فصل: سورة الجمعة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


سورة الجمعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏2‏)‏ وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏4‏)‏ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏5‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏9‏)‏ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم‏}‏ التسبيح إما أن يكون تسبيح خلقة يعني إذا نظرت إلى كل شيء دلتك خلقته على وحدانية الله تعالى وتنزيهه عن الأشباه، أو تسبيح معرفة بأن يجعل الله بلطفه في كل شيء ما يعرف به الله تعالى وينزهه، ألا ترى إلى قوله ‏{‏وَإِن مّن شَئ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏ أو تسبيح ضرورة بأن يجري الله التسبيح على كل جوهر من غير معرفة له بذلك ‏{‏هُوَ الذى بَعَثَ‏}‏ أرسل ‏{‏فِى الأميين رَسُولاً مّنْهُمْ‏}‏ أي بعث رجلاً أمياً في قوم أميين‏.‏ وقيل ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ كقوله ‏{‏مّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ يعلمون نسبه وأحواله‏.‏ والأمي منسوب إلى أمة العرب لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون من بين الأمم‏.‏ وقيل‏:‏ بدئت الكتابة بالطائف وهم أخذوها من أهل الحيرة وأهل الحيرة من أهل الأنبار ‏{‏يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياته‏}‏ القرآن ‏{‏وَيُزَكّيهِمْ‏}‏ ويطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية ‏{‏وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب‏}‏ القرآن ‏{‏والحكمة‏}‏ السنة أو الفقه في الدين ‏{‏وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ‏}‏ من قبل محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏لَفِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ كفر وجهالة، و«إن» مخففة من الثقيلة واللام دليل عليها أي كانوا في ضلال لا ترى ضلالاً أعظم منه‏.‏

‏{‏وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ‏}‏ مجرور معطوف على ‏{‏الأميين‏}‏ يعني أنه بعثه في الأميين الذين على عهده وفي آخرين من الأميين ‏{‏لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ‏}‏ أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون بهم وهم الذين بعد الصحابة رضي الله عنهم، أو هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم الدين‏.‏ وقيل‏:‏ هم العجم‏.‏ أو منصوب معطوف على المنصوب في ‏{‏وَيُعَلّمُهُمُ‏}‏ أي يعلمهم ويعلم آخرين لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستنداً إلى أوله فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه ‏{‏وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ في تمكينه رجلاً أمياً من ذلك الأمر العظيم وتأييده عليه واختياره إياه من بين كافة البشر ‏{‏ذلك‏}‏ الفضل الذي أعطاه محمداً وهو أن يكون نبي أبناء عصره ونبي أبناء العصور الغوابر هو ‏{‏فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء‏}‏ إعطاءه وتقتضيه حكمته ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة‏}‏ أي كلفوا علمها والعمل بما فيها ‏{‏ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا‏}‏ ثم لم يعملوا بها فكأنهم لم يحملوها ‏{‏كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً‏}‏ جمع سفر وهو الكتاب الكبير و‏{‏يَحْمِلُ‏}‏ في محل النصب على الحال أو الجر على الوصف لأن الحمار كاللئيم في قوله‏:‏

ولقد أمر على اللئيم يسبني *** شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها وحفاظ ما فيها ثم لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بآياتها، وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به فلم يؤمنوا به بالحمار حمل كتباً كباراً من كتب العلم فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله ‏{‏بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئايات الله‏}‏ أي بئس مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، أو بئس مثل القوم المكذبين مثلهم وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ أي وقت اختيارهم الظلم أو لا يهدي من سبق في علمه أنه يكون ظالماً‏.‏

‏{‏قُلْ ياأيها الذين هَادُواْ‏}‏ هاد يهود إذا تهود ‏{‏إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه أي إن كان قولكم حقاً وكنتم على ثقة فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعاً إلى دار كرامته التي أعدها لأوليائه، ثم قال ‏{‏وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ‏}‏ أي بسبب ما قدموا من الكفر‏.‏ ولا فرق بين «لا» و«لن» في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل إلا أن في «لن» تأكيداً وتشديداً ليس في «لا» فأتى مرة بلفظ التأكيد و‏{‏لَنْ يَتَمَنَّوْهُ‏}‏ ومرة بغير لفظه و‏{‏لا يَتَمَنَّونَهُ‏}‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ بالظالمين‏}‏ وعيد لهم‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ‏}‏ ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم ‏{‏فَإِنَّهُ ملاقيكم‏}‏ لا محالة والجملة خبر «إن» ودخلت الفاء لتضمن الذي معنى الشرط ‏{‏ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ فيجازيكم بما أنتم أهله من العقاب‏.‏

‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة‏}‏ النداء الأذان و«من» بيان ل «إذا» وتفسير له، ويوم الجمعة سيد الأيام وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ووقى فتنة القبر ‏"‏ ‏{‏فاسعوا‏}‏ فامضوا وقرئ بها وقال الفراء‏:‏ السعي والمضي والذهاب واحد وليس المراد به السرعة في المشي ‏{‏إلى ذِكْرِ الله‏}‏ أي إلى الخطبة عند الجمهور وبه استدل أبو حنيفة رضي الله عنه على أن الخطيب إذا اقتصر على الحمد لله جاز ‏{‏وَذَرُواْ البيع‏}‏ أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا‏.‏ وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال فقيل له بادروا تجارة الآخرة واتركوا تجارة الدنيا واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح، وذروا البيع الذي نفعه يسير ‏{‏ذلكم‏}‏ أي السعي إلى ذكر الله ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ من البيع والشراء ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة‏}‏ أي أديت ‏{‏فانتشروا فِى الأرض‏}‏ أمر إباحة ‏{‏وابتغوا مِن فَضْلِ الله‏}‏ الرزق أو طلب العلم أو عيادة المريض أو زيارة أخ في الله ‏{‏واذكروا الله كَثِيراً‏}‏ واشكروه على ما وفقكم لأداء فرضه ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا‏}‏ تفرقوا عنك إليها وتقديره‏:‏ وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه خص التجارة لأنها كانت أهم عندهم‏.‏

رُوي أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشأم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقاموا إليه فما بقي معه إلا ثمانية أو اثنا عشر فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعاً لأضرم عليهم الوادي ناراً» وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق فهو المراد باللهو ‏{‏وَتَرَكُوكَ‏}‏ على المنبر ‏{‏قَائِمَاً‏}‏ تخطب، وفيه دليل على أن الخطيب ينبغي أن يخطب قائماً ‏{‏قُلْ مَا عِندَ الله‏}‏ من الثواب ‏{‏خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة والله خَيْرُ الرازقين‏}‏ أي لا يفوتهم رزق الله بترك البيع فهو خيرالرازقين، والله أعلم‏.‏

سورة المنافقون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ‏(‏1‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏4‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏5‏)‏ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏6‏)‏ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏إِذَا جَاءكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله‏}‏ أرادوا شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم ‏{‏والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ‏}‏ أي والله يعلم أن الأمر كما يدل عليه قولهم ‏{‏إِنَّكَ لَرَسُولُ الله‏}‏ ‏{‏والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون‏}‏ في ادعاء المواطأة أو إنهم لكاذبون فيه لأنه إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة فهم كاذبون في تسميته شهادة، أو إنهم لكاذبون عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أن قولهم ‏{‏إِنَّكَ لَرَسُولُ الله‏}‏ كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه ‏{‏اتخذوا أيمانهم جُنَّةً‏}‏ وقاية من السبي والقتل وفيه دليل على أن أشهد يمين ‏{‏فَصَدُّواْ‏}‏ الناس ‏{‏عَن سَبِيلِ الله‏}‏ عن الإسلام بالتنفير وإلقاء الشبه ‏{‏إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ من نفاقهم وصدهم الناس عن سبيل الله‏.‏ وفي «ساء» معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى قوله ‏{‏سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالاً ‏{‏بِأَنَّهُمْ‏}‏ بسبب أنهم ‏{‏ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ‏}‏ أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان أي ذلك كله بسبب أنهم آمنوا أي نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام، ثم كفروا، ثم ظهر كفرهم بعد ذلك بقولهم‏:‏ إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن حمير ونحو ذلك، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام كقوله ‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏ الآية‏.‏ ‏{‏فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ‏}‏ فختم عليها حتى لا يدخلها الإيمان جزاء على نفاقهم ‏{‏فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ‏}‏ لا يتدبرون أو لا يعرفون صحة الإيمان‏.‏

والخطاب في ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم‏}‏ لرسول الله أو لكل من يخاطب ‏{‏وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ‏}‏ كان ابن أبيّ رجلاً جسيماً صبيحاً فصيحاً، وقوم من المنافقين في مثل صفته، فكانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فيستندون فيه ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياً كلهم ويسمعون إلى كلامهم‏.‏ وموضع ‏{‏كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ‏}‏ رفع على «هم كأنهم خشب»، أو هو كلام مستأنف لا محل له ‏{‏مُّسَنَّدَةٌ‏}‏ إلى الحائط، شبهوا في استنادهم وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحائط لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكاً غير منتفع به أسند إلى الحائط فشبهوا به في عدم الانتفاع، أو لأنهم أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام، ‏{‏خُشُبٌ‏}‏ أبو عمرو غير عباس وعلي جمع خشبة كبدنة وبدون خشب كثمرة وثمر ‏{‏يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم‏}‏ ‏{‏كُلَّ صَيْحَةٍ‏}‏ مفعول أول والمفعول الثاني ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ وتم الكلام أي يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وضارة لهم لخيفتهم ورعبهم يعني إذا نادى منادٍ في العسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوه إيقاعاً بهم‏.‏

ثم قال ‏{‏هُمُ العدو‏}‏ أي هم الكاملون في العداوة لأن أعدى الأعداء العدو المداجي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي ‏{‏فاحذرهم‏}‏ ولا تغترر بظاهرهم ‏{‏قاتلهم الله‏}‏ دعاء عليهم أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك ‏{‏أنى يُؤْفَكُونَ‏}‏ كيف يعدلون عن الحق تعجباً من جهلهم وضلالتهم‏.‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ‏}‏ عطفوها وأمالوها إعراضاً عن ذلك واستكباراً ‏{‏لَوَّوْاْ‏}‏ بالتخفيف‏:‏ نافع ‏{‏وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ‏}‏ يعرضون ‏{‏وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ‏}‏ عن الاعتذار والاستغفار‏.‏ رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتلهم، ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر وسنان الجهني حليف لابن أبي واقتتلا، فصرخ جهجاه‏:‏ يا للمهاجرين، وسنان‏:‏ يا للأنصار، فأعان جهجاهاً جعال من فقراء المهاجرين ولطم سناناً فقال عبد الله لجعال وأنت هناك وقال‏:‏ ما صحبنا محمداً إلا لنلطم والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال‏:‏ سمن كلبك يأكلك‏.‏ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، عني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لقومه‏:‏ والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد‏.‏ فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث فقال‏:‏ أنت والله الذليل المبغض في قومك، ومحمد على رأسه تاج المعراج في عز من الرحمن وقوة من المسلمين‏.‏ فقال عبد الله‏:‏ اسكت فإنما كنت ألعب‏.‏ فأخبر زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله‏.‏ فقال‏:‏ إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب‏.‏ قال‏:‏ فإن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر به أنصارياً‏.‏ قال‏:‏ فكيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله‏:‏ أنت صاحب الكلام الذي بلغني‏؟‏ قال‏:‏ والله أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك وإن زيداً لكاذب فهو قوله ‏{‏اتخذوا أيمانهم جُنَّةً‏}‏ فقال الحاضرون‏:‏ يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام عسى أن يكون قدوهم‏.‏ فلما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد‏:‏ يا غلام إن الله قد صدقك وكذب المنافقين‏.‏ فلما بان كذب عبد الله قيل له‏:‏ قد نزلت فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك فلوى رأسه فقال‏:‏ أمرتموني أن أومن فآمنت وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت وما بقي لي إلا أن أسجد لمحمد، فنزل ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله‏}‏ ولم يلبث إلا أياماً حتى اشتكى ومات‏.‏

‏{‏سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ‏}‏ أي ما داموا على النفاق‏.‏ والمعنى سواء عليهم الاستغفار وعدمه لأنهم لا يلتفتون إليه ولا يعتدون به لكفرهم، أو لأن الله لا يغفر لهم‏.‏ وقرئ ‏{‏استغفرت‏}‏ على حذف حرف الاستفهام لأن «أم» المعادلة تدل عليه ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين * هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ‏}‏ يتفرقوا ‏{‏وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السماوات والأرض‏}‏ أي وله الأرزاق والقسم فهو رازقهم منها وإن أبى أهل المدينة أن ينفقوا عليهم ‏{‏ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ‏}‏ ولكن عبد الله وأضرابه جاهلون لا يفقهون ذلك فيهذون بما يزين لهم الشيطان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 11‏]‏

‏{‏يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏10‏)‏ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا‏}‏ من غزوة بني المصطلق ‏{‏إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل وَلِلَّهِ العزة‏}‏ الغلبة والقوة ‏{‏وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين وهم الأخصاء بذلك كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين‏.‏ وعن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة‏:‏ ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه، والغني الذي لا فقر معه‏!‏ وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلاً قال له‏:‏ إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً‏.‏ قال‏:‏ ليس بتيه ولكنه عزة وتلا هذه الآية ‏{‏ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ * ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ‏}‏ لا تشغلكم ‏{‏أموالكم‏}‏ والتصرف فيها والسعي في تدبير أمرها بالنماء وطلب النتاج ‏{‏وَلاَ أولادكم‏}‏ وسروركم بهم وشفقتكم عليهم والقيام بمؤنهم ‏{‏عَن ذِكْرِ الله‏}‏ أي عن الصلوات الخمس أو عن القرآن ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك‏}‏ يريد الشغل بالدنيا عن الدين‏.‏ وقيل‏:‏ من يشتغل بتثمير أمواله عن تدبير أحواله وبمرضاة أولاده عن إصلاح معاده ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون‏}‏ في تجارتهم حيث باعوا الباقي بالفاني‏.‏

‏{‏وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رزقناكم‏}‏ «من» للتبعيض والمراد بالإنفاق الواجب ‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت‏}‏ أي من قبل أن يرى دلائل الموت ويعاين ما ييأس معه من الإمهال ويتعذر عليه الإنفاق ‏{‏فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى‏}‏ هلا أخرت موتي ‏{‏إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏ إلى زمان قليل ‏{‏فَأَصَّدَّقَ‏}‏ فأتصدق وهو جواب «لولا» ‏{‏وَأَكُن مّنَ الصالحين‏}‏ من المؤمنين‏.‏ والآية في المؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ في المنافقين‏.‏ ‏{‏وأكون‏}‏ أبو عمرو بالنصب عطفاً على اللفظ، والجزم على موضع ‏{‏فَأَصَّدَّقَ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ إن أخرتني أصدق وأكن ‏{‏وَلَن يُؤَخّرَ الله نَفْساً‏}‏ عن الموت ‏{‏إِذَا جَاء أَجَلُهَا‏}‏ المكتوب في اللوح المحفوظ ‏{‏والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏{‏يَعْمَلُونَ‏}‏ حماد ويحيى، والمعنى أنكم إذا علمتم أن تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل إليه، وأنه هاجم لا محالة، وأن الله عليم بأعمالكم فمجاز عليها من منع واجب وغيره، لم يبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجب والاستعداد للقاء الله تعالى، والله أعلم بالصواب‏.‏

سورة التغابن

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏2‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏3‏)‏ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏4‏)‏ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏5‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏6‏)‏ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏7‏)‏ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏10‏)‏ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏12‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏13‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض لَهُ الملك وَلَهُ الحمد وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل، وذلك لأن الملك على الحقيقة له لأنه مبدئ كل شيء والقائم به، وكذا الحمد لأن أصول النعم وفروعها منه، وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء وحمد غيره اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ‏}‏ أي فمنكم آتٍ بالكفر وفاعل له، ومنكم آتٍ بالإيمان وفاعل له، ويدل عليه ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ أي عالم وبصير بكفركم وإيمانكم اللذين هما من عملكم‏.‏ والمعنى هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد من العدم، وكان يجب أن تكونوا بأجمعكم شاكرين، فما بالكم تفرقتم أمماً فمنكم كافر ومنكم مؤمن‏؟‏ وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم وهو رد لقول من يقول بالمنزلة بين المنزلتين‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية، ومنكم مؤمن به‏.‏

‏{‏خَلَقَ السماوات والأرض بالحق‏}‏ بالحكمة البالغة وهو أن جعلها مقار المكلفين ليعملوا فيجازيهم ‏{‏وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ‏}‏ أي جعلكم أحسن الحيوان كله وأبهاه بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكب، ومن كان دميماً مشوه الصورة سمج الخلقة فلا سماجة ثمّ، ولكن الحسن على طبقات فلانحطاطها عما فوقها لا تستملح ولكنها غير خارجة عن حد الحسن، وقالت الحكماء‏:‏ شيئان لا غاية لهما، الجمال والبيان ‏{‏وَإِلَيْهِ المصير‏}‏ فأحسنوا سرائركم كما أحسن صوركم ‏{‏يَعْلَمُ مَا فِى السماوات والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ والله عَلِيمُ بِذَاتِ الصدور‏}‏ نبه بعلمه ما في السماوات والأرض، ثم بعلمه بما يسره العباد ويعلنونه، ثم بعلمه بذات الصدور أن شيئاً من الكليات والجزئيات غير خافٍ عليه فحقه أن يتقى ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه‏.‏ وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد وكل ما ذكره بعده قوله ‏{‏فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ‏}‏ في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصى الخالف ولا تشكر نعمته‏.‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ‏}‏ الخطاب لكفار مكة ‏{‏نَبَؤُاْ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ‏}‏ يعني قوم نوح وهود وصالح ولوط ‏{‏فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ‏}‏ أي ذاقوا وبال كفرهم في الدنيا ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ في العقبى‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما ذكر من الوبال الذي ذاقوه في الدنيا وما أعد لهم من العذاب في الآخرة ‏{‏بِأَنَّهُ‏}‏ بأن الشأن والحديث ‏{‏كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات‏}‏ بالمعجزات ‏{‏فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا‏}‏ أنكروا الرسالة للبشر ولم ينكروا العبادة للحجر ‏{‏فَكَفَرُواْ‏}‏ بالرسل ‏{‏وَتَوَلَّواْ‏}‏ عن الإيمان ‏{‏واستغنى الله‏}‏ أطلق ليتناول كل شيء ومن جملته أيمانهم وطاعتهم ‏{‏والله غَنِىٌّ‏}‏ عن خلقه ‏{‏حَمِيدٌ‏}‏ على صنعه‏.‏

‏{‏زَعَمَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي أهل مكة، والزعم ادعاء العلم ويتعدى تعدي العلم ‏{‏أَن لَّن يُبْعَثُواْ‏}‏ «أن» مع ما في حيزه قائم مقام المفعولين وتقديره أنهم لن يبعثوا ‏{‏قُلْ بلى‏}‏ هو إثبات لما بعد «لن» وهو البعث ‏{‏وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ‏}‏ أكد الإخبار باليمين‏.‏ فإن قلت‏:‏ ما معنى اليمين على شيء أنكروه‏؟‏ قلت‏:‏ هو جائز لأن التهديد به أعظم موقعاً في القلب فكأنه قيل لهم‏:‏ ما تنكرونه كائن لا محالة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ‏}‏ البعث ‏{‏عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ هين ‏{‏فَئَامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏والنور الذى أَنزَلْنَا‏}‏ يعني القرآن لأنه يبين حقيقة كل شيء فيهتدي به كما بالنور ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ فراقبوا أموركم ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ‏}‏ انتصب الظرف بقوله ‏{‏لَتُنَبَّؤُنَّ‏}‏ أو بإضمار «اذكر» ‏{‏لِيَوْمِ الجمع‏}‏ ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون ‏{‏ذَلِكَ يَوْمُ التغابن‏}‏ وهو مستعار من تغابن القوم في التجارة وهو أن يغبن بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء، كما ورد في الحديث، ومعنى ذلك يوم التغابن‏.‏ وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم استعظام له وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا ‏{‏وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا‏}‏ صفة للمصدر أي عملاً صالحاً ‏{‏يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته وَيُدْخِلْهُ‏}‏ وبالنون فيهما‏:‏ مدني وشامي ‏{‏جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الفوز العظيم الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أُوْلَئِكَ أصحاب النار خالدين فِيهَا وَبِئْسَ المصير‏}‏‏.‏

‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ‏}‏ شدة ومرض وموت أهل أو شيء يقتضي همًّا ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ بعلمه وتقديره ومشيئته كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه ‏{‏وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ للاسترجاع عند المصيبة حتى يقول‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ أو يشرحه للازدياد من الطاعة والخير، أو يهد قلبه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعن مجاهد‏:‏ إن ابتلي صبر وإن أعطى شكر وإن ظلم غفر ‏{‏والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول فَإِن تَولَّيْتُمْ‏}‏ عن طاعة الله وطاعة رسوله ‏{‏فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين‏}‏ أي فعليه التبليغ وقد فعل ‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم على التوكل عليه حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ‏}‏ أي إن من الأزواج أزواجاً يعادين بعولتهن ويخاصمنهم، ومن الأولاد أولاداً يعادون آباءهم ويعقّونهم ‏{‏فاحذروهم‏}‏ الضمير للعدو أو للأزواج والأولاد جميعاً أي لما علمتم أن هؤلاء لا يخلون من عدوّ فكونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم ‏{‏وَإِن تَعْفُواْ‏}‏ عنهم إذا اطلعتم منهم على عداوة ولم تقابلوهم بمثلها ‏{‏وَتَصْفَحُواْ‏}‏ تعرضوا عن التوبيخ ‏{‏وَتَغْفِرُواْ‏}‏ تستروا ذنوبهم ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم‏.‏ قيل‏:‏ إن ناساً أرادوا الهجرة عن مكة فثبطهم أزواجهم وأولادهم وقالوا‏:‏ تنطلقون وتضيعوننا‏.‏ فرقوا لهم ووقفوا، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم فزين لهم العفو‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏16‏)‏ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏17‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ‏}‏ بلاء ومحنة لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة ولا بلاء أعظم منهما ‏{‏والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ أي في الآخرة وذلك أعظم من منفعتكم بأموالكم وأولادكم‏.‏ ولم يدخل فيه «من» كما في العداوة لأن الكل لا يخلو عن الفتنة وشغل القلب وقد يخلو بعضهم عن العداوة ‏{‏فاتقوا الله مَا استطعتم‏}‏ جهدكم ووسعكم، قيل‏:‏ هو تفسير لقوله ‏{‏حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ ‏{‏واسمعوا‏}‏ ما توعظون به ‏{‏وَأَطِيعُواْ‏}‏ فيما تؤمرون به وتنهون عنه ‏{‏وَأَنْفِقُواْ‏}‏ في الوجوه التي وجبت عليكم النفقة فيها ‏{‏خَيْراً لأَِنفُسِكُمْ‏}‏ أي انفاقاً خيراً لأنفسكم‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ يكن الإنفاق خيراً لأنفسكم والأصح أن تقديره ائتوا خيراً لأنفسكم وافعلوا ما هو خير لها، وهو تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر وبيان، لأن هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وما أنتم عاكفون عليه من حب الشهوات وزخارف الدنيا ‏{‏وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ‏}‏ أي البخل بالزكاة والصدقة الواجبة ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون * إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً‏}‏ بنية وإخلاص، وذكر القرض تلطف في الاستدعاء ‏{‏يضاعفه لَكُمْ‏}‏ يكتب لكم بالواحدة عشراً أو سبعمائة إلى ما شاء من الزيادة ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله شَكُورٌ‏}‏ يقبل القليل ويعطي الجزيل ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ يقيل الجليل من ذنب البخيل أو يضعف الصدقة لدافعها ولا يعجل العقوبة لمانعها ‏{‏عالم الغيب‏}‏ أي يعلم ما استتر من سرائر القلوب ‏{‏والشهادة‏}‏ أي ما انتشر من ظواهر الخطوب ‏{‏العزيز‏}‏ المعز بإظهار العيوب ‏{‏الحكيم‏}‏ في الإخبار عن الغيوب، والله أعلم‏.‏

سورة الطلاق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ‏(‏1‏)‏ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ‏(‏2‏)‏ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ‏(‏3‏)‏ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ‏(‏4‏)‏ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ‏(‏5‏)‏ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء‏}‏ خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم يا فلان افعلوا كذا إظهاراً لتقدمه واعتباراً لترؤسه وأنه قدوة قومه، فكان هو وحده في حكم كلهم وسادّاً مسد جميعهم‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير يا أيها النبي والمؤمنون‏.‏ ومعنى ‏{‏إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء‏}‏ إذا أردتم تطليقهن وهممتم به على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة الشارع فيه كقوله عليه السلام «من قتل قتيلاً فله سلبه» ومنه‏:‏ كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المصلي‏.‏ ‏{‏فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ فطلقوهن مستقبلات لعدتهن، وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏فِى قبل عدتهن‏}‏ وإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة لعدتها، والمراد أن تطلق المدخول بهن من المعتدات بالحيض في طهر لم يجامعهن فيه، ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن وهذا أحسن الطلاق ‏{‏وَأَحْصُواْ العدة‏}‏ واضبطوها بالحفظ وأكملوها ثلاثة أقراء مستقبلات كوامل لا نقصان فيهن، وخوطب الأزواج لغفلة النساء‏.‏

‏{‏واتقوا الله رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ‏}‏ حتى تنقضي عدتهن ‏{‏مِن بُيُوتِهِنَّ‏}‏ من مساكنهن التي يسكنها قبل العدة وهي بيوت الأزواج، وأضيفت إليهن لاختصاصها بهن من حيث السكنى، وفيه دليل على أن السكنى واجبة، وأن الحنث بدخول دار يسكنها فلان بغير ملك ثابت فيما إذا حلف لا يدخل داره‏.‏ ومعنى الإخراج أن لا يخرجهن البعولة غضباً عليهن وكراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن، وأن لا يأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك إيذاناً بأن إذنهم لا أثر له في رفع الحظر ‏{‏وَلاَ يَخْرُجْنَ‏}‏ بأنفسهن إن أردن ذلك ‏{‏إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ‏}‏ قيل‏:‏ هي الزنا أي إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن‏.‏ وقيل‏:‏ خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه ‏{‏وَتِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏ أي الأحكام المذكورة ‏{‏وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى‏}‏ أيها المخاطب ‏{‏لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً‏}‏ بأن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها، والمعنى فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة ولا تخرجوهن من بيوتهن لعلكم تندمون فتراجعون‏.‏

‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ قاربن آخر العدة ‏{‏فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ أي فأنتم بالخيار إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف والإحسان، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة واتقاء الضرار وهو أن يراجعها في آخر عدتها ثم يطلقها تطويلاً للعدة عليها وتعذيباً لها ‏{‏وَأَشْهِدُواْ‏}‏ يعني عند الرجعة والفرقة جميعاً، وهذا الإشهاد مندوب إليه لئلا يقع بينهما التجاحد ‏{‏ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ‏}‏ من المسلمين ‏{‏وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ‏}‏ لوجهه خالصاً وذلك أن يقيموها لا للمشهود له ولا للمشهود عليه ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الضرر ‏{‏ذلكم‏}‏ الحث على إقامة الشهادة لوجه الله ولأجل القيام بالقسط ‏{‏يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر‏}‏ أي إنما ينتفع به هؤلاء ‏{‏وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً‏}‏ هذه جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة، والمعنى ومن يتق الله فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد ‏{‏يَجْعَلِ الله لَهُ مَخْرَجاً‏}‏ مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق ويفرج عنه ويعطه الخلاص‏.‏

‏{‏وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ‏}‏ من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه، ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ‏}‏‏.‏ أي ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ومخلصاً من غموم الدنيا والآخرة‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها فقال‏:‏ «مخرجاً من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة»‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ومن يتق الله» فما زال يقرؤها ويعيدها، ورُوي أن عوف بن مالك أسر المشركون ابناً له فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أسر ابني وشكا إليه الفاقة فقال‏:‏ «ما أمسى عند آل محمد إلا مدّ فاتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏ فعاد إلى بيته وقال لامرأته‏:‏ إن رسول الله أمرني وإياك أن نستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» فقالت‏:‏ نعم ما أمرنا به فجعلا يقولان ذلك، فبينما هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل تغفل عنها العدو فاستاقها فنزلت هذه الآية ‏{‏وَمَن يَتَوَكَّلْ على الله‏}‏ يكل أمره إليه عن طمع غيره وتدبير نفسه ‏{‏فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏ كافيه في الدارين ‏{‏إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ‏}‏ حفص أي منفذ أمره، غيره ‏{‏بالغٌ أمرَه‏}‏ أي يبلغ ما يريد لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب ‏{‏قَدْ جَعَلَ الله لِكُلّ شَئ قَدْراً‏}‏ تقديراً وتوقيتاً، وهذا بيان لوجوب التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل‏.‏

‏{‏واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ‏}‏ رُوي أن ناساً قالوا‏:‏ قد عرفنا عدة ذوات الإقراء فما عدة اللائي لم يحضن‏؟‏ فنزلت ‏{‏إِنِ ارتبتم‏}‏ أي أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن ‏{‏فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ‏}‏ أي فهذا حكمهن‏.‏

وقيل‏:‏ إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس، وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين أهو دم حيض أو استحاضة فعدتهن ثلاثة أشهر، وإذا كانت عدة المرتاب بها فغير المرتاب بها أولى بذلك ‏{‏واللائي لَمْ يَحِضْنَ‏}‏ هن الصغائر وتقديره واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر فحذفت الجملة لدلالة المذكور عليها ‏{‏وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ‏}‏ عدتهن ‏{‏أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏ والنص يتناول المطلقات والمتوفي عنهم أزواجهن‏.‏ وعن علي وابن عباس رضي الله عنهم‏:‏ عدة الحامل المتوفي عنها زوجها أبعد الأجلين ‏{‏وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً‏}‏ ييسر له من أمره ويحلل من عقده بسبب التقوى ‏{‏ذَلِكَ أَمْرُ الله‏}‏ أي ما علم من حكم هؤلاء المعتدات ‏{‏أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ‏}‏ من اللوح المحفوظ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ الله‏}‏ في العمل بما أنزله من هذه الأحكام وحافظ على الحقوق الواجبة عليه ‏{‏يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً‏}‏ ثم بين التقوى في قوله ‏{‏وَمَن يَتَّقِ الله‏}‏ كأنه قيل‏:‏ كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات‏؟‏ فقيل ‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ‏}‏ وكذا وكذا ‏{‏مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم‏}‏ هي «من» التبعيضية مبعضها محذوف أي أسكنوهن مكاناً من حيث سكنتم أي بعض مكان سكناكم ‏{‏مّن وُجْدِكُمْ‏}‏ هو عطف بيان لقوله ‏{‏مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم‏}‏ وتفسير له كأنه قيل‏:‏ أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه والوجد‏:‏ الوسع والطاقة‏.‏ وقرئ بالحركات الثلاث والمشهور الضم‏.‏ والنفقة والسكنى واجبتان لكل مطلقة، وعند مالك والشافعي لا نفقة للمبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أبت طلاقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا سكنى لك ولا نفقة ‏"‏ وعن عمر رضي الله عنه‏:‏ لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ لها السكنى والنفقة ‏"‏ ‏{‏وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ‏}‏ ولا تستعملوا معهن الضرار ‏{‏لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ‏}‏ في المسكن ببعض الأسباب من إنزال من لا يوافقهن أو يشغل مكانهن أو غير ذلك حتى تضطروهن إلى الخروج‏.‏

‏{‏وَإِن كُنَّ‏}‏ أي المطلقات ‏{‏أولات حَمْلٍ‏}‏ ذوات أحمال ‏{‏فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏ وفائدة اشتراط الحمل أن مدة الحمل ربما تطول فيظن ظان النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحامل فنفي ذلك الوهم ‏{‏فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ‏}‏ يعني هؤلاء المطلقات إن أرضعن لكم ولداً من ظئرهن أو منهن بعد انقطاع عصمة الزوجية ‏{‏فَئَاتُوهُنَ أُجُورَهُنَ‏}‏ فحكمهن في ذلك حكم الأظآر، ولا يجوز الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبن خلافاً للشافعي رحمه الله ‏{‏وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ‏}‏ أي تشاوروا على التراضي في الأجرة، أو ليأمر بعضكم بعضاً، والخطاب للآباء والأمهات ‏{‏بِمَعْرُوفٍ‏}‏ بما يليق بالسنة ويحسن في المروءة فلا يماكس الأب ولا تعاسر الأم لأنه ولدهما وهما شريكان فيه وفي وجوب الإشفاق عليه ‏{‏وَإِن تَعَاسَرْتُمْ‏}‏ تضايقتم فلم ترض الأم بما ترضع به الأجنبية ولم يزد الأب على ذلك ‏{‏فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى‏}‏ فستوجد ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه، وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة‏.‏ وقوله ‏{‏لَهُ‏}‏ أي للأب أي سيجد الأب غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 12‏]‏

‏{‏لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ‏(‏7‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏8‏)‏ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ‏(‏9‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ‏(‏10‏)‏ رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ‏(‏11‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ الله‏}‏ أي لينفق كل واحد من الموسر والمعسر ما بلغه وسعه يريد ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات، ومعنى ‏{‏قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ‏}‏ ضيق أي رزقه الله على قدر قوته ‏{‏لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ مَآ ءاتَاهَا‏}‏ أعطاها من الرزق ‏{‏سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً‏}‏ بعد ضيق في المعيشة سعة وهذا وعد لذي العسر باليسر‏.‏

‏{‏وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ‏}‏ من أهل قرية ‏{‏عَتَتْ‏}‏ أي عصت ‏{‏عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ‏}‏ أعرضت عنه على وجه العتو والعناد ‏{‏فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً‏}‏ بالاستقصاء والمناقشة ‏{‏وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً‏}‏ ‏{‏نُّكْراً‏}‏ مدني وأبو بكر منكراً عظيماً ‏{‏فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً‏}‏ أي خساراً وهلاكاً، والمراد حساب الآخرة وعذابها وما يذوقون فيها من الوبال ويلقون من الخسر‏.‏ وجيء به على لفظ الماضي لأن المنتظر من وعد الله ووعيده ملقى في الحقيقة وما هو كائن فكأن قد ‏{‏أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً‏}‏ تكرير للوعيد وبيان لكونه مترقباً كأنه قال‏:‏ أعد الله لهم هذا العذاب ‏{‏فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين ءامَنُواْ‏}‏ فليكن لكم ذلك يا أولي الألباب من المؤمنين لطفاً في تقوى الله وحذر عقابه، ويجوز أن يراد إحصاء السيئات واستقصاؤها عليهم في الدنيا وإثباتها في صحائف الحفظة وما أصيبوا به من العذاب في العاجل، وأن يكون ‏{‏عَتَتْ‏}‏ وما عطف عليه صفة للقرية و‏{‏أَعَدَّ الله لَهُمْ‏}‏ جواباً ل ‏{‏كأين‏}‏ ‏{‏قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً‏}‏ أي القرآن‏.‏ وانتصب ‏{‏رَسُولاً‏}‏ بفعل مضمر تقديره أرسل رسولاً أو بدل من ‏{‏ذِكْراً‏}‏ كأنه في نفسه ذكراً وعلى تقدير حذف المضاف أي قد أنزل الله إليكم ذا ذكر رسولاً، أو أريد بالذكر الشرف كقوله ‏{‏وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏ أي ذا شرف ومجد عند الله وبالرسول جبريل أو محمد عليهما السلام ‏{‏يَتْلُواْ‏}‏ أي الرسول أو الله عز وجل ‏{‏عَلَيْكُمْ ءايات الله مبينات لّيُخْرِجَ‏}‏ الله‏.‏

‏{‏الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ أي ليحصل لهم ما هم عليه الساعة من الإيمان والعمل الصالح، أو ليخرج الذين علم أنهم يؤمنون ‏{‏مِنَ الظلمات إِلَى النور‏}‏ من ظلمات الكفر أو الجهل إلى نور الإيمان أو العلم ‏{‏وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا يُدْخِلْهُ‏}‏ وبالنون‏:‏ مدني وشامي ‏{‏جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَدًا‏}‏ وحد وجمع حملاً على لفظ «من» ومعناه ‏{‏قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً‏}‏ فيه معنى التعجب والتعظيم لما رزق المؤمنين من الثواب ‏{‏الله الذى خَلَقَ‏}‏ مبتدأ وخبر ‏{‏سَبْعَ سماوات‏}‏ أجمع المفسرون على أن السماوات سبع ‏{‏وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ‏}‏ بالنصب عطفاً على ‏{‏سَبْعَ سموات‏}‏ قيل‏:‏ ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه الآية، وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وغلظ كل سماء كذلك، والأرضون مثل السماوات‏.‏

وقيل‏:‏ الأرض واحدة إلا أن الأقاليم سبعة ‏{‏يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ‏}‏ أي يجري أمر الله وحكمه بينهن وملكه ينفذ فيهن ‏{‏لّتَعْلَمُواْ أَنَّ الله على كُلّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ اللام يتعلق ب ‏{‏خُلِقَ‏}‏ ‏{‏وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَئ عِلْمَا‏}‏ هو تمييز أو مصدر من غير لفظ الأول أي قد علم كل شيء علماً وهو علام الغيوب‏.‏

سورة التحريم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏1‏)‏ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏3‏)‏ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ‏(‏4‏)‏ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏6‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏7‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ‏}‏ روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة رضي الله عنها وعلمت بذلك حفصة فقال لها‏:‏ اكتمي عليّ وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي، فأخبرت به عائشة وكانتا مصادقتين‏.‏ وقيل خلابها في يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم فطلقها واعتزل نساءه ومكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية فنزل جبريل عليه السلام وقال‏:‏ راجعها فإنها صوّامة قوّامة وإنها لمن نسائك في الجنة‏.‏ روي أنه شرب عسلاً في بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة وقالتا له‏:‏ إنا نشم منك ريح المغافير، وكان يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم التفل فحرم العسل، فمعناه لم تحرم ما أحل الله لك من ملك اليمين أو من العسل ‏{‏تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أزواجك‏}‏ تفسير ل ‏{‏تُحَرّمُ‏}‏ أو حال أو استئناف وكان هذا زلة منه لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله ‏{‏والله غَفُورٌ‏}‏ قد غفر لك ما زللت فيه ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ قد رحمك فلم يؤاخذك به ‏{‏قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم‏}‏ قد قدر الله لكم ما تحللون به أيمانكم وهي الكفارة، أو قد شرع لكم تحليلها بالكفارة، أو شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك حلل فلان في يمينه إذا استثنى فيها وذلك أن يقول «إن شاء الله» عقيبها حتى لا يحنث، وتحريم الحلال يمين عندنا‏.‏ وعن مقاتل«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية»‏.‏ وعن الحسن أنه لم يكفر لأنه كان مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين ‏{‏والله مولاكم‏}‏ سيدكم ومتولي أموركم‏.‏ وقيل‏:‏ مولاكم أولى بكم من أنفسكم فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم أنفسكم ‏{‏وَهُوَ العليم‏}‏ بما يصلحكم فيشرعه لكم ‏{‏الحكيم‏}‏ فيما أحل وحرم‏.‏

‏{‏وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه‏}‏ يعني حفصة ‏{‏حَدِيثاً‏}‏ حديث مارية وإمامة الشيخين ‏{‏فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ‏}‏ أفشته إلى عائشة رضي الله عنها ‏{‏وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ‏}‏ وأطلع النبي صلى الله عليه وسلم على إفشائها الحديث على لسان جبريل عليه السلام ‏{‏عَرَّفَ بَعْضَهُ‏}‏ أعلم ببعض الحديث ‏{‏وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ‏}‏ فلم يخبر به تكرماً‏.‏ قال سفيان‏:‏ ما زال التغافل من فعل الكرام ‏{‏عَرَّفَ‏}‏ بالتخفيف‏:‏ عليّ أي جازى عليه من قولك للمسيء لأعرفن لك ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ المعروف حديث الإمامة والمعرض عنه حديث مارية‏.‏ وروي أنه قال لها‏:‏ ألم أقل لك اكتمي عليّ‏؟‏ قالت‏:‏ والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي فرحاً بالكرامة التي خص الله بها أباها ‏{‏فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ‏}‏ نبأ النبي حفصة بما أفشت من السر إلى عائشة ‏{‏قَالَتْ‏}‏ حفصة للنبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِىَ العليم‏}‏ بالسرائر ‏{‏الخبير‏}‏ بالضمائر‏.‏

‏{‏إِن تَتُوبَا إِلَى الله‏}‏ خطاب لحفصة وعائشة على طريقة الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما، وجواب الشرط محذوف والتقدير‏:‏ إن تتوبا إلى الله فهو الواجب ودل على المحذوف ‏{‏فَقَدْ صَغَتْ‏}‏ مالت ‏{‏قُلُوبُكُمَا‏}‏ عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حب ما يحبه وكراهة ما يكرهه ‏{‏وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ‏}‏ بالتخفيف‏:‏ كوفي وإن تعاونا عليه بما يسوءه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه‏}‏ وليه وناصره‏.‏ وزيادة ‏{‏هُوَ‏}‏ إيذان بأنه يتولى ذلك بذاته ‏{‏وَجِبْرِيلُ‏}‏ أيضاً وليه ‏{‏وصالح الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ومن صلح من المؤمنين أي كل من آمن وعمل صالحاً‏.‏ وقيل‏:‏ من بريء من النفاق‏.‏ وقيل‏:‏ الصحابة‏.‏ وقيل‏:‏ واحد أريد به الجمع كقولك لا يفعل هذا الصالح من الناس تريد الجنس‏.‏ وقيل‏:‏ أصله صالحو المؤمنين فحذفت الواو من الخط موافقة للفظ ‏{‏والملئكة‏}‏ على تكاثر عددهم ‏{‏بَعْدَ ذَلِكَ‏}‏ بعد نصرة الله وجبريل وصالحي المؤمنين ‏{‏ظَهِيرٍ‏}‏ فوج مظاهر له فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه، ولما كانت مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله قال بعد ذلك تعظيماً لنصرتهم ومظاهرتهم‏.‏

‏{‏عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ‏}‏ ‏{‏يُبْدِلَهُ‏}‏ مدني وأبو عمرو فالتشديد للكثرة ‏{‏أزواجا خَيْراً مّنكُنَّ‏}‏ فإن قلت‏:‏ كيف تكون المبدلات خيراً منهن ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين‏؟‏ قلت‏:‏ إذا طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لإيذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف خيراً منهن ‏{‏مسلمات مؤمنات‏}‏ مقرات مخلصات ‏{‏قانتات‏}‏ مطيعات، فالقنوت هو القيام بطاعة الله وطاعة الله في طاعة رسوله ‏{‏تائبات‏}‏ من الذنوب أو راجعات إلى الله وإلى أمر رسوله ‏{‏عابدات‏}‏ لله ‏{‏سائحات‏}‏ مهاجرات أو صائمات‏.‏ وقيل‏:‏ للصائم سائح لأن السائح لا زاد معه فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد ما يطعمه فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره ‏{‏ثيبات وَأَبْكَاراً‏}‏ إنما وسط العاطف بين الثيبات والأبكار دون سائر الصفات لأنهما صفتان متنافيتان بخلاف سائر الصفات‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ بترك المعاصي وفعل الطاعات ‏{‏وَأَهْلِيكُمْ‏}‏ بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم ‏{‏نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة‏}‏ نوعاً من النار لا تتقد إلا بالناس والحجارة كما يتقد غيرها من النيران بالحطب ‏{‏عَلَيْهَا‏}‏ يلي أمرها وتعذيب أهلها ‏{‏مَلَئِكَةٌ‏}‏ يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم ‏{‏غِلاَظٌ شِدَادٌ‏}‏ في أجرامهم غلظة وشدة أو غلاظ الأقوال شداد الأفعال ‏{‏لاَّ يَعْصُونَ الله‏}‏ في موضع الرفع على النعت ‏{‏مَا أَمَرَهُمْ‏}‏ في محل النصب على البدل أي لا يعصون ما أمر الله أي أمره كقوله

‏{‏أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 93‏]‏ أو لا يعصونه فيما أمرهم ‏{‏وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ وليست الجملتان في معنى واحد، إذ معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها، ومعنى الثانية أنهم يؤدون ما يؤمرون به ولا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه ‏{‏يأَيُّهَا الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ في الدنيا أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار لا تعتذروا لأنه لا عذر لكم، أو لأنه لا ينفعكم الاعتذار‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً‏}‏ صادقة عن الأخفش رحمه الله‏.‏ وقيل‏:‏ خالصة‏.‏ يقال‏:‏ عسل ناصح إذا خلص من الشمع‏.‏ وقيل‏:‏ نصوحاً من نصاحة الثوب أي توبة ترفو خروقك في دينك وترم خللك، ويجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها، واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها، وبضم النون‏:‏ حماد ويحيى وهو مصدر أي ذات نصوح أو تنصح نصوحاً وجاء مرفوعاً «إن التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب إلى أن يعود اللبن في الضرع» وعن حذيفة‏:‏ بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن الذنب ثم يعود فيه‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هي الاستغفار باللسان والندم بالجنان والإقلاع بالإركان‏.‏

‏{‏عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سيئاتكم‏}‏ هذا على ما جرت به عادة الملوك من الإجابة ب «عسى» و«لعل» ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت ‏{‏وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار‏}‏ ونصب ‏{‏يَوْمَ‏}‏ ب ‏{‏يدخلكم‏}‏ ‏{‏لاَ يُخْزِى الله النبى والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ‏}‏ فيه تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر ‏{‏نُورُهُم‏}‏ مبتدأ ‏{‏يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم‏}‏ في موضع الخبر ‏{‏يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا‏}‏ يقولون ذلك إذا انطفأ نور المنافقين ‏{‏واغفر لَنَا إِنَّكَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ ياأيها النبى جاهد الكفار‏}‏ بالسيف ‏{‏والمنافقين‏}‏ بالقول الغليظ والوعد البليغ‏.‏ وقيل‏:‏ بإقامة الحدود عليهم ‏{‏واغلظ عَلَيْهِمْ‏}‏ على الفريقين فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة باللسان ‏{‏وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ‏(‏10‏)‏ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏11‏)‏ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صالحين فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين‏}‏ مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين بلا محاباة، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من النسب والمصاهرة وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبياً بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين بإفشاء أسرارهما، فلم يغن الرسولان عنهما أي عن المرأتين بحق ما بينهما وبينهما من الزواج اغناء ما من عذاب الله‏.‏ وقيل لهما عند موتهما أو يوم القيامة‏:‏ ادخلا النار مع سائر الداخلين الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء، أو مع داخليها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط‏.‏

‏{‏وَضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ‏}‏ هي آسية بنت مزاحم آمنت بموسى فعذبها فرعون بالأوتاد الأربعة ‏{‏إِذْ قَالَتِ‏}‏ وهي تعذب ‏{‏رَبّ ابن لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الجنة‏}‏ فكأنها أرادت الدرجة العالية لأنه تعالى منزه عن المكان فعبرت عنها بقولها عندك ‏{‏وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ‏}‏ أي من عمل فرعون أو من نفس فرعون الخبيثة وخصوصاً من عمله وهو الكفر والظلم والتعذيب بغير جرم ‏{‏وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين‏}‏ من القبط كلهم، وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين ‏{‏وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ التى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا‏}‏ من الرجال ‏{‏فَنَفَخْنَا‏}‏ فنفخ جبريل بأمرنا ‏{‏فِيهِ‏}‏ في الفرج ‏{‏مِن رُّوحِنَا‏}‏ المخلوقة لنا ‏{‏وَصَدَّقَتْ بكلمات رَبَّهَا‏}‏ أي بصحفه التي أنزلها على إدريس وغيره ‏{‏وَكُتُبِهِ‏}‏ بصري وحفص، يعني الكتب الأربعة ‏{‏وَكَانَتْ مِنَ القانتين‏}‏ لما كان القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين غلب ذكوره على إناثه‏.‏ و«من» للتبعيض، ويجوز أن يكون لابتداء الغاية على أنها ولدت من القانتين لأنها من أعقاب هارون أخ موسى عليهما السلام‏.‏ ومثل حال المؤمنين في أن وصلة الكافرين لا تضرهم ولا تنقص شيئاً من ثوابهم وزلفاهم عند الله بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله مع كونها زوجة أعدى أعداء الله، ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة، والاصطفاء على نساء العالمين مع أن قومها كانوا كفاراً‏.‏ وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين في أول السورة وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه، وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص كهاتين المؤمنتين وأن لا يتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

سورة الملك

مكية وهي ثلاثون آية وتسمى الواقية والمنجية لأنها تقي قارئها من عذاب القبر وجاء مرفوعاً من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 19‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ‏(‏3‏)‏ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ‏(‏4‏)‏ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ‏(‏5‏)‏ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏6‏)‏ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ‏(‏7‏)‏ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ‏(‏8‏)‏ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ‏(‏9‏)‏ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏10‏)‏ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏11‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏12‏)‏ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏13‏)‏ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ‏(‏14‏)‏ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ‏(‏15‏)‏ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ‏(‏16‏)‏ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ‏(‏17‏)‏ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏18‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏تبارك‏}‏ تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين ‏{‏الذى بِيَدِهِ الملك‏}‏ أي بتصرفه الملك والاستيلاء على كل موجود وهو مالك الملك يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَئ‏}‏ من المقدورات أو من الإنعام والانتقام ‏{‏قَدِيرٌ‏}‏ قادر على الكمال ‏{‏الذى خَلَقَ الموت‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أو بدل من الذي قبله ‏{‏والحياة‏}‏ أي ما يصح بوجوده الإحساس والموت ضده، ومعنى خلق الموت والحياة إيجاد ذلك المصحح وإعدامه، والمعنى خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ‏}‏ ليمتحنكم بأمره ونهيه فيما بين الموت الذي يعم الأمير والأسير والحياة التي لا تفي بعليل ولا طبيب فيظهر منكم ما علم أنه يكون منكم فيجازيكم على عملكم لا على علمه بكم ‏{‏أَيُّكُمْ‏}‏ مبتدأ وخبره ‏{‏أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ أي أخلصه وأصوبه، فالخالص أن يكون لوجه الله، والصواب أن يكون على السنة‏.‏ والمراد أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل، وسلط عليكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح فما وراءه إلا البعث والجزاء الذي لا بد منه‏.‏ وقدم الموت على الحياة لأن أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه، فقدم لأنه فيما يرجع إلى المسوق له الآية أهم‏.‏ ولما قدم الموت الذي هو أثر صفة القهر على الحياة التي هي أثر اللطف، قدم صفة القهر على صفة اللطف بقوله ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ أي الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل ‏{‏الغفور‏}‏ الستور الذي لا ييأس منه أهل الإساءة والزلل‏.‏

‏{‏الذى خَلَقَ سَبْعَ سماوات طِبَاقًا‏}‏ مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا خصفها طبقاً على طبق، وهذا وصف بالمصدر، أو على ذات طباق أو على طوبقت طباقاً‏.‏ وقيل‏:‏ جمع طبق كجمال وجمال‏.‏ والخطاب في ‏{‏مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن‏}‏ للرسول أو لكل مخاطب ‏{‏مِن تفاوت‏}‏ ‏{‏تَفَوُتٍ‏}‏ حمزة وعلي‏.‏ ومعنى البناءين واحد كالتعاهد والتعهد أي من اختلاف واضطراب‏.‏ وعن السدي‏:‏ من عيب‏.‏ وحقيقة التفاوت عدم التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضاً ولا يلائمه، وهذه الجملة صفة ل ‏{‏طِبَاقاً‏}‏ وأصلها ما ترى فيهن من تفاوت، فوضع ‏{‏خَلْقِ الرحمن‏}‏ موضع الضمير تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت، وهو أنه خلق الرحمن وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب ‏{‏فارجع البصر‏}‏ رده إلى السماء حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة فلا تبقى معك شبهة فيه ‏{‏هَلْ ترى مِن فُطُورٍ‏}‏ صدوع وشقوق جمع فطر وهو الشق ‏{‏ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ‏}‏ كرر النظر مرتين أي كرتين مع الأولى‏.‏

وقيل‏:‏ سوى الأولى فتكون ثلاث مرات‏.‏ وقيل‏:‏ لم يرد الاقتصار على مرتين بل أراد به التكرير بكثرة أي كرر نظرك ودققه هل ترى خللاً أو عيباً‏.‏ وجواب الأمر ‏{‏يَنقَلِبَ‏}‏ يرجع ‏{‏إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا‏}‏ ذليلاً أو بعيداً مما تريد وهو حال من البصر ‏{‏وَهُوَ حَسِيرٌ‏}‏ كليل معي ولم ير فيها خللاً‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا‏}‏ القربى أي السماء الدنيا منكم ‏{‏بمصابيح‏}‏ بكواكب مضيئة كإضاءة الصبح، والمصابيح السرج فسميت بها الكواكب، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بإيقاد المصابيح‏.‏ فقيل‏:‏ ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح أي بأي مصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة ‏{‏وجعلناها رُجُوماً للشياطين‏}‏ أي لأعدائكم الذين يخرجونكم من النور إلى الظلمات، قال قتادة‏:‏ خلق الله النجوم لثلاث زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به‏.‏ والرجوم جمع رجم وهو مصدر سمي به ما يرجم به‏.‏ ومعنى كونها رجوماً للشياطين أن ينفصل عنها شهاب قبس يؤخذ من نار فيقتل الجني أو يخبله، لأن الكواكب لا تزول عن أماكنها لأنها قارة في الفلك على حالها ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ‏}‏ للشياطين ‏{‏عَذَابَ السعير‏}‏ في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا‏.‏

‏{‏وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ‏}‏ ولكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم ‏{‏عَذَابُ جَهَنَّمَ‏}‏ ليس الشياطين المرجومون مخصوصون بذلك ‏{‏وَبِئْسَ المصير‏}‏ المرجع جهنم ‏{‏إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا‏}‏ طرحوا في جهنم كما يطرح الحطب في النار العظيمة ‏{‏سَمِعُواْ لَهَا‏}‏ لجهنم ‏{‏شَهِيقًا‏}‏ صوتاً منكراً كصوت الحمير شبه حسيسها المنكر الفظيع بالشهيق ‏{‏وَهِىَ تَفُورُ‏}‏ تغلي بهم غليان المرجل بما فيه ‏{‏تَكَادُ تَمَيَّزُ‏}‏ أي تتميز يعني تتقطع وتتفرق ‏{‏مِنَ الغيظ‏}‏ على الكفار فجعلت كالمغتاظة عليهم استعارة لشدة غليانها بهم‏.‏

‏{‏كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ‏}‏ جماعة من الكفار ‏{‏سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا‏}‏ مالك وأعوانه من الزبانية توبيخاً لهم ‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ‏}‏ رسول يخوفكم من هذا العذاب ‏{‏قَالُواْ بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ‏}‏ اعتراف منهم بعدل الله وإقرار بأنه تعالى أزاح عللهم ببعث الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه ‏{‏فَكَذَّبْنَا‏}‏ أي فكذبناهم ‏{‏وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَئ‏}‏ مما يقولون من وعد ووعيد وغير ذلك ‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ‏}‏ أي قال الكفار للمنذرين‏:‏ ما أنتم إلا في خطأ عظيم‏.‏ فالنذير بمعنى الإنذار‏.‏ ثم وصف به منذروهم لغلوهم في الإنذار كأنهم ليسوا إلا إنذاراً، وجاز أن يكون هذا كلام الخزنة للكفار عن إرادة القول ومرادهم بالضلال الهلاك، أو سموا جزاء الضلال باسمه كما سمي جزاء السيئة والاعتداء سيئة واعتداء ويسمى المشاكلة في علم البيان، أو كلام الرسل لهم حكوه للخزنة أي قالوا لنا هذا فلم نقبله ‏{‏وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ‏}‏ الإنذار سماع طالب الحق ‏{‏أَوْ نَعْقِلُ‏}‏ أي نعقله عقل متأمل ‏{‏مَا كُنَّا فِى أصحاب السعير‏}‏ في جملة أهل النار، وفيه دليل على أن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل وأنهما حجتان ملزمتان ‏{‏فاعترفوا بِذَنبِهِمْ‏}‏ بكفرهم في تكذيبهم الرسل ‏{‏فَسُحْقًا لأصحاب السعير‏}‏ وبضم الحاء‏:‏ يزيد وعلي، فبعداً لهم عن رحمة الله وكرامته اعترفوا أو جحدوا فإن ذلك لا ينفعهم‏.‏

وانتصابه على أنه مصدر وقع موقع الدعاء‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب‏}‏ قبل معاينة العذاب ‏{‏لَهُم مَّغْفِرَةٌ‏}‏ للذنوب ‏{‏وَأَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏ أي الجنة ‏{‏وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ‏}‏ ظاهره الأمر بأحد الأمرين‏:‏ الإسرار والإجهار، ومعناه ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله بهما‏.‏ رُوي أن مشركي مكة كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل بما قالوه فيه ونالوه منه فقالوا فيما بينهم‏:‏ أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فنزلت‏.‏ ثم علله بقوله ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ أي بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها فكيف لا يعلم ما تكلم به‏؟‏ ‏{‏أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ‏}‏ «من» في موضع رفع بأنه فاعل ‏{‏يَعْلَم‏}‏ ‏{‏وَهُوَ اللطيف الخبير‏}‏ أنكر أن لا يحيط علماً بالمضمر والمسر والمجهر من خلقها وصفته أنه اللطيف أي العالم بدقائق الأشياء الخبير العالم بحقائق الأشياء، وفيه إثبات خلق الأقوال فيكون دليلاً على خلق أفعال العباد‏.‏ وقال أبو بكر بن الأصم وجعفر بن حرب‏:‏ ‏{‏مَنْ‏}‏ مفعول والفاعل مضمر وهو الله تعالى فاحتالا بهذا لنفي خلق الأفعال‏.‏

‏{‏هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً‏}‏ لينة سهلة مذللة لا تمنع المشي فيها ‏{‏فامشوا فِى مَنَاكِبِهَا‏}‏ جوانبها استدلالاً واسترزاقاً أو جبالها أو طرقها ‏{‏وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ‏}‏ أي من رزق الله فيها ‏{‏وَإِلَيْهِ النشور‏}‏ أي وإليه نشوركم فهو سائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم ‏{‏ءامِنْتُمْ مَّن فِى السماء‏}‏ أي من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه فكأنه قال‏:‏ أأمنتم خالق السماء وملكه، أو لأنهم كانوا يعتقدون التشبيه وأنه في السماء، وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه فقيل لهم على حسب اعتقادهم‏:‏ أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعالٍ عن المكان ‏{‏أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض‏}‏ كما خسف بقارون ‏{‏فَإِذَا هِىَ تَمُورُ‏}‏ تضطرب وتتحرك ‏{‏أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السماء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصبا‏}‏ حجارة أن يرسل بدل من بدل الاشتمال وكذا ‏{‏أَن يَخْسِفَ‏}‏ ‏{‏فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ‏}‏ أي إذا رأيتم المنذر به علمتم كيف إنذاري حين لا ينفعكم العلم ‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ من قبل قومك ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ أي إنكاري عليهم إذ أهلكتهم‏.‏

ثم نبه على قدرته على الخسف وإرسال الحاصب بقوله ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير‏}‏ جمع طائر ‏{‏فَوْقَهُمْ‏}‏ في الهواء ‏{‏صافات‏}‏ باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن ‏{‏وَيَقْبِضْنَ‏}‏ ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن‏.‏ و‏{‏يقبضن‏}‏ معطوف على اسم الفاعل حملاً على المعنى أي يصففن ويقبضن، أو صافات وقابضات‏.‏ واختيار هذا التركيب باعتبار أن أصل الطيران هو صف الأجنحة، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والهواء للطائر كالماء للسابح‏.‏ والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك فجيء بما هو طارئ بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح ‏{‏مَا يُمْسِكُهُنَّ‏}‏ عن الوقوع عند القبض والبسط ‏{‏إِلاَّ الرحمن‏}‏ بقدرته وإلا فالثقيل يتسفل طبعاً ولا يعلو، وكذا لو أمسك حفظه وتدبيره عن العالم لتهافتت الأفلاك و‏{‏مَا يُمْسِكُهُنَّ‏}‏ مستأنف وإن جعل حالاً من الضمير في ‏{‏يقبضن‏}‏ يجوز ‏{‏إِنَّهُ بِكُلِّ شَئ بَصِيرٌ‏}‏ يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 30‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ‏(‏20‏)‏ أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ‏(‏21‏)‏ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏22‏)‏ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏23‏)‏ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏24‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏26‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ‏(‏27‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏28‏)‏ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏29‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏أَمَّنْ‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏هذا‏}‏ ويبدل من ‏{‏هذا‏}‏ ‏{‏الذى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ‏}‏ ومحل ‏{‏يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرحمن‏}‏ رفع نعت ل ‏{‏جُندٌ‏}‏ محمول على اللفظ والمعنى من المشار إليه بالنصر غير الله تعالى ‏{‏إِنِ الكافرون إِلاَّ فِى غُرُورٍ‏}‏ أي ما هم إلا في غرور ‏{‏أَمَّنْ هذا الذى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ‏}‏ أم من يشار إليه ويقال هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه وهذا على التقدير، ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم فكأنهم الجند الناصر والرازق‏.‏ فلما لم يتعظوا أضرب عنهم فقال ‏{‏بَل لَّجُّواْ‏}‏ تمادوا ‏{‏فِى عُتُوٍّ‏}‏ استكبار عن الحق ‏{‏وَنُفُورٍ‏}‏ وشراد عنه لثقله عليهم فلم يتبعوه‏.‏ ثم ضرب مثلاً للكافرين والمؤمنين فقال ‏{‏أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً على وَجْهِهِ‏}‏ أي ساقطاً على وجهه يعثر كل ساعة ويمشي معتسفاً وخبر من ‏{‏أهدى‏}‏ أرشد‏.‏ فأكب مطاوع كبه يقال‏:‏ كببته فأكب ‏{‏أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً‏}‏ مستوياً منتصباً سالماً من العثور والخرور ‏{‏على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ على طريق مستوٍ‏.‏ وخبر ‏{‏منْ‏}‏ محذوف لدلالة ‏{‏أهدى‏}‏ عليه، وعن الكلي‏:‏ عني بالمكب أو جهل، وبالسوي النبي عليه السلام ‏{‏قُلْ هُوَ الذى أَنشَأَكُمْ‏}‏ خلقكم ابتداء ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة‏}‏ خصها لأنها آلات العلم ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ‏}‏ هذه النعم لأنكم تشركون بالله ولا تخلصون له العبادة، والمعنى تشكرون شكراً قليلاً و«ما» زائدة‏.‏ وقيل‏:‏ القلة عبارة عن العدم ‏{‏قُلْ هُوَ الذى ذَرَأَكُمْ‏}‏ خلقكم ‏{‏فِى الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ للحساب والجزاء‏.‏

‏{‏وَيَقُولُونَ‏}‏ أي الكافرون للمؤمنين استهزاء ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ الذي تعدوننا به يعني العذاب ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في كونه فأعلمونا زمانه ‏{‏قُلْ إِنَّمَا العلم‏}‏ أي علم وقت العذاب ‏{‏عِندَ الله وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ‏}‏ مخوّف ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ أبين لكم الشرائع ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ‏}‏ أي الوعد يعني العذاب الموعود ‏{‏زُلْفَةً‏}‏ قريباً منهم وانتصابها على الحال ‏{‏سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي ساءت رؤية الوعد وجوههم بأن علتها الكآبة والمساءة وغشيتها القتَرة والسواد ‏{‏وَقِيلَ هذا الذى‏}‏ القائلون الزبانية ‏{‏كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ‏}‏ تفتعلون من الدعاء أي تسألون تعجيله وتقولون ائتنا بما تعدنا، أو هو من الدعوى أي كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون وقرأ يعقوب ‏{‏تَدْعُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ الله‏}‏ أي أماتني الله كقوله ‏{‏إِن امرؤ هَلَكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏ ‏{‏وَمَن مَّعِىَ‏}‏ من أصحابي ‏{‏أَوْ رَحِمَنَا‏}‏ أو أخر في آجالنا ‏{‏فَمَن يُجِيرُ‏}‏ ينجي ‏{‏الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ مؤلم‏.‏ كان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك فأمر بأن يقول لهم‏:‏ نحن مؤمنون متربصون لإحدى الحسنيين، إما أن نهلك كما تتمنون فتقلب إلى الجنة، أو نرحم بالنصرة عليكم متربصون لإحدى الحسنيين، إما أن نهلك كما تتمنون فتقلب إلى الجنة، أو نرحم بالنصرة عليكم كما نرجو، فأنتم ما تصنعون مِنْ مجيركم وأنتم كافرون من عذاب النار لا بد لكم منه ‏{‏قُلْ هُوَ الرحمن‏}‏ أي الذي أدعوكم إليه الرحمن ‏{‏ءَامَنَّا بِهِ‏}‏ صدقنا به ولم نكفر به كما كفرتم ‏{‏وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا‏}‏ فوضنا إليه أمورنا ‏{‏فَسَتَعْلَمُونَ‏}‏ إذا نزل بكم العذاب وبالياء‏:‏ علي ‏{‏مَنْ هُوَ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ نحن أم أنتم ‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً‏}‏ غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الدلاء، وهو وصف بالمصدر كعدل بمعنى عادل ‏{‏فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَّعِينٍ‏}‏ جارٍ يصل إليه من أراده‏.‏

وتليت عند ملحد فقال‏:‏ يأتي بالمعول والمعن فذهب ماء عينه في تلك الليلة وعمي‏.‏ وقيل‏:‏ إنه محمد بن زكريا المتطبب زادنا الله بصيرة‏.‏

سورة القلم

مكية وهي اثنتان وخمسون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 20‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ‏(‏1‏)‏ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ‏(‏2‏)‏ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ‏(‏3‏)‏ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ‏(‏4‏)‏ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ‏(‏5‏)‏ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏7‏)‏ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏8‏)‏ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ‏(‏10‏)‏ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ‏(‏11‏)‏ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ‏(‏12‏)‏ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ‏(‏13‏)‏ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏14‏)‏ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏15‏)‏ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ‏(‏17‏)‏ وَلَا يَسْتَثْنُونَ ‏(‏18‏)‏ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏19‏)‏ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏ن‏}‏ الظاهر أن المراد به هذا الحرف من حروف المعجم‏.‏ وأما قول الحسن‏:‏ إنه الدواة، وقول ابن عباس‏:‏ إنه الحوت الذي عليه الأرض واسمه بهموت، فمشكل لأنه لا بد له من الإعراب سواء كان اسم جنس أو اسم علم، فالسكون دليل على أنه من حروف المعجم ‏{‏والقلم‏}‏ أي ما كتب به اللوح، أو قلم الملائكة، أو الذي يكتب به الناس، أقسم به لما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف ‏{‏وَمَا يَسْطُرُونَ‏}‏ أي ما يسطره الحفظة أو ما يكتب به من الخير من كتب‏.‏ و«ما» موصولة أو مصدرية، وجواب القسم ‏{‏مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ‏}‏ أي بإنعامه عليك بالنبوة وغيرها ف ‏{‏أَنتَ‏}‏ اسم «ما» وخبرها ‏{‏بِمَجْنُونٍ‏}‏ و‏{‏بِنِعْمَةِ رَبّكَ‏}‏ اعتراض بين الاسم والخبر، والباء في ‏{‏بِنِعْمَةِ رَبّكَ‏}‏ تتعلق بمحذوف ومحله النصب على الحال والعامل فيها ‏{‏بِمَجْنُونٍ‏}‏ وتقديره‏:‏ ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك‏.‏ ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي وهو جواب قولهم ‏{‏وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏ ‏{‏وَإِنَّ لَكَ‏}‏ على احتمال ذلك والصبر عليه ‏{‏لأَجْرًا‏}‏ لثواباً ‏{‏غَيْرَ مَمْنُونٍ‏}‏ غير مقطوع أو غير ممنون عليك به ‏{‏وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏ قيل‏:‏ هو ما أمره الله تعالى به في قوله‏:‏ ‏{‏خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏‏.‏ وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ كان خلقه القرآن أي ما فيه من مكارم الأخلاق‏.‏ وإنما استعظم خلقه لأنه جاد بالكونين وتوكل على خالقهما‏.‏

‏{‏فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ‏}‏ أي عن قريب ترى ويرون وهذا وعد له ووعيد لهم ‏{‏بِأَيِيّكُمُ المفتون‏}‏ المجنون لأنه فتن أي محن بالجنون، والباء مزيدة، أو المفتون مصدر كالمعقول أي بأيكم الجنون‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الباء بمعنى «في» تقول‏:‏ كنت ببلد كذا أي في بلد كذا، وتقديره في أيكم المفتون أي في أي الفريقين منكم المجنون‏:‏ فريق الإسلام أو فريق الكفر‏؟‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ‏}‏ أي هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله ‏{‏وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين‏}‏ أي هو أعلم بالعقلاء هم والمهتدون ‏{‏فَلاَ تُطِعِ المكذبين‏}‏ تهييج للتصميم على معاصاتهم وقد أرادوه على أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة ويكفوا عنه غوائلهم ‏{‏وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ‏}‏ لو تلين لهم ‏{‏فَيُدْهِنُونَ‏}‏ فيلينون لك‏.‏ ولم ينصب بإضمار «أن» وهو جواب التمني لأنه عدل به إلى طريق آخر، وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون أي فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك‏.‏

‏{‏وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ‏}‏ كثير الحلف في الحق والباطل وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف ‏{‏مَّّهِينٍ‏}‏ حقير في الرأي والتمييز من المهانة وهي القلة والحقارة، أو كذاب لأنه حقير عند الناس ‏{‏هَمَّازٍ‏}‏ عياب طعان مغتاب ‏{‏مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ‏}‏ نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم، والنميم والنميمة‏:‏ السعاية ‏{‏مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ‏}‏ بخيل، والخير‏:‏ المال أو مناع أهله من الخير وهو الإسلام، والمراد الوليد بن المغيرة عند الجمهور وكان يقول لبنيه العشرة‏:‏ من أسلم منكم منعته رفدي ‏{‏مُعْتَدٍ‏}‏ مجاوز في الظلم حده ‏{‏أَثِيمٍ‏}‏ كثير الآثام ‏{‏عُتُلٍ‏}‏ غليظ جاف ‏{‏بَعْدَ ذَلِكَ‏}‏ بعدما عد له من المثالب ‏{‏زَنِيمٍ‏}‏ دعي‏.‏ وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة من مولده‏.‏ وقيل‏:‏ بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية، والنطفة إذا خبثت الناشئ منها‏.‏ رُوي أنه دخل على أمه وقال‏:‏ إن محمداً وصفني بعشر صفات، وجدت تسعاً فيّ، فأما الزنيم فلا علم لي به، فإن أخبرتني بحقيقته وإلا ضربت عنقك‏.‏ فقالت‏:‏ إن أباك عنين وخفت أن يموت فيصل ماله إلى غير ولده فدعوت راعياً إلى نفسي فأنت من ذلك الراعي‏.‏

‏{‏أَن كَانَ ذَا مَالٍ‏}‏ متعلق بقوله ‏{‏وَلاَ تُطِعِ‏}‏ أي ولا تطعه مع هذه المثالب لأن كان ذا مال أي ليساره وحظه من الدنيا، ويجوز أن يتعلق بما بعده أي لأن كان ذا مال ‏{‏وَبَنِينَ‏}‏ كذب بآياتنا يدل عليه ‏{‏إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا‏}‏ أي القرآن ‏{‏قَالَ أساطير الأولين‏}‏ ولا يعمل فيه ‏{‏قَالَ‏}‏ لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله‏.‏ ‏{‏أأن‏}‏ حمزة وأبو بكر أي ألأن كان ذا مال كذب‏؟‏ ‏{‏أأن‏}‏ شامي ويزيد ويعقوب وسهل‏.‏ قالوا‏:‏ لما عاب الوليد النبي صلى الله عليه وسلم كاذباً باسم واحد وهو المجنون سماه الله تعالى بعشرة أسماء صادقاً، فإن كان من عد له أن يجزي المسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة، كان من فضله أن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشراً ‏{‏سَنَسِمُهُ‏}‏ سنكويه ‏{‏عَلَى الخرطوم‏}‏ على أنفه مهانة له وعلماً يعرف به، وتخصيص الأنف بالذكر لأن الوسم عليه أبشع‏.‏ وقيل‏:‏ خطم بالسيف يوم بدر فبقيت سمة على خرطومه‏.‏

‏{‏إِنَّا بلوناهم‏}‏ امتحنا أهل مكة بالقحط والجوع حتى أكلوا الجيف والرمم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف» ‏{‏كَمَا بَلَوْنَا أصحاب الجنة‏}‏ هم قوم من أهل الصلات كانت لأبيهم هذه الجنة بقرية يقال لها ضروان وكانت على فرسخين من صنعاء، وكان يأخذ منها قوت سنته ويتصدق بالباقي على الفقراء‏.‏

فلما مات قال بنوه‏:‏ إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال، فحلفوا ليصرمنها مصبحين في السدف خيفة من المساكين ولم يستثنوا في يمينهم، فأحرق الله جنتهم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كانوا كفاراً‏.‏ والجمهور على الأول ‏{‏إِذْ أَقْسَمُواْ‏}‏ حلفوا ‏{‏لَيَصْرِمُنَّهَا‏}‏ ليقطعن ثمرها ‏{‏مُّصْبِحِينَ‏}‏ داخلين في الصبح قبل انتشار الفقراء، حال من فاعل ‏{‏لَيَصْرِمُنَّهَا‏}‏ ‏{‏وَلاَ يَسْتَثْنُونَ‏}‏ ولا يقولون إن شاء الله‏.‏ وسمي استثناء وإن كان شرطاً صورة لأنه يؤدي مؤدي الاستثناء من حيث إن معنى قولك «لأخرجن إن شاء الله» و«لا أخرج إلا أن يشاء الله» واحد ‏{‏فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ‏}‏ نزل عليها بلاء‏.‏ قيل‏:‏ أنزل الله تعالى عليها ناراً فأحرقتها ‏{‏وَهُمْ نَائِمُونَ‏}‏ أي في حال نومهم ‏{‏فَأَصْبَحَتْ‏}‏ فصارت الجنة ‏{‏كالصريم‏}‏ كالليل المظلم أي احترقت فاسودت، أو كالصبح أي صارت أرضاً بيضاء بلا شجر‏.‏ وقيل‏:‏ كالمصرومة أي كأنها صرمت لهلاك ثمرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 43‏]‏

‏{‏فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ‏(‏21‏)‏ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ‏(‏22‏)‏ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ‏(‏23‏)‏ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ‏(‏24‏)‏ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ‏(‏25‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ‏(‏26‏)‏ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ‏(‏27‏)‏ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ‏(‏30‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ‏(‏31‏)‏ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ‏(‏32‏)‏ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏34‏)‏ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ‏(‏35‏)‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏36‏)‏ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ‏(‏37‏)‏ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ‏(‏38‏)‏ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ‏(‏39‏)‏ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ‏(‏40‏)‏ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ‏(‏41‏)‏ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏42‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ‏}‏ نادى بعضهم بعضاً عند الصباح ‏{‏أَنِ اغدوا‏}‏ باكروا ‏{‏على حَرْثِكُمْ‏}‏ ولم يقل «إلى حرثكم» لأن الغدوّ إليه ليصرموه كان غدوّاً عليه أو ضمن الغدوّ معنى الإقبال أي فأقبلوا على حرثكم باكرين ‏{‏إِن كُنتُمْ صارمين‏}‏ مريدين صرامه ‏{‏فانطلقوا‏}‏ ذهبوا ‏{‏وَهُمْ يتخافتون‏}‏ يتسارّون فيما بينهم لئلا يسمعوا المساكين ‏{‏أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا‏}‏ أي الجنة و«إن» مفسرة وقرئ بطرحها بإضمار القول أي يتخافتون يقولون لا يدخلنها ‏{‏اليوم عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ‏}‏ والنهي عن دخول المساكين‏.‏ نهى عن التمكين أي لا تمكنوه من الدخول‏.‏

‏{‏وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ‏}‏ على جد في المنع ‏{‏قادرين‏}‏ عند أنفسكم على المنع كذا عن نفطويه، أو الحرد القصد والسرعة أي وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وزي منفعتها عن منفعتها عن المساكين، أو هو علم للجنة أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهَا‏}‏ أي جنتهم محترقة ‏{‏قَالُواْ‏}‏ في بديهة وصولهم ‏{‏إِنَّا لَضَالُّونَ‏}‏ أي ضللنا جنتنا وما هي بها لما رأوا من هلاكها، فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا ‏{‏بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ‏}‏ حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا ‏{‏قَالَ أَوْسَطُهُمْ‏}‏ أعدلهم وخيرهم ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ‏}‏ هلا تستثنون إذ الاستثناء التسبيح لالتقائهما في معنى التعظيم لله، لأن الاستثناء تفويض إليه والتسبيح تنزيه له، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم‏.‏ أو لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم‏!‏ كان أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك‏:‏ اذكروا الله وانتقامه من المجرمين وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة فعصوه فعيرهم ولهذا ‏{‏قَالُواْ سبحان رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظالمين‏}‏ فتكلموا بعد خراب البصرة بما كان يدعوهم إلى التكلم به أولاً، وأقروا على أنفسهم بالظلم في منع المعروف وترك الاستثناء ونزهوه عن أن يكون ظالماً ‏{‏فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يتلاومون‏}‏ يلوم بعضهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين، ويحيل كل واحد منهم اللائمة على الآخر‏.‏

ثم اعترفوا جميعاً بأنهم تجاوزوا الحد بقوله ‏{‏قَالُواْ ياويلنا إِنَّا كُنَّا طاغين‏}‏ بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء ‏{‏عسى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا‏}‏ وبالتشديد‏:‏ مدني وأبو عمرو ‏{‏خَيْراً مّنْهَا‏}‏ من هذه الجنة ‏{‏إِنَّا إلى رَبّنَا راغبون‏}‏ طالبون منه الخير راجون لعفوه‏.‏ عن مجاهد‏:‏ تابوا فأبدلوا خيراً منها‏.‏ وعن ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ بلغني أنهم أخلصوا فأبدلهم بها جنة تسمى الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً ‏{‏كَذَلِكَ العذاب‏}‏ أي مثل ذلك العذاب الذي ذكرناه من عذاب الدنيا لمن سلك سبيلهم ‏{‏وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ‏}‏ أعظم منه ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ لما فعلوا ما يفضي إلى هذا العذاب‏.‏

ثم ذكر ما عنده للمؤمنين فقال‏:‏

‏{‏إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ عن الشرك ‏{‏عِندَ رَبِّهِمْ‏}‏ أي في الآخرة ‏{‏جنات النعيم‏}‏ جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص بخلاف جنات الدنيا ‏{‏أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين‏}‏ استفهام إنكار على قولهم لو كان ما يقول محمد حقاً فنحن نعطي في الآخرة خيراً مما يعطي هو ومن معه كما في الدنيا‏.‏ فقيل لهم‏:‏ أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين‏؟‏ ثم قيل لهم على طريقة الالتفات ‏{‏مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ هذا الحكم الأعوج وهو التسوية بين المطيع والعاصي، كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم ‏{‏أَمْ لَكُمْ كتاب‏}‏ من السماء ‏{‏فِيهِ تَدْرُسُونَ‏}‏ تقرؤون في ذلك الكتاب ‏{‏إنّ لكم فيه لما تخيّرون‏}‏ أي إن ما تختارونه وتشتهونه لكم‏.‏ والأصل تدرسون أن لكم ما تخيرون بفتح «أن» لأنه مدروس لوقوع الدرس عليه، وإنما كسرت لمجيء اللام، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس كما هو كقوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخرين * سلام على نُوحٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 78-79‏]‏‏.‏ وتخير الشيء واختاره أخذ خيره ‏{‏أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا‏}‏ عهود مؤكدة بالأيمان ‏{‏بالغة‏}‏ نعت ‏{‏أيمان‏}‏ ويتعلق ‏{‏إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ ببالغة أي أنها تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم، أو بالمقدر في الظرف أي هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا تخرج من عهدتها إلا يومئذ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون ‏{‏إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ‏}‏ به لأنفسكم وهو جواب القسم لأن معنى ‏{‏أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا‏}‏ أم أقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد‏.‏

‏{‏سَلْهُمْ‏}‏ أي المشركين ‏{‏أَيُّهُم بذلك‏}‏ الحكم ‏{‏زَعِيمٌ‏}‏ كفيل بأنه يكون ذلك ‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ‏}‏ أي ناس يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم فيه ‏{‏فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُواْ صادقين‏}‏ في دعواهم يعني أن أحداً لا يسلم لهم هذا ولا يساعدهم عليه كما أنه لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد به عند الله، ولا زعيم لهم يضمن لهم من الله بهذا ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ‏}‏ ناصب الظرف ‏{‏فَلْيَأْتُواْ‏}‏ أو «اذكر» مضمراً‏.‏ والجمهور على أن الكشف عن الساق عبارة عن شدة الأمر وصعوبة الخطب، فمعنى ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ‏}‏ يوم يشتد الأمر ويصعب ولا كشف ثمة ولا ساق، ولكن كنى به عن الشدة لأنهم إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق، وهذا كما نقول‏:‏ للأقطع الشحيح يده مغلولة، ولا يد ثمة ولا غل، وإنما هو كناية عن البخل‏.‏ وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان، ولو كان الأمر كما زعم المشبه لكان من حق الساق أن تعرف لأنها ساق معهودة عنده ‏{‏وَيُدْعَوْنَ‏}‏ أي الكفار ثمة ‏{‏إِلَى السجود‏}‏ لا تكليف ولكن توبيخاً على تركهم السجود في الدنيا ‏{‏فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ ذلك لأن ظهورهم تصير كصياصي البقر لا تنثني عند الخفض والرفع ‏{‏خاشعة‏}‏ ذليلة حال من الضمير في ‏{‏يُدْعَونَ‏}‏ ‏{‏أبصارهم‏}‏ أي يدعون في حال خشوع أبصارهم ‏{‏تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏}‏ يغشاهم صغار ‏{‏وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ‏}‏ على ألسن الرسل ‏{‏إِلَى السجود‏}‏ في الدنيا ‏{‏وَهُمْ سالمون‏}‏ أي وهم أصحاء فلا يسجدون فلذلك منعوا عن السجود ثَمَّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 52‏]‏

‏{‏فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏44‏)‏ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏45‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ‏(‏46‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏47‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ‏(‏48‏)‏ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ‏(‏49‏)‏ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏50‏)‏ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ‏(‏51‏)‏ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏فَذَرْنِى‏}‏‏.‏ يقال‏:‏ ذرني وإياه أي كله إليّ فإني أكفيكه ‏{‏وَمَن يُكَذِّبُ‏}‏ معطوف على المفعول أو مفعول معه ‏{‏بهذا الحديث‏}‏ بالقرآن، والمراد كل أمره إليَّ وخل بيني وبينه فإني عالم بما ينبغي أن يفعل به، مطيق له، ولا تشغل قلبك بشأنه وتوكل عليّ في الانتقام منه، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد للمكذبين ‏{‏سَنَسْتَدْرِجُهُم‏}‏ سندنيهم من العذاب درجة درجة‏.‏ يقال‏:‏ استدرجه إلى كذا أي استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورطه فيه، واستدراج الله تعالى العصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة فيجعلون رزق الله ذريعة إلى ازياد المعاصي ‏{‏مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج‏.‏ قيل‏:‏ كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها‏.‏ قال عليه السلام ‏"‏ إذا رأيت الله تعالى ينعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج وتلا الآية ‏"‏ ‏{‏وَأُمْلِى لَهُمْ‏}‏ وأمهلهم ‏{‏إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ‏}‏ قوي شديد فسمى إحسانه وتمكينه كيداً كما سماه استدراجاً لكونه في صورة الكيد حيث كان سبباً للهلاك‏.‏ والأصل أن معنى الكيد والمكر والاستدراج هو الأخذ من جهة الأمن، ولا يجوز أن يسمى الله كائداً وماكراً ومستدرجاً‏.‏

‏{‏أَمْ تَسْئَلُهُمْ‏}‏ على تبليغ الرسالة ‏{‏أَجْراً فَهُم مّن مَّغْرَمٍ‏}‏ غرامة ‏{‏مُّثْقَلُونَ‏}‏ فلا يؤمنون استفهام بمعنى النفي أي لست تطلب أجراً على تبليغ الوحي فيثقل عليهم ذلك فيمتنعوا لذلك ‏{‏أَمْ عِندَهُمُ الغيب‏}‏ أي اللوح المحفوظ عند الجمهور ‏{‏فَهُمْ يَكْتُبُونَ‏}‏ منه ما يحكمون به ‏{‏فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ‏}‏ وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم لأنهم وإن أمهلوا لم يهملوا ‏{‏وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت‏}‏ كيونس عليه السلام في العجلة والغضب على القوم حتى لا تبتلى ببلائه‏.‏ والوقف على الحوت لأن «إذ» ليس بظرف لما تقدمه، إذ النداء طاعة فلا ينهى عنه بل مفعول محذوف أي اذكر ‏{‏إِذْ نادى‏}‏ دعا ربه في بطن الحوت ب ‏{‏لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏ ‏{‏وَهُوَ مَكْظُومٌ‏}‏ مملوء غيظاً من كظم السقاء إذا ‏{‏لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ‏}‏ رحمة ‏{‏مّن رَّبِّهِ‏}‏ أي لولا أن الله أنعم عليه بإجابة دعائه وقبول عذره ‏{‏لَنُبِذَ‏}‏ من بطن الحوت ‏{‏بالعرآء‏}‏ بالفضاء ‏{‏وَهُوَ مَذْمُومٌ‏}‏ معاتب بزلته لكنه رحم فنبذ غير مذموم ‏{‏فاجتباه رَبُّهُ‏}‏ اصطفاه لدعائه وعذره ‏{‏فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين‏}‏ من المستكملين لصفات الصلاح ولم يبق له زلة‏.‏ وقيل‏:‏ من الأنبياء‏.‏ وقيل‏:‏ من المرسلين‏.‏ والوجه هو الأول لأنه كان مرسلاً ونبياً قبله لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين * إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون‏}‏

‏[‏الصافات‏:‏ 139-140‏]‏‏.‏ الآيات‏.‏

‏{‏وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم‏}‏ وبفتح الياء‏:‏ مدني‏.‏ «إن» مخففة من الثقيلة واللام علمها‏.‏ زلقة وأزلقة أزاله عن مكانه أي قارب الكفار من شدة نظرهم إليك شزراً بعيون العداوة أن يزيلوك بأبصارهم عن مكانك، أو يهلكوك لشدة حنقهم عليك‏.‏ وكانت العين في بني أسد فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول فيه‏:‏ لم أر كاليوم مثله إلا هلك‏.‏ فأريد بعض العيّانين على أن يقول في رسول الله مثل ذلك فقال‏:‏ لم أر كاليوم مثله رجلاً فعصمه الله من ذلك‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ العين حق وإن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر ‏"‏ وعن الحسن‏:‏ رقية العين هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَمَّا سَمِعُواْ الذكر‏}‏ القرآن ‏{‏وَيَقُولُونَ‏}‏ حسداً على ما أوتيت من النبوة ‏{‏إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ‏}‏ إن محمداً لمجنون حيرة في أمره وتنفيراً عنه ‏{‏وَمَا هُوَ‏}‏ أي القرآن ‏{‏إِلاَّ ذِكْرٌ‏}‏ وعظ ‏{‏للعالمين‏}‏ للجن والإنس يعني أنهم جننوه لأجل القرآن وما القرآن إلا موعظة للعالمين، فكيف يجنن من جاء بمثله‏؟‏ وقيل‏:‏ لما سمعوا الذكر أي ذكره عليه السلام وما هو أي محمد عليه السلام إلا ذكر شرف للعالمين فكيف ينسب إليه الجنون‏؟‏ والله أعلم‏.‏