد حسم أطماعهم أن ينفعوا آباءهم بالشفاعة في الآخرة‏.‏ ومعنى التأكيد لفظ المولود أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته فضلاً أن يشفع لأجداده إذ الولد يقع على الولد وولد الولد بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك كذا في الكشاف ‏{‏إِنَّ وَعْدَ الله‏}‏ بالبعث والحساب والجزاء ‏{‏حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا‏}‏ بزينتها فإن نعمتها دانية ولذتها فانية ‏{‏وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور‏}‏ الشيطان أو الدنيا أو الأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة‏}‏ أي وقت قيامها ‏{‏وَيُنَزّلُ‏}‏ بالتشديد‏:‏ شامي ومدني وعاصم، وهو عطف على ما يقتضيه الظرف من الفعل تقديره‏:‏ إن الله يثبت عنده علم الساعة وينزل ‏{‏الغيث‏}‏ في إبّانه من غير تقديم ولا تأخير ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا في وَأُوْلُو الأرحام‏}‏ أذكر أم أنثى وتام أم ناقص ‏{‏وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ‏}‏ برة أو فاجرة ‏{‏مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً‏}‏ من خير أو شر وربما كانت عازمة على خير فعملت شراً وعازمة على شر فعملت خيراً ‏{‏وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ‏}‏ أي أين تموت‏؟‏ وربما أقامت بأرض وضربت أوتادها وقالت لا أبرحها فترمي بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها‏.‏ روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه فقال الرجل‏:‏ من هذا‏؟‏ فقال له‏:‏ ملك الموت‏.‏ قال‏:‏ كأنه يريدني وسأل سليمان عليه السلام أن يحمله على الريح ويلقيه ببلاد الهند ففعل ثم قال ملك الموت لسليمان‏:‏ كان دوام نظري إليه تعجباً منه لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك‏.‏ وجعل العلم لله والدارية للعبيد لما في الدارية من معنى الختل والحيلة، والمعنى أنها لا تعرف وإن أعملت حيلها ما يختص بها ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما كان معرفة ماعداهما أبعد وأما المنجم الذي يخبر بوقت الغيث والموت فإنه يقول بالقياس والنظر في الطالع وما يدرك بالدليل لا يكون غيباً على أنه مجرد الظن والظن غير العلم‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم «مفاتح الغيب خمس» وتلا هذه الآية‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ من ادّعى علم هذه الخمسة فقد كذب‏.‏ ورأى المنصور في منامه صورة ملك الموت وسأله عن مدة عمره فأشار بأصابعه الخمس فعبرها المعبرون بخمس سنوات وبخمسة أشهر وبخمسة أيام فقال أبو حنيفة رضي الله عنه‏:‏ هو إشارة إلى هذه الآية، فإن هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلا الله ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ‏}‏ بالغيوب ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ بما كان ويكون‏.‏ وعن الزهريّ رضي الله تعالى عنه‏:‏ أكثروا قراءة سورة لقمان فإن فيها أعاجيب والله أعلم‏.‏

سورة السجدة

مكية وهي ثلاثون آية مدني وكوفي، وتسع وعشرون آية بصري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 17‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏3‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏4‏)‏ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏5‏)‏ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏6‏)‏ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ‏(‏10‏)‏ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏13‏)‏ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏15‏)‏ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏16‏)‏ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏الم‏}‏ على أنها اسم السورة مبتدأ وخبره ‏{‏تنزيل الكتاب‏}‏ وإن جعلتها تعديداً للحروف ارتفع ‏{‏تنزيل‏}‏ بأنه خبر مبتدأ محذوف أو هو مبتدأ خبره ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ أو يرتفع بالابتداء وخبره ‏{‏من رّبّ العالمين‏}‏ و‏{‏لا ريب فيه‏}‏ اعتراض لا محل له، والضمير في ‏{‏فيه‏}‏ راجع إلى مضمون الجملة كأنه قيل‏:‏ لا ريب في ذلك أي في كونه منزلاً من رب العالمين لأنه معجز للبشر ومثله أبعد شيء من الريب‏.‏ ثم أضرب عن ذلك إلى قوله ‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏ أي اختلقه محمد لأن «أم» هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة معناه بل أيقولون افتراه إنكاراً لقولهم وتعجيباً منهم لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات منه ‏{‏بل هو الحقّ‏}‏ ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق ‏{‏من رّبّك‏}‏ ولم يفتره محمد صلى الله عليه وسلم كما قالوا تعنتاً وجهلاً ‏{‏لتنذر قوماً‏}‏ أي العرب ‏{‏مّا أتاهم مّن نّذيرٍ مّن قبلك‏}‏ «ما» للنفي والجملة صفة ل ‏{‏قوماً‏}‏ ‏{‏لعلّهم يهتدون‏}‏ على الترجي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان لعله يتذكر على الترجي من موسى وهارون‏.‏

‏{‏الله الّذي خلق السّماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّامٍ ثمّ استوى على العرش‏}‏ استولى عليه بإحداثه ‏{‏ما لكم مّن دونه‏}‏ من دون الله ‏{‏من وليّ ولا شفيعٍ‏}‏ أي إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم ولياً أي ناصراً ينصركم ولا شفيعاً يشفع لكم ‏{‏أفلا تتذكّرون‏}‏ تتعظون بمواعظ الله ‏{‏يدبّر الأمر‏}‏ أي أمر الدنيا ‏{‏من السّماء إلى الأرض‏}‏ إلى أن تقوم الساعة ‏{‏ثمّ يعرج إليه‏}‏ ذلك الأمر كله أي يصير إليه ليحكم فيه ‏{‏في يومٍ كان مقداره ألف سنةٍ‏}‏ وهو يوم القيامة ‏{‏مّمّا تعدّون‏}‏ من أيام الدنيا ولا تمسّك للمشبهة بقوله ‏{‏إليه‏}‏ في إثبات الجهة لأن معناه إلى حيث يرضاه أو أمره كما لا تشبث لهم بقوله‏:‏ ‏{‏إني ذاهب إلى ربي‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 99‏]‏‏.‏ ‏{‏إني مهاجر إلى ربي‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 26‏]‏‏.‏ ‏{‏ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 100‏]‏‏.‏

‏{‏ذلك عالم الغيب والشّهادة‏}‏ أي الموصوف بما مر عالم ما غاب عن الخلق وما شاهدوه ‏{‏العزيز‏}‏ الغالب أمره ‏{‏الرّحيم‏}‏ البالغ لطفه وتيسيره‏.‏ وقيل‏:‏ لا وقف عليه لأن ‏{‏الّذي‏}‏ صفته ‏{‏أحسن كلّ شيءٍ‏}‏ أي حسنه لأن كل شيء مرتب على ما اقتضته الحكمة ‏{‏خلقه‏}‏ كوفي ونافع وسهل على الوصف أي كل شيء خلقه فقد أحسن ‏{‏خلقه‏}‏ غيرهم على البدل أي أحسن خلق كل شيء ‏{‏وبدأ خلق الإنسان‏}‏ آدم ‏{‏من طينٍ ثمّ جعل نسله‏}‏ ذريته ‏{‏من سلالةٍ‏}‏ من نطفة ‏{‏مّن مّاءٍ‏}‏ أي مني وهو بدل من ‏{‏سلالة‏}‏ ‏{‏مّهينٍ‏}‏ ضعيف حقير ‏{‏ثمّ سواه‏}‏ قومه كقوله

‏{‏في أحسن تقويم‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏ونفخ‏}‏ أدخل ‏{‏فيه من رّوحه‏}‏ الإضافة للاختصاص كأنه قال‏:‏ ونفخ فيه من الشيء الذي اختص هو به وبعلمه ‏{‏وجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة‏}‏ لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا ‏{‏قليلاً مّا تشكرون‏}‏ أي تشكرون قليلاً‏.‏

‏{‏وقالوا‏}‏ القائل أبيّ بن خلف ولرضاهم بقوله أسند إليهم ‏{‏أءذا ضللنا في الأرض‏}‏ أي صرنا تراباً وذهبنا مختلطين بتراب الأرض لا نتميز منه كما يضل الماء في اللبن، أو غبنا في الأرض بالدفن فيها‏.‏ وقرأ عليٌّ ‏{‏ضللنا‏}‏ بكسر اللام يقال‏:‏ ضل يضل وضل يضل‏.‏ وانتصب الظرف في ‏{‏أإذا ضللنا‏}‏ بما يدل عليه ‏{‏أءنّا لفي خلقٍ جديدٍ‏}‏ وهو نبعث ‏{‏بل هم بلقاء ربّهم كافرون‏}‏ جاحدون‏.‏ لما ذكر كفرهم بالبعث أضرب عنه إلى ما هو أبلغ وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة لا بالبعث وحده ‏{‏قل يتوفّاكم مّلك الموت الّذي وكّل بكم ثمّ إلى ربّكم ترجعون‏}‏ أي يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بقبض أرواحكم ثم ترجعون إلى ربكم بعد ذلك مبعوثين للحساب والجزاء وهذا معنى لقاء الله‏.‏ والتوفي استيفاء النفس وهي الروح أي يقبض أرواحكم أجمعين من قولك «توفيت حقي من فلان» إذا أخذته وافياً كاملاً من غير نقصان‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ حويت لملك الموت الأرض وجعلت له مثل الطست يتناول منها حيث يشاء‏.‏ وقيل‏:‏ ملك الموت يدعو الأرواح فتجيبه ثم يأمر أعوانه بقبضها والله تعالى هو الآمر لذلك كله وهو الخالق لأفعال المخلوقات‏.‏ وهذا وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله ‏{‏توفته رسلنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 61‏]‏ وقوله ‏{‏الله يتوفى الأنفس حين موتها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏‏.‏

‏{‏ولو ترى‏}‏ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد و«لو» امتناعية والجواب محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً ‏{‏إذ المجرمون‏}‏ هم الذين قالوا ‏{‏أءذا ضللنا في الأرض‏}‏ و«لو» و«إذ» للمضي وإنما جاز ذلك لأن المترقب من الله بمنزلة الموجود ولا يقدر لترى ما يتناوله كأنه قيل‏:‏ ولو تكون منك الرؤية و«إذ» ظرف له ‏{‏ناكسوا رؤوسهم‏}‏ من الذل والحياء والندم ‏{‏عند ربّهم‏}‏ عند حساب ربهم ويوقف عليه لحق الحذف إذ التقدير ويقولون ‏{‏ربّنا أبصرنا‏}‏ صدق وعدك وعيدك ‏{‏وسمعنا‏}‏ منك تصديق رسلنا أو كنا عمياً وصماً فأبصرنا وسمعنا ‏{‏فارجعنا‏}‏ إلى الدنيا ‏{‏نعمل صالحاً‏}‏ أي الإيمان والطاعة ‏{‏إنّا موقنون‏}‏ بالبعث والحساب الآن ‏{‏ولو شئنا لآتينا كلّ نفسٍ هداها‏}‏ في الدنيا أي لو شئنا أعطينا كل نفس ما عندنا من اللطف الذي لو كان منهم اختيار ذلك لاهتدوا لكن لم نعطهم ذلك اللطف لما علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره، وهو حجة على المعتزلة فإن عندهم شاء الله أن يعطي كل نفس ما به اهتدت وقد أعطاها لكنها لم تهتد، وهم أوّلوا الآية بمشيئة الجبر وهو تأويل فاسد لما عرف في تبصر الأدلة‏.‏

‏{‏ولكن حقّ القول منّي لأملأنّ جهنّم من الجنّة والنّاس أجمعين‏}‏ ولكن وجب القول مني بما علمت أنه يكون منهم ما يستوجبون به جهنم وهو ما علم منهم أنهم يختارون الرد والتكذيب‏.‏ وفي تخصيص الإنس والجن إشارة إلى أنه عصم ملائكته عن عمل يستوجبون به جهنم‏.‏

‏{‏فذوقوا‏}‏ العذاب ‏{‏بما نسيتم لقاء‏}‏ بما تركتم من عمل لقاء ‏{‏يومكم هذا‏}‏ وهو الإيمان به ‏{‏إنّا نسيناكم‏}‏ تركناكم في العذاب كالمنسي ‏{‏وذقوا عذاب الخلد‏}‏ أي العذاب الدائم الذي لا انقطاع له ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏ من الكفر والمعاصي‏.‏

‏{‏إنّما يؤمن بآياتنا الّذين إذا ذكّروا بها‏}‏ أي وعظوا بها ‏{‏خرّوا سجّداً‏}‏ سجدوا لله تواضعاً وخشوعاً وشكراً على ما رزقهم من الإسلام ‏{‏وسبّحوا بحمد ربّهم‏}‏ ونزهوا الله عما لا يليق به وأثنوا عليه حامدين له ‏{‏وهم لا يستكبرون‏}‏ عن الإيمان والسجود له ‏{‏تتجافى‏}‏ ترتفع وتنتحي ‏{‏جنوبهم عن المضاجع‏}‏ عن الفرض ومضاجع النوم‏.‏ قال سهل‏:‏ وهب لقوم هبة وهو أن أذن لهم في مناجاته وجعلهم من أهل وسيلته ثم مدحهم عليه فقال ‏{‏تتجافى جنوبهم عن المضاجع‏}‏ ‏{‏يدعون‏}‏ داعين ‏{‏ربّهم‏}‏ عابدين له ‏{‏خوفاً وطمعاً‏}‏ مفعول له أي لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته وهم المتهجدون‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها قيام العبد من الليل‏.‏ وعن ابن عطاء‏:‏ أبت جنوبهم أن تسكن على بساط الغفلة وطلبت بساط القربة يعني صلاة الليل‏.‏ وعن أنس‏:‏ كان أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الأخيرة فنزلت فيهم‏.‏ وقيل‏:‏ هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها‏.‏ ‏{‏وممّا رزقناهم ينفقنون‏}‏ في طاعة الله تعالى ‏{‏فلا تعلم نفسٌ مّا أخفي لهم‏}‏ «ما» بمعنى «الذي» ‏{‏أخفي‏}‏ على حكاية النفس‏:‏ حمزة ويعقوب ‏{‏مّن قرّة أعينٍ‏}‏ أي لا يعلم أحد ما أعد لهؤلاء من الكرامة ‏{‏جزاءً‏}‏ مصدر أي جوزوا جزاء ‏{‏بما كانوا يعملون‏}‏ عن الحسن رضي الله عنه‏:‏ أخفى القوم أعمالاً فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت‏.‏ وفيه دليل على أن المراد الصلاة في جوف الليل ليكون الجزاء وفاقاً‏.‏ ثم بين أن من كان في نور الطاعة والإيمان لا يستوي مع من هو في ظلمة الكفر والعصيان بقوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 30‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ‏(‏18‏)‏ أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏20‏)‏ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏23‏)‏ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ‏(‏24‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏25‏)‏ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ ‏(‏26‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ‏(‏27‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏28‏)‏ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً‏}‏ أي كافراً وهما محمولان على لفظ من وقوله ‏{‏لاّ يستوون‏}‏ على المعنى بدليل قوله ‏{‏أمّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فلهم جنّات المأوى‏}‏ هي نوع من الجنان تأوي إليها أرواح الشهداء‏.‏ وقيل‏:‏ هي عن يمين العرش ‏{‏نزلاً بما كانوا يعملون‏}‏ عطاء بأعمالهم والنزل عطاء النازل ثم صار عاماً ‏{‏وأمّا الّذين فسقوا فمأواهم النّار‏}‏ أي ملجؤهم ومنزلهم ‏{‏كلّما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم‏}‏ أي تقول لهم خزنة النار ‏{‏ذوقوا عذاب النّار الّذي كنتم به تكذّبون‏}‏ وهذا دليل على أن المراد بالفاسق الكافر إذ التكذيب يقابل الإيمان ‏{‏ولنذيقنّهم مّن العذاب الأدنى‏}‏ أي عذاب الدنيا من الأسر وما محنوا به من السنة سبع سنين ‏{‏دون العذاب الأكبر‏}‏ أي عذاب الآخرة أي نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى الآخرة‏.‏ وعن الداراني‏:‏ العذاب الأدنى الخذلان والعذاب الأكبر الخلود في النيران‏.‏ وقيل‏:‏ العذاب الأدنى عذاب القبر ‏{‏لعلّهم‏}‏ لعل المعذبين بالعذاب الأدنى ‏{‏يرجعون‏}‏ يتوبون عن الكفر ‏{‏ومن أظلم ممّن ذكّر‏}‏ وعظ ‏{‏بآيات ربّه‏}‏ أي بالقرآن ‏{‏ثمّ أعرض عنها‏}‏ أي فتولى عنها ولم يتدبر فيها‏.‏ و«ثم» للاستبعاد أي أن الإعراض عن مثل هذه الآيات في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها، مستبعد في العقل كما تقول لصاحبك «وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها» استبعاداً لتركه الانتهاز ‏{‏إنّا من المجرمين منتقمون‏}‏ ولم يقل «منه» لأنه إذا جعله أظلم كل ظالم ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم فقد دل على إصابة الأظلم النصيب الأوفر من الانتقام، ولو قال بالضمير لم يفد هذه الفائدة‏.‏

‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب‏}‏ التوراة ‏{‏فلا تكن في مريةٍ‏}‏ شك ‏{‏من لقائه‏}‏ من لقاء موسى الكتاب أو من لقائك موسى ليلة المعراج أو يوم القيامة أو من لقاء موسى ربه في الآخرة كذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏وجعلناه هدًى لّبني إسرائيل‏}‏ وجعلنا الكتاب المنزل على موسى لقومه هدى ‏{‏وجعلنا منهم أئمّةً‏}‏ بهمزتين‏:‏ كوفي وشامي ‏{‏يهدون‏}‏ بذلك الناس ويدعونهم إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه ‏{‏بأمرنا‏}‏ إياهم بذلك ‏{‏لمّا صبروا‏}‏ حين صبروا على الحق بطاعة الله أو عن المعاصي ‏{‏لما صبروا‏}‏ حمزة وعلي أي لصبرهم عن الدنيا، وفيه دليل على أن الصبر ثمرته إمامة الناس ‏{‏وكانوا بآياتنا‏}‏ التوراة ‏{‏يوقنون‏}‏ يعلمون علماً لا يخالجه شك ‏{‏إنّ ربّك هو يفصل‏}‏ يقضي ‏{‏بينهم يوم القيامة‏}‏ بين الأنبياء وأممهم أو بين المؤمنين والمشركين ‏{‏فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏ فيظهر المحق من المبطل‏.‏

‏{‏أو لم‏}‏ الواو للعطف على معطوف عليه منوي من جنس المعطوف أي أو لم يدع ‏{‏يهد‏}‏ يبين والفاعل الله بدليل قراءة زيد عن يعقوب ‏{‏نهد‏}‏ ‏{‏لهم‏}‏ لأهل مكة ‏{‏كم‏}‏ لا يجوز أن يكون «كم» فاعل ‏{‏يهدى‏}‏ لأن «كم» للاستفهام فلا يعمل فيه ما قبله ومحله نصب بقوله ‏{‏أهلكنا من قبلهم مّن القرون‏}‏ كعاد وثمود وقوم لوط ‏{‏يمشون في مساكنهم‏}‏ أي أهل مكة يمرون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم ‏{‏إنّ في ذلك لآياتٍ أفلا يسمعون‏}‏ المواعظ فيتعظوا ‏{‏أو لم يروا أنّا نسوق الماء‏}‏ نجري المطر والأنهار ‏{‏إلى الأرض الجرز‏}‏ أي الأرض التي جرز نباتها أي قطع إما لعدم الماء أو لأنه رعي، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز بدليل قوله ‏{‏فنخرج به‏}‏ بالماء ‏{‏زرعاً تأكل منه‏}‏ من الزرع ‏{‏أنعامهم‏}‏ من عصفه ‏{‏وأنفسهم‏}‏ من حبه ‏{‏أفلا يبصرون‏}‏ بأعينهم فيستدلوا به على قدرته على إحياء الموتى ‏{‏ويقولون متى هذا الفتح‏}‏ النصر أو الفصل بالحكومة من قوله

‏{‏ربنا افتح بيننا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 89‏]‏ وكان المسلمون يقولون إن الله سيفتح لنا على المشركين أو بفتح بيننا وبينهم فإذا سمع المشركون ذلك قالوا‏:‏ متى هذا الفتح أي في أي وقت يكون ‏{‏إنّ كنتم صادقين‏}‏ في أنه كائن‏.‏

‏{‏قل يوم الفتح‏}‏ أي يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم أو يوم نصرهم عليهم أو يوم بدر أو يوم فتح مكة ‏{‏لا ينفع الّذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون‏}‏ وهذا الكلام لم ينطبق جواباً على سؤالهم ظاهراً ولكن لما كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح استعجالاً منهم على وجه التكذيب والاستهزاء أجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم فقيل لهم‏:‏ لا تستعجلوا به ولا تستهزئوا فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلا ينفعكم الإيمان، أو استنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا، ومن فسره بيوم الفتح أو بيوم بدر فهو يريد المقتولين منهم فإنهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل كما لم ينفع فرعون إيمانه عند الغرق ‏{‏فأعرض عنهم وانتظر‏}‏ النصرة وهلاكهم ‏{‏إنّهم مّنتظرون‏}‏ الغلبة عليكم وهلاككم، وكان عليه السلام لا ينام حتى يقرأ «‏{‏ألم تنزيل‏}‏» السجدة و‏{‏تبارك الذي بيده الملك‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 1‏]‏ وقال ‏"‏ من قرأ الم تنزيل في بيته لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام ‏"‏ وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ سورة الم تنزيل هي المانعة تمنع من عذاب القبر‏.‏ والله أعلم‏.‏

سورة الأحزاب

مدنية وهي ثلاث وسبعون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏1‏)‏ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏2‏)‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏3‏)‏ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ‏(‏4‏)‏ ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏5‏)‏ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏6‏)‏ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏7‏)‏ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

قال أبيّ بن كعب رضي الله عنه لزرّ‏:‏ كم تعدون سورة الأحزاب‏؟‏ قال‏:‏ ثلاثاً وسبعين‏.‏ قال‏:‏ فوالذي يحلف به أبيّ إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول ولقد قرأنا منها آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم»‏.‏ أراد أبيّ أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن‏.‏ وأما ما يحكى أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة رضي الله عنها فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض‏.‏

‏{‏يا أيّها النّبيّ‏}‏ وبالهمز‏:‏ نافع أي يا أيها المخبر عنا المأمون على أسرارنا المبلغ خطابنا إلى أحبابنا‏.‏ وإنما لم يقل «يا محمد» كما قال ‏{‏يا آدم‏}‏ ‏{‏يا موسى‏}‏ تشريفاً له وتنويهاً بفضله، وتصريحه باسمه في قوله ‏{‏محمد رسول الله‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ ونحوه لتعليم الناس بأنه رسول الله ‏{‏اتّق الله‏}‏ اثبت على تقوى الله ودم عليه وازدد منه فهو باب لا يدرك مداه ‏{‏ولا تطع الكافرين والمنافقين‏}‏ ولا تساعدهم على شيء واحترس منهم فإنهم أعداء الله والمؤمنين‏.‏ وروي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا المدينة بعد قتال أحد فنزلوا على عبد الله بن أبيّ وأعطاهم النبي الأمان على أن يكلموه فقالوا‏:‏ ارفض ذكر آلهتنا وقل إنها تنفع وتشفع، ووازرهم المنافقون على ذلك فهمّ المسلمون بقتلهم فنزلت‏.‏ أي اتق الله في نقض العهد ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا ‏{‏إنّ الله كان عليماً‏}‏ بخبث أعمالهم ‏{‏حكيماً‏}‏ في تأخير الأمر بقتالهم‏.‏

‏{‏واتّبع ما يوحى إليك من رّبّك‏}‏ في الثبات على التقوى وترك طاعة الكافرين والمنافقين ‏{‏إنّ الله‏}‏ الذي يوحي إليك ‏{‏كان بما تعملون خبيراً‏}‏ أي لم يزل عالماً بأعمالهم وأعمالكم‏.‏ وقيل‏:‏ إنما جمع لأن المراد بقوله ‏{‏اتبع‏}‏ هو وأصحابه، وبالياء‏:‏ أبو عمر وأي بما يعمل الكافرون والمنافقون من كيدهم لكم ومكرهم بكم ‏{‏وتوكّل على الله‏}‏ أسند أمرك إليه وكله إلى تدبيره ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏ حافظاً موكولاً إليه كل أمر، وقال الزجاج‏:‏ لفظه وإن كان لفظ الخبر فالمعنى اكتف بالله وكيلاً‏.‏

‏{‏مّا جعل الله لرجلٍ مّن قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم الائ تظاهرون منهنّ أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم‏}‏ أي ما جمع الله قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوة ودعوة في رجل‏.‏ والمعنى أنه تعالى كما لم يجعل لإنسان قلبين لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر فعلاً من أفعال القلوب فأحدهما فضلة غير محتاج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً عالماً ظاناً موقناً شاكاً في حالة واحدة‏.‏

لم يحكم أيضاً أن تكون المرأة الواحدة أما لرجل زوجاً له، لأن الأم مخدومة والمرأة خادمة وبينهما منافاة، وأن يكون الرجل الواحد دعياً لرجل وابناً له لأن البنوة أصالة في النسب والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل‏.‏ وهذا مثل ضربه الله تعالى في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبي صغيراً فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له فطلبه أبوه وعمه فخير فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه وكانوا يقولون «زيد بن محمد»، فلما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب وكانت تحت زيد قال المنافقون‏:‏ تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عنه فأنزل الله هذه الآية، وقيل‏:‏ كان المنافقون يقولون‏:‏ لمحمد قلبان قلب معكم وقلب مع أصحابه‏.‏ وقيل‏:‏ كان أبو معمر أحفظ العرب فقيل له «ذو القلبين» فأكذب الله قولهم وضربه مثلاً في الظهار والتبني‏.‏ والتنكير في ‏{‏رجل‏}‏ وإدخال «من» الاستغراقية على ‏{‏قلبين‏}‏ وذكر الجوف للتأكيد‏.‏ ‏{‏اللائي‏}‏ بياء بعد الهمزة حيث كان‏:‏ كوفي وشامي، ‏{‏اللاء‏}‏ نافع ويعقوب وسهل وهي جمع‏.‏ ‏{‏التي تُظاهِرون‏}‏ عاصم من ظاهر إذا قال لامرأته «أنت علي كظهر أمي» ‏{‏تَظَاهَرون‏}‏ علي وحمزة وخلف‏.‏ ‏{‏تَظَّاهرون‏}‏ شامي من ظاهر بمعنى تظاهر‏.‏ غيرهم ‏{‏تظّهّرون‏}‏ من اظّهّر بمعنى تظهر‏.‏ وعُدي ب «من» لتضمنه معنى البعد لأنه كان طلاقاً في الجاهلية ونظيره «آلى من امرأته» لما ضمن معنى التباعد عدي ب «من» وإلا فآلى في أصله الذي هو معنى حلف وأقسم ليس هذا بحكمه‏.‏ والدعي فعيل بمعنى مفعول وهو الذي يدعي ولداً، وجمع على أفعلاء شاذاً لأن بابه ما كان منه بمعنى فاعل كتقي وأتقياء وشقي وأشقياء ولا يكون ذلك في نحو «رمي» و«سميّ» للتشبيه اللفظي‏.‏

‏{‏ذلكم قولكم بأفواهكم‏}‏ أي أن قولكم للزوجة هي أم وللدعي هو ابن قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له إذ الابن يكون بالولادة وكذا الأم ‏{‏والله يقول الحقّ‏}‏ أي ما حق ظاهره وباطنه ‏{‏وهو يهدى السّبيل‏}‏ أي سبيل الحق‏.‏ ثم قال ما هو الحق وهدى إلى ما هو سبيل الحق وهو قوله ‏{‏ادعوهم لآبائهم هو أقسط‏}‏ أعدل ‏{‏عند الله‏}‏ وبين أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل‏.‏ وقيل‏:‏ كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه ولد الرجل ضمه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه‏.‏ وكان ينسب إليه فيقال فلان بن فلان‏.‏ ثم انظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث وصل الجملة الطلبية ثم فصل الخبرية عنها ووصل بينها، ثم فصل الاسمية عنها ووصل بينها ثم فصل بالطلبية ‏{‏فإن لّم تعلموا آباءهم‏}‏ فإن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم ‏{‏فإخوانكم في الدّين ومواليكم‏}‏ أي فهم إخوانكم في الدين وأولياؤكم في الدين فقولوا هذا أخي وهذا مولاي ويا أخي ويا مولاي، يريد الأخوة في الدين والولاية فيه‏.‏

‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ‏}‏ أي لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل ورود النهي ‏{‏ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ ولكن الإثم عليكم فيما تعمدتموه بعد النهي‏.‏ أولا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يا بني على سبيل الخطأ وسبق اللسان، ولكن إذا قلتموه متعمدين، و«ما» في موضع الجر عطف على «ما» الأولى، ويجوز أن يراد العفو عن الخطأ دون العمد على سبيل العموم ثم تناول لعمومه خطأ التبني وعمده‏.‏ وإذا وجد التبني فإن كان المتبني مجهول النسب وأصغر سناً منه ثبت نسبه منه وعتق إن كان عبداً له، وإن كان أكبر سناً منه لم يثبت النسب وعتق عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وأما المعروف النسب فلا يثبت نسبه بالتبني وعتق إن كان عبداً ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ لا يؤاخذكم بالخطأ ويقبل التوبة من المتعمد‏.‏

‏{‏النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ أي أحق بهم في كل شيء من أمور الدين والدنيا، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، فعليهم أن يبذلوها دونه ويجعلوها فداءه، أو هو أولى بهم أي أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم كقوله ‏{‏بالمؤمنين رؤوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ وفي قراءة ابن مسعود ‏{‏النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ وهو لهم، وقال مجاهد‏:‏ كل نبي أبو أمته ولذلك صار المؤمنون إخوة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ في تحريم نكاحهن ووجوب تعظيمهن وهن فيما وراء ذلك كالإرث ونحوه كالأجنبيات ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن ‏{‏وَأُوْلُواْ الأرحام‏}‏ وذوو القرابات ‏{‏بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ‏}‏ في التوارث وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة ثم نسخ ذلك وجعل التوارث بحق القرابة ‏{‏فِى كتاب الله‏}‏ في حكمه وقضائه أو في اللوح المحفوظ أو فيما فرض الله ‏{‏مِنَ المؤمنين والمهاجرين‏}‏ يجوز أن يكون بياناً لأولي الأرحام أي الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب، وأن يكون لابتداء الغاية أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين أي الأنصار بحق الولاية في الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة ‏{‏إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً‏}‏ الاستثناء من خلاف الجنس أي لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفاً جائز وهو أن توصوا لمن أحببتم من هؤلاء بشيء فيكون ذلك بالوصية لا بالميراث‏.‏ وعدي ‏{‏تَفْعَلُواْ‏}‏ ب «إلى» لأنه في معنى تسدوا والمراد بالأولياء المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين ‏{‏كَانَ ذلك فِى الكتاب مَسْطُورًا‏}‏ أي التوارث بالأرحام كان مسطوراً في اللوح‏.‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ‏}‏ واذكر حين أخذنا من النبيين ميثاقهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم ‏{‏وَمِنْكَ‏}‏ خصوصاً‏.‏ وقدم رسول الله على نوح ومن بعده لأن هذا العطف لبيان فضيلة هؤلاء لأنهم أولو العزم وأصحاب الشرائع، فلما كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء قدم عليهم ولولا ذلك لقدم من قدمه زمانه ‏{‏وَمِن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقًا غَلِيظاً‏}‏ وثيقاً‏.‏ وأعاد ذكر الميثاق لانضمام الوصف إليه وإنما فعلنا ذلك ‏{‏لّيسئل‏}‏ الله ‏{‏الصادقين‏}‏ أي الأنبياء ‏{‏عَن صِدْقِهِمْ‏}‏ عما قالوه لقومهم أو ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم لأن من قال للصادق صدقت كان صادقاً في قوله، أو ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم أممهم وهو كقوله ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 109‏]‏ ‏{‏وَأَعَدَّ للكافرين‏}‏ بالرسل ‏{‏عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ وهو عطف على ‏{‏أَخَذْنَا‏}‏ لأن المعنى أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وأعد للكافرين عذاباً أليماً، أو على ما دل عليه ‏{‏لِّيَسْأَلَ الصادقين‏}‏ كأنه قال‏:‏ فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 19‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏9‏)‏ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ‏(‏10‏)‏ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏12‏)‏ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ‏(‏13‏)‏ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ‏(‏14‏)‏ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ‏(‏15‏)‏ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏16‏)‏ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏17‏)‏ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏18‏)‏ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

ياأيها الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ أي ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق وكان بعد حرب أحد بسنة ‏{‏إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ‏}‏ أي الأحزاب وهم‏:‏ قريش وغطفان وقريظة والنضير ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً‏}‏ أي الصبا‏.‏ قال عليه السلام «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» ‏{‏وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا‏}‏ وهم الملائكة وكانوا ألفاً بعث الله عليهم صبا باردة في ليلة شاتية فأخصرتهم وأسفت التراب في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت الأطناب وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض وقذف في قلوبهم الرعب وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم فانهزموا من غير قتال‏.‏ وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة بإشارة سلمان ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنسوان فرفعوا في الآطام واشتد الخوف، وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من الأحابيش وبني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان، وخرج غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل في هوازن وضامّتهم اليهود من قريظة والنضير ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى أنزل الله النصر ‏{‏وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ أي بعملكم أيها المؤمنون من التحصن بالخندق والثبات على معاونة النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏بَصِيراً‏}‏ وبالياء، أبو عمرو أي بما يعمل الكفار من البغي والسعي في إطفاء نور الله‏.‏

‏{‏إِذْ جَاءوكُمْ‏}‏ بدل من ‏{‏إِذْ جَاءتْكُمْ‏}‏ ‏{‏مّن فَوْقِكُمْ‏}‏ أي من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان ‏{‏وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ‏}‏ من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش ‏{‏وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار‏}‏ مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرة، أو عدلت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها لشدة الروع ‏{‏وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر‏}‏ الحنجرة رأس الغلصمة وهي منتهى الحلقوم، والحلقوم مدخل الطعام والشراب‏.‏ قالوا‏:‏ إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة‏.‏ وقيل‏:‏ هو مثل في اضطراب القلوب وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة‏.‏ رُوي أن المسلمين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر قال‏:‏ «نعم قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا» ‏{‏وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا‏}‏ خطاب للذين آمنوا ومنهم الثبت القلوب والأقدام والضعاف القلوب الذين هم على حرف والمنافقون، فظن الأولون بالله أنه يبتليهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال، وأما الآخرون فظنوا بالله ما حكى عنهم‏.‏

قرأ أبو عمرو وحمزة ‏{‏الظنون‏}‏ بغير ألف في الوصل والوقف وهو القياس، وبالألف فيهما‏:‏ مدني وشامي وأبو بكر إجراء للوصل مجرى الوقف، وبالألف في الوقف‏:‏ مكي وعلي وحفص، ومثله ‏{‏الرسولا‏}‏ و‏{‏السبيلا‏}‏ زادوها في الفاصلة كما زادها في القافية‏.‏ من قال‏:‏

أقلي اللوم عاذل والعتابا *** وهن كلهن في الإمام بالألف ‏{‏هُنَالِكَ ابتلى المؤمنون‏}‏ امتحنوا بالصبر على الإيمان ‏{‏وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً‏}‏ وحركوا بالخوف تحريكاً بليغاً‏.‏

‏{‏وَإِذْ يَقُولُ المنافقون‏}‏ عطف على الأول ‏{‏والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ قيل‏:‏ هو وصف المنافقين بالواو كقوله‏:‏

إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم

وقيل‏:‏ هم قوم لا بصيرة لهم في الدين كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبه عليهم ‏{‏مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً‏}‏ روي أن معتّب بن قشير حين رأى الأحزاب قال‏:‏ يعدنا محمد فتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقاً ما هذا إلا وعد غرور ‏{‏وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ‏}‏ من المنافقين وهم عبد الله بن أبي وأصحابه ‏{‏ياأهل‏.‏ يَثْرِبَ‏}‏ هم أهل المدينة ‏{‏لاَ مُقَامَ لَكُمْ‏}‏ وبضم الميم‏:‏ حفص أي لا قرار لكم ههنا ولا مكان تقومون فيه أو تقيمون ‏{‏فارجعوا‏}‏ عن الإيمان إلى الكفر أو من عسكر رسول الله إلى المدينة ‏{‏وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النبى‏}‏ أي بنو حارثة ‏{‏يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ‏}‏ أي ذات عورة ‏{‏وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً‏}‏ العورة الخلل والعورة ذات العورة وهي قراءة ابن عباس‏.‏ يقال‏:‏ عور المكان عوراً إذا بدا منه خلل يخاف منه العدو والسارق، ويجوز أن يكون عورة تخفيف عورة اعتذروا أن بيوتهم عرضة للعدو والسارق لأنها غير محصنة فاستأذنوه ليحصنوها ثم يرجعوا إليه فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك وإنما يريدون الفرار من القتال ‏{‏وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ‏}‏ المدينة أو بيوتهم من قولك «دخلت على فلاه داره» ‏{‏مّنْ أَقْطَارِهَا‏}‏ من جوانبها أي ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة التي يفرون خوفاً منها مدينتهم أو بيوتهم من نواحيها كلها وانثالت على أهاليهم وأولاهم ناهبين سابين ‏{‏ثُمَّ سُئِلُواْ‏}‏ عند ذلك القزع ‏{‏الفتنة‏}‏ أي الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين ‏{‏لآتَوْهَا‏}‏ لأعطوها‏.‏ ‏{‏لأتَوْهَا‏}‏ بلا مد‏:‏ حجازي أي لجاءوها وفعلوها ‏{‏وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا‏}‏ بإجابتها ‏{‏إِلاَّ يَسِيراً‏}‏ ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف، أو ما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا يسيراً فإن الله يهلكهم، والمعنى أنهم يتعللون بإعوار بيوتهم ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وعن مصافة الأحزاب الذين ملئوهم هولاً ورعباً، وهؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا عليهم أرضهم وديارهم وعرض عليهم الكفر، وقيل لهم كونوا على المسلمين لسارعوا إليه وما تعللوا بشيء وما ذلك إلا لمقتهم الإسلام وحبهم الكفر‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ‏}‏ أي بنو حارثة من قبل الخندق أو من قبل نظرهم إلى الأحزاب ‏{‏لاَ يُوَلُّونَ الأدبار‏}‏ منهزمين ‏{‏وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً‏}‏ مطلوباً مقتضى حتى يوفى به‏.‏

‏{‏قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي إن كان حضر أجلكم لم ينفعكم الفرار، وإن لم يحضر وفررتم لم تمتعوا في الدنيا إلا قليلاً وهو مدة أعماركم وذلك قليل‏.‏ وعن بعض المروانية أنه مر بحائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال‏:‏ ذلك القليل نطلب‏.‏ ‏{‏قُلْ مَن ذَا الذى يَعْصِمُكُمْ مّنَ الله‏}‏ أي مما أراد الله إنزاله بكم ‏{‏إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً‏}‏ في أنفسكم من قتل أو غيره ‏{‏أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً‏}‏ أي إطالة عمر في عافية وسلامة أي من يمنع الله من أن يرحمكم إن أراد بكم رحمة لما في العصمة من معنى المنع ‏{‏وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً‏}‏ ناصراً ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ‏}‏ أي من يعوق عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يمنع وهم المنافقون ‏{‏والقائلين لإخوانهم‏}‏ في الظاهر من المسلمين ‏{‏هَلُمَّ إِلَيْنَا‏}‏ أي قربوا أنفسكم إلينا ودعوا محمداً وهي لغة أهل الحجاز فإنهم يسوون فيه بين الواحد والجماعة، وأما تميم فيقولون «هلم يا رجل» و«هلموا يا رجال» وهو صوت سمي به فعل متعد نحو «أحضر وقرّب» ‏{‏وَلاَ يَأْتُونَ البأس‏}‏ أي الحرب ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ إلا إتياناً قليلاً أي يحضرون ساعة رياء ويقفون قليلاً مقدار ما يرى شهودهم ثم ينصرفون ‏{‏أَشِحَّةً‏}‏ جمع شحيح وهو البخيل نصب على الحال من الضمير في ‏{‏يَأْتُونَ‏}‏ أي يأتون الحرب بخلاء ‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ بالظفر والغنيمة ‏{‏فَإِذَا جَاء الخوف‏}‏ من قبل العدو أو منه عليه السلام ‏{‏رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ‏}‏ في تلك الحالة ‏{‏تَدورُ أَعْيُنُهُمْ‏}‏ يميناً وشمالاً ‏{‏كالذى يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت‏}‏ كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذراً وخوفاً ولواذاً بك‏.‏

‏{‏فَإِذَا ذَهَبَ الخوف‏}‏ زال ذلك الخوف وأمنوا وحيزت الغنائم ‏{‏سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ‏}‏ خاطبوكم مخاطبة شديدة وآذوكم بالكلام‏.‏ خطيب مسلق فصيح ورجل مسلاق مبالغ في الكلام أي يقولون‏:‏ وفّروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم وبمكاننا غلبتم عدوكم ‏{‏أَشِحَّةً عَلَى الخير‏}‏ أي خاطبوكم أشحة على المال والغنيمة و‏{‏أَشِحَّةً‏}‏ حال من فاعل ‏{‏سَلَقُوكُم‏}‏ ‏{‏أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ‏}‏ في الحقيقة بل بالألسنة ‏{‏فَأَحْبَطَ الله أعمالهم‏}‏ أبطل بإضمارهم الكفر ما أظهروه من الأعمال ‏{‏وَكَانَ ذلك‏}‏ إحباط أعمالهم ‏{‏عَلَى الله يَسِيراً‏}‏ هيناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 30‏]‏

‏{‏يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏20‏)‏ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ‏(‏22‏)‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏24‏)‏ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ‏(‏25‏)‏ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ‏(‏26‏)‏ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏27‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏28‏)‏ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ‏}‏ أي لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا ولم ينصرفوا مع أنهم قد انصرفوا ‏{‏وَإِن يَأْتِ الأحزاب‏}‏ كرة ثانية ‏{‏يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الأعراب‏}‏ البادون جمع البادي أي يتمنى المنافقون لجبنهم أنهم خارجون من المدينة إلى البادية حاصلون بين الأعراب ليأمنوا على أنفسهم ويعتزلوا مما فيه الخوف من القتال ‏{‏يُسْئَلُونَ‏}‏ كل قادم منهم من جانب المدينة ‏{‏عَنْ أَنبَائِكُمْ‏}‏ عن أخباركم وعما جرى عليكم ‏{‏وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ‏}‏ ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال ‏{‏مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ رياء وسمعة‏.‏

‏{‏لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ بالضم حيث كان‏:‏ عاصم أي قدوة وهو المؤتسى به أي المقتدى به كما تقول «في البيضة عشرون مناً حديداً» أي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد‏.‏ أو فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها حيث قاتل بنفسه ‏{‏لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر‏}‏ أي يخاف الله ويخاف اليوم الآخر أو يأمل ثواب الله ونعيم اليوم الآخر‏.‏ قالوا ‏{‏لِمَنْ‏}‏ بدل من ‏{‏لَكُمْ‏}‏ وفيه ضعف لأنه لا يجوز البدل من ضمير المخاطب‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏لِمَنْ‏}‏ يتعلق ب ‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏ أي أسوة حسنة كائنة لمن كان ‏{‏وَذَكَرَ الله كَثِيراً‏}‏ أي في الخوف والرجاء والشدة والرخاء ‏{‏وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب‏}‏ وعدهم الله أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه بقوله ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم‏}‏ إلى قوله ‏{‏قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏ فلما جاء الأحزاب واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد ‏{‏قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ‏}‏ وعلموا أن الغلبة والنصرة قد وجبت لهم‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه‏:‏ إن الأحزاب سائرون إليكم في آخر تسع ليال أو عشر‏.‏ فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك، وهذا إشارة إلى الخطب والبلاء ‏{‏وَمَا زَادَهُمْ‏}‏ ما رأوا من اجتماع الأحزاب عليهم ومجيئهم ‏{‏إِلاَّ إِيمَانًا‏}‏ بالله وبمواعيده ‏{‏وَتَسْلِيماً‏}‏ لقضائه وقدره‏.‏

‏{‏مّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ‏}‏ أي فيما عاهدوه عليه فحذف الجار كما في المثل «صدقني سن بكره» أي صدقني في سن بكره بطرح الجار وإيصال الفعل‏.‏ نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا وهم عثمان بن عفان وطلحة وسعد بن زيد وحمزة ومصعب وغيرهم ‏{‏فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ‏}‏ أي مات شهيداً كحمزة ومصعب‏.‏ وقضاء النحب صار عبارة عن الموت لأن كل حي من المحدثات لا بد له أن يموت فكأنه نذر لازم في رقبته فإذا مات فقد قضى نحبه أي نذره ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ‏}‏ الموت أي على الشهادة كعثمان وطلحة ‏{‏وَمَا بَدَّلُواْ‏}‏ العهد ‏{‏تَبْدِيلاً‏}‏ ولا غيروه لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة، وفيه تعريض لمن بدلوا من أهل النفاق ومرضى القلوب كما مر في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار‏}‏ ‏{‏لّيَجْزِىَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ‏}‏ بوفائهم بالعهد ‏{‏وَيُعَذّبَ المنافقين إِن شَاء‏}‏ إذا لم يتوبوا ‏{‏أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ إن تابوا ‏{‏إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً‏}‏ بقبول التوبة ‏{‏رَّحِيماً‏}‏ بعفو الحوبة‏.‏ جعل المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم، لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب فكأنهما استويا في طلبها والسعي في تحصيلها‏.‏

‏{‏وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ‏}‏ الأحزاب ‏{‏بِغَيْظِهِمْ‏}‏ حال أي مغيظين كقوله ‏{‏تَنبُتُ بالدهن‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 20‏]‏ ‏{‏لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً‏}‏ ظفراً أي لم يظفروا بالمسلمين وسماه خيراً بزعمهم وهو حال أي غير ظافرين ‏{‏وَكَفَى الله المؤمنين القتال‏}‏ بالريح والملائكة ‏{‏وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً‏}‏ قادراً غالباً‏.‏

‏{‏وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم‏}‏ عاونوا الأحزاب ‏{‏مّنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ من بني قريظة ‏{‏مِن صَيَاصِيهِمْ‏}‏ من حصونهم الصيصية ما تحصن به‏.‏ ‏"‏ رُوي أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم، على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج فقال‏:‏ ما هذا يا جبريل‏؟‏ قال‏:‏ من متابعة قريش‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول الله إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم فإن الله داقهم دق البيض على الصفا وإنهم لكم طعمة‏.‏ فأذن في الناس أن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة‏.‏ فحاصروهم خمساً وعشرين ليلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تنزلون على حكمي ‏"‏ فأبوا، فقال‏:‏ ‏"‏ على حكم سعد بن معاذ ‏"‏ فرضوا به فقال سعد‏:‏ حكمت فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏ «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» ‏"‏ ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقاً وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير ‏{‏وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب‏}‏ الخوف وبضم العين‏:‏ شامي وعلي‏.‏ ونصب ‏{‏فَرِيقاً‏}‏ بقوله ‏{‏تَقْتُلُونَ‏}‏ وهم الرجال ‏{‏وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً‏}‏ وهم النساء والذراري ‏{‏وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم وَأَمولَهُمْ‏}‏ أي المواشي والنقود والأمتعة‏.‏ ‏"‏ روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار وقال لهم إنكم في منازلكم ‏"‏

‏{‏وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا‏}‏ بقصد القتال وهي مكة أو فارس والروم أو خيبر أو كل أرض تفتح إلى يوم القيامة ‏{‏وَكَانَ الله على كُلّ شَئ قَدِيراً‏}‏ قادراً‏.‏

‏{‏ياأيها النبى قُل لأزواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا‏}‏ أي السعادة في الدنيا وكثرة الأموال ‏{‏فَتَعَالَيْنَ‏}‏ أصل تعال أن يقوله من في المكان المرتفع لمن في المكان المستوطيء، ثم كثر حتى استوى في استعماله الأمكنة، ومعنى ‏{‏تعالين‏}‏ أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد الأمرين، ولم يرد نهوضهن إليه بأنفسهن كقوله «قام يهددني»‏.‏ ‏{‏أُمَتّعْكُنَّ‏}‏ أعطكن متعة الطلاق وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا المفوضة قبل الوطء ‏{‏وَأُسَرّحْكُنَّ‏}‏ وأطلقكن ‏{‏سَرَاحاً جَمِيلاً‏}‏ لا ضرار فيه أردن شيئاً من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة وتغايرن، فغم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فبدأ بعائشة رضي الله عنها وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم اختار جميعهن اختيارها‏.‏ وروي أنه قال لعائشة‏:‏ ‏"‏ «إني ذاكر لك أمراً ولا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك» ‏"‏ ثم قرأ عليها القرآن فقالت‏:‏ أفي هذا أستأمر أبوي‏؟‏ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة‏.‏ وحكم التخيير في الطلاق أنه إذا قال لها اختاري فقالت اخترت نفسي أن تقع تطليقة بائنة، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء‏.‏ وعن علي رضي الله عنه‏:‏ إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة ‏{‏وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ والدار الآخرة فَإِنَّ الله أَعَدَّ للمحسنات مِنكُنَّ‏}‏ «من» للبيان لا للتبعيض‏.‏ ‏{‏أَجْراً عَظِيماً يانساء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة‏}‏ سيئة بليغة في القبح ‏{‏مُّبَيّنَةٍ‏}‏ ظاهر فحشها‏.‏ من بيّن بمعنى تبين وبفتح الياء‏:‏ مكي وأبو بكر‏.‏ قيل‏:‏ هي عصيانهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهن‏.‏ وقيل‏:‏ الزنا والله عاصم رسوله من ذلك ‏{‏يُضَاعَفْ لَهَا العذاب‏}‏ ‏{‏يضاعف لَهَا العذاب‏}‏ مكي وشامي ‏{‏يضاعف‏}‏ أبو عمرو ويزيد ويعقوب ‏{‏ضِعْفَيْنِ‏}‏ ضعفي عذاب غيرهن من النساء لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن، فزيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولذا كان الذم للعاصي العالم أشد من العاصي الجاهل، لأن المعصية من العالم أقبح ولذا فضل حد الأحرار على العبيد ولا يرجم الكافر ‏{‏وَكَانَ ذلك‏}‏ أي تضعيف العذاب عليهن ‏{‏عَلَى الله يَسِيراً‏}‏ هيناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 37‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏32‏)‏ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ‏(‏33‏)‏ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ‏(‏34‏)‏ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏35‏)‏ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ‏(‏36‏)‏ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ القنوت الطاعة ‏{‏وَتَعْمَلْ صالحا نُؤْتِهَا‏}‏ وبالياء فيهما‏:‏ حمزة وعلي ‏{‏أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ‏}‏ مثلي ثواب غيرها ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً‏}‏ جليل القدر وهو الجنة ‏{‏يانساء النبى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء‏}‏ أي لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل‏.‏ وأحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه ‏{‏إِنِ اتقيتن‏}‏ إن أردتن التقوى أو إن كنتن متقيات ‏{‏فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول‏}‏ أي إذا كلمتن الرجال من وراء الحجاب فلا تجئن بقولكن خاضعاً أي ليناً خنثاً مثل كلام المريبات ‏{‏فَيَطْمَعَ‏}‏ بالنصب على جواب النهي ‏{‏الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ‏}‏ ريبة وفجور ‏{‏وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً‏}‏ حسناً مع كونه خشناً ‏{‏وَقَرْنَ‏}‏ مدني وعاصم غير هبيرة وأصله «اقررن» فحذفت الراء تخفيفاً وألقيت فتحتها على ما قبلها، أو من قار يقار إذا اجتمع‏.‏ والباقون ‏{‏قَرْنٍ‏}‏ من وقر يقر وقاراً، أو من قرّ يقر، حذفت الأولى من راء اقررن قراراً من التكرار ونقلت كسرتها إلى القاف ‏{‏فِى بُيُوتِكُنَّ‏}‏ بضم الباء بصري ومدني وحفص ‏{‏وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى‏}‏ أي القديمة‏.‏ والتبرج التبختر في المشي وإظهار الزينة والتقدير‏:‏ ولا تبرجن تبرجاً مثل تبرج النساء في الجاهلية الأولى وهي الزمان الذي ولد فيه إبراهيم أو ما بين آدم ونوح عليهما السلام أو زمن داود وسليمان والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام‏.‏ أو الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام‏.‏ أو الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام‏.‏

‏{‏وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله‏}‏ خص الصلاة والزكاة بالأمر ثم عم بجميع الطاعات تفضيلاً لهما لأن من واظب عليهما جرتاه إلى ما وراءهما ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت‏}‏ نصب على النداء أو على المدح، وفيه دليل على أن نساءه من أهل بيته‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏عَنْكُمْ‏}‏، لأنه أريد الرجال والنساء من آله بدلالة ‏{‏وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً‏}‏ من نجاسة الآثام‏.‏ ثم بين أنه إنما نهاهن وأمرهن ووعظهن لئلا يقارف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المآثم وليتصونوا عنها بالتقوى‏.‏ واستعار الذنوب الرجس وللتقوى الطهر، لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوث بها كما يتلوث بدنه بالأرجاس، وأما المحسنات فالعرض منها نقي كالثوب الطاهر وفيه تنفير لأولي الألباب عن المناهي وترغيب لهم في الأوامر ‏{‏واذكرن مَا يتلى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايات الله‏}‏ القرآن ‏{‏والحكمة‏}‏ أي السنة أو بيان معاني القرآن ‏{‏إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً‏}‏ عالماً بغوامض الأشياء ‏{‏خَبِيراً‏}‏ عالماً بحقائقها أي هو عالم بأفعالكن وأقوالكن فاحذرن مخالفة أمره ونهيه ومعصية رسوله‏.‏

ولما نزل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل قال نساء المسلمين‏:‏ فما نزل فينا شيء، فنزلت‏:‏

‏{‏إِنَّ المسلمين والمسلمات‏}‏ المسلم الداخل في السّلم بعد الحرب المنقاد الذي لا يعاند، أو المفوض أمره إلى الله المتوكل عليه من أسلم وجهه إلى الله ‏{‏والمؤمنين‏}‏ المصدقين بالله ورسوله وبما يجب أن يصدق به ‏{‏والمؤمنات والقانتين‏}‏ القائمين بالطاعة ‏{‏والقانتات والصادقين‏}‏ في النيات والأقوال والأعمال ‏{‏والمتصدقات والصابرين والصابرات‏}‏ على الطاعات وعن السيئات ‏{‏والخاشعين‏}‏ المتواضعين لله بالقلوب والجوارح أو الخائفين ‏{‏والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات‏}‏ فرضاً ونفلاً ‏{‏والصائمين والصائمات‏}‏ فرضاً ونفلاً‏.‏ وقيل‏:‏ من تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين، ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين ‏{‏والحافظين فُرُوجَهُمْ‏}‏ عما لا يحل ‏{‏والحافظات والذكرين الله كَثِيراً‏}‏ بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وقراءة القرآن والاشتغال بالعلم من الذكر والمعنى والحافظات فروجهن ‏{‏والذاكرات‏}‏ الله فحذف لدلالة ما تقدم عليه‏.‏ والفرق بين عطف الإناث على الذكور وعطف الزوجين على الزوجين لأن الأول نظير قوله ‏{‏ثيبات وَأَبْكَاراً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏ في أنهما جنسان مختلفان واشتركا في حكم واحد فلم يكن بد من توسط العاطف بينهما، وأما الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع ومعناه أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات ‏{‏أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً‏}‏ على طاعاتهم‏.‏

خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بنت عمته أميمة على مولاه زيد بن حارثة فأبت وأبى أخوها عبد الله فنزلت ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ‏}‏ أي وما صح لرجل مؤمن ولا امرأة مؤمنة ‏{‏إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ‏}‏ أي رسول الله ‏{‏أمْراً‏}‏ من الأمور ‏{‏أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ‏}‏ أن يختاروا من أمرهم ما شاءوا بل من حقهم أن يجعلوا رأيهم تبعاً لرأيه واختيارهم تلوا لاختياره فقالا‏:‏ رضينا يا رسول الله، فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها‏.‏ وإنما جمع الضمير في ‏{‏لَهُمْ‏}‏ وإن كان من حقه أن يوحد لأن المذكورين وقعا تحت النفي فعما كل مؤمن ومؤمنة فرجع الضمير إلى المعنى لا إلى اللفظ‏.‏ و‏{‏يَكُونَ‏}‏ بالياء‏:‏ كوفي، والخيرة ما يتخير ودل ذلك على أن الأمر للوجوب ‏{‏وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضلالا مُّبِيناً‏}‏ فإن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول فهو ضلال وكفر، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسق‏.‏

‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ الله عَلَيْهِ‏}‏ بالإسلام الذي هو أجل النعم ‏{‏وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ‏}‏ بالإعتاق والتبني فهو متقلب في نعمة الله ونعمة رسوله وهو زيد بن حارثة ‏{‏أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ‏}‏ زينب بنت جحش، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصرها بعدما أنكحها إياه فوقعت في نفسه فقال‏:‏ ‏"‏ «سبحان الله مقلب القلوب» ‏"‏ وذلك أن نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال‏:‏ ‏"‏ مالك أرابك منها شيء‏؟‏» ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ «لا والله ما رأيت منها إلا خيراً ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني فقال له‏:‏ أمسك عليك زوجك» ‏"‏ ‏{‏واتق الله‏}‏ فلا تطلقها‏.‏ وهو نهي تنزيه إذ الأولى أن لا يطلق أو واتق الله فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج ‏{‏وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ‏}‏ أي تخفي في نفسك نكاحها إن طلقها زيد وهو الذي أبداه الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ الذي أخفى في نفسه تعلق قلبه بها ومودة مفارقة زيد إياها‏.‏ والواو في ‏{‏وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ‏}‏ ‏{‏وَتَخْشَى الناس‏}‏ أي قالة الناس إنه نكح امرأة ابنه ‏{‏والله أَحَقُّ أَن تخشاه‏}‏ واو الحال أي تقول لزيد أمسك عليك زوجك مخفياً في نفسك إرادة أن لا يمسكها وتخفي خاشياً قالة الناس وتخشى الناس حقيقاً في ذلك بأن تخشى الله‏.‏ وعن عائشة رضي الله عنها‏:‏ لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية‏.‏

‏{‏فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً‏}‏ الوطر الحاجة فإذا بلغ البالغ حاجته من شيء له فيه همة‏.‏ قيل‏:‏ قضى منه وطره، والمعنى فلما لم يبق لزيد فيها حاجة وتقاصرت عنها همته وطلقها وانقضت عدتها ‏{‏زوجناكها‏}‏‏.‏ روي أنها لما اعتدت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد«‏:‏ ‏"‏ ما أجد أحداً أوثق في نفسي منك‏:‏ أخطب عليّ زينب» ‏"‏ قال زيد‏:‏ فانطلقت وقلت‏:‏ يا زينب أبشري إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبك ففرحت وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار ‏{‏لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً‏}‏ قيل‏:‏ قضاء الوطر إدراك الحاجة وبلوغ المراد منه ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ الله‏}‏ الذي يريد أن يكونه ‏{‏مَفْعُولاً‏}‏ مكوناً لا محالة وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 49‏]‏

‏{‏مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ‏(‏38‏)‏ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏39‏)‏ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏40‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ‏(‏41‏)‏ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏42‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ‏(‏43‏)‏ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ‏(‏44‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏45‏)‏ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ‏(‏46‏)‏ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ‏(‏47‏)‏ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏48‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏مَّا كَانَ عَلَى النبى مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ‏}‏ أحل له وأمر له وهو نكاح زينب امرأة زيد أو قدر له من عدد النساء ‏{‏سُنَّةَ الله‏}‏ اسم موضع موضع المصدر كقولهم «تراباً وجندلاً» مؤكد لقوله ‏{‏مَّا كَانَ عَلَى النبى مِنْ حَرَجٍ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ سن الله ذلك سنة في الأنبياء الماضين وهو أن لا يحرج عليهم في الإقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره، وقد كانت تحتهم المهائر والسراري وكانت لداود مائة امرأة وثلثمائة سرية ولسليمان ثلثمائة حرة وسبعمائة سرية ‏{‏فِى الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ‏}‏ في الأنبياء الذين مضوا من قبل ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً‏}‏ قضاء مقضياً وحكماً مبتوتاً، ولا وقف عليه إن جعلت ‏{‏الذين يُبَلّغُونَ رسالات الله‏}‏ بدلاً من ‏{‏الذين‏}‏ الأول، وقف إن جعلته في محل الرفع أو النصب على المدح أي هم الذين يبلغون أو أعني الذي يبلغون ‏{‏وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله‏}‏ وصف الأنبياء بأنهم لا يخشون إلا اللّه تعريض بعد التصريح في قوله ‏{‏وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه‏}‏ ‏{‏وكفى بالله حَسِيباً‏}‏ كافياً للمخاوف ومحاسباً على الصغيرة والكبيرة فكان جديراً بأن تخشى منه‏.‏

‏{‏مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ‏}‏ أي لم يكن أبا رجل منكم حقيقة حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح، والمراد من رجالكم البالغين، والحسن والحسين لم يكونا بالغين حينئذ والطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم توفوا صبياناً ‏{‏ولكن‏}‏ كان ‏{‏رَسُولِ الله‏}‏ وكل رسول أبو أمته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء، وزيد واحد من رجالكم الذين ليسوا بأولاده حقيقة فكان حكمه كحكمكم والتبني من باب الاختصاص والتقريب لا غير ‏{‏وَخَاتَمَ النبيين‏}‏ بفتح التاء عاصم بمعنى الطابع أي آخرهم يعني لا ينبأ أحد بعده وعيسى ممن نبي قبله، وحين ينزل ينزل عاملاً على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كأنه بعض أمته‏.‏ وغيره بكسر التاء بمعنى الطابع وفاعل الختم‏.‏ وتقوّيه قراءة ابن مسعود ‏{‏ولكن نَبِيّاً خَتَمَ النبيين‏}‏ ‏{‏وَكَانَ الله بِكُلّ شَئ عَلِيماً ياأيها الذين ءامَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً‏}‏ أثنوا عليه بضروب الثناء وأكثروا ذلك ‏{‏وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً‏}‏ أول النهار ‏{‏وَأَصِيلاً‏}‏ آخر النهار، وخصا بالذكر لأن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون فيهما‏.‏ وعن قتادة‏:‏ قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏ والفعلان أي اذكروا الله وسبحوه موجهان إلى البكرة والأصيل كقولك «صم وصل يوم الجمعة»‏.‏

والتسبيح من جملة الذكر، وإنما اختص من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة إبانة لفضله على سائر الأذكار، لأن معناه تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات‏.‏ وجاز أن يراد بالذكر وإكثاره تكثير الطاعات والعبادات فإنها من جملة الذكر، ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وهي صلاة الفجر وأصيلاً وهي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء أو صلاة الفجر والعشاءين‏.‏

‏{‏هُوَ الذى يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلَئِكَتُهُ‏}‏ لما كان من شأن المصلي أن ينعطف في ركوعه وسجوده استعير لمن ينعطف على غيره حنواً عليه وترؤفاً كعائد المريض في انعطافه عليه والمرأة في حنوها على ولدها، ثم كثر حتى استعمل في الرحمة والترؤف ومنه قولهم «صلى الله عليك» أي ترحم عليك وترأف‏.‏ والمراد بصلاة الملائكة قولهم «اللهم صل على المؤمنين» جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة، والمعنى هو الذي يترحم عليكم ويترأف حين يدعوكم إلى الخير ويأمركم بإكثار الذكر والتوفر على الصلاة والطاعة ‏{‏لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور‏}‏ من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة ‏{‏وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً‏}‏ هو دليل على أن المراد بالصلاة الرحمة‏.‏ وروي أنه لما نزل ‏{‏إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى‏}‏ قال أبو بكر‏:‏ ما خصك الله يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه فنزلت ‏{‏تَحِيَّتُهُمْ‏}‏ من إضافة المصدر إلى المفعول أي تحية الله لهم ‏{‏يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ‏}‏ يرونه ‏{‏سلام‏}‏ يقول الله تبارك وتعالى السلام عليكم ‏{‏وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً‏}‏ يعني الجنة‏.‏

‏{‏ياأيها النبى إِنَّا أرسلناك شَاهِداً‏}‏ على من بعثت إليهم وعلى تكذيبهم وتصديقهم أي مقبولاً قولك عند الله لهم وعليهم‏.‏ كما يقبل قول الشاهد العدل في الحكم، وهو حال مقدرة كما تقول «مررت برجل معه صقر صائداً به» إي مقدراً به الصيد غداً ‏{‏وَمُبَشّراً‏}‏ للمؤمنين بالجنة ‏{‏وَنَذِيرًا‏}‏ للكافرين بالنار ‏{‏وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ‏}‏ بأمره أو بتيسيره والكل منصوب على الحال ‏{‏وَسِرَاجاً مُّنِيراً‏}‏ جلا به الله ظلمات الشرك واهتدى به الضالون كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير ويهتدى به‏.‏ والجمهور على أنه القرآن فيكون التقدير وذا سراج منير أو وتالياً سراجاً منيراً، ووصف بالإنارة لأن من السرج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته، أو شاهداً بواحدانيتنا ومبشراً برحمتنا ونذيراً بنقمتنا وداعياً إلى عبادتنا وسراجاً وحجة ظاهرة لحضرتنا ‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً‏}‏ ثواباً عظيماً ‏{‏وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين‏}‏ المراد به التهييج أو الدوام والثبات على ما كان عليه ‏{‏وَدَعْ أَذَاهُمْ‏}‏ هو بمعنى الإيذاء فيحتمل أن يكون مضافاً إلى الفاعل أي اجعل إيذاءهم إياك في جانب ولا تبال بهم ولا تخف عن إيذائهم، أو إلى المفعول أي دع إيذاءك إياهم مكافأة لهم ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ فإنه يكفيكهم ‏{‏وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏ وكفى به مفوضاً إليه‏.‏

وقيل‏:‏ إن الله تعالى وصفه بخمسة أوصاف وقابل كلاً منها بخطاب مناسب له، قابل الشاهد ‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين‏}‏ لأنه يكون شاهداً على أمته وهم يكونون شهداء على سائر الأمم وهو الفضل الكبير، والمبشر بالإعراض عن الكافرين والمناققين لأنه إذا أعرض عنهم أقبل جميع إقباله على المؤمنين وهو مناسب للبشارة، والنذير ب ‏{‏وَدَعْ أَذَاهُمْ‏}‏ لأنه إذا ترك أذاهم في الحاضر والأذى لا بد له من عقاب عاجل أو آجل كانوا منذرين به في المستقبل، والداعي إلى الله بتيسيره بقوله ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ فإن من توكل على الله يسر عليه كل عسير، والسراج المنير بالإكتفاء به وكيلاً لأن من أناره الله برهاناً على جميع خلقه كان جديراً بأن يكتفى به عن جميع خلقه‏.‏

‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات‏}‏ أي تزوجتتم‏.‏ والنكاح هو الوطء في الأصل وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له من حيث إنه طريق إليه كتسمية الخمر إثماً لأنه سببه، وكقول الراجز‏.‏

أسنمة الآبال في سحابه

سمى الماء بأسنمة الآبال لأنه سبب سمن الآبال وارتفاع أسنمتها‏.‏ ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله تعالى إلا في معنى العقد لأنه في معنى الوطء من باب التصريح به، ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإتيان‏.‏ وفي تخصيص المؤمنات مع أن الكتابيات تساوي المؤمنات في هذا الحكم إشارة إلى أن الأولى بالمؤمن أن ينكح مؤمنة ‏{‏ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ والخلوة الصحيحة كالمس ‏{‏فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا‏}‏ فيه دليل على أن العدة تجب على النساء للرجال‏.‏ ومعنى ‏{‏تَعْتَدُّونَهَا‏}‏ تستوفون عددها تفتعلون من العد ‏{‏فَمَتّعُوهُنَّ‏}‏ والمتعة تجب للتي طلقها قبل الدخول بها ولم يسم لها مهر دون غيرها ‏{‏وَسَرّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً‏}‏ أي لا تمسكوهن ضراراً وأخرجوهن من منازلكم إذ لا عدة لكم عليهن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 53‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏50‏)‏ تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ‏(‏51‏)‏ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ‏(‏52‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها النبى إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتى ءاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ‏}‏ مهورهن إذ المهر أجر على البضع ولهذا قال الكرخي‏:‏ إن النكاح بلفظ الإجارة جائز‏.‏ وقلنا‏:‏ التأييد من شرط النكاح والتأقيت من شرط الإجارة وبينهما منافاة‏.‏ وإيتاؤها إعطاؤها عاجلاً أو فرضها وتسميتها في العقد ‏{‏وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ‏}‏ وهي صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما ‏{‏وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك اللاتى هاجرن مَعَكَ‏}‏ ومع ليس للقران بل لوجودها فحسب كقوله ‏{‏وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 44‏]‏ وعن أم هانيء بنت أبي طالب‏:‏ خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت فعذرني فأنزل الله هذه الآية، فلم أحل له لأني لم أهاجر معه ‏{‏وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ‏}‏ وأحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها نولا تطلب مهراً من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك ولذا نكرها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هو بيان حكم في المستقبل ولم يكن عنده أحد منهن بالهبة‏.‏ وقيل‏:‏ الواهبة نفسها ميمونة بنت الحرث أو زينب بنت خزيمة أو أم شريك بنت جابر أو خولة بنت حكيم‏.‏ وقرأ الحسن «أن» بالفتح على التعليل بتقدير حذف اللام‏.‏ وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه بغير «إن» ‏{‏إِنْ أَرَادَ النبى أَن يَسْتَنكِحَهَا‏}‏ استنكاحها طلب نكاحها والرغبة فيه‏.‏ وقيل‏:‏ نكح واستنكح بمعنى، والشرط الثاني تقييد للشرط الأول شرط في الإحلال هبتها نفسها وفي الهبة إرادة استنكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قال‏:‏ أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها لأن إرادته هي قبول الهبة وما به تتم، وفيه دليل جواز النكاح بلفظ الهبة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته سواء في الأحكام إلا فيما خصه الدليل ‏{‏خَالِصَةٌ‏}‏ بلا مهر حال من الضمير في ‏{‏وَهَبَتْ‏}‏ أو مصدر مؤكد أي خلص لك إحلال ما أحللنا لك خالصة بمعنى خلوصاً والفاعلة في المصادر غير عزيز كالعافية والكاذبة ‏{‏لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين‏}‏ بل يجب المهر لغيرك وإن لم يسمه أو نفاه‏.‏ عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله ‏{‏إِنْ أَرَادَ النبى‏}‏ ثم رجع إلى الخطاب ليؤذن أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوة وتكريره أي تكرير النبي تفخيم له‏.‏

‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أزواجهم‏}‏ أي ما أوجبنا من المهور على أمتك في زوجاتهم أو ما أوجبنا عليهم في أزواجهم من الحقوق ‏{‏وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم‏}‏ بالشراء وغيره من وجوه الملك‏.‏ وقوله ‏{‏لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ‏}‏ ضيق متصل ب ‏{‏خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين‏}‏ وقوله ‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أزواجهم وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم‏}‏ جملة اعتراضية ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ بالتوسعة على عباده‏.‏

‏{‏تُرْجِى‏}‏ بلا همز‏:‏ مدني وحمزة وعلي وخلف وحفص، وبهمز غيرهم‏:‏ تؤخر ‏{‏مَن تَشَاء مِنْهُمْ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء‏}‏ تضم بمعنى تترك مضاجعة من تشاء منهن وتضاجع من تشاء، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء، أو لا تقسم لأيتهن شئت وتقسم لمن شئت، أو تترك تزوج من شئت من نساء أمتك وتتزوّج من شئت، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض لأنه إما أن يطلق وإما أن يمسك، فإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أولم يقسم، وإذا طلق وعزل فإما أن يخلي المعزولة لا يبتغيها أو يبتغيها‏.‏ ورُوي أنه أرجى منهن جويرية وسودة وصفية وميمونة وأم حبيبة وكان يقسم لهن ما شاء كما شاء، وكانت ممن آوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، أرجى خمساً وآوى أربعاً، وروي أنه كان يسوي مع ما أطلق له وخير فيه إلا سودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت‏:‏ لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك ‏{‏وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ‏}‏ أي ومن دعوت إلى فراشك وطلبت صحبتها ممن عزلت عن نفسك بالإرجاء فلا ضيق عليك في ذلك أي ليس إذا عزلتها لم يجز لك ردها إلى نفسك‏.‏ و«من» رفع بالابتداء وخبره ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ‏}‏ ‏{‏ذلك‏}‏ التفويض إلى مشيئتك ‏{‏أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا ءاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ‏}‏ أي أقرب إلى قرة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعاً لأنهن إذا علمن أن هذا التفويض من عند الله اطمأنت نفوسهن وذهب التغاير وحصل الرضا وقرت العيون‏.‏ ‏{‏كُلُّهُنَّ‏}‏ بالرفع تأكيد لنون ‏{‏يرضين‏}‏ وقرئ ‏{‏وَيَرْضَيْنَ كُلُّهُنَّ بِمَا ءاتَيْتَهُنَّ‏}‏ على التقديم، وقرئ شاذاً «كلهن» بالنصب تأكيداً لهن في ‏{‏ءاتَيْتَهُنَّ‏}‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ‏}‏ فيه وعيد لمن لم ترض منهن بما دبر الله من ذلك وفوض إلى مشيئة رسوله ‏{‏وَكَانَ الله عَلِيماً‏}‏ بذات الصدور ‏{‏حَلِيماً‏}‏ لا يعاجل بالعقوبة فهو حقيق بأن يتقي ويحذر‏.‏

‏{‏لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء‏}‏ بالتاء‏:‏ أبو عمرو ويعقوب، وغيرهما بالتذكير لأن تأنيث الجمع غير حقيقي وإذا جاز بغير فصل فمع الفصل أجوز ‏{‏مِن بَعْدِ‏}‏ من بعد التسع لأن التسع نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج كما أن الأربع نصاب أمته ‏{‏وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ‏}‏ الطلاق‏.‏ والمعنى أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجاً أخر بكلهن أو بعضهن كرامة لهن وجزاء على ما اخترن ورضين فقصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن وهن التسع التي مات عنهن‏:‏ عائشة، حفصة، أم حبيبة، سودة أم سلمة، صفية، ميمونة، زينب بنت جحش، جويرية‏.‏

و«من» في ‏{‏مِنْ أَزْوَاجٍ‏}‏ التأكيد النفي وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم ‏{‏وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ‏}‏ في موضع الحال من الفاعل وهو الضمير في ‏{‏تبَدَّلُ‏}‏ أي تتبدل لا من المفعول الذي هو من أزواج لتوغله في التنكير، وتقديره مفروضاً إعجابك بهن‏.‏ وقيل‏:‏ هي أسماء بنت عميس امرأة جعفر بن أبي طالب فإنها ممن أعجبه حسنهن‏.‏ وعن عائشة وأم سلمة‏:‏ ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له أن يتزوج من النساء ما شاء يعني أن الآية نسخت، ونسخها إما بالسنة أو بقوله ‏{‏إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك‏}‏ وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف ‏{‏إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ‏}‏ استثنى ممن حرم عليه الإماء ومحل «ما» رفع بدل من ‏{‏النساء‏}‏ ‏{‏وَكَانَ الله على كُلّ شَئ رَّقِيباً‏}‏ حافظاً وهو تحذير عن مجاوزة حدوده‏.‏

‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ ناظرين إناه‏}‏ ‏{‏أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ‏}‏ في موضع الحال أي لا تدخلوا إلا مأذوناً لكم، أو في معنى الظرف تقديره إلا وقت أن يؤذن لكم، ‏{‏غَيْرَ ناظرين‏}‏ حال من ‏{‏لاَ تَدْخُلُواْ‏}‏ وقع الاستثناء على الحال والوقت معاً كأنه قيل‏:‏ لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ولا تدخلوها إلا غير ناظرين أي غير منتظرين‏.‏ وهؤلاء قوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه، ومعناه لا تدخلوا يا أيها المتحينون للطعام إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، وإنى الطعام إدراكه يقال أَنى الطعام أني كقولك قلاه قلي‏.‏ وقيل‏:‏ إناه وقته أي غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله‏.‏ ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على زينب بتمر وسويق وشاة وأمر أنساً أن يدعو بالناس فترادفوا أفواجاً يأكل فوج ويخرج ثم يدخل فوج إلى أن قال يا رسول الله دعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه فقال «ارفعوا طعامكم»، وتفرق الناس وبقيء ثلاثة نفر يتحدثون فأطالوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجرات وسلم عليهن ودعون له ورجع، فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء فتولى، فلما رأوه متولياً خرجوا فرجع ونزلت ‏{‏وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا‏}‏ فتفرقوا ‏{‏وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ‏}‏ هو مجرور معطوف على ‏{‏ناظرين‏}‏ أو منصوب أي ولا تدخولها مستأنسين نهوا عن أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدث به ‏{‏إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النبى فَيَسْتَحْيِى مّنكُمْ‏}‏ من إخراجكم ‏{‏والله لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ الحق‏}‏ يعني أن إخراجكم حق ما ينبغي أن يستحيا منه‏.‏

ولما كان الحياء مما يمنع الحيّي من بعض الأفعال قيل لا يستحيي من الحق أي لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحيي منكم، هذا أدبٌ أدّب اللّه به الثقلاء‏.‏ وعن عائشة رضي الله عنها‏:‏ حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم وقال ‏{‏فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ‏}‏ الضمير لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لدلالة بيوت النبي لأن فيها نساءه ‏{‏متاعا‏}‏ عارية أو حاجة ‏{‏فَسْئَلُوهُنَّ‏}‏ المتاع ‏{‏مِن وَرَاء حِجَابٍ ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ‏}‏ من خواطر الشيطان وعوارض الفتن، وكانت النساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرجال وكان عمر رضي الله عنه يجب ضرب الحجاب عليهن ويود أن ينزل فيه وقال‏:‏ يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت‏.‏ وذكر أن بعضهم قال‏:‏ أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن مات محمد لأتزوّجن فلانة فنزل ‏{‏وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً‏}‏ أي وما صح لكم إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نكاح أزواجه من بعد موته ‏{‏إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً‏}‏ أي ذنباً عظيماً‏.‏