فصل: سورة الحجرات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


سورة الحجرات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ‏(‏6‏)‏ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ‏(‏7‏)‏ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ‏}‏ قدّمه وأقدمه منقولان بتثقيل الحشو، والهمزة من قدمه إذا تقدمه في قوله تعالى ‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 98‏]‏ وحذف المفعول ليتناول كل ما وقع في النفس مما يقدم من القول أو الفعل، وجاز أن لا يقصد مفعول والنهي متوجه إلى نفس التقدمة كقوله ‏{‏هُوَ الذى يُحْيىِ وَيُمِيتُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 68‏]‏ أو هو من قدّم بمعنى تقدم كوجه بمعنى توجه ومنه مقدمة الجيش وهي الجماعة المتقدمة منه ويؤيده قراءة يعقوب ‏{‏لاَ تُقَدّمُواْ‏}‏ بحذف إحدى تاءي تتقدموا ‏{‏بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ‏}‏ حقيقة قولهم جلست بين يدي فلان أن تجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه، فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعاً كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره‏.‏ وفي هذه العبارة ضرب من المجاز الذي يسمى تمثيلاً، وفيه فائدة جليلة وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة‏.‏ ويجوز أن يجري مجرى قولك «سرني زيد وحسن حاله» أي سرني حسن حال زيد‏.‏ فكذلك هنا المعنى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفائدة هذا الأسلوب الدلالة على قوة الاختصاص‏.‏ ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى سلك به هذا المسلك، وفي هذا تمهيد لما نقم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته عليه السلام، لأن من فضله الله بهذه الأثرة واختصه هذا الاختصاص كان أدنى ما يجب له من التهيب والإجلال أن يخفض بين يديه الصوت‏.‏ وعن الحسن أن إناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحاً آخر‏.‏ وعن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فإنكم إن اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهي عنها ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ لما تقولون ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بما تعملون وحق مثله أن يتقي‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ‏}‏ إعادة النداء عليهم استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد، وتحريك منهم لئلا يغفلوا عن تأملهم ‏{‏لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى‏}‏ أي إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم وجهره باهراً لجهركم حتى تكون مزيته عليكم لائحة وسابقته لديكم واضحة ‏{‏وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ‏}‏ أي إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرب من الهمس الذي يضاد الجهر، أو لا تقولوا‏:‏ له يا محمد يا أحمد وخاطبوه بالنبوة والسكينة والتعظيم، ولما نزلت هذه الآية ما كلم النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر إلا كأخي السرار‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله عنهم أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان في أذانه وقر وكان جهوري الصوت، وكان إذا كلم رفع صوته وربما كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيتأذى بصوته، وكاف التشبيه في محل النصب أي لا تجهروا له جهراً مثل جهر بعضكم لبعض، وفي هذا أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقاً حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها‏.‏ ‏{‏أَن تَحْبَطَ أعمالكم‏}‏ منصوب الموضع على أنه المفعول له متعلق بمعنى النهي، والمعنى انتهوا عما نهيتم عنه لحبوط أعمالكم أي لخشية حبوطها على تقدير حذف المضاف ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله‏}‏ تم اسم «إن» عند قوله ‏{‏رَسُولِ الله‏}‏ والمعنى يخفضون أصواتهم في مجلسه تعظيماً له ‏{‏أولئك‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى‏}‏ وتم صلة ‏{‏الذين‏}‏ عند قوله ‏{‏للتقوى‏}‏ و‏{‏أولئك‏}‏ مع خبره خبر «إن»‏.‏ والمعنى أخلصها للتقوى من قولهم «امتحن الذهب وفتنة» إذا أذابه فخلص ابريزه من خبثه ونقاه، وحقيقته عاملها معاملة المختبر فوجدها مخلصة وعن عمر رضي الله عنه‏:‏ أذهب الشهوات عنها‏.‏ والامتحان افتعال من محنه وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد ‏{‏لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ جملة أخرى قيل‏:‏ نزلت في الشيخين رضي الله عنهما لما كان منهما من غض الصوت، وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسماً ل «إن» المؤكدة وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معاً والمبتدأ اسم الإشارة، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، وإيراد الجزاء نكرة مبهماً أمره دالة على غاية الاعتداد والارتضاء بفعل الخافضين أصواتهم، وفيها تعريض لعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم‏.‏

‏{‏إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات‏}‏ نزلت في وفد بني تميم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة وهو راقد وفيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، ونادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته وقالوا‏:‏ اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وذمنا شين، فاستيقظ وخرج‏.‏ والوراء الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من خلف أو قدام، و«من» لابتداء الغاية، وأن المناداة نشأت من ذلك المكان، والحجرة الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها وهي فعلة بمعنى مفعولة كالقبضة وجمعها الحجرات بضمتين، والحجرات بفتح الجيم وهي قراءة يزيد والمراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت لكل منهن حجرة‏.‏

ومناداتهم من ورائها لعلهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له أو نادوه من وراء الحجرة التي كان عليه السلام فيها ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والفعل وإن كان مسنداً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم وكان الباقون راضين فكأنهم تولوه جميعاً ‏{‏أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ يحتمل أن يكون فيهم من قصد استثناؤه، ويحتمل أن يكون المراد النفي العام إذا القلة تقع موقع النفي‏.‏

وورود الآية على النمط الذي وردت عليه فيه ما لا يخفى من إجلال محل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها‏:‏ التسجيل على الصائحين به بالسفه والجهل، ومنها إيقاع لفظ الحجرات كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه، ومنها التعريف باللام دون الإضافة، ولو تأمل متأمل من أول السورة إلى آخر هذه الآية لوجدها كذلك‏.‏ فتأمل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير تقييد، ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر كأن الأول بساط للثاني، ثم أثنى على الغاضين أصواتهم ليدل على عظيم موقعه عند الله، ثم عقبه بما هو أطم وهجنته أتم من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته من وراء الجدر كما يصاح بأهون الناس قدراً لينبه على فظاعة ما جسروا عليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ في التفاحش مبلغاً ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ‏}‏ أي ولو ثبت صبرهم، ومحل ‏{‏أَنَّهُمْ صَبَرُواْ‏}‏ الرفع على الفاعلية‏.‏ والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وقولهم صبر عن كذا محذوف منه المفعول وهو النفس‏.‏ وقيل‏:‏ الصبر مرّ لا يتجرعه إلا حرّ‏.‏ وقوله ‏{‏حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ‏}‏ يفيد أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم ‏{‏لَكَانَ‏}‏ الصبر ‏{‏خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ في دينهم ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ بليغ الغفران والرحمة واسعهما فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا‏.‏

‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ‏}‏ أجمعوا أنها نزلت في الوليد بن عقبة وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً إلى بني المصطلق وكانت بينه وبينهم إحنة في الجاهلية، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين إليه فحسبهم مقاتليه فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد ارتدوا ومنعوا الزكاة‏.‏

فبعث خالد بن الوليد فوجدهم يصلون فسلموا إليه الصدقات فرجع‏.‏ وفي تنكير الفاسق والنبأ شياع في الفساق والأنباء كأنه قال أي فاسق جاءكم بأي نبأ ‏{‏فَتَبَيَّنُوآ‏}‏ فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا قول الفاسق، لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه‏.‏ وفي الآية دلالة قبول خبر الواحد العدل لأنا لو توقفنا في خبره لسوينا بينه وبين الفاسق ولخلا التخصيص به عن الفائدة، والفسوق الخروج من الشيء‏.‏ يقال‏:‏ فسقت الرطبة عن قشرها، ومن مقلوبه‏:‏ فقست البيضة إذا كسرتها وأخرجت ما فيها، ومن مقلوبه أيضاً‏:‏ قفست الشيء إذا أخرجته من يد مالكه مغتصباً له عليه، ثم استعمل في الخروج عن القصد بركوب الكبائر‏.‏ حمزة وعلي ‏{‏فتثبتوا‏}‏ والتثبت والتبين متقاربان وهما طلب الثبات والبيان والتعرف ‏{‏أَن تصيبوا قَوْماً‏}‏ لئلا تصيبوا ‏{‏بِجَهَالَةٍ‏}‏ حال يعني جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة ‏{‏فَتُصْبِحُواْ‏}‏ فتصيروا ‏{‏على مَا فَعَلْتُمْ نادمين‏}‏ الندم ضرب من الغم وهو أن تغتم على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام‏.‏

‏{‏واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله‏}‏ فلا تكذبوا فإن الله يخبره فينهتك ستر الكاذب، أو فارجعوا إليه واطلبوا رأيه‏.‏ ثم قال مستأنفاً ‏{‏لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ‏}‏ لوقعتم في الجهد والهلاك، وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد، وأن بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك وهم الذين استثناهم بقوله ‏{‏ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان‏}‏ وقيل‏:‏ هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى‏.‏ ولما كانت صفة الذين حبب الله إليهم الإيمان غايرت صفة المتقدم ذكرهم وقعت «لكن» في حاقّ موقعها من الاستدراك وهو مخالفة ما بعدها لما قبلها نفياً وإثباتاً ‏{‏وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر‏}‏ وهو تغطية نعم الله وغمطها بالجحود ‏{‏والفسوق‏}‏ وهو الخروج عن محجة الإيمان بركوب الكبائر ‏{‏والعصيان‏}‏ وهو ترك الانقياد بما أمر به الشارع ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الراشدون‏}‏ أي أولئك المستثنون هم الراشدون يعني أصابوا طريق الحق ولم يميلوا عن الاستقامة، والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من الرشادة وهي الصخرة ‏{‏فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً‏}‏ الفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام، والانتصاب على المفعول له أي حبب وكره للفضل والنعمة ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ حين يفضل وينعم بالتوفيق على الأفاضل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏10‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏11‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا‏}‏ وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار فبال الحمار فأمسك ابن أبي بأنفه وقال‏:‏ خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه‏.‏ فقال عبد الله بن رواحة‏:‏ والله إن بول حماره لأطيب من مسكك‏.‏ ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا وجاء قوماهما وهما الأوس والخزرج فتجالدوا بالعصي‏.‏ وقيل‏:‏ بالأيدي والنعال والسعف، فرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم ونزلت‏.‏ وجمع ‏{‏اقتتلوا‏}‏ حملاً على المعنى لأن الطائفتين في معنى القوم والناس، وثنى في ‏{‏فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا‏}‏ نظراً إلى اللفظ ‏{‏فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى‏}‏ البغي الاستطالة والظلم وإباء الصلح ‏{‏فقاتلوا التى تَبْغِى حتى تَفِئ‏}‏ أي ترجع والفيء الرجوع وقد سمى به الظل والغنيمة لأن الظل يرجع بعد نسخ الشمس، والغنيمة ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين، وحكم الفئة الباغية وجوب قتالها ما قاتلت فإذا كفت وقبضت عن الحرب أيديها تركت ‏{‏إلى أَمْرِ الله‏}‏ المذكور في كتابه من الصلح وزوال الشحناء ‏{‏فَإِن فَآءَتْ‏}‏ عن البغي إلى أمر الله ‏{‏فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل‏}‏ بالإنصاف ‏{‏وَأَقْسِطُواْ‏}‏ واعدلوا وهو أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعدما أمر به في إصلاح ذات البين ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين‏}‏ العادلين والقسط‏:‏ الجور، والقسط‏:‏ العدل، والفعل منه أقسط وهمزته للسلب أي أزال القسط وهو الجور‏.‏

‏{‏إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ‏}‏ هذا تقرير لما ألزمه من تولي الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين، وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق ما إن لم يفضل الإخوة لم ينقص عنها‏.‏ ثم قد جرت العادة على أنه إذا نشب مثل ذلك بين الأخوين ولاداً لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته بالصلح بينهما فالإخوة في الدين أحق بذلك، ‏{‏أخوتكم‏}‏ يعقوب ‏{‏واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ أي واتقوا الله، فالتقوى تحملكم على التواصل والائتلاف وكان عند فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم مرجواً، والآية تدل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان لأنه سماهم مؤمنين مع وجود البغي‏.‏

‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنّ خَيْراً مِّنْهُنَّ‏}‏ القوم‏:‏ الرجال خاصة لأنهم القوام بأمور النساء قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏ وهو في الأصل جمع قائم كصوم وزور في جمع صائم وزائر‏.‏ واختصاص القوم بالرجال صريح في الآية إذ لو كانت النساء داخلة في قوم لم يقل ولا نساء وحقق ذلك زهير في قوله‏:‏

وما أدري ولست إخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء‏؟‏

وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد هم الذكور والإناث فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن‏.‏ وتنكير القوم والنساء يحتمل معنيين‏:‏ أن يراد لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض، وأن يقصد إفادة الشياع وأن يصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية‏.‏ وإنما لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة على التوحيد إعلاماً بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه، وقوله‏:‏ ‏{‏عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ‏}‏‏.‏ كلام مستأنف ورد مورد جواب المستخبر عن علة النهي وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء، والمعنى وجوب أن يعتقد كل واحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيراً من الساخر إذ لا اطلاع للناس إلا على الظواهر ولا علم لهم بالسرائر، والذي يزن عند الله خلوص الضمائر فينبغي أن لا يجتريء أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميراً وأتقى قلباً ممن هو على ضد صفته فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى، وعن ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً‏.‏

‏{‏وَلاَ تَلْمِزُوآ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ولا تطعنوا أهل دينكم‏.‏ واللمز‏:‏ الطعن والضرب باللسان ‏{‏وَلاَ تَلْمُزُواْ‏}‏ يعقوب وسهل‏.‏ والمؤمنون كنفس واحدة فإذا عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لا تفعلوا ما تلمزون به لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة ‏{‏وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب‏}‏ التنابز بالألقاب التداعي بها، والنبز لقب السوء والتلقيب المنهي عنه هو ما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيراً به وذماً له، فأما ما يحبه فلا بأس به‏.‏ ورُوي أن قوماً من بني تميم استهزءوا ببلال وخباب وعمار وصهيب فنزلت‏.‏ وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة وكانت قصيرة، وعن أنس رضي الله عنه‏:‏ عيرت نساء النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة بالقصر‏.‏ ورُوي أنها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر فكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع، فأتى يوماً وهو يقول تفسحوا حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل‏:‏ تنح فلم يفعل‏.‏ فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ فقال الرجل‏:‏ أنا فلان‏.‏ فقال‏:‏ بل أنت ابن فلانة يريد أماً كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل فنزلت فقال ثابت‏:‏ لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبداً‏.‏

‏{‏بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان‏}‏ الاسم ههنا بمعنى الذكر من قولهم «طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم» وحقيقته ما سما من ذكره وارتفع بين الناس كأنه قيل‏:‏ بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يذكروا بالفسق‏.‏ وقوله ‏{‏بَعْدَ الإيمان‏}‏ استقباح للجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يحظره الإيمان كما تقول «بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة»‏.‏ وقيل‏:‏ كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود يا يهودي يا فاسق فنهوا عنه، وقيل لهم‏:‏ بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه ‏{‏وَمَن لَّمْ يَتُبْ‏}‏ عما نهي عنه ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون‏}‏ وحد وجمع للفظ من ومعناه‏.‏

‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن‏}‏ يقال‏:‏ جنبه الشر إذا أبعده عنه‏.‏ وحقيقته جعله في جانب فيعدى إلى مفعولين قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35‏]‏ ومطاوعه اجتنب الشر فنقص مفعولاً والمأمور باجتنابه بعض الظن وذلك البعض موصوف بالكثرة ألا ترى إلى قوله ‏{‏إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو ظنك بأهل الخير سوأ، فأما أهل الفسق فلنا أن نظن فيهم مثل الذي ظهر منهم‏.‏ أو معناه اجتناباً كثيراً أو احترزوا من الكثير ليقع التحرز عن البعض، والإثم‏:‏ الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب ومنه قيل لعقوبته الأثام فعلا منه كالنكال والعذاب ‏{‏وَلاَ تَجَسَّسُواْ‏}‏ أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم‏.‏ يقال‏:‏ تجسس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه تفعل من الجس‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر الله‏.‏ وقال سهل‏:‏ لا تبحثوا عن طلب معايب ما ستره الله على عباده ‏{‏وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً‏}‏ الغيبة الذكر بالعيب في ظهر الغيب وهي من الاغتياب كالغيلة من الاغتيال، وفي الحديث ‏"‏ هو أن تذكر أخاك بما يكره ‏"‏ فإن كان فيه فهو غيبة وإلا فهو بهتان‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ الغيبة إدام كلاب الناس‏.‏

‏{‏أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً‏}‏ ‏{‏مَيِّتًا‏}‏ مدني‏.‏ وهذا تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه، وفي مبالغات منها‏:‏ الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة، ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك، ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً، ومنها أن لم يقتصر على لحم الأخ حتى جعل ميتاً‏.‏ وعن قتادة‏:‏ كما تكره إن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي، وانتصب ‏{‏مَيْتًا‏}‏ على الحال من اللحم أو من أخيه، ولما قررهم بأن أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله ‏{‏فَكَرِهْتُمُوهُ‏}‏ أي فتحققت كراهتكم له باستقامة العقل فليتحقق أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة باستقامة الدين ‏{‏واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ‏}‏ التواب‏:‏ البليغ في قبول التوبة، والمعنى واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه فإنكم إن اتقيتم تقبل الله توبتكم وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين‏.‏

ورُوي أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوماً فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما إداماً وكان أسامة على طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا‏:‏ لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها‏.‏ فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما‏:‏ مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما فقالا‏:‏ ما تناولنا لحماً، قال‏:‏ إنكما قد اغتبتما ومن اغتاب مسلماً فقد أكل لحمه‏.‏ ثم قرأ الآية، وقيل‏:‏ غيبة الخلق إنما تكون من الغيبة عن الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 18‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏13‏)‏ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏(‏15‏)‏ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏16‏)‏ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مِّن ذَكَرٍ وأنثى‏}‏ من آدم وحواء أو كل واحد منكم من أب وأم فما منكم من أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر سواء بسواء فلا معنى للتفاخر والتفاضل في النسب ‏{‏وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَآئِلَ‏}‏ الشعب الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي‏:‏ الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة‏.‏ فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل، خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة، وسميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها ‏{‏لتعارفوا‏}‏ أي إنما رتبكم على شعوب وقبائل ليعرف بعضكم نسب بعض فلا يعتزى إلى غير آبائه، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد وتدعوا التفاضل في الأنساب‏.‏ ثم بين الخصلة التي يفضل بها الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله فقال ‏{‏إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم‏}‏ في الحديث‏:‏ «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله» وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى‏.‏ ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم طاف يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ «الحمد لله الذي أذهب عنكم عِبُية الجاهلية وتكبرها‏.‏ يا أيها الناس إنما الناس رجلان‏:‏ مؤمن تقي كريم على الله وفاجر وشقي هين على الله» ثم قرأ الآية‏.‏ وعن يزيد بن شجرة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول‏:‏ من اشتراني فعلى شرط أن لا يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فاشتراه بعضهم فمرض فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توفي فحضر دفنه فقالوا في ذلك شيئاً فنزلت ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ‏}‏ كرم القلوب وتقواها ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ بهمّ النفوس في هواها‏.‏

‏{‏قَالَتِ الأعراب‏}‏ أي بعض الأعراب لأن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر وهم أعراب بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة فاظهروا الشهادة يريدون الصدقة ويمنون عليه ‏{‏ءَامَنَّا‏}‏ أي ظاهراً وباطناً ‏{‏قُلْ‏}‏ لهم يا محمد ‏{‏لَّمْ تُؤْمِنُواْ‏}‏ لم تصدقوا بقلوبكم ‏{‏ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا‏}‏ فالإيمان هو التصديق، والإسلام الدخول في السلم والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين، ألا ترى إلى قوله ‏{‏وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ‏}‏ فاعلم أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان، وهذا من حيث اللغة‏.‏ وأما في الشرع فالإيمان والإسلام واحد لما عرف، وفي ‏{‏لَّمّاً‏}‏ معنى التوقع وهو دال على أن بعض هؤلاء قد آمنوا فيما بعد‏.‏

والآية تنقض على الكرامية مذهبهم أن الإيمان لا يكون بالقلب ولكنَّ باللسان، فإن قلت‏:‏ مقتضى نظم الكلام أن يقال‏:‏ قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا، أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم‏.‏ قلت‏:‏ أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولاً فقيل ‏{‏قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ‏}‏ مع أدب حسن فلم يقل كذبتم تصريحاً ووضع ‏{‏لَّمْ تُؤْمِنُواْ‏}‏ الذي هو نفي ما ادعوا إثباته موضعه واستغنى بقوله ‏{‏لَّمْ تُؤْمِنُواْ‏}‏ عن أن يقال لا تقولوا آمنا لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن القول بالإيمان، ولم يقل ولكن أسلمتم ليكون خارجاً مخرج الزعم والدعوى كما كان قولهم آمنا كذلك‏.‏ ولو قيل ولكن أسلمتم لكان كالتسليم والاعتداد بقولهم وهو غير معتد به‏.‏ وليس قوله ‏{‏وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ‏}‏ تكريراً لمعنى قوله ‏{‏لَّمْ تُؤْمِنُواْ‏}‏ فإن فائدة قوله ‏{‏لَّمْ تُؤْمِنُواْ‏}‏ تكذيب لدعواهم وقوله ‏{‏وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ‏}‏ توقيب لما أمروا به أن يقولوه كأن قيل لهم‏:‏ ولكن قولوا أسلمنا حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في ‏{‏قُولُواْ‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ في السر بترك النفاق ‏{‏لاَ يَلِتْكُمْ‏}‏ ‏{‏لا يألتكم‏}‏‏:‏ بصري ‏{‏مِّنْ أعمالكم شَيْئاً‏}‏ أي لا ينقصكم من ثواب حسناتكم شيئاً‏.‏ ألت يألت وألات يليت ولات يليت بمعنى وهو النقص ‏{‏أَنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ بستر الذنوب ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بهدايتهم للتوبة عن العيوب‏.‏ ثم وصف المؤمنين المخلصين فقال ‏{‏إِنَّمَا المؤمنون الذين ءَامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ‏}‏ ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة، والمعنى أنهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به ولا اتهام لما صدقوه‏.‏ ولما كان الإيقان وزوال الريب ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيهاً على مكانه، وعطف على الإيمان بكلمة التراخي إشعاراً باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضاً جديداً ‏{‏وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ يجوز أن يكون المجاهد منوياً وهو العدو المحارب أو الشيطان أو الهوى، وأن يكون جاهد مبالغة في جهد، ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس الغزو وأن يتناول العبادات بأجمعها وبالمجاهدة بالمال نحو صنيع عثمان في جيش العسرة، وأن يتناول الزكاة وكل ما يتعلق بالمال من أعمال البر‏.‏ وخبر المبتدأ الذي هو ‏{‏المؤمنون‏}‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون‏}‏ أي الذين صدقوا في قولهم آمنا ولم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد أو هم الذين إيمانهم إيمان صدق وحق‏.‏ وقوله ‏{‏الذين آمَنُواْ‏}‏ صفة لهم‏.‏

ولما نزلت هذه الآية جاءوا وحلفوا أنهم مخلصون فنزل ‏{‏قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ‏}‏ أي أتخبرونه بتصديق قلوبكم ‏{‏والله يَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض والله بِكُلِّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏ من النفاق والإخلاص وغير ذلك ‏{‏يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ‏}‏ أي بأن ‏{‏أَسْلَمُواْ‏}‏ يعني بإسلامهم‏.‏

والمن ذكر الأيادي تعريضاً للشكر ‏{‏قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي المنة لله عليكم ‏{‏أَنْ هَداكُمْ‏}‏ بأن هداكم أو لأن ‏{‏للإيمان إِنُ كُنتُمْ صادقين‏}‏ إن صح زعمكم وصدقت دعواكم إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان بالله فلله المنة عليكم وقرئ ‏{‏إِنْ هَداكُمْ‏}‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ وبالياء‏:‏ مكي‏.‏ وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم يعني أنه تعالى يعلم كل مستتر في العالم ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم لا يخفي عليه منه شيء فكيف يخفي عليه ما في ضمائركم وهو علام الغيوب‏؟‏

سورة ق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 22‏]‏

‏{‏ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ ‏(‏1‏)‏ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏2‏)‏ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ‏(‏3‏)‏ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ‏(‏4‏)‏ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ‏(‏5‏)‏ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ‏(‏6‏)‏ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ‏(‏7‏)‏ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ‏(‏8‏)‏ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ‏(‏9‏)‏ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ‏(‏10‏)‏ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ‏(‏11‏)‏ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ‏(‏12‏)‏ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ‏(‏13‏)‏ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ‏(‏14‏)‏ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏15‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ‏(‏16‏)‏ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ‏(‏17‏)‏ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ‏(‏18‏)‏ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ‏(‏19‏)‏ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ‏(‏20‏)‏ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ‏(‏21‏)‏ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

الكلام في ‏{‏ق والقرءان المجيد بَلْ عَجِبُوآ‏}‏ كالكلام في ‏{‏ص والقرءان ذِى الذكر بَلِ الذين كَفَرُواْ‏}‏ سواء بسواء لالتقائهما في أسلوب واحد‏.‏ والمجيد ذو المجد والشرف على غيره من الكتب ومن أحاط علماً بمعانيه وعمل بما فيه مجد عند الله وعند الناس‏.‏ وقوله ‏{‏بَلْ عَجِبُواْ‏}‏ أي كفار مكة ‏{‏أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ‏}‏ أي محمد صلى الله عليه وسلم إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب وهو أن ينذرهم بالمخوف رجل منهم قد عرفوا عدالته وأمانته، ومن كان كذلك لم يكن إلا ناصحاً لقومه خائفاً أن ينالهم مكروه، وإذا علم أن مخوفاً أظلهم لزمه أن ينذرهم فكيف بما هو غاية المخاوف وإنكار لتعجبهم مما أنذرهم به من البعث مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السماوات والأرض وما بينهما، وعلى اختراع كل شيء وإقرارهم بالنشأة الأولى مع شهادة العقل بأنه لا بد من الجزاء‏؟‏ ثم عول على أحد الإنكارين بقوله ‏{‏فَقَالَ الكافرون هذا شَئ عَجِيبٌ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً‏}‏ دلالة على أن تعجبهم من البعث أدخل في الاستبعاد وأحق بالإنكار‏.‏ وضع الكافرون موضع الضمير للشهادة على أنهم في قولهم هذا مقدمون على الكفر العظيم، وهذا إشارة إلى الرجع‏.‏ و«إذا» منصوب بمضمر معناه أحين نموت ونبلى نرجع‏.‏ ‏{‏مِتْنَا‏}‏ نافع وعلي وحمزة وحفص ‏{‏ذلك رَجْعُ بَعِيدٌ‏}‏ مستبعد مستنكر كقولك «هذا قول بعيد» أي بعيد من الوهم والعادة‏.‏ ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع وهو الجواب، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث، والوقف على ‏{‏ترابا‏}‏ على هذا حسن، وناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع ما دل عليه المنذر من المنذر به وهو البعث ‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ‏}‏ رد لاستبعادهم الرجع لأن من لطف علمه حتى علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم كان قادراً على رجعهم أحياء كما كانوا ‏{‏وَعِندَنَا كتاب حَفِيظٌ‏}‏ محفوظ من الشياطين ومن التغير وهو اللوح المحفوظ، أو حافظ لما أودعه وكتب فيه ‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ‏}‏ إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر ‏{‏فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ‏}‏ مضطرب‏.‏ يقال‏:‏ مرج الخاتم في الإصبع إذا اضطرب من سعته فيقولون تارة شاعر وطوراً ساحر ومرة كاهن لا يثبتون على شيء واحد‏.‏ وقيل‏:‏ الحق القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ الإخبار بالبعث‏.‏

ثم دلهم على قدرته على البعث فقال ‏{‏أَفَلَمْ يَنظُرُوآ‏}‏ حين كفروا بالبعث ‏{‏إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ‏}‏ إلى آثار قدرة الله تعالى في خلق العالم ‏{‏كَيْفَ بنيناها‏}‏ رفعناها بغير عمد ‏{‏وزيناها‏}‏ بالنيرات ‏{‏وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ‏}‏ من فتوق وشقوق أي أنها سليمة من العيوب لا فتق فيها ولا صدع ولا خلل ‏{‏والأرض مددناها‏}‏ دحوناها ‏{‏وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي‏}‏ جبالاً ثوابت لولا هي لمالت ‏{‏وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ‏}‏ صنف ‏{‏بَهِيجٍ‏}‏ يبتهج به لحسنه ‏{‏تَبْصِرَةً وذكرى‏}‏ لنبصر به ونذكر ‏{‏لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ‏}‏ راجع إلى ربه مفكر في بدائع خلقه‏.‏

‏{‏وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مباركا‏}‏ كثير المنافع ‏{‏فَأَنبَتْنَا بِهِ جنات وَحَبَّ الحصيد‏}‏ أي وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالحنطة والشعير وغيرهما ‏{‏والنخل باسقات‏}‏ طوالاً في السماء ‏{‏لَّهَا طَلْعٌ‏}‏ هو كل ما يطلع من ثمر النخيل ‏{‏نَّضِيدٌ‏}‏ منضود بعضه فوق بعض لكثرة الطلع وتراكمه أو لكثرة ما فيه من الثمر ‏{‏رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ‏}‏ أي أنبتناها رزقاً للعباد لأن الإنبات في معنى الرزق فيكون ‏{‏رِزْقاً‏}‏ مصدراً من غير لفظه، أو هو مفعول له أي أنبتناها لرزقهم ‏{‏وَأَحْيَيْنَا بِهِ‏}‏ بذلك الماء ‏{‏بَلْدَةً مَّيْتاً‏}‏ قد جف نباتها ‏{‏كذلك الخروج‏}‏ أي كما حييت هذه البلدة الميتة كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم لأن إحياء الموات كإحياء الأموات، والكاف في محل الرفع على الابتداء‏.‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ‏}‏ قبل قريش ‏{‏قَوْمُ نُوحٍ وأصحاب الرس‏}‏ هو بئر لم تطو وهم قوم باليمامة وقيل أصحاب الأخدود ‏{‏وَثَمُودُ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ‏}‏ أراد بفرعون قومه كقوله ‏{‏مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 83‏]‏ لأن المعطوف عليه قوم نوح والمعطوفات جماعات ‏{‏وإخوان لُوطٍ وأصحاب الأيكة‏}‏ سماهم إخوانه لأن بينهم وبينه نسباً قريباً ‏{‏وَقَوْمُ تُّبَّعٍ‏}‏ هو ملك باليمن أسلم ودعا قومه إلى الإسلام فكذبوه وسمي به لكثرة تبعه ‏{‏كُلٌّ‏}‏ أي كل واحد منهم ‏{‏كَذَّبَ الرسل‏}‏ لأن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميعهم ‏{‏فَحَقَّ وَعِيدِ‏}‏ فوجب وحل وعيدي وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم ‏{‏أَفَعَيِينَا‏}‏ عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه عمله والهمزة للإنكار ‏{‏بالخلق الأول‏}‏ أي أنا لم نعجز عن الخلق الأول فكيف نعجز عن الثاني والاعتراف بذلك اعتراف بالإعادة ‏{‏بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ‏}‏ في خلط وشبهة قد لبس عليهم الشيطان وحيرهم وذلك تسويله إليهم أن إحياء الموتى أمر خارج عن العادة فتركوا لذلك الاستدلال الصحيح وهو أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر ‏{‏مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ بعد الموت‏.‏ وإنما نكر الخلق الجديد ليدل على عظمة شأنه وأن حق من سمع به أن يخاف ويهتم به‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ‏}‏ الوسوسة الصوت الخفي ووسوسة النفس ما يخطر ببال الإنسان ويهجس في ضميره من حديث النفس، والباء مثلها في قوله «صوت بكذا» ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ‏}‏ المراد قرب علمه منه ‏{‏مِنْ حَبْلِ الوريد‏}‏ هو مثل في فرط القرب، والوريد عرق في باطن العنق، والحبل العرق، والإضافة للبيان كقولهم «بعير سانية» ‏{‏إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان‏}‏ يعني الملكين الحافظين ‏{‏عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ‏}‏ التلقي التلقن بالحفظ والكتابة والقعيد والمقاعد بمعنى المجالس وتقديره عن اليمين قعيد وعن الشمال من المتلقيين فترك أحدهما لدلالة الثاني عليه كقوله

‏:‏ *** رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئاً ومن أجل الطوى رماني *** أي رماني بأمر كنت منه بريئاً وكان والدي منه بريئاً‏.‏ و«إذ» منصوب بأقرب لما فيه من معنى يقرب، والمعنى إنه لطيف يتوصل علمه إلى خطرات النفس ولا شيء أخفى منه وهو أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به إيذاناً بأن استحفاظ الملكين أمر هو غني عنه، وكيف لا يستغني عنه وهو مطلع على أخفى الخفيات‏؟‏ وإنما ذلك لحكمة وهو ما في كتبة الملكين وحفظهما وعرض صحائف العمل يوم القيامة من زيادة لطف له في الانتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات‏.‏

‏{‏مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ‏}‏ ما يتكلم به وما يرمي به من فيه ‏{‏إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ‏}‏ حافظ ‏{‏عَتِيدٌ‏}‏ حاضر‏.‏ ثم قيل‏:‏ يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه‏.‏ وقيل‏:‏ لا يكتبان إلا ما فيه أجر أو وزر‏.‏ وقيل‏:‏ إن الملكين لا يجتنبانه إلا عند الغائط والجماع‏.‏ لما ذكر إنكارهم البعث واحتج عليهم بقدرته وعلمه أعلمهم أن ما أنكروه هم لاقوه عن قريب عند موتهم وعند قيام الساعة، ونبه على اقتراب ذلك بأن عبر عنه بلفظ الماضي وهو قوله ‏{‏وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ‏}‏ أي شدته الذاهبة بالعقل ملتبسة ‏{‏بالحق‏}‏ أي بحقيقة الأمر أو بالحكمة ‏{‏ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ‏}‏ الإشارة إلى الموت والخطاب للإنسان في قوله ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان‏}‏ على طريق الالتفات ‏{‏تَحِيدُ‏}‏ تنفر وتهرب ‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور‏}‏ يعني نفخة البعث ‏{‏ذَلِكَ يَوْمَ الوعيد‏}‏ أي وقت ذلك يوم الوعيد على حذف المضاف والإشارة إلى مصدر نفخ ‏{‏وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ‏}‏ أي ملكان أحدهما يسوقه إلى المحشر والآخر يشهد عليه بعمله، ومحل ‏{‏مَّعَهَا سَائِقٌ‏}‏ النصب على الحال من ‏{‏كُلٌّ‏}‏ لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة ‏{‏لَّقَدْ كُنتَ‏}‏ أي يقال لها لقد كنت ‏{‏فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هذا‏}‏ النازل بك اليوم ‏{‏فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ‏}‏ أي فأزلنا غفلتك بما تشاهده ‏{‏فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ‏}‏ جعلت الغفلة كأنها غطاء غطي به جسده كله أو غشاوة غطي بها عينيه فهو لا يبصر شيئاً، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت عنه الغفلة وغطاؤها فيبصر ما لم يبصره من الحق، ورجع بصره الكليل عن الإبصار لغفلته حديداً لتيقظه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 45‏]‏

‏{‏وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ‏(‏23‏)‏ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏24‏)‏ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ‏(‏25‏)‏ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ‏(‏26‏)‏ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏27‏)‏ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ‏(‏28‏)‏ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏29‏)‏ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ‏(‏30‏)‏ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ‏(‏31‏)‏ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ‏(‏32‏)‏ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ‏(‏33‏)‏ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ‏(‏34‏)‏ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ‏(‏35‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏36‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ‏(‏37‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ‏(‏38‏)‏ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ‏(‏39‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ‏(‏40‏)‏ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ‏(‏41‏)‏ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ‏(‏42‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ‏(‏43‏)‏ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ‏(‏44‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ قَرِينُهُ‏}‏ الجمهور على أنه الملك الكاتب الشهيد عليه ‏{‏هذا‏}‏ أي ديوان عمله، مجاهد‏:‏ شيطانه الذي قيض له في قوله ‏{‏نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 36‏]‏‏.‏ هذا أي الذي وكلت به ‏{‏مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ‏}‏ ‏{‏هذا‏}‏ مبتدأ و‏{‏مَا‏}‏ نكرة بمعنى شيء والظرف بعده وصف له وكذلك ‏{‏عَتِيدٌ‏}‏ و‏{‏مَا‏}‏ وصفتها خبر ‏{‏هذا‏}‏ والتقدير هذا شيء ثابت لديّ عتيد‏.‏ ثم يقول الله تعالى ‏{‏أَلْقِيَا‏}‏ والخطاب للسائق والشهيد أو لمالك، وكأن الأصل ألقِ ألقِ فناب ألقيا عن ألق ألق لأن الفاعل كالجزء من الفعل فكانت تثنية الفاعل نائبة عن تكرار الفعل‏.‏ وقيل‏:‏ أصله ألقين والألف بدل من النون إجراء للوصل مجرى الوقف دليله قراءة الحسن ‏{‏ألقين‏}‏ ‏{‏فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ‏}‏ بالنعم والمنعم ‏{‏عَنِيدٍ‏}‏ معاند مجانب للحق معاد لأهله ‏{‏مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ‏}‏ كثير المنع للمال عن حقوقه أو مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله ‏{‏مُعْتَدٍ‏}‏ ظالم متخط للحق ‏{‏مُرِيبٍ‏}‏ شاك في الله وفي دينه ‏{‏الذى جَعَلَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ‏}‏ مبتدأ متضمن معنى الشرط خبره ‏{‏فألقياه فِى العذاب الشديد‏}‏ أو بدل من ‏{‏كُلَّ كَفَّارٍ‏}‏ و‏{‏فألقياه‏}‏ تكرير للتوكيد ولا يجوز أن يكون صفة ل ‏{‏كَفَّار‏}‏ لأن النكرة لا توصف بالموصول‏.‏

‏{‏قَالَ قرِينُهُ‏}‏ أي شيطانه الذي قرن به وهو شاهد لمجاهد، وإنما أخليت هذه الجملة عن الواو دون الأولى لأن الأولى واجب عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول أعني مجيء كل نفس مع الملكين وقول قرينه ما قال له، وأما هذه فهي مستأنفة كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول كما في مقاولة موسى وفرعون، فكأن الكافر قال رب هو أطغاني فقال قرينه ‏{‏رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ ولكن كَانَ فِى ضلال بَعِيدٍ‏}‏ أي ما أوقعته في الطغيان ولكنه طغى واختار الضلالة على الهدى ‏{‏قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ‏}‏ هو استئناف مثل قوله تعالى ‏{‏قَالَ قرِينُهُ‏}‏ كأن قائلاً قال‏:‏ فماذا قال الله‏؟‏ فقيل‏:‏ قال لا تختصموا ‏{‏لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد‏}‏ أي لا تختصموا في دار الجزاء وموقف الحساب فلا فائدة في اختصامكم ولا طائل تحته وقد أوعدتكم بعذابي على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي فما تركت لكم حجة عليّ‏.‏ والباء في ‏{‏بالوعيد‏}‏ مزيدة كما في قوله ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏ أو معدية على أن قدم مطاوع بمعنى تقدم ‏{‏مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ‏}‏ أي لا تطمعوا أن أبدل قولي ووعيدي بإدخال الكفار في النار ‏{‏وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ فلا أعذب عبداً بغير ذنب‏.‏

وقال ‏{‏بظلام‏}‏ على لفظ المبالغة لأنه من قولك هو ظالم لعبده وظلام لعبيده ‏{‏يَوْمَ‏}‏ نصب ب ‏{‏ظلام‏}‏ أو بمضمر هو اذكر وأنذر ‏{‏نَّقُولُ‏}‏ نافع وأبو بكر أي يقول الله ‏{‏لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ‏}‏ وهو مصدر كالمجيد أي أنها تقول بعد امتلائها هل من مزيد أي هل بقي فيّ موضع لم يمتليء يعني قد امتلأت، أو أنها تستزيد وفيها موضع للمزيد وهذا على تحقيق القول من جهنم وهو غير مستنكر كإنطاق الجوارح، والسؤال لتوبيخ الكفرة لعلمه تعالى بأنها امتلأت أم لا‏.‏

‏{‏وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ‏}‏ غير نصب على الظرف أي مكاناً غير بعيد، أو على الحال وتذكيره لأنه على زنة المصدر كالصليل والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث، أو على حذف الموصوف أي شيئاً غير بعيد ومعناه التوكيد كما تقول‏:‏ هو قريب غير بعيد وعزيز غير ذليل ‏{‏هذا‏}‏ مبتدأ وهو إشارة إلى الثواب أو إلى مصدر أزلفت ‏{‏مَّا تُوعَدُونَ‏}‏ صفته وبالياء‏:‏ مكي ‏{‏لِكُلِّ أَوَّابٍ‏}‏ رجاع إلى ذكر الله خبره ‏{‏حَفِيظٍ‏}‏ حافظ لحدوده جاء في الحديث ‏"‏ من حافظ على أربع ركعات في أول النهار كان أواباً حفيظاً ‏"‏ ‏{‏مَّنْ‏}‏ مجرور المحل بدل من ‏{‏أَوَّاب‏}‏ أو رفع بالابتداء وخبره ‏{‏ادخلوها‏}‏ على تقدير يقال لهم ادخولها بسلام لأن «من» في معنى الجمع ‏{‏خَشِىَ الرحمن‏}‏ الخشية انزعاج القلب عند ذكر الخطيئة، وقرن بالخشية اسمه الدال على سعة الرحمة للثناء البليغ على الخاشي وهو خشيته مع علمه أنه الواسع الرحمة كما أثنى عليه بأنه خاشٍ مع أن المخشي منه غائب ‏{‏بالغيب‏}‏ حال من المفعول أي خشيه وهو غائب، أو صفة لمصدر خشي أي خشيه خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه وهو غائب‏.‏ الحسن‏:‏ إذا أغلق الباب وأرخى الستر ‏{‏وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ‏}‏ راجع إلى الله‏.‏ وقيل‏:‏ بسريرة مرضية وعقيدة صحيحة ‏{‏ادخلوها بِسَلامٍ‏}‏ أي سالمين من زوال النعم وحلول النقم ‏{‏ذلك يَوْمُ الخلود‏}‏ أي يوم تقدير الخلود كقوله ‏{‏فادخلوها خالدين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ أي مقدرين الخلود ‏{‏لَهُم مَّا يَشَآءَونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ‏}‏ على ما يشتهون، والجمهور على أنه رؤية الله تعالى بلا كيف‏.‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ‏}‏ قبل قومك ‏{‏مِّن قَرْنٍ‏}‏ من القرون الذين كذبوا رسلهم ‏{‏هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم‏}‏ من قومك ‏{‏بَطْشاً‏}‏ قوة وسطوة ‏{‏فَنَقَّبُواْ‏}‏ فخرقوا ‏{‏فِى البلاد‏}‏ وطافوا‏.‏ والتنقيب التنقير عن الأمر والبحث والطلب، ودخلت الفاء للتسبيب عن قوله ‏{‏هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً‏}‏ أي شدة بطشهم أقدرتهم على التنقيب وقوّتهم عليه، ويجوز أن يراد فنقب أهل مكة في أسفارهم ومسايرهم في بلاد القرون فهل رأوا لهم محيصاً حتى يؤملوا مثله لأنفسهم، ويدل عليه قراءة من قرأ ‏{‏فَنَقِّبُواْ‏}‏ على الأمر ‏{‏هَلْ مِن مَّحِيصٍ‏}‏ مهرب من الله أو من الموت‏.‏

‏{‏إِنَّ فِى ذلك‏}‏ المذكور ‏{‏لِذِكْرِى‏}‏ تذكرة وموعظة ‏{‏لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ‏}‏ واعٍ لأن من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له ‏{‏أَوْ أَلْقَى السمع‏}‏ أصغى إلى المواعظ ‏{‏وَهُوَ شَهِيدٌ‏}‏ حاضر بفطنته لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ‏}‏ إعياء، قيل‏:‏ نزلت في اليهود لعنت تكذيباً لقولهم خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش وقالوا‏:‏ إن الذي وقع من التشبيه في هذه الأمة إنما وقع من اليهود ومنهم أخذ‏.‏ وأنكر اليهود التربيع في الجلوس وزعموا أنه جلس تلك الجلسة يوم السبت ‏{‏فاصبر على مَا يَقُولُونَ‏}‏ أي على ما يقول اليهود ويأتون به من الكفر والتشبيه، أو على ما يقول المشركون في أمر البعث فإن من قدر على خلق العالم قدر على بعثهم والانتقام منه ‏{‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ‏}‏ حامداً ربك، والتسبيح محمول على ظاهره أو على الصلاة فالصلاة ‏{‏قَبْلَ طُلُوعِ الشمس‏}‏ الفجر ‏{‏وَقَبْلَ الغروب‏}‏ الظهر والعصر ‏{‏وَمِنَ اليل فَسَبِّحْهُ‏}‏ العشاءان أو التهجد ‏{‏وأدبار السجود‏}‏ التسبيح في آثار الصلوات والسجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة‏.‏ وقيل‏:‏ النوافل بعد المكتوبات أو الوتر بعد العشاء والأدبار جمع دبر، ‏{‏وإدبار‏}‏ حجازي وحمزة وخلف من أدبرت الصلاة إذا انقضت وتمت، ومعناه وقت انقضاء السجود كقولهم «آتيك خفوق النجم»‏.‏ ‏{‏واستمع‏}‏ لما أخبرك به من حال يوم القيامة وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به وقد وقف يعقوب عليه‏.‏ وانتصب ‏{‏يَوْمَ يُنَادِ المناد‏}‏ بما دل عليه ‏{‏ذَلِكَ يَوْمُ الخروج‏}‏ أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور‏.‏ وقيل‏:‏ تقديره واستمع حديث يوم ينادي المنادي‏.‏ ‏{‏المنادي‏}‏ بالياء في الحالين‏:‏ مكي وسهل ويعقوب، وفي الوصل‏:‏ مدني وأبو عمرو، وغيرهم بغير ياء فيهما‏.‏ والمنادي إسرافيل ينفخ في الصور وينادي‏:‏ أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء‏.‏ وقيل‏:‏ إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي بالحشر ‏{‏مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ‏}‏ من صخرة بيت المقدس وهي أقرب من الأرض إلى السماء باثني عشر ميلاً وهي وسط الأرض‏.‏

‏{‏يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة‏}‏ بدل من ‏{‏يَوْمٍ يُنَادِى‏}‏‏.‏ الصيحة النفخة الثانية ‏{‏بالحق‏}‏ متعلق ب ‏{‏الصيحة‏}‏ والمراد به البعث والحشر للجزاء ‏{‏ذلك يَوْمُ الخروج‏}‏ من القبور ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نُحْيىِ‏}‏ الخلق ‏{‏وَنُمِيتُ‏}‏ أي نميتهم في الدنيا ‏{‏وَإِلَيْنَا المصير‏}‏ أي مصيرهم ‏{‏يَوْمَ تَشَقَّقُ‏}‏ بالتخفيف‏:‏ كوفي وأبو عمرو، وغيرهم بالتشديد ‏{‏الأرض عَنْهُمْ‏}‏ أي تتصدع الأرض فتخرج الموتى من صدوعها ‏{‏سِرَاعاً‏}‏ حال من المجرور أي مسرعين ‏{‏ذلك حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ‏}‏ هين‏.‏

وتقديم الظرف يدل على الاختصاص أي لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر الذي لا يشغله شأن عن شأن ‏{‏نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ‏}‏ فيك وفينا تهديد لهم وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ‏}‏ كقوله ‏{‏بِمُسَيْطِرٍ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 22‏]‏ أي ما أنت بمسلط عليهم إنما أنت داعٍ وباعث‏.‏ وقيل‏:‏ هو من جبره على الأمر بمعنى أجبره أي ما أنت بوال عليهم تجبرهم على الإيمان ‏{‏فَذَكِّرْ بالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏‏.‏ لأنه لا ينفع إلا فيه والله أعلم‏.‏

سورة الذاريات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 22‏]‏

‏{‏وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ‏(‏1‏)‏ فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ‏(‏2‏)‏ فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ‏(‏5‏)‏ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ‏(‏6‏)‏ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ‏(‏8‏)‏ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ‏(‏9‏)‏ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ‏(‏11‏)‏ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ‏(‏13‏)‏ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏14‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏15‏)‏ آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ‏(‏16‏)‏ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ‏(‏17‏)‏ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏(‏18‏)‏ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏(‏19‏)‏ وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ‏(‏20‏)‏ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏21‏)‏ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏والذريات‏}‏ الرياح لأنها تذرو التراب وغيره، وبادغام التاء في الذال‏:‏ حمزة وأبو عمرو ‏{‏ذَرْواً‏}‏ مصدر والعامل فيه اسم الفاعل ‏{‏فالحاملات‏}‏ السحاب لأنها تحمل المطر ‏{‏وِقْراً‏}‏ مفعول الحاملات ‏{‏فالجاريات‏}‏ الفلك ‏{‏يُسْراً‏}‏ جرياً ذا يسر أي ذا سهولة ‏{‏فالمقسمات أَمْراً‏}‏ الملائكة لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما، أو تفعل التقسيم مأمورة بذلك، أو تتولى تقسيم أمر العباد؛ فجبريل للغلظة، وميكائيل للرحمة، وملك الموت لقبض الأرواح، وإسرافيل للنفخ‏.‏ ويجوز أن يراد الرياح لا غير لأنها تنشيء السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجوّ جرياً سهلاً، وتقسم الأمطار بتصريف السحاب‏.‏ ومعنى الفاء على الأول أنه أقسم بالرياح فبالسحاب التي تسوقه فبالفلك التي تجريها بهبوبها، فبالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر ومنافعها‏.‏ وعلى الثاني أنها تبتديء في الهبوب فتذرو التراب والحصباء فتقل السحاب فتجري في الجوّ باسطة له فتقسم المطر ‏{‏إِنَّمَا تُوعَدُونَ‏}‏ جواب القسم و«ما» موصولة أو مصدرية والموعود البعث ‏{‏لصادق‏}‏ وعد صادق كعيشة راضية أي ذات رضا ‏{‏وَإِنَّ الدين‏}‏ الجزاء على الأعمال ‏{‏لَوَاقِعٌ‏}‏ لكائن‏.‏

‏{‏والسماء‏}‏ هذا قسم آخر ‏{‏ذَاتِ الحبك‏}‏ الطرائق الحسنة مثل ما يظهر على الماء من هبوب الريح، وكذلك حبك الشعر آثار تثنيه وتكسره جمع حبيكة كطريقة وطرق‏.‏ ويقال‏:‏ إن خلقة السماء كذلك‏.‏ وعن الحسن‏:‏ حبكها نجومها جمع حباك ‏{‏إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ‏}‏ أي قولهم في الرسول ساحر وشاعر ومجنون وفي القرآن سحر وشعر وأساطير الأولين ‏{‏يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ‏}‏ الضمير للقرآن أو الرسول أي يصرف عنه من صرف، الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم، أو يصرف عنه من صرف في سابق علم الله أي علم فيما لم يزل أن مأفوك عن الحق لا يرعوي‏.‏ ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين، أقسم بالذاريات على أن وقوع أمر القيامة حق، ثم أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه فمنهم شاك ومنهم جاحد، ثم قال‏:‏ يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو مأفوك ‏{‏قُتِلَ‏}‏ لعن وأصله الدعاء بالقتل والهلاك ثم جرى مجرى لعن ‏{‏الخراصون‏}‏ الكذابون المقدرون ما لا يصح وهم أصحاب القول المختلف، واللام إشارة إليهم كأنه قيل‏:‏ قتل هؤلاء الخراصون ‏{‏الذين هُمْ فِى غَمْرَةٍ‏}‏ في جهل يغمرهم ‏{‏ساهون‏}‏ غافلون عما أمروا به‏.‏

‏{‏يَسْئَلُونَ‏}‏ فيقولون ‏{‏أَيَّانَ يَوْمُ الدين‏}‏ أي متى يوم الجزاء وتقديره‏:‏ أيان وقوع يوم الدين لأنه إنما تقع الأحيان ظروفاً للحدثان‏.‏ وانتصب اليوم الواقع في الجواب بفعل مضمر دل عليه السؤال أي يقع ‏{‏يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ‏}‏ ويجوز أن يكون مفتوحاً لإضافته إلى غير متمكن وهو الجملة، ومحله نصب بالمضمر الذي هو يقع أو رفع على هو يوم هم على النار يفتنون يحرقون ويعذبون ‏{‏ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ‏}‏ أي تقول لهم خزنة النار ذوقوا عذابكم وإحراقكم بالنار ‏{‏هذا‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏الذى‏}‏ أي هذا العذاب هو الذي ‏{‏كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ في الدنيا بقولكم

‏{‏فأتنا بما تعدنا‏}‏ ثم ذكر حال المؤمنين فقال‏.‏

‏{‏إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ‏}‏ أي وتكون العيون وهي الأنهار الجارية بحيث يرونها وتقع عليها أبصارهم لا أنهم فيها ‏{‏ءاخِذِينَ مَآ ءاتاهم رَّبُّهُمْ‏}‏ قابلين لكل ما أعطاهم من الثواب راضين به وآخذين حال من الضمير في الظرف وهو خبر إن ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ‏}‏ قبل دخول الجنة في الدنيا ‏{‏مُحْسِنِينَ‏}‏ قد أحسنوا أعمالهم وتفسير إحسانهم ما بعده‏.‏

‏{‏كَانُواْ قَلِيلاً مّن اليل مَا يَهْجَعُونَ‏}‏ ينامون‏.‏ و«ما» مزيدة للتوكيد و‏{‏يَهْجَعُونَ‏}‏ خبر ‏{‏كَانَ‏}‏ والمعنى كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل، أو مصدرية والتقدير‏:‏ كانوا قليلاً من الليل هجوعهم فيرتفع هجوعهم لكونه بدلاً من الواو في ‏{‏كَانُواْ‏}‏ لا ب ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ لأنه صار موصوفاً بقوله ‏{‏مِّنَ اليل‏}‏ خرج من شبه الفعل وعمله باعتبار المشابهة أي كان هجوعهم قليلاً من الليل، ولا يجوز أن تكون «ما» نافية على معنى أنهم لا يهجعون من الليل قليلاً ويحيونه كله لأن «ما» النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها لا تقول‏:‏ زيداً ما ضربت ‏{‏وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم، والسحر السدس الأخير من الليل ‏{‏وَفِى أموالهم حَقٌّ لَّلسَّائِلِ‏}‏ لمن يسأل لحاجته ‏{‏والمحروم‏}‏ أي الذي يتعرض ولا يسأل حياء‏.‏

‏{‏وَفِى الأرض ءايات‏}‏ تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره حيث هي مدحوة كالبساط لما فوقها، وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها وهي مجزأة؛ فمن سهل ومن جبل وصلبة ورخوة وعذاة وسبخة، وفيها عيون متفجرة ومعادن مفتنة ودواب منبثة مختلفة الصور والأشكال متباينة الهيئات والأفعال ‏{‏لّلْمُوقِنِينَ‏}‏ للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصّل إلى المعرفة، فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة كلما رأوا آية عرفوا وجه تأملها فازدادوا إيقاناً على إيقانهم ‏{‏وَفِى أَنفُسِكُمْ‏}‏ في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال، وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطر وبدائع الخلق ما تتحير فيه الأذهان، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول وبالألسن والنطق ومخارج الحروف وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها من الآيات الساطعة والبينات القاطعة على حكمة مدبرها وصانعها مع الأسماء والأبصار والأطراف وسائر الجوارح وتأتيها لما خلقت له، وما سوى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني فإنه إذا جسا منها شيء جاء العجز، وإذا استرخى أناخ الذل، فتبارك الله أحسن الخالقين‏.‏ وما قيل إن التقدير أفلا تبصرون في أنفسكم ضعيف لأنه يفضي إلى تقديم ما في حيز الاستفهام على حرف الاستفهام ‏{‏أَفلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ تنظرون نظر من يعتبر ‏{‏وَفِى السماء رِزْقُكُمْ‏}‏ أي المطر لأنه سبب الأقوات، وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه‏:‏ فيه والله رزقكم ولكنكم تحرمونه بخطاياكم ‏{‏وَمَا تُوعَدُونَ‏}‏ الجنة فهي على ظهر السماء السابعة تحت العرش، أو أراد أن ما ترزقونه في الدنيا وما توعدونه في العقبى كله مقدور مكتوب في السماء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 37‏]‏

‏{‏فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ‏(‏23‏)‏ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ‏(‏24‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏(‏25‏)‏ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ‏(‏26‏)‏ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ‏(‏27‏)‏ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ‏(‏28‏)‏ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ‏(‏29‏)‏ قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ‏(‏30‏)‏ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏31‏)‏ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ‏(‏32‏)‏ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ‏(‏33‏)‏ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ‏(‏34‏)‏ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏35‏)‏ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ‏}‏ الضمير يعود إلى الرزق أو إلى ‏{‏مَّا تُوعَدُونَ‏}‏ ‏{‏مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ‏}‏ بالرفع‏:‏ كوفي غير حفص صفة للحق أي حق مثل نطقكم، وغيرهم بالنصب أي إنه لحق حقاً مثل نطقكم، ويجوز أن يكون فتحاً لإضافته إلى غير متمكن و«ما» مزيدة‏.‏ وعن الأصمعي أنه قال‏:‏ أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال‏:‏ من الرجل‏؟‏ فقلت‏:‏ من بني أصمع‏.‏ قال‏:‏ من أين أقبلت‏؟‏ قلت‏:‏ من موضع يتلى فيه كلام الله، قال‏:‏ اتلو عليّ فتلوت ‏{‏والذريات‏}‏ فلما بلغت قوله ‏{‏وَفِى السماء رِزْقُكُمْ‏}‏ قال‏:‏ حسبك‏.‏ فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد وطفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم عليّ واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح وقال‏:‏ ‏{‏قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 44‏]‏ ثم قال‏:‏ وهل غير هذا‏؟‏ فقرأت ‏{‏فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ‏}‏ فصاح وقال‏:‏ يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى حلف قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه‏.‏

‏{‏هَلُ أَتَاكَ‏}‏ تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما عرفه بالوحي وانتظامها بما قبلها باعتبار أنه قال ‏{‏وَفِى الأرض ءايات‏}‏ وقال في آخر هذه القصة ‏{‏وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً‏}‏ ‏{‏حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم‏}‏ الضيف للواحد والجماعة كالصوم والزور لأنه في الأصل مصدر ضافه، وكانوا اثني عشر ملكاً‏.‏ وقيل‏:‏ تسعة عاشرهم جبريل‏.‏ وجعلهم ضيفاً لأنهم كانوا في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك ‏{‏المكرمين‏}‏ عند الله لقوله ‏{‏بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏ وقيل‏:‏ لأنه خدمهم بنفسه وأخدمهم امرأته وعجل لهم القرى ‏{‏إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ‏}‏ نصب ب ‏{‏المكرمين‏}‏ إذا فسر بإكرام إبراهيم لهم وإلا فبإضمار اذكر ‏{‏فَقَالُواْ سَلامًا‏}‏ مصدر سادٌّ مسد الفعل مستغنى به عنه، وأصله نسلم عليكم سلاماً ‏{‏قَالَ سلام‏}‏ أي عليكم سلام فهو مرفوع على الابتداء وخبره محذوف، والعدول إلى الرفع للدلالة على إثبات السلام كأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به أخذاً بأدب الله، وهذا أيضاً من إكرامه لهم‏.‏ حمزة وعلي‏:‏ سلم والسلم السلام ‏{‏قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏ أي أنتم قوم منكرون فعرفوني من أنتم ‏{‏فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ‏}‏ فذهب إليهم في خفية من ضيوفه ومن أدب المضيف أن يخفي أمره وأن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذراً من أن يكفه، وكان عامة مال إبراهيم عليه السلام البقر ‏{‏فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ‏}‏ ليأكلوا منه فلم يأكلوا ‏{‏قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ‏}‏ أنكر عليهم ترك الأكل أو حثهم عليه ‏{‏فَأَوْجَسَ‏}‏ فأضمر ‏{‏مِنْهُمْ خِيفَةً‏}‏ خوفاً لأن من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك‏.‏

عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب ‏{‏قَالُواْ لاَ تَخَفْ‏}‏ إنا رسل الله، وقيل‏:‏ مسح جبريل العجل فقام ولحق بأمه ‏{‏وَبَشَّرُوهُ بغلام عَلَيمٍ‏}‏ أي يبلغ ويعلم والمبشر به إسحاق عند الجمهور‏.‏

‏{‏فَأَقْبَلَتِ امرأته فِى صَرَّةٍ‏}‏ في صيحة من صر القلم والباب، قال الزجاج‏:‏ الصرة شدة الصياح ههنا ومحله النصب على الحال أي فجاءت صارة‏.‏ وقيل‏:‏ فأخذت في صياح وصرتها قولها يا ويلتا ‏{‏فَصَكَّتْ وَجْهَهَا‏}‏ فلطمت ببسط يديها‏.‏ وقيل‏:‏ فضربت بأطراف أصابعها جبهتها فعل المتعجب ‏{‏وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ‏}‏ أي أنا عجوز فكيف ألد كما قال في موضع آخر ‏{‏أألد وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِى شَيْخًا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 72‏]‏ ‏{‏قَالُواْ كَذَلِكِ‏}‏ مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به ‏{‏قَالَ رَبُّكِ‏}‏ أي إنما نخبرك عن الله تعالى والله قادر على ما تستبعدين ‏{‏إِنَّهُ هُوَ الحكيم‏}‏ في فعله ‏{‏العليم‏}‏ فلا يخفى عليه شيء‏.‏ ورُوي أن جبريل قال لها حين استبعدت‏:‏ انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة‏.‏ ولما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون إلا بأمر الله رسلاً في بعض الأمور ‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ‏}‏ أي فما شأنكم وما طلبكم وفيم أرسلتم‏؟‏ ‏{‏أَيُّهَا المرسلون‏}‏ أرسلتم بالبشارة خاصة أو لأمر آخر أولهما ‏{‏قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ‏}‏ أي قوم لوط ‏{‏لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ‏}‏ أريد السجيل وهو طين طبخ كما يطبخ الآجر حتى صار في صلابة الحجارة ‏{‏مُّسَوَّمَةً‏}‏ معلمة من السومة وهي العلامة على كل واحد منها اسم من يهلك به ‏{‏عِندَ رَبّكَ‏}‏ في ملكه وسلطانه ‏{‏لِلْمُسْرِفِينَ‏}‏ سماهم مسرفين كما سماهم عادين لإسرافهم وعدوانهم في عملهم حيث لم يقتنعوا بما أبيح لهم ‏{‏فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا‏}‏ في القرية ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة ‏{‏مِنَ المؤمنين‏}‏ يعني لوطاً ومن آمن به ‏{‏فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ المسلمين‏}‏ أي غير أهل بيت وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد لأن الملائكة سموهم مؤمنين ومسلمين هنا ‏{‏وَتَرَكْنَا فِيهَا‏}‏ في قراهم ‏{‏ءايَةً لّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم‏}‏ علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم‏.‏ قيل‏:‏ هي ماء أسود منتن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 60‏]‏

‏{‏وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏(‏39‏)‏ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏40‏)‏ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ‏(‏41‏)‏ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ‏(‏42‏)‏ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ‏(‏43‏)‏ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏44‏)‏ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ‏(‏45‏)‏ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏46‏)‏ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ‏(‏47‏)‏ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ‏(‏48‏)‏ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏49‏)‏ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏50‏)‏ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏51‏)‏ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏(‏52‏)‏ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ‏(‏53‏)‏ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ‏(‏54‏)‏ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏55‏)‏ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ‏(‏56‏)‏ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ‏(‏57‏)‏ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ‏(‏58‏)‏ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ ‏(‏59‏)‏ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَفِى موسى‏}‏ معطوف على ‏{‏وَفِى الأرض ءايات‏}‏ أو على قوله ‏{‏وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً‏}‏ على معنى وجعلنا في موسى آية كقوله‏:‏

علفتها تبناً وماء بارداً *** ‏{‏إِذْ أرسلناه إلى فِرْعَوْنَ بسلطان مُّبِينٍ‏}‏ بحجة ظاهرة وهي اليد والعصا ‏{‏فتولى‏}‏ فأعرض عن الإيمان ‏{‏بِرُكْنِهِ‏}‏ بما كان يتقوى به من جنوده وملكه، والركن ما يركن إليه الإنسان من مال وجند ‏{‏وَقَالَ ساحر‏}‏ أي هو ساحر ‏{‏أَوْ مَجْنُونٌ فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِى اليم وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏ آتٍ بما يلام عليه من كفره وعناده‏.‏ وإنما وصف يونس عليه السلام به في قوله ‏{‏فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏ ‏(‏الصافات‏)‏ 142‏)‏ لأن موجبات اللوم تختلف وعلى حسب اختلافها تختلف مقادير اللوم، فراكب الكفر ملوم على مقداره، وراكب الكبيرة والصغيرة والذلة كذلك، والجملة مع الواو حال من الضمير في ‏{‏فأخذناه‏}‏‏.‏

‏{‏وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم‏}‏ هي التي لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر وهي ريح الهلاك، واختلف فيها والأظهر أنها الدبور لقوله عليه السلام‏:‏ «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» ‏{‏مَا تَذَرُ مِن شَئ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم‏}‏ هو كل ما رم أي بلي وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك، والمعنى ما تترك من شيء هبت عليه من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم إلا أهلكته ‏{‏وَفِى ثَمُودَ‏}‏ آية أيضاً ‏{‏إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ‏}‏ تفسيره قوله ‏{‏تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثلاثة أَيَّامٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 65‏]‏ ‏{‏فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ‏}‏ فاستكبروا عن امتثاله ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة‏}‏ العذاب وكل عذاب مهلك صاعقة ‏{‏الصعقة‏}‏ علي وهي المرة من مصدر صعقتهم الصاعقة ‏{‏وَهُمْ يَنظُرُونَ‏}‏ لأنها كانت نهاراً يعاينونها ‏{‏فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ‏}‏ أي هرب أو هو من قولهم ما يقوم به إذا عجز عن دفعه ‏{‏وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ‏}‏ ممتنعين من العذاب أو لم يمكنهم مقابلتنا بالعذاب لأن معنى الانتصار المقابلة ‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ‏}‏ أي وأهلكنا قوم نوح لأن ما قبله يدل عليه، أو واذكر قوم نوح‏.‏ وبالجر أبو عمرو وعلي وحمزة أي وفي قوم نوح آية ويؤيده قراءة عبد الله ‏{‏وَفِى قَوْمُ نُوحٍ‏}‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل هؤلاء المذكورين ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين‏}‏ كافرين‏.‏

‏{‏والسماء‏}‏ نصب بفعل يفسره ‏{‏بنيناها بِأَيْيْدٍ‏}‏ بقوة والأيد القوة ‏{‏وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ‏}‏ لقادرون من الوسع وهي الطاقة والموسع القوي على الإنفاق أو لموسعون ما بين السماء والأرض ‏{‏والأرض فرشناها‏}‏ بسطناها ومهدناها وهي منصوبة بفعل مضمر أي فرشنا الأرض فرشناها ‏{‏فَنِعْمَ الماهدون‏}‏ نحن ‏{‏وَمِن كُلّ شَئ‏}‏ من الحيوان ‏{‏خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ‏}‏ ذكراً وأنثى‏.‏

وعن الحسن‏:‏ السماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والبر والبحر والموت والحياة، فعدد أشياء وقال كل اثنين منها زوج والله تعالى فرد لا مثل له ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ أي فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج لتتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه ‏{‏فَفِرُّواْ إِلَى الله‏}‏ أي من الشرك إلى الإيمان بالله أو من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن أو مما سواه إليه ‏{‏إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ والتكرير للتوكيد والإطالة في الوعيد أبلغ‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ الأمر مثل ذلك وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحراً أو مجنوناً‏.‏ ثم فسر ما أجمل بقوله ‏{‏مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ من قبل قومك ‏{‏مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ‏}‏ هو ‏{‏ساحر أَوْ مَجْنُونٌ‏}‏ رموهم بالسحر أو الجنون لجهلهم ‏{‏أَتَوَاصَوْاْ بِهِ‏}‏ الضمير للقول أي أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول حتى قالوه جميعاً متفقين عليه ‏{‏بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغون‏}‏ أي لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان والطغيان هو الحامل عليه ‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ فأعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة فلم يجيبوا عناداً ‏{‏فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ‏}‏ فلا لوم عليك في إعراضك بعدما بلغت الرسالة وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة ‏{‏وَذَكِّر‏}‏ وعظ بالقرآن ‏{‏فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين‏}‏ بأن تزيد في عملهم ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ العبادة إن حملت على حقيقتها فلا تكون الآية عامة بل المراد بها المؤمنون من الفريقين دليله السياق أعني ‏{‏وَذَكّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين‏}‏ وقراءة ابن عباس رضي الله عنهما ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس مِنَ المؤمنين‏}‏ وهذا لأنه لا يجوز أن يخلق الذين علم منهم أنهم لا يؤمنون للعبادة لأنه إذا خلقهم للعبادة وأراد منهم العبادة فلا بد أن توجد منهم، فإذا لم يؤمنوا علم أنه خلقهم لجهنم كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ إلا لآمرهم بالعبادة وهو منقول عن علي رضي الله عنه‏.‏ وقيل‏:‏ إلا ليكونوا عباداً لي‏.‏ والوجه أن تحمل العبادة على التوحيد فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كل عبادة في القرآن فهي توحيد‏.‏ والكل يوحدونه في الآخرة لما عرفه أن الكفار كلهم مؤمنون موحدون في الآخرة دليلة قوله ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏‏.‏

نعم قد أشرك البعض في الدنيا بالإضافة إلى الأبد أقل من يوم، ومن اشترى غلاماً وقال‏:‏ ما اشتريته إلا للكتابة كان صادقاً في قوله ما اشتريته إلا للكتابة، وإن استعمله في يوم من عمره لعمل آخر ‏{‏مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ‏}‏ ما خلقتهم ليرزقوا أنفسهم أو واحداً من عبادي ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ‏}‏ قال ثعلب‏:‏ أن يطعموا عبادي وهي إضافة تخصيص كقوله عليه السلام خبراً عن الله تعالى‏:‏

«من أكرم مؤمناً فقد أكرمني ومن آذى مؤمناً فقد آذاني» ‏{‏إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين‏}‏ الشديد القوة والمتين بالرفع صفة لذو، وقرأ الأعمش بالجر صفة للقوة على تأويل الاقتدار ‏{‏فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ‏}‏ رسول الله بالتكذيب من أهل مكة ‏{‏ذَنُوباً مّثْلَ ذَنُوبِ أصحابهم‏}‏ نصيباً من عذاب الله مثل نصيب أصحابهم ونظرائهم من القرون المهلكة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الذنوب في اللغة النصيب ‏{‏فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ‏}‏ نزول العذاب وهذا جواب النضر وأصحابه حين استعجلوا العذاب ‏{‏فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذى يُوعَدُونَ‏}‏ أي من يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ من يوم بدر ‏{‏ليعبدوني‏}‏، ‏{‏أن يطعموني‏}‏‏.‏ ‏{‏فَلا يستعجلوني‏}‏ بالياء في الحالين‏:‏ يعقوب، وافقه سهل في الوصل الباقون بغير ياء، والله أعلم‏.‏

سورة الطور

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 21‏]‏

‏{‏وَالطُّورِ ‏(‏1‏)‏ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ‏(‏2‏)‏ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ‏(‏3‏)‏ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ‏(‏4‏)‏ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ‏(‏5‏)‏ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ‏(‏9‏)‏ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ‏(‏13‏)‏ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏14‏)‏ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏15‏)‏ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ‏(‏17‏)‏ فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏18‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏20‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏والطور‏}‏ هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى وهو بمدين ‏{‏وكتاب مُّسْطُورٍ‏}‏ هو القرآن ونُكِّر لأنه كتاب مخصوص من بين سائر الكتب أو اللوح المحفوظ أو التوراة ‏{‏فِى رَقّ‏}‏ هو الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه ‏{‏مَّنْشُورٍ‏}‏ مفتوح لا ختم عليه أو لائح ‏{‏والبيت المعمور‏}‏ أي الضراح وهو بيت في السماء حيال الكعبة وعمرانه بكثرة زواره من الملائكة‏.‏ رُوي أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ويخرجون ثم لا يعودون إليه أبداً‏.‏ وقيل‏:‏ الكعبة لكونها معمورة بالحجاج والعمار ‏{‏والسقف المرفوع‏}‏ أي السماء أو العرش ‏{‏والبحر المسجور‏}‏ المملوء أو الموقد، والواو الأولى للقسم والبواقي للعطف، وجواب القسم ‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ‏}‏ أي الذي أوعد الكفار به ‏{‏لَوَاقِعٌ‏}‏ لنازل‏.‏ قال جبير بن مطعم‏:‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلمه في الأسارى فلقيته في صلاة الفجر يقرأ سورة الطور، فلما بلغ ‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ‏}‏ أسلمت خوفاً من أن ينزل العذاب ‏{‏مَالَهُ مِن دَافِعٍ‏}‏ لا يمنعه مانع والجملة صفة ل «واقع» أي واقع غير مدفوع‏.‏

والعامل في ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ ‏{‏لَوَاقِعٌ‏}‏ أي يقع في ذلك اليوم، أو اذكر ‏{‏يَوْمَ تَمُورُ‏}‏ تدور كالرحى مضطربة ‏{‏السماء مَوْراً * وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً‏}‏ في الهواء كالسحاب لأنها تصير هباء منثوراً ‏{‏فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ * الذين هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ‏}‏ غلب الخوض في الاندفاع في الباطل والكذب ومنه قوله ‏{‏وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 45‏]‏ ويبدل ‏{‏يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا‏}‏ من ‏{‏يَوْمَ تَمُورُ‏}‏ والدع‏:‏ الدفع العنيف وذلك أن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم وزخاً في أقفيتهم فيقال لهم ‏{‏هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ‏}‏ في الدنيا ‏{‏أَفَسِحْرٌ هذا‏}‏ ‏{‏هذا‏}‏ مبتدأ و‏{‏سِحْرٌ‏}‏ خبره يعني كنتم تقولون للوحي هذا سحر أفسحر هذا يريد أهذا المصداق أيضاً سحر ودخلت الفاء لهذا المعنى ‏{‏أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ كما كنتم لا تبصرون في الدنيا يعني أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عمياً عن الخبر وهذا تقريع وتهكم‏.‏

‏{‏اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ‏}‏ خبر ‏{‏سَوَآء‏}‏ محذوف أي سواء عليكم الأمران الصبر وعدمه بقوله ‏{‏إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة بأن يجازي عليه الصابر جزاء الخير، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة فلا مزية له على الجزع‏.‏

‏{‏إِنَّ المتقين فِى جنات‏}‏ في أية جنات ‏{‏وَنَعِيمٍ‏}‏ أي وأي نعيم بمعنى الكمال في الصفة أو في جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين خلقت لهم خاصة ‏{‏فاكهين‏}‏ حال من الضمير في الظرف والظرف خبر أي متلذذين ‏{‏بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ‏}‏ وعطف قوله ‏{‏ووقاهم رَبُّهُمْ‏}‏ على ‏{‏فِي جنات‏}‏ أي إن المتقين استقروا في جنات‏.‏

‏.‏‏.‏ ووقاهم ربهم، أو على ‏{‏آتاهم ربهم‏}‏ على أن تجعل «ما» مصدرية والمعنى فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم ‏{‏عَذَابَ الجحيم‏}‏ أو الواو للحال و«قد» بعدها مضمرة يقال لهم ‏{‏كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ أكلاً وشرباً هنيئاً أو طعاماً وشراباً هنيئاً وهو الذي لا تنغيص فيه ‏{‏مُتَّكِئِينَ‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏كُلُواْ واشربوا‏}‏ ‏{‏على سُرُرٍ‏}‏ جمع سرير ‏{‏مَصْفُوفَةٌ‏}‏ موصول بعضها ببعض ‏{‏وزوجناهم‏}‏ وقرناهم ‏{‏بِحُورٍ‏}‏ جمع حوراء ‏{‏عِينٌ‏}‏ عظام الأعين حسانها ‏{‏والذين ءامَنُواْ‏}‏ مبتدأ و‏{‏أَلْحَقْنَا بِهِمْ‏}‏ خبره ‏{‏واتبعتهم‏}‏ ‏{‏وأتبعناهم‏}‏ أبو عمرو ‏{‏ذُرّيَّتُهُم‏}‏ أولادهم ‏{‏بإيمان‏}‏ حال من الفاعل ‏{‏أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ‏}‏ أي نلحق الأولاد بإيمانهم وأعمالهم درجات الآباء وإن قصرت أعمال الذرية عن أعمال الآباء‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذرية وإن لم يبلغون مبلغاً يكون منهم الإيمان استدلالاً وإنما تلقنوا منهم تقليداً فهم يلحقون بالآباء‏.‏ ‏{‏ذُرّيَّتُهُم‏}‏ ‏{‏ذرياتهم‏}‏ مدني ‏{‏ذرياتهم‏}‏ ‏{‏ذرياتهم‏}‏ أبو عمرو ‏{‏ذرياتهم‏}‏ ‏{‏ذرياتهم‏}‏ شامي ‏{‏وَمَا ألتناهم مّنْ عَمَلِهِم مّن شَئ‏}‏ وما نقصناهم من ثواب عملهم من شيء‏.‏ ‏{‏ألتناهم‏}‏ مكي ألت يألِت ألتِ يألَت لغتان من الأولى متعلقة بألتناهم والثانية زائدة ‏{‏كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ‏}‏ أي مرهون فنفس المؤمن مرهونة بعمله وتجازى به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 49‏]‏

‏{‏وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏22‏)‏ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ‏(‏23‏)‏ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ‏(‏24‏)‏ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏25‏)‏ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ‏(‏26‏)‏ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ‏(‏27‏)‏ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ‏(‏28‏)‏ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ‏(‏29‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ‏(‏30‏)‏ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ‏(‏31‏)‏ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ‏(‏32‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏33‏)‏ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ‏(‏34‏)‏ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ‏(‏35‏)‏ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ ‏(‏36‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ‏(‏37‏)‏ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ‏(‏39‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ‏(‏40‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏41‏)‏ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ‏(‏42‏)‏ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏43‏)‏ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ‏(‏44‏)‏ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ‏(‏45‏)‏ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏46‏)‏ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏48‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وأمددناهم‏}‏ وزدناهم في وقت بعد وقت ‏{‏بفاكهة وَلَحْمٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ‏}‏ وإن لم يقترحوا ‏{‏يتنازعون فِيهَا كَأْساً‏}‏ خمراً أي يتعاطون ويتعاورون هم وجلساؤهم من أقربائهم يتناول هذا الكأس من يد هذا وهذا من يد هذا ‏{‏لاَّ لَغْوٌ فِيهَا‏}‏ في شربها ‏{‏وَلاَ تَأْثِيمٌ‏}‏ أي لا يجري بينهم ما يلغي يعني لا يجري بينهم باطل ولا ما فيه إثم لو فعله فاعل في دار التكليف من الكذب والشتم ونحوهما كشاربي خمر الدنيا، لأن عقولهم ثابتة فيتكلمون بالحكم والكلام الحسن‏.‏ ‏{‏لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ‏}‏ مكي وبصري‏.‏

‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ‏}‏ مملوكون لهم مخصوصون بهم ‏{‏كَأَنَّهُمْ‏}‏ من بياضهم وصفائهم ‏{‏لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ‏}‏ في الصدف لأنه رطباً أحسن وأصفى أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة، في الحديث‏:‏ ‏"‏ إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه لبيك لبيك ‏"‏ ‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ يسأل بعضهم بعضاً عن أحواله وأعماله وما استحق به نيل ما عند الله ‏{‏قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ‏}‏ أي في الدنيا ‏{‏فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ‏}‏ أرقاء القلوب من خشية الله أو خائفين من نزع الإيمان وفوت الأمان، أو من رد الحسنات والأخذ بالسيئات ‏{‏فَمَنَّ الله عَلَيْنَا‏}‏ بالمغفرة والرحمة ‏{‏ووقانا عَذَابَ السموم‏}‏ هي الريح الحارة التي تدخل المسام فسميت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة ‏{‏إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه يعنون في الدنيا ‏{‏نَدْعُوهُ‏}‏ نعبده ولا نعبد غيره ونسأله الوقاية ‏{‏إِنَّهُ هُوَ البر‏}‏ المحسن ‏{‏الرّحيم‏}‏ العظيم الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب‏.‏ ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ بالفتح‏:‏ مدني وعلي أي بأنه أو لأنه ‏{‏فَذَكِّرْ‏}‏ فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم ‏{‏فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبَّكَ‏}‏ برحمة ربك وإنعامه عليه بالنبوة ورجاحة العقل ‏{‏بكاهن وَلاَ مَجْنُونٍ‏}‏ كما زعموا وهو في موضع الحال والتقدير لست كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك‏.‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ‏}‏ هو ‏{‏شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون‏}‏ حوادث الدهر أي ننتظر نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة‏.‏ و«أم» في أوائل هذه الآي منقطعة بمعنى بل والهمزة ‏{‏قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ المتربصين‏}‏ أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي ‏{‏أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم‏}‏ عقولهم ‏{‏بهذا‏}‏ التناقض في القول وهو قولهم كاهن وشاعر مع قولهم مجنون وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهي ‏{‏أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ‏}‏ مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق لهم، وإسناد الأمر إلى الأحلام مجاز ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ‏}‏ اختلقه محمد من تلقاء نفسه ‏{‏بَلِ‏}‏ رد عليهم أي ليس الأمر كما زعموا ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه المطاعن مع علمهم ببطلان قولهم وأنه ليس بمتقول لعجز العرب عنه وما محمد إلا واحد من العرب ‏{‏فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ‏}‏ مختلق ‏{‏مّثْلِهِ‏}‏ مثل القرآن ‏{‏إِن كَانُواْ صادقين‏}‏ في أن محمداً تقوله من تلقاء نفسه لأنه بلسانهم وهم فصحاء ‏{‏أم خُلِقُواْ‏}‏ أم أحدثوا وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم ‏{‏مِنْ غَيْرِ شَئ‏}‏ من غير مقدر ‏{‏أَمْ هُمُ الخالقون‏}‏ أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق‏.‏

وقيل‏:‏ أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء ولا حساب أم هم الخالقون فلا يأتمرون ‏{‏أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض‏}‏ فلا يعبدون خالقهما ‏{‏بَل لاَّ يُوقِنُونَ‏}‏ أي لا يتدبرون في الآيات فيعلموا خالقهم وخالق السماوات والأرض‏.‏

‏{‏أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ‏}‏ من النبوة والرزق وغيرهما فيخصوا من شاءوا بما شاءوا ‏{‏أَمْ هُمُ المصيطرون‏}‏ الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على مشيئتهم‏.‏ وبالسين‏:‏ مكي وشامي‏.‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ‏}‏ منصوب يرتقون به إلى السماء ‏{‏يَسْتَمِعُونَ فِيهِ‏}‏ كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يستمعون فيه أي عليه ‏{‏فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بسلطان مُّبِينٍ‏}‏ بحجة واضحة تصدق استماع مستمعهم ‏{‏أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون‏}‏ ثم سفه أحلامهم حيث اختاروا لله ما يكرهون وهم حكماء عند أنفسهم ‏{‏أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً‏}‏ على التبليغ والإنذار ‏{‏فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ‏}‏ المغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه أي لزمهم مغرم ثقيل فدحهم فزهدهم ذلك في اتباعك ‏{‏أَمْ عِندَهُمُ الغيب‏}‏ أي اللوح المحفوظ ‏{‏فَهُمْ يَكْتُبُونَ‏}‏ ما فيه حتى يقولوا لا نبعث وإن بعثنا لم نعذب ‏{‏أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً‏}‏ وهو كيدهم في دار الندوة برسول الله وبالمؤمنين ‏{‏فالذين كَفَرُواْ‏}‏ إشارة إليهم أو أريد بهم كل من كفر بالله تعالى ‏{‏هُمُ المكيدون‏}‏ هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم ويحيق بهم مكرهم وذلك أنهم قتلوا يوم بدر، أو المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته ‏{‏أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله‏}‏ يمنعهم من عذاب الله ‏{‏سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السماء ساقطا يَقُولُواْ سحاب‏}‏ والكسف القطعة وهو جواب قولهم‏:‏ ‏{‏أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 92‏]‏ يريد أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم لو أسقطناه عليهم لقالوا هذا سحاب ‏{‏مَّرْكُومٌ‏}‏ قدركم أي جمع بعضه على بعض يمطرنا ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب‏.‏

‏{‏فَذَرْهُمْ حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى فِيهِ يُصْعَقُونَ‏}‏ بضم الياء‏:‏ عاصم وشامي‏.‏

الباقون بفتح الياء، يقال‏:‏ صعقه فصعق وذلك عند النفخة الأولى نفخة الصعق ‏{‏يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ‏}‏ وإن لهؤلاء الظلمة ‏{‏عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ‏}‏ دون يوم القيامة وهو القتل ببدر والقحط سبع سنين وعذاب القبر ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك‏.‏ ثم أمره بالصبر إلى أن يقع بهم العذاب فقال ‏{‏واصبر لِحُكْمِ رَبّكَ‏}‏ بإمهالهم وبما يلحقك فيه من المشقة ‏{‏فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏ أي بحيث نراك ونكلؤك‏.‏ وجمع العين لأن الضمير بلفظ الجماعة ألا ترى إلى قوله ‏{‏وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏ ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ‏}‏ للصلاة وهو ما يقال بعد التكبير سبحانك اللهم وبحمدك، أو من أي مكان قمت أو من منامك ‏{‏وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ وإدبار النجوم‏}‏ وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل وأدبار زيد أي في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت، والمراد الأمر بقول سبحان الله وبحمده في هذه الأوقات‏.‏ وقيل‏:‏ التسبيح الصلاة إذا قام من نومه، ومن الليل صلاة العشاءين، وإدبار النجوم صلاة الفجر، وبالله التوفيق‏.‏