فصل: سورة القيامة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


سورة القيامة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 19‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ‏(‏1‏)‏ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ‏(‏2‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ‏(‏3‏)‏ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ‏(‏4‏)‏ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ‏(‏5‏)‏ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ‏(‏7‏)‏ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ‏(‏8‏)‏ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ‏(‏10‏)‏ كَلَّا لَا وَزَرَ ‏(‏11‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ‏(‏12‏)‏ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ‏(‏13‏)‏ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ‏(‏15‏)‏ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ‏(‏17‏)‏ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ‏(‏18‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة‏}‏ أي أقسم‏.‏ عن ابن عباس‏:‏ و«لا» كقوله ‏{‏لّئَلاَّ يَعْلَمَ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 29‏]‏ وقوله‏:‏

في بئر لا حور سرى وما شعر ***

وكقوله‏:‏

تذكرت ليلى فاعترتني صبابة *** وكاد ضمير القلب لا يتقطع

وعليه الجمهور وعن الفراء‏:‏ «لا» رد لإنكار المشركين البعث كأنه قيل‏:‏ ليس الأمر كما تزعمون ثم قيل‏:‏ أقسم بيوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ أصله لأقسم كقراءة ابن كثير على أن اللام للابتداء و‏{‏أُقْسِمُ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي لأنا أقسم ويقويه أنه في «الإمام» بغير الألف ثم أشبع فظهر من الإشباع ألف، وهذا اللام يصحبه نون التأكيد في الأغلب وقد يفارقه ‏{‏وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة‏}‏ الجمهور على أنه قسم آخر‏.‏ وعن الحسن‏:‏ أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة فهي صفة ذم وعلى القسم صفة مدح أي النفس المتقية التي تلوم على التقصير في التقوى وقيل‏:‏ هي نفس آدم لم تزل تلوم على فعلها التي خرجت به من الجنة، وجواب القسم محذوف أي لتبعثن دليله ‏{‏أَيَحْسَبُ الإنسان‏}‏ أي الكافر المنكر للبعث ‏{‏أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ‏}‏ بعد تفرقها ورجوعها رفاتاً مختلطاً بالتراب‏.‏

‏{‏بلى‏}‏ أوجبت ما بعد النفي أي بلى نجمعها ‏{‏قادرين‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏نَّجْمَعَ‏}‏ أي نجمعها قادرين على جمعها وإعادتها كما كانت ‏{‏على أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ‏}‏ أصابعه كما كانت في الدنيا بلا نقصان وتفاوت مع صغرها فكيف بكبار العظام‏.‏ ‏{‏بَلْ يُرِيدُ الإنسان‏}‏ عطف على ‏{‏أَيَحْسَبُ‏}‏ فيجوز أن يكون مثله استفهاماً ‏{‏لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ‏}‏ ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان ‏{‏يَسْئَلُ أَيَّانَ‏}‏ متى ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ سؤال متعنت مستبعد لقيام الساعة ‏{‏فَإِذَا بَرِقَ البصر‏}‏ تحير فزعاً وبفتح الراء‏:‏ مدني شَخَصَ ‏{‏وَخَسَفَ القمر‏}‏ وذهب ضوؤه أو غاب من قوله ‏{‏فَخَسَفْنَا بِهِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 81‏]‏ وقرأ أبو حيوة بضم الخاء ‏{‏وَجُمِعَ الشمس والقمر‏}‏ أي جمع بينهما في الطلوع من المغرب أو جمعاً في ذهاب الضوء ويجمعان فيقذفان في البحر فيكون نار الله الكبرى ‏{‏يَقُولُ الإنسان‏}‏ الكافر ‏{‏يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر‏}‏ هو مصدر أي الفرار من النار أو المؤمن أيضاً من الهول‏.‏ وقرأ الحسن بكسر الفاء وهو يحتمل المكان والمصدر ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع عن طلب المفر ‏{‏لاَ وَزَرَ‏}‏ لا ملجأ ‏{‏إلى رَبِّكَ‏}‏ خاصة ‏{‏يَوْمَئِذٍ المستقر‏}‏ مستقر العباد أو موضع قرارهم من جنة أو نار مفوّض ذلك لمشيئته، من شاء أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار‏.‏

‏{‏يُنَبَّؤُاْ الإنسان يَوْمَئِذٍ‏}‏ يخبر ‏{‏بِمَا قَدَّمَ‏}‏ من عمل عمله ‏{‏وَأَخَّرَ‏}‏ ما لم يعمله‏.‏

‏{‏بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ‏}‏ شاهد‏.‏

والهاء للمبالغة كعلامة أو أنثه لأنه أراد به جوارحه إذ جوارحه تشهد عليه، أو هو حجة على نفسه والبصيرة الحجة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 104‏]‏ وتقول لغيرك أنت حجة على نفسك‏.‏ و‏{‏بَصِيرَةٌ‏}‏ رفع بالابتداء وخبره ‏{‏على نَفْسِهِ‏}‏ تقدم عليه والجملة خبر الإنسان كقولك‏:‏ زيد على رأسه عمامة‏.‏ والبصيرة على هذا يجوز أن يكون الملك الموكل عليه ‏{‏وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ‏}‏ أرخى ستوره والمعذار الستر‏.‏ وقيل‏:‏ ولو جاء بكل معذرة ما قبلت منه فعليه من يكذب عذره‏.‏ والمعاذير ليس بجمع معذرة لأن جمعها معاذر بل هي اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر ‏{‏لاَ تُحَرِّكْ بِهِ‏}‏ بالقرآن ‏{‏لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏}‏ بالقرآن‏.‏ وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ في القرآن قبل فراغ جبريل كراهة أن يتفلت منه فقيل له‏:‏ لا تحرك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل يقرأ لتأخذه على عجلة، ولئلا يتفلت منك‏.‏ ثم علل النهي عن العجلة بقوله ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ‏}‏ في صدرك ‏{‏وَقُرْءَانَهُ‏}‏ وإثبات قراءته في لسانك، والقرآن القراءة ونحوه ‏{‏وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 114‏]‏ ‏{‏فَإِذَا قرأناه‏}‏ أي قرأه عليك جبريل فجعل قراءة جبريل قراءته ‏{‏فاتبع قُرْءَانَهُ‏}‏ أي قراءته عليك ‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ إذا أشكل عليك شيء من معانيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 40‏]‏

‏{‏كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ‏(‏20‏)‏ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏21‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ‏(‏22‏)‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ‏(‏23‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ‏(‏24‏)‏ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ‏(‏25‏)‏ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ‏(‏26‏)‏ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ‏(‏27‏)‏ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ‏(‏28‏)‏ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ‏(‏29‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ‏(‏30‏)‏ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ‏(‏31‏)‏ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏32‏)‏ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ‏(‏33‏)‏ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏35‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ‏(‏36‏)‏ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ‏(‏37‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏38‏)‏ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏39‏)‏ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع عن إنكار البعث أو ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن العجلة وإنكار لها عليه، وأكده بقوله ‏{‏بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة‏}‏ كأنه قيل‏:‏ بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ومن ثم تحبون العاجلة الدنيا وشهواتها ‏{‏وَتَذَرُونَ الآخرة‏}‏ الدار الآخرة ونعيمها فلا تعملون لها والقراءة فيهما بالتاء‏:‏ مدني وكوفي ‏{‏وُجُوهٌ‏}‏ هي وجوه المؤمنين ‏{‏يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ‏}‏ حسنة ناعمة ‏{‏إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ بلا كيفية ولا جهة ولا ثبوت مسافة‏.‏ وحمل النظر على الانتظار لأمر ربها أو لثوابه لا يصح لأنه يقال‏:‏ نظرت فيه أي تفكرت، ونظرته انتظرته، ولا يعدى ب «إلى» إلا بمعنى الرؤية مع أنه لا يليق الانتظار في دار القرار ‏{‏وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ‏}‏ كالحة شديدة العبوسة وهي وجوه الكفار ‏{‏تَظُنُّ‏}‏ تتوقع ‏{‏أَن يُفْعَلَ بِهَا‏}‏ فعل هو في شدته ‏{‏فَاقِرَةٌ‏}‏ داهية تقصم فقار الظهر ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل‏:‏ ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين ‏{‏إِذَا بَلَغَتِ‏}‏ أي الروح وجاز وإن لم يجر لها ذكر لأن الآية تدل عليها ‏{‏التراقى‏}‏ العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال جمع ترقوة ‏{‏وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ‏}‏ يقف حفص على ‏{‏مَنْ‏}‏ وقيفة أي قال حاضر والمحتضر بعضهم لبعض أيكم يرقيه مما به من الرقية من حد ضرب، أو هو من كلام الملائكة‏:‏ أيكم يرقى بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب من الرقي من حد علم‏.‏

‏{‏وَظَنَّ‏}‏ أيقن المحتضر ‏{‏أَنَّهُ الفراق‏}‏ أن هذا الذي نزل به هو فراق الدنيا المحبوبة ‏{‏والتفت الساق بالساق‏}‏ التوت ساقاه عند موته‏.‏ وعن سعيد بن المسيب‏:‏ هما ساقاه حين تلفان في أكفانه‏.‏ وقيل‏:‏ شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة على أن الساق مثل في الشدة‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هما همّان‏:‏ همّ الأهل والولد وهمّ القدوم على الواحد الصمد ‏{‏إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق‏}‏ هو مصدر ساقه أي مساق العباد إلى حيث أمر الله إما إلى الجنة أو إلى النار ‏{‏فَلاَ صَدَّقَ‏}‏ بالرسول والقرآن ‏{‏وَلاَ صلى‏}‏ الإنسان في قوله‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏ ‏{‏ولكن كَذَّبَ‏}‏ بالقرآن ‏{‏وتولى‏}‏ عن الإيمان أو فلا صدق ماله يعني فلا زكاه ‏{‏ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى‏}‏ يتبختر وأصله يتمطط أي يتمدد لأن المتبختر يمد خطاه فأبدلت الطاء ياء لاجتماع ثلاثة أحرف متماثلة‏.‏

‏{‏أولى لَكَ‏}‏ بمعنى ويل لك وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره ‏{‏فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى‏}‏ كرر للتأكيد كأنه قال‏:‏ ويل لك فويل لك ثم ويل لك فويل لك‏.‏

وقيل‏:‏ ويل لك يوم الموت، وويل لك في القبر، وويل لك حين البعث، وويل لك في النار‏.‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى‏}‏ أيحسب الكافر أن يترك مهملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يبعث ولا يجازى‏؟‏ ‏{‏أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىٍّ يمنى‏}‏ بالياء‏:‏ ابن عامر وحفص أي يراق المني في الرحم، وبالتاء يعود إلى النطفة ‏{‏ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً‏}‏ أي صار المني قطعة دم جامد بعد أربعين يوماً ‏{‏فَخَلَقَ فسوى‏}‏ فخلق الله منه بشراً سوياً ‏{‏فَجَعَلَ مِنْهُ‏}‏ من الإنسان ‏{‏الزوجين الذكر والأنثى‏}‏ أي من المني الصنفين ‏{‏أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى‏}‏ أليس الفعّال لهذه الأشياء بقادر على الإعادة‏؟‏ وكان صلى الله عليه وسلم إذا قرأها يقول‏:‏ «سبحانك بلى» والله أعلم‏.‏

سورة الإنسان

مكية وهي إحدى وثلاثون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 18‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ‏(‏1‏)‏ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏2‏)‏ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ‏(‏3‏)‏ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ‏(‏5‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏6‏)‏ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ‏(‏7‏)‏ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ‏(‏11‏)‏ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ‏(‏12‏)‏ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ‏(‏13‏)‏ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ‏(‏14‏)‏ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ ‏(‏15‏)‏ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ‏(‏16‏)‏ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا ‏(‏17‏)‏ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏هَلْ أتى‏}‏ قد مضى ‏{‏عَلَى الإنسان‏}‏ آدم عليه السلام ‏{‏حِينٌ مّنَ الدهر‏}‏ أربعون سنة مصوراً قبل نفخ الروح فيه ‏{‏لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً‏}‏ لم يذكر اسمه ولم يدر ما يراد به لأنه كان طيناً يمر به الزمان ولو غير موجود لم يوصف بأنه قد أتى عليه حين من الدهر‏.‏ ومحل ‏{‏لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً‏}‏ النصب على الحال من الإنسان أي أتى عليه حين من الدهر غير مذكور ‏{‏إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان‏}‏ أي ولد آدم، وقيل الأول ولد آدم أيضاً و‏{‏حِينٌ مِّنَ الدهر‏}‏ على هذا مدة لبثه في بطن أمه إلى أن صار شيئاً مذكوراً بين الناس ‏{‏مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ‏}‏ نعت أو بدل منها أي من نطفة قد امتزج فيها الماآن‏.‏ ومشجه ومزجه بمعنى و‏{‏نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ‏}‏ كبرمة أعشار فهو لفظ مفرد غير جمع ولذا وقع صفة للمفرد ‏{‏نَّبْتَلِيهِ‏}‏ حال أي خلقناه مبتلين أي مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي له ‏{‏فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً‏}‏ ذا سمع وبصر‏.‏

‏{‏إِنَّا هديناه السبيل‏}‏ بيّنا له طريق الهدى بأدلة العقل والسمع ‏{‏إِمَّا شَاكِراً‏}‏ مؤمناً ‏{‏وَإِمَّا كَفُوراً‏}‏ كافراً حالان من الهاء في ‏{‏هديناه‏}‏ أي إن شكر وكفر فقد هديناه السبيل في الحالين أو من السبيل أي عرّفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وأما سبيلاً كفوراً‏.‏ ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز‏.‏ ولما ذكر الفريقين أتبعهما ما أعد لهما فقال ‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سلاسلا‏}‏ جمع سلسلة بغير تنوين‏:‏ حفص ومكي وأبو عمرو وحمزة، وبه ليناسب ‏{‏أغلالا وَسَعِيراً‏}‏ إذ يجوز صرف غير المنصرف للتناسب‏:‏ غيرهم ‏{‏وأغلالا‏}‏ جمع غُلٍّ ‏{‏وَسَعِيراً‏}‏ ناراً موقدة‏.‏ وقال ‏{‏إِنَّ الأبرار‏}‏ جمع بر أو بار كرب وأرباب وشاهد وأشهاد وهم الصادقون في الإيمان أو الذين لا يؤذون الذرّ ولا يضمرون الشر ‏{‏يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ‏}‏ خمر فنفس الخمر تسمى كأساً‏.‏ وقيل‏:‏ الكأس الزجاجة إذا كان فيها خمر ‏{‏كَانَ مِزَاجُهَا‏}‏ ما تمزج به ‏{‏كافورا‏}‏ ماء كافور وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده ‏{‏عَيْناً‏}‏ بدل منه ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله‏}‏ أي منها أو الباء زائدة أو هو محمول على المعنى أي يلتذ بها أو يروي بها‏.‏ وإنما قال أولاً بحرف «من» وثانياً بحرف الباء لأن الكأس مبتدأ شربهم وأول غايته، وأما العين فيها يمزجون شرابهم فكأنه قيل‏:‏ يشرب عباد الله بها الخمر ‏{‏يُفَجّرُونَهَا‏}‏ يجرونها حيث شاءوا من منازلهم ‏{‏تَفْجِيرًا‏}‏ سهلاً لا يمتنع عليهم‏.‏

‏{‏يُوفُونَ بالنذر‏}‏ بما أوجبوا على أنفسهم، وهو جواب «من» عسى أن يقول‏:‏ ما لهم يرزقون ذلك‏؟‏ والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأن من وفّى بما أوجبه على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى ‏{‏ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ‏}‏ شدائده ‏{‏مُسْتَطِيراً‏}‏ منتشراً من استطار الفجر ‏{‏وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ‏}‏ أي حب الطعام من الاشتهاء والحاجة إليه أو على حب الله ‏{‏مِسْكِيناً‏}‏ فقيراً عاجزاً عن الاكتساب ‏{‏وَيَتِيماً‏}‏ صغيراً لا أب له ‏{‏وَأَسِيراً‏}‏ مأسوراً مملوكاً أو غيره‏.‏

ثم عللوا إطعامهم فقالوا‏:‏

‏{‏إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله‏}‏ أي لطلب ثوابه أو هو بيان من الله عز وجل عما في ضمائرهم، لأن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم وإن لم يقولوا شيئاً ‏{‏لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً‏}‏ هدية على ذلك ‏{‏وَلاَ شُكُوراً‏}‏ ثناء وهو مصدر كالشكر ‏{‏إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا‏}‏ أي إنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة، أو إنا نخاف من ربنا فنتصدق لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف ‏{‏يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً‏}‏ وصف اليوم بصفة أهله من الأشقياء نحو‏:‏ نهارك صائم‏.‏ والقمطرير الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه‏.‏

‏{‏فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم‏}‏ صانهم من شدائده ‏{‏ولقاهم‏}‏ أعطاهم بدل عبوس الفجار ‏{‏نَضْرَةً‏}‏ حسناً في الوجوه ‏{‏وَسُرُوراً‏}‏ فرحاً في القلوب ‏{‏وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ‏}‏ بصبرهم على الإيثار‏.‏ نزلت في علي وفاطمة وفضة جارية لهما، لما مرض الحسن والحسين رضي الله عنهما نذروا صوم ثلاثة أيام فاستقرض علي رضي الله عنه من يهودي ثلاثة أصوع من الشعير، فطحنت فاطمة رضي الله عنها كل يوم صاعاً وخبزت فآثروا بذلك ثلاثة عشايا على أنفسهم مسكيناً ويتيماً وأسيراً ولم يذوقوا إلا الماء في وقت الإفطار‏.‏ ‏{‏جَنَّةً‏}‏ بستاناً فيه مأكل هنيء ‏{‏وَحَرِيراً‏}‏ ملبساً بهياً ‏{‏مُتَّكِئِينَ‏}‏ حال من «هم» في ‏{‏جزاهم‏}‏ ‏{‏فِيهَا‏}‏ في الجنة ‏{‏على الأرآئك‏}‏ الأسرة جمع الأريكة ‏{‏لاَ يَرَوْنَ‏}‏ حال من الضمير المرفوع في ‏{‏مُتَّكِئِينَ‏}‏ غير رائين ‏{‏فِيهَا‏}‏ في الجنة ‏{‏شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً‏}‏ لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير فظلها دائم وهواؤها معتدل، لا حر شمس يحمي ولا شدة برد تؤذي‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ هواء الجنة سجسج لا حر ولا قرّ ‏"‏ فالزمهرير البرد الشديد‏.‏ وقيل‏:‏ القمر أي الجنة مضيئة لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر ‏{‏وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها‏}‏ قريبة منهم ظلال أشجارها عطفت على جنة أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها كأنهم وعدوا بجنتين لأنهم وصفوا بالخوف بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا‏}‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 46‏]‏ ‏{‏وَذُلِّلَتْ‏}‏ سخرت للقائم والقاعد والمتكئ وهو حال من ‏{‏دَانِيَةٌ‏}‏ أي تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها عليهم، أو معطوفة عليها أي ودانية عليهم ظلالها ومذللة ‏{‏قُطُوفُهَا‏}‏ ثمارها جمع قطف‏.‏

‏{‏تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ‏}‏ أي يدير عليهم خدمهم كئوس الشراب‏.‏ والآنية جمع إناء وهو وعاء الماء ‏{‏وَأَكْوابٍ‏}‏ أي من فضة جمع كوب وهو إبريق لا عروة له ‏{‏كَانَتْ قَوَارِيرَاْ‏}‏ «كان» تامة أي كونت فكانت قوارير بتكوين الله نصب على الحال ‏{‏قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ‏}‏ أي مخلوقة من فضة فهي جامعة لبياض الفضة وحسنها وصفاء القوارير وشفيفها حيث يرى ما فيها من الشراب من خارجها‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ قوارير كل أرض من تربتها وأرض الجنة فضة‏.‏ قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر بالتنوين فيهما‏.‏ وحمزة وابن عامر وأبو عمرو وحفص بغير تنوين فيهما‏.‏ وابن كثير بتنوين الأول والتنوين في الأول لتناسب الآي المتقدمة والمتأخرة، وفي الثاني لإتباعه الأول‏.‏ والوقف على الأول قد قيل ولا يوثق به لأن الثاني بدل من الأول ‏{‏قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً‏}‏ صفة ل ‏{‏قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ‏}‏ أي أهل الجنة قدروها على أشكال مخصوصة فجاءت كما قدروها تكرمة لهم، أو السقاة جعلوها على قدر ريّ شاربها فهي ألذ لهم وأخف عليهم‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ لا تفيض ولا تغيض‏.‏

‏{‏وَيُسْقَوْنَ‏}‏ أي الأبرار ‏{‏فِيهَا‏}‏ في الجنة ‏{‏كَأْساً‏}‏ خمراً ‏{‏كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً‏}‏ بدل من ‏{‏زَنجَبِيلاً‏}‏ ‏{‏فِيهَا‏}‏ في الجنة ‏{‏تسمى‏}‏ تلك العين ‏{‏سَلْسَبِيلاً‏}‏ سميت العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها، والعرب تستلذه وتستطيبه‏.‏ وسلسبيلاً لسلاسة انحدارها وسهولة مساغها‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ماء سلسبيل أي عذب طيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 31‏]‏

‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ‏(‏19‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ‏(‏20‏)‏ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ‏(‏21‏)‏ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ‏(‏22‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا ‏(‏23‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا ‏(‏24‏)‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏25‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ‏(‏27‏)‏ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ‏(‏28‏)‏ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏29‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏30‏)‏ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان‏}‏ غلمان ينشئهم الله لخدمة المؤمنين، أو ولدان الكفرة يجعلهم الله تعالى خدماً لأهل الجنة ‏{‏مُّخَلَّدُونَ‏}‏ لا يموتون ‏{‏إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ‏}‏ لحسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم ‏{‏لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً‏}‏ وتخصيص المنثور لأنه أزين في النظر من المنظوم ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ‏}‏ ظرف أي في الجنة وليس ل ‏{‏رَأَيْت‏}‏ مفعول ظاهر ولا مقدر ليشيع في كل مرئي تقديره وإذا اكتسبت الرؤية في الجنة ‏{‏رَأَيْتَ نَعِيماً‏}‏ كثيراً ‏{‏وَمُلْكاً كَبِيراً‏}‏ واسعاً‏.‏ يروى أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه‏.‏ وقيل‏:‏ ملك لا يعقبه هلك، أو لهم فيها ما يشاؤون أو تسلم عليهم الملائكة ويستأذنون في الدخول عليهم ‏{‏عاليهم‏}‏ بالنصب على أنه حال من الضمير في ‏{‏يَطُوفُ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب‏.‏ وبالسكون‏:‏ مدني وحمزة على أنه مبتدأ خبره ‏{‏ثِيَابُ سُندُسٍ‏}‏ أي ما يعلوهم من ملابسهم ثياب سندس رقيق الديباج‏.‏

‏{‏خُضْرٌ‏}‏ جمع أخضر ‏{‏وَإِسْتَبْرَقٌ‏}‏ غليظ يرفعهما حملاً على الثياب‏:‏ نافع وحفص، وبجرهما‏:‏ حمزة وعلي حملاً على ‏{‏سُندُسٍ‏}‏ وبرفع الأول وجر الثاني أو عكسه‏:‏ غيرهم ‏{‏وَحُلُّواْ‏}‏ عطف على ‏{‏وَيَطُوفُ‏}‏ ‏{‏أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ‏}‏ وفي سورة «الملائكة»‏:‏ ‏{‏يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 23‏]‏‏.‏ قال ابن المسيب‏:‏ لا أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة‏:‏ واحدة من فضة وأخرى من ذهب وأخرى من لؤلؤ‏.‏ ‏{‏وسقاهم رَبُّهُمْ‏}‏ أضيف إليه تعالى للتشريف والتخصيص‏.‏ وقيل‏:‏ إن الملائكة يعرضون عليهم الشراب فيأبون قبوله منهم ويقولون‏:‏ لقد طال أخذنا من الوسائط فإذا هم بكاسات تلاقي أفواههم بغير أكف من غيب إلى عبد ‏{‏شَرَاباً طَهُوراً‏}‏ ليس برجس كخمر الدنيا لأن كونها رجساً بالشرع لا بالعقل ولا تكليف ثم، أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة يقال لأهل الجنة ‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ النعيم ‏{‏كَانَ لَكُمْ جَزَاءً‏}‏ لأعمالكم ‏{‏وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً‏}‏ محموداً مقبولاً مرضياً عندنا حيث قلتم للمسكين واليتيم والأسير لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً‏.‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً‏}‏ تكرير الضمير بعد إيقاعه اسماً لإن تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ليستقر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله مفرقاً إلا حكمة وصواباً ومن الحكمة الأمر بالمصابرة ‏{‏فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ‏}‏ عليك بتبليغ الرسالة واحتمال الأذية وتأخير نصرتك على أعدائك من أهل مكة ‏{‏وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ‏}‏ من الكفرة للضجر من تأخير الظفر ‏{‏ءَاثِماً‏}‏ راكباً لما هوى إثم داعياً لك إليه ‏{‏أَوْ كَفُوراً‏}‏ فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه، لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل ما هو إثم أو كفر أو غير إثم ولا كفر، فنهى أن يساعدهم على الأولين دون الثالث‏.‏

وقيل‏:‏ الآثم عتبة لأنه كان ركاباً للمآثم والفسوق‏.‏ والكفور‏:‏ الوليد لأنه كان غالياً في الكفر والجحود‏.‏ والظاهر أن المراد كل آثم وكافر أي لا تطع أحدهما، وإذا نهي عن طاعة أحدهما لا بعينه فقد نهى عن طاعتهما معاً ومتفرقاً‏.‏ ولو كان بالواو لجاز أن يطيع أحدهما لأن الواو للجمع فيكون منهياً عن طاعتهما معاً لا عن طاعة أحدهما، وإذا نهى عن طاعة أحدهما لا بعينه كان عن طاعتهما جميعاً أنهى‏.‏ وقيل‏:‏ «أو» بمعنى «ولا» أي ولا تطع آثماً ولا كفوراً ‏{‏واذكر اسم رَبِّكَ‏}‏ صلِّ له ‏{‏بُكْرَةً‏}‏ صلاة الفجر ‏{‏وَأَصِيلاً‏}‏ صلاة الظهر والعصر‏.‏

‏{‏وَمِنَ اليل فاسجد لَهُ‏}‏ وبعض الليل فصّل صلاة العشاءين ‏{‏وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً‏}‏ أي تهجد له هزيعاً طويلاً من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه‏.‏

‏{‏إِنَّ هَؤُلآء‏}‏ الكفرة ‏{‏يُحِبُّونَ العاجلة‏}‏ يؤثرونها على الآخرة ‏{‏وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ‏}‏ قدامهم أو خلف ظهورهم ‏{‏يَوْماً ثَقِيلاً‏}‏ شديداً لا يعبئون به وهو القيامة لأن شدائده تثقل على الكفار ‏{‏نَّحْنُ خلقناهم وَشَدَدْنَا‏}‏ أحكمنا ‏{‏أَسْرَهُمْ‏}‏ خلقهم عن ابن عباس رضي الله عنهما والفراء ‏{‏وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم تَبْدِيلاً‏}‏ أي إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في الخلقة ممن يطيع ‏{‏إِنَّ هذه‏}‏ السورة ‏{‏تَذْكِرَةٌ‏}‏ عظة ‏{‏فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً‏}‏ بالتقرب إليه بالطاعة له واتباع رسوله ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ‏}‏ اتخاذ السبيل إلى الله‏.‏ وبالياء‏:‏ مكي وشامي وأبو عمرو‏.‏ ومحل ‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ النصب على الظرف أي إلا وقت مشيئة الله، وإنما يشاء الله ذلك ممن علم منه اختياره ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ هو لعموم المشيئة في الطاعة والعصيان والكفر والإيمان فيكون حجة لنا على المعتزلة ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً‏}‏ بما يكون منهم من الأحوال ‏{‏حَكِيماً‏}‏ مصيباً في الأقوال والأفعال ‏{‏يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ‏}‏ وهم المؤمنون ‏{‏فِى رَحْمَتِهِ‏}‏ جنته لأنها برحمته تنال وهو حجة على المعتزلة لأنهم يقولون قد شاء أن يدخل كلاً في رحمته لأنه شاء إيمان الكل، والله تعالى أخبر أنه يدخل من يشاء في رحمته وهو الذي علم منه أنه يختار الهدى ‏{‏والظالمين‏}‏ الكافرين لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها ونصب بفعل مضمر يفسره ‏{‏أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ نحو‏:‏ أوعد وكافأ‏.‏

سورة المرسلات

مكية وهي خمسون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 24‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ‏(‏1‏)‏ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ‏(‏4‏)‏ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏5‏)‏ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ‏(‏9‏)‏ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ‏(‏11‏)‏ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ‏(‏12‏)‏ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ‏(‏13‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ‏(‏14‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏15‏)‏ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ ‏(‏17‏)‏ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏18‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏19‏)‏ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏20‏)‏ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏21‏)‏ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏22‏)‏ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ‏(‏23‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏والمرسلات عُرْفاً * فالعاصفات عَصْفاً * والناشرات نَشْراً * فالفارقات فَرْقاً * فالملقيات ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً‏}‏ أقسم سبحانه وتعالى بطوائف من الملائكة أرسلهن بأوامره فعصفن في مضيهن، وبطوائف منهم نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي، أو نشرن الشرائع في الأرض، أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أو حين ففرقن بين الحق والباطل، فألقين ذكراً إلى الأنبياء عليهم السلام عذراً للمحقين أو نذراً للمبطلين‏.‏ أو أقسم برياح عذاب أرسلهن فعصفن، وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بينه كقوله ‏{‏ويجعله كِسَفًا‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏ فألقين ذكراً إما عذراً للذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها، واما نذراً للذين لا يشكرون وينسبون ذلك إلى الأنواء، وجعلن ملقيات للذكر باعتبار السببية‏.‏ ‏{‏عُرْفاً‏}‏ حال أي متتابعة كعرف الفرس يتلو بعضه بعضاً، أو مفعول له أي أرسلن للإحسان والمعروف‏.‏ و‏{‏عَصْفاً‏}‏ و‏{‏نَشْراً‏}‏ مصدران‏.‏ ‏{‏أَوْ نُذْراً‏}‏ أبو عمرو وكوفي غير أبي بكر وحماد‏.‏ والعذر والنذر مصدران من عذر إذا محا الإساءة، ومن أنذر إذا خوف على فعل كالكفر والشكر‏.‏ وانتصابهما على البدل من ‏{‏ذِكْراً‏}‏ أو على المفعول له‏.‏

‏{‏إِنَّمَا تُوعَدُونَ‏}‏ إن الذي توعدونه من مجيء يوم القيامة ‏{‏لَوَاقِعٌ‏}‏ لكائن نازل لا ريب فيه، وهو جواب القسم ولا وقف إلى هنا لوصل الجواب بالقسم ‏{‏فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ‏}‏ محيت أو ذهب بنورها وجواب ‏{‏فَإِذَا‏}‏ محذوف والعامل فيها جوابها وهو وقوع الفصل ونحوه، و‏{‏النجوم‏}‏ فاعل فعل يفسره ‏{‏طُمِسَتْ‏}‏ ‏{‏وَإِذَا السماء فُرِجَتْ‏}‏ فتحت فكانت أبواباً ‏{‏وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ‏}‏ قلعت من أماكنها ‏{‏وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ‏}‏ أي وقتت كقراءة أبي عمرو أبدلت الهمزة من الواو، ومعنى توقيت الرسل تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم ‏{‏لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ‏}‏ أخرت وأمهلت، وفيه تعظيم لليوم وتعجيب من هوله والتأجيل من الأجل كالتوقيت من الوقت ‏{‏لِيَوْمِ الفصل‏}‏ بيان ليوم التأجيل وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل‏}‏ تعجيب آخر وتعظيم لأمره ‏{‏وَيْلٌ‏}‏ مبتدأ وإن كان نكرة لأنه في أصله مصدر منصوب ساد مسد فعله ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ونحوه ‏{‏سلام عَلَيْكُمُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 24‏]‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ ظرفه ‏{‏لّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ بذلك اليوم خبره‏.‏

‏{‏أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين‏}‏ الأمم الخالية المكذبة ‏{‏ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين‏}‏ مستأنف بعد وقف، وهو وعيد لأهل مكة أي ثم نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك الفعل الشنيع ‏{‏نَفْعَلُ بالمجرمين‏}‏ بكل من أجرم ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ بما أوعدنا ‏{‏أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاءٍ مَّهِينٍ‏}‏ حقير وهو النطفة ‏{‏فجعلناه‏}‏ أي الماء ‏{‏فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ‏}‏ مقر يتمكن فيه وهو الرحم ومحل ‏{‏إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ الحال أي مؤخر إلى مقدار من الوقت معلوم قد علمه الله وحكم به وهو تسعة أشهر أو ما فوقها أو ما دونها ‏{‏فَقَدَّرْنَا‏}‏ فقدرنا ذلك تقديراً ‏{‏فَنِعْمَ القادرون‏}‏ فنعم المقدرون له نحن أو فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن، والأول أحق لقراءة نافع وعلي بالتشديد، ولقوله ‏{‏مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 19‏]‏ ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ بنعمة الفطرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 50‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ‏(‏25‏)‏ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ‏(‏26‏)‏ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ‏(‏27‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏28‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏29‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ‏(‏30‏)‏ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ‏(‏31‏)‏ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ‏(‏32‏)‏ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ‏(‏33‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏34‏)‏ هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏35‏)‏ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ‏(‏36‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏37‏)‏ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ‏(‏39‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏40‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ‏(‏41‏)‏ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏42‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏44‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏45‏)‏ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ‏(‏46‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ‏(‏48‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً‏}‏ هو كفت الشيء إذا ضمه وجمعه وهو اسم ما يكفت كقولهم الضمام لما يضم وبه انتصب ‏{‏أَحْيَاءً وأمواتا‏}‏ كأنه قيل‏:‏ كافتة أحياء وأمواتاً، أو بفعل مضمر يدل عليه ‏{‏كِفَاتاً‏}‏ وهو تكفت أي تكفت أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها، والتنكير فيهما للتفخيم أي تكفت أحياء لا يعدون وأمواتاً لا يحصرون ‏{‏وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ‏}‏ جبالاً ثوابت ‏{‏شامخات‏}‏ عاليات ‏{‏وأسقيناكم مَّاءً فُرَاتاً‏}‏ عذاباً ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ بهذه النعمة ‏{‏انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ‏}‏ أي يقال للكافرين يوم القيامة سيروا إلى النار التي كنتم بها تكذبون ‏{‏انطلقوا‏}‏ تكرير للتوكيد ‏{‏إلى ظِلٍّ‏}‏ دخان جهنم ‏{‏ذِى ثلاث شُعَبٍ‏}‏ يتشعب لعظمه ثلاث شعب وهكذا الدخان العظيم يتفرق ثلاث فرق ‏{‏لاَّ ظَلِيلٍ‏}‏ نعت ظل أي لا مظل من حر ذلك اليوم وحر النار ‏{‏وَلاَ يُغْنِى‏}‏ في محل الجر أي وغير مغنٍ لهم ‏{‏مِنَ اللهب‏}‏ من حر اللهب شيئاً ‏{‏إِنَّهَا‏}‏ أي النار ‏{‏تَرْمِى بِشَرَرٍ‏}‏ هو ما تطاير من النار ‏{‏كالقصر‏}‏ في العظم‏.‏ وقيل‏:‏ هو الغليظ من الشجر الواحدة قصرة ‏{‏كَأَنَّهُ جمالت‏}‏ كوفي غير أبي بكر جمع جمل جمالات غيرهم جمع الجمع ‏{‏صُفْرٌ‏}‏ جمع أصفر أي سود تضرب إلى الصفرة، وشبه الشرر بالقصر لعظمه وارتفاعه، وبالجمال للعظم والطول واللون ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ بأن هذه صفتها‏.‏

‏{‏هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ‏}‏ وقرئ بنصب اليوم أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية وعن قوله ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 31‏]‏ فقال‏:‏ في ذلك اليوم مواقف في بعضها يختصمون وفي بعضها لا ينطقون‏.‏ أو لا ينطقون بما ينفعهم فجعل نطقهم كلا نطق‏.‏

‏{‏وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ‏}‏ في الاعتذار ‏{‏فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ عطف على ‏{‏يُؤْذَنُ‏}‏ منخرط في سلك النفي أي لا يكون لهم إذن واعتذار ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ بهذا اليوم ‏{‏هذا يَوْمُ الفصل‏}‏ بين المحق والمبطل والمحسن والمسيء بالجزاء ‏{‏جمعناكم‏}‏ يا مكذبي محمد ‏{‏والأولين‏}‏ والمكذبين قبلكم ‏{‏فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ‏}‏ حيلة في دفع العذاب ‏{‏فَكِيدُونِ‏}‏ فاحتالوا عليّ بتخليص أنفسكم من العذاب‏.‏ والكيد متعدٍ تقول‏:‏ كدت فلاناً إذا احتلت عليه ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ بالبعث‏.‏

‏{‏إِنَّ المتقين‏}‏ من عذاب الله ‏{‏فِى ظلال‏}‏ جمع ظل ‏{‏وَعُيُونٍ‏}‏ جارية في الجنة ‏{‏وفواكه مِمَّا يَشْتَهُونَ‏}‏ أي لذيذة مشتهاة ‏{‏كُلُواْ واشربوا‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏المتقين‏}‏ في الظرف الذي هو ‏{‏فِى ظلال‏}‏ أي هم مستقرون في ظلال مقولاً لهم ذلك ‏{‏هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ في الدنيا ‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين‏}‏ فأحسنوا تجزوا بهذا ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ بالجنة ‏{‏كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ‏}‏ كلام مستأنف خطاب للمكذبين في الدنيا على وجه التهديد كقوله‏:‏

‏{‏اعملوا مَا شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ لأن متاع الدنيا قليل ‏{‏إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ‏}‏ كافرون أي إن كل مجرى يأكل ويتمتع أياماً قلائل ثم يبقى في الهلاك الدائم ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ بالنعم ‏{‏وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا‏}‏ اخشعوا لله وتواضعوا إليه بقبول وحيه واتباع دينه ودعوا هذا الاستكبار ‏{‏لاَ يَرْكَعُونَ‏}‏ لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على استكبارهم، أو إذا قيل لهم صلوا لا يصلون ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ بالأمر والنهي ‏{‏فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ‏}‏ بعد القرآن ‏{‏يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي إن لم يؤمنوا بالقرآن مع أنه آية مبصرة ومعجزة باهرة من بين الكتب السماوية فبأي كتاب بعده يؤمنون‏؟‏‏!‏ والله أعلم‏.‏

سورة النبأ

مكية وهي أربعون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 30‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏1‏)‏ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ‏(‏3‏)‏ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ‏(‏6‏)‏ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ‏(‏7‏)‏ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ‏(‏8‏)‏ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ‏(‏9‏)‏ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ‏(‏10‏)‏ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ‏(‏11‏)‏ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ‏(‏12‏)‏ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ‏(‏14‏)‏ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ‏(‏15‏)‏ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ‏(‏16‏)‏ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ‏(‏18‏)‏ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ‏(‏19‏)‏ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ‏(‏20‏)‏ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ‏(‏21‏)‏ لِلطَّاغِينَ مَآَبًا ‏(‏22‏)‏ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ‏(‏23‏)‏ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ‏(‏24‏)‏ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ‏(‏25‏)‏ جَزَاءً وِفَاقًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ‏(‏27‏)‏ وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا ‏(‏28‏)‏ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ‏(‏29‏)‏ فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏عَمَّ‏}‏ أصله «عن ما» وقرئ بها، ثم أدغمت النون في الميم فصار «عما» وقرئ بها، ثم حذفت الألف تخفيفاً لكثرة الاستعمال في الاستفهام وعليه الاستعمال الكثير، وهذا استفهام تفخيم للمستفهم عنه لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية ‏{‏يَتَسَاءلُونَ‏}‏ يسأل بعضهم بعضاً أو يسألون غيرهم من المؤمنين، والضمير لأهل مكة كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث ويسألون المؤمنين عنه على طريق الاستهزاء ‏{‏عَنِ النبإ العظيم‏}‏ أي البعث وهو بيان للشأن المفخم وتقديره‏:‏ عم يتساءلون يتساءلون عن النبإ العظيم ‏{‏الذى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ‏}‏ فمنهم من يقطع بإنكاره ومنهم من يشك‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير للمسلمين والكافرين وكانوا جيعاً يتساءلون عنه، فالمسلم يسأل ليزداد خشية، والكافر يسأل استهزاء ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع عن الاختلاف أو التساؤل هزؤاً ‏{‏سَيَعْلَمُونَ‏}‏ وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون عياناً أن ما يستاءلون عنه حق ‏{‏ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ‏}‏ كرر الردع للتشديد و«ثم» يشعر بأن الثاني أبلغ من الأول وأشد‏.‏

‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض‏}‏ لما أنكروا البعث‏.‏ قيل لهم‏:‏ ألم يخلق من أضيف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة فلم تنكرون قدرته على البعث وما هو إلا اختراع كهذه الاختراعات‏؟‏ أو قيل لهم‏:‏ لم فعل هذه الأشياء والحكيم لا يفعل عبثاً وإنكار البعث يؤدي إلى أنه عابث في كل ما فعل‏؟‏ ‏{‏مهادا‏}‏ فراشاً فرشناها لكم حتى سكنتموها ‏{‏والجبال أَوْتَاداً‏}‏ للأرض لئلا تيمد بكم ‏{‏وخلقناكم أزواجا‏}‏ ذكر أو أنثى ‏{‏وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً‏}‏ قطعاً لأعمالكم وراحة لأبدانكم والسبت القطع ‏{‏وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً‏}‏ ستراً يستركم عن العيون إذا أردتم إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه ‏{‏وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً‏}‏ وقت معاش تتقلبون في حوائجكم ومكاسبكم ‏{‏وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً‏}‏ سبع سموات ‏{‏شِدَاداً‏}‏ جمع شديدة أي محكمة قوية لا يؤثّر فيها مرور الزمان أو غلاظاً غلظ كل واحدة مسيرة خمسمائة عام ‏{‏وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً‏}‏ مضيئاً وقّاداً أي جامعاً للنور والحرارة والمراد الشمس ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات‏}‏ أي السحائب إذا أعصرت أي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض، أو الرياح لأنها تنشئ السحاب وتدر أحلافه فيصح أن تجعل مبدأ للإنزال، وقد جاء أن الله تعالى يبعث الرياح فتحمل الماء من السماء إلى السحاب ‏{‏مَاءً ثَجَّاجاً‏}‏ منصباً بكثرة ‏{‏لِّنُخْرِجَ بِهِ‏}‏ بالماء ‏{‏حَبّاً‏}‏ كالبر والشعير ‏{‏وَنَبَاتاً‏}‏ وكلأ ‏{‏وجنات‏}‏ بساتين ‏{‏أَلْفَافاً‏}‏ ملتفة الأشجار واحدها لف كجذع وأجذاع، أو لفيف كشريف وأشراف، أو لا واحد له كأوزاع، أو هي جمع الجمع فهي جمع لف واللف جمع لفاء وهي شجرة مجتمعة‏.‏

ولا وقف من ‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ‏}‏ إلى ‏{‏أَلْفَافاً‏}‏ الوقف الضروري على ‏{‏أَوْتَاداً‏}‏ و‏{‏مَعَاشاً‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ يَوْمَ الفصل‏}‏ بين المحسن والمسيء والمحق والمبطل ‏{‏كَانَ ميقاتا‏}‏ وقتاً محدوداً ومنتهى معلوماً لوقوع الجزاء أو ميعاداً للثواب والعقاب‏.‏

‏{‏يَوْمَ يُنفَخُ‏}‏ بدل من ‏{‏يَوْمُ الفصل‏}‏ أو عطف بيان ‏{‏فِى الصور‏}‏ في القرن ‏{‏فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً‏}‏ حال أي جماعات مختلفة أو أمماً كل أمة مع رسولها ‏{‏وَفُتِحَتِ السماء‏}‏ خفيف‏:‏ كوفي أي شقت لنزول الملائكة ‏{‏فَكَانَتْ أبوابا‏}‏ فصارت ذات أبواب وطرق وفروج ومالها اليوم من فروج ‏{‏وَسُيِّرَتِ الجبال‏}‏ عن وجه الأرض ‏{‏فَكَانَتْ سَرَاباً‏}‏ أي هباء تخيّل الشمس أنه ماء ‏{‏إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً‏}‏ طريقاً عليه ممر الخلق فالمؤمن يمر عليها والكافر يدخلها‏.‏ وقيل‏:‏ المرصاد الحد الذي يكون فيه الرصد أي هي حد الطاغين الذين يرصدون فيه للعذاب وهي مآبهم، أو هي مرصاد لأهل الجنة ترصدهم الملائكة الذين يستقبلونهم عندها لأن مجازهم عليها ‏{‏للطاغين مَئَاباً‏}‏ للكافرين مرجعاً ‏{‏لابثين‏}‏ ماكثين حال مقدرة من الضمير في ‏{‏للطاغين‏}‏ حمزة ‏{‏لَّبِثِينَ‏}‏ واللبث أقوى إذ اللابث من وجد منه اللبث وإن قل، واللبث من شأنه اللبث والمقام في المكان ‏{‏فِيهَا‏}‏ في جهنم ‏{‏أَحْقَاباً‏}‏ ظرف جمع حقب وهو الدهر ولم يرد به عدد محصور بل الأبد كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية، ولا يستعمل الحقب والحقبة إلا إذا أريد تتابع الأزمنة وتواليها‏.‏ وقيل‏:‏ الحقب ثمانون سنة‏.‏ وسئل بعض العلماء عن هذه الآية فأجاب بعد عشرين سنة ‏{‏لابثين فِيهَا أَحْقَاباً‏}‏‏.‏

‏{‏لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً‏}‏ أي غير ذائقين حال من ضمير ‏{‏لابثين‏}‏ فإذا انقضت هذه الأحقاب التي عذبوا فيها بمنع البرد والشراب بدلوا بأحقاب أخر فيها عذاب آخر وهي أحقاب بعد أحقاب لا انقطاع لها‏.‏ وقيل‏:‏ هو من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق فهو حقب وجمعه حقاب فينتصب حالاً عنهم أي لابثين فيها حقبين جهدين و‏{‏لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً‏}‏ تفسير له‏.‏ وقوله ‏{‏إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً‏}‏ استثناء منقطع أي ‏{‏لاَ يَذُوقُونَ‏}‏ في جهنم أو في الأحقاب ‏{‏بَرْداً‏}‏ روْحاً ينفس عنهم حر النار أو نوماً ومنه منع البرد البرد، ‏{‏وَلاَ شَرَاباً‏}‏ يسكن عطشهم ولكن يذوقون فيها حميماً ماء حاراً يحرق ما يأتي عليه ‏{‏وَغَسَّاقاً‏}‏ ماء يسيل من صديدهم‏.‏ وبالتشديد‏:‏ كوفي غير أبي بكر ‏{‏جَزَاءً‏}‏ جوزوا جزاء ‏{‏وفاقا‏}‏ موافقاً لأعمالهم مصدر بمعنى الصفة أو ذا وفاق‏.‏ ثم استأنف معللاً فقال ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً‏}‏ لا يخافون محاسبة الله إياهم أو لم يؤمنوا بالبعث فيرجوا حساباً ‏{‏وَكَذَّبُواْ بئاياتنا كِذَّاباً‏}‏ تكذيباً وفعّال في باب فعّل كله فاش ‏{‏وَكُلَّ شئ‏}‏ نصب بمضمر يفسره ‏{‏أحصيناه كتابا‏}‏ مكتوباً في اللوح حال أو مصدر في موضع إحصاء، أو أحصيناً في معنى كتبنا لأن الاحصاء يكون بالكتابة غالباً‏.‏ وهذه الآية اعتراض لأن قوله ‏{‏فَذُوقُواْ‏}‏ مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات أي فذوقوا جزاءكم والالتفات شاهد على شدة الغضب ‏{‏فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً‏}‏ في الحديث ‏"‏ هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار»‏.‏ ‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 40‏]‏

‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ‏(‏31‏)‏ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ‏(‏32‏)‏ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ‏(‏33‏)‏ وَكَأْسًا دِهَاقًا ‏(‏34‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ‏(‏35‏)‏ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ‏(‏36‏)‏ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ‏(‏37‏)‏ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا ‏(‏39‏)‏ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً‏}‏ مفعل من الفوز يصلح مصدراً أي نجاة من كل مكروه وظفراً بكل محبوب ويصلح للمكان وهو الجنة‏.‏ ثم أبدل منه بدل البعض من الكل فقال ‏{‏حَدَائِقَ‏}‏ بساتين فيها أنواع الشجر المثمر جمع حديقة ‏{‏وأعنابا‏}‏ كروماً عطف على ‏{‏حَدَائِقَ‏}‏ ‏{‏وَكَوَاعِبَ‏}‏ نواهد ‏{‏أَتْرَاباً‏}‏ لدات مستويات في السن ‏{‏وَكَأْساً دِهَاقاً‏}‏ مملوءة‏.‏

‏{‏لاّ يسمعون فيها‏}‏ في الجنة حال من ضمير خبر «إن» ‏{‏لغواً‏}‏ باطلاً ‏{‏ولا كِذَّاباً‏}‏ الكسائي‏:‏ خفيف بمعنى مكاذبة أي لا يكذب بعضهم بعضاً ولا يكاذبه ‏{‏جزاءً‏}‏ مصدر أي جزاهم جزاء ‏{‏مّن رَّبِّكَ عطاءً‏}‏ مصدر أو بدل من ‏{‏جزاء‏}‏ ‏{‏حساباً‏}‏ صفة يعني كافياً أو على حسب أعمالهم ‏{‏رّبِّ السّماواتِ والأرضِ وما بينهما الرّحمنِ‏}‏ بجرهما‏:‏ ابن عامر وعاصم بدلاً من ‏{‏ربك‏}‏ ومن رفعهما ف ‏{‏رب‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره ‏{‏الرحمن‏}‏ أو ‏{‏الرحمن‏}‏ صفته و‏{‏لا يملكون‏}‏ خبر، أو هما خبران والضمير في ‏{‏لا يملكونَ‏}‏ لأهل السماوات والأرض، وفي ‏{‏منه خطاباً‏}‏ لله تعالى أي لا يملكون الشفاعة من عذابه تعالى إلا بإذنه أو لا يقدر أحد أن يخاطبه تعالى خوفاً ‏{‏يومَ يقومُ‏}‏ إن جعلته ظرفاً ل ‏{‏لا يملكون‏}‏ لا تقف على ‏{‏خطاباً‏}‏ وإن جعلته ظرفاً ل ‏{‏لا يتكلمون‏}‏ تقف ‏{‏الرُّوحُ‏}‏ جبريل عند الجمهور وقيل هو ملك عظيم ما خلق الله تعالى بعد العرش خلقاً أعظم منه ‏{‏والملائكة صَفَّاً‏}‏ حال أي مصطفين ‏{‏لاّ يتكلّمون‏}‏ أي الخلائق ثم خوفاً من ‏{‏إلاّ من أذن له الرَّحمانُ‏}‏ في الكلام أو الشفاعة ‏{‏وقال صواباً‏}‏ حقاً بأن قال المشفوع له لا إله إلا الله في الدنيا أو لا يؤذن إلا لمن يتكلم بالصواب في أمر الشفاعة‏.‏

‏{‏ذلك اليوم الحقُّ‏}‏ الثابت وقوعه ‏{‏فمن شاءَ اتّخَذَ إلى ربّه مئاباً‏}‏ مرجعاً بالعمل الصالح ‏{‏إنّا أنذرناكم‏}‏ أيها الكفار ‏{‏عذاباً قريباً‏}‏ في الآخرة لأن ما هو آتٍ قريب ‏{‏يَوْمَ ينظُرُ المرءُ‏}‏ الكافر لقوله‏:‏ ‏{‏إنا أنذرناكم عذاباً قريباً‏}‏ ‏{‏ما قدّمت يداه‏}‏ من الشر لقوله‏:‏ ‏{‏وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 50-51‏]‏‏.‏ وتخصيص الأيدي لأن أكثر الأعمال تقع بها وإن احتمل أن لا يكون للأيدي مدخل فيما ارتكب من الآثام ‏{‏وَيقولُ الكَافِرُ‏}‏ وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة الذم، أو المرء عام وخص منه الكافر وما قدمت يداه ما عمل من خير وشر، أو هو المؤمن لذكر الكافر بعده وما قدم من خير‏.‏ و«ما» استفهامية منصوبة ب ‏{‏قدمت‏}‏ أي ينظر أي شيء قدمت يداه، أو موصولة منصوبة ب ‏{‏ينظر‏}‏ يقال‏:‏ نظرته يعني نظرت إليه والراجع من الصلة محذوف أي ما قدمته ‏{‏يا ليتني كنت تراباً‏}‏ في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف أوليتني كنت تراباً في هذا اليوم فلم أبعث‏.‏ وقيل‏:‏ يحشر الله الحيوان غير المكلف حتى يقتص للجماء من القرناء ثم يرده تراباً، فيود الكافر حاله‏.‏ وقيل‏:‏ الكافر إبليس يتمنى أن يكون كآدم مخلوقاً من التراب ليثاب ثواب أولاده المؤمنين، والله أعلم‏.‏

سورة النازعات

ست وأربعون آية مكية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ‏(‏1‏)‏ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ‏(‏2‏)‏ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ‏(‏3‏)‏ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ‏(‏4‏)‏ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ‏(‏6‏)‏ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ‏(‏7‏)‏ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ‏(‏8‏)‏ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ‏(‏10‏)‏ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً ‏(‏11‏)‏ قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ‏(‏12‏)‏ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ‏(‏13‏)‏ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏والنّازعات غَرْقاً* والنّاشطاتِ نشطاً* والسّابحاتِ سبحاً* فالسّابقاتِ سبقاً* فالمدبّرات أمراً‏}‏ لا وقف إلى هنا‏.‏ ولزم هنا لأنه لو وصل لصار ‏{‏يوم‏}‏ ظرف ‏{‏المدبرات‏}‏ وقد انقضى تدبير الملائكة في ذلك اليوم‏.‏ أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد غرقاً أي إغراقاً في النزع أي تنزعها من أقاصي الأجساد من أناملها ومواضع أظفارها، وبالطوائف التي تنشطها أي تخرجها من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها، وبالطوائف التي تسبح في مضيها أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمراً من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم كما رسم لهم‏.‏ أو بخيل الغزاة التي تنزع في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب، والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب من قولك ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد، والتي تسبح في جريها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر، وإسناد التدبير إليها لأنها من أسبابه‏.‏ أو بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب، وإغراقها في النزع أن تقطع الفلك كله حتى تنحط في أقصى الغرب، والتي تخرج من برج إلى برج والتي تسبح في الفلك من السيارة فتسبق فتدبر أمراً من علم الحساب‏.‏ وجواب القسم محذوف وهو «لتبعثن» لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة‏.‏

‏{‏يوم تَرْجُفُ‏}‏ تتحرك حركة شديدة والرجف شدة الحركة ‏{‏الرَّاجِفَةُ‏}‏ النفخة الأولى وصفت بما يحدث بحدوثها لأنها تضطرب بها الأرض حتى يموت كل من عليها ‏{‏تَتْبَعُهَا‏}‏ حال عن الراجفة ‏{‏الرَّادِفَةُ‏}‏ النفخة الثانية لأنها تردف الأولى وبينهما أربعون سنة، والأولى تميت الخلق والثانية تحييهم ‏{‏قلوبٌ يومئذٍ‏}‏ قلوب منكري البعث ‏{‏وَاجِفَةٌ‏}‏ مضطربة من الوجيب وهو الوجيف‏.‏ وانتصاب ‏{‏يوم ترجف‏}‏ بما دل عليه ‏{‏قلوب يومئذ واجفة‏}‏ أي يوم ترجف وجفت القلوب، وارتفاع ‏{‏قلوب‏}‏ بالابتداء و‏{‏واجفة‏}‏ صفتها ‏{‏أبصارُها‏}‏ أي أبصار أصحابها ‏{‏خاشِعَةٌ‏}‏ ذليلة لهول ما ترى حبرها ‏{‏يقولونَ‏}‏ أي منكرو البعث في الدنيا استهزاء وإنكاراً للبعث ‏{‏أَءِنَّا لمردودون في الحافرةِ‏}‏ استفهام بمعنى الإنكار أي أنرد بعد موتنا إلى أول الأمر فنعود أحياء كما كنا‏؟‏ والحافرة الحالة الأولى يقال لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه‏:‏ رجع إلى حافرته أي إلى حالته الأولى‏.‏ ويقال‏:‏ النقد عند الحافرة أي عند الحالة الأولى، وهي الصفقة أنكروا البعث‏.‏ ثم زادوا استبعاداً فقالوا ‏{‏أَءِذا كنا عظاماً نَّخِرَةً‏}‏ بالية ‏{‏ناخرة‏}‏‏:‏ كوفي غير حفص‏.‏ وفَعِلَ أبلغ من فاعل يقال‏:‏ نخر العظم فهو نخر وناخر‏.‏ والمعنى أنرد إلى الحياة بعد أن صرنا عظاماً بالية‏؟‏ و«إذا» منصوب بمحذوف وهو «نبعث» ‏{‏قالوا‏}‏ أي منكرو البعث ‏{‏تِلْكَ‏}‏ رجعتنا ‏{‏إذاً كَرَّةٌ خاسرةٌ‏}‏ رجعة ذات خسران أو خاسر أصحابها، والمعنى أنها إن صحت وبعثنا فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا بها وهذا استهزاء منهم ‏{‏فَإِنَّما هي زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ‏}‏ متعلق بمحذوف أي لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله عز وجل فإنها سهلة هينة في قدرته فما هي إلا صيحة واحدة يريد النفخة الثانية من قولهم‏:‏ زجر البعير إذا صاح عليه ‏{‏فإذا هم بالسَّاهِرةِ‏}‏ فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعدما كانوا أمواتاً في جوفها‏.‏ وقيل‏:‏ الساهرة أرض بعينها بالشأم إلى جنب بيت المقدس أو أرض مكة أو جهنم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 46‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ‏(‏15‏)‏ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ‏(‏16‏)‏ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏17‏)‏ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ‏(‏18‏)‏ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ‏(‏19‏)‏ فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى ‏(‏20‏)‏ فَكَذَّبَ وَعَصَى ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ‏(‏22‏)‏ فَحَشَرَ فَنَادَى ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ‏(‏24‏)‏ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى ‏(‏25‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ‏(‏26‏)‏ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ‏(‏27‏)‏ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ‏(‏28‏)‏ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ‏(‏29‏)‏ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ‏(‏30‏)‏ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ‏(‏31‏)‏ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ‏(‏32‏)‏ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ‏(‏33‏)‏ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ‏(‏34‏)‏ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ‏(‏35‏)‏ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ‏(‏36‏)‏ فَأَمَّا مَنْ طَغَى ‏(‏37‏)‏ وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏38‏)‏ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ‏(‏39‏)‏ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ‏(‏40‏)‏ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ‏(‏41‏)‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ‏(‏42‏)‏ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ‏(‏43‏)‏ إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ‏(‏44‏)‏ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ‏(‏45‏)‏ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏هل أتاك حديث موسى‏}‏ استفهام يتضمن التنبيه على أن هذا مما يجب أن يشيع والتشريف للمخاطب به ‏{‏إذ ناداه رَبُّهُ‏}‏ حين ناداه ‏{‏بالوَادِ المقَدَّسِ‏}‏ المبارك المطهر ‏{‏طوًى‏}‏ اسمه ‏{‏اذهب إلى فرعون‏}‏ على إرادة القول ‏{‏إنَّهُ طغى‏}‏ تجاوز الحد في الكفر والفساد‏.‏

‏{‏فقل هل لّك إلى أن تزكى‏}‏ هل لك ميل إلى أن تتطهر من الشرك والعصيان بالطاعة والإيمان‏.‏ وبتشديد الزاي‏:‏ حجازي ‏{‏وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ‏}‏ وأرشدك إلى معرفة الله بذكر صفاته فتعرفه ‏{‏فتخشى‏}‏ لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يخشى الله من عباده العلماء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏ أي العلماء به‏.‏ وعن بعض الحكماء‏:‏ اعرف الله فمن عرف الله لم يقدر أن يعصيه طرفة عين‏.‏ فالخشية ملاك الأمور من خشي الله أتى منه كل خير، ومن آمن اجترأ على كل شر‏.‏ ومنه الحديث «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل» بدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض كما يقول الرجل لضيفه‏:‏ هل لك أن تنزل بنا‏؟‏ وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه باللطف في القول ويستنزله بالمداراة عن عتوه كما أمر بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقولا له قولاً ليناً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏ ‏{‏فأراه الآية الكبرى‏}‏ أي فذهب فأرى موسى فرعون العصا أو العصا واليد البيضاء لأنهما في حكم آية واحدة ‏{‏فَكَذَّبَ‏}‏ فرعون بموسى والآية الكبرى وسماهما ساحراً وسحراً ‏{‏وعصى‏}‏ الله تعالى ‏{‏ثمّ أدْبَرَ‏}‏ تولى عن موسى ‏{‏يسعى‏}‏ يجتهد في مكايدته، أو لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً يسرع في مشيته وكان طيّاشاً خفيفاً ‏{‏فَحَشَرَ‏}‏ فجمع السحرة وجنده ‏{‏فنادى‏}‏ في المقام الذي اجتمعوا فيه معه ‏{‏فقال أنا ربّكم الأعلى‏}‏ لا رب فوقي وكانت لهم أصنام يعبدونها ‏{‏فأخذه الله نكال الآخرة‏}‏ عاقبة الله عقوبة الآخرة والنكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم‏.‏ ونصبه على المصدر لأن أخذ بمعنى نكل كأنه قيل‏:‏ نكل الله به نكال الآخرة أي الإحراق ‏{‏والأولى‏}‏ أي الإغراق، أو نكال كلمتيه الآخرة وهي ‏{‏أنا ربكم الأعلى‏}‏ والأولى وهي ‏{‏ما علمت لكم من إله غيري‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏ وبينهما أربعون سنة أو ثلاثون أو عشرون ‏{‏إنّ في ذلك‏}‏ المذكور ‏{‏لَعِبْرَةً لّمن يخشى‏}‏ الله‏.‏

‏{‏ءَأنتُمْ‏}‏ يا منكري البعث ‏{‏أشَدُّ خَلْقاً‏}‏ أصعب خلقاً وإنشاء ‏{‏أم السَّمَاءُ‏}‏ مبتدأ محذوف الخبر أي أم السماء أشد خلقاً‏.‏ ثم بين كيف خلقها فقال ‏{‏بناها‏}‏ أي الله‏.‏ ثم بين البناء فقال ‏{‏رَفَعَ سَمْكَهَا‏}‏ أعلى سقفها‏.‏ وقيل‏:‏ جعل مقدار ذهابها في سمت العلو رفيعاً مسيرة خمسمائة عام ‏{‏فسواها‏}‏ فعدلها مستوية بلا شقوق ولا فطور ‏{‏وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا‏}‏ أظلمه ‏{‏وأَخْرَجَ ضُحَاهَا‏}‏ أبرز ضوء شمسها، وأضيف الليل والشمس إلى السماء لأن الليل ظلمتها والشمس سراجها ‏{‏والأَرْضَ بَعْدَ ذلك دَحَاهَا‏}‏ بسطها وكانت مخلوقة غير مدحوة فدحيت من مكة بعد خلق السماء بألفي عام‏.‏

ثم فسر البسط فقال ‏{‏أَخْرَجَ منها مَاءَها‏}‏ بتفجير العيون ‏{‏ومَرْعَاهَا‏}‏ كلأها ولذا لم يدخل العاطف على ‏{‏أخرج‏}‏ أو ‏{‏أخرج‏}‏ حال بإضمار «قد»‏.‏

‏{‏والجبال أرساها‏}‏ أثبتها وانتصاب الأرض والجبال بإضمار دحاً وأرسى على شريطة التفسير ‏{‏متاعاً لَّكُمَ ولأنعامِكُمْ‏}‏ فعل ذلك تمتيعاً لكم ولأنعماكم ‏{‏فإذا جاءتِ الطَّامَّةُ الكبرى‏}‏ الداهية العظمى التي تطم على الدواهي أي تعلو وتغلب وهي النفخة الثانية، أو الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار‏.‏

‏{‏يوم يَتَذَكَّرُ الإنسانُ‏}‏ بدل من ‏{‏إذا جاءت‏}‏ أي إذا رأى أعماله مدونة في كتابه يتذكرها وكان قد نسيها ‏{‏ما سعى‏}‏ مصدرية أي سعيه أو موصولة ‏{‏وبُرِّزَتِ الجحيم‏}‏ وأظهرت ‏{‏لمن يرى‏}‏ لكل راء لظهورها ظهوراً بيناً‏.‏

‏{‏فأمّا‏}‏ جواب ‏{‏فإذا‏}‏ أي إذا جاءت الطامة فإن الأمر كذلك ‏{‏من طغى‏}‏ جاوز الحد فكفر ‏{‏وَءَاثَرَ الحَياةَ الدُّنْيَا‏}‏ على الآخرة باتباع الشهوات ‏{‏فإن الجَحِيمَ هِيَ المأوى‏}‏ المرجع أي مأواه، والألف واللام بدل من الإضافة وهذا عند الكوفيين، وعند سيبويه وعند البصريين هي المأوى له ‏{‏وأمّا من خاف مَقَامَ رَبِّهِ‏}‏ أي علم أن له مقاماً يوم القيامة لحساب ربه ‏{‏ونهى النَّفْسَ‏}‏ الأمارة بالسوء ‏{‏عن الهوى‏}‏ المؤذي أي زجرها عن اتباع الشهوات‏.‏ وقيل‏:‏ هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها، والهوى ميل النفس إلى شهواتها ‏{‏فإنّ الجَنَّةَ هِيَ المأوى‏}‏ أي المرجع ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أيَّانَ مُرْسَاهَا‏}‏ متى إرساؤها أي إقامتها يعني متى يقيمها الله تعالى ويثبتها ‏{‏فِيمَ أنتَ مِن ذِكْرَاهَآ‏}‏ في شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم به أي ما أنت من ذكراها لهم وتبيين وقتها في شيء كقولك‏:‏ ليس فلان من العلم في شيء‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت، فهو على هذا تعجب من كثرة ذكره لها أي أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها‏.‏

‏{‏إلى رَبِّكَ مُنتَهَاها‏}‏ منتهى علمها متى تكون لا يعلمها غيره، أو فيم إنكار لسؤالهم عنها أي فيم هذا السؤال‏.‏ ثم قال ‏{‏أنت من ذكراها‏}‏ أي إرسالك وأنت آخر الأنبياء علامة من علاماتها فلا معنى لسؤالهم عنها، ولا يبعد أن يوقف على هذا على ‏{‏فيم‏}‏ وقيل ‏{‏فيم أنت من ذكراها‏}‏ متصل بالسؤال أي يسألونك عن الساعة أيان مرساها ويقولون أين أنت من ذكراها‏.‏ ثم استأنف فقال ‏{‏إلى ربك منتهاها‏}‏ ‏{‏إنّما أنت منذر من يخشاها‏}‏ أي لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يخاف شدائدها‏.‏ ‏{‏منذر‏}‏ منون‏:‏ يزيد وعباس ‏{‏كَأنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا‏}‏ أي الساعة ‏{‏لم يَلْبَثُوا‏}‏ في الدنيا ‏{‏إلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا‏}‏ أي ضحى العشية استقلوا مدة لبثهم في الدنيا لما عاينوا من الهول كقوله‏:‏ ‏{‏لم يلبثوا إلا ساعة من نهار‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 35‏]‏ ‏[‏يونس‏:‏ 45‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 113‏]‏ وإنما صحت إضافة الضحى إلى العشية للملابسة بينهما لاجتماعهما في نهار واحد، والمراد أن مدة لبثهم لم تبلغ يوماً كاملاً ولكن أحد طرفي النهار عشيته أو ضحاه، والله أعلم‏.‏

سورة عبس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 42‏]‏

‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى ‏(‏1‏)‏ أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ‏(‏2‏)‏ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ‏(‏3‏)‏ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ‏(‏4‏)‏ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ‏(‏5‏)‏ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ‏(‏6‏)‏ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ‏(‏8‏)‏ وَهُوَ يَخْشَى ‏(‏9‏)‏ فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ‏(‏10‏)‏ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ‏(‏11‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏12‏)‏ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ‏(‏13‏)‏ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ‏(‏14‏)‏ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ‏(‏15‏)‏ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ‏(‏16‏)‏ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ‏(‏17‏)‏ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ‏(‏18‏)‏ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ‏(‏19‏)‏ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ‏(‏20‏)‏ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ‏(‏22‏)‏ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ‏(‏23‏)‏ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ‏(‏24‏)‏ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ‏(‏26‏)‏ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ‏(‏27‏)‏ وَعِنَبًا وَقَضْبًا ‏(‏28‏)‏ وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ‏(‏29‏)‏ وَحَدَائِقَ غُلْبًا ‏(‏30‏)‏ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ‏(‏31‏)‏ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ‏(‏32‏)‏ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ‏(‏33‏)‏ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ‏(‏34‏)‏ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ‏(‏35‏)‏ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ‏(‏36‏)‏ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ‏(‏37‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ‏(‏38‏)‏ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ‏(‏39‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ‏(‏40‏)‏ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ‏(‏41‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏عَبَسَ‏}‏ كلح أي النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَتَوَلَّى‏}‏ أعرض ‏{‏أن جَاءَهُ‏}‏ لأن جاءه ومحله نصب لأنه مفعول له، والعامل فيه ‏{‏عبس‏}‏ أو تولى على اختلاف المذهبين ‏{‏الأعمى‏}‏ عبد الله بن أم مكتوم، وأم مكتوم أم أبيه، وأبوه شريح بن مالك، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو أشراف قريش إلى الإسلام فقال‏:‏ يا رسول الله علمني مما علمك الله وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه بعدها ويقول‏:‏ ‏"‏ مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ‏"‏ واستخلفه على المدينة مرتين ‏{‏وما يدريك‏}‏ وأي شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى ‏{‏لعلّه يزكى‏}‏ لعل الأعمى يتطهر بما يسمع منك من دنس الجهل‏.‏ وأصله يتزكى فأدغمت التاء في الزاي، وكذا ‏{‏أو يَذَّكَّرُ‏}‏ يتعظ ‏{‏فَتَنفَعَهُ‏}‏ نصبه عاصم غير الأعشى جواباً ل «لعل» وغيره رفعه عطفاً على ‏{‏يذكر‏}‏ ‏{‏الذكرى‏}‏ ذكراك أي موعظتك أي أنك لا تدري ما هو مترقب منه من ترك، أو تذكر ولو دريت لما فرط ذلك منك‏.‏

‏{‏أمّا مَنِ استغنى‏}‏ أي من كان غنياً بالمال ‏{‏فأَنتَ لَهُ تصدى‏}‏ تتعرض بالإقبال عليه حرصاً على إيمانه ‏{‏تصدى‏}‏ بإدغام التاء في الصاد‏:‏ حجازي ‏{‏وما عليك ألاّ يزّكّى‏}‏ وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام إن عليك إلا البلاغ ‏{‏وأمّا من جاءَكَ يسعى‏}‏ يسرع في طلب الخير ‏{‏وهو يخشى‏}‏ الله أو الكفار أي أذاهم في إتيانك أو الكبوة كعادة العميان ‏{‏فأنت عنه تلهّى‏}‏ تتشاغل وأصله تتلهى‏.‏ ورُوي أنه ما عبس بعدها في وجه فقير قط ولا تصدى لغني‏.‏ ورُوي أن الفقراء في مجلس الشورى كانوا أمراء‏.‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع أي لا تعد إلى مثله ‏{‏إنَّها‏}‏ إن السورة أو الآيات ‏{‏تذكرةٌ‏}‏ موعظة يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها ‏{‏فمن شاء ذكره‏}‏ فمن شاء أن يذكره ذكره‏.‏ أو ذكر الضمير لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ، والمعنى فمن شاء الذكر ألهمه الله تعالى إياه ‏{‏في صُحُفٍ‏}‏ صفة ل ‏{‏تذكرة‏}‏ أي أنها مثبتة في صحف منتسخة من اللوح، أو خبر مبتدأ محذوف أي هي في صحف ‏{‏مُّكَرَّمَةٍ‏}‏ عند الله ‏{‏مَّرْفُوعَةٍ‏}‏ في السماء أو مرفوعة القدر والمنزلة ‏{‏مُّطَهَّرَةٍ‏}‏ عن مس غير الملائكة أو عما ليس من كلام الله تعالى ‏{‏بأيدي سفرةٍ‏}‏ كتبة جمع سافر أي الملائكة ينتسخون الكتب من اللوح ‏{‏كِرَامٍ‏}‏ على الله أو عن المعاصي ‏{‏بررةٍ‏}‏ أتقياء جمع بار‏.‏

‏{‏قتل الإنسَانُ‏}‏ لعل الكافر أو هو أمية أو عتبة ‏{‏ما أكْفَرَهُ‏}‏ استفهام توبيخ أي أي شيء حمله على الكفر، أو هو تعجب أي ما أشد كفره ‏{‏مِنْ أيِّ شيءٍ خَلَقَهُ‏}‏ من أي حقير خلقه‏!‏ وهو استفهام ومعناه التقرير‏.‏

ثم بين ذلك الشيء فقال ‏{‏مِن نُّطفةٍ خلقه فَقَدَّرَهُ‏}‏ على ما يشاء من خلقه‏.‏

‏{‏ثمّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ‏}‏ نصب السبيل بإضمار يسر أي ثم سهل له سبيل الخروج من بطن أمه أو بين له سبيل الخير والشر ‏{‏ثمّ أمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ‏}‏ جعله ذا قبر يواري فيه لا كالبهائم كرامة له قبر الميت دفنه وأقبره الميت أمره بأن يقبره ومكنه منه ‏{‏ثمّ إذا شاء أنشره‏}‏ أحياه بعد موته ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع للإنسان عن الكفر ‏{‏لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ‏}‏ لم يفعل هذا الكافر ما أمره الله به من الإيمان‏.‏

ولما عدد النعم في نفسه من ابتداء حدوثه إلى آن انتهائه أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه فقال ‏{‏فلينظر الإنسان إلى طعامه‏}‏ الذي يأكله ويحيا به كيف دبرنا أمره ‏{‏أَنَّا‏}‏ بالفتح‏:‏ كوفي على أنه بدل اشتمال من الطعام، وبالكسر على الاستئناف‏:‏ غيرهم ‏{‏صَبَبْنَا الماءَ صبًّا‏}‏ يعني المطر من السحاب ‏{‏ثمّ شققنا الأرض شقًّا‏}‏ بالنبات ‏{‏فأنبتنا فيها حبًّا‏}‏ كالبر والشعير وغيرهما مما يتغذى به ‏{‏وعنباً‏}‏ ثمرة الكرم أي الطعام والفاكهة ‏{‏وَقَضْباً‏}‏ رطبة سمي بمصدر قضبه أي قطعه لأنه يقضب مرة بعد مرة ‏{‏وزيتوناً وَنَخْلاً وحدائِقَ‏}‏ بساتين ‏{‏غُلْباً‏}‏ غلاظ الأشجار جمع غلباء ‏{‏وفاكهةً‏}‏ لكم ‏{‏وأبًّا‏}‏ مرعى لدوابكم ‏{‏مَّتَاعاً‏}‏ مصدر أي منفعة ‏{‏لّكم ولأنعامكم فإذا جاءت الصَّاخَّةُ‏}‏ صيحة القيامة لأنها تصخ الآذان أي تصمها وجوابه محذوف لظهوره ‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وأُمِّهِ وأَبِيهِ‏}‏ لتبعات بينه وبينهم أو لاشتغاله بنفسه ‏{‏وصاحِبَتِهِ‏}‏ وزوجته ‏{‏وَبَنِيهِ‏}‏ بدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ثم بالصاحبة والبنين لأنهم أحب‏.‏ قيل‏:‏ أول من يفر من أخيه هابيل، ومن أبويه إبراهيم، ومن صاحبته نوح ولوط، ومن ابنه نوح ‏{‏لِكُلِّ امْرِئ مِّنهُمْ يَوْمَئذٍ شَأْنٌ‏}‏ في نفسه ‏{‏يُغنِيهِ‏}‏ يكفيه في الاهتمام به ويشغله عن غيره‏.‏

‏{‏وجوهٌ يومئذٍ مُّسْفِرَةٌ‏}‏ مضيئة من قيام الليل أو من آثار الوضوء ‏{‏ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ‏}‏ أي أصحاب هذه الوجوه وهم المؤمنون ضاحكون مسرورون ‏{‏ووجوهٌ يومئذٍ عليها غبرةٌ‏}‏ غبار ‏{‏تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ‏}‏ يعلو الغبرة سواد كالدخان ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه ‏{‏أولئك‏}‏ أهل هذه الحالة ‏{‏هُمُ الْكَفَرَةُ‏}‏ في حقوق الله ‏{‏الفَجَرَةُ‏}‏ في حقوق العباد، ولما جمعوا الفجور إلى الكفر جمع إلى سواد وجوههم الغبرة، والله أعلم‏.‏

سورة التكوير

مكية وهي تسع وعشرون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 29‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ‏(‏1‏)‏ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ‏(‏4‏)‏ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ‏(‏5‏)‏ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ‏(‏7‏)‏ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ‏(‏8‏)‏ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ‏(‏9‏)‏ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ‏(‏11‏)‏ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ‏(‏13‏)‏ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ‏(‏14‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ‏(‏15‏)‏ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ‏(‏16‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ‏(‏17‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ‏(‏18‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ‏(‏19‏)‏ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ‏(‏20‏)‏ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ‏(‏21‏)‏ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ‏(‏23‏)‏ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ‏(‏24‏)‏ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ‏(‏25‏)‏ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ‏(‏26‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏27‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ‏(‏28‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏إذا الشّمس كُوِّرَتْ‏}‏ ذهب بضوئها من كورت العمامة إذا لفقتها أي يلف ضوءها لفاً فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق‏.‏ وارتفاع ‏{‏الشمس‏}‏ بالفاعلية ورافعها فعل مضمر يفسره ‏{‏كورت‏}‏ لأن «إذا» يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط ‏{‏وإذا النّجوم انكدرت‏}‏ تساقطت ‏{‏وإذا الجبال سُيِّرَت‏}‏ عن وجه الأرض وأبعدت أو سيرت في الجو تسيير السحاب ‏{‏وإذا العشارُ‏}‏ جمع عشراء وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة ‏{‏عُطِّلَتْ‏}‏ أهملت عطلها أهلها لاشتغالهم بأنفسهم وكانوا يحبسونها إذا بلغت هذه الحالة لعزتها عندهم ويعطلون ما دونها‏.‏ ‏{‏عطلت‏}‏ بالتخفيف عن اليزيدي ‏{‏وإذا الوُحُوشُ حُشِرَتْ‏}‏ جمعت من كل ناحية‏.‏ قال قتادة‏:‏ يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص فإذا قضى بينها ردت أتراباً فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم كالطاوس ونحوه‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ حشرها موتها‏.‏ يقال‏:‏ إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم حشرتم السنة‏.‏

‏{‏وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ‏}‏ ‏{‏سُجّرَتْ‏}‏ مكي وبصري من سجر التنور إذا ملأه بالحطب أي ملئت، وفجر بعضاً إلى بعض حتى تعود بحراً واحداً‏.‏ وقيل‏:‏ ملئت نيراناً لتعذيب أهل النار ‏{‏وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ‏}‏ قرنت كل نفس بشكلها الصالح مع الصالح في الجنة والطالح مع الطالح في النار، أو قرنت الأرواح بالأجساد، أو بكتبها وأعمالها، أو نفوس المؤمنين بالحور العين ونفوس الكافرين بالشياطين ‏{‏وَإِذَا الموءودة‏}‏ المدفونة حية، وكانت العرب تئد البنات خشية الإملاق وخوف الاسترقاق ‏{‏سُئِلَتْ‏}‏ سؤال تلطف لتقول بلا ذنب قتلت، أو لتدل على قاتلها، أو هو توبيخ لقاتلها بصرف الخطاب عنه كقوله‏:‏ ‏{‏أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ الآية ‏{‏بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ‏}‏ وبالتشديد‏:‏ يزيد‏.‏ وفيه دليل على أن أطفال المشركين لا يعذبون، وعلى أن التعذيب لا يكون بلا ذنب ‏{‏وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ‏}‏ ‏{‏فُتِحَتْ‏}‏ وبالتخفيف‏:‏ مدني وشامي وعاصم وسهل ويعقوب‏.‏ والمراد صحف الأعمال تطوى صحيفة الإنسان عند موته ثم تنشر إذا حوسب، ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها أي فرقت بينهم ‏{‏وَإِذَا السماء كُشِطَتْ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ قلعت كما يقلع السقف ‏{‏وَإِذَا الجحيم سُعِّرَتْ‏}‏ أوقدت إيقاداً شديداً‏.‏ بالتشديد‏:‏ شامي ومدني وعاصم غير حماد ويحيى للمبالغة ‏{‏وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ‏}‏ أدنيت من المتقين كقوله‏:‏ ‏{‏وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 31‏]‏‏.‏ فهذه اثنتا عشرة خصلة ست منها في الدنيا والباقية في الآخرة‏.‏ ولا وقف مطلقاً من أول السورة إلى ‏{‏مَّا أَحْضَرَتْ‏}‏ لأن عامل النصب في ‏{‏إِذَا الشمس‏}‏ وفيما عطف عليه جوابها وهو ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ‏}‏ أي كل نفس ولضرورة انقطاع النفس على كل آية جوز الوقف ‏{‏مَّا أَحْضَرَتْ‏}‏ من خير وشر‏.‏

‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ‏}‏ «لا» زائدة ‏{‏بالخنس‏}‏ بالرواجع بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوله ‏{‏الجوار‏}‏ السيارة ‏{‏الكنس‏}‏ الغيب من كنس الوحش إذا دخل كناسه‏.‏ قيل‏:‏ هي الدراري الخمسة‏:‏ بهرام وزحل وعطارد والزهرة والمشتري، تجري مع الشمس والقمر وترجع حتى تختفي تحت ضوء الشمس، فخنوسها رجوعها وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس‏.‏ وقيل‏:‏ هي جميع الكواكب ‏{‏واليل إِذَا عَسْعَسَ‏}‏ أقبل بظلامه أو أدبر فهو من الأضداد‏.‏

‏{‏والصبح إِذَا تَنَفَّسَ‏}‏ امتد ضوءه‏.‏ ولما كان إقبال الصبح يلازمه الروح والنسيم جعل ذلك نفساً له مجازاً وجواب القسم ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ أي القرآن ‏{‏لَقَوْلُ رَسُولٍ‏}‏ أي جبريل عليه السلام‏.‏ وإنما أضيف القرآن إليه لأنه هو الذي نزل به ‏{‏كَرِيمٍ‏}‏ عند ربه ‏{‏ذِى قُوَّةٍ‏}‏ قدرة على ما يكلف لا يعجز عنه ولا يضعف ‏{‏عِندَ ذِى العرش‏}‏ عند الله ‏{‏مَّكِينٍ‏}‏ ذي جاه ومنزلة‏.‏ ولما كانت على حال المكانة على حسب حال المكين قال ‏{‏عِندَ ذِى العرش‏}‏ ليدل على عظم منزلته ومكانته ‏{‏مطاع ثَمَّ‏}‏ أي في السماوات يطيعه من فيها أو عند ذي العرش أي عند الله يطيعه ملائكته المقربون يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه ‏{‏أَمِينٍ‏}‏ على الوحي ‏{‏وَمَا صاحبكم‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏بِمَجْنُونٍ‏}‏ كما تزعم الكفرة وهو عطف على جواب القسم‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ رَءَاهُ‏}‏ رأى محمد جبريل عليهما السلام على صورته ‏{‏بالأفق المبين‏}‏ بمطلع الشمس ‏{‏وَمَا هُوَ عَلَى الغيب‏}‏ وما محمد على الوحي ‏{‏بِضَنِينٍ‏}‏ ببخيل من الضن وهو البخل أي لا يبخل بالوحي كما يبخل الكهان رغبة في الحلوان بل يعلمه كما علم ولا يكتم شيئاً مما علم‏.‏ ‏{‏بظنين‏}‏ مكي وأبو عمرو وعلي أي بمتهم فينقص شيئاً مما أوحي إليه أو يزيد فيه من الظنة وهي التهمة ‏{‏وَمَا هُوَ‏}‏ وما القرآن ‏{‏بِقَوْلِ شيطان رَّجِيمٍ‏}‏ طريد وهو كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 210‏]‏‏.‏ أي ليس هو بقول بعض المسترقة للسمع وبوحيهم إلى أوليائهم من الكهنة ‏{‏فَأيْنَ تَذْهَبُونَ‏}‏ استضلال لهم كما يقال لتارك الجادة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيات الطريق أي تذهب‏؟‏‏.‏ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدو لهم عنه إلى الباطل‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم‏؟‏ وقال الجنيد‏:‏ فأين تذهبون عنا وإن من شيء إلا عندنا ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين‏}‏ ما القرآن إلا عظة للخلق ‏{‏لِمَن شَاءَ مِنكُمْ‏}‏ بدل من ‏{‏العالمين‏}‏ ‏{‏أَن يَسْتَقِيمَ‏}‏ أي القرآن ذكر لمن شاء الاستقامة يعني أن الذين شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر فكأنه لم يوعظ به غيرهم وإن كانوا موعوظين جميعاً ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ‏}‏ الاستقامة ‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله رَبُّ العالمين‏}‏ مالك الخلق أجمعين‏.‏

سورة الانفطار

مكية وهي تسع عشرة آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 19‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ‏(‏1‏)‏ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ‏(‏4‏)‏ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ‏(‏6‏)‏ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ‏(‏7‏)‏ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ‏(‏8‏)‏ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ‏(‏9‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ‏(‏10‏)‏ كِرَامًا كَاتِبِينَ ‏(‏11‏)‏ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏12‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ‏(‏13‏)‏ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ‏(‏14‏)‏ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏15‏)‏ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ‏(‏16‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏18‏)‏ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏إِذَا السماء انفطرت‏}‏ انشقت ‏{‏وَإِذَا الكواكب انتثرت‏}‏ تساقطت ‏{‏وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ‏}‏ فتح بعضها إلى بعض وصارت البحار بحراً واحداً ‏{‏وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ‏}‏ بحثت وأخرج موتاها وجواب «إذا» ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ‏}‏ أي كل نفس برة وفاجرة ‏{‏مَّا قَدَّمَتْ‏}‏ ما عملت من طاعة ‏{‏وَأَخَّرَتْ‏}‏ وتركت فلم تعمل أو ما قدمت من الصدقات وما أخرت من الميراث ‏{‏ياأيها الإنسان‏}‏ قيل‏:‏ الخطاب لمنكري البعث ‏{‏مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم * الذى خَلَقَكَ‏}‏ أي شيء خدعك حتى ضيعت ما وجب عليك مع كرم ربك حيث أنعم عليك بالخلق والتسوية والتعديل‏؟‏ وعنه عليه السلام حين تلاها غره جهله‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه‏:‏ غره حمقه‏.‏ وعن الحسن‏:‏ غره شيطانه‏.‏ وعن الفضيل‏:‏ لو خوطبت أقول غرتني ستورك المرخاة‏.‏ وعن يحيى بن معاذ أقول‏:‏ غرني برك بي سالفاً وآنفاً ‏{‏فَسَوَّاكَ‏}‏ فجعلك مستوي الخلق سالم الأعضاء ‏{‏فَعَدَلَكَ‏}‏ فصيّرك معتدلاً متناسب الخلق من غير تفاوت فيه فلم يجعل إحدى اليدين أطول، ولا إحدى العينين أوسع، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود، أو جعلك معتدل الخلق تمشي قائماً لا كالبهائم‏.‏ وبالتخفيف‏:‏ كوفي وهو بمعنى المشدد أي عدّل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت فكنت معتدل الخلقة متناسباً ‏{‏فِى أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ‏}‏ «ما» مزيد للتوكيد أي ركبك في أي صورة اقتضتها مشيئته من الصور المختلفة في الحسن والقبح والطول والقصر، ولم تعطف هذه الجملة كما عطف ما قبلها لأنها بيان ل ‏{‏عدلك‏}‏ والجار يتعلق ب ‏{‏رَكَّبَكَ‏}‏ على معنى وضعك في بعض الصور ومكنك فيها، أو بمحذوف أي ركبك حاصلاً في بعض الصور‏.‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع عن الغفلة عن الله تعالى ‏{‏بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين‏}‏ أصلاً وهو الجزاء أو دين الإسلام فلا تصدقون ثواباً ولا عقاباً ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين‏}‏ أعمالكم وأقوالكم من الملائكة ‏{‏كِرَاماً كاتبين‏}‏ يعني أنكم تكذبون بالجزاء والكاتبون يكتبون عليكم أعمالكم لتجازوا بها ‏{‏يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم‏.‏ وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم تعظيم لأمر الجزاء وأنه عند الله من جلائل الأمور، وفيه إنذار وتهويل للمجرمين ولطف للمتقين‏.‏ وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال‏:‏ ما أشدها من آية على الغافلين‏!‏ ‏{‏إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ‏}‏ إن المؤمنين لفي نعيم الجنة ‏{‏وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ‏}‏ وإن الكفار لفي النار ‏{‏يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين‏}‏ يدخلونها يوم الجزاء‏.‏

‏{‏وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ‏}‏ أي لا يخرجون منها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 37‏]‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 167‏]‏‏.‏ ثم عظم شأن يوم القيامة فقال ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين‏}‏ فكرر للتأكيد والتهويل وبينه بقوله ‏{‏يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً‏}‏ أي لا تستطيع دفعاً عنها ولا نفعاً لها بوجه وإنما تملك الشفاعة بالإذن‏.‏ ‏{‏يَوْم‏}‏ بالرفع‏:‏ مكي وبصري أي هو يوم، أو بدل من ‏{‏يَوْم الدين‏}‏ ومن نصب فبإضمار «اذكر» أو بإضمار يدانون لأن الدين يدل عليه ‏{‏والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏ أي لا أمر إلا لله تعالى وحده فهو القاضي فيه دون غيره‏.‏