فصل: تفسير الآيات رقم (78- 85)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 85‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏78‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏80‏)‏ وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ‏(‏81‏)‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏83‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ‏(‏84‏)‏ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ‏}‏ إلى أممهم ‏{‏مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ‏}‏ قيل‏:‏ بعث الله ثمانية آلاف نبي‏:‏ أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلاف من سائر الناس‏.‏ وعن علي رضي الله عنه‏:‏ إن الله تعالى بعث نبياً أسود فهو ممن لم تذكر قصته في القرآن ‏{‏وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ وهذا جواب اقتراحهم الآيات عناداً يعني إنا قد أرسلنا كثيراً من الرسل وما كان لواحد منهم أن يأتي بآية إلا بإذن الله فمن أين لي بأن آتي بآية مما تقترحونه إلا أن يشاء الله ويأذن في الإتيان بها‏؟‏ ‏{‏فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله‏}‏ أي يوم القيامة وهو وعيد ورد عقيب اقتراحهم الآيات ‏{‏قُضِىَ بالحق وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون‏}‏ المعاندون الذين اقترحوا الآيات عناداً‏.‏

‏{‏الله الذى جَعَلَ‏}‏ خلق ‏{‏لَكُمُ الأنعام‏}‏ الإبل ‏{‏لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ أي لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها ‏{‏وَلَكُمْ فيِهَا منافع‏}‏ أي الألبان والأوبار ‏{‏وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ‏}‏ أي لتبلغوا عليها ما تحتاجون إليه من الأمور ‏{‏وَعَلَيْهَا‏}‏ وعلى الأنعام ‏{‏وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ‏}‏ أي على الأنعام وحدها لا تحملون ولكن عليها وعلى الفلك في البر والبحر ‏{‏وَيُرِيكُمْ ءاياته فَأَىَّ ءايات الله تُنكِرُونَ‏}‏ أنها من عند الله‏.‏ و‏{‏أَي‏}‏ نصب ب ‏{‏تُنكِرُونَ‏}‏ وقد جاءت على اللغة المستفيضة‏.‏ وقولك «فأية آيات الله» قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهي في «أي» أغرب لإبهامه ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ‏}‏ عدداً ‏{‏وَأَشَدَّ قُوَّةً‏}‏ بدناً ‏{‏وَءَاثَاراً فِى الأرض‏}‏ قصوراً ومصانع‏.‏ ‏{‏فَمَآ أغنى عَنْهُمْ‏}‏ «ما» نافية ‏{‏مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم‏}‏ يريد علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كما قال ‏{‏يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غافلون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 7‏]‏ فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانات وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات، لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزءوا بها واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به، أو علم الفلاسفة والدهريين فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم‏.‏ وعن سقراط أنه سمع بموسى عليه السلام وقيل له‏:‏ لو هاجرت إليه فقال‏:‏ نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا، أو المراد فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به كأنه قال‏:‏ استهزءوا بالبينات وبما جاءوا به من علم الوحي فرحين مرحين، ويدل عليه قوله ‏{‏وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ‏}‏ أو الفرح للرسل أي الرسل لما رأوا جهلهم واستهزاءهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا‏}‏ شدة عذابنا ‏{‏قَالُواْ ءَامَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا‏}‏ أي فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم ‏{‏سُنَّتَ الله‏}‏ بمنزلة وعد الله ونحوه من المصادر المؤكدة ‏{‏التى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ‏}‏ أن الإيمان عند نزول العذاب لا ينفع وأن العذاب نازل بمكذبي الرسل ‏{‏وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون‏}‏ هنالك مكان مستعار للزمان والكافرون خاسرون في كل أوان، ولكن يتبين خسرانهم إذا عاينوا العذاب، وفائدة ترادف الفاءات في هذه الآيات أن ‏{‏فَمَا أغنى عَنْهُمْ‏}‏ نتيجة قوله ‏{‏كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ‏}‏ و‏{‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم‏}‏ كالبيان والتفسير لقوله ‏{‏فَمَا أغنى عَنْهُمْ‏}‏ كقولك رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء، و‏{‏فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا‏}‏ تابع لقوله ‏{‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ‏}‏ كأنه قال‏:‏ فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا، وكذلك ‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم‏}‏ تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله، والله أعلم‏.‏

سورة فصلت

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏2‏)‏ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏4‏)‏ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ‏(‏5‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏8‏)‏ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏9‏)‏ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏حم‏}‏ إن جعلته اسماً للسورة كان مبتدأ ‏{‏تَنزِيلٌ‏}‏ خبره، وإن جعلته تعديداً للحروف كان ‏{‏تَنزِيل‏}‏ خبراً لمبتدأ محذوف و‏{‏كِتَابٌ‏}‏ بدل من ‏{‏تَنزِيل‏}‏ أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف أو ‏{‏تنزيل‏}‏ مبتدأ ‏{‏مِّنَ الرحمن الرحيم‏}‏ صفته ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ خبره ‏{‏فُصِّلَتْ ءاياته‏}‏ ميزت وجعلت تفاصيل في معانٍ مختلفة من أحكام وأمثال ومواعظ ووعد ووعيد وغير ذلك ‏{‏قُرْءَاناً عَرَبِيّاً‏}‏ نصب على الاختصاص والمدح أي أريد بهذا الكتاب المفصل قرآناً من صفته كيت وكيت، أو على الحال أي فصلت آياته في حال كونه قرآناً عربياً ‏{‏لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي‏.‏ و‏{‏لِقَوْمٍ‏}‏ يتعلق ب ‏{‏تَنزِيل‏}‏ أو ب ‏{‏فُصّلَتْ‏}‏ أي تنزيل من الله لأجلهم أو فصلت آياته لهم، والأظهر أن يكون صفته مثل ما قبله وما بعده أي قرآناً عربياً كائناً لقوم عرب ‏{‏بَشِيراً وَنَذِيراً‏}‏ صفتان ل ‏{‏قُرْءَاناً‏}‏ ‏{‏فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ أي لا يقبلون من قولك «تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي» ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه فكأنه لم يسمعه‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ‏}‏ أغطية جمع كنان وهو الغطاء ‏{‏مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ‏}‏ من التوحيد ‏{‏وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ‏}‏ ثقل يمنع من استماع قولك ‏{‏وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ‏}‏ ستر‏.‏ وهذه تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن تقبل الحق واعتقاده كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها ومج إسماعهم له كأنه بها صمماً عنه، ولتباعد المذهبين والدينين كأن بينهم وماهم عليه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو عليه حجاباً ساتراً وحاجزاً منيعاً من جبل أو نحوه فلا تلاقي ولا ترائي ‏{‏فاعمل‏}‏ على دينك ‏{‏إِنَّنَا عاملون‏}‏ على ديننا أو فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك‏.‏ وفائدة زيادة «من» أن الحجاب ابتداء منا وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها، ولو قيل بينا وبينك حجاب لكان المعنى أن حجاباً حاصل وسط الجهتين‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ‏}‏ هذا جواب لقولهم ‏{‏قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ‏}‏ ووجهه أنه قال لهم‏:‏ إني لست بملك وإنما أنا بشر مثلكم وقد أوحي إلي دونكم فصحت نبوتي بالوحي إليّ وأنا بشر، وإذا صحت نبوتي وجب عليكم اتباعي وفيما يوحى إليّ أن إلهكم إله واحد ‏{‏فاستقيموا إِلَيْهِ‏}‏ فاستووا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة غير ذاهبين يميناً ولا شمالاً ولا ملتفتين إلى ما يسول لكم الشيطان من اتخاذ الأولياء والشفعاء ‏{‏واستغفروه‏}‏ من الشرك ‏{‏وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة‏}‏ لا يؤمنون بوجوب الزكاة ولا يعطونها أو لا يفعلون ما يكونون به أزكياء وهو الإيمان ‏{‏وَهُم بالآخرة‏}‏ بالبعث والثواب والعقاب ‏{‏هُمْ كافرون‏}‏ وإنما جعل منع الزكاة مقروناً بالكفر بالآخرة لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على استقامته وصدق نيته ونصوع طويته، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا فقرت عصبيتهم ولانت شكيمتهم، وما ارتدت بنو حنيفة إلا بمنع الزكاة، وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة وتخويف شديد من منعها ‏{‏إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ مقطوع‏.‏

قيل‏:‏ نزلت في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون‏.‏

‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ الأحد والاثنين تعليماً للأناة ولو أراد أن يخلقها في لحظة لفعل ‏{‏وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً‏}‏ شركاء وأشباهاً ‏{‏ذلك‏}‏ الذي خلق ما سبق ‏{‏رَبُّ العالمين‏}‏ خالق جميع الموجودات وسيدها ومربيها ‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا‏}‏ في الأرض ‏{‏رَوَاسِىَ‏}‏ جبالاً ثوابت ‏{‏مِّن فَوْقِهَا‏}‏ إنما اختار إرساءها فوق الأرض لتكون منافع الجبال ظاهرة لطالبيها، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال كلها مفتقرة إلى ممسك وهو الله عز وجل ‏{‏وبارك‏}‏ بالماء والزرع والشجر والثمر ‏{‏فِيهَا‏}‏ وفي الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ وبارك فيها وأكثر خيرها ‏{‏وَقَدَّرَ فِيهَآ أقواتها‏}‏ أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه ‏{‏وقسم فيها أقواتها‏}‏ ‏{‏فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ‏}‏ في تتمة أربعة أيام يريد بالتتمة اليومين تقول‏:‏ سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة وإلى الكوفة في خمسة عشر أي تتمة خمسة عشر ولا بد من هذا التقدير، لأنه لو أجرى على الظاهر لكانت ثمانية أيام لأنه قال ‏{‏خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ ثم قال ‏{‏وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ‏}‏ ثم قال ‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ فيكون خلاف قوله ‏{‏فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 38‏]‏ في موضع آخر، وفي الحديث‏:‏ «إن الله تعالى خلق الأرض يوم الأحد والإثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والعمران والخراب فتلك أربعة أيام، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة، وخلق آدم عليه السلام في آخر ساعة من يوم الجمعة» قيل‏:‏ هي الساعة التي تقوم فيها القيامة ‏{‏سَوَآءً‏}‏ ‏{‏سَوَآءٍ‏}‏‏:‏ يعقوب صفة للأيام أي في أربعة أيام مستويات تامات، ‏{‏سَوَآء‏}‏ بالرفع‏:‏ يزيد أي هي سواء، غيرهما ‏{‏سَوَآء‏}‏ على المصدر أي استوت سواء أي استواء أو على الحال ‏{‏لِّلسَّائِلِينَ‏}‏ متعلق ب ‏{‏قدر‏}‏ أي قدر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها والمحتاجين إليها، لأن كلاً يطلب القوت ويسأله، أو بمحذوف كأنه قيل‏:‏ هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 21‏]‏

‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ‏(‏11‏)‏ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏12‏)‏ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ‏(‏13‏)‏ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏15‏)‏ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏16‏)‏ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏17‏)‏ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏18‏)‏ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏19‏)‏ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏20‏)‏ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَآئِعِينَ‏}‏ هو مجاز عن إيجاد الله تعالى السماء على ما أراد، تقول العرب‏:‏ فعل فلان كذا‏.‏ ثم استوى إلى عمل كذا يريدون أنه أكمل الأول وابتدأ الثاني، ويفهم منه أن خلق السماء كان بعد خلق الأرض وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما، وعنه أنه قال‏:‏ أول ما خلق الله تعالى جوهرة طولها وعرضها مسيرة ألف سنة في مسيرة عشرة آلاف سنة فنظر إليها بالهيبة فذابت واضطربت، ثم ثار منها دخان بتسليط النار عليها فارتفع واجتمع زبد فقام فوق الماء فجعل الزبد أرضاً والدخان سماء‏.‏ ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما أنه أراد أن يكونهما فلم يمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع‏.‏ وإنما ذكر الأرض مع السماء في الأمر بالإتيان والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين لأنه قد خلق جرم الأرض أولاً غير مدحوة ثم دحاها بعد خلق السماء كما قال‏:‏ ‏{‏والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 30‏]‏ فالمعنى أن ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف، ائتي يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك وائتي يا سماء مقبية سقفاً لهم‏.‏ ومعنى الإتيان الحصول والوقوع كما تقول أتى عمله مرضياً، وقوله ‏{‏طَوْعاً أَوْ كَرْهاً‏}‏ لبيان تأثير قدرته فيهما وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال كما تقول لمن تحت يدك‏.‏ لتفعلن هذا شئت أو أبيت، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً‏.‏ وانتصابهما على الحال بمعنى طائعتين أو مكرهتين‏.‏ وإنما لم يقل طائعتين على اللفظ أو طائعات على المعنى لأنهما سموات وأرضون لأنهن لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصفن بالطوع والكره‏.‏ قيل‏:‏ طائعين في موضع طائعات كقوله ‏{‏ساجدين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ‏{‏فَقَضَاهُنَّ‏}‏ فأحكم خلقهن‏.‏ قال‏:‏

وعليهما مسرودتان قضاهما *** والضمير يرجع إلى السماء لأن السماء للجنس، ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسراً بقوله ‏{‏سَبْعَ سماوات‏}‏‏.‏

والفرق بين النصبين في ‏{‏سَبْعَ سموات‏}‏ أن الأول على الحال والثاني على التمييز ‏{‏فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ في يوم الخميس والجمعة ‏{‏وأوحى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا‏}‏ ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيران وغير ذلك ‏{‏وَزَيَّنَّآ السمآء الدنيا‏}‏ القريبة من الأرض ‏{‏بمصابيح‏}‏ بكواكب ‏{‏وَحِفْظاً‏}‏ وحفظناها من المسترقة بالكواكب حفظاً ‏{‏ذلك تَقْدِيرُ العزيز‏}‏ الغالب غير المغلوب ‏{‏العليم‏}‏ بمواقع الأمور‏.‏

‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُواْ‏}‏ عن الإيمان بعد هذا البيان ‏{‏فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ‏}‏ خوفتكم ‏{‏صاعقة‏}‏ عذاباً شديد الوقع كأنه صاعقة وأصلها رعد معه نار ‏{‏مِّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَآءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ أي أتوهم من كل جانب وعملوا فيهم كل حيلة فلم يروا منهم إلا الإعراض‏.‏

وعن الحسن‏:‏ أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة ‏{‏أَن‏}‏ بمعنى «أي» أو مخففة من الثقيلة أصله بأنه ‏{‏لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله قَالُواْ‏}‏ أي القوم ‏{‏لَوْ شَآءَ رَبُّنَا‏}‏ إرسال الرسل فمفعول ‏{‏شَاء‏}‏ محذوف ‏{‏لأَنزَلَ ملائكة فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون‏}‏ معناه فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة فإنا لا نؤمن بكم وبما جئتم به، وقوله ‏{‏أُرْسِلْتُمْ بِهِ‏}‏ ليس بإقرار بالإرسال وإنما هو على كلام الرسل وفيه تهكم كما قال فرعون‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 27‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون‏}‏‏.‏ خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء الذين دعوا إلى الإيمان بهم‏.‏ رُوي أن قريشاً بعثوا عتبة بن ربيعة وكان أحسنهم حديثاً ليكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وينظر ما يريد، فأتاه وهو في الحطيم فلم يسأل شيئاً إلا أجابه ثم قرأ عليه السلام السورة إلى قوله ‏{‏مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ‏}‏ فناشده بالرحم وأمسك على فيه ووثب مخافة أن يصب عليهم العذاب فأخبرهم به وقال‏:‏ لقد عرفت السحر والشعر فوالله ما هو بساحر ولا بشاعر فقالوا‏:‏ لقد صبأت أما فهمت منه كلمة‏؟‏ فقال‏:‏ لا ولم أهتد إلى جوابه‏.‏ فقال عثمان بن مظعون‏:‏ ذلك والله لتعلموا أنه من رب العالمين‏.‏

ثم بين ما ذكر من صاعقة عاد وثمود فقال ‏{‏فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِى الأرض بِغَيْرِ الحق‏}‏ أي تعظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظيم وهو القوة وعظم الأجرام، أو استولوا على الأرض بغير استحقاق للولاية ‏{‏وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً‏}‏ كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم، وبلغ قوتهم أن الرجل كان يقتلع الصخرة من الجبل بيده ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ‏}‏ أولم يعلموا علماً يقوم مقام العيان ‏{‏أَنَّ الله الذى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً‏}‏ أوسع منهم قدرة لأنه قادر على كل شيء وهم قادرون على بعض الأشياء بإقداره ‏{‏وَكَانُواْ بئاياتنا يَجْحَدُونَ‏}‏ معطوف على ‏{‏فاستكبروا‏}‏ أي كانوا يعرفون أنها حق ولكنهم جحدوها كما يجحد المودع الوديعة ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً‏}‏ عاصفة تصرصر أي تصوت في هبوبها من الصرير، أو باردة تحرق بشدة بردها تكرير لبناء الصر وهو البرد قيل إنها الدبور ‏{‏فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ‏}‏ مشئؤومات عليهم‏.‏ ‏{‏نَّحِسَاتٍ‏}‏ مكي وبصري ونافع‏.‏ ونُحِس نحساً نقيض سعد سعداً وهو نحس، وأما نحس فإما مخفف نحس أو صفة على فعل أو وصف بمصدر وكانت من الأربعاء في آخر شوال إلى الأربعاء، وما عذب قوم إلا في الأربعاء‏.‏ ‏{‏لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا‏}‏ أضاف العذاب إلى الخزي وهو الذل على أنه وصف للعذاب كأنه قال عذاب خزي كما تقول فعل السوء تريد الفعل السيء، ويدل عليه قوله ‏{‏وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى‏}‏ وهو من الإسناد المجازي، ووصف العذاب بالخزي أبلغ من وصفهم به فشتان ما بين قوليك «هو شاعر» و«له شعر شاعر»‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ‏}‏ من الأصنام التي عبدوها على رجاء النصر لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 32‏]‏

‏{‏وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ‏(‏24‏)‏ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ‏(‏26‏)‏ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏28‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏30‏)‏ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ‏(‏31‏)‏ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ‏}‏ بالرفع على الابتداء وهو الفصيح لوقوعه بعد حرف الابتداء والخبر ‏{‏فهديناهم‏}‏ وبالنصب المفضّل بإضمار فعل يفسره ‏{‏فهديناهم‏}‏ أي بينا لهم الرشد ‏{‏فاستحبوا العمى عَلَى الهدى‏}‏ فاختاروا الكفر على الإيمان ‏{‏فَأَخَذَتْهُمْ صاعقة العذاب‏}‏ داهية العذاب ‏{‏الهون‏}‏ الهوان وصف به العذاب مبالغة أو أبدله منه ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ بكسبهم وهو شركهم ومعاصيهم، وقال الشيخ أبو منصور‏:‏ يحتمل ما ذكر من الهداية التبيين كما بينا، ويحتمل خلق الاهتداء فيهم فصاروا مهتدين ثم كفروا بعد ذلك وعقروا الناقة، لأن الهدى المضاف إلى الخالق يكون بمعنى البيان والتوفيق وخلق فعل الاهتداء، فأما الهدى المضاف إلى الخلق يكون بمعنى البيان لا غير‏.‏ وقال صاحب الكشاف فيه‏:‏ فإن قلت‏:‏ أليس معنى قولك هديته جعلت فيه الهدى والدليل عليه قولك هديته فاهتدى بمعنى تحصيل البغية وحصولها كما تقول‏:‏ ردعته فارتدع، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة‏؟‏ قلت‏:‏ للدلالة على أنه مكنهم فأزاح عللهم ولم يبق لهم عذر فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها وإنما تمحل بهذا لأنه لا يتمكن من أن يفسره بخلق الاهتداء لأنه يخالف مذهبه الفاسد ‏{‏وَنَجَّيْنَا الذين ءَامَنُواْ‏}‏ أي اختاروا الهدى على العمى من تلك الصاعقة ‏{‏وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ اختيار العمى على الهدى‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار‏}‏ أي الكفار من الأولين والآخرين‏.‏ ‏{‏نَحْشُرُ أَعْدَاءَ‏}‏ نافع ويعقوب ‏{‏فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ يحبس أولهم على آخرهم أي يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم، وهي عبارة عن كثرة أهل النار وأصله من وزعته أي كففته ‏{‏حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا‏}‏ صاروا بحضرتها و«ما» مزيدة للتأكيد ومعنى التأكيد أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم ولا وجه لأن يخلو منها ‏{‏شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ شهادة الجلود بملامسة الحرام وقيل‏:‏ وهي كناية عن الفروج ‏{‏وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا‏}‏ لما تعاظمهم من شهادتها عليهم ‏{‏قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذى أَنطَقَ كُلَّ شَئ‏}‏ من الحيوان والمعنى أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان ‏{‏وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ وهو قادر على إنشائكم أول مرة وعلى إعادتكم ورجوعكم إلى جزائه ‏{‏وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلآ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ‏}‏ أي أنكم كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش، وما كان استتاركم ذلك خيفة أن يشهد عليكم جوارحكم لأنكم كنتم غير عالمين بشهادتها عليكم بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلاً ‏{‏ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ولكنكم إنما استترتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما كنتم تعملون وهو الخفيات من أعمالكم‏.‏

‏{‏وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ‏}‏ وذلك الظن هو الذي أهلككم، و‏{‏ذلكم‏}‏ مبتدأ و‏{‏ظَنُّكُمُ‏}‏ خبر و‏{‏الذى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ‏}‏ صفته و‏{‏أَرْدَاكُمْ‏}‏ خبر ثانٍ أو ‏{‏ظَنُّكُمُ‏}‏ بدل من ‏{‏ذلكم‏}‏ و‏{‏أَرْدَاكُمْ‏}‏ الخبر ‏{‏فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ‏}‏ أي فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر ولم ينفكوا به من الثواء في النار ‏{‏وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين‏}‏ وإن يطلبوا الرضا فما هم من المرضيّين، أو إن يسألوا العتبى وهي الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعاً مما هم فيه لم يعتبوا لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها ‏{‏وَقَيَّضْنَا لَهُمْ‏}‏ أي قدرنا لمشركي مكة، يقال‏:‏ هذان ثوبان قيضان أي مثلان والمقايضة المعاوضة، وقيل‏:‏ سلطنا عليهم ‏{‏قُرَنَآءَ‏}‏ أخداناً من الشياطين جمع قرين كقوله ‏{‏وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 36‏]‏ ‏{‏فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ أي ما تقدم من أعمالهم وما هم عازمون عليها، أو ما بين أيديهم من أمر الدنيا واتباع الشهوات وما خلفهم من أمر العاقبة وأن لا بعث ولا حساب ‏{‏وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول‏}‏ كلمة العذاب ‏{‏فِى أُمَمٍ‏}‏ في جملة أمم ومحله النصب على الحال من الضمير في ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ أي حق عليهم القول كائنين في جملة أمم ‏{‏قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ قبل أهل مكة ‏{‏مِّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين‏}‏ هو تعليل لاستحقاقهم العذاب والضمير لهم وللأمم‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان‏}‏ إذًّا قريء ‏{‏والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏}‏ وعارضوه بكلام غير مفهوم حتى تشوشوا عليه وتغلبوا على قراءته واللغو الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته ‏{‏فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً‏}‏ يجوز أن يريد بالذين كفروا هؤلاء اللاغين والآمرين لهم باللغو خاصة، ولكن يذكر الذين كفروا عامة لينطووا تحت ذكرهم ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي أعظم عقوبة على أسوأ أعمالهم وهو الكفر‏.‏

‏{‏ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله‏}‏ ذلك إشارة إلى الأسوأ ويجب أن يكون التقدير أسوأ جزاء الذي كانوا يعملون حتى تستقيم هذه الإشارة ‏{‏النار‏}‏ عطف بيان للجزاء أو خبر مبتدأ محذوف ‏{‏لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ‏}‏ أي النار في نفسها دار الخلد كما تقول‏:‏ لك في هذه الدار دار السرور وأنت تعني الدار بعينها ‏{‏جَزَآءً‏}‏ أي جوزوا بذلك جزاء ‏{‏بِمَا كَانُوا بئاياتنا يَجْحَدُونَ وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا‏}‏ وبسكون الراء لثقل الكسرة كما قالوا في فخْذِ فَخْذ‏:‏ مكي وشامي وأبو بكر‏.‏ وبالاختلاس‏:‏ أبوعمرو ‏{‏اللذين أضلانا‏}‏ أي الشيطانين اللذين أضلانا ‏{‏مِّنَ الجن والإنس‏}‏ لأن الشيطان على ضربين جني وإنسي، قال تعالى‏:‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شياطين الإنس والجن‏}‏ ‏{‏نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين‏}‏ في النار جزاء إضلالهم إيانا‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله‏}‏ أي نطقوا بالتوحيد ‏{‏ثُمَّ استقاموا‏}‏ ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضيانه، وعن الصديق رضي الله عنه‏:‏ استقاموا فعلاً كما استقاموا قولاً‏:‏ وعنه أنه تلاها ثم قال‏:‏ ما تقولون فيها‏؟‏ قالوا‏:‏ لم يذنبوا‏.‏ قال‏:‏ حملتم الأمر على أشده‏.‏ قالوا‏:‏ فما تقول‏؟‏ قال‏:‏ لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه‏:‏ لم يروغوا روغان الثعالب أي لم ينافقوا‏.‏ وعن عثمان رضي الله عنه‏:‏ أخلصوا العمل‏.‏ وعن علي رضي الله عنه‏:‏ أدوا الفرائض‏.‏ وعن الفضيل‏:‏ زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية‏.‏ وقيل‏:‏ حقيقة الاستقامة القرار بعد الإقرار لا الفرار بعد الإقرار ‏{‏تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة‏}‏ عند الموت ‏{‏أن‏}‏ بمعنى «أي» أو مخففة من الثقيلة وأصله بأنه ‏{‏لاَ تَخَافُواْ‏}‏ والهاء ضمير الشأن أي لا تخافوا ما تقدمون عليه ‏{‏وَلاَ تَحْزَنُواْ‏}‏ على ما خلفتهم فالخوف غم يلحق الإنسان لتوقع المكروه، والحزن غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار والمعنى أن الله كتب لكم الأمن من كل غم فلن تذوقوه ‏{‏وَأَبْشِرُواْ بالجنة التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ في الدنيا، وقال محمد بن علي الترمذي‏:‏ تتنزل عليهم ملائكة الرحمن عند مفارقة الأرواح الأبدان أن لا تخافوا سلب الإيمان، ولا تحزنوا على ما كان من العصيان، وأبشروا بدخول الجنان التي كنتم توعدون في سالف الزمان ‏{‏نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الحياة الدنيا وَفِى الآخرة‏}‏ كما أن الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين ‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ‏}‏ من النعيم ‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ‏}‏ تتمنون ‏{‏نُزُلاً‏}‏ هو رزق نزيل وهو الضيف وانتصابه على الحال من الهاء المحذوفة أو من «ما» ‏{‏مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ‏}‏ نعت له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 46‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏33‏)‏ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ‏(‏34‏)‏ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏35‏)‏ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏36‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏37‏)‏ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏40‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ‏(‏41‏)‏ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ‏(‏42‏)‏ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏43‏)‏ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏44‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏45‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله‏}‏ إلى عبادته هو رسول الله دعا إلى التوحيد ‏{‏وَعَمِلَ صالحا‏}‏ خالصاً ‏{‏وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ المسلمين‏}‏ تفاخراً بالإسلام ومعتقداً له، أو أصحابه عليه السلام، أو المؤذنون، أو جميع الهداة والدعاة إلى الله‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَسْتَوِى الحسنة وَلاَ السيئة ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ يعني أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك كما لو أساء إليك رجل إساءة، فالحسنة أن تعفو عنه، والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك مثل أن يذمك فتمدحه أو يقتل ولدك فتفتدي ولده من يد عدوه ‏{‏فَإِذَا الذى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ‏}‏ فإنك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاق مثل الولي الحميم مصافاة لك‏.‏ ثم قال ‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَآ‏}‏ أي وما يلقي هذه الخصلة التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان ‏{‏إِلاَّ الذين صَبَرُواْ‏}‏ إلا أهل الصبر ‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏}‏ إلا رجل خير وفق لحظ عظيم من الخير‏.‏ وإنما لم يقل «فادفع بالتي هي أحسن» لأنه على تقدير قائل قال‏:‏ فكيف أصنع‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ وقيل‏:‏ «لا» مزيدة للتأكيد والمعنى‏:‏ لا تستوي الحسنة والسيئة، وكان القياس على هذا التفسير أن يقال‏:‏ ادفع بالتي هي حسنة، ولكن وضع ‏{‏التى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ موضع «الحسنة» ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة، لأن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما دونها، وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ بالتي هي أحسن‏:‏ الصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة وفسر الحظ بالثواب، وعن الحسن‏:‏ والله ما عظم حظ دون الجنة، وقيل‏:‏ نزلت في أبي سفيان بن حرب وكان عدواً مؤذياً للنبي صلى الله عليه وسلم فصار ولياً مصافياً ‏{‏وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ‏}‏ النزغ شبه النخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه يبعثه على ما لا ينبغي، وجعل النزغ نازغاً كما قيل جد جده، أو أريد وإما ينزغنك نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر أو لتسويله، والمعنى وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ من شره وامض على حلمك ولا تطعه ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع‏}‏ لاستعاذتك ‏{‏العليم‏}‏ بنزغ الشيطان‏.‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته‏}‏ الدالة على وحدانيته ‏{‏الليل والنهار‏}‏ في تعاقبهما على حد معلوم وتناوبهما على قدر مقسوم ‏{‏والشمس والقمر‏}‏ في اختصاصهما بسير مقدور ونور مقرر ‏{‏لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ‏}‏ فإنهما مخلوقان وإن كثرت منافعهما ‏{‏واسجدوا لِلَّهِ الذى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ الضمير في ‏{‏خَلَقَهُنَّ‏}‏ للآيات أو الليل والنهار والشمس والقمر، لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث، تقول‏:‏ الأقلام بريتها وبريتهن، ولعل ناساً منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لها السجود لله تعالى، فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله خالصاً إن كانوا إياه يعبدون وكانوا موحدين غير مشركين، فإن من عبد مع الله غيره لا يكون عابداً لله‏.‏

‏{‏فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبِّكَ‏}‏ أي الملائكة ‏{‏يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ‏}‏ لا يملون‏.‏ والمعنى فإن استكبروا ولم يمتثلوا ما أمروا به وأبوا إلا الواسطة وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله خالصاً، فدعهم وشأنهم فإن الله تعالى لا يعدم عابد أو ساجد بالإخلاص وله العباد المقربون الذين ينزهونه بالليل والنهار عن الأنداد‏.‏ و‏{‏عِندَ رَبّكَ‏}‏ عبارة عن الزلفى والمكانة والكرامة‏.‏ وموضع السجدة عندنا ‏{‏لاَ يَسْئَمُونَ‏}‏ وعند الشافعي رحمه الله عند ‏{‏تَعْبُدُونَ‏}‏ والأول أحوط‏.‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته أَنَّكَ تَرَى الأرض خاشعة‏}‏ يابسة مغبرة والخشوع التذلل فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها ‏{‏فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء‏}‏ المطر ‏{‏اهتزت‏}‏ تحركت بالنبات ‏{‏وَرَبَتْ‏}‏ انتفخت ‏{‏إِنَّ الذى أحياها لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ فيكون قادراً على البعث ضرورة ‏{‏إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فِى ءاياتنا‏}‏ يميلون عن الحق في أدلتنا بالطعن، يقال‏:‏ ألحد الحافر ولحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق فاستعير لحال الأرض إذا كانت ملحودة، فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة‏.‏ ‏{‏يُلْتحِدُونَ‏}‏ حمزة ‏{‏لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا‏}‏ وعيد لهم على التحريف ‏{‏أَفَمَن يلقى فِى النار خَيْرٌ أم مَّن يَأْتِى ءَامِناً يَوْمَ القيامة‏}‏ هذا تمثيل للكافر والمؤمن ‏{‏اعملوا مَا شِئْتُمْ‏}‏ هذا نهاية في التهديد ومبالغة في الوعيد ‏{‏إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فيجازيكم عليه ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر‏}‏ بالقرآن لأنهم لكفرهم به طعنوا فيه وحرفوا تأويله ‏{‏لَمَّا جَآءَهُمْ‏}‏ حين جاءهم‏.‏ وخبر «إن» محذوف أي يعذبون أو هالكون أو ‏{‏أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏ وما بينهما اعتراض ‏{‏وَإِنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ‏}‏ أي منيع محمي بحماية الله ‏{‏لاَّ يَأْتِيهِ الباطل‏}‏ التبديل أو التناقض ‏{‏مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ‏}‏ مستحق للحمد‏.‏

‏{‏مَّا يُقَالُ لَكَ‏}‏ ما يقول لك كفار قومك ‏{‏إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ‏}‏ إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ‏}‏ ورحمة لأنبيائه ‏{‏وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ لأعدائهم، ويجوز أن يكون ما يقول لك الله إلا مثل ما قال للرسل من قبلك، والمقول هو قوله ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَوْ جعلناه‏}‏ أي الذكر ‏{‏قُرْءَاناً أَعْجَمِيَّاً‏}‏ أي بلغة العجم كانوا لتعنتهم يقولون‏:‏ هلا نزل القرآن بلغة العجم فقيل في جوابهم‏:‏ لو كان كما يقترحون ‏{‏لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءاياته‏}‏ أي بينت بلسان العرب حتى نفهمها تعنتاً ‏{‏ءَأَعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ‏}‏ بهمزتين كوفي غير حفص، والهمزة للإنكار يعني لأنكروا وقالوا‏:‏ أقرآن أعجمي ورسول عربي أو مرسل إليه عربي‏.‏ الباقون بهمزة واحدة ممدودة مستفهمة‏.‏ والأعجمي الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه سواء كان من العجم أو العرب، والعجمي منسوب إلى أمة العجم فصيحاً كان أو غير فصيح، والمعنى أن آيات الله على أي طريقة جاءتهم وجدوا فيها متعنتاً لأنهم غير طالبين للحق وإنما يتبعون أهواءهم، وفيه إشارة إلى أنه لو أنزله بلسان العجم لكان قرآناً فيكون دليلاً لأبي حنيفة رضي الله عنه في جواز الصلاة إذا قرأ بالفارسية‏.‏ ‏{‏قُلْ هُوَ‏}‏ أي القرآن ‏{‏لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى‏}‏ إرشاد إلى الحق ‏{‏وَشِفَاءٌ‏}‏ لما في الصدور من الشك إذ الشك مرض ‏{‏والذين لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ‏}‏ في موضع الجر لكونه معطوفاً على ‏{‏الذين آمَنْوا‏}‏ أي هو للذين آمنوا هدى وشفاء، وهو للذين لا يؤمنون في آذانهم وقر أي صمم إلا أن فيه عطفاً على عاملين وهو جائز عند الأخفش، أو الرفع وتقديره والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر على حذف المبتدأ أو في آذانهم منه وقر ‏{‏وَهُوَ‏}‏ أي القرآن ‏{‏عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏ ظلمة وشبهة ‏{‏أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏ يعني أنهم لعدم قبولهم وانتفاعهم كأنهم ينادون إلى الإيمان بالقرآن من حيث لا يسمعون لبعد المسافة‏.‏ وقيل‏:‏ ينادون في القيامة من مكان بعيد بأقبح الأسماء‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ‏}‏ فقال بعضهم‏:‏ هو حق‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو باطل كما اختلف قومك في كتابك ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ‏}‏ بتأخير العذاب ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ لأهلكهم إهلاك استئصال‏.‏ وقيل‏:‏ الكلمة السابقة هي العدة بالقيامة وأن الخصومات تفصل في ذلك اليوم ولولا ذلك لقضي بينهم في الدنيا ‏{‏وإِنَّهُمْ‏}‏ وإن الكفار ‏{‏لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ‏}‏ موقع في الريبة ‏{‏مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ‏}‏ فنفسه نفع ‏{‏وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا‏}‏ فنفسه ضر ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ فيعذب غير المسيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 54‏]‏

‏{‏إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ‏(‏47‏)‏ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏48‏)‏ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ‏(‏49‏)‏ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏50‏)‏ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ‏(‏51‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏53‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة‏}‏ أي علم قيامها يرد إليه أي يجب على المسؤول أن يقول الله يعلم ذلك ‏{‏وَمَا تَخْرُجُ مِن ثمرات‏}‏ مدني وشامي وحفص وغيرهم بغير ألف ‏{‏مِّنْ أَكْمَامِهَا‏}‏ أوعيتها قبل أن تنشق جمع «كم» ‏{‏وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى‏}‏ حملها ‏{‏وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ‏}‏ أي ما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع إلا وهو عالم به، يعلم عدد أيام الحمل وساعاته وأحواله من الخداج والتمام والذكورة والأنوثة والحسن والقبح وغير ذلك ‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِى‏}‏ أضافهم إلى نفسه على زعمهم وبيانه في قوله ‏{‏أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ‏}‏ وفيه تهكم وتقريع ‏{‏قَالُواْ ءَاذَنَّاكَ‏}‏ أعلمناك وقيل أخبرناك وهو الأظهر إذ الله تعالى كان عالماً بذلك وإعلام العالم محال، أما الإخبار للعالم بالشيء فيتحقق بما علم به إلا أن يكون المعنى إنك علمت من قلوبنا الآن إنا لنشهد تلك الشهادة الباطلة، لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنه أعلموه‏.‏

‏{‏مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ‏}‏ أي ما منا أحد اليوم يشهد بأن لك شريكاً وما منا إلا من هو موحد لك، أو مامنا من أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم لا يبصرونها في ساعة التوبيخ‏.‏ وقيل‏:‏ هو كلام الشركاء أي ما منا من شهيد يشهد بما أضافوا إلينا من الشركة ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ‏}‏ يعبدون ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ في الدنيا ‏{‏وَظَنُّواْ‏}‏ وأيقنوا ‏{‏مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ‏}‏ مهرب‏.‏ ‏{‏لاَّ يَسْئَمُ‏}‏ لا يمل ‏{‏الإنسانث‏}‏ الكافر بدليل قوله ‏{‏وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً‏}‏ ‏{‏مِن دُعَآءِ الخير‏}‏ من طلب السعة في المال والنعمة والتقدير من دعائه الخير فحذف الفاعل وأضيف إلى المفعول ‏{‏وَإِن مَّسَّهُ الشر‏}‏ الفقر ‏{‏فَيَئُوسٌ‏}‏ من الخير ‏{‏قَنُوطٌ‏}‏ من الرحمة بولغ فيه من طريقين‏:‏ من طريق بناء فعول، ومن طريق التكرير‏.‏ والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر أي يقطع الرجاء من فضل الله وروحه وهذا صفة الكافر بدليل قوله تعالى ‏{‏إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 87‏]‏ ‏{‏وَلَئِنْ أذقناه رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِى‏}‏ وإذا فرجنا عنه بصحة بعد مرض أو سعة بعد ضيق قال هذا لي أي هذا حقي وصل إليّ لأني استوجبته بما عندي من خير وفضل وأعمال بر، أو هذا لي لا يزول عني ‏{‏وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً‏}‏ أي ما أظنها تكون قائمة ‏{‏وَلَئِن رُّجِعْتُ إلى رَبِّى‏}‏ كما يقول المسلمون ‏{‏إِنَّ لِى عِندَهُ‏}‏ عند الله ‏{‏للحسنى‏}‏ أي الجنة أو الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة قائساً أمر الآخرة على أمر الدنيا ‏{‏فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ فلنخبرنهم بحقيقة ما علموا من الأعمال الموجبة للعذاب ‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ شديد لا يفتر عنهم‏.‏

‏{‏وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ‏}‏ هذا ضرب آخر من طغيان الإنسان إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة فنسي المنعم وأعرض عن شكره ‏{‏وَنَئَا بِجَانِبِهِ‏}‏ وتباعد عن ذكرالله ودعائه أو ذهب بنفسه وتكبر وتعظم، وتحقيقه أن يوضع جانبه موضع نفسه لأن مكان الشيء وجهته ينزل منزلة نفسه ومنه قول الكتاب كتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز يريدون نفسه وذاته فكأنه قال‏:‏ ونأى بنفسه ‏{‏وَإِذَا مَسَّهُ الشر‏}‏ الضر والفقر ‏{‏فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ‏}‏ كثير أي أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع‏.‏ وقد استعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه وهو من صفة الأجرام كما استعير الغلظ لشدة العذاب، ولا منافاة بين قوله ‏{‏فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ‏}‏ وبين قوله ‏{‏فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ‏}‏ لأن الأول في قوم والثاني في قوم، أو قنوط في البر وذو دعاء عريض في البحر، أو قنوط بالقلب ذو دعاء عريض باللسان، أو قنوط من الصنم ذو دعاء لله تعالى‏.‏

‏{‏قُلْ أَرَءَيْتُمْ‏}‏ أخبروني ‏{‏إِن كَانَ‏}‏ القرآن ‏{‏مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ‏}‏ ثم جحدتم أنه من عند الله ‏{‏مَنْ أَضَلُّ‏}‏ منكم إلا أنه وضع قوله ‏{‏مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏ موضع «منكم» بياناً لحالهم وصفتهم ‏{‏سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الآفاق‏}‏ من فتح البلاد شرقاً وغرباً ‏{‏وَفِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ فتح مكة ‏{‏حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق‏}‏ أي القرآن أو الإسلام ‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ‏}‏ موضع ‏{‏بِرَبّكَ‏}‏ الرفع على أنه فاعل والمفعول محذوف وقوله ‏{‏أَنَّهُ على كُلّ شَئ شَهِيدٌ‏}‏ بدل منه تقديره أولم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد أي أولم تكفهم شهادة ربك على كل شيء، ومعناه أن هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب الذي هو على كل شيء شهيد‏.‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ‏}‏ شك ‏{‏مِّن لّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَئ مُّحِيطُ‏}‏ عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها وظواهرها وبواطنها فلا تخفى عليه خافية فيجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربهم‏.‏

سورة الشورى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ عسق ‏(‏2‏)‏ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏4‏)‏ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏5‏)‏ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏6‏)‏ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ‏(‏7‏)‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏8‏)‏ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏10‏)‏ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏11‏)‏‏}‏

فصل ‏{‏حم‏}‏ من ‏{‏عسق‏}‏ كتابة مخالفاً ل ‏{‏كهيعص‏}‏ تلفيقاً بأخواتها ولأنه آيتان و‏{‏كهيعص‏}‏ آية واحدة ‏{‏كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ‏}‏ أي مثل ذلك الوحي أو مثل ذلك الكتاب يوحي إليك ‏{‏وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ‏}‏ وإلى الرسل من قبلك ‏{‏الله‏}‏ يعني أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله وفي غيرها من السور، وأوحاه إلى من قبلك يعني إلى رسله‏.‏ والمعنى أن الله كرر هذه المعاني في القرآن وفي جميع الكتب السماوية لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ليس من نبي صاحب كتاب إلا أوحي إليه ب ‏{‏حم عسق‏}‏‏.‏ ‏{‏يُوحَى‏}‏ بفتح الحاء‏:‏ مكي‏.‏ ورافع اسم الله على هذه القراءة ما دل عليه ‏{‏يُوحَى‏}‏ كأن قائلاً قال‏:‏ من الموحي‏؟‏ فقيل‏:‏ الله ‏{‏العزيز‏}‏ الغالب بقهره ‏{‏الحكيم‏}‏ المصيب في فعله وقوله ‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ ملكاً وملكاً ‏{‏وَهُوَ العلى‏}‏ شأنه ‏{‏العظيم‏}‏ برهانه‏.‏

‏{‏تَكَادُ السماوات‏}‏ وبالياء‏:‏ نافع وعلي‏.‏ ‏{‏يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ‏}‏ يتشققن، ‏{‏ينفطرن‏}‏‏:‏ بصري وأبو بكر ومعناه يكدن ينفطرن من علو شأن الله وعظمته يدل عليه مجيئه بعد قوله ‏{‏العلى العظيم‏}‏ وقيل‏:‏ من دعائهم له ولداً كقوله ‏{‏تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 90‏]‏ ومعنى ‏{‏مِن فَوْقِهِنَّ‏}‏ أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية‏.‏ وكان القياس أن يقال ينفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها كلمة الكفر لأنها جاءت من الذين تحت السماوات، ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في جهة الفوق كأنه قيل‏:‏ يكدن ينفطرن من الجهة التي فوقهن مع الجهة التي تحتهن‏.‏ وقيل‏:‏ من فوقهن من فوق الأرض فالكناية راجعة إلى الأرض لأنه بمعنى الأرضين‏.‏ وقيل‏:‏ يتشققن لكثرة ما على السماوات من الملائكة، قال عليه السلام «أطت السماء أطاً وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد» ‏{‏والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ‏}‏ خضوعاً لما يرون من عظمته ‏{‏وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأرض‏}‏ أي للمؤمنين منهم كقوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏ خوفاً عليهم من سطواته أو يوحدون الله وينزهونه عما لا يجوز عليه من الصفات حامدين له على ما أولاهم من ألطافه، متعجبين مما رأوا من تعرضهم لسخط الله تعالى، ويستغفرون لمؤمني أهل الأرض الذين تبرءوا من تلك الكلمة، أو يطلبون إلى ربهم أن يحلم عن أهل الأرض ولا يعاجلهم بالعقاب ‏{‏أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم‏}‏ لهم ‏{‏والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ‏}‏ أي جعلوا له شركاء وأنداداً ‏{‏الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ رقيب على أقوالهم وأعمالهم لا يفوته منها شيء فيجازيهم عليها ‏{‏وَمَآ أَنتَ‏}‏ يا محمد ‏{‏عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ‏}‏ بموكل عليهم ولا مفوض إليك أمرهم إنما أنت منذر فحسب‏.‏

‏{‏وكذلك‏}‏ ومثل ذلك ‏{‏أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ‏}‏ وذلك إشارة إلى معنى الآية التي قبلها من أن الله رقيب عليهم لا أنت بل أنت منذر لأن هذا المعنى كرره الله في كتابه أو هو مفعول به ل ‏{‏أَوْحَيْنَا‏}‏ ‏{‏قُرْءَاناً عَرَبِيّاً‏}‏ حال من المفعول به أي أوحيناه إليك وهو قرآن عربي بيّن ‏{‏لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى‏}‏ أي مكة لأن الأرض دحيت من تحتها ولأنها أشرف البقاع والمراد أهل أم القرى ‏{‏وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ من العرب ‏{‏وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع‏}‏ يوم القيامة لأن الخلائق تجتمع فيه ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ اعتراض لا محل له، يقال‏:‏ أنذرته كذا وأنذرته بكذا‏.‏ وقد عدي ‏{‏لّتُنذِرَ أُمَّ القرى‏}‏ إلى المفعول الأول ‏{‏وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع‏}‏ إلى المفعول الثاني ‏{‏فَرِيقٌ فِى الجنة وَفَرِيقٌ فِى السعير‏}‏ أي منهم فريق في الجنة ومنهم فريق في السعير، والضمير للمجموعين لأن المعنى يوم جمع الخلائق‏.‏

‏{‏وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحدة‏}‏ أي مؤمنين كلهم ‏{‏ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ‏}‏ أي يكرم من يشاء بالإسلام ‏{‏والظالمون‏}‏ والكافرون ‏{‏مَا لَهُمْ مِّن وَلِىٍّ‏}‏ شافع ‏{‏وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ دافع ‏{‏أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فالله هُوَ الولى‏}‏ الفاء لجواب شرط مقدر كأنه قيل بعد إنكار كل ولي سواه إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي بالحق، وهو الذي يجب أن يتولى وحده لا ولي سواه‏.‏ ‏{‏وَهُوَ يُحْىِ الموتى وَهُوَ على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء ‏{‏وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَئ‏}‏ حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أي ما خالفتكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمر من أمور الدين ‏{‏فَحُكْمُهُ‏}‏ أي حكم ذلك المختلف فيه مفوض ‏{‏إِلَى الله‏}‏ وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاقبة المبطلين ‏{‏ذلكم‏}‏ الحاكم بينكم ‏{‏الله رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏ فيه رد كيد أعداء الدين ‏{‏وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ أرجع في كفاية شرهم‏.‏ وقيل‏:‏ وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه فقولوا‏:‏ الله أعلم كمعرفة الروح وغيره‏.‏

‏{‏فَاطِرُ السماوات والأرض‏}‏ ارتفاعه عل أنه أحد أخبار ‏{‏ذلكم‏}‏ أو خبر مبتدأ محذوف ‏{‏جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏ خلق لكم من جنسكم من الناس ‏{‏أزواجا وَمِنَ الأنعام أزواجا‏}‏ أي وخلق للأنعام أيضاً من أنفسها أزواجاً ‏{‏يَذْرَؤُكُمْ‏}‏ يكثركم‏.‏ يقال‏:‏ ذرأ الله الخلق بثهم وكثرهم ‏{‏فِيهِ‏}‏ في هذا التدبير وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل، واختير ‏{‏فِيهِ‏}‏ على «به» لأنه جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير‏.‏

والضمير في ‏{‏يَذْرَؤُكُمْ‏}‏ يرجع إلى المخاطبين والأنعام مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ‏}‏ قيل‏:‏ إن كلمة التشبيه كررت لتأكيد نفي التماثل وتقديره ليس مثله شيء‏.‏ وقيل‏:‏ المثل زيادة وتقديره ليس كهو شيء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ ءامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنْتُمْ بِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 137‏]‏‏.‏ وهذا لأن المراد نفي المثلية، وإذا لم تجعل الكاف أو المثل زيادة كان إثبات المثل‏.‏ وقيل‏:‏ المراد ليس كذاته شيء لأنهم يقولون «مثلك لا يبخل» يريدون به نفي البخل عن ذاته ويقصدون المبالغة في ذلك بسلوك طريق الكناية، لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده فقد نفوه عنه فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله «ليس كالله شيء» وبين قوله ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ‏}‏ إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها وكأنهم عبارتان متعقبتان على معنى واحد وهو نفي المماثلة عن ذاته ونحوه ‏{‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏ فمعناه بل هو جواد من غير تصور يد ولا بسط لها، لأنها وقعت عبارة عن الجود حتى إنهم استعملوها فيمن لا يد له فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل له ‏{‏وَهُوَ السميع‏}‏ لجميع المسموعات بلا أذن ‏{‏البصير‏}‏ لجميع المرئيات بلا حدقة، وكأنه ذكرهما لئلا يتوهم أنه لا صفة له كما لا مثل له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 22‏]‏

‏{‏لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏12‏)‏ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏14‏)‏ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏15‏)‏ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ‏(‏16‏)‏ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ‏(‏17‏)‏ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏18‏)‏ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ‏(‏19‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ‏(‏20‏)‏ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏21‏)‏ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض‏}‏ مر في «الزمر» ‏{‏يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ‏}‏ أي يضيق ‏{‏إِنَّهُ بِكُلِّ شَئ عَلِيمٌ شَرَعَ‏}‏ بين وأظهر ‏{‏لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى‏}‏ أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء عليهم السلام، ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله ‏{‏أَنْ أَقِيمُواْ الدين‏}‏ والمراد إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء وسائر ما يكون المرء بإقامته مسلماً، ولم يرد به الشرائع فإنها مختلفة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏ ومحل ‏{‏أَنْ أَقِيمُواْ‏}‏ نصب بدل من مفعول ‏{‏شَرَعَ‏}‏ والمعطوفين عليه، أو رفع على الاستئناف كأنه قيل وما ذلك المشروع‏؟‏ فقيل‏:‏ هو إقامة الدين ‏{‏وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ‏}‏ ولا تختلفوا في الدين قال علي رضي الله عنه‏:‏ لا تتفرقوا فالجماعة رحمة والفرقة عذاب‏.‏ ‏{‏كَبُرَ عَلَى المشركين‏}‏ عظم عليهم وشق عليهم ‏{‏مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ‏}‏ من إقامة دين الله والتوحيد ‏{‏الله يَجْتَبِى‏}‏ يجتلب ويجمع ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ إلى الدين بالتوفيق والتسديد ‏{‏مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ‏}‏ يقبل على طاعته ‏{‏وَمَا تَفَرَّقُواْ‏}‏ أي أهل الكتاب بعد أنبيائهم ‏{‏إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم‏}‏ إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلال وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء عليهم السلام ‏{‏بَغْياً بَيْنَهُمْ‏}‏ حسداً وطلباً للرياسة والاستطالة بغير حق ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ وهي ‏{‏بل الساعة موعدهم‏}‏ ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ لأهلكوا حين افترقوا لعظم ما اقترفوا ‏{‏وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ‏}‏ من كتابهم لا يؤمنون به حق الإيمان ‏{‏مُرِيبٍ‏}‏ مدخل في الريبة‏.‏ وقيل‏:‏ وما تفرق أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة‏}‏ ‏{‏وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 14‏]‏‏.‏ هم المشركون أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل‏.‏

‏{‏فَلِذَلِكَ‏}‏ فلأجل ذلك التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعباً ‏{‏فادع‏}‏ إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية القوية ‏{‏واستقم‏}‏ عليها وعلى الدعوة إليها ‏{‏كَمَا أُمِرْتَ‏}‏ كما أمرك الله ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ‏}‏ المختلفة الباطلة ‏{‏وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَا أَنزَلَ الله مِن كتاب‏}‏ بأي كتاب صح أن الله تعالى أنزله يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض كقوله‏:‏ ‏{‏وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ‏}‏ إلى قوله

‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 150-151‏]‏ ‏{‏وَأُمِرْتُ لأَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ‏}‏ في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إليّ ‏{‏الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ‏}‏ أي كلنا عبيده ‏{‏لَنَآ أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم‏}‏ هو كقوله ‏{‏لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 6‏]‏ ويجوز أن يكون معناه إنا لا نؤاخذ بأعمالكم وأنتم لا تؤاخذون بأعمالنا ‏{‏لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ‏}‏ أي لا خصومة لأن الحق قد ظهر وصرتم محجوبين به فلا حاجة إلى المحاجة، ومعناه لا إيراد حجة بيننا لأن المتحاجين يورد هذا حجته وهذا حجته ‏{‏الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا‏}‏ يوم القيامة ‏{‏وَإِلَيْهِ المصير‏}‏ المرجع لفصل القضاء فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم ‏{‏والذين يُحَآجُّونَ فِى الله‏}‏ يخاصمون في دينه ‏{‏مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ‏}‏ من بعد ما استجاب له الناس ودخلوا في الإسلام ليردوهم إلى دين الجاهلية كقوله‏:‏ ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إيمانكم كُفَّارًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 109‏]‏‏.‏ كان اليهود والنصارى يقولون للمؤمنين‏:‏ كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فنحن خير منكم وأولى بالحق‏.‏ وقيل‏:‏ من بعد ما استجيب لمحمد عليه السلام دعاؤه على المشركين يوم بدر ‏{‏حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ‏}‏ باطلة وسماها حجة وإن كانت شبهة لزعمهم أنها حجة ‏{‏عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ‏}‏ بكفرهم ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ في الآخرة‏.‏

‏{‏الله الذى أَنزَلَ الكتاب‏}‏ أي جنس الكتاب ‏{‏بالحق‏}‏ بالصدق أو ملتبساً به ‏{‏والميزان‏}‏ والعدل والتسوية‏.‏ ومعنى إنزال العدل أنه أنزله في كتبه المنزلة‏.‏ وقيل‏:‏ هو عين الميزان أنزله في زمن نوح عليه السلام ‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ‏}‏ أي لعل الساعة قريب منك وأنت لا تدري والمراد مجيء الساعة، أوالساعة في تأويل البعث‏.‏ ووجه مناسبة اقتراب الساعة مع إنزال الكتب والميزان أن الساعة يوم الحساب ووضع الموازين بالقسط فكأنه قيل‏:‏ أمركم الله بالعدل والتسوية والعمل بالشرائع فاعملوا بالكتاب والعدل قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم ووزن أعمالكم‏.‏ ‏{‏يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا‏}‏ استهزاء ‏{‏والذين ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ‏}‏ خائفون ‏{‏مِنْهَا‏}‏ وجلون لهولها ‏{‏وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق‏}‏ الكائن لا محالة ‏{‏أَلآ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَى الساعة‏}‏ المماراة الملاحّة لأن كل واحد منهما يمري ما عند صاحبه ‏{‏لَفِى ضلال بَعِيدٍ‏}‏ عن الحق لأن قيام الساعة غير مستبعد من قدرة الله تعالى، وقد دل الكتاب والسنة على وقوعها، والعقول تشهد على أنه لا بد من دار جزاء‏.‏

‏{‏الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ‏}‏ في إيصال المنافع وصرف البلاء من وجه يلطف إدراكه وهو بر بليغ البر بهم قد توصل بره إلى جميعهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو من لطف بالغوامض علمه وعظم عن الجرائم حلمه، أو من ينشر المناقب ويستر المثالب، أو يعفو عمن يهفو، أو يعطي العبد فوق الكفاية ويكلفه الطاعة دون الطاقة‏.‏

وعن الجنيد‏:‏ لطف بأوليائه فعرفوه ولو لطف بأعدائه ما جحدوه ‏{‏يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ‏}‏ أي يوسع رزق من يشاء إذا علم مصلحته فيه، في الحديث ‏"‏ إن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك ‏"‏ ‏{‏وَهُوَ القوى‏}‏ الباهر القدرة الغالب على كل شيء ‏{‏العزيز‏}‏ المنيع الذي لا يغلب‏.‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة‏}‏ سمى ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة حرثاً مجازاً ‏{‏نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ‏}‏ بالتوفيق في عمله أو التضعيف في إحسانه أو بأن ينال به الدنيا والآخرة ‏{‏وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا‏}‏ أي من كان عمله للدنيا ولم يؤمن بالآخرة ‏{‏نُؤْتِهِ مِنْهَا‏}‏ أي شيئاً منها لأن «من» للتبعيض وهو رزقه الذي قسم له لا ما يريده ويبتغيه ‏{‏وَمَا لَهُ فِى الآخرة مِن نَّصِيبٍ‏}‏ وماله نصيب قط في الآخرة وله في الدينا نصيب، ولم يذكر في عامل الآخرة أن رزقه المقسوم يصل إليه للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله وفوزه في المآب ‏{‏أَمْ لَهُمْ شركاؤا‏}‏ قيل‏:‏ هي «أم» المنقطعة وتقديره بل ألهم شركاء‏.‏ وقيل‏:‏ هي المعادلة لألف الاستفهام‏.‏ وفي الكلام إضمار تقديره أيقبلون ما شرع الله من الدين أم لهم آلهة ‏{‏شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله‏}‏ أي لم يأمر به‏؟‏ ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل‏}‏ أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء أي ولولا العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ بين الكافرين والمؤمنين أو لعجلت لهم العقوبة ‏{‏وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ وإن المشركين لهم عذاب أليم في الآخرة وإن أخر عنهم في دار الدنيا ‏{‏تَرَى الظالمين‏}‏ المشركين في الآخرة ‏{‏مُشْفِقِينَ‏}‏ خائفين ‏{‏مِمَّا كَسَبُواْ‏}‏ من جزاء كفرهم ‏{‏وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ‏}‏ نازل بهم لا محالة أشفقوا أو لم يشفقوا ‏{‏والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِى روضات الجنات‏}‏ كأن روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها ‏{‏لَهُم مَّا يَشَآءَونَ عِندَ رَبِّهِمْ‏}‏ عند نصب بالظرف لا ب «يشاؤون» ‏{‏ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير‏}‏ على العمل القليل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 32‏]‏

‏{‏ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏23‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏24‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏25‏)‏ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ‏(‏26‏)‏ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏27‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏28‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ‏(‏30‏)‏ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏31‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي الفضل الكبير ‏{‏الذى يُبَشِّرُ الله‏}‏ ‏{‏يَبْشُر‏}‏ مكي وأبو عمرو وحمزة وعلي ‏{‏عِبَادَهُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ أي به عباده الذين آمنوا فحذف الجار كقوله ‏{‏واختار موسى قَوْمَهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏ ثم حذف الراجع إلى الموصول كقوله ‏{‏أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 41‏]‏‏.‏ ولما قال المشركون‏:‏ أيبتغي محمد على تبليغ الرسالة أجراً نزل ‏{‏قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ‏}‏ على التبليغ ‏{‏أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى‏}‏ يجوز أن يكون استثناء متصلاً أي لا أسألكم عليه أجراً إلا هذا وهو أن تودوا أهل قرابتي، ويجوز أن يكون منقطعاً أي لا أسألكم عليه أجراً قط ولكني أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم‏.‏ ولم يقل إلا مودة القربى أو المودة للقربى لأنهم جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها كقولك «لي في آل فلان مودة ولي فيهم حب شديد» تريد أحبهم وهم مكان حبي ومحله‏.‏ وليست «في» بصلة ل ‏{‏المودة‏}‏ كاللام إذا قلت إلا المودة للقربى، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك «المال في الكيس» وتقديره إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها‏.‏ والقربى مصدر كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة، والمراد في أهل القربى‏.‏ ورُوي أنه لما نزلت قيل‏:‏ يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم‏؟‏ قال‏:‏ علي وفاطمة وابناهما‏.‏ وقيل‏:‏ معناه إلا أن تودوني لقرابتي فيكم ولا تؤذوني ولا تهيجوا علي إذ لم يكن من بطون قريش إلا بين رسول الله وبينهم قرابة‏.‏ وقيل‏:‏ القربى التقرب إلى الله تعالى أي إلا أن تحبوا الله ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح ‏{‏وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً‏}‏ يكتسب طاعة‏.‏ عن السدي‏:‏ أنها المودة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ومودته فيهم والظاهر العموم في أي حسنة كانت إلا أنها تتناول المودة تناولاً أولياً لذكرها عقيب ذكر المودة في القربى‏.‏

‏{‏نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً‏}‏ أي نضاعفها كقوله ‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏ وقرئ ‏{‏حسنى‏}‏ وهو مصدر كالبشرى والضمير يعود إلى الحسنة أو إلى الجنة ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ لمن أذنب بطوله ‏{‏شَكُورٌ‏}‏ لمن أطاع بفضله‏.‏ وقيل‏:‏ قابل للتوبة حامل عليها‏.‏ وقيل‏:‏ الشكور في صفة الله تعالى عبارة عن الاعتداد بالطاعة وتوفية ثوابها والتفضل على المثاب ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً‏}‏ «أم» منقطعة ومعنى الهمزة فيه التوبيخ كأنه قيل‏:‏ أيتمالكون أن ينسبوا مثله إلى الافتراء ثم إلى الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها‏؟‏ ‏{‏فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أي يربط على قلبك بالصبر على أذاهم وعلى قولهم ‏{‏افترى عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ لئلا تدخله مشقة بتكذيبهم ‏{‏وَيَمْحُ الله الباطل‏}‏ أي الشرك وهو كلام مبتدأ غير معطوف على ‏{‏يَخْتِمْ‏}‏ لأن محو الباطل غير متعلق بالشرط بل هو وعد مطلق دليله تكرار اسم الله تعالى ورفع ‏{‏وَيُحِقُّ‏}‏ وإنما سقطت الواو في الخط كما سقطت في

‏{‏وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءهُ بالخير‏}‏ ‏[‏الاسراء‏:‏ 11‏]‏ و‏{‏سَنَدْعُ الزبانية‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 18‏]‏ على أنها مثبتة في مصحف نافع ‏{‏وَيُحِقُّ الحق‏}‏ ويظهر الإسلام ويثبته ‏{‏بكلماته‏}‏ مما أنزل من كتابه على لسان نبيه عليه السلام وقد فعل الله ذلك فمحا باطلهم وأظهر الإسلام‏.‏

‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ أي عليم بما في صدرك وصدورهم فيجزي الأمر على حسب ذلك‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ‏}‏ يقال‏:‏ قبلت منه الشيء إذا أخذته منه وجعلته مبدأ قبولي‏.‏ ويقال‏:‏ قبلته عنه أي عزلته عنه وأبنته عنه‏.‏ والتوبة أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب بالندم عليهما والعزم على أن لا يعود، وإن كان لعبد فيه حق لم يكن بد من التفصي على طريقه‏.‏ وقال علي رضي الله عنه‏:‏ هو اسم يقع على ستة معانٍ‏:‏ على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقناها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته‏.‏ وعن السدي‏:‏ هو صدق العزيمة على ترك الذنوب والإنابة بالقلب إلى علام الغيوب‏.‏ وعن غيره‏:‏ هو أن لا يجد حلاوة الذنب في القلب عند ذكره‏.‏ وعن سهل‏:‏ هو الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة‏.‏ وعن الجنيد‏:‏ هو الإعراض عما دون الله ‏{‏وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات‏}‏ وهو ما دون الشرك، يعفو لمن يشاء بلا توبة ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ بالتاء‏:‏ كوفي غير أبي بكر أي من التوبة والمعصية ولا وقف عليه للعطف عليه واتصال المعنى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَجِيبُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ‏}‏ أي إذا دعوه استجاب دعاءهم وأعطاهم ما طلبوه وزادهم على مطلوبهم‏.‏ واستجاب وأجاب بمعنى، والسين في مثله لتوكيد الفعل كقولك «تعظم» و«استعظم» والتقدير ويجيب الله الذين آمنوا‏.‏ وقيل‏:‏ معناه ويستجيب للذين فحذف اللام‏.‏ مَنَّ عَليهم بأن يقبل توبتهم إذا تابوا ويعفو عن سيآتهم ويستجيب لهم إذا دعوه ويزيدهم على ما سألوه، وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له‏:‏ ما لنا ندعوه فلا نجاب‏؟‏ قال‏:‏ لأنه دعاكم فلم تجيبوه ‏{‏والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ في الآخرة‏.‏

‏{‏وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ‏}‏ أي لو أغناهم جميعاً ‏{‏لَبَغَوْاْ فِى الأرض‏}‏ من البغي وهو الظلم أي لبغي هذا على ذاك وذاك على هذا لأن الغني مبطرة مأشرة، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة أو من البغي وهو الكبر أي لتكبّروا في الأرض ‏{‏ولكن يُنَزِّلُ‏}‏ بالتخفيف‏:‏ مكي وأبو عمرو ‏{‏بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ‏}‏ بتقدير يقال قدره قدراً وقدراً ‏{‏إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ‏}‏ يعلم أحوالهم فيقدر لهم ما تقتضيه حكمته فيفقر ويغني ويمنع ويعطي ويقبض ويبسط، ولو أغناهم جميعاً لبغوا ولو أفقرهم لهلكوا، وما ترى من البسط على من يبغي ومن البغي بدون البسط فهو قليل، ولا شك أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب‏.‏

‏{‏وَهُوَ الذى يُنَزِّلُ الغيث‏}‏ بالتشديد‏:‏ مدني وشامي وعاصم ‏{‏مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ‏}‏ وقرئ ‏{‏قِنطواْ‏}‏ ‏{‏وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ‏}‏ أي بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب‏.‏ وقيل لعمر رضي الله عنه‏:‏ اشتد القحط وقنط الناس‏.‏ فقال‏:‏ مطروا إذا أراد هذه الآية‏.‏ أو أراد رحمته في كل شيء ‏{‏وَهُوَ الولى‏}‏ الذي يتولى عباده بإحسانه ‏{‏الحميد‏}‏ المحمود على ذلك يحمده أهل طاعته ‏{‏وَمِنْ ءاياته‏}‏ أي علامات قدرته ‏{‏خَلْقُ السماوات والأرض‏}‏ مع عظمهما ‏{‏وَمَا بَثَّ‏}‏ فرق ‏{‏وَمَا‏}‏ يجوز أن يكون مرفوعاً ومجروراً حملاً على المضاف أو المضاف إليه ‏{‏فِيهِمَا‏}‏ من السماوات والأرض ‏{‏مِن دَابَّةٍ‏}‏ الدواب تكون في الأرض وحدها لكن يجوز أن ينسب الشيء إلى جميع المذكور وإن كان ملتبساً ببعضه كما يقال‏:‏ بنو تميم فيهم شاعر مجيد وإنما هو في فخذ من أفخاذهم ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 22‏]‏ وإنما يخرج من الملح، ولا يبعد أن يخلق في السماوات حيوانات يمشون فيها مشي الأناسي على الأرض، أو يكون للملائكة مشي مع الطيران فوصفوا بالدبيب كما وصف به الأناسي ‏{‏وَهُوَ على جَمْعِهِمْ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ‏}‏ «إذا» تدخل على المضارع كما تدخل على الماضي، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏واليل إِذَا يغشى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 1‏]‏‏.‏

‏{‏وَمَآ أصابكم مِّن مُّصِيبَةٍ‏}‏ غم وألم ومكروه ‏{‏فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ أي بجناية كسبتموها عقوبة عليكم‏.‏ ‏{‏بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ بغير الفاء‏:‏ مدني وشامي على أن «ما» مبتدأ و‏{‏بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ خبره من غير تضمين معنى الشرط، ومن أثبت الفاء فعلى تضمين معنى الشرط‏.‏ وتعلق بهذه الآية من يقول بالتناسخ وقال لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألموا‏.‏ وقلنا‏:‏ الآية مخصومة بالمكلفين بالسباق والسياق وهو ‏{‏وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ‏}‏ أي من الذنوب فلا يعاقب عليه أو عن كثير من الناس فلا يعاجلهم بالعقوبة، وقال ابن عطاء‏:‏ من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه وأن ما عفا عنه مولاه أكثر كان قليل النظر في إحسان ربه إليه‏.‏ وقال محمد بن حامد‏:‏ العبد ملازم للجنايات في كل أوان وجناياته في طاعته أكثر من جناياته في معاصيه لأن جناية المعصية من وجه وجناية الطاعة من وجوه والله يطهر عبده من جناياته بأنواع من المصائب ليخفف عنه أثقاله في القيامة، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أول خطوة، وعن علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ هذه أرجى آية للمؤمنين في القرآن لأن الكريم إذا عاقب مرة لا يعاقب ثانياً وإذا عفا لا يعود ‏{‏وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الأرض‏}‏ أي بفائتين ما قضى عليكم من المصائب ‏{‏وَمَا لَكُم مِّن دُونِ الله مِن وَلِىٍّ‏}‏ متول بالرحمة ‏{‏وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ ناصر يدفع عنكم العذاب إذا حل بكم‏.‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته الجوار‏}‏ جمع جارية وهي السفينة ‏{‏الجواري‏}‏ في الحالين‏:‏ مكي وسهل ويعقوب، وافقهم مدني وأبو عمر في الوصل ‏{‏فِى البحر كالاعلام‏}‏ كالجبال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 50‏]‏

‏{‏إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏33‏)‏ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ‏(‏34‏)‏ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏35‏)‏ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏36‏)‏ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ‏(‏37‏)‏ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ‏(‏39‏)‏ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏40‏)‏ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏41‏)‏ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏43‏)‏ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏44‏)‏ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ‏(‏45‏)‏ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏46‏)‏ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ‏(‏47‏)‏ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ ‏(‏48‏)‏ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ‏(‏49‏)‏ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح‏}‏ ‏{‏الرياح‏}‏ مدني ‏{‏فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ‏}‏ ثوابت لا تجري ‏{‏على ظَهْرِهِ‏}‏ على ظهر البحر ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّكُلِّ صَبَّارٍ‏}‏ على بلائه ‏{‏شَكُورٍ‏}‏ لنعمائه أي لكل مؤمن مخلص فالإيمان نصفان‏:‏ نصف شكر ونصف صبر‏.‏ أو صبار على طاعته شكور لنعمته ‏{‏أَوْ يُوبِقْهُنَّ‏}‏ يهلكهن فهو عطف على ‏{‏يُسْكِنِ‏}‏ والمعنى إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يعصفها فيغرقن بعصفها ‏{‏بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ من الذنوب ‏{‏وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ‏}‏ منها فلا يجازي عليها‏.‏ وإنما أدخل العفو في حكم الإيباق حيث جزم جزمه لأن المعنى أو إن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً على طريق العفو عنهم ‏{‏وَيَعْلَمَ‏}‏ بالنصب عطف على تعليل محذوف تقديره لينتقم منهم ويعلم ‏{‏الذين يجادلون فِى ءاياتنا‏}‏ أي في إبطالهما ودفعها، ‏{‏وَيَعْلَمُ‏}‏ مدني وشامي على الاستئناف ‏{‏مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ‏}‏ مهرب من عذابه ‏{‏فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَئ فمتاع الحياة الدنيا وَمَا عِندَ الله‏}‏ من الثواب ‏{‏خَيْرٌ وأبقى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ «ما» الأولى ضمنت معنى الشرط فجاءت الفاء في جوابها بخلاف الثانية‏.‏ نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بجميع ماله فلامه الناس ‏{‏والذين يَجْتَنِبُونَ‏}‏ عطف على ‏{‏الذين آمَنُواْ‏}‏ وكذا ما بعده ‏{‏كبائر الإثم‏}‏ أي الكبائر من هذا الجنس، ‏{‏كَبِيرَ الإثم‏}‏ علي وحمزة‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ كبير الإثم هو الشرك‏.‏ ‏{‏والفواحش‏}‏ قيل‏:‏ ما عظم قبحه فهو فاحشة كالزنا ‏{‏وَإِذَا مَا غَضِبُواْ‏}‏ من أمور دنياهم ‏{‏هُمْ يَغْفِرُونَ‏}‏ أي هم الأخصاء بالغفران في حال الغضب والمجيء بهم‏.‏ وإيقاعه مبتدأ وإسناد ‏{‏يَغْفِرُونَ‏}‏ إليه لهذه الفائدة ومثله ‏{‏هُمْ يَنتَصِرُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ‏}‏ نزلت في الأنصار دعاهم الله عز وجل للإيمان به وطاعته فاستجابوا له بأن آمنوا به وأطاعوه ‏{‏وَأَقَامُوا الصلاوة‏}‏ وأتموا الصلوات الخمس ‏{‏وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ‏}‏ أي ذو شورى لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه، وعن الحسن‏:‏ ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم، والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور ‏{‏وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏ يتصدقون‏.‏

‏{‏والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى‏}‏ الظلم ‏{‏هُمْ يَنتَصِرُونَ‏}‏ ينتقمون ممن ظلمهم أي يقتصرون في الانتصار على ما جعله الله تعالى لهم ولا يعتدون، وكانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجتريء عليهم الفساق‏.‏ وإنما حمدوا على الانتصار لأن من انتصر وأخذ حقه ولم يجاوز في ذلك حد الله فلم يسرف في القتل إن كان ولي دم فهو مطيع لله وكل مطيع محمود‏.‏ ثم بين حد الانتصار فقال ‏{‏وجزاؤا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا‏}‏ فالأولى سيئة حقيقة والثانية لا‏.‏

وإنما سميت لأنها مجازاة السوء، أو لأنها تسوء من تنزل به، ولأنه لو لم تكن الأولى لكانت الثانية سيئة لأنها إضرار، وإنما صارت حسنة لغيرها، أو في تسمية الثانية سيئة إشارة إلى أن العفو مندوب إليه‏.‏ والمعنى أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة ‏{‏فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ‏}‏ بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء ‏{‏فَأَجْرُهُ عَلَى الله‏}‏ عدة مبهمة لا يقاس أمرها في العظم ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين‏}‏ الذين يبدءون بالظلم أو الذين يجاوزون حد الانتصار‏.‏ في الحديث‏:‏ ‏"‏ ينادي منادٍ يوم القيامة من كان له أجر على الله فليقم فلا يقوم إلا من عفا ‏"‏ ‏{‏وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ‏}‏ أي أخذ حقه بعدما ظلم على إضافة المصدر إلى المفعول ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ إشارة إلى معنى من دون لفظه ‏{‏مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ‏}‏ للمعاقب ولا للمعاتب والمعايب ‏{‏إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس‏}‏ يبتدئونهم بالظلم ‏{‏وَيَبْغُونَ فِى الأرض‏}‏ يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون ‏{‏بِغَيْرِ الحق أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ وفسر السبيل بالتبعة والحجة ‏{‏وَلَمَن صَبَرَ‏}‏ على الظلم والأذى ‏{‏وَغَفَرَ‏}‏ ولم ينتصر ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ أي الصبر والغفران منه ‏{‏لَمِنْ عَزْمِ الأمور‏}‏ أي من الأمور التي ندب إليها أو مما ينبغي أن يوجبه العاقل على نفسه ولا يترخص في تركه‏.‏ وحذف الراجع أي «منه» لأنه مفهوم كما حذف من قولهم‏:‏ السمن منوان بدرهم، وقال أبو سعيد القرشي‏:‏ الصبر على المكاره من علامات الانتباه، فمن صبر على مكروه يصيبه ولم يجزع أورثه الله تعالى حال الرضا وهو أجل الأحوال، ومن جزع من المصيبات وشكا وكله الله تعالى إلى نفسه ثم لم تنفعه شكواه‏.‏ ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ مِّن بَعْدِهِ‏}‏ فما له من أحد يلي هدايته من بعد إضلال الله إياه ويمنعه من عذابه ‏{‏وَتَرَى الظالمين‏}‏ يوم القيامة ‏{‏لَمَّا رَأَوُاْ العذاب‏}‏ حين يرون العذاب واختير لفظ الماضي للتحقيق ‏{‏يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ‏}‏ يسألون ربهم الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا به‏.‏

‏{‏وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا‏}‏ على النار إذ العذاب يدل عليها ‏{‏خاشعين‏}‏ متضائلين متقاصرين مما يلحقهم ‏{‏مِنَ الذل يَنظُرُونَ‏}‏ إلى النار ‏{‏مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ‏}‏ ضعيف بمسارقة كما ترى المصبور ينظر إلى السيف‏.‏ ‏{‏وَقَالَ الذين ءَامَنُواْ إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ متعلق ب ‏{‏خَسِرُواْ‏}‏ وقول المؤمنين واقع في الدنيا أو يقال أي يقولون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة ‏{‏أَلآ إِنَّ الظالمين فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ‏}‏ دائم ‏{‏وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله‏}‏ من دون عذابه ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ‏}‏ إلى النجاة ‏{‏استجيبوا لِرَبِّكُمْ‏}‏ أي أجيبوه إلى ما دعاكم إليه ‏{‏مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ‏}‏ أي يوم القيامة ‏{‏لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله‏}‏ «من» يتصل ب ‏{‏لاَّ مَرَدَّ‏}‏ أي لا يرده الله بعدما حكم به، أو ب ‏{‏يَأْتِىَ‏}‏ أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده ‏{‏مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ‏}‏ أي ليس لكم مخلص من العذاب ولا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما اقترفتموه ودوّن في صحائف أعمالكم، والنكير الإنكار ‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُواْ‏}‏ عن الإيمان ‏{‏فَمَآ أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً‏}‏ رقيباً ‏{‏إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ‏}‏ ما عليك إلا تبليغ الرسالة وقد فعلت ‏{‏وَإِنَّآ إِذَا أَذَقْنَا الإنسان‏}‏ المراد الجمع لا الواحد ‏{‏مِنَّا رَحْمَةً‏}‏ نعمة وسعة وأمناً وصحة ‏{‏فَرِحَ بِهَا‏}‏ بطر لأجلها ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ‏}‏ بلاء كالمرض والفقر ونحوهما‏.‏

وتوحيد فرح باعتبار اللفظ والجمع في ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ‏}‏ باعتبار المعنى ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ بسبب معاصيهم ‏{‏فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ‏}‏ ولم يقل فإنه كفور ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏‏.‏ والكفور البليغ الكفران‏.‏ والمعنى أنه يذكر البلاء وينسى النعم ويغمطها‏.‏ قيل‏:‏ أريد به كفران النعمة‏.‏ وقيل‏:‏ أريد به الكفر بالله تعالى‏.‏

‏{‏لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إناثا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ‏}‏ أي يقرنهم ‏{‏ذُكْرَاناً وإناثا وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً‏}‏ لما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها، أتبع ذلك أن له تعالى الملك وأنه يقسم النعمة والبلاء كيف أراد ويهب لعباده من الأولاد ما يشاء، فيخص بعضاً بالإناث، وبعضاً بالذكور، وبعضاً بالصنفين جميعاً، ويجعل البعض عقيماً‏.‏ والعقيم التي لا تلد وكذلك رجل عقيم إذا كان لا يولد له‏.‏ وقدم الإناث أولاً على الذكور لأن سياق الكلام أنه فاعل لما يشاؤه لا ما يشاؤه الإنسان، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم والأهم واجب التقديم، وليلي الجنس الذي كانت العرب تعدّه بلاء ذكر البلاء‏.‏ ولما أخر الذكور وهم أحقاء بالتقديم تدارك تأخيرهم بتعريفهم لأن التعريف تنويه وتشهير، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير وعرّف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن ولكن لمقتض آخر فقال ‏{‏ذُكْرَاناً وإناثا‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في الأنبياء عليهم السلام حيث وهب للوط وشعيب إناثاً، ولإبراهيم ذكوراً، ولمحمد صلى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاً، وجعل يحيى وعيسى عليهما السلام عقيمين ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ‏}‏ بكل شيء ‏{‏قَدِيرٌ‏}‏ قادر على كل شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ‏(‏51‏)‏ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏52‏)‏ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ‏}‏ وما صح لأحد من البشر ‏{‏أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً‏}‏ أي إلهاماً كما روي «نفث في روعي» أو رؤيا في المنام كقوله عليه السلام ‏"‏ رؤيا الأنبياء وحي ‏"‏ وهو كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح الولد ‏{‏أَوْ مِن وَرَآءِ‏}‏ حِجَابٍ أي يسمع كلاماً من الله كما سمع موسى عليه السلام من غير أن يبصر السامع من يكلمه‏.‏ وليس المراد به حجاب الله تعالى لا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام من الحجاب ولكن المراد به أن السامع محجوب عن الرؤية في الدنيا ‏{‏أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً‏}‏ أي يرسل ملكاً ‏{‏فَيُوحِىَ‏}‏ أي الملك إليه‏.‏ وقيل‏:‏ وحياً كما أوحي إلى الرسل بواسطة الملائكة ‏{‏أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً‏}‏ أي نبياً كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم‏.‏ و‏{‏وَحْياً‏}‏ و‏{‏أَن يُرْسِلَ‏}‏ مصدران واقعان موقع الحال لأن ‏{‏أَن يُرْسِلَ‏}‏ في معنى إرسالاً و‏{‏مِن وَرَاء حِجَابٍ‏}‏ ظرف واقع موقع الحال كقوله ‏{‏وعلى جُنُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 191‏]‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب أو مرسلاً‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا بأن يوحي أو أن يسمع من وراء حجاب أو أن يرسل رسولاً وهو اختيار الخليل، ‏{‏أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ‏}‏ بالرفع‏:‏ نافع على تقدير أو هو يرسل ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ إذن الله ‏{‏مَا يَشَآءُ‏}‏ من الوحي ‏{‏إِنَّهُ عَلِىٌّ‏}‏ قاهر فلا يمانع ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ مصيب في أقواله وأفعاله فلا يعارض‏.‏

‏{‏وكذلك‏}‏ أي كما أوحينا إلى الرسل قبلك أو كما وصفنا لك ‏{‏أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ إيحاء كذلك ‏{‏رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا‏}‏ يريد ما أوحى إليه لأن الخلق يحيون به في دينهم كما يحيا الجسد بالروح ‏{‏مَا كُنتَ تَدْرِى‏}‏ الجملة حال من الكاف في ‏{‏إِلَيْكَ‏}‏‏.‏ ‏{‏مَا الكتاب‏}‏ القرآن ‏{‏وَلاَ الإيمان‏}‏ أي شرائعه أو ولا الإيمان بالكتاب لأنه إذا كان لا يعلم بأن الكتاب ينزل عليه لم يكن عالماً بذلك الكتاب‏.‏ وقيل‏:‏ الإيمان يتناول أشياء بعضها الطريق إليه العقل، وبعضها الطريق إليه السمع، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل وذاك بما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي ‏{‏ولكن جعلناه‏}‏ أي الكتاب ‏{‏نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى‏}‏ ‏{‏لتدعو‏}‏ وقرئ به ‏{‏إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ الإسلام ‏{‏صراط الله‏}‏ بدل ‏{‏الذى لَهُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض‏}‏ ملكاً وملكاً ‏{‏أَلآ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور‏}‏ هو وعيد بالجحيم ووعد بالنعيم والله أعلم بالصواب‏.‏