فصل: تفسير الآيات رقم (159- 164)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏159- 164‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ‏(‏159‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏160‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏161‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏162‏)‏ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏163‏)‏ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏164‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الصفا والمروة‏}‏ هما علمان للجبلين‏.‏ ‏{‏مِن شَعَائِرِ الله‏}‏ من أعلام مناسكه ومتعبداته جمع شعيرة وهي العلامة ‏{‏فَمَنْ حَجَّ البيت‏}‏ قصد الكعبة ‏{‏أَوِ اعتمر‏}‏ زار الكعبة، فالحج‏:‏ القصد، والاعتمار‏:‏ الزيارة، ثم غلبا على قصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين وهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان‏.‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ‏}‏ فلا إثم عليه ‏{‏أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا‏}‏، أي يتطوف فأدغم التاء في الطاء‏.‏ وأصل الطوف المشي حول الشيء والمراد هنا السعي بينهما‏.‏ قيل‏:‏ كان على الصفا «إساف» وعلى المروة «نائلة» وهما صنمان يروى أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله‏.‏ وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية فرفع عنهم الجناح بقوله «فلا جناح»‏.‏ وهو دليل على أنه ليس بركن كما قال مالك والشافعي رحمهما الله تعالى‏.‏ وكذا قوله ‏{‏وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا‏}‏ أي بالطواف بهما مشعر بأنه ليس بركن‏.‏ «ومن يطوع»‏:‏ حمزة وعلي أي يتطوع فأدغم التاء في الطاء ‏{‏فَإِنَّ الله شَاكِرٌ‏}‏ مجاز على القليل كثيراً ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بالأشياء صغيراً أو كبيراً‏.‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ‏}‏ من أحبار اليهود ‏{‏مَا أَنَزَلْنَا‏}‏ في التوراة ‏{‏مِنَ البينات‏}‏ من الآيات الشاهدة على أمر محمد عليه السلام ‏{‏والهدى‏}‏ الهداية إلى الإسلام بوصفه عليه السلام ‏{‏مِن بَعْدِ مَا بيناه‏}‏ أوضحناه ‏{‏لِلنَّاسِ فِي الكتاب‏}‏ في التوراة لم ندع فيه موضع إشكال فعمدوا إلى ذلك المبين فكتموه ‏{‏أولئك يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون‏}‏ الذين يتأتى منهم اللعن وهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين ‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ‏}‏ عن الكتمان وترك الإيمان ‏{‏وَأَصْلَحُواْ‏}‏ ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم ‏{‏وَبَيَّنُواْ‏}‏ وأظهروا ما كتموا ‏{‏فأولئك أَتُوبُ عَلَيْهِمْ‏}‏ أقبل توبتهم ‏{‏وَأَنَا التواب الرحيم * إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ‏}‏ يعني الذين ماتوا من هؤلاء الكاتمين ولم يتوبوا ‏{‏أولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ‏}‏ ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً‏.‏ والمراد بالناس المؤمنون أو المؤمنون والكافرون إذ بعضهم يلعن بعضاً يوم القيامة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏‏.‏ ‏{‏خالدين‏}‏ حال من هم في «عليهم» ‏{‏فِيهَا‏}‏ في اللعنة أو في النار إلا أنها أضمرت تفخيماً لشأنها وتهويلاً ‏{‏لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ من الإنظار أي لا يمهلون أو لا ينتظرون ليعتذروا أو لا ينظر إليهم نظر رحمة ‏{‏وإلهكم إله واحد‏}‏ فرد في ألوهيته لا شريك له فيها ولا يصح أن يسمى غير إلها ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ تقرير للوحدانية ينفي غيره وإثباته‏.‏

وموضع «هو» رفع لأنه بدل من موضع «لا إله» ولا يجوز النصب هنا لأن البدل يدل على أن الاعتماد على الثاني، والمعنى في الآية على ذلك والنصب يدل على أن الاعتماد على الأول‏.‏ ورفع «الرحمن الرّحيم» أي المولى لجميع النعم أصولها وفروعها ولا شيء سواه بهذه الصفة فما سواه إما نعمة وإما منعم عليه على أنه خبر مبتدأ، أو على البدل من «هو» لا على الوصف لأن المضمر لا يوصف‏.‏ ولما عجب المشركون من إله واحد وطلبوا آية على ذلك نزل ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار‏}‏ في اللون والطول والقصر وتعاقبهما في الذهاب والمجيء ‏{‏والفلك التى تَجْرِى فِى البحر بِمَا يَنفَعُ الناس‏}‏ بالذي ينفعهم مما يحمل فيها أو بنفع الناس و«من» في ‏{‏وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء‏}‏ لابتداء الغاية وفي ‏{‏مِن مَّاءٍ‏}‏ مطر لبيان الجنس لأن ما ينزل من السماء مطر وغيره‏.‏ ثم عطف على «أنزل» ‏{‏فَأَحْيَا بِهِ‏}‏ بالماء ‏{‏الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ يبسها ثم عطف على «فأحيا» ‏{‏وَبَثَّ‏}‏ وفرق ‏{‏فِيهَا‏}‏ في الأرض ‏{‏مِن كُلِّ دَابَّةٍ‏}‏ هي كل ما يدب ‏{‏وَتَصْرِيفِ الرياح‏}‏ «الريح»‏:‏ حمزة وعلي‏.‏ أي وتقليبها في مهابها قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً، وفي أحوالها حارة وباردة وعاصفة ولينة وعقماً ولواقح‏.‏ وقيل‏:‏ تارة بالرحمة وطوراً بالعذاب‏.‏ ‏{‏والسحاب المسخر‏}‏ المذلل المنقاد لمشيئة الله تعالى فيمطر حيث شاء ‏{‏بَيْنَ السماء والأرض‏}‏ في الهواء ‏{‏لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون فيستدلون بهذه الأشياء على قدرة موجدها وحكمة مبدعها ووحدانية منشئها‏.‏ وفي الحديث ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165- 176‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ‏(‏165‏)‏ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ‏(‏166‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ‏(‏167‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏168‏)‏ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏169‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏170‏)‏ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏171‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏172‏)‏ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏173‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏174‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ‏(‏175‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏176‏)‏‏}‏

ومن النّاس أي ومع هذا البرهان النير من الناس ‏{‏من يتّخذ من دون اللّه أنداداً‏}‏ أمثالاً من الأصنام ‏{‏يُحِبُّونَهُمْ‏}‏ يعظمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب ‏{‏كَحُبّ الله‏}‏ كتعظيم الله والخضوع له أي يحبون الأصنام كما يحبون الله يعني يسوون بينهم وبينه في محبتهم لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه‏.‏ وقيل‏:‏ يحبونهم كحب المؤمنين الله ‏{‏والذين ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ‏}‏ من المشركين لآلهتهم لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره بحال، والمشركون يعدلون عن أندادهم إلى الله عند الشدائد فيفزعون إليه ويخضعون ‏{‏وَلَوْ يَرَى‏}‏ «ترى»‏:‏ نافع وشامي على خطاب الرسول أو كل مخاطب، أي ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً ‏{‏الذين ظَلَمُواْ‏}‏ إشارة إلى متخذي الأنداد ‏{‏إِذْ يَرَوْنَ‏}‏ «يرون»‏:‏ شامي ‏{‏العذاب أَنَّ القوة لِلَّهِ جَمِيعًا‏}‏ حال ‏{‏وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب‏}‏ شديد عذابه أي ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة كلها لله تعالى على كل شيء من الثواب والعقاب دون أندادهم، ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة، فحذف الجواب لأن «لو» إذا جاء فيما يشوق إليه أو يخوف منه قلما يوصل بجواب ليذهب القلب فيه كل مذهب‏.‏ و«لو» يليها الماضي‏.‏ وكذا «إذا» وضعها لتدل على الماضي، وإنما دخلتا على المستقبل هنا لأن إخبار الله تعالى عن المستقبل باعتبار صدقه كالماضي ‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ‏}‏ مدغمة الذال في التاء حيث وقعت‏:‏ عراقي غير عاصم‏.‏ وهو بدل من «إذ يرون العذاب»‏.‏ ‏{‏الذين اتبعوا‏}‏ أي المتبعون وهم الرؤساء ‏{‏مِنَ الذين اتبعوا‏}‏ من الأتباع ‏{‏وَرَأَوُاْ العذاب‏}‏ الواو فيه للحال أي تبرأوا في حال رؤيتهم العذاب ‏{‏وَتَقَطَّعَتْ‏}‏ عطف على «تبرأ» ‏{‏بِهِمُ الأسباب‏}‏ الوصل التي كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد ومن الأنساب والمحاب‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين اتبعوا‏}‏ أي الاتباع ‏{‏لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً‏}‏ رجعة إلى الدنيا ‏{‏فَنَتَبَرَّأَ‏}‏ نصب على جواب التمني لأن لو في معنى التمني والمعنى ليت لنا كرة فنتبرأ ‏{‏مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا‏}‏ الآن ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك الإراء الفظيع ‏{‏يُرِيهِمُ الله أعمالهم‏}‏ أي عبادتهم الأوثان ‏{‏حسرات عَلَيْهِمْ‏}‏ ندامات‏.‏ وهي مفعول ثالث ل «يريهم» ومعناه أن أعمالهم تنقلب عليهم حسرات فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم‏.‏ ‏{‏وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار‏}‏ بل هم فيها دائمون‏.‏ ونزل فيمن حرموا على أنفسهم البحائر ونحوها‏.‏ ‏{‏يأَيُّهَا الناس كُلُواْ‏}‏ أمر إباحة ‏{‏مِمَّا فِى الأرض‏}‏ «من» للتبعيض لأن كل ما في الأرض ليس بمأكول ‏{‏حلالا‏}‏ مفعول «كلوا» أو حال مما في الأرض ‏{‏طَيِّباً‏}‏ طاهراً من كل شبهة ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏}‏ طرقه التي يدعوكم إليها بسكون الطاء‏:‏ أبو عمر غير عباس ونافع وحمزة وأبو بكر‏.‏

والخطوة في الأصل ما بين قدمي الخاطي‏.‏ يقال اتبع خطواته إذا اقتدى به واستن بسنته‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر العداوة لاخفاءه به‏.‏ وأبان متعدٍ ولازم‏.‏ ولا يناقض هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏ أي الشيطان لأنه عدو للناس حقيقة ووليهم ظاهراً فإنه يريهم في الظاهر الموالاة ويزين لهم أعمالهم ويريد بذلك هلاكهم في الباطن‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا يَأْمُرُكُم‏}‏ بيان لوجوب الانتهاء عن اتباعه وظهور عداوته أي لا يأمركم بخير قط إنما يأمركم ‏{‏بالسوء‏}‏ بالقبيح ‏{‏والفحشاء‏}‏ وما يتجاوز الحد في القبح من العظائم‏.‏ وقيل‏:‏ السوء ما لاحد فيه والفحشاء ما فيه حد ‏{‏وَأَن تَقُولُواْ‏}‏ في موضع الجر بالعطف على «بالسوء» أي وبأن تقولوا ‏{‏عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ هو قولكم هذا حلال وهذا حرام بغير علم، ويدخل فيه كل ما يضاف إلى الله تعالى مما لا يجوز عليه‏.‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله‏}‏ الضمير للناس‏.‏ وعدل بالخطاب عنهم على طريق الالتفاف‏.‏ قيل‏:‏ هم المشركون‏.‏ وقيل‏:‏ طائفة من اليهود لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان واتباع القرآن، ‏{‏قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا‏}‏ وجدنا ‏{‏عَلَيْهِ ءابَاءَنَا‏}‏ فإنهم كانوا خيراً منا وأعلم فرد الله عليهم بقوله ‏{‏أَوَلَوْ كَانَ آباؤُهُمْ‏}‏ الواو للحال والهمزة بمعنى الرد والتعجب معناه أيتبعونهم ولو كان آباؤهم ‏{‏لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا‏}‏ من الذين ‏{‏وَلاَ يَهْتَدُونَ‏}‏ للصواب‏.‏ ثم ضرب لهم مثلاً فقال ‏{‏وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ المضاف محذوف أي ومثل داعي الذين كفروا ‏{‏كَمَثَلِ الذى يَنْعِقُ‏}‏ يصيح والمراد ‏{‏بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً‏}‏ البهائم‏.‏ والمعنى مثل داعيهم إلى الإيمان في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودوي الصوت من غير إلقاء أذهان ولا استبصار كمثل الناعق بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه الذي هو تصويت بها وزجر لها ولا تفقه شيئاً آخر كما يفهم العقلاء‏.‏ والنعقيق‏:‏ التصويت، يقال نعق المؤذن ونعق الراعي بالضأن والنداء ما يسمع والدعاء قد يسمع وقد لا يسمع‏.‏ ‏{‏صُمٌّ‏}‏ خبر مبتدأ مضمر أي هم صم ‏{‏بِكُمٌ‏}‏ خبر ثانٍ ‏{‏عُمْىٌ‏}‏ عن الحق خبر ثالث ‏{‏فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ الموعظة، ثم بين أن ما حرمه المشركون حلال فقال‏:‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم‏}‏ من مستلذاته أو من حلالاته ‏{‏واشكروا لِلَّهِ‏}‏ الذي رزقكموها ‏{‏إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ إن صح أنكم تختصونه بالعبادة وتقرون أنه معطي النعم‏.‏ ثم بين المحرم فقال ‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة‏}‏ وهي كل ما فارقه الروح من غير ذكاة مما يذبح وإنما لإثبات المذكور ونفي ما عداه، أي ما حرم عليكم إلا الميتة ‏{‏والدم‏}‏ يعني السائل لقوله في موضع آخر‏:‏

‏{‏أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏‏.‏ قد حلت الميتتان والدمان بالحديث ‏"‏ أحلت لنا ميتتان ودمان‏:‏ السمك والجراد والكبد والطحال ‏"‏ ‏{‏وَلَحْمَ الخنزير‏}‏ يعني الخنزير بجميع أجزائه، وخص اللحم لأنه المقصود بالأكل‏.‏ ‏{‏وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله‏}‏ أي ذبح للأصنام فذكر عليه غير اسم الله، وأصل الإهلال رفع الصوت أي رفع به الصوت للصنم، وذلك قول أهل الجاهلية باسم اللات والعزى‏.‏ ‏{‏فَمَنِ اضطر‏}‏ أي ألجئ بكسر النون‏:‏ بصري وحمزة وعاصم لالتقاء الساكنين أعني النون والضاد وبضمها غيرهم لضمة الطاء‏.‏ ‏{‏غَيْرَ‏}‏ حال أي أكل غير ‏{‏بَاغٍ‏}‏ للذة وشهوة ‏{‏وَلاَ عَادٍ‏}‏ متعد مقدار الحاجة‏.‏ وقول من قال غير باغ على الإمام ولا عادٍ في سفر حرام ضعيف لأن سفر الطاعة لا يبيح بلا ضرورة، والحبس بالحضر يبيح بلا سفر، ولأن بغيه لا يخرج عن الإيمان فلا يستحق الحرمان‏.‏ والمضطر يباح له قدر ما يقع به القوام وتبقى معه الحياة دون ما فيه حصول الشبع، لأن الإباحة للاضطرار فتقدر بقدر ما تندفع الضرورة ‏{‏فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ في الأكل ‏{‏أَنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ للذنوب الكبائر فأنى يؤاخذ بتناول الميتة عند الاضطرار ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ حيث رخص‏.‏

ونزل في رؤساء اليهود وتغييرهم نعت النبي عليه السلام وأخذهم على ذلك الرشا ‏{‏إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب‏}‏ في صفة محمد عليه السلام ‏{‏وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا‏}‏ أي عوضاً أو ذا ثمن ‏{‏أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ‏}‏ ملء بطونهم تقول‏:‏ أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه ‏{‏إِلاَّ النار‏}‏ لأنه إذا أكل ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار‏.‏ ومنه قولهم «أكل فلان الدم» إذا أكل الدية التي هي بدل منه قال‏:‏

يأكلن كل ليلة إكافاً

أي ثمن إكاف فسماه إكافاً لتلبسه به بكونه ثمناً له‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة‏}‏ كلاماً يسرهم ولكن بنحو قوله‏:‏ ‏{‏اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُزَكّيهِمْ‏}‏ ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم أو لا يثني عليهم ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ مؤلم فحرف النفي مع الفعل خبر «أولئك» و«أولئك» مع خبره خبر «إن» والجمل الثلاث معطوفة على خبر «إن» فقد صار ل «إن» أربعة أخبار من الجمل‏.‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة‏}‏ بكتمان نعت محمد عليه السلام ‏{‏فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار‏}‏ فأي شيء أصبرهم على عمل يؤدي إلى النار‏؟‏ وهذا استفهام معناه التوبيخ‏.‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق‏}‏ أي ذلك العذاب بسبب أن الله نزل ما نزل من الكتب بالحق‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الذين اختلفوا‏}‏ أي أهل الكتاب ‏{‏فِى الكتاب‏}‏ هو للجنس أي في كتب الله فقالوا في بعضها حق وفي بعضها باطل ‏{‏لَفِى شِقَاقٍ‏}‏ خلاف ‏{‏بَعِيدٍ‏}‏ عن الحق أو كفرهم ذلك بسبب أن الله نزل القرآن بالحق كما يعلمون، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شقاق بعيد عن الهدى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏177- 188‏]‏

‏{‏لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏177‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏178‏)‏ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏179‏)‏ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏180‏)‏ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏181‏)‏ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏182‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏183‏)‏ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏184‏)‏ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏185‏)‏ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ‏(‏186‏)‏ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏187‏)‏ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏188‏)‏‏}‏

‏{‏لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ‏}‏ أي ليس البر توليتكم ‏{‏وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب‏}‏ والخطاب لأهل الكتاب لأن قبلة النصارى مشرق بيت المقدس، وقبلة اليهود مغربه، وكل واحد من الفريقين يزعم أن البر التوجه إلى قبلته، فرد عليهم بأن البر ليس فيما أنتم عليه فإنه منسوخ ‏{‏ولكن البر‏}‏ بر ‏{‏مَنْ ءَامَنَ بالله‏}‏ أو ذا البر من آمن والقولان على حذف المضاف والأول أجود‏.‏ والبر اسم للخير ولكل فعل مرضي‏.‏ وقيل‏:‏ كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة فقيل‏:‏ ليس البر العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة، ولكن البر الذي يجب الاهتمام به بر من آمن وقام بهذه الأعمال‏.‏ «ليس البر» بالنصب على أنه خبر «ليس» واسمه «أن تولوا»‏:‏ حمزة وحفص‏.‏ «ولكن البر»‏:‏ نافع وشامي‏.‏ وعن المبرد‏:‏ لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت «ولكن البر» وقرئ «ولكن البار»‏.‏ ‏{‏واليوم الآخر‏}‏ أي يوم البعث ‏{‏والملائكة والكتاب‏}‏ أي جنس كتب الله أو القرآن ‏{‏والنبيين وَءَاتَى المال على حُبِّهِ‏}‏ أي على حب الله أو حب المال أو حب الإيتاء يريد أن يعطيه وهو طيب النفس بإعطائه ‏{‏ذَوِى القربى‏}‏ أي القرابة وقدمهم لأنهم أحق‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذوي رحمك صدقة وصلة ‏"‏‏.‏ ‏{‏واليتامى‏}‏ والمراد الفقراء من ذوي القربى واليتامى، وإنما أطلق لعدم الإلباس‏.‏ ‏{‏والمساكين‏}‏ المسكين الدائم السكون إلى الناس لأنه لا شيء له كالسكير للدائم السكر ‏{‏وابن السبيل‏}‏ المسافر المنقطع وهو جنس وإن كان مفرداً لفظاً، وجعل ابناً للسبيل لملازمته له أو الضيف ‏{‏والسائلين‏}‏ المستطعمين ‏{‏وَفِي الرقاب‏}‏ وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم أو في الأسارى ‏{‏وَأَقَامَ الصلاة‏}‏ المكتوبة ‏{‏وَءَاتَى الزكواة‏}‏ المفروضة‏.‏ قيل‏:‏ هو تأكيد للأول‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالأول نوافل الصدقات والمبار‏.‏ ‏{‏والموفون‏}‏ عطف على من آمن ‏{‏بِعَهْدِهِمْ إِذَا عاهدوا‏}‏ الله والناس ‏{‏والصابرين‏}‏ نصب على المدح والاختصاص إظهاراً لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال‏.‏ ‏{‏فِى البأساء‏}‏ الفقر والشدة ‏{‏والضراء‏}‏ المرض والزمانة ‏{‏وَحِينَ البأس‏}‏ وقت القتال ‏{‏أولئك الذين صَدَقُوا‏}‏ أي أهل هذه الصفة هم الذين صدقوا في الدين ‏{‏وأولئك هُمُ المتقون‏}‏‏.‏ روي أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى والاثنين بالواحد فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء الله بالإسلام فنزل‏.‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ كُتِبَ‏}‏ أي فرض ‏{‏عَلَيْكُمُ القصاص‏}‏ وهو عبارة عن المساواة وأصله من قص أثره واقتصه إذا اتبعه ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار ‏{‏فِي القتلى‏}‏ جمع قتيل‏.‏

والمعنى فرض عليكم اعتبار المماثلة والمساواة بين القتلى ‏{‏الحر بِالْحُرِّ‏}‏ مبتدأ وخبر أي الحر مأخوذ أو مقتول بالحر ‏{‏والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى‏}‏ وقال الشافعي رحمه الله‏:‏ لا يقتل الحر بالعبد لهذا النص وعندنا يجزي القصاص بين الحر والعبد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّ النفس بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏‏.‏ كما بين الذكر والأنثى وبقوله عليه السلام ‏"‏ المسلمون تتكافأ دماؤهم ‏"‏ وبأن التفاضل غير معتبر في الأنفس بدليل أن جماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به، وبأن تخصيص الحكم بنوع لا ينفيه عن نوع آخر بل يبقى الحكم فيه موقوفاً على ورود دليل آخر وقد ورد كما بينا‏.‏ ‏{‏فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَئ فاتباع بالمعروف وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بإحسان‏}‏ قالوا‏:‏ العفو ضد العقوبة‏.‏ يقال‏:‏ عفوت عن فلان إذا صفحت عنه وأعرضت عن أن تعاقبه وهو يتعدى ب «عن» إلى الجاني وإلى الجناية ‏{‏ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ‏}‏ ‏(‏البقرة؛ 52‏)‏ ‏{‏وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 25‏]‏ وإذا اجتمعا عدي إلى الأول باللام فتقول ‏"‏ عفوت له عن ذنبه ‏"‏ ومنه الحديث عفوت لكم عن صدقه الخيل والرقيق وقال الزجاج‏:‏ من عفي له أي من ترك له القتل بالدية‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ العفو في اللغة الفضل ومنه‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ * العفو‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏‏.‏ ويقال‏:‏ عفوت لفلان بمال إذا أفضلت له وأعطيته، وعفوت له عما لي عليه إذا تركته‏.‏ ومعنى الآية عند الجمهور‏:‏ فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو على أن الفعل مسند إلى المصدر كما في سير بزيد بعض السير والأخ ولي المقتول‏.‏ وذكر بلفظ الأخوّة بعثاً له على العطف لما بينهما من الجنسية والإسلام، ومن هو القاتل المعفو له عما جنى وترك المفعول الآخر استغناء عنه‏.‏ وقيل‏:‏ أقيم «له» مقام «عنه» والضمير في «له» و«أخيه» ل من، وفي «إليه» للأخ أو للمتبع الدال عليه فاتباع لأن المعنى فليتبع الطالب القاتل بالمعروف بأن يطالبه مطالبة جميلة، وليؤد إليه المطلوب أي القاتل بدل الدم أداء بإحسان بأن لا يمطله ولا يبخسه‏.‏ وإنما قيل شيء من العفو ليعلم أنه إذا عفا عن بعض الدم أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص‏.‏ ومن فسر «عُفى» بترك جعل «شيء» مفعولاً به، وكذا من فسره ب «أعطى» يعني أن الولي إذا أعطى له شيء من مال أخيه يعني القاتل بطريق الصلح فليأخذه بمعروف من غير تعنيف، وليؤده القاتل إليه بلا تسويف‏.‏ وارتفاع اتباع بأنه خبر مبتدأ مضمر أي فالواجب «اتباع» ‏{‏ذلك‏}‏ الحكم المذكور من العفو وأخذ الدية ‏{‏تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ‏}‏ فإنه كان في التوراة القتل لا غير، وفي الإنجيل العفو بغير بدل لا غير، وأبيح لنا القصاص والعفو وأخذ المال بطريق الصلح توسعة وتيسيراً‏.‏

والآية تدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن للوصف بالإيمان بعد وجود القتل ولبقاء الأخوّة الثابتة بالإيمان ولاستحقاق التخفيف والرحمة ‏{‏فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك‏}‏ التخفيف فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل أو القتل بعد أخذ الدية ‏{‏فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة ‏{‏وَلَكُمْ فِي القصاص حياة‏}‏ كلام فصيح لما فيه من الغرابة، إذ القصاص قتل وتفويت للحياة وقد جعل ظرفاً للحياة‏.‏ وفي تعريف القصاص وتنكير الحياة بلاغة بينة لأن المعنى ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة لمنعه عما كانوا عليه من قتل الجماعة بواحد متى اقتدروا فكان القصاص حياة وأي حياة‏.‏ أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالقصاص من القاتل، لأنه إذا هم بالقتل فتذكر الاقتصاص ارتدع فسلم صاحبه من القتل وهو من القود فكان شرع القصاص سبب حياة نفسين‏.‏ ‏{‏يأُوْلِي الألباب‏}‏ يا ذوي العقول ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ القتل حذراً من القصاص‏.‏

‏{‏كتاب‏}‏ فرض ‏{‏عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت‏}‏ أي إذا دنا منه فظهرت أمارته ‏{‏إِن تَرَكَ خَيْرًا‏}‏ مالاً كثيراً لما روي عن علي رضي الله عنه إن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة فمنعه وقال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ «إن ترك خيراً»‏.‏ والخير هو المال الكثير وليس لك مال وفاعل كتب ‏{‏الوصية للوالدين والأقربين‏}‏ وكانت الوصية للوارث في بدء الإسلام فنسخت بآية المواريث كما بيناه في شرح المنار‏.‏ وقيل‏:‏ هي غير منسوخة لأنها نزلت في حق من ليس بوارث بسبب الكفر لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقرائبه، والإسلام قطع الإرث فشرعت الوصية فيما بينهم قضاء لحق القرابة ندباً وعلى هذا لا يراد بكتب فرض ‏{‏بالمعروف‏}‏ بالعدل وهو أن لا يوصي للغني ويدع الفقير ولا يتجاوز الثلث ‏{‏حَقّاً‏}‏ مصدر مؤكد أي حق ذلك حقاً ‏{‏عَلَى المتقين‏}‏ على الذين يتقون الشرك ‏{‏فَمَن بَدَّلَهُ‏}‏ فمن غير الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود ‏{‏بَعْدَ مَا * سَمِعَهُ‏}‏ أي الإيصاء ‏{‏فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدّلُونَهُ‏}‏ فما إثم التبديل إلا على مبدليه دون غيرهم من الموصي والموصى له لأنهما بريئان من الحيف ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ لقول الموصي ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بجور المبدل ‏{‏فَمَنْ خَافَ‏}‏ علم وهذا شائع في كلامهم يقولون أخاف أن ترسل السماء ويريدون الظن الغالب الجاري مجرى العلم ‏{‏مِن مُّوصٍ‏}‏ «موصّ»‏:‏ كوفي غير حفص‏.‏ ‏{‏جَنَفًا‏}‏ ميلاً عن الحق بالخطإ في الوصية ‏{‏أَوْ إِثْماً‏}‏ تعمداً للحيف ‏{‏فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ‏}‏ بين الموصى لهم وهم الوالدان والأقربون بإجرائهم على طريق الشرع ‏{‏فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ حينئذ لأن تبديله تبديل باطل إلى حق ذكر من يبدل بالباطل، ثم من يبدل بالحق ليعلم أن كل تبديل لا يؤثم‏.‏

وقيل‏:‏ هذا في حال حياة الموصي أي فمن حضر وصيته فرآه على خلاف الشرع فنهاه عن ذلك وحمله على الصلاح فلا إثم على هذا الموصي بما قال أولاً ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ‏}‏ أي فرض ‏{‏عَلَيْكُمُ الصيام‏}‏ هو مصدر صام والمراد صيام شهر رمضان ‏{‏كَمَا كُتِبَ‏}‏ أي كتابة مثل ما كتب فهو صفة مصدر محذوف ‏{‏عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ على الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه السلام إلى عهدكم فهو عبادة قديمة، والتشبيه باعتبار أن كل أحد له صوم أيام أي أنتم متعبدون بالصيام في أيام كما تعبد من كان قبلكم ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ المعاصي بالصيام لأن الصيام أظلف لنفسه وأردع لها من مواقعة السوء، أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين إذ الصوم شعارهم‏.‏

وانتصاب ‏{‏أَيَّامًا‏}‏ بالصيام أي كتب عليكم أن تصوموا أياماً ‏{‏معدودات‏}‏ موقتات بعدد معلوم أي قلائل وأصله أن المال القليل يقدر بالعدد لا الكثير ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا‏}‏ يخاف من الصوم زيادة المرض ‏{‏أَوْ على سَفَرٍ‏}‏ أو راكب سفر ‏{‏فَعِدَّةٌ‏}‏ فعليه عدة أي فأفطر فعليه صيام عدد أيام فطره، والعدة بمعنى المعدود أي أمر أن يصوم أياماً معدودة مكانها ‏{‏مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ سوى أيام مرضه وسفره‏.‏ وأخر لا ينصرف للوصف والعدل عن الألف واللام لأن الأصل في «فعلى» صفة أن تستعمل في الجمع بالألف واللام كالكبرى والكبر والصغرى والصغر ‏{‏وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ‏}‏ وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر لهم إن أفطروا ‏{‏فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ‏}‏ نصف صاع من بر أو صاع من غيره، ف «طعام» بدل من «فدية»‏.‏ «فدية طعام مساكين»‏.‏ مدني وابن ذكوان‏.‏ وكان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية، ثم نسخ التخيير بقوله‏:‏ «فمن شهد منكم الشهر فليصمه»‏.‏ ولهذا كرر قوله‏:‏ «فمن كان منكم مريضاً أو على سفر»‏.‏ لأنه لما كان مذكوراً مع المنسوخ ذكر مع الناسخ ليدل على بقاء هذا الحكم‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لا يطيقونه فأضمر «لا» لقراءة حفصة كذلك وعلى هذا لا يكون منسوخاً‏.‏ ‏{‏فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا‏}‏ فزاد على مقدار الفدية ‏{‏فهو خيرٌ لّه‏}‏ فالتطوع أو الخير خير له يطوع بمعنى يتطوع‏:‏ حمزة وعلي ‏{‏وَأَن تَصُومُواْ‏}‏ أيها المطيقون ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ من الفدية وتطوع الخير وهذا في الابتداء‏.‏ وقيل‏:‏ وأن تصوموا في السفر والمرض خير لكم لأنه أشق عليكم ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ شرط محذوف الجواب‏.‏

‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن‏}‏ أي ابتدئ فيه إنزاله وكان في ليلة القدر أو أنزل في شأنه القرآن وهو قوله تعالى‏:‏ «كتب عليكم الصيام» وهو بدل من الصيام أو خبر مبتدأ محذوف أي هو شهر‏.‏ والرمضان مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء فأضيف إليه الشهر وجعل علماً، ومنع الصرف للتعريف والألف والنون، وسموه بذلك لارتماضهم فيه من حر الجوع ومقاساة شدته، ولأنهم سموا الشهور بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر‏.‏ فإن قلت‏:‏ ما وجه ما جاء في الحديث «من صام رمضان إيماناً واحتساباً» مع أن التسمية واقعة مع المضاف والمضاف إليه جميعاً‏؟‏ قلت‏:‏ هو من باب الحذف لأمن الإلباس‏.‏ «القران» حيث كان غير مهموز‏:‏ مكي‏.‏ وانتصب ‏{‏هُدًى لّلنَّاسِ وبينات مِّنَ الهدى والفرقان‏}‏ على الحال أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدي إلى الحق ويفرق بين الحق والباطل، ذكر أولاً أنه هدى ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به الله وفرق بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال‏.‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏ فمن كان شاهداً أي حاضراً مقيماً غير مسافر في الشهر فليصم فيه ولا يفطر‏.‏ و«الشهر» منصوب على الظرف وكذا الهاء في «ليصمه» ولا يكون مفعولاً به لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر ‏{‏وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ «فعدة» مبتدأ والخبر محذوف أي فعليه عدة أي صوم عدة ‏{‏يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر‏}‏ حيث أباح الفطر بالسفر والمرض ‏{‏وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر‏}‏ ومن فرض الفطر على المريض والمسافر حتى لو صاما تجب عليهما الإعادة فقد عدل عن موجب هذا ‏{‏وَلِتُكْمِلُواْ العدة‏}‏ عدة ما أفطرتم بالقضاء إذا زال المرض والسفر، والفعل المعلل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره لتعلموا ولتكملوا العدة ‏{‏وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ شرع ذلك يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر‏.‏ فقوله‏:‏ «لتكملوا» علة الأمر بمراعاة العدة و«لتكبروا» علة ما علم من كيفية القضاء والخروج من عهدة الفطر «ولعلكم تشكرون» علة الترخيص وهذا نوع من اللف اللطيف المسلك‏.‏ وعدي التكبير ب «على» لتضمنه معنى الحمد كأنه قيل‏:‏ لتكبروا الله أي لتعظموه حامدين على ما هداكم إليه‏.‏ و«لتكمّلوا» بالتشديد‏:‏ أبو بكر‏.‏ ولما قال إعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه‏؟‏ نزل ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ‏}‏ علماً وإجابة لتعاليه عن القرب مكاناً ‏{‏أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ‏}‏ «الداعي» «دعاني» في الحالين‏:‏ سهل ويعقوب، ووافقهما أبو عمرو ونافع غير قالون في الوصل‏.‏

غيرهم بغير ياء في الحالين‏.‏ ثم إجابة الدعاء وعد صدق من الله لا خلف فيه، غير أن إجابة الدعوة تخالف قضاء الحاجة فإجابة الدعوة أن يقول العبد يا رب فيقول الله لبيك عبدي، وهذا أمر موعود موجود لكل مؤمن وقضاء الحاجة إعطاء المراد وذا قد يكون ناجزاً وقد يكون بعد مدة وقد يكون في الآخرة وقد تكون الخيرة له في غيره ‏{‏فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى‏}‏ إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم ‏{‏وَلْيُؤْمِنُواْ بِى‏}‏ واللام فيهما للأمر ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ‏}‏ ليكونوا على رجاء من إصابة الرشد وهو ضد الغي‏.‏ كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة‏.‏ ثم إن عمر رضي الله عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي عليه السلام وأخبره بما فعل فقال عليه السلام ما كنت جديراً بذلك فنزل ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث‏}‏ إي الجماع ‏{‏إلى نِسَائِكُمْ‏}‏ عدى ب «إلى» لتضمنه معنى الإفضاء وإنما كنى عنه بلفظ الرفث الدال على معنى القبح ولم يقل الإفضاء إلى نسائكم استقباحاً لما وجد منهم قبل الإباحة كما سماه اختياناً لأنفسهم، ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه في عناقه شبه باللباس المشتمل عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ‏}‏ وقيل‏:‏ لباس أي ستر عن الحرام، و«هن لباس لكم» استئناف كالبيان لسبب الإحلال وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن وصعب عليكم اجتنابهن فلذا رخص لكم في مباشرتهن ‏{‏عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ تظلمونها بالجماع وتنقصونها حظها من الخير‏.‏ والاختيان من الخيانة كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة ‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور ‏{‏وَعَفَا عَنكُمْ‏}‏ ما فعلتم قبل الرخصة ‏{‏فالئان باشروهن‏}‏ جامعوهن في ليالي الصوم وهو أمر إباحة وسميت المجامعة مباشرة لالتصاق بشرتيهما ‏{‏وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ‏}‏ واطلبوا ما قسم الله لكم وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل، أو وابتغوا المحل الذي كتبه الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم ‏{‏وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض‏}‏ هو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود ‏{‏مِنَ الخيط الأسود‏}‏ وهو ما يمتد من سواد الليل شبهاً بخيطين أبيض وأسود لامتدادهما ‏{‏مِنَ الفجر‏}‏ بيان أن الخيط الأبيض من الفجر لا من غيره، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما بيان للآخر، أو «من» للتبعيض لأنه بعض الفجر وأوله‏.‏

وقوله «من الفجر» أخرجه من باب الاستعارة وصيره تشبيهاً بليغاً كما أن قولك «رأيت أسداً» مجاز فإذا زدت «من فلان» رجع تشبيهاً‏.‏ وعن عدي ابن حاتم قال‏:‏ عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي فنظرت إليهما فلم يتبين لي الأبيض من الأسود، فأخبرت النبي عليه السلام بذلك فقال‏:‏ إنك لعريض القفا أي سليم القلب لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل‏.‏ وفي قوله ‏{‏ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل‏}‏ أي الكف عن هذه الأشياء دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر، وعلى نفي الوصال، وعلى وجوب الكفارة في الأكل والشرب، وعلى أن الجنابة لا تنافي الصوم ‏{‏وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد‏}‏ معتكفون فيها، بيّن أن الجماع يحل في ليالي رمضان لكن لغير المعتكف‏.‏ والجملة في موضع الحال، وفيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد وأنه لا يختص به مسجد دون مسجد ‏{‏تِلْكَ‏}‏ الأحكام التي ذكرت ‏{‏حُدُودُ الله‏}‏ أحكامه المحدودة ‏{‏فَلاَ تَقْرَبُوهَا‏}‏ بالمخالفة والتغيير ‏{‏كذلك يُبَيّنُ الله آيَاتِهِ‏}‏ شرائعه ‏{‏لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ المحارم‏.‏

‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم‏}‏ أي لا يأكل بعضكم مال بعض ‏{‏بالباطل‏}‏ بالوجه الذي لم يبحه الله ولم يشرعه ‏{‏وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام‏}‏ ولا تدلوا بها فهو مجزوم داخل في حكم النهي يعني ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام ‏{‏لِتَأْكُلُواْ‏}‏ بالتحاكم ‏{‏فَرِيقاً‏}‏ طائفة ‏{‏مّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم‏}‏ بشهادة الزور أو بالأيمان الكاذبة أو بالصلح مع العلم بأن المقضى له ظالم‏.‏ وقال عليه السلام للخصمين ‏"‏ إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذون منه شيئاً فإن ما أقضى له قطعة من نار ‏"‏ فبكيا وقال كل واحد منهما حقي لصاحبي‏.‏ وقيل‏:‏ وتدلوا بها وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة‏.‏ يقال أدلى دلوه أي ألقاه في البئر للاستقاء‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أنكم على الباطل وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح وصاحبه بالتوبيخ أحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏189- 202‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏189‏)‏ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏190‏)‏ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏191‏)‏ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏192‏)‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏193‏)‏ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏194‏)‏ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏195‏)‏ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏196‏)‏ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏197‏)‏ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏198‏)‏ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏199‏)‏ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ‏(‏200‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏201‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏202‏)‏‏}‏

قال معاذ بن جبل‏:‏ يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا لا يكون على حالة واحدة كالشمس‏؟‏ فنزل ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة‏}‏ جمع هلال سمي به لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته ‏{‏قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج‏}‏ أي معالم يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدة نسائهم وأيام حيضهن ومدة حملهن وغير ذلك، ومعالم للحج يعرف بها وقته‏.‏ كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب، فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته منه يدخل ويخرج، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فنزل ‏{‏وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا‏}‏ أي ليس البر بتحرجكم من دخول الباب، ولا خلاف في رفع البر هنا لأن الآية ثمة تحتمل الوجهين كما بينا فجاز الرفع والنصب ثمة، وهذه لا تحتمل إلا وجهاً واحداً وهو الرفع إذ الباء لا تدخل إلا على خبر «ليس» ‏{‏ولكن البر‏}‏ بر ‏{‏مَنِ اتقى‏}‏ ما حرم الله‏.‏ «البيوت» وبابه مدني وبصري وحفص وهو الأصل مثل كعب وكعوب، ومن كسر الباء فلمكان الياء بعدها ولكن هي توجب الخروج من كسر إلى ضم وكأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها وتمامها‏.‏ معلوم أن كل ما يفعله الله تعالى لا يكون إلا حكمة فدعوا السؤال عنه وانظروا في خصلة واحدة تفعلونها مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها براً، فهذا وجه اتصاله بما قبله‏.‏ ويحتمل أن يكون ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت الحج لأنه كان من أفعالهم في الحج، ويحتمل أن يكون هذا تمثيلاً لتعكيسهم في سؤالهم وإن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخل من ظهره، والمعنى ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه ولم يجسر على مثله‏.‏

‏{‏وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها‏}‏ وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا، أو المراد وجوب الاعتقاد بأن جميع أفعاله تعالى حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه لما في السؤال من الاتهام بمقارنة الشك ‏{‏لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فيم أمركم به ونهاكم عنه ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ لتفوزوا بالنعيم السرمدي‏.‏

‏{‏وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله‏}‏ المقاتلة في سبيل الله الجهاد لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين ‏{‏الذين يقاتلونكم‏}‏ يناجزونكم القتال دون المحاجزين وعلى هذا يكون منسوخاً بقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏ وقيل‏:‏ هي أول آية نزلت في القتال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف، أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان والرهبان والنساء، أو الكفرة كلهم لأنهم قاصدون لمقاتلة المسلمين فهم في حكم المقاتلة ‏{‏وَلاَ تَعْتَدُواْ‏}‏ في ابتداء القتال أو بقتال من نهيتم عنه من النساء والشيوخ ونحوهما أو بالمثلة ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين * واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ‏}‏ وجدتموهم‏.‏ والثقف الوجود على وجه الأخذ والغلبة ‏{‏وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ‏}‏ أي من مكة وعدهم الله تعالى فتح مكة بهذه الآية وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن لم يسلم منهم يوم الفتح ‏{‏والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل‏}‏ أي شركهم بالله أعظم من القتل الذي يحل بهم منكم‏.‏ وقيل‏:‏ الفتنة عذاب الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان فيعذب به أشد عليه من القتل‏.‏ وقيل لحكيم‏:‏ ما أشد من الموت‏؟‏ قال‏:‏ الذي يتمنى فيه الموت‏.‏ فقد جعل الإخراج من الوطن من الفتن التي يتمنى عندها الموت‏.‏ ‏{‏وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فِيهِ‏}‏ أي ولا تبدأوا بقتالهم في الحرم حتى يبدأوا فعندنا المسجد الحرم يقع على الحرم كله ‏{‏فَإِن قاتلوكم فاقتلوهم‏}‏ في الحرم فعندنا يقتلون في الأشهر الحرم لا في الحرم إلا أن يبدأوا بالقتال معنا فحينئذ نقتلهم وإن كان ظاهر قوله «واقتلوهم حيث ثقفتموهم» يبيح القتل في الأمكنة كلها لكن لقوله «ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه» خص الحرم إلا عند البداءة منهم كذا في شرح التأويلات ‏{‏كذلك جَزَاءُ الكافرين‏}‏ مبتدأ وخبر‏.‏ «ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم»‏:‏ حمزة وعلي ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْاْ‏}‏ عن الشرك والقتال ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ لما سلف من طغيانهم ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بقبول توبتهم وإيمانهم‏.‏ ‏{‏وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ شرك و«كان» تامة و«حتى» بمعنى «كي» أو «إلى أن» ‏{‏وَيَكُونَ الدين للَّهِ‏}‏ خالصاً ليس للشيطان فيه نصيب أي لا يعبد دونه شيء ‏{‏فَإِنِ انتهوا فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين‏}‏ فإن امتنعوا عن الكفر فلا تقاتلوهم فإنه لا عدوان إلا على الظالمين ولم يبقوا ظالمين، أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين، سمى جزاء الظالمين ظلماً للمشاكلة كقوله ‏{‏فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ‏}‏‏.‏ قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال وذلك في ذي القعدة ‏{‏الشهر الحرام‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏بالشهر الحرام‏}‏ أي هذا الشهر بذلك الشهر وهتكه بهتكه يعني تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم ‏{‏والحرمات قِصَاصٌ‏}‏ أي وكل حرمة يجري فيها القصاص من هتك حرمة أي حرمة كانت اقتص منه بأن تهتك له حرمه، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم نحو ذلك ولا تبالوا وأكد ذلك بقوله ‏{‏فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ‏}‏ من شرطية والباء غير زائدة والتقدير بعقوبة مماثلة لعدوانهم، أو زائدة وتقديره عدواناً مثل عدوانهم ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في حال كونكم منتصرين فمن اعتدى عليك فلا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم‏.‏

‏{‏واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين‏}‏ بالنصر ‏{‏وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ تصدقوا في رضا الله وهو عام في الجهاد وغيره ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏ أي أنفسكم والباء زائدة، أو ولا تقتلوا أنفسكم بأيديكم كما يقال «أهلك فلان نفسه بيده» إذا تسبب لهلاكها‏.‏ والمعنى النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك، أو عن الإسراف في النفقة حتى يفقر نفسه ويضيع عياله، أو عن الإخطار بالنفس، أو عن ترك الغزو الذي هو تقوية للعدو والتهلكة والهلاك والهلك واحدة ‏{‏وَأَحْسِنُواْ‏}‏ الظن بالله في الإخلاف ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين‏}‏ إلى المحتاجين‏.‏

‏{‏وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ‏}‏ وأدوهما تأمين بشرائطهما وفرائضهما لوجه الله تعالى بلا توان ولا نقصان‏.‏ وقيل‏:‏ الإتمام يكون بعد الشروع فهو دليل على أن من شرع فيهما لزمه إتمامهما وبه نقول‏:‏ إن العمرة تلزم بالشروع‏.‏ ولا تمسك للشافعي رحمه الله بالآية على لزوم العمرة لأنه أمر بإتمامها، وقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع أو إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك أو أن تفرد لكل واحد منهما سفراً أو أن تنفق فيهما حلالاً أو أن لا تتجر معهما ‏{‏فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ‏}‏ يقال أحصر فلان إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز، وحصر إذا حبسه عدو عن المضي‏.‏ وعندنا الإحصار يثبت بكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما لظاهر النص، وقد جاء في الحديث من كسر أو عرج فقد حل أي جاز له أن يحل وعليه الحج من قابل‏.‏ وعند الشافعي رحمه الله‏:‏ الإحصار بالعدو وحده‏.‏ وظاهر النص يدل على أن الإحصار يتحقق في العمرة أيضاً لأنه ذكر عقبهما ‏{‏فَمَا استيسر مِنَ الهدى‏}‏ فما تيسر منه‏.‏ يقال يسر الأمر واستيسر كما يقال صعب واستصعب‏.‏ والهدي جمع هدية يعني فإن منعتم من المضي إلى البيت وأنتم محرمون بحج أو عمرة فعليكم إذا أردتم التحلل ما استيسر من الهدى من بعير أو بقرة أو شاة «فما» رفع بالابتداء أي فعليكم ما استيسر، أو نصب أي فأهدوا له ما استيسر ‏{‏وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدى مَحِلَّهُ‏}‏ الخطاب للمحصرين أي لا تحلوا بحلق الرأس حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ محله أي مكانه الذي يجب نحره فيه وهو الحرم، وهو حجة لنا في أن دم الإحصار لا يذبح إلا في الحرم على الشافعي رحمه الله إذ عنده يجوز في غير الحرم ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا‏}‏ فمن كان منكم به مرض يحوجه إلى الحلق ‏{‏أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ‏}‏ وهو القمل أو الجراحة ‏{‏فَفِدْيَةٌ‏}‏ فعليه إذا حلق فدية ‏{‏مِّن صِيَامٍ‏}‏ ثلاثة أيام ‏{‏أَوْ صَدَقَةٍ‏}‏ على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من بر ‏{‏أَوْ نُسُكٍ‏}‏ شاة وهو مصدر أو جمع نسيكة ‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ‏}‏ الإحصار أي فإذا لم تحصروا وكنتم في حال أمن وسعة ‏{‏فَمَن تَمَتَّعَ‏}‏ استمتع ‏{‏بالعمرة إِلَى الحج‏}‏ واستمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج انتفاعه بالتقرب بها إلى الله قبل انتفاعه بالتقرب بالحج‏.‏

وقيل‏:‏ إذا حل من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرماً عليه إلى أن يحرم بالحج ‏{‏فَمَا استيسر مِنَ الهدى‏}‏ هو هدي المتعة، وهو نسك يؤكل منه ويذبح يوم النحر‏.‏

‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ‏}‏ الهدي ‏{‏فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج‏}‏ فعليه صيام ثلاثة أيام في وقت الحج وهو أشهره ما بين الإحرامين إحرام العمرة وإحرام الحج ‏{‏وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ‏}‏ إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج ‏{‏تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ‏}‏ في وقوعها بدلاً من الهدي أو في الثواب، أو المراد رفع الإبهام فلا يتوهم في الواو أنها بمعنى الإباحة كما في «جالس الحسن وابن سيرين»، ألا ترى أنه لو جالسهما أو واحداً منهما كان ممتثلاً ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى التمتع عندنا إذ لا تمتع ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندنا، وعند الشافعي رحمه الله إلى الحكم الذي هو وجوب الهدي أو الصيام ولم يوجب عليهم شيئاً ‏{‏لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المسجد الحرام‏}‏ هم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فيما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره ‏{‏واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ لمن لم يتقه‏.‏

‏{‏الحج‏}‏ أي وقت الحج كقولك «البرد شهران» ‏{‏أَشْهُرٌ معلومات‏}‏ معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم وهي شوال وذو القعدة وعشر ذو الحجة‏.‏ وفائدة توقيت الحج بهذه الأشهر أن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلا فيها وكذا الإحرام عند الشافعي رحمه الله، وعندنا وإن انعقد لكنه مكروه، وجمعت أي الأشهر لبعض الثالث، أو لأن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏فَمَن فَرَضَ‏}‏ ألزم نفسه بالإحرام ‏{‏فِيهِنَّ الحج‏}‏ في هذه الأشهر ‏{‏فَلاَ رَفَثَ‏}‏ هو الجماع أو ذكره عند النساء أو الكلام الفاحش ‏{‏وَلاَ فُسُوقَ‏}‏ هو المعاصي أو السباب لقوله عليه السلام

‏"‏ سباب المؤمن فسوق ‏"‏ أو التنابز بالألقاب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِئْسَ الاسم الفسوق‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏ ‏{‏وَلاَ جِدَالَ فِي الحج‏}‏ ولامراء مع الرفقاء والخدم والمكارين‏.‏ وإنما أمر باجتناب ذلك وهو واجب الاجتناب في كل حال لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة والتطريب في قراءة القرآن‏.‏ والمراد بالنفي وجوب انتفائها وأنها حقيقة بأن لاتكون‏.‏ وقرأ أبو عمرو ومكي الأولين بالرفع فحملاهما على معنى النهي كأنه قيل‏:‏ فلا يكونن رفث ولا فسوق، والثالث بالنصب على معنى الإخبار بانتفاء الجدال كأنه قيل‏:‏ ولا شك ولا خلاف في الحج‏.‏ ثم حث على الخير عقيب النهي عن الشر وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن، ومكان الفسوق البر والتقوى، ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله‏}‏ اعلم بأنه عالم به يجازيكم عليه ورد قول من نفى علمه بالجزئيات‏.‏ كان أهل اليمن لا يتزودون ويقولون نحن متوكلون فيكونون كلاً على الناس فنزل فيهم ‏{‏وَتَزَوَّدُواْ‏}‏ أي تزودوا واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم ‏{‏فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى‏}‏ أي الإتقاء عن الإبرام والتثقيل عليهم، أو تزودوا للمعاد باتقاء المحظورات فإن خير الزاد اتقاؤها ‏{‏واتقون‏}‏ وخافوا عقابي وهو مثل ‏{‏دَعَانِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏ ‏{‏يأُوْلِي الالباب‏}‏ يا ذوي العقول يعني أن قضية اللب تقوى الله ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لب له‏.‏

ونزل في قوم زعموا أن لا حج لجمال وتاجر وقالوا هؤلاء الداجّ وليسوا بالحاج ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ‏}‏ في أن تبتغوا في مواسم الحج ‏{‏فَضْلاً مّن رَّبِّكُمْ‏}‏ عطاء وتفضلاً وهو النفع والربح بالتجارة والكراء ‏{‏فَإِذَا أَفَضْتُم‏}‏ دفعتم بكثرة من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة، وأصله أفضتم أنفسكم فترك ذكر المفعول ‏{‏مّنْ عرفات‏}‏ هي علم للموقف سمي بجمع كأذرعات‏.‏ وإنما صرفت لأن التاء فيها ليست للتأنيث بل هي مع الألف قبلها علامة جمع المؤنث، وسميت بذلك لأنها وصفت لإبراهيم عليه السلام فلما رآها عرفها‏.‏ وقيل‏:‏ التقى فيها آدم وحواء فتعارفا، وفيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأن الإفاصة لا تكون إلا بعده ‏{‏فاذكروا الله‏}‏ بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات أو بصلاة المغرب والعشاء ‏{‏عِندَ المشعر الحرام‏}‏ هو قزح وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة‏.‏ والمشعر المعلم لأنه معلم العبادة، ووصف بالحرام لحرمته‏.‏ وقيل‏:‏ المشعر الحرام مزدلفة، وسميت المزدلفة جمعاً لأن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها أي دنا منها، أو لأنه يجمع فيها بين الصلاتين، أو لأن الناس يزدلفون إلى الله تعالى أي يتقربون بالوقوف فيها ‏{‏واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ‏}‏ «ما» مصدرية أوكافة اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة، أو اذكروه كما علمكم كيف تذكرونه ولا تعدلوا عنه ‏{‏وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ‏}‏ من قبل الهدى ‏{‏لَمِنَ الضالين‏}‏ الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه و«إن» مخففة من الثقيلة واللام فارقة ‏{‏ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس‏}‏ ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس ولا تكن من المزدلفة‏.‏

قالوا‏:‏ هذا أمر لقريش بالإفاضة من عرفات إلى جمع وكانوا يقفون بجمع وسائر الناس بعرفات ويقولون‏:‏ نحن قطان حرمه فلا نخرج منه‏.‏ وقيل‏:‏ الإفاضة من عرفات مذكورة فهي الإفاضة من جمع إلى منى‏.‏ والمراد بالناس على هذا الجنس ويكون الخطاب للمؤمنين ‏{‏واستغفروا الله‏}‏ من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم أو من تقصيركم في أعمال الحج ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ بكم ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم‏}‏ فإذا فرغتم من عباداتكم التي أمرتم بها في الحج ونفرتم ‏{‏فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ‏}‏ أي فاذكروا الله ذكراً مثل ذكركم آباءكم‏.‏ والمعنى فأكثروا من ذكر الله وبالغوا فيه كما تفعلون في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم‏.‏ وكانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل فيعددون فضائل آبائهم ويذكرون محاسن أيامهم ‏{‏أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا‏}‏ أي أكثر‏.‏ وهو في موضع جر عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله «كذكركم» كما تقولون كذكر قريش آباءَهم أو قوم أشد منهم ذكراً و«ذكراً» تمييز‏.‏

‏{‏فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ‏}‏ فمن الذين يشهدون الحج من يسأل الله حظوظ الدنيا فيقول ‏{‏رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى الدنيا‏}‏ اجعل إيتاءنا أي إعطاءنا في الدنيا خاصة يعني الجاه والغنى ‏{‏وَمَا لَهُ فِى الآخرة مِنْ خلاق‏}‏ نصيب لأن همه مقصور على الدنيا لكفره بالآخرة‏.‏ والمعنى أكثروا ذكر الله ودعاءه لأن الناس من بين مقل لا يطلب بذكر الله إلا أغراض الدنيا، ومكثر يطلب خير الدارين فكونوا من المكثرين أي من الذين قيل فيهم ‏{‏وَمِنْهُمُ‏}‏ ومن الذين يشهدون الحج ‏{‏مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً‏}‏ نعمة وعافية، أو علماً وعبادة‏.‏ ‏{‏وَفِي الآخرة حَسَنَةً‏}‏ عفواً ومغفرة، أو المال والجنة، أو ثناء الخلق ورضا الحق، أو الإيمان والأمان، أو الإخلاص والخلاص، أو السنة والجنة، أو القناعة والشفاعة، أو المرأة الصالحة والحور العين، أو العيش على سعادة والبعث من القبور على بشارة‏.‏ ‏{‏وَقِنَا عَذَابَ النار‏}‏ احفظنا من عذاب جهنم، أو عذاب النار امرأة السوء‏.‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي الداعون بالحسنتين ‏{‏لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ‏}‏ من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة، أو من أجل ما كسبوا، أو سمى الدعاء كسباً لأنه من الأعمال والأعمال موصوفة بالكسب، ويجوز أن يكون أولئك للفريقين وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا ‏{‏والله سَرِيعُ الحساب‏}‏ يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة أو وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدل على كمال قدرته ووجوب الحذر من نقمته‏.‏ وروي أنه يحاسب الخلق في قدر حلب شاة وروي في مقدار لمحة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏203- 214‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏203‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ‏(‏204‏)‏ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ‏(‏205‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏206‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏207‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏208‏)‏ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏209‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏210‏)‏ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏211‏)‏ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏212‏)‏ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏213‏)‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ‏(‏214‏)‏‏}‏

‏{‏واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات‏}‏ هي أيام التشريق وذكر الله فيها التكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار ‏{‏فَمَن تَعَجَّلَ‏}‏ فمن عجل في النفر أو استعجل النفر‏.‏ وتعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل‏.‏ يقال تعجل في الأمر واستعجل ومتعديين يقال تعجل الذهاب واستعجله والمطاوعة أوفق لقوله و«من تأخر» ‏{‏فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ من هذه الأيام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة ‏{‏فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ فلا يأثم بهذا التعجل ‏{‏وَمَن تَأَخَّرَ‏}‏ حتى رمى في اليوم الثالث ‏{‏فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتقى‏}‏ الصيد أو الرفث والفسوق أو هو مخير في التعجل‏.‏ والتأخر وإن كان التأخر أفضل فقد يقع التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل‏.‏ وقيل‏:‏ كان أهل الجاهلية فريقين منهم من جعل المتعجل آثماً ومنهم من جعل المتأخر آثماً فورد القرآن بنفي المأثم عنهما ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في جميع الأمور ‏{‏واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ حين يبعثكم من القبور‏.‏ كان الأخنس بن شريق حلو المنطق إذا لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألان له القول وادعى أنه يحبه وأنه مسلم وقال يعلم الله أني صادق فنزل فيه‏.‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ‏}‏ يروقك ويعظم في قلبك ومنه الشيء العجيب الذي يعظم في النفس ‏{‏فِي الحياة الدنيا‏}‏ «في» يتعلق بالقول أي يعجبك ما يقول في معنى الدنيا لأنه يطلب بادعاء المحبة حظ الدنيا ولا يريد به الآخرة، أو ب «يعجبك» أي يعجبك حلو كلامه في الدنيا لا في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الحبسة واللكنة ‏{‏وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ‏}‏ أي يحلف ويقول الله شاهد على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام ‏{‏وَهُوَ أَلَدُّ الخصام‏}‏ شديد الجدال والعداوة للمسلمين، والخصام والمخاصمة والإضافة بمعنى في لأن «أفعل» يضاف إلى ما هو بعضه تقول‏:‏ زيد أفضل القوم ولا يكون الشخص بعض الحدث فتقديره ألد في الخصومة، أو الخصام جمع خصم كصعب وصعاب والتقدير‏:‏ وهو أشد الخصوم خصومة‏.‏ ‏{‏وَإِذَا تولى‏}‏ عنك وذهب بعد إلانة القول وإحلاء المنطق ‏{‏سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ‏}‏ كما فعل بثقيف فإنه كان بينه وبينهم خصومة فبيتهم ليلاً وأهلك مواشيهم وأحرق زروعهم ‏{‏فِيهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل‏}‏ أي الزرع والحيوان، أو إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل‏.‏ وقيل‏:‏ يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الخرث والنسل‏.‏ ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ الفساد * وَإِذَا قِيلَ لَهُ‏}‏ للأخنس ‏{‏اتق الله‏}‏ في الإفساد والإهلاك ‏{‏أَخَذَتْهُ العزة بالإثم‏}‏ حملته النخوة وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه وألزمته ارتكابه، أو الباء للسبب أي أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه وهو الكفر ‏{‏فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ‏}‏ أي كافيه ‏{‏وَلَبِئْسَ المهاد‏}‏ أي الفراش جهنم‏.‏

ونزل في صهيب حين أراده المشركون على ترك الإسلام وقتلوا نفراً كانوا معه فاشترى نفسه بماله منهم وأتى المدينة، أو فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ‏}‏ يبيعها ‏{‏ابتغاء‏}‏ لابتغاء ‏{‏مَرْضَاتِ الله والله رَءُوفٌ بالعباد‏}‏ حيث أثابهم على ذلك ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ ادخلوا فِي السلم‏}‏ وبفتح السين حجازي وعلي، وهو الاستسلام والطاعة أي استسلموا لله وأطيعوه أو الإسلام، والخطاب لأهل الكتاب لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم، أو للمنافقين لأنهم آمنوا بألسنتهم ‏{‏كَافَّةً‏}‏ لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته حال من الضمير في «ادخلوا» أي جميعاً، أو من السلم لأنها تؤنث كأنهم أمروا أن يدخلوا في الطاعات كلها، أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها، وكافة من الكف كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏}‏ وساوسه ‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر العداوة ‏{‏فَإِن زَلَلْتُمْ‏}‏ ملتم عن الدخول في السلم ‏{‏مّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البينات‏}‏ أي الحجج الواضحة والشواهد اللائحة على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق ‏{‏فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ غالب لا يمنعه شيء من عذابكم ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ لا يعذب إلا بحق‏.‏ ورُوي أن قارئاً قرأ «غفور رحيم» فسمعه أعرابي لم يقرأ القرآن فأنكره وقال ليس هذا من كلام الله إذ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل والعصيان لأنه إغراء عليه‏.‏

‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ ما ينتظرون ‏{‏إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله‏}‏ أي أمر الله وبأسه كقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 33‏]‏‏.‏ ‏{‏فَجَاءهَا بَأْسُنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏ أو المأتي به محذوف بمعنى أن يأتيهم الله ببأسه للدلالة عليه بقوله‏:‏ «فاعلموا أن الله عزيز» ‏{‏فِي ظُلَلٍ‏}‏ جمع ظلة وهي ما أظلك ‏{‏مِّنَ الغمام‏}‏ الحساب‏.‏ وهو للتهويل إذ الغمام مظنة الرحمة أنزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول ‏{‏والملائكة‏}‏ أي وتأتي الملائكة الذين وكلوا بتعذيبهم أو المراد حضورهم يوم القيامة ‏{‏وَقُضِىَ الأمر‏}‏ أي وتم أمر إهلاكهم وفرغ منه ‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور‏}‏ أي أنه ملّك العباد بعض الأمور فترجع إليه الأمور يوم النشور‏.‏ «ترجع الأمور» حيث كان‏:‏ شامي وحمزة وعلي‏.‏ ‏{‏سَلْ‏}‏ أصله اسأل فنقلت فتحة الهمزة إلى السين بعد حذفها واستغني عن همزة الوصل فصار «سل»‏.‏ وهو أمر للرسول أو لكل أحد وهو سؤال تقريع كما يسأل الكفرة يوم القيامة‏.‏

‏{‏بَنِى إسراءيل كَمْ آتيناهم مّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ‏}‏ على أيدي أنبيائهم وهي معجزاتهم أو من آية في الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام‏.‏ و«كم» استفهامية أو خبرية ‏{‏وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ الله‏}‏ هي آياته وهي أجل نعمة من الله لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة وتبديلهم إياها، إن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم فجعلوها أسباب ضلالتهم كقوله ‏{‏فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 125‏]‏ أو حرفوا آيات الكتب الدالة على دين محمد عليه السلام ‏{‏مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ‏}‏ من بعد ما عرفها وصحت عنده لأنه إذا لم يعرفها فكأنها غائبة عنه ‏{‏فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ لمن استحقه‏.‏

‏{‏زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا‏}‏ المزين هو الشيطان زين لهم الدنيا وحسنها في أعينهم بوساوسه وحببها إليهم فلا يريدون غيرها، أو الله تعالى يخلق الشهوات فيهم ولأن جميع الكائنات منه ويدل عليه قراءة من قرأ «زين للذين كفروا الحياة الدنيا» ‏{‏وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءَامَنُواْ‏}‏ كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين كابن مسعود وعمار وصهيب ونحوهم أي لا يريدون غير الدنيا وهم يسخرون ممن لا حظ له فيها أو ممن يطلب غيرها ‏{‏والذين اتقوا‏}‏ عن الشرك وهم هؤلاء الفقراء ‏{‏فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ لأنهم في جنة عالية وهم في نار هاوية ‏{‏والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ بغير تقتير يعني أنه يوسع على من أراد التوسعة عليه كما وسع على قارون وغيره، وهذه التوسعة عليكم من الله لحكمة وهي استدارجكم بالنعمة ولو كانت كرامة لكان المؤمنون أحق بها منكم ‏{‏كَانَ الناس أُمَّةً واحدة‏}‏ متفقين على دين الإسلام من آدم إلى نوح عليهما السلام، أو هم نوح ومن كان معه في السفينة فاختلفوا ‏{‏فَبَعَثَ الله النبيين‏}‏ ويدل على حذفه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏ وقراءة عبد الله «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا» وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 19‏]‏ أو كان الناس أمة واحدة كفاراً فبعث الله النبيين فاختلفوا عليهم والأول الأوجه ‏{‏مُبَشّرِينَ‏}‏ بالثواب للمؤمنين ‏{‏وَمُنذِرِينَ‏}‏ بالعقاب للكافرين وهما حالان ‏{‏وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب‏}‏ أي مع كل واحد منهم كتابه ‏{‏بالحق‏}‏ بتبيان الحق ‏{‏لِيَحْكُمَ‏}‏ الله أو الكتاب أو النبي المنزل عليه ‏{‏بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ‏}‏ في دين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق‏.‏ ‏{‏وَمَا اختلف فِيهِ‏}‏ في الحق ‏{‏إِلاَّ الذين أُوتُوهُ‏}‏ أي الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف أي ازدادوا في الاختلاف لما أنزل عليهم الكتاب ‏{‏مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات‏}‏ على صدقه ‏{‏بَغْياً بَيْنَهُمْ‏}‏ مفعول له أي حسداً بينهم وظلماً لحرصهم على الدنيا وقلة إنصاف منهم ‏{‏فَهَدَى الله الذين ءَامَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ‏}‏ أي هدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف فيه ‏{‏مِنَ الحق‏}‏ بيان لما اختلفوا فيه ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ بعلمه ‏{‏والله يَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ‏}‏ أم منقطعة لا متصلة لأن شرطها أن يكون قبلها همزة الاستفهام كقولك «أعندك زيد أم عمرو» أي أيهما عندك‏؟‏ وجوابه زيد إن كان عنده زيد، أوعمرو إن كان عنده عمرو‏.‏

وأما «أم» المنقطعة فتقع بعد الاستفهام وبعد الخبر وتكون بمعنى بل والهمزة، والتقدير‏:‏ بل أحسبتم ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده‏.‏ لما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجيء البينات تشجيعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين وأهل الكتاب وإنكارهم لآياته وعداوتهم له، قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ أم حسبتم ‏{‏أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم‏}‏ أي ولم يأتكم وفي «لما» معنى التوقع يعني أن إتيان ذلك متوقع منتظر‏.‏ ‏{‏مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ‏}‏ مضوا أي حالهم التي هي مثل في الشدة ‏{‏مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ من النبيين والمؤمنين ‏{‏مَسَّتْهُمْ‏}‏ بيان للمثل وهو استئناف كأن قائلاً قال‏:‏ كيف كان ذلك المثل فقيل‏:‏ مستهم ‏{‏البأساء‏}‏ أي البؤس ‏{‏والضراء‏}‏ المرض والجوع ‏{‏وَزُلْزِلُواْ‏}‏ وحركوا بأنواع البلايا وأزعجوا إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة ‏{‏حتى يَقُولَ الرسول والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ‏}‏ إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه من المؤمنين فيها ‏{‏متى نَصْرُ الله‏}‏ أي بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك، ومعناه طلب النصر وتمنيه واستطالة زمان الشدة فقيل لهم ‏{‏أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ‏}‏ إجابة لهم إلى طلبهم من عاجل النصر‏.‏ «يقول» بالرفع‏:‏ نافع على حكاية حال ماضية نحو «شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه»‏.‏ وغيره بالنصب على إضمار «أن» ومعنى الاستقبال لأن «أن» علم له‏.‏ ولما قال عمرو بن الجموح وهو شيخ كبير وله مال عظيم‏:‏ ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها‏؟‏ نزل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏215- 218‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏215‏)‏ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏216‏)‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏217‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏218‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ فقد تضمن قوله ما أنفقتم من خير بيان ما ينفقونه وهو كل خير، وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها عن الحسن هي في التطوع ‏{‏وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ‏}‏ فيجزى عليه ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال‏}‏ فرض عليكم جهاد الكفار ‏{‏وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ‏}‏ من الكراهة فوضع المصدر موضع الوصف مبالغة كقولها‏:‏

فإنما هي إقبال وإدبار *** كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له أوهو فعل بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز أي وهو مكروه لكم ‏{‏وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ فأنتم تكرهون الغزو وفيه إحدى الحسنيين إما الظفر والغنيمة وإما الشهادة والجنة ‏{‏وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا‏}‏ وهو القعود عن الغزو ‏{‏وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ‏}‏ لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر ‏{‏والله يَعْلَمُ‏}‏ ما هو خير لكم ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شق عليكم، ونزل في سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا المشركين وقد أهل هلال رجب وهم لا يعلمون ذلك فقالت قريش‏:‏ قد استحل محمد عليه السلام الشهر الحرام شهراً يأمن فيه الخائف‏.‏

‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام‏}‏ أي يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام‏.‏

‏{‏قِتَالٍ فِيهِ‏}‏ بدل الاشتمال من «الشهر»‏.‏ وقرئ «عن قتال فيه» على تكرير العامل كقوله‏:‏ ‏{‏للذين استضعفوا لمن آمن منهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 75‏]‏‏.‏

‏{‏قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ‏}‏ أي إثم كبير‏.‏ «قتال» مبتدأ و«كبير» خبره وجاز الابتداء بالنكرة لأنها قد وصفت ب «فيه» وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ‏{‏وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ أي منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت عام الحديبية وهو مبتدأ ‏{‏وَكُفْرٌ بِهِ‏}‏ أي بالله عطف على صد ‏{‏والمسجد الحرام‏}‏ «عطف على سبيل الله» أي وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام‏.‏ وزعم الفراء أنه معطوف على الهاء في به أي كفر به وبالمسجد الحرام، ولا يجوز عند البصريين العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار فلا تقول‏:‏ مررت به وزيد ولكن تقول وبزيد، ولو كان معطوفاً على الهاء هنا لقيل وكفر به وبالمسجد الحرام‏.‏ ‏{‏وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ‏}‏ أي أهل المسجد الحرام وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وهو عطف على «صد» أيضاً ‏{‏مِنْهُ‏}‏ من المسجد الحرام وخبر الأسماء الثلاثة ‏{‏أَكْبَرُ عِندَ الله‏}‏ أي مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطأ والبناء على الظن ‏{‏والفتنة‏}‏ الإخراج أو الشرك ‏{‏أَكْبَرُ مِنَ القتل‏}‏ في الشهر الحرام، أو تعذيب الكفار المسلمين أشد قبحاً من قتل هؤلاء المسلمين في الشهر الحرام ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ‏}‏ أي إلى الكفر وهو إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم‏.‏

«حتى» معناها التعليل نحو «فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة» أي يقاتلونكم كي يردوكم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِ اسْتَطَاعُواْ‏}‏ استبعاد لاستطاعتهم كقولك لعدوك «إن ظفرت بي فلا تبق علي» وأنت واثق بأنه لا يظفر بك ‏{‏وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ‏}‏ ومن يرجع عن دينه إلى دينهم ‏{‏فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ‏}‏ أي يمت على الردة ‏{‏فأولئك حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والآخرة‏}‏ لما يفوتهم بالردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام وفي الآخرة من الثواب وحسن المآب ‏{‏وأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ وبها احتج الشافعي رحمه الله على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت عليها‏.‏ وقلنا‏:‏ قد علق الحبط بنفس الردة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ والأصل عندنا أن المطلق لا يحمل على المقيد، وعنده يحمل عليه فهو بناء على هذا‏.‏

ولما قالت السرية أيكون لنا أجر المجاهدين في سبيل الله نزل ‏{‏إِنَّ الذين ءَامَنُواْ والذين هَاجَرُواْ‏}‏ تركوا مكة وعشائرهم ‏{‏وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله‏}‏ المشركين ولا وقف عليه لأن ‏{‏أولئك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله‏}‏ خبر «إن»‏.‏ قيل‏:‏ من رجا طلب ومن خاف هرب ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ نزل في الخمر أربع آيات نزل بمكة‏:‏ ‏{‏وَمِن ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 67‏]‏‏.‏ فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال، ثم إن عمر ونفراً من الصحابة قالوا‏:‏ يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏219- 223‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏219‏)‏ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏220‏)‏ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏221‏)‏ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ‏(‏222‏)‏ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏223‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر‏}‏ فشربها قوم وتركها آخرون، ثم دعا عبد الرحمن بن عوف جماعة فشربوا وسكروا فأم بعضهم فقرأ «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون» فنزل ‏{‏لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏ فقل من يشربها، ثم دعا عتبان بن مالك جماعة فلما سكروا منها تخاصموا وتضاربوا فقال عمر‏:‏ اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل ‏{‏إِنَّمَا الخمر والميسر‏}‏ إلى قوله ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏ فقال عمر‏:‏ انتهينا يا رب‏.‏ وعن علي رضي الله عنه‏:‏ لو وقعت قطرة في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذن عليها، ولو وقعت في بحر ثم جف ونبت فيه الكلأ لم أرعه‏.‏ والخمر ما غلى واشتد وقذف بالزبد من عصير العنب، وسميت بمصدر خمره خمراً إذا ستره لتغطيتها العقل‏.‏ والميسر القمار مصدر من يسر كالوعد من فعله يقال يسرته إذا أقمرته، واشتقاقه من اليسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة بلا كد وتعب، أو من اليسار كأنه سلب يساره‏.‏ وصفة الميسر أنه كانت لهم عشرة أقداح سبعة منها عليها خطوط وهو الفذ وله سهم، والتوأم وله سهمان، والرقيب وله ثلاثة، والحلس وله أربعة، والنافس وله خمسة، والمسبل وله ستة، والمعلى وله سبعة، وثلاثة أغفال لا نصيب لها وهي المنيح والسفيح والوغد، فيجعلون الأقداح في خريطة ويضعونها على يد عدل ثم يجلجلها ويدخل يده ويخرج باسم رجل قدحاً قدحاً منها، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح ما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه، وفي حكم الميسر أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما، والمعنى يسألونك عما في تعاطيهما بدليل ‏{‏قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ‏}‏ بسبب التخاصم والتشاتم وقول الفحش والزور «كثير»‏:‏ حمزة وعلي‏.‏ ‏{‏ومنافع لِلنَّاسِ‏}‏ بالتجارة في الخمر والتلذذ بشربها، وفي الميسر بارتقاق الفقراء أو نيل المال بلا كد ‏{‏وَإِثْمُهُمَا‏}‏ وعقاب الإثم في تعاطيهما ‏{‏أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏}‏ لأن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيها الآثام من وجوه كثيرة‏.‏

‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو‏}‏ أي الفضل أي أنفقوا ما فضل عن قدر الحاجة، وكان التصدق بالفضل في أول الإسلام فرضاً فإذا كان الرجل صاحب زرع أمسك قوت سنة وتصدق بالفضل، وإذا كان صانعاً أمسك قوت يومه وتصدق بالفضل فنسخت بآية الزكاة‏.‏ «العفو»‏:‏ أبو عمرو؛ فمن نصبه جعل «ماذا» اسماً واحداً في موضع النصب ب «ينفقون» والتقدير‏:‏ قل ينفقون العفو، ومن رفعه جعل «ما» مبتدأ وخبره «ذا» مع صلته ف «ذا» بمعنى «الذين»و«ينفقون» صلته أي ما الذي ينفقون فجاء الجواب «العفو» أي هو العفو فإعراب الجواب كإعراب السؤال ليطابق الجواب السؤال‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي تبييناً مثل هذا التبيين ‏{‏يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِى الدنيا‏}‏ أي في أمر الدنيا ‏{‏والآخرة‏}‏ و«وفي» يتعلق بتتفكرون أي تتفكرون فيما يتعلق بالدارين فتأخذون بما أصلح لكم، أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع، ويجوز أن يتعلق ب «يبين» أي يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون‏.‏ ولما نزل ‏{‏إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏ اعتزلوا اليتامى وتركوا مخالطتهم والقيام بأموالهم وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل‏.‏

‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ‏}‏ أي مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم ‏{‏وَإِن تُخَالِطُوهُمْ‏}‏ وتعاشروهم ولم تجانبوهم ‏{‏فَإِخوَانُكُمْ‏}‏ فهم إخوانكم في الدين ومن حق الأخ أن يخالط أخاه ‏{‏والله يَعْلَمُ المفسد‏}‏ لأموالهم ‏{‏مِنَ المصلح‏}‏ لها فيجازيه على حسب مداخلته فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح ‏{‏وَلَوْ شَاءَ الله‏}‏ إعناتكم ‏{‏لأَعْنَتَكُمْ‏}‏ لحملكم على العنت وهو المشقة وأحرجكم فلم يطلق لكم مداخلتهم ‏{‏إِنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ لا يكلف إلا وسعهم وطاقتهم‏.‏

ولما سأل مرثد النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يتزوج عناق وكانت مشركة نزل ‏{‏وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ‏}‏ أي لا تتزوجوهن‏.‏ يقال نكح إذا تزوج وأنكح غيره زوجه ‏{‏وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ‏}‏ ولو كان الحال أن المشركة تعجبكم وتحبونها ‏{‏وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين‏}‏ ولا تزوجوهم بمسلمة كذا قاله الزجاج‏.‏ وقال جامع العلوم‏:‏ حذف أحد المفعولين والتقدير ولا تنكحوهن المشركين ‏{‏حتى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ‏}‏‏.‏ ثم بين علة ذلك فقال ‏{‏أولئك‏}‏ وهو إشارة إلى المشركات والمشركين ‏{‏يَدْعُونَ إِلَى النار‏}‏ إلى الكفر الذي هو عمل أهل النار فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا ‏{‏والله يَدْعُواْ إِلَى الجنة والمغفرة‏}‏ أي وأولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة والمغفرة وما يوصل إليهما فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ بعلمه أو بأمره ‏{‏وَيُبَيِنُ آياته لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ يتعظون‏.‏

كانت العرب لم يؤاكلوا الحائض ولم يشاربوها ولم يساكنوها كفعل اليهود والمجوس، فسأل أبو الدحداح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال‏:‏ يا رسول الله كيف نصنع بالنساء إذا حضن‏؟‏ فنزل ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض‏}‏ هو مصدر يقال حاضت محيضاً كقولك «جاء مجيئاً» ‏{‏قُلْ هُوَ أَذًى‏}‏ أي المحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه ‏{‏فاعتزلوا النساء فِي المحيض‏}‏ فاجتنبوهن أي فاجتنبوا مجامعتهن‏.‏

وقيل‏:‏ إن النصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض، واليهود كانوا يعتزلونهن في كل شيء، فأمر الله بالاقتصاد بين الأمرين‏.‏ ثم عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يجتنب ما اشتمل عليه الإزار، ومحمد رحمه الله لا يوجب إلا اعتزال الفرج‏.‏ وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ‏}‏ مجامعين أو ولا تقربوا مجامعتهن ‏{‏حتى يَطْهُرْنَ‏}‏ بالتشديد كوفي غير حفص أي يغتسلن وأصله «يتطهرون» فأدغم التاء في الطاء لقرب مخرجيهما‏.‏ غيرهم «يطهرن» أي ينقطع دمهن، والقراءتان كآيتين فعملنا بهما وقلنا له أن يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل عملاً بقراءة التخفيف، وفي أقل منه لا يقربها حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت الصلاة عملاً بقراءة التشديد، والحمل على هذا أولى من العكس لأنه حينئذ يجب ترك العمل بإحداهما لما عرف، وعند الشافعي رحمه الله لا يقربها حتى تطهر وتتطهر دليله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ‏}‏ فجامعوهن فجمع بينهما ‏{‏مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله‏}‏ من المأتى الذي أمركم الله به وحلله لكم وهو القبل ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين‏}‏ من ارتكاب ما نهوا عنه أو العوادين إلى الله تعالى وإن زلوا فزلوا والمحبة لمعرفته بعظم عفو الله حيث لا ييأس ‏{‏وَيُحِبُّ المتطهرين‏}‏ بالماء أو المتنزهين من أدبار النساء أو من الجماع في الحيض أو من الفواحش‏.‏

كان اليهود يقولون إذا أتى الرجل أهله باركة أتى الولد أحول فنزل ‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ‏}‏ مواضع حرث لكم وهذا مجاز شبهن بالمحارث تشبيهاً لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور والولد بالنبات، ووقع قوله «نساؤكم حرث لكم» بياناً وتوضيحاً لقوله‏:‏ «فأتوهن من حيث أمركم الله»‏.‏ أي إن المأتى الذي أمركم الله به هو مكان الحرث لا مكان الفرث تنبيهاً على أن المطلوب الأصلي في الإتيان هو طلب النسل لإقضاء الشهوة فلا تأتوهن إلا من المأتي الذي نيط به هذا المطلوب ‏{‏فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ‏}‏ جامعوهن متى شئتم أو كيف شئتم باركة أو مستلقية أو مضطجعة بعد أن يكون المأتي واحداً وهو موضع الحرث وهو تمثيل، أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم لا يحظر عليكم جهة دون جهة‏.‏ وقوله‏:‏ «هو أذى فاعتزلوا النساء»، «من حيث أمركم الله فأتوا حرثكم أنى شئتم»‏.‏ من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة، فعلى كل مسلم أن يتأدب بها ويتكلف مثلها في المحاورات والمكاتبات ‏{‏وَقَدّمُواْ لأَِنفُسِكُمْ‏}‏ ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة وما هو خلاف ما نهيتم عنه، أو هو طلب الولد أو التسمية على الوطء ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فلا تجترئوا على المناهي ‏{‏واعلموا أَنَّكُم ملاقوه‏}‏ صائرون إليه فاستعدوا للقائه ‏{‏وَبَشِّرِ المؤمنين‏}‏ بالثواب يا محمد‏.‏ وإنما جاء «يسألونك» ثلاث مرات بلا واو ثم مع الواو ثلاثاً لأن سؤالهم عن تلك الحوارث الأول كأنه وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت بحرف العطف لأن كل واحد من السؤالات سؤال مبتدأ، وسألوا عن الحوادث الأخر في وقت واحد فجيء بحرف الجمع‏.‏ لذلك‏.‏