فصل: تفسير الآيات رقم (98- 112)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 112‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ‏(‏98‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏99‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ‏(‏100‏)‏ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏101‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏102‏)‏ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏103‏)‏ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏104‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏105‏)‏ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏106‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏107‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ‏(‏108‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏109‏)‏ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏110‏)‏ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏111‏)‏ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بئايات الله والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ‏}‏ الواو للحال والمعنى لم تكفرون بآيات الله الدالة على صدق محمد عليه السلام والحال أن الله شهيد على أعمالكم فيجازيكم عليها‏؟‏‏!‏ ‏{‏قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ‏}‏ الصد المنع ‏{‏عَن سَبِيلِ الله مَنْ ءامَنَ‏}‏ عن دين حق علم أنه سبيل الله التي أمر بسلوكها وهو الإسلام، وكانوا يمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم ومحل ‏{‏تَبْغُونَهَا‏}‏ تطلبون لها نصب على الحال ‏{‏عِوَجَا‏}‏ اعوجاجاً وميلاً عن القصد والاستقامة بتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك ‏{‏وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ‏}‏ أنها سبيل الله التي لا يصد عنها إلاّ ضال مضل ‏{‏وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ من الصد عن سبيله وهو وعيد شديد‏.‏ ثم نهى المؤمنين عن اتباع هؤلاء الصادين عن سبيله بقوله ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمانكم كافرين‏}‏ قيل‏:‏ مرّ شاس ابن قيس اليهودي على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون، فغاظه تحدثهم وتألفهم فأمر شاباً من اليهود أن يذكرهم يوم بعاث لعلهم يغضبون، وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس، ففعل فتنازع القوم عند ذلك وقالوا‏:‏ السلاح السلاح‏.‏ فبلغ النبي عليه السلام فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال «أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم» بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وألف بينكم‏؟‏ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً باكين فنزلت الآية ‏{‏وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ‏}‏ معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجب أي من أين يتطرق إليكم الكفر ‏{‏وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ ءايات الله‏}‏ والحال أن آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية ‏{‏وَفِيكُمْ رَسُولُهُ‏}‏ وبين أظهركم رسول الله عليه السلام ينبهكم ويعظكم ويزيح عنكم شبهكم ‏{‏وَمَن يَعْتَصِم بالله‏}‏ ومن يتمسك بدينه أو بكتابه، أو هو حث لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم ‏{‏فَقَدْ هُدِىَ إلى صراط مّسْتَقِيمٍ‏}‏ أرشد إلى الدين الحق، أو ومن يجعل ربه ملجأ ومفزعاً عند الشبه يحفظه عن الشبه‏.‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ واجب تقواه وما يحق منها وهو القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم‏.‏ وعن عبد الله هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى‏.‏ أو هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو بنيه أو أبيه‏.‏ وقيل‏:‏ لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه‏.‏

والتقاة من اتقى كالتؤدة من اتأد ‏{‏وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ولا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت ‏{‏واعتصموا بِحَبْلِ الله‏}‏ تمكسوا بالقرآن لقوله عليه السلام ‏"‏ القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد، من قال به صدق، ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم ‏"‏ ‏{‏جَمِيعاً‏}‏ حال من ضمير المخاطبين‏.‏ وقيل‏:‏ تمكسوا بإجماع الأمة دليله ‏{‏وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏ أي ولا تتفرقوا يعني ولا تفعلوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الاجتماع، أو ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كما اختلفت اليهود والنصارى، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية يحارب بعضكم بعضاً ‏{‏واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً‏}‏ كانوا في الجاهلية بينهم العداوة والحروب فألف بين قلوبهم بالإسلام وقذف في قلوبهم المحبة فتحابوا وصاروا إخواناً ‏{‏وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار‏}‏ وكنتم مشفين على أن تقعوا في نار جهنم لما كنتم عليه من الكفر ‏{‏فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا‏}‏ بالإسلام وهو رد على المعتزلة، فعندهم هم الذين ينقذون أنفسهم لا الله تعالى‏.‏ والضمير للحفرة أو للنار أو للشفا، وأنث لإضافته إلى الحفرة‏.‏ وشفا الحفرة‏:‏ حرفها، ولامها واو فلهذا يثنى شفوان ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك البيان البليغ ‏{‏يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته‏}‏ أي القرآن الذي فيه أمر ونهي ووعد ووعيد ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ لتكونوا على رجاء الهداية أو لتهتدوا به إلى الصواب وما ينال به الثواب‏.‏

‏{‏وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف‏}‏ بما استحسنه الشرع والعقل ‏{‏وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر‏}‏ عما استقبحه الشرع والعقل، أو المعروف ما وافق الكتاب والسنة‏.‏ والمنكر ما خالفهما، أو المعروف الطاعة والمنكر المعاصي‏.‏ والدعاء إلى الخير عام في التكاليف من الأفعال والتروك وما عطف عليه خاص‏.‏ و«من» للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، ولأنه لا يصلح له إلا من علم بالمعروف والمنكر وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته فإنه يبدأ بالسهل فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا‏}‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فقاتلوا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏‏.‏ أو للتبيين أي وكونوا أمة تأمرون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف‏}‏ ‏{‏وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ أي هم الأخصاء بالفلاح الكامل قال عليه السلام ‏"‏ من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه ‏"‏ وعن علي رضي الله عنه‏:‏ أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ‏}‏ بالعداوة ‏{‏واختلفوا‏}‏ في الديانة وهم اليهود والنصارى فإنهم اختلفوا وكفر بعضهم بعضاً ‏{‏مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البينات‏}‏ الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة وهي كلمة الحق ‏{‏وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ونصب ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ‏}‏ أي وجوه المؤمنين بالظرف وهو لهم أو بعظيم أو باذكروا ‏{‏وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏}‏ أي وجوه الكافرين‏.‏

والبياض من النور والسواد من الظلمة ‏{‏فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ‏}‏ فيقال لهم ‏{‏أَكْفَرْتُمْ‏}‏ فحذف الفاء، والقول جميعاً للعلم به والهمزة للتوبيخ والتعجب من حالهم ‏{‏بَعْدَ إيمانكم‏}‏ يوم الميثاق فيكون المراد به جميع الكفار وهو قول أبي وهو الظاهر، أو هم المرتدون أو المنافقون أي أكفرتم باطناً بعد إيمانكم ظاهراً، أو أهل الكتاب، وكفرهم بعد الإيمان تكذيبهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اعترافهم به قبل مجيئه ‏{‏فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ الله‏}‏ ففي نعمته وهي الثواب المخلد‏.‏ ثم استأنف فقال ‏{‏هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ لا يظعنون عنها ولا يموتون‏.‏ ‏{‏تِلْكَ آيات الله‏}‏ الواردة في الوعد والوعيد وغير ذلك ‏{‏نَتْلُوهَا عَلَيْكَ‏}‏ ملتبسة ‏{‏بالحق‏}‏ والعدل من جزاء المحسن والمسيء ‏{‏وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين‏}‏ أي لا يشاء أن يظلم هو عباده فيأخذ أحداً بغير جرم، أو يزيد في عقاب مجرم، أو ينقص من ثواب محسن ‏{‏وَللَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض وإلى الله تُرْجَعُ الأمور‏}‏ فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته‏.‏ «ترجع»‏.‏ شامي وحمزة وعلي‏.‏ كان عبارة عن وجود الشيء في زمان ماضٍ على سبيل الإبهام، ولا دليل فيه على عدم سابق ولا على انقطاع طارئ ومنه قوله‏.‏

‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ وجدتم خير أمة أو كنتم في علم الله أو في اللوح خير أمة، أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة موصوفين به ‏{‏أُخْرِجَتْ‏}‏ أظهرت ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ اللام يتعلق ب «أخرجت» ‏{‏تَأْمُرُونَ‏}‏ كلام مستأنف بين به كونهم خير أمة كما تقول «زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم» بينت بالإطعام والإلباس وجه الكرم فيه ‏{‏بالمعروف‏}‏ بالإيمان وطاعة الرسول ‏{‏وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر‏}‏ عن الكفر وكل محظور ‏{‏وَتُؤْمِنُونَ بالله‏}‏ وتدومون على الإيمان به أو لأن الواو لا تقتضي الترتيب ‏{‏وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الكتاب‏}‏ بمحمد عليه السلام ‏{‏لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ لكان الإيمان خيراً لهم مما هم فيه لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العوام، ولو آمنوا لكان لهم من الرياسة والأتباع وحظوظ الدنيا ما هو خير مما آثروا دين الباطل لأجله، مع الفوز بما وعدوا على الإيمان به من إيتاء الأجر مرتين ‏{‏مّنْهُمُ المؤمنون‏}‏ كعبد الله بن سلام وأصحابه ‏{‏وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون‏}‏ المتمردون في الكفر‏.‏

‏{‏لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى‏}‏ إلا ضرراً مقتصراً على أذى بقول من طعن في الدين أو تهديد أو نحو ذلك ‏{‏وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الأدبار‏}‏ منهزمين ولا يضروكم بقتلٍ أو أسر ‏{‏ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ‏}‏ ثم لا يكون لهم نصر من أحد ولا يمنعون منكم، وفيه تثبيت لمن أسلم منهم لأنهم كانوا يؤذونهم بتوبيخهم وتهديدهم وهو ابتداء إخبار معطوف على جملة الشرط والجزاء وليس بمعطوف على «يولوكم» إذ لو كان معطوفاً عليه لقيل ثم لا ينصروا، وإنما استؤنف ليؤذن أن الله لا ينصرهم قاتلوا أم لم يقاتلوا، وتقدير الكلام‏:‏ أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ثم أخبركم أنهم لا ينصرون‏.‏

و«ثم» للتراخي في المرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار‏.‏

‏{‏ضُرِبَتْ‏}‏ ألزمت ‏{‏عَلَيْهِمُ الذلة‏}‏ أي على اليهود ‏{‏أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ‏}‏ وجدوا ‏{‏إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله‏}‏ في محل النصب على الحال، والباء متعلق بمحذوف تقديره إلا معتصمين أو متمسكين بحبل من الله ‏{‏وَحَبْلٍ مّنَ الناس‏}‏ والحبل العهد والذمة، والمعنى ضربت عليهم الذلة في كل حال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس يعني ذمة الله وذمة المسلمين أي لا عزّ لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية ‏{‏وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله‏}‏ استوجبوه ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة‏}‏ الفقر عقوبة لهم على قولهم ‏{‏إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 181‏]‏ أو خوف الفقر مع قيام اليسار ‏{‏ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بئايات الله وَيَقْتُلُونَ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ‏}‏ ذلك إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بغضب الله أي ذلك كائن بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق‏.‏ ثم قال ‏{‏ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ‏}‏ أي ذلك الكفر وذلك القتل كائن بسبب عصيانهم لله واعتدائهم لحدوده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 122‏]‏

‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ‏(‏113‏)‏ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏114‏)‏ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏115‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏116‏)‏ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏117‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏118‏)‏ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏119‏)‏ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏120‏)‏ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏121‏)‏ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

‏{‏لَيْسُواْ سَوَاءً‏}‏ ليس أهل الكتاب مستوين ‏{‏مِّنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ كلام مستأنف لبيان قوله «ليسوا سواء» كما وقع قوله ‏{‏تَأْمُرُونَ بالمعروف‏}‏ بياناً لقوله «كنتم خير أمة» ‏{‏أمّةٌ قائمةٌ‏}‏ جماعة مستقيمة عادلة من قولك «أقمت العود فقام» أي استقام وهم الذين أسلموا منهم ‏{‏يَتْلُونَ ءايات الله‏}‏ القرآن ‏{‏ءَانَآءَ اليل‏}‏ ساعاته واحدها «إنى» كمعي أو «إنو» كقنو أو «إنى» ك «نحى»‏.‏

‏{‏وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏ يصلون‏.‏ قيل‏:‏ يريد صلاة العشاء لأن أهل الكتاب لا يصلونها‏.‏ وقيل‏:‏ عبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود ‏{‏يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف‏}‏ بالإيمان وسائر أبواب البر ‏{‏وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر‏}‏ عن الكفر ومنهيات الشرع ‏{‏ويسارعون فِى الخيرات‏}‏ يبادرون إليها خشية الفوت‏.‏ وقوله‏:‏ «يتلون» و«يؤمنون» في محل الرفع صفتان لأمة أي أمة قائمة تالون مؤمنون‏.‏ وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين ومن الإيمان بالله، لأن إيمانهم به كلا إيمان لإشراكهم به عزيراً وكفرهم ببعض الكتب والرسل ومن الإيمان باليوم الآخر لأنهم يصفونه بخلاف صفته، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم كانوا مداهنين، ومن المسارعة في الخيرات لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها، والمسارعة في الخير فرط الرغبة فيه لأن من رغب في الأمر سارع بالقيام به ‏{‏وأولئك‏}‏ الموصوفون بما وصفوا به ‏{‏مّنَ الصالحين‏}‏ من المسلمين أو من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم ‏{‏وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ‏}‏ بالياء فيهما كوفي غير أبي بكر وأبو عمرو‏.‏ مخير غيرهم بالتاء‏.‏ وعدي «يكفروه» إلى مفعولين وإن كان شكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد تقول شكر النعمة وكفرها لتضمنه معنى الحرمان كأنه قيل‏:‏ فلن تحرموه أي فلن تحرموا جزاءه ‏{‏والله عَلِيمٌ بالمتقين‏}‏ بشارة للمتقين بجزيل الثواب‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مِّنَ الله شَيْئًا‏}‏ أي من عذاب الله ‏{‏وأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون *مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هذه الحياة الدنيا‏}‏ في المفاخر والمكارم وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس أو ما يتقربون به إلى الله مع كفرهم ‏{‏كَمَثَلِ رِيحٍ‏}‏ كمثل مهلك ريح وهو الحرث أو مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح ‏{‏فِيهَا صِرٌّ‏}‏ برد شديد عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو مبتدأ وخبر في موضع جر صفة ل «ريح» مثل ‏{‏أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ بالكفر ‏{‏فَأَهْلَكَتْهُ‏}‏ عقوبة على كفرهم ‏{‏وَمَا ظَلَمَهُمُ الله‏}‏ بإهلاك حرثهم ‏{‏ولكن أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ بارتكاب ما استحقوا به العقوبة، أو يكون الضمير للمنفقين أي وما ظلمهم الله بأن لم يقبل نفقاتهم ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها لائقة للقبول‏.‏

ونزل نهياً للمؤمنين عن مصافات المنافقين ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً‏}‏ بطانة الرجل ووليجته خصيصه وصفيه شبه ببطانة الثوب كما يقال «فلان شعاري» وفي الحديث ‏"‏ الأنصار شعار والناس دثار ‏"‏ ‏{‏مّن دُونِكُمْ‏}‏ من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون وهو صفة لبطانة أي بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم ‏{‏لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً‏}‏ في موضع النصب صفة لبطانة يعني لا يقصرون في فساد دينكم يقال «ألا في الأمر يألو» إذا قصر فيه، والخبال الفساد‏.‏ وانتصب «خبالاً» على التمييز أوعلى حذف في أي في خبالكم ‏{‏وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ‏}‏ أي عنتكم ف «ما» مصدرية‏.‏ والعنت شدة الضرر والمشقة أي تمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر وأبلغه، وهو مستأنف على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة كقوله ‏{‏قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم‏}‏ لأنهم لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضه للمسلمين ‏{‏وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ‏}‏ مع البغض لكم ‏{‏أَكْبَرُ‏}‏ مما بدا ‏{‏قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات‏}‏ الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه ‏{‏إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ما بين لكم‏.‏

‏{‏هَاأَنتُمْ أُوْلاءِ‏}‏ «ها» للتنبيه و«أنتم» مبتدأ و«أولاء» خبره أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافي أهل الكتاب ‏{‏تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ‏}‏ بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء، أو أولاء موصول صلته «تحبونهم»‏.‏ والواو في ‏{‏وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ‏}‏ للحال وانتصابها من «لا يحبونكم» أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله وهم مع ذلك يبغضونكم، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم‏؟‏ وفيه توبيخ شديد لأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم‏.‏ وقيل‏:‏ الكتاب للجنس‏.‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا‏}‏ أظهروا كلمة التوحيد ‏{‏وَإِذَا خَلَوْاْ‏}‏ فارقوكم أو خلا بعضهم ببعض ‏{‏عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ‏}‏ يوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان والإبهام ‏{‏قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ‏}‏ دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به، والمراد بزيادة الغيظ زيادة ما يغيظهم من قوة الإسلام وعز أهله ومالهم في ذلك من الذل والخزي ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ فهو يعلم ما في صدور المنافقين من الحنق والبغضاء وما يكون منهم في حال خلو بعضهم ببعض، وهو داخل في جملة المقول أي أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظاً إذا خلوا وقل لهم‏:‏ إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم وهو مضمرات الصدور، فلا تظنوا أن شيئاً من أسراركم يخفى عليه أو خارج عن المقول، أي قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من إطلاعي إياك على ما يسرون فإني أعلم بما هو أخفى من ذلك وهو ما أضمروه في صدورهم ‏{‏إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ‏}‏ رخاء وخصب وغنيمة ونصرة ‏{‏تَسُؤْهُمْ‏}‏ تحزنهم إصابتها ‏{‏وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ‏}‏ أضداد ما ذكرنا‏.‏

والمس مستعار من الإصابة فكأن المعنى واحد، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 50‏]‏ ‏{‏يَفْرَحُواْ بِهَا‏}‏ بإصابتها ‏{‏وَإِن تَصْبِرُواْ‏}‏ على عداوتهم ‏{‏وَتَتَّقُواْ‏}‏ ما نهيتم عنه من موالاتهم، أو وإن تصبروا على تكاليف الدين ومشاقه وتتقوا الله في اجتنابكم محارمه ‏{‏لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً‏}‏ مكرهم وكنتم في حفظ الله، وهذا تعليم من الله وإرشاد إلى أن يستعان على كيد العدو بالصبر والتقوى‏.‏ وقال الحكماء‏:‏ إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلاً في نفسك‏.‏ ‏{‏لاَ يَضُرُّكُمْ‏}‏‏:‏ مكي وبصري ونافع من ضاره يضيره بمعنى ضره وهو واضح‏.‏ والمشكل قراءة غيرهم لأنه جواب الشرط وجواب الشرط مجزوم فكان ينبغي أن يكون بفتح الراء كقراءة المفضل عن عاصم، إلا أن ضمة الراء لإتباع ضمة الضاد نحو «مد يا هذا» ‏{‏إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ بالتاء‏:‏ سهل أي من الصبر والتقوى وغيرهما ‏{‏مُحِيطٌ‏}‏ ففاعل بكم ما أنتم أهله‏.‏ وبالياء‏:‏ غيره أي أنه عالم بما يعملون في عداوتكم فمعاقبهم عليه‏.‏

‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ‏}‏ واذكر يا محمد إذ خرجت غدوة من أهلك بالمدينة، والمراد غدوة من حجرة عائشة رضي الله عنها إلى أحد ‏{‏تُبَوّئ المؤمنين‏}‏ تنزلهم وهو حال ‏{‏مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏ مواطن ومواقف من الميمنة والميسرة والقلب والجناحين والساقة‏.‏ و«للقتال» يتعلق ب «تبوئ» ‏{‏والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم‏.‏ رُوي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا عبد الله بن أبيّ فاستشاره فقال‏:‏ أقم بالمدينة فما خرجنا على عدو قط إلا أصاب منا، وما دخلوا علينا إلا أصبنا منهم‏.‏ فقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ إني رأيت في منامي بقراً مذبحة حولي فأولتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلمة فأولتها هزيمة، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة، فلم يزل به قوم ينشطون في الشهادة حتى لبس لأمته ثم ندموا ‏"‏ فقالوا‏:‏ الأمر إليك يا رسول الله فقال عليه السلام ‏"‏ لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل ‏"‏ فخرج بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال ‏{‏إِذْ هَمَّتْ‏}‏ بدل من «إذ غدوت» أو عمل فيه معنى «عليم» ‏{‏طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ‏}‏ خيان من الأنصار‏:‏ بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس‏.‏ وكان عليه السلام خرج إلى أحد في ألف، والمشركون في ثلاثة آلاف، ووعدهم الفتح إن صبروا فانخذل عبد الله بن أبيّ بثلث الناس وقال‏:‏ علام نقتل أنفسنا وأولادنا‏؟‏ فهم الحيان باتباعه فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله ‏{‏أَن تَفْشَلاَ‏}‏ أي بأن تفشلا أي بأن تجبنا وتضعفا والفشل الجبن والخور ‏{‏والله وَلِيُّهُمَا‏}‏ محبهما أو ناصرهما أو متولي أمرهما فما لهما تفشلان ولا تتوكلان على الله ‏{‏وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ أمرهم بأن لا يتوكلوا إلا عليه ولا يفوضوا أمورهم إلا إليه‏.‏

قال جابر‏:‏ والله ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا به وقد أخبرنا الله بأنه ولينا‏.‏ ثم ذكرهم ما يوجب عليهم التوكل مما يسر لهم من الفتح يوم بدر وهم في حال قلة وذلة فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 147‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ‏(‏124‏)‏ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ‏(‏125‏)‏ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏126‏)‏ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ‏(‏127‏)‏ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏128‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏129‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏130‏)‏ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏131‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏132‏)‏ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏133‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏134‏)‏ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏135‏)‏ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏136‏)‏ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏137‏)‏ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏138‏)‏ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏140‏)‏ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ‏(‏141‏)‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ‏(‏142‏)‏ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏143‏)‏ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ‏(‏145‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ‏(‏146‏)‏ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ‏}‏ وهو اسم ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدراً فسمي به، أو ذكر بدراً بعد أحد للجمع بين الصبر والشكر‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ‏}‏ لقلة العدد فإنهم كانوا ثلثمائة وبضعة عشر، وكان عدوهم زهاء ألف مقاتل والعدد، فإنهم خرجوا على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد وما كان معهم إلا فرس واحد، ومع عدوهم مائة فرس والشكة والشوكة‏.‏ وجاء بجمع القلة وهو «أذلة» ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلاً «فاتّقوا اللّه» في الثبات مع رسوله ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ بتقواكم ما أنعم الله به عليكم من النصر ‏{‏إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ظرف ل «نصركم» على أن يقول لهم ذلك يوم بدر أي نصركم الله وقت مقالتكم هذه، أو بدل ثانٍ من «إذ غدوت» على أن تقول لهم ذلك يوم أحد ‏{‏أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ‏}‏ «منزّلين» شامي‏.‏ «مُنزلِين» أبو حيوة أي للنصرة‏.‏ ومعنى «ألن يكفيكم» إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة، وجيء ب «لن» الذي هو لتأكيد النفي للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكته كالآيسين من النصر ‏{‏بلى‏}‏ إيجاب لما بعد«لن» أي يكفيكم الإمداد بهم فأوجب الكفاية‏.‏ ثم قال ‏{‏إِن تَصْبِرُواْ‏}‏ على القتال ‏{‏وَتَتَّقُواْ‏}‏ خلاف الرسول عليه السلام ‏{‏وَيَأْتُوكُمْ‏}‏ يعني المشركين ‏{‏مّن فَوْرِهِمْ هذا‏}‏ هو من فارت القدر إذا غلت فاستعير للسرعة ثم سميت بها الحالة التي لا ريث بها ولا تعريج على شيء من صاحبها فقيل «خرج من فوره» كما تقول «من ساعته لم يلبث» ومنه قول الكرخي «الأمر المطلق على الفور لا على التراخي» والمعنى إن يأتوكم من ساعتهم هذه ‏{‏يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالافٍ مِّنَ الملائكة‏}‏ في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم يعني أن الله تعالى يعجل نصرتكم وييسر فتحكم إن صبرتم واتقيتم ‏{‏مُسَوِّمِينَ‏}‏ بكسر الواو‏:‏ مكي وأبو عمر وعاصم وسهل أي معلمين أنفسهم أو خيلهم بعلامة يعون بها في الحرب‏.‏ والسومة العلامة‏.‏ عن الضحاك‏:‏ معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها‏.‏ غيرهم‏:‏ بفتح الواو أي معلمين‏.‏ قال الكلبي‏:‏ معلين بعمائم صفر مرخاة على اكتافهم، وكانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء فنزلت الملائكة كذلك‏.‏ قال قتادة‏:‏ نزلت ألفاً فصاروا ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف ‏{‏وَمَا جَعَلَهُ الله‏}‏ الضمير يرجع إلى الإمداد الذي دل عليه «أن يمدكم» ‏{‏إِلاَّ بشرى لَكُمْ‏}‏ أي وما جعل الله إمدادكم بالملائكة إلا بشارة لكم بأنكم تنصرون ‏{‏وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ‏}‏ كما كانت السكينة لبني إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم ‏{‏وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله‏}‏ لا من عند المقاتلة ولا من عند الملائكة ولكن ذلك مما يقوي به الله رجاء النصرة والطمع في الرحمة ‏{‏العزيز‏}‏ الذي لا يغالب في أحكامه ‏{‏الحكيم‏}‏ الذي يعطي النصر لأوليائه ويبتليهم بجهاد أعدائه‏.‏

واللام في ‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ ليهلك طائفة منهم بالقتل والأسر وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش متعلقه بقوله‏:‏ «ولقد نصركم الله»‏.‏ أو بقوله‏:‏ «وما النصر إلا من عند الله»‏.‏ أو ب «يمددكم ربكم» ‏{‏أَوْ يَكْبِتَهُمْ‏}‏ أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة، وحقيقة الكبت شدَّة وهن تقع في القلب فيصرع في الوجه لأجله ‏{‏فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ‏}‏ فيرجعوا غير ظافرين بمبتغاهم ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئ‏}‏ اسم ليس «شيء» والخبر «لك» و«من الأمر» حال من «شيء» لأنها صفة مقدمة ‏{‏أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ عطف على «ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم» و«وليس لك من الأمر شيء» اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، والمعنى أن الله تعالى مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا ‏{‏أَوْ يُعَذِّبَهُمْ‏}‏ إن أصروا على الكفر وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم‏.‏ وعن الفراء «أو» بمعنى «حتى»‏.‏ وعن ابن عيسى بمعنى إلا أن كقولك لألزمنك أو تعطيني حقي أي ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم‏.‏ وقيل‏:‏ أراد أن يدعو عليهم فنهاه الله تعالى لعلمه أن فيهم من يؤمن ‏{‏فَإِنَّهُمْ ظالمون‏}‏ مستحقون للتعذيب‏.‏

‏{‏وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ أي الأمر له لا لك لأن ما في السموات وما في الأرض ملكه ‏{‏يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ‏}‏ للمؤمنين ‏{‏وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ‏}‏ الكافرين ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة‏}‏ «مضعفَّة» مكي وشامي‏.‏ هذا نهي عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله يقول‏:‏ إما أن تقضي حقي أو تربي وتزيد في الأجل ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في أكله ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين‏}‏ كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول‏:‏ هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه، وقد أمد ذلك بما أتبعه من تعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله بقوله ‏{‏وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ وفيه رد على المرجئة في قولهم «لا يضر مع الإيمان ذنب ولا يعذب بالنار أصلاً» وعندنا غير الكافرين من العصاة قد يدخلها ولكن عاقبة أمره الجنة‏.‏ وفي ذكره تعالى «لعل» و«عسى» في نحو هذه المواضع وإن قال أهل التفسير إن «لعل» و«عسى» من الله للتحقيق، ما لا يخفى على العارف من دقة مسلك التقوى وصعوبة إصابة رضا الله تعالى وعزة التوصل إلى رحمته وثوابه‏.‏

‏{‏وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ‏}‏ «سَارَعوا»‏:‏ مدني وشامي‏.‏ فمن أثبت الواو عطفها على ما قبلها، ومن حذفها استأنفها‏.‏ ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة الإقبال على ما يوصل إليهما‏.‏ ثم قيل‏:‏ هي الصلوات الخمس أو التكبيرة الأولى، أو الطاعة، أو الإخلاص، أو التوبة، أو الجمعة والجماعات‏.‏ ‏{‏عَرْضُهَا السموات والأرض‏}‏ أي عرضها عرض السماوات والأرض كقوله‏:‏ ‏{‏عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 21‏]‏‏.‏ والمراد وصفها بالسعة والبسط فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه‏.‏ وخص العرض لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض‏.‏ وما روي أن الجنة في السماء السابعة أو في السماء الرابعة فمعناه انها في جهتها لا أنها فيها أو في بعضها كما يقال في الدار بستان وإن كان يزيد عليها لأن المراد أن بابه إليها ‏{‏أُعِدَّتْ‏}‏ في موضع جر صفة ل «جنة» أيضاً أي جنة واسعة معدة ‏{‏لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ودلت الآيتان على أن الجنة والنار مخلوقتان‏.‏ ثم المتقي من يتقي الشرك كما قال ‏{‏وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 21‏]‏ أو من يتقي المعاصي فإن كان المراد الثاني فهي لهم بغير عقوبة، وإن كان الأول فهي لهم أيضاً في العاقبة، ويوقف عليه إن جعل ‏{‏الذين يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ والضراء‏}‏ في حال اليسر والعسر مبتدأ وعطف عليه «والذين إذا فعلوا فاحشة» وجعل الخبر «أولئك»‏.‏ وإن جعل وصفاً للمتقين وعطف عليه «والذين إذا فعلوا فاحشة» أي أعدت للمتقين والتائبين فلا وقف‏.‏ فإن قلت‏:‏ الآية تدل على أن الجنة معدة للمتقين والتائبين دون المصرين‏.‏ قلت‏:‏ جاز أن تكون معدة لهما ثم يدخلها بفضل الله وعفوه غيرهما كما يقال «أعدت هذه المائدة للأمير» ثم قد يأكلها أتباعه‏.‏ ألا ترى أنه قال ‏{‏واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 131‏]‏ ثم قد يدخلها غير الكافرين بالاتفاق، وافتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس وأدله على الإخلاص، ولأنه كان في ذلك الوقت أعظم الأعمال للحاجة إليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين‏.‏ وقيل‏:‏ المراد الإنفاق في جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرة ‏{‏والكاظمين الغيظ‏}‏ والممسكين الغيظ عن الإمضاء يقال كظم القربة إذا امتلأها وشد فاها، ومنه كظم الغيظ وهو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثراً‏.‏ والغيظ‏:‏ توقد حرارة القلب من الغضب، وعن النبي عليه السلام ‏"‏ من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيماناً ‏"‏

‏{‏والعافين عَنِ الناس‏}‏ أي إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه وروي ‏"‏ ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا ‏"‏ وعن ابن عيينة أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه ‏{‏والله يُحِبُّ المحسنين‏}‏ اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون، أو للعهد فيكون إشارة إلى هؤلاء‏.‏ عن الثوري‏:‏ الإحسان أن تحسن إلى المسيء فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة‏.‏

‏{‏والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة‏}‏ فعلة متزايدة القبح، ويجوز أن يكون و«والذين» مبتدأ خبره «أولئك» ‏{‏أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ قيل‏:‏ الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة، أو الفاحشة الزنا وظلم النفس القبلة واللمسة ونحوهما ‏{‏ذَكَرُواْ الله‏}‏ بلسانهم أو بقلوبهم ليبعثهم على التوبة ‏{‏فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ‏}‏ فتابوا عنها لقبحهما نادمين‏.‏ قيل‏:‏ بكى إبليس حين نزلت هذه الآية ‏{‏وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله‏}‏ «من» مبتدأ و«يغفر» خبره، وفيه ضمير يعود إلى «من» و«إلا الله» بدل من الضمير في «يغفر» والتقدير‏:‏ ولا أحد يغفر الذنوب إلا الله، وهذه جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، وفيه تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة، وبعث عليها، وردع عن اليأس والقنوط، وبيان لسعة رحمته وقرب مغفرته من التائب، وإشعار بأن الذنوب وإن جلّت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم‏.‏ ‏{‏وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ‏}‏ ولم يقيموا على قبيح فعلهم والإصرار الإقامة قال عليه السلام ‏"‏ ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة ‏"‏ وروي ‏"‏ لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ‏"‏ ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ حال من الضمير في «ولم يصروا» أي وهم يعلمون أنهم أساؤوا، أو وهم يعلمون أنه لا يغفر ذنوبهم إلا الله ‏{‏أولئك‏}‏ الموصوفون ‏{‏جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ‏}‏ بتوبته ‏{‏وجنات‏}‏ برحمته ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين‏}‏ المخصوص بالمدح محذوف أي ونعم أجر العاملين ذلك يعني المغفرة والجنات، نزلت في تمار قال لامرأة تريد التمر‏:‏ في بيتي تمر أجود، فأدخلها بيته وضمها إلى نفسه وقبلها فندم‏.‏ أو في أنصاري استخلفه ثقفي وقد آخى بينهما النبي عليه السلام في غيبة غزوة فأتى أهله لكفاية حاجة فرآها فقبلها فندم فساح في الأرض صارخاً فاستعتبه الله تعالى‏.‏ ‏{‏قَدْ خَلَتْ‏}‏ مضت ‏{‏مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ‏}‏ يريد ما سنه الله تعالى في الأمم المكذبين من وقائعه ‏{‏فَسِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين‏}‏ فتعتبروا بها هذا أي القرآن أو ما تقدم ذكره ‏{‏بَيَانٌ لّلنَّاسِ وَهُدًى‏}‏ أي إرشاد ‏{‏وَمَوْعِظَةٌ‏}‏ ترغيب وترهيب ‏{‏لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ عن الشرك ‏{‏وَلاَ تَهِنُواْ‏}‏ ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم من الهزيمة ‏{‏وَلاَ تَحْزَنُواْ‏}‏ على ما فاتكم من الغنيمة أو على من قتل منكم أو جرح، وهو تسلية من الله لرسوله وللمؤمنين عما أصابهم يوم أحد وتقوية لقلوبهم ‏{‏وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ‏}‏ وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد، أو وأنتم الأعلون بالنصر والظفر في العاقبة وهي بشارة لهم بالعلو والغلبة وإن جندنا لهم الغالبون، أو وأنتم الأعلون شأناً لأن قتالكم لله ولإعلاء كلمته وقتاً لهم للشيطان ولإعلاء كلمة الكفر، أو لأن قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ متعلق بالنهي أي ولا تهنوا إن صح إيمانكم يعني أن صحة الإيمان توجب قوة القلب والثقة بوعد الله وقلة المبالاة بأعدائه، أو ب «الأعلون» أي إن كنتم مصدقين بما يعدكم الله به ويبشركم به من الغلبة‏.‏

‏{‏إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ‏}‏ بضم القاف حيث كان‏:‏ كوفي غير حفص‏.‏ ويفتح القاف‏:‏ غيرهم‏.‏ وهما لغتان كالضعف والضعف‏.‏ وقيل‏:‏ بالفتح الجراحة وبالضم ألمها ‏{‏فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ‏}‏ أي إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يمنعهم عن معاودتكم إلى القتال فأنتم أولى أن لا تضعفوا ‏{‏وَتِلْكَ‏}‏ مبتدأ ‏{‏الأيام‏}‏ صفته والخبر ‏{‏نُدَاوِلُهَا‏}‏ نصرفها ‏{‏بَيْنَ الناس‏}‏ أي نصرف ما فيها من النعم والنقم نعطي لهؤلاء تارة وطوراً لهؤلاء كبيت الكتاب‏:‏

فيوماً علينا ويوماً لنا *** ويوماً نساء ويوماً نسر

‏{‏وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءَامَنُواْ‏}‏ أي نداولها لضروب من التدبير وليعلم الله المؤمنين مميزين بالصبر والإيمان من غيرهم كما علمهم قبل الوجود ‏{‏وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ‏}‏ وليكرم ناساً منكم بالشهادة يريد المستشهدين يوم أحد، أو ليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة من قوله ‏{‏لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ الظالمين‏}‏ اعتراض بين بعض التعليل وبعض، ومعناه والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان المجاهدين في سبيله وهم المنافقون والكافرون ‏{‏وَلِيُمَحِّصَ الله الذين ءَامَنُواْ‏}‏ التمحيص‏:‏ التطهير والتصفية ‏{‏وَيَمْحَقَ الكافرين‏}‏ ويهلكهم يعني إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والاستشهاد والتمحيص، وإن كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم‏}‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة‏}‏ «أم» منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي لا تحسبوا ‏{‏وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ‏}‏ أي ولما تجاهدون لأن العلم متعلق بالمعلوم فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقة لأنه منتف بانتفائه، تقول‏:‏ ما علم الله في فلان خيراً أي ما فيه خير حتى يعلمه‏.‏ و«لما» بمعنى «لم» إلا أن فيه ضرباً من التوقع فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل ‏{‏وَيَعْلَمَ الصابرين‏}‏ نصب بإضمار «أن» والواو بمعنى الجمع نحو «لا تأكل السمك وتشرب اللبن»، أو جزم للعطف على «يعلم الله»، وإنما حركت الميم لالتقاء الساكنين واختيرت الفتحة لفتحة ما قبلها‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ‏}‏ خوطب به الذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنون أن يحضروا مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوا كرامة الشهادة، وهم الذين ألحوا على رسول الله في الخروج إلى المشركين وكان رأيه في الإقامة بالمدينة، يعني وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته ‏{‏فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ‏}‏ أي رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل إخوانكم بين أيديكم وشارفتم أن تقتلوا، وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاحهم عليه، ثم انهزامهم عنه‏.‏ وإنما تمنوا الشهادة لينالوا كرامة الشهداء من غير قصد إلى ما يتضمنه من غلبة الكفار كمن شرب الدواء من طبيب نصراني فإن قصده حصول الشفاء ولا يخطر بباله أن فيه جر منفعة إلى عدو الله وتنفيقاً لصناعته‏.‏ لما رمى ابن قميئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته أقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية حتى قتله ابن قميئة وهو يرى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ قتلت محمداً وخرج صارخ قيل هو الشيطان ألا إن محمداً قد قتل‏.‏ ففشا في الناس خبر قتله فانكفئوا وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو‏:‏ «إليّ عباد الله» حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هربهم فقالوا‏:‏ يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر قتلك فولينا مدبرين فنزل ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ‏}‏ مضت ‏{‏مِن قَبْلِهِ الرسل‏}‏ فسيخلو كما خلوا، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه، لأن المقصود من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة لا وجوده بين أظهر قومه ‏{‏أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم‏}‏ الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة التي قبلها على معنى التسبيب، والهمزة لأنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل مع علمهم أن خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسك بدين محمد عليه السلام لا للانقلاب عنه، والانقلاب على العقبين مجاز عن الارتداد أو عن الانهزام ‏{‏وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً‏}‏ وإنما ضر نفسه ‏{‏وَسَيَجْزِى الله الشاكرين‏}‏ الذين لم ينقلبوا، وسماهم شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ‏}‏ وما جاز ‏{‏لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ أي بعلمه أو بأن يأذن ملك الموت في قبض روحه، والمعنى أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله، وفيه تحريض على الجهاد، وتشجيع على لقاء العدو، وإعلام بأن الحذر لا ينفع، وأن أحداً لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خاض المهالك واقتحم المعارك ‏{‏كتابا‏}‏ مصدر مؤكد لأن المعنى كتب الموت كتاباً ‏{‏مُّؤَجَّلاً‏}‏ مؤقتاً له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر ‏{‏وَمَن يُرِدْ‏}‏ بقتاله ‏{‏ثَوَابَ الدنيا‏}‏ أي الغنيمة وهو تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد ‏{‏نُؤْتِهِ مِنْهَا‏}‏ من ثوابها ‏{‏وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة‏}‏ أي إعلاء كلمة الله والدرجة في الآخر ‏{‏نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشاكرين‏}‏ وسنجزي الجزاء المبهم الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد‏.‏

‏{‏وَكَأَيّن‏}‏ أصله أي دخل عليه كاف التشبيه وصارا في معنى «كم» التي للتكثير‏.‏ وكائن بوزن كاع حيث كان‏:‏ مكي ‏{‏مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ‏}‏ «قتل»‏:‏ مكي وبصري ونافع‏.‏ ‏{‏مَعَهُ‏}‏ حال من الضمير في قتل أي قتل كائناً معه ‏{‏رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ‏}‏ والربيون الربانيون‏.‏ وعن الحسن بضم الراء وعن البعض بفتحها، فالفتح على القياس لأنه منسوب إلى الرب، والضم والكسر من تغييرات النسب ‏{‏فَمَا وَهَنُواْ‏}‏ فما فتروا عند قتل نبيهم ‏{‏لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ‏}‏ عن الجهاد بعده ‏{‏وَمَا استكانوا‏}‏ وما خضعوا لعدوهم، وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن عند الإرجاف بقتل رسول الله عليه السلام واستكانتهم لهم حيث أرادوا أن يعتضدوا بابن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان ‏{‏والله يُحِبُّ الصابرين‏}‏ على جهاد الكافرين‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏ أي وما كان قولهم إلا هذا القول وهو إضافة الذنوب إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين هضماً لها ‏{‏وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا‏}‏ تجاوزنا حد العبودية ‏{‏وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا‏}‏ في القتال ‏{‏وانصرنا عَلَى القوم الكافرين‏}‏ بالغلبة‏.‏ وقدم الدعاء بالاستغفار من الذنوب على طلب تثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصرة على الأعداء، لأنه أقرب إلى الإجابة لما فيه من الخضوع والاستكانة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148- 156‏]‏

‏{‏فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏148‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ‏(‏150‏)‏ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ‏(‏151‏)‏ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏152‏)‏ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏153‏)‏ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏154‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏155‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏156‏)‏‏}‏

‏{‏فئاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا‏}‏ أي النصرة والظفر والغنيمة ‏{‏وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة‏}‏ المغفرة والجنة‏.‏ وخص بالحسن دلالة على فضله وتقدمه وأنه هو المعتد به عنده ‏{‏والله يُحِبُّ المحسنين‏}‏ أي هم محسنون والله يحبهم‏.‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم‏}‏ يرجعوكم إلى الشرك ‏{‏فَتَنقَلِبُواْ خاسرين‏}‏ قيل‏:‏ هو عام في جميع الكفار وعلى المؤمنين أن يجانبوهم ولا يطيعوهم في شيء حتى لا يستجروهم إلى موافقتهم‏.‏ وعن السدي‏:‏ إن تستكينوا لأبي سفيان وأصحابه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم‏.‏ وقال علي رضي الله عنه‏:‏ نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم ‏{‏بَلِ الله مولاكم‏}‏ ناصركم فاستغنوا عن نصرة غيره ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الناصرين * سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب‏}‏ «الرعب» شامي وعلي وهما لغتان‏.‏ قيل‏:‏ قذف الله في قلوب المشركين الخوف يوم أحد فانهزموا إلى مكة من غير سبب ولهم القوة والغلبة ‏{‏بِمَا أَشْرَكُواْ بالله‏}‏ بسبب إشراكهم أي كان السبب في إلقاء الله الرعب في قلوبهم إشراكهم به ‏{‏مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا‏}‏ آلهة لم ينزل الله بإشراكها حجة، ولم يرد أن هناك حجة إلا أنها لم تنزل عليهم لأن الشرك لا يستقيم أن تقوم عليه حجة، وإنما المراد نفي الحجة ونزولها جميعاً كقوله‏:‏

ولا ترى الضب بها ينجحر *** أي ليس بها ضب فينجحر، ولم يعن أن بها ضباً ولا ينجحر ‏{‏وَمَأْوَاهُمُ‏}‏ مرجعهم ‏{‏النار وَبِئْسَ مثوى الظالمين‏}‏ النار فالمخصوص بالذم محذوف‏.‏

ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى المدينة قال ناس من أصحابه، من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر‏؟‏ فنزل ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ‏}‏ أي حقق ‏{‏إِذْ تَحُسُّونَهُمْ‏}‏ تقتلونهم قتلاً ذريعاً‏.‏ وعن ابن عيسى‏:‏ حسه أبطل حسه بالقتل ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ بأمره وعلمه ‏{‏حتى إِذَا فَشِلْتُمْ‏}‏ جبنتم ‏{‏وتنازعتم فِى الأمر‏}‏ أي اختلفتم ‏{‏وَعَصَيْتُمْ‏}‏ أمر نبيكم بترككم المركز واشتغالكم بالغنيمة ‏{‏مِن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ‏}‏ من الظفر وقهر الكفار‏.‏ ومتعلق «إذا» محذوف تقديره حتى إذا فشلتم منعكم نصره، وجاز أن يكون المعنى صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم ‏{‏مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا‏}‏ أي الغنيمة وهم الذين تركوا المركز لطلب الغنيمة‏.‏ روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل وأمرهم أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا كانت الدولة للمسلمين أو عليهم فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا، والمسلمون على آثارهم يقتلونهم‏.‏

حتى إذا فشلوا وتنازعوا فقال بعضهم‏:‏ قد انهزم المشركون فما موقفنا هاهنا، فادخلوا عسكر المسلمين وخذوا الغنيمة مع إخوانكم، وقال بعضهم‏:‏ لا تخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فمن ثبت مكانه عبد الله بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة وهم المعنيون بقوله ‏{‏وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الأخرة‏}‏ فكر المشركون على الرماة وقتلوا عبد الله ابن جبير وأقبلوا على المسلمين حتى هزموهم وقتلوا من قتلوا وهو قوله ‏{‏ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ‏}‏ أي كف معونته عنكم فغلبوكم ‏{‏لِيَبْتَلِيَكُمْ‏}‏ ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم عندها وحقيقته ليعاملكم معاملة المختبر لأنه يجازي على ما يعمله العبد لا على ما يعلمه منه ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏ حيث ندمتم على ما فرط منكم من عصيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين‏}‏ بالعفو عنهم وقبول توبتهم، أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال سواء أديل لهم أو أديل عليهم، لأن الابتلاء رحمة كما أن النصرة رحمة‏.‏ وانتصب‏.‏

‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ‏}‏ تبالغون في الذهاب في صعيد الأرض، والإصعاد الذهاب في صعيد الأرض أو الإبعاد فيه بصرفكم، أو بقوله «ليبتليكم» أو بإضمار «اذكروا» ‏{‏وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ‏}‏ ولا تلتفون وهو عبارة عن غاية انهزامهم وخوف عدوهم ‏{‏والرسول يَدْعُوكُمْ‏}‏ يقول ‏"‏ إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة ‏"‏ والجملة في موضع الحال ‏{‏فِى أُخْرَاكُمْ‏}‏ في ساقتكم وجماعتكم الأخرى وهي المتأخرة‏.‏ يقال جئت في آخر الناس وأخرهم كما تقول في أولهم وأولاهم بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى ‏{‏فأثابكم‏}‏ عطف على «صرفكم» أي فجازاكم الله ‏{‏غَمّاً‏}‏ حين صرفكم عنهم وابتلاكم ‏{‏بِغَمّ‏}‏ بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم أمره أو غماً مضاعفاً، غماً بعد غم وغماً متصلاً بغم، من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله عليه السلام والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة والنصر ‏{‏لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ‏}‏ لتتمرنوا على تجرع الغموم فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ‏{‏وَلاَ مَا أصابكم‏}‏ ولا على مصيب من المضار ‏{‏والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ عالم بعملكم لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، وهذا ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية‏.‏ ‏{‏ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً‏}‏ ثم أنزل الله الأمن على المؤمنين وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم‏.‏ عن أبي طلحة‏:‏ غشينا النعاس ونحن في مصافنا فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه‏.‏ والأمنة الأمن، و«نعاساً» بدل من «أمنة» أو هو مفعول و«أمنة» حال منه مقدمة عليه نحو «رأيت راكباً رجلاً» والأصل أنزل عليكم نعاساً ذا أمنة إذ النعاس ليس هو الأمن، ويجوز أن يكون «أمنة» مفعولاً له أو حالاً من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة ‏{‏يغشى‏}‏ يعني النعاس‏.‏

«تغشى» بالتاء والإمالة‏:‏ حمزة وعلي أي الأمنة ‏{‏طَائِفَةٌ مّنكُمْ‏}‏ هم أهل الصدق واليقين ‏{‏وَطَائِفَةٌ‏}‏ هم المنافقون ‏{‏قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ‏}‏ ما يهمهم إلا هم أنفسهم وخلاصها لا همّ الدين ولا همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين رضوان الله عليهم ‏{‏يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق‏}‏ في حكم المصدر أي يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به وهو أن لا ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏ظَنَّ الجاهلية‏}‏ بدل منه والمراد الظن المختص بالملة الجاهلية، أو ظن أهل الجاهلية أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله ‏{‏يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَئ‏}‏ هل لنا معاشر المسلمين من أمر الله نصيب قط يعنون النصر والغلبة على العدو ‏{‏قُلْ إِنَّ الأمر‏}‏ أي النصر والغلبة ‏{‏كُلُّهُ لِلهِ‏}‏ ولأوليائه المؤمنين ‏{‏وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 173‏]‏ «كله» تأكيد للأمر و«لله» خبر «أن» «كله» بصري وهو مبتدأ و«لله» خبره والجملة خبر «إن» ‏{‏يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ‏}‏ خوفاً من السيف ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ في أنفسهم أو بعضهم لبعض منكرين لقولك لهم «إن الأمر كله لله» ‏{‏لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئ مَّا قُتِلْنَا هاهنا‏}‏ أي لو كان الأمر كما قال محمد ‏"‏ إن الأمر كله لله ولأوليائه وأنهم الغالبون ‏"‏ لما غلبنا قط، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة‏.‏ «قد أهمتهم» صفة ل «طائفة» و«يظنون» خبر ل «طائفة» أو صفة أخرى، أو حال أي قد أهمتهم أنفسهم ظانين‏.‏ و«يقولون» بدل من «يظنون» و«يخفون» حال من «يقولون» و«قل إن الأمر كله لله» اعتراض بين الحال وذي الحال و«يقولون» بدل من «يخفون» أو استئناف ‏{‏قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ‏}‏ أي من علم الله منه أنه يقتل في هذه المعركة وكتب ذلك في اللوح لم يكن به من وجوده، فلو قعدتم في بيوتكم ‏{‏لَبَرَزَ‏}‏ من بينكم ‏{‏الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ‏}‏ مصارعهم بأحد ليكون ما علم الله أنه يكون، والمعنى أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين وكتب مع ذلك أنهم الغالبون لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله، وأن ما ينكبون به في بعض الأوقات تمحيص لهم ‏{‏وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ‏}‏ وليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص ويمحص ما في قلوبهم من وساوس الشيطان فعل ذلك‏.‏

أو فعل ذلك لمصالح جمة وللابتلاء والتمحيص ‏{‏والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ بخفياتها‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ‏}‏ انهزموا ‏{‏يَوْمَ التقى الجمعان‏}‏ جمع محمد عليه السلام وجمع أبي سفيان للقتال بأحد ‏{‏إِنَّمَا استزلهم الشيطان‏}‏ دعاهم إلى الزلة وحملهم عليها ‏{‏بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ‏}‏ بتركهم المركز الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبات فيه فالإضافة إلى الشيطان لطف وتقريب والتعليل بكسبهم وعظ وتأديب‏.‏ وكان أصحاب محمد عليه السلام تولوا عنه يوم أحد إلا ثلاثة عشر رجلاً منهم أبو بكر وعلي وطلحة وابن عوف وسعد بن أبي وقاص والباقون من الأنصار ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ‏}‏ تجاوز عنهم ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ للذنوب ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ لا يعاجل بالعقوبة ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ‏}‏ كابن أبيّ وأصحابه ‏{‏وَقَالُواْ لإخوانهم‏}‏ أي في حق إخوانهم في النسب أو في النفاق ‏{‏إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأرض‏}‏ سافروا فيها للتجارة أو غيرها ‏{‏أَوْ كَانُواْ غُزًّى‏}‏ جمع غازٍ كعافٍ وعفّى وأصابهم موت أو قتل ‏{‏لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ اللام يتعلق ب «لا تكونوا» أي لا تكونوا كهؤلاء في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم، أو ب «قالوا» أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون ذلك حسرة في قلوبهم والحسرة الندامة على فوت المحبوب ‏{‏والله يُحْيىِ وَيُمِيتُ‏}‏ رد لقولهم «إن القتال يقطع الآجال» أي الأمر بيده قد يحيي المسافر والمقاتل‏.‏ ويميت المقيم والقاعد ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فيجازيكم على أعمالكم‏.‏ «يعملون» مكي وحمزة وعلي أي الذين كفروا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏157- 170‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏157‏)‏ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏158‏)‏ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ‏(‏159‏)‏ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏160‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏161‏)‏ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏162‏)‏ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏163‏)‏ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏164‏)‏ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏165‏)‏ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏166‏)‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ‏(‏167‏)‏ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏168‏)‏ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ‏(‏169‏)‏ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏170‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ‏}‏ متم وبابه بالكسر‏:‏ نافع وكوفي غير عاصم، تابعهم حفص إلا في هذه السورة كأنه أراد الوفاق بينه وبين قتلتم‏.‏ غيرهم‏:‏ بضم الميم في جميع القرآن، فالضم من مات يموت، والكسر من مات يمات كخاف يخاف فكما تقول خفت تقول مت ‏{‏لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ «ما» بمعنى «الذي» والعائد محذوف وبالياء‏:‏ حفص ‏{‏وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ‏}‏ لإلى الرحيم الواسع الرحمة المثيب العظيم الثواب تحشرون‏.‏ ولوقوع اسم الله في هذا الموضع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به شأن غني عن البرهان‏.‏ «لمغفرة» جواب القسم وهو ساد مسد جواب الشرط، وكذلك «لالى الله تحشرون» كذب الكافرين أولاً في زعمهم أن من سافر من إخوانهم أو غزا لو كان بالمدينة لما مات، ونهى المسلمين عن ذلك لأنه سبب التقاعد عن الجهاد ثم قال لهم‏:‏ ولئن تم عليكم ما تخافونه من الهلاك بالموت أو القتل في سبيل الله فإن ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت في سبيل الله خير مما تجمعون من الدنيا، فإن الدنيا زاد المعاد فإذا وصل العبد إلى المراد لم يحتج إلى الزاد‏.‏

‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ‏}‏ «ما» مزيدة للتوكيد والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله‏.‏ ومعنى الرحمة ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق والتلطف بهم ‏{‏وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً‏}‏ جافياً ‏{‏غَلِيظَ القلب‏}‏ قاسيه ‏{‏لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ‏}‏ لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد منهم ‏{‏فاعف عَنْهُمْ‏}‏ ما كان منهم يوم أحد مما يختص بك ‏{‏واستغفر لَهُمُ‏}‏ فيما يختص بحق الله إتماماً للشفقة عليهم ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر‏}‏ أي في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي تطييباً لنفوسهم وترويحاً لقلوبهم ورفعاً لأقدارهم، ولتقتدي بك أمتك فيها‏.‏ في الحديث ‏"‏ ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم ‏"‏ وعن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ ما رأيت أحداً أكثر مشاورة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومعنى شاورت فلاناً أظهرت ما عندي وما عنده من الرأي‏.‏ وشرت الدابة استخرجب جريها، وشرت العسل أخذته من مآخذه، وفيه دلالة جواز الاجتهاد وبيانا أن القياس حجة ‏{‏فَإِذَا عَزَمْتَ‏}‏ فإذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى ‏{‏فَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ في إمضاء أمرك على الأرشد لا على المشورة ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين‏}‏ عليه والتوكل الاعتماد على الله والتفويض في الأمور إليه‏.‏ وقال ذو النون‏:‏ خلع الأرباب وقطع الأسباب ‏{‏إِن يَنصُرْكُمُ الله‏}‏ كما نصركم يوم بدر ‏{‏فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ‏}‏ فلا أحد يغلبكم وإنما يدرك نصر الله من تبرأ من حوله وقوته واعتصم بربه وقدرته ‏{‏وَإِن يَخْذُلْكُمْ‏}‏ كما خذلكم يوم أحد ‏{‏فَمَن ذَا الذى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ‏}‏ من بعد خذلانه وهو ترك المعونة، أو هو من قولك ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان تريد إذا جاوزته، وهذا تنبيه على أن الأمر كله لله وعلى وجوب التوكل عليه ‏{‏وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه لعلمهم أنه لا ناصر سواه، ولأن إيمانهم يقتضي ذلك‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ‏}‏ مكي وأبو عمرو وحفص وعاصم أي يخون، وبضم الياء وفتح الغين‏:‏ غيرهم‏.‏ يقال غلّ شيئاً من المغنم غلولاً وأغلّ إغلالاً إذا أخذه في خفية، ويقال أغله إذا وجده غالاً، والمعنى ما صح له ذلك يعني أن النبوة تنافي الغلول، وكذا من قرأ على البناء للمفعول فهو راجع إلى هذا لأن معناه‏:‏ وما صح له أن يوجد غالاً ولا يوجد غالاً إلا إذا كان غالاً‏.‏ روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر مما أصيب من المشركين فقال بعض المنافقين‏:‏ لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها فنزلت الآية ‏{‏وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة‏}‏ أي يأت بالشيء الذي غله بعينه حاملاً له على ظهره كما جاء في الحديث ‏"‏ أو يأت بما احتمل من وباله وإثمه ‏"‏ ‏{‏ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ‏}‏ تعطي جزاءها وافياً ولم يقل «ثم يوفى ما كسب» ليتصل بقوله «ومن يغلل» بل جيء بعام ليدخل تحته كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى وهو أبلغ، لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيراً أو شراً مجزي فموفى جزاءه علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ أي جزاء كل على قدر كسبه ‏{‏أَفَمَنِ اتبع رضوان الله‏}‏ أي رضا الله قيل هم المهاجرون والأنصار ‏{‏كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ الله‏}‏ وهم المنافقون والكفار ‏{‏وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير‏}‏ المرجع ‏{‏هُمْ درجات عِندَ الله‏}‏ هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات أو ذوو درجات، والمعنى تفاوت منازل المثابين منهم ومنازل المعاقبين أو التفاوت بين الثواب والعاقب ‏{‏والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ عالم بأعمالهم ودرجاتها فيجازيهم على حسبها‏.‏

‏{‏لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين‏}‏‏.‏

على من آمن مع رسول الله عليه السلام من قومه، وخص المؤمنين منهم لأنهم هم المنتفعون بمبعثه ‏{‏إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ من جنسهم عربياً مثلهم أو من ولد إسماعيل كما أنهم من ولده، والمنة في ذلك من حيث إنه إذا كان منهم كان اللسان واحد فيسهل أخذ ما يجب عليهم أخذه عنه، وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة فكان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه، وكان لهم شرف بكونه منهم‏.‏

وفي قراءة رسول الله «من أنفسهم» أي من أشرفهم ‏{‏يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياته‏}‏ أي القرآن بعدما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي ‏{‏وَيُزَكّيهِمْ‏}‏ ويطهرهم بالإيمان من دنس الكفر والطغيان أو يأخذ منهم الزكاة ‏{‏وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة‏}‏ القرآن والسنة ‏{‏وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ‏}‏ من قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏لَفِى ضلال‏}‏ عمى وجهالة ‏{‏مُّبِينٍ‏}‏ ظاهر لا شبهة فيه «إن» مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية والتقدير‏:‏ وإن الشأن والحديث كانوا من قبل في ضلال مبين‏.‏

‏{‏أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ‏}‏ يريد ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم ‏{‏قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا‏}‏ يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين وهو في موضع رفع صفة ل «مصيبة» ‏{‏قُلْتُمْ أنى هذا‏}‏ من أين هذا ‏{‏قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ لاختياركم الخروج من المدينة أو لترككم المركز‏.‏ لما نصب ب «قلتم» و«أصابتكم» في محل الجر بإضافة «لما» إليه وتقديره‏:‏ أقلتم حين أصابتكم‏.‏ «وأنى هذا» نصب لأنه مقول والهمزة للتقرير والتقريع، وعطفت الواو هذه الجملة على ما مضى من قصة أحد من قوله‏:‏ «ولقد صدقكم الله وعده»‏.‏ أو على محذوف كأنه قيل‏:‏ أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ يقدر على النصر وعلى منعه‏.‏

وَمَا أصابكم‏}‏ «ما» بمعنى «الذي» وهو مبتدأ ‏{‏يَوْمَ التقى الجمعان‏}‏ جمعكم وجمع المشركين بأحد والخبر ‏{‏فَبِإِذْنِ الله‏}‏ فكائن بأذن الله أي بعلمه وقضائه ‏{‏وَلِيَعْلَمَ المؤمنين * وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ‏}‏ وهو كائن ليتميز المؤمنون والمنافقون وليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء ‏{‏وَقِيلَ لَهُمْ‏}‏ للمنافقين وهو كلام مبتدأ ‏{‏تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ أي جاهدوا للآخرة كما يقاتل المؤمنون ‏{‏أَوِ ادفعوا‏}‏ أي قاتلوا دفعاً على أنفسكم وأهليكم وأموالكم إن لم تقاتلوا للآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ أو ادفعوا العدو بتكثيركم سواد المجاهدين إن لم تقاتلوا لأن كثرة السواد مما تروع العدو ‏{‏قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتبعناكم‏}‏ أي لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً لاتبعناكم يعنون أن ما أنتم فيه لخطإ رأيكم ليس بشيء، ولا يقال لمثله قتال إنما هو إلقاء النفس في التهلكة ‏{‏هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإيمان‏}‏ يعني أنهم كانوا يتظاهرون بالإيمان قبل ذلك وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم، فلما انخذلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر، أو هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان لأن تقليلهم سواد المؤمنين بالانخذال تقوية للمشركين ‏{‏يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي يظهرون خلاف ما يضمرون من الإيمان وغيره والتقييد بالأفواه للتأكيد ونفي المجاز ‏{‏والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ‏}‏ من النفاق ‏{‏الذين قَالُواْ‏}‏ أي ابن أبيّ وأصحابه وهو في موضع رفع على «هم الذين قالوا» أو على الإبدال من واو «يكتمون» أو نصب بإضمار «أعني»، أو على البدل من «الذين نافقوا» أو جر على البدل من الضمير «في أفواههم» أو «قلوبهم» ‏{‏لإخوانهم‏}‏ لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد ‏{‏وَقَعَدُواْ‏}‏ أي قالوا وقد قعدوا عن القتال ‏{‏لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا‏}‏ لو أطاعنا إخواننا فيما أمرناهم به من الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود ووافقونا فيه لما قتلوا كما لم نقتل ‏{‏قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ بأن الحذر ينفع من القدر فخذوا حذركم من الموت، أو معناه قل إن كنتم صادقين في أنكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلاً وهو القعود عن القتال فجدوا إلى دفع الموت سبيلاً‏.‏

وروي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقاً‏.‏

ونزل في قتلى أحد ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ‏}‏ شامي وحمزة وعلي وعاصم، وبكسر السين غيرهم‏:‏ والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ‏{‏الذين قَتَلُواْ‏}‏ «قتلوا»‏:‏ شامي ‏{‏فِى سَبِيلِ الله أمواتا بَلْ أَحْيَاء‏}‏ بل هم أحياء ‏{‏عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ مقربون عنده ذوو زلفى ‏{‏يُرْزَقُونَ‏}‏ مثل ما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون، وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله «فرحين» حال من الضمير في «يرزقون» ‏{‏بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ وهو التوفيق في الشهادة وما ساق إليهم من الكرامة والتفضيل على غيرهم من كونهم أحياء مقربين معجلاً لهم رزق الجنة ونعيمها‏.‏ وقال النبي عليه السلام ‏"‏ لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تدور في أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ‏"‏ وقيل‏:‏ هذا الرزق في الجنة يوم القيامة وهو ضعيف لأنه لا يبقى للتخصيص فائدة ‏{‏وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين‏}‏ بإخوانهم المجاهدين الذين ‏{‏لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم‏}‏ لم يقتلوا فيلحقوا بهم ‏{‏مّنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ يريد الذين من خلفهم قد بقوا من بعدهم وهم قد تقدموهم أو لم يلحقوا بهم لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم ‏{‏أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ بدل من «الذين» والمعنى‏:‏ ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة، بشرهم الله بذلك فهم مستبشرون به‏.‏ وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم، بعثٌ للباقين بعدهم على الجد في الجهاد والرغبة في نيل منازل الشهداء ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏171- 180‏]‏

‏{‏يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏171‏)‏ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏172‏)‏ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ‏(‏173‏)‏ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ‏(‏174‏)‏ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏175‏)‏ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏176‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏177‏)‏ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏178‏)‏ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏179‏)‏ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏180‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ‏}‏ يسرون بما أنعم الله عليهم وما تفضل عليهم من زيادة الكرامة ‏{‏وَأَنَّ الله‏}‏ عطف على النعمة والفضل‏.‏ «وإن الله»‏:‏ عليٌّ بالكسر على الاستئناف وعلى أن الجملة اعتراض ‏{‏لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين‏}‏ بل يوفر عليهم‏.‏ ‏{‏الذين استجابوا لِلَّهِ والرسول‏}‏ مبتدأ خبره «للذين أحسنوا»، أو صفة للمؤمنين، أو نصب على المدح ‏{‏مِن بَعْدِ مَا أصابهم القرح‏}‏ الجرح‏.‏ روي أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب النبيّ أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان، فخرج يوم الأحد من المدينة مع سبعين رجلاً حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال، وكان بأصحابه القرح فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا‏}‏ «من» للتبيين‏.‏ مثلها في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏‏.‏ لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم ‏{‏أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ في الآخرة‏.‏

‏{‏الذين قَالَ لَهُمُ الناس‏}‏ بدل من الذين استجابوا ‏{‏إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ‏}‏ روي أن أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد‏:‏ يا محمد موعدنا موسم بدر القابل‏.‏ فقال عليه السلام ‏"‏ إن شاء الله ‏"‏ فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمراً فقال‏:‏ يا نعيم إني واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر وقد بدا لي أن أرجع فالحق بالمدينة، فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم‏:‏ أتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم فوالله لا يفلت منكم أحد فقال عليه السلام ‏"‏ والله لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد ‏"‏ فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون «حسبنا الله ونعم الوكيل» حتى وافوا بدراً وأقاموا بها ثماني ليال وكانت معهم تجارة فباعوها وأصابوا خيراً، ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ولم يكن قتال، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا‏:‏ إنما خرجتم لتأكلوا السويق‏.‏ فالناس الأول نعيم وهو جمع أريد به الواحد أو كان له أتباع يثبطون مثل تثبيطه، والثاني أبو سفيان وأصحابه‏.‏ ‏{‏فاخشوهم‏}‏ فخافوهم ‏{‏فَزَادَهُمُ‏}‏ أي المقول الذي هو «إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم» أو القول، أو نعيم ‏{‏إيمانا‏}‏ بصيرة وإيقاناً ‏{‏وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله‏}‏ كافينا الله أي الذي يكفينا الله‏.‏

يقال أحسبه الشيء إذا كفاه وهو بمعنى المحسب بدليل أنك تقول «هذا رجل حسبك» فتصف به النكرة لأن إضافته غير حقيقية لكونه في معنى اسم الفاعل ‏{‏وَنِعْمَ الوكيل‏}‏ ونعم الموكول إليه هو ‏{‏فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مّنَ الله‏}‏ وهي السلامة وحذر العدو منهم ‏{‏وَفَضْلٍ‏}‏ وهو الربح في التجارة فأصابوا بالدرهم درهمين ‏{‏لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء‏}‏ لم يلقوا ما يسوءهم من كيد عدو وهو حال من الضمير في «انقلبوا»، وكذا «بنعمة» والتقدير‏:‏ فرجعوا من بدر منعمين بريئين من سوء ‏{‏واتبعوا رضوان الله‏}‏ بجرأتهم وخروجهم إلى وجه العدو على أثر تثبيطه وهو معطوف على «انقلبوا» ‏{‏والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ‏}‏ قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا ذلكم الشيطان‏}‏ هو خبر «ذلكم» أي إنما ذلك المثبط هو الشيطان وهو نعيم ‏{‏يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ‏}‏ أي المنافقين وهو جملة مستأنفة بيان لشيطنته، أو الشيطان صفة لاسم الإشارة و«يخوف» الخبر ‏{‏فَلاَ تَخَافُوهُمْ‏}‏ أي أولياءه ‏{‏وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ لأن الإيمان يقتضي أن يؤثر العبد خوف الله على خوف غيره‏.‏ و«خافوني» في الوصل والوقف‏:‏ سهل ويعقوب، وافقهما أبو عمرو في الوصل‏.‏

‏{‏وَلاَ يَحْزُنكَ‏}‏ «يحزنك» في كل القرآن‏:‏ نافع إلا في سورة الأنبياء ‏{‏لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏ ‏{‏الذين يسارعون فِى الكفر‏}‏ يعني لا يحزنوك لخوف أن يضروك ألا ترى إلى قوله ‏{‏إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً‏}‏ أي أولياء الله يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم وما وبال ذلك عائداً على غيرهم‏.‏ ثم بين كيف يعود وباله عليهم بقوله ‏{‏يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الآخرة‏}‏ أي نصيباً من الثواب ‏{‏وَلَهُمْ‏}‏ بدل الثواب ‏{‏عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏ وذلك أبلغ ما ضر به الإنسان نفسه، والآية تدل على إرادة الكفر والمعاصي لأن إرادته أن لا يكون لهم ثواب في الآخرة لا تكون بدون إرادة كفرهم ومعاصيهم‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان‏}‏ أي استبدلوه به ‏{‏لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً‏}‏ هو نصب على المصدر أي شيئاً من الضرر‏.‏ الآية الأولى فيمن نافق من المتخلفين أو ارتد عن الإسلام، والثانية في جميع الكفار أو على العكس ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلاَ يَحْسَبَنَّ‏}‏ وثلاثة بعدها مع ضم الباء في «يحسبنهم» بالياء‏:‏ مكي وأبو عمرو، وكلها بالتاء‏:‏ حمزة، وكلها بالياء‏:‏ مدني وشامي إلا «فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ» فإنها بالتاء‏.‏ الباقون‏:‏ الأوليان بالياء والأخريان بالتاء‏.‏ ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ فيمن قرأ بالياء رفع أي ولا يحسبن الكافرون‏.‏ و«أن» مع اسمه وخبره في قوله ‏{‏أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنفُسِهِمْ‏}‏ في موضع المفعولين ل «يحسبن» والتقدير‏:‏ ولا يحسبن الذين كفروا إملاءنا خيراً لأنفسهم‏.‏ و«ما» مصدرية وكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا يخالف‏.‏

وفيمن قرأ بالتاء نصب أي ولا تحسبن الكافرين وأنما نملي لهم خير لأنفسهم بدل من الكافرين، أي ولا تحسبن أن ما نملي للكافرين خير لهم، و«أن» مع ما في حيزه ينوب عن المفعولين، والإملاء لهم إمهمالهم وإطالة عمرهم‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً‏}‏ «ما» هذه حقها أن تكتب متصلة لأنها كافة دون الأولى، وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها كأنه قيل‏:‏ ما بالهم لا يحسبون الإملاء خيراً لهم‏؟‏ فقيل‏:‏ إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً‏.‏ والآية حجة لنا على المعتزلة في مسألتي الأصلح وإرادة المعاصي ‏{‏وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏‏.‏

اللام في ‏{‏مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ من اختلاط المؤمنين الخلص والمنافقين لتأكيد النفي ‏{‏حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب‏}‏ حتى يعزل المنافق عن المخلص‏.‏ «يميز»‏:‏ حمزة وعلي‏.‏ والخطاب في «أنتم» للمصدقين من أهل الإخلاص والنفاق كأنه قيل‏:‏ ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب‏}‏ وما كان الله ليؤتي أحد منكم علم الغيوب فلا تتوهموا عند إخبار الرسل بنفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع على ما في القلوب إطلاع الله فيخبر عن كفرها وإيمانها ‏{‏وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء‏}‏ أي ولكن الله يرسل الرسول فيوحي إليه ويخبره بأن في الغيب كذا وأن فلاناً في قلبه النفاق وفلاناً في قلبه الإخلاص، فيعلم ذلك من جهة إخبار الله لا من جهة نفسه‏.‏ والآية حجة على الباطنية فإنهم يدعون ذلك العلم لإمامهم فإن لم يثبتوا النبوة له صاروا مخالفين للنص حيث أثبتوا علم الغيب لغير الرسول، وإن أثبتوا النبوة له صاروا مخالفين لنص آخر وهو قوله ‏{‏وَخَاتَمَ النبيين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏فَئَامِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ‏}‏ بصفة الإخلاص ‏{‏وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ‏}‏ النفاق ‏{‏فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ في الآخرة‏.‏

ونزل في مانعي الزكاة ‏{‏وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ من قرأ بالتاء قدر مضافاً محذوفاً أي ولا تحسبن بخل الباخلين و«هو» فصل و«خيراً لهم» مفعول ثانٍ، وكذا من قرأ بالياء وجعل فاعل «يحسبن» ضمير رسول الله أو ضمير أحد، ومن جعل فاعله «الذين يبخلون» كان التقدير‏:‏ ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خير لهم و«هو» فصل و«خيراً لهم» مفعول ثانٍ ‏{‏بَلْ هُوَ‏}‏ أي البخل ‏{‏شَرٌّ لَّهُمْ‏}‏ لأن أموالهم ستزول عنهم ويبقى عليهم وبال البخل ‏{‏سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة‏}‏ تفسير لقوله «بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ» أي سيجعل مالهم الذي منعوه عن الحق طوقاً في أعناقهم كما جاء في الحديث ‏"‏ من منع زكاة ماله يصير حية ذكراً أقرع له نابان فيطوق في عنقه فينهشه ويدفعه إلى النار ‏"‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض‏}‏ وله ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره، فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيل الله‏؟‏ والأصل في ميراث موراث فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها‏.‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ وبالياء مكي وأبو عمرو، فالتاء على طريقة الالتفات وهو أبلغ في الوعيد، والياء على الظاهر‏.‏