فصل: تفسير الآيات رقم (36- 46)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 46‏]‏

‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ‏(‏36‏)‏ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏37‏)‏ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ‏(‏38‏)‏ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ‏(‏39‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ‏(‏41‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ‏(‏42‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏43‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ‏(‏44‏)‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ‏(‏45‏)‏ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏واعبدوا الله‏}‏ قيل‏:‏ العبودية أربعة‏:‏ الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود ‏{‏وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً‏}‏ صنماً وغيره ويحتمل المصدر أي إشراكاً ‏{‏وبالوالدين إحسانا‏}‏ وأحسنوا بهما إحساناً بالقول والفعل والإنفاق عليهما عند الاحتياج ‏{‏وَبِذِى القربى‏}‏ وبكل من بينكم وبينه قربى من أخ أو عم أو غيرهما ‏{‏واليتامى والمساكين والجار ذِي القربى‏}‏ الذي قرب جواره ‏{‏والجار الجنب‏}‏ أي الذي جواره بعيد أو الجار القريب النسيب، والجار الجنب الأجنبي ‏{‏والصاحب بالجنب‏}‏ أي الزوجة‏:‏ عن عليّ رضي الله عنه‏.‏ أو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقاً في سفر أو شريكاً في تعلم علم أو غيره أو قاعداً إلى جنبك في مجلس أو مسجد ‏{‏وابن السبيل‏}‏ الغريب أو الضعيف ‏{‏وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ العبيد والإماء ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً‏}‏ متكبراً يأنف عن قرابته وجيرانه فلا يلتفت إليهم ‏{‏فَخُوراً‏}‏ يعدد مناقبه كبراً فإن عدها اعترافاً كان شكوراً ‏{‏الذين يَبْخَلُونَ‏}‏ نصب على البدل من «مَنْ كان مختالاً فخوراً» وجمع على معنى «من» أو على الذم، أو رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره «هم الذين يبخلون» ‏{‏وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل‏}‏ «بالبَخَل»‏:‏ حمزة وعلي وهما لغتان كالرشد والرشد أي يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتاً للسخاء‏.‏ قيل‏:‏ البخل أن يأكل بنفسه ولا يؤكل غيره، والشح أن لا يأكل ولا يؤكل، والسخاء أن يأكل ويؤكل، والجود أن يؤكل ولا يأكل‏.‏ ‏{‏وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتاهمالله مِن فَضْلِهِ‏}‏ ويخفون ما أنعم الله عليهم به من المال وسعة الحال، وفي الحديث ‏"‏ إذا أنعم الله على عبده نعمة أحب أن يرى نعمته على عبده ‏"‏ وبنى عامل للرشيد قصراً حذاء قصره فنم به فقال الرجل‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الكريم يسره أن يرى أثر نعمته، فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك فأعجبه كلامه‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في شأن اليهود الذين كتموا صفة محمد عليه السلام‏.‏ ‏{‏وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً‏}‏ أي يهانون به في الآخرة‏.‏ ‏{‏والذين يُنْفِقُونَ أموالهم‏}‏ معطوف على «الذين يبخلون» أو على «الكافرين» ‏{‏رِئَاء الناس‏}‏ مفعول له أي للفخار وليقال ما أجودهم لا لابتغاء وجه الله وهم المنافقون أو مشركو مكة ‏{‏وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً‏}‏ حيث حملهم على البخل والرياء وكل شر، ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار ‏{‏وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُواْ بالله واليوم الآخر وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله‏}‏ وأي تبعة ووبال عليهم في الإيمان والإنفاق في سبيل الله والمراد الذم والتوبيخ وإلا فكل منفعة ومصلحة في ذلك، وهذا كما يقال للعاق «ما ضرك لو كنت باراً» وقد علم أنه لا مضرة في البر ولكنه ذم وتوبيخ ‏{‏وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً‏}‏ وعيد‏.‏

‏{‏إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏ هي النملة الصغيرة‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أدخل يده في التراب فرفعه ثم نفخ فيه فقال‏:‏ كل واحدة من هؤلاء ذرة‏.‏ وقيل‏:‏ كل جزء من أجزاء الهباء في الكوة ذرة‏.‏ ‏{‏وَإِن تَكُ حَسَنَةً‏}‏ وإن يك مثقال الذرة حسنة‏.‏ وإنما أنث ضمير المثقال لكونه مضافاً إلى مؤنث‏.‏ «حسنةٌ»‏:‏ حجازي على «كان» التامة، وحذفت النون من «تكن» تخفيفاً لكثرة الاستعمال ‏{‏يضاعفها‏}‏ يضاعف ثوابها‏.‏ «يضعفّها»‏:‏ مكي وشامي ‏{‏وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ ويعط صاحبها من عنده ثواباً عظيماً، وما وصفه الله بالعظم فمن يعرف مقداره مع أنه سمى متاع الدنيا قليلاً‏.‏ وفيه إبطال قول المعتزلة في تخليد مرتكب الكبيرة مع أن له حسنات كثيرة‏.‏ ‏{‏فَكَيْفَ‏}‏ يصنع هؤلاء الكفرة من الهيود وغيرهم ‏{‏إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ‏}‏ يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم ‏{‏وَجِئْنَا بِكَ‏}‏ يا محمد ‏{‏على هؤلاء‏}‏ أي أمتك ‏{‏شَهِيداً‏}‏ حال أي شاهداً على من آمن بالإيمان وعلى من كفر بالكفر وعلى من نافق بالنفاق‏.‏ وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ سورة النساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله‏:‏ «وجئنا بك على هؤلاء شهيداً»‏.‏ فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏ حسبنا

‏.‏ ‏"‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ ظرف لقوله ‏{‏يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ بالله ‏{‏وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض‏}‏ لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى، أو يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء، أو تصير البهائم تراباً فيودون حالها‏.‏ «تسوى» بفتح التاء وتخفيف السين والإمالة وحذف إحدى التاءين من «تتسوى»‏:‏ حمزة وعلي‏.‏ «تسوى» بإدغام التاء في السين‏:‏ مدني وشامي ‏{‏وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً‏}‏ مستأنف أي ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم‏.‏ ولما صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً وشراباً ودعا نفراً من الصحابة رضي الله عنهم حين كانت الخمر مباحة، فأكلوا وشربوا فقدموا أحدهم ليصلي بهم المغرب فقرأ «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد» ونزل‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى‏}‏ أي لا تقربوها في هذه الحالة ‏{‏حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ‏}‏ أي تقرأون، وفيه دليل على أن ردة السكران ليست بردة، لأن قراءة سورة «الكافرين» بطرح اللامات كفر ولم يحكم بكفره حتى خاطبهم باسم الإيمان، وما أمر النبي عليه السلام بالتفريق بينه وبين امرأته ولا بتجديد الإيمان، ولأن الأمة اجتمعت على أن من أجرى كلمة الكفر على لسانه مخطئاً لا يحكم بكفره ‏{‏وَلاَ جُنُباً‏}‏ عطف على «وأنتم سكارى» لأن محل الجملة مع الواو النصب على الحال كأنه قيل‏:‏ لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنباً أي ولا تصلوا جنباً‏.‏

والجنب يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب ‏{‏إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ‏}‏ صفة لقوله «جنباً» أي لا تقربوا الصلاة جنباً غير عابري سبيل أي جنباً مقيمين غير مسافرين، والمراد بالجنب الذين لم يغتسلوا كأنه قيل‏:‏ لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين ‏{‏حتى تَغْتَسِلُواْ‏}‏ إلا أن تكونوا مسافرين عادمين الماء متيممين، عبّر عن المتيمم بالمسافر لأن غالب حاله عدم الماء وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وهو مروي عن علي رضي الله عنه‏.‏ وقال الشافعي رحمه الله‏:‏ لا تقربوا الصلاة أي مواضع الصلاة وهي المساجد، ولا جنباً أي ولا تقربوا المسجد جنباً إلا عابري سبيل إلا مجتازين فيه، فيجوز للجنب العبور في المسجد عند الحاجة‏.‏ ‏{‏وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغآئط‏}‏ أي المطمئن من الأرض وكانوا يأتونه لقضاء الحاجة فكنى بن عن الحدث ‏{‏أَوْ لامستم النساء‏}‏ جامعتموهن كذا عن علي رضي الله عنه وابن عباس ‏{‏فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً‏}‏ فلم تقدروا على استعماله لعدمه أو بعده أو فقد آلة الوصول إليه أو لمانع من حية أو سبع أو عدو ‏{‏فتيمّموا‏}‏ أدخل في حكم الشرط أربعة وهم‏:‏ المرضى والمسافرون والمحدثون وأهل الجنابة‏.‏ والجزاء الذي هو الأمر بالتيمم متعلق بهم جميعاً؛ فالمرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه، والمسافرون إذا عدموه لبعده، والمحدثون وأهل الجنابة إذا لم يجدوه لبعض الأسباب فلهم أن يتيمموا‏.‏ «لمستم»‏:‏ حمزة وعلي ‏{‏صَعِيداً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو وجه الأرض تراباً كان أو غيره، وإن كان صخراً لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده ومسح لكان ذلك طهوره‏.‏ و«من» في سورة المائدة لابتداء الغاية لا للتبعيض ‏{‏طَيّباً‏}‏ طاهراً ‏{‏فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ‏}‏ قيل‏:‏ الباء زائدة ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً‏}‏ بالترخيص والتيسير ‏{‏غَفُوراً‏}‏ عن الخطأ والتقصير‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ من رؤية القلب وعدي «بإلى» على معنى «ألم ينته علمك إليهم» أو بمعنى «ألم تنظر إليهم» ‏{‏إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب‏}‏ حظاً من علم التوراة وهم أحبار اليهود ‏{‏يَشْتَرُونَ الضلالة‏}‏ يستبدلونها بالهدى وهوالبقاء على اليهودية بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه هو النبي العربي المبشر به في التوراة والإنجيل ‏{‏وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ‏}‏ أنتم أيها المؤمنون ‏{‏السبيل‏}‏ أي سبيل الحق كما ضلوه ‏{‏والله أَعْلَمُ‏}‏ منكم ‏{‏بِأَعْدَائِكُمْ‏}‏ وقد أخبركم بعداوة هؤلاء فاحذروهم ولا تستنصحوهم في أموركم ‏{‏وكفى بالله وَلِيّاً‏}‏ في النفع ‏{‏وكفى بالله نَصِيراً‏}‏ في الدفع فثقوا بولايته ونصرته دونهم، أو لا تبالوا بهم فإن الله ينصركم عليهم ويكفيكم مكرهم‏.‏

و «ولياً» و«نصيراً» منصوبان على التمييز أو على الحال‏.‏

‏{‏مّنَ الذين هَادُواْ‏}‏ بيان للذين أوتوا نصيباً من الكتاب، أو بيان لأعدائكم، وما بينهما اعتراض، أن يتعلق بقوله «نصيراً» أي ينصركم من الذين هادوا كقوله ‏{‏ونصرناه مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 77‏]‏ أو يتعلق بمحذوف تقديره‏:‏ من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم، فقوم مبتدأ و«يحرفون» صفة له، والخبر «من الذين هادوا»مقدم عليه، وحذف الموصوف وهو قوم وأقيم صفته، وهو ‏{‏يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مواضعه‏}‏ يميلونه عنها ويزيلونه لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلماً غيره فقد أمالوه عن مواضعه في التوراة التي وضعه الله تعالى فيها وأزالوه عنها مقامه وذلك نحو تحريفهم «أسمر ربعة» عن موضعه في التوراة بوضعهم «آدم طوال» مكانه‏.‏ ثم ذكر هنا «عن مواضعه» وفي المائدة ‏{‏مِن بَعْدِ مواضعه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏ فمعنى «عن مواضعه» على ما بينا من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه، ومعنى ‏{‏مِن بَعْدِ مواضعه‏}‏ أنه كانت له مواضع هو جدير بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره والمعنيان متقاربان ‏{‏وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا‏}‏ قولك ‏{‏وَعَصَيْنَا‏}‏ أمرك قيل أسرّوا به ‏{‏واسمع‏}‏ قولنا ‏{‏غَيْرَ مُسْمَعٍ‏}‏ حال من المخاطب أي اسمع وأنت غير مسمع وهو قول ذو وجهين يحتمل الذم أي اسمع منا مدعواً عليك بلا سمعت، لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع شيئاً فكان أصم غير مسمع، قالوا ذلك اتكالاً على أن قولهم «لا سمعت» دعوة مستجابة، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعوه إليه ومعناه غير مسمع جواباً يوافقك فكأنك لم تسمع شيئاً، أو إسمع غير مسمع كلاماً ترضاه فسمعك عنه ناب‏.‏ ويحتمل المدح أي اسمع غير مسمع مكروهاً من قولك «أسمع فلان فلاناً» إذا سبه‏.‏ وكذلك قوله ‏{‏وراعنا‏}‏ يحتمل راعنا نكلمك أي ارقبنا وانتظرنا، ويحتمل شبه كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها وهي «راعينا» فكانوا سخرية بالدين وهزؤوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام ‏{‏لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ‏}‏ فتلا بها وتحريفاً أي يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون «راعنا» موضع «انظرنا» و«غير مسمع» موضع «لا أسمعت مكروهاً»، أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً ‏{‏وَطَعْناً فِي الدين‏}‏ هو قولهم‏:‏ «لو كان نبياً حقاً لأخبر بما نعتقد فيه» ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏}‏ ولم يقولوا وعصينا ‏{‏واسمع‏}‏ ولم يلحقوا به غير مسمع ‏{‏وانظرنا‏}‏ مكان «راعنا» ‏{‏لَكَانَ‏}‏ قولهم ذاك ‏{‏خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ عند الله ‏{‏وَأَقْوَمَ‏}‏ وأعدل وأسد ‏{‏وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ‏}‏ طردهم وأبعدهم عن رحمته بسبب اختيارهم الكفر ‏{‏فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ منهم قد آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه، أو إلا إيماناً قليلاً ضعيفاً لا يعبأ به وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 62‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏47‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ‏(‏48‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏49‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ‏(‏50‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ‏(‏51‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ‏(‏52‏)‏ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ‏(‏53‏)‏ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ‏(‏54‏)‏ فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ‏(‏55‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏56‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ‏(‏57‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏58‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏59‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏60‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ‏(‏61‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

ولما لم يؤمنوا نزل ‏{‏يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا‏}‏ يعني القرآن ‏{‏مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ‏}‏ يعني التوراة ‏{‏مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً‏}‏ أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم ‏{‏فَنَرُدَّهَا على أدبارها‏}‏ فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها‏.‏ والفاء للتسبيب، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم تُوُعدوا بعقابين أحدهما عقيب الآخر، ردها على أدبارها بعد طمسها فالمعنى‏:‏ أن نطمس وجوهاً فننكس الوجوه إلى خلف والأقفاء إلى قدام‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالطمس القلب والتغيير كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة، وبالوجوه رؤوسهم ووجهاؤهم أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وإدبارهم ‏{‏أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت‏}‏ أي نخزيهم بالمسخ كما مسخنا أصحاب السبت‏.‏ والضمير يرجع إلى الوجوه إن أريد الوجهاء، أو إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات‏.‏ والوعيد كان معلقاً بأن لا يؤمن كلهم وقد آمن بعضهم فإن ابن سلام قد سمع الآية قافلاً من الشام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً قبل أن يأتي أهله وقال‏:‏ ما كنت أرى أن أصل إلى أهلي قبل أن يطمس الله وجهي‏.‏ أو أن الله تعالى أوعدهم بأحد الأمرين‏:‏ بطمس الوجوه أو بلعنهم، فإن كان الطمس تبدل أحوال رؤسائهم فقد كان أحد الأمرين، وإن كان غيره فقد حصل اللعن فإنهم ملعونون بكل لسان‏.‏ وقيل‏:‏ هو منتظر في اليهود ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ الله‏}‏ أي المأمور به وهو العذاب الذي أوعدوا به ‏{‏مَفْعُولاً‏}‏ كائناً لا محالة فلا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا‏.‏

‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ إن مات عليه ‏{‏وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ‏}‏ أي ما دون الشرك وإن كان كبيرة مع عدم التوبة، والحاصل أن الشرك مغفور عنه بالتوبة، وأن وعد غفران ما دونه لمن لم يتب أي لا يغفر لمن يشرك وهو مشرك ويغفر لمن يذنب وهو مذنب‏.‏ قال النبي عليه السلام «من لقي الله تعالى لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ولم تضره خطيئته» وتقييده بقوله ‏{‏لِمَن يَشَاءُ‏}‏ لا يخرجه عن عمومه كقوله‏:‏ ‏{‏الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 19‏]‏‏.‏ قال علي رضي الله عنه‏:‏ ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية‏.‏ وحمل المعتزلة على التائب باطل لأن الكفر مغفور عنه بالتوبة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏‏.‏ فما دونه أولى من أن يغفر بالتوبة‏.‏ والآية سيقت لبيان التفرقة بينهما وذا فيما ذكرنا ‏{‏وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً‏}‏ كذب كذباً عظيماً استحق به عذاباً أليماً‏.‏

ونزل فيمن زكى نفسه من اليهود والنصارى حيث قالوا‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏‏.‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ‏}‏ ويدخل فيها كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى ‏{‏بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَاءُ‏}‏ إعلام بأن تزكية الله هي التي يعتد بها لا تزكية غيره لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية ونحوه‏:‏ ‏{‏فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ أي الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكية أنفسهم حق جزائهم، أو من يشاء يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم ‏{‏فَتِيلاً‏}‏ قدر فتيل وهو ما يحدث بفتل الأصابع من الوسخ‏.‏ ‏{‏انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ‏}‏ في زعمهم أنهم عند الله أزكياءٌ ‏{‏وكفى بِهِ‏}‏ بزعمهم هذا ‏{‏إِثْماً مُّبِيناً‏}‏ من بين سائر آثامهم‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب‏}‏ يعني اليهود ‏{‏يُؤْمِنُونَ بالجبت‏}‏ أي الأصنام وكل ما عبدوه من دون الله ‏{‏والطاغوت‏}‏ الشيطان ‏{‏وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هؤلاء أهدى مِنَ الذين ءَامَنُواْ سَبِيلاً‏}‏ وذلك أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشاً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ أنتم أهل الكتاب وأنتم إلى محمد أقرب منا وهو أقرب منكم إلينا فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا، فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس عليه اللعنة فيما فعلوا‏.‏ فقال أبو سفيان‏:‏ أنحن أهدى سبيلاً أم محمد‏؟‏ فقال كعب‏:‏ أنتم أهدى سبيلاً‏.‏ ‏{‏أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله‏}‏ أبعدهم من رحمته ‏{‏وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً‏}‏ يعتد بنصره‏.‏ ثم وصف اليهود بالبخل والحسد وهما من شر الخصال، يمنعون ما لهم ويتمنون ما لغيرهم فقال ‏{‏أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك‏}‏ ف «أم» منقطعة ومعنى الهمزة الإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك ‏{‏فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً‏}‏ أي لو كان لهم نصيب من الملك أي ملك أهل الدينا أو ملك الله فإذا لا يؤتون أحداً مقدار نقير لفرط بخلهم، والنقير‏:‏ النقرة في ظهر النواة وهو مثل في القلة كالفتيل‏.‏

‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ الناس عَلَى مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على إنكار الحسد واستقباحه، وكانوا يحسدونهم على ما آتاهم الله من النصرة والغلبة وازدياد العز والتقدم كل يوم ‏{‏فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءالَ إبراهيم الكتاب‏}‏ أي التوراة ‏{‏والحكمة‏}‏ الموعظة والفقه ‏{‏وءتيناهم مُّلْكاً عَظِيماً‏}‏ يعني ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام، وهذا إلزام لهم بما عرفوه من إيتاء الله الكتاب والحكمة آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد عليه السلام، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما أوتي أسلافه ‏{‏فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ بِهِ‏}‏ فمن اليهود من آمن بما ذكر من حديث آل إبراهيم ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ‏}‏ وأنكره مع علمه بصحته، أو من اليهود من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من أنكر نبوته وأعرض عنه ‏{‏وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً‏}‏ للصادين‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ بئاياتنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ‏}‏ ندخلهم ‏{‏نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ‏}‏ أحرقت ‏{‏بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا‏}‏ أعدنا تلك الجلود غير محترقة، فالتبديل والتغيير لتغاير الهيئتين لا لتغاير الأصلين عند أهل الحق خلافاً للكرامية‏.‏ وعن فضيل‏:‏ يجعل النضيج غير نضيج ‏{‏لِيَذُوقُواْ العذاب‏}‏ ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز‏:‏ «أعزك الله» أي أدامك على عزك ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً‏}‏ غالباً بالانتقام لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين ‏{‏حَكِيماً‏}‏ فيما يفعل بالكافرين ‏{‏والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ‏}‏ من الأنجاس والحيض والنفاس ‏{‏وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً‏}‏ هو صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه كما يقال‏:‏ «ليل أليل» وهو ماكان طويلاً فيناناً لا وجوب فيه ودائماً لا تنسخه الشمس وسجسجاً لا حر فيه ولا برد، وليس ذلك إلا ظل الجنة‏.‏

ثم خاطب الولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل بقوله‏:‏

‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ وقيل‏:‏ قد دخل في هذا الأمر أداء الفرائض التي هي أمانة الله تعالى التي حملها الإنسان، وحفظ الحواس التي هي ودائع الله تعالى ‏{‏وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس‏}‏ قضيتم ‏{‏أَن تَحْكُمُواْ بالعدل‏}‏ بالسوية والإنصاف‏.‏ وقيل‏:‏ إن عثمان بن طلحة بن عبد الدار كان سادن الكعبة وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه مفتاح الكعبة، فلما نزلت الآية أمر علياً رضي الله عنه بأن يرده إليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لقد أنزل الله في شأنك قرآناً ‏"‏ وقرأ عليه الآية فأسلم عثمان فهبط جبريل عليه السلام وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السدانة في أولاد عثمان أبداً ‏{‏إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ‏}‏ «ما» نكرة منصوبة موصوفة ب «يعظكم به» كأنه قيل‏:‏ نعم شيئاً يعظكم به، أو موصولة مرفوعة المحل صلتها ما بعدها أي نعم الشيء الذي يعظكم به‏.‏ والمخصوص بالمدح محذوف أي نعّما يعظكم به ذلك وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكم‏.‏ وبكسر النون وسكون العين‏:‏ مدني وأبو عمرو، وبفتح النون وكسر العين‏:‏ شامي وحمزة وعلي‏.‏

‏{‏إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً‏}‏ لأقوالكم ‏{‏بَصِيراً‏}‏ بأعمالكم‏.‏

ولما أمر الولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل أمر الناس بأن يطيعوهم بقوله ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ‏}‏ أي الولاة أو العلماء لأن أمرهم ينفذ على الأمر ‏{‏فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ‏}‏ فإن اختلفتم أنتم وأولو الأمر في شيء من أمور الدين ‏{‏فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول‏}‏ أي ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة ‏{‏إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر‏}‏ أي إن الإيمان يوجب الطاعة دون العصيان، ودلت الآية على أن طاعة الأمراء واجبة إذا وافقوا الحق فإذا خالفوه فلا طاعة لهم لقوله عليه السلام ‏"‏ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ‏"‏‏.‏ وحكي أن مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال لأبي حازم‏:‏ ألستم أمرتم بطاعتنا بقوله‏:‏ و«أولي الأمر منكم»‏؟‏ فقال أبو حازم‏:‏ أليس قد نزعت الطاعة عنكم إذا خالفتم الحق‏.‏ بقوله «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله» أي القرآن و«الرسول» في حياته وإلى أحاديثه بعد وفاته ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الرد أي الرد إلى الكتاب والسنة ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ عاجلاً ‏{‏وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ عاقبة كان بين بشر المنافق ويهودي خصومة، فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه أنه لا يرتشي ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ليرشوه، فاحتكما إلى النبي عليه السلام فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال‏:‏ تعال نتحاكم إلى عمر‏.‏ فقال اليهودي لعمر رضي الله عنه‏:‏ قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه‏.‏ فقال عمر للمنافق‏:‏ أكذلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقال عمر‏:‏ مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فأخذ سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق فقال‏:‏ هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله فنزل‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ وقال جبريل عليه السلام‏:‏ إن عمر فرق بين الحق والباطل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أنت الفاروق ‏"‏ ‏{‏يُرِيدُونَ‏}‏ حال من الضمير في«يزعمون» ‏{‏أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت‏}‏ أي كعب بن الأشرف سماه الله طاغوتاً لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول الله عليه السلام، أو على التشبيه بالشيطان، أو جعل اختيار التحاكم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم على التحاكم إليه تحاكماً إلى الشيطان بدليل قوله ‏{‏وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ‏}‏ عن الحق ‏{‏ضلالا بَعِيداً‏}‏ مستمراً إلى الموت ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ‏}‏ للمنافقين ‏{‏تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول‏}‏ للتحاكم ‏{‏رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً‏}‏ يعرضون عنك إلى غيرك ليغروه بالرشوة فيقضي لهم ‏{‏فَكَيْفَ‏}‏ تكون حالهم وكيف يصنعون ‏{‏إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ‏}‏ من قتل عمر بشرا ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ من التحاكم إلى غيرك واتهامهم لك في الحكم ‏{‏ثُمَّ جَاءُوكَ‏}‏ أي أصحاب القتيل من المنافقين ‏{‏يَحْلِفُونَ بالله‏}‏ حال ‏{‏إِنْ أَرَدْنَا‏}‏ ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك ‏{‏إِلاَّ إِحْسَاناً‏}‏ لا إساءة ‏{‏وَتَوْفِيقاً‏}‏ بين الخصمين ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطاً لحكمك، وهذا وعيد لهم على فعلهم وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم ولا يغني عنهم الاعتذار‏.‏

وقيل‏:‏ جاء أولياء المنافق يطلبون بدمه وقد أهدره الله فقالوا‏:‏ ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا بحكومة العدل والتوفيق بينه وبين خصمه، وما خطر ببالنا أنه يحكم له بما حكم به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 76‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ‏(‏63‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ‏(‏64‏)‏ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏65‏)‏ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ‏(‏66‏)‏ وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏67‏)‏ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏68‏)‏ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ‏(‏69‏)‏ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ‏(‏70‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ‏(‏71‏)‏ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ‏(‏72‏)‏ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏73‏)‏ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏74‏)‏ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏أُولَئِكَ الذين يَعْلَمُ الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ من النفاق‏.‏ ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً‏}‏ فأعرض عن قبول الأعذار وعظ بالزجر والإنكار وبالغ في وعظهم بالتخويف والإنذار، أو أعرض عن عقابهم وعظهم في عتابهم وبلغ كنه ما في ضميرك من الوعظ بارتكابهم‏.‏ والبلاغة أن يبلغ بلسانه كنه ما في جنانه‏.‏ و«في أنفسهم» يتعلق ب «قل لهم» أي قل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولاً بليغاً منهم ويؤثر فيهم‏.‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ‏}‏ أي رسولاً قط ‏{‏إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله‏}‏ بتوفيقه في طاعته وتيسيره، أو بسبب إذن الله في طاعته وبأنه أمر المبعوث إليهم بأن يطيعوه لأنه مؤد عن الله فطاعته طاعة الله ‏{‏وَمَن يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ بالتحاكم إلى الطاغوت ‏{‏جَاءُوكَ‏}‏ تائبين من النفاق معتذرين عما ارتكبوا من الشقاق ‏{‏فاستغفروا الله‏}‏ من النفاق والشقاق ‏{‏واستغفر لَهُمُ الرسول‏}‏ بالشفاعة لهم‏.‏ والعامل في «إذ ظلموا» خبر «أنّ» وهو «جاؤوك» والمعنى‏:‏ ولو وقع مجيئهم في وقت ظلمهم مع استغفارهم واستغفار الرسول ‏{‏لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً‏}‏ لعلموه تواباً أي لتاب عليهم‏.‏ ولم يقل «واستغفرت لهم» وعدل عنه إلى طريقة الالتفات تفخيماً لشأنه صلى الله عليه وسلم وتعظيماً لاستغفاره وتنبيهاً على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان ‏{‏رَّحِيماً‏}‏ بهم‏.‏ قيل‏:‏ جاء أعرابي بعد دفنه عليه السلام فرمى بنفسه على قبره وحثا من ترابه على رأسه وقال‏:‏ يا رسول الله، قلت فسمعنا وكان فيما أنزل عليك‏:‏ «ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم» الآية‏.‏ وقد ظلمت نفسي وجئتك أستغفر الله من ذنبي فاستغفر لي من ربي، فنودي من قبره قد غفر لك‏.‏

‏{‏فَلاَ وَرَبّكَ‏}‏ أي فوربك كقوله ‏{‏فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 92‏]‏ «ولا» مزيدة لتأكيد معنى القسم وجواب القسم ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أو التقدير‏:‏ فلا أي ليس الأمر كما يقولون ثم قال «وربك لا يؤمنون» ‏{‏حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ‏}‏ فيما اختلف بينهم واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه ‏{‏ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً‏}‏ ضيقاً ‏{‏مّمَّا قَضَيْتَ‏}‏ أي لا تضيق صدورهم من حكمك أو شكًّا، لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له اليقين ‏{‏وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً‏}‏ وينقادوا لقضائك انقياداً وحقيقته‏.‏ سلم نفسه له وأسلمها أي جعلها سالمة له أي خاصة‏.‏ وتسليماً مصدر مؤكد للفعل بمنزلة تكريره كأنه قيل‏:‏ وينقادوا لحكمك انقياداً لا شبهة فيه بظاهرهم وباطنهم، والمعنى لا يكونون مؤمنين حتى يرضوا بحكمك وقضائك ‏{‏وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ‏}‏ على المنافقين أي ولو وقع كتبنا عليهم ‏{‏أَنِ اقتلوا‏}‏ «أن» هي المفسرة ‏{‏أَنفُسَكُمْ‏}‏ أي تعرضوا للقتل بالجهاد‏.‏

أو ولو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم ‏{‏أَوِ اخرجوا مِن دياركم‏}‏ بالهجرة ‏{‏مَّا فَعَلُوهُ‏}‏ لنفاقهم‏.‏ والهاء ضمير أحد مصدري الفعلين وهو القتل أو الخروج أو ضمير المكتوب لدلالة كتبنا «عليه» ‏{‏إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ‏}‏ «قليلاً»‏:‏ شامي على الاستثناء والرفع على البدل من واو «فعلوه» ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ‏}‏ من اتباع رسول الله عليه السلام والانقياد لحكمه ‏{‏لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ في الدارين ‏{‏وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً‏}‏ لإيمانهم وأبعد عن الاضطراب فيه ‏{‏وَإِذَاً‏}‏ جواب لسؤال مقدر كأنه قيل‏:‏ وماذا يكون لهم بعد التثبيت‏؟‏ فقيل‏:‏ وإذا لو ثبتوا ‏{‏لاتيناهم مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً‏}‏ أي ثواباً كثيراً لا ينقطع‏.‏

‏{‏ولهديناهم صراطا‏}‏ مفعول ثانٍ ‏{‏مُّسْتَقِيماً‏}‏ أي لثبتناهم على الدين الحق ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله والرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين‏}‏ كأفاضل صحابة الأنبياء‏.‏ والصديق‏:‏ المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة وباطنه بالمراقبة، أو الذي يصدق قوله بفعله ‏{‏والشهداء‏}‏ والذين استشهدوا في سبيل الله ‏{‏والصالحين‏}‏ ومن صلحت أحوالهم وحسنت أعمالهم ‏{‏وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً‏}‏ أي وما أحسن أولئك رفيقاً وهو كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه ‏{‏ذلك‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏الفضل مِنَ الله‏}‏ أو«الفضل» صفته و«من الله» خبره والمعنى‏:‏ أن ما أعطى المطيعون من الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الله لأنه تفضل به عليهم، أو أراد أن فضل المنعم عليهم ومزيتهم من الله‏.‏ ‏{‏وكفى بالله عَلِيماً‏}‏ بِعِبَادِهِ وَبِمَن هُوَ أَهْلُ الفضل ودلت الآية على أن ما يفعل الله بعباده فهو فضل منه بخلاف ما يقوله المعتزلة ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ‏}‏ الحذر والحذر بمعنى وهو التحرز وهما كالإثر والأثر‏.‏ يقال‏:‏ أخذ حذره إذا تيقظ، واحترز من المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه، والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ‏{‏فانفروا ثُبَاتٍ‏}‏ فاخرجوا إلى العدو جماعات متفرقة سرية بعد سرية، فالثباب الجماعات واحدها ثبة‏.‏ ‏{‏أَوِ انفروا جَمِيعاً‏}‏ أي مجتمعين أو مع النبي عليه السلام، لأن الجمع بدون السمع لا يتم، والعقد بدون الواسطة لا ينتظم‏.‏ أو انفروا ثباتٍ إذا لم يعم النفير، أو انفروا جميعاً إذا عم النفير‏.‏ وثبات «حال» وكذا «جميعاً»‏.‏ واللام في ‏{‏وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن‏}‏ للابتداء بمنزلتها في ‏{‏إِنَّ الله لَغَفُورٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 18‏]‏ و«من» موصولة‏.‏ وفي ‏{‏لَّيُبَطّئَنَّ‏}‏ جواب قسم محذوف تقديره‏:‏ وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن والقسم وجوابه صلة من، والضمير الراجع منها إليه ما استكنّ في ‏{‏لَّيُبَطّئَنَّ‏}‏ أي ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد، وبطؤ بمعنى أبطأ أي تأخر ويقال‏:‏ «ما بطؤ بك» فيتعدى بالباء‏.‏

والخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله «منكم»أي في الظاهر دون الباطن يعني المنافقين يقولون لم تقتلون أنفسكم تأنوا حتى يظهر الأمر ‏{‏فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ‏}‏ قتل أو هزيمة ‏{‏قَالَ‏}‏ المبطئ ‏{‏قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً‏}‏ «حاضر» فيصيبني مثل ما أصابهم ‏{‏وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ مِنَ الله‏}‏ فتح أو غنيمة ‏{‏لَّيَقُولَنَّ‏}‏ هذا المبطئ متلهفاً على ما فاته من الغنمية لا طلباً للمثوبة ‏{‏كَأنَ‏}‏ مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي كأنه ‏{‏لََّمْ تَكُنْ‏}‏ وبالتاء مكي وحفص ‏{‏بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ‏}‏ وهي اعتراض بين الفعل وهو«ليقولن» وبين مفعوله وهو ‏{‏ياليتنى كُنتُ مَعَهُمْ‏}‏ والمعنى‏:‏ كأن لم يتقدم له معكم موادة لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين في الظاهر وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن ‏{‏فَأَفُوزَ‏}‏ بالنصب لأنه جواب التمني ‏{‏فَوْزاً عَظِيماً‏}‏ فآخذ من الغنيمة حظاً وافراً‏.‏

‏{‏فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ‏}‏ يبيعون ‏{‏الحياة الدنيا بالأخرة‏}‏ والمراد المؤمنون الذين يستحبون الحياة الآجلة على العاجلة ويستبدلونها بها، أي إن صد الذين مرضت قلوبهم وضعفت نياتهم عن القتال فليقاتل الثابتون المخلصون أو يشترون، والمراد المنافقون الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة، وعطفوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويخلصوا الإيمان بالله ورسوله ويجاهدوا في سبيل الله حق جهاده ‏{‏وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ وعد الله المقاتل في سبيل الله ظافراً أو مظفوراً به إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين الله‏.‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ‏}‏ مبتدأ وخبر، وهذا الاستفهام في النفي للتنبيه على الاستبطاء، وفي الإثبات للإنكار ‏{‏لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله‏}‏ حال والعامل فيها الاستقرار كما تقول «مالك قائماً» والمعنى وأي شيء لكم تاركين القتال وقد ظهرت دواعيه ‏{‏والمستضعفين‏}‏ مجرور بالعطف «على سبيل الله» أي في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين، أو منصوب على الاختصاص منه أي واختص من سبيل الله خلاص المستضعَفين من المستضعِفين، لأن سبيل الله عام في كل خير، وخلاص المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه‏.‏ والمستضعفون هم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد ‏{‏مِنَ الرجال والنساء والولدان‏}‏ ذكر الولدان تسجيلاً بإفراط ظلمهم حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين إرغاماً لآبائهم وأمهاتهم، ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالاً لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا كما فعل قوم يونس عليه السلام‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان ‏{‏الذين يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية‏}‏ يعني مكة ‏{‏الظالم أَهْلُهَا‏}‏ «الظالم» وصف للقرية إلا أنه مسند إلى أهلها فأعطي إعراب القرية لأنه صفتها وذكر لإسناده إلى الأهل كما تقول «من هذه القرية التي ظلم أهلها» ‏{‏واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً‏}‏ يتولى أمرنا ويستنقذنا من أعدائنا ‏{‏واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً‏}‏ ينصرنا عليهم‏.‏

كانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل الله لهم من لدنه خير ولي وناصر وهو محمد عليه السلام، فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أقوى النصر‏.‏ ولما خرج محمد صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد فرأوا منه الولاية والنصرة كما أرادوا‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كان ينصر الضعيف من القوي حتى كانوا أعز بها من الظلمة

ثم رغب الله المؤمنين بأنهم يقاتلون في سبيل الله فهو وليهم وناصرهم، وأعداؤهم يقاتلون في سبيل الشيطان فلا ولي لهم إلا الشيطان بقوله ‏{‏الذين ءامَنُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الله والذين كَفَرُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الطاغوت‏}‏ أي الشيطان ‏{‏فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان‏}‏ أي الكفار ‏{‏إِنَّ كَيْدَ الشيطان‏}‏ أي وساوسه‏.‏ وقيل‏:‏ الكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال ‏{‏كَانَ ضَعِيفاً‏}‏ لأنه غرور لا يؤول إلى محصول، أو كيده في مقابلة نصر الله ضعيف‏.‏ كان المسلمون مكفوفين عن القتال مع الكفار ما داموا بمكة وكانوا يتمنون أن يؤذن لهم فيه فنزل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 84‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏77‏)‏ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ‏(‏78‏)‏ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏79‏)‏ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ‏(‏80‏)‏ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏81‏)‏ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏83‏)‏ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ‏}‏ أي عن القتال ‏{‏وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكواة فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال‏}‏ أي فرض بالمدينة ‏{‏إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله‏}‏ يخافون أن يقاتلهم الكفار كما يخافون أن ينزل الله عليهم بأسه، لا شكاً في الدين ولا رغبة عنه ولكن نفوراً عن الإخطار بالأرواح وخوفاً من الموت‏.‏ قال الشيخ أبو منصور رحمه الله‏:‏ هذه خشية طبع لا أن ذلك منهم كراهة لحكم الله وأمره اعتقاداً، فالمرء مجبول على كراهة مافيه خوف هلاكه غالباً، وخشية الله من إضافة المصدر إلى المفعول ومحله النصب على الحال من الضمير في «يخشون» أي يخشون الناس مثل خشية أهل الله أي مشبهين لأهل خشية الله ‏{‏أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً‏}‏ هو معطوف على الحال أي أو أشد خشية من أهل خشية الله وأو للتخيير أي إن قلت؛ خشيتهم الناس كخشية الله فأنت مصيب، وإن قلت‏:‏ إنها أشد فأنت مصيب لأنه حصل لهم مثلها وزيادة‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏ هلا أمهلتنا إلى الموت فنموت على الفرش، وهو سؤال عن وجه الحكمة في فرض القتال عليهم لا اعتراض لحكمه بدليل أنهم لم يوبخوا على هذا السؤال بل أجيبوا بقوله ‏{‏قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ والأخرة خَيْرٌ لّمَنِ اتقى‏}‏ متاع الدنيا قليل زائل ومتاع الآخرة كثير دائم، والكثير إذا كان على شرف الزوال فهو قليل فكيف القليل الزائل‏!‏ ‏{‏وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً‏}‏ ولا تنقصون أدنى شيء من أجوركم على مشاق القتل فلا ترغبوا عنه‏.‏ وبالياء‏:‏ مكي وحمزة وعلي‏.‏ ثم أخبر أن الحذر لا ينجي من القدر بقوله‏:‏

‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت‏}‏ «ما» زائدة لتوكيد معنى الشرط في «أين» ‏{‏وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ‏}‏ حصون أو قصور ‏{‏مُّشَيَّدَةٍ‏}‏ مرفعة ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ‏}‏ نعمة من خصب ورخاء ‏{‏يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله‏}‏ نسبوها إلى الله ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ‏}‏ بلية من قحط وشدة ‏{‏يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ‏}‏ أضافوها إليك وقالوا‏.‏ هذه من عندك وما كانت إلا بشؤمك، وذلك أن المنافقين واليهود كانوا إذا أصابهم خير حمدوا الله تعالى، وإذا أصابهم مكروه نسبوه إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكذبهم الله تعالى بقوله ‏{‏قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله‏}‏ والمضاف إليه محذوف أي كل ذلك فهو يبسط الأرزاق ويقبضها ‏{‏فَمَالِ هَؤُلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ‏}‏ يفهمون ‏{‏حَدِيثاً‏}‏ فيعلمون أن الله هو الباسط القابض وكل ذلك صادر عن حكمة‏.‏ ثم قال ‏{‏مَا أَصَابَكَ‏}‏ يا إنسان خطاباً عاماً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المخاطب به النبي عليه السلام والمراد غيره ‏{‏مِنْ حَسَنَةٍ‏}‏ من نعمة وإحسان ‏{‏فَمِنَ الله‏}‏ تفضلاً منه وامتناناً ‏{‏وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ‏}‏ من بلية ومصيبة ‏{‏فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ فمن عندك أي فبما كسبت يداك‏.‏

‏{‏وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فِيمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏‏.‏ ‏{‏وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً‏}‏ لا مقدراً حتى نسبوا إليك الشدة، أو أرسلناك للناس رسولاً فإليك تبليغ الرسالة وليس إليك الحسنة والسيئة ‏{‏وكفى بالله شَهِيداً‏}‏ بأنك رسوله، وقيل‏:‏ هذا متصل بالأول أي يكادون يفقهون حديثاً يقولون ما أصابك‏.‏ وحمل المعتزلة الحسنة والسيئة في الآية الثانية على الطاعة والمعصية تعسف بيّن وقد نادى عليه ما أصابك إذ يقال في الأفعال «ما أصبت» ولأنهم لا يقولون الحسنات من الله خلقاً وإيجاداً فأنى يكون لهم حجة في ذلك‏؟‏ «وشهيداً» تمييز‏.‏

‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله‏}‏ لأنه لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر الله به ونهى عنه، فكانت طاعته في أوامره ونواهيه طاعة لله ‏{‏وَمَن تولى‏}‏ عن الطاعة فأعرض عنه ‏{‏فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً‏}‏ تحفط عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم‏.‏

‏{‏وَيَقُولُونَ‏}‏ ويقول المنافقون إذا أمرتهم بشيء ‏{‏طَاعَةٌ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي أمرنا وشأننا طاعة ‏{‏فَإِذَا بَرَزُواْ‏}‏ خرجوا ‏{‏مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ‏}‏ زور وسوّى فهو من البيتوتة لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل، أو من أبيات الشعر لأن الشاعر يدبرها ويسويها‏.‏ وبالإدغام‏:‏ حمزة وأبو عمرو‏.‏ ‏{‏غَيْرَ الذى تَقُولُ‏}‏ خلاف ما قلت وما أمرت به أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة، لأنهم أبطنوا الرد لا القبول والعصيان لا الطاعة وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون‏.‏ ‏{‏والله يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ‏}‏ يثبته في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ ولا تحدث نفسك بالانتقام منهم ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ في شأنهم فإن الله يكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم إذا قوي أمر الإسلام ‏{‏وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏ كافياً لمن توكل عليه ‏{‏أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان‏}‏ أفلا يتأملون معانيه ومبانيه‏.‏ والتدبر‏:‏ التأمل والنظر في أدبار الأمر وما يؤول إليه في عاقبته ثم استعمل في كل تأمل‏.‏ والتفكر‏:‏ تصرف القلب بالنظر في الدلائل وهذا يرد قول من زعم من الروافض أن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم والإمام المعصوم، ويدل على صحة القياس وعلى بطلان التقليد‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله‏}‏ كما زعم الكفار ‏{‏لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً‏}‏ أي تناقضاً من حيث التوحيد والتشريك والتحليل والتحريم، أو تفاوتاً من حيث البلاغة فكان بعضه بالغاً حد الإعجاز وبعضه قاصراً عنه يمكن معارضته، أو من حيث المعاني فكان بعضه إخباراً بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخباراً مخالفاً للمخبر عنه، وبعضه دالاً على معنى صحيح عند علماء المعاني، وبعضه دالاً على معنى فاسد غير ملتئم‏.‏

وأما تعلق الملحدة بآيات يدعون فيها اختلافاً كثيراً من نحو قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 107‏]‏ ‏{‏كَأَنَّهَا جَانٌّ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 10‏]‏ ‏{‏فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 92‏]‏‏.‏ ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 39‏]‏‏.‏ فقد تفصى عنها أهل الحق وستجدها مشروحة في كتابنا هذا في مظانها إن شاء الله تعالى‏:‏

‏{‏وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف‏}‏ هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم يكن فيهم خبرة بالأحوال، أو المنافقون كانوا إذا بلغهم خبر من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمن وسلامة أو خوف وخلل ‏{‏أَذَاعُواْ بِهِ‏}‏ أفشوه وكانت إذاعتهم مفسدة‏.‏ يقال‏:‏ أذاع السرع وأذاع به، والضمير يعود إلى الأمر أو إلى الأمن أو الخوف لأن «أو» تقتضي أحدهما ‏{‏وَلَوْ رَدُّوهُ‏}‏ أي ذلك الخبر ‏{‏إِلَى الرسول‏}‏ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ‏}‏ يعني كبراء الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمِّرون منهم ‏{‏لَعَلِمَهُ‏}‏ لعلم تدبير ما أخبروا به ‏{‏الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ‏}‏ يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكائدها، وقيل‏:‏ كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار فيذيعونه فينتشر فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا، لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه‏.‏ والنَبط‏:‏ الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر، واستنباطه استخراجه فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ بإرسال الرسول ‏{‏وَرَحْمَتُهُ‏}‏ بإنزال الكتاب ‏{‏لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان‏}‏ لبقيتم على الكفر ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ لم يتبعوه ولكن آمنوا بالعقل كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وغيرهما‏.‏

لما ذكر في الآي قبلها تثبطهم عن القتال وإظهارهم الطاعة وإضمارهم خلافها قال ‏{‏فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ إن أفردوك وتركوك وحدك ‏{‏لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ‏}‏ غير نفسك وحدها أن تقدمها إلى الجهاد فإن الله تعالى ناصرك لا الجنود، وقيل‏:‏ دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج وكان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت، فخرج وما معه إلا سبعون ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده ‏{‏وَحَرّضِ المؤمنين‏}‏ وما عليك في شأنهم إلا التحريض على القتال فحسب لا التعنيف بهم ‏{‏عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي بطشهم وشدتهم وهم قريش وقد كف بأسهم بالرعب فلم يخرجوا‏.‏ و«عسى» كلمة مطمعة غير أن أطماع الكريم أعود من إنجاز اللئيم ‏{‏والله أَشَدُّ بَأْساً‏}‏ من قريش ‏{‏وَأَشَدُّ تَنكِيلاً‏}‏ تعذيباً وهو تمييز ك«بأساً»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 90‏]‏

‏{‏مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ‏(‏86‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ‏(‏87‏)‏ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏88‏)‏ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏89‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً‏}‏ هي الشفاعة في دفع شر أو جلب نفع من جوازها شرعاً ‏{‏يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا‏}‏ من ثواب الشفاعة ‏{‏وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً‏}‏ هي خلاف الشفاعة الحسنة‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ما لها مفسر غيري معناه من أمر بالتوحيد وقاتل أهل الكفر وضده السيئة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو المشي بالصلح وضده النميمة ‏{‏يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا‏}‏ نصيب ‏{‏وَكَانَ الله على كُلّ شَيْءٍ مُّقِيتاً‏}‏ مقتدراً من أقات على الشيء اقتدر عليه، أو حفيظاً من القوت لأنه يمسك النفس ويحفظها‏.‏

‏{‏وَإِذَا حُيّيتُم‏}‏ أي سلم عليكم فإن التحية في ديننا بالسلام في الدارين ‏{‏فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏‏.‏ ‏{‏تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وكانت العرب تقول عند اللقاء‏:‏ حياك الله أي أطال الله حياتك فأبدل ذلك بعد الإسلام بالسلام ‏{‏بِتَحِيَّةٍ‏}‏ هي تفعله من حيّا يحيّي تحية ‏{‏فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا‏}‏ أي قولوا‏:‏ وعليكم السلام ورحمة الله إذا قال السلام عليكم‏.‏ وزيدوا «وبركاته» إذا قال «ورحمة الله»‏.‏ ويقال لكل شيء منتهى ومنتهى السلام «وبركاته»‏.‏ ‏{‏أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ أي أجيبوها بمثلها، ورد السلام جوابه بمثله لأن المجيب يرد قول المسلّم، وفيه حذف مضاف أي ردوا مثلها‏.‏ والتسليم سنة والرد فريضة والأحسن فضل‏.‏ وما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلا نزع عنهم روح القدس وردت عليه الملائكة‏.‏ ولا يرد السلام في الخطبة وقراءة القرآن جهراً ورواية الحديث وعند مذاكرة العلم والأذان والإقامة‏.‏ وعند أبي يوسف رحمه الله‏:‏ لا يسلم على لاعب الشطرنج والنرد والمغني والقاعد لحاجته ومطير الحمام والعاري من غير عذر في حمام أو غيره‏.‏ ويسلم الرجل إذا دخل على امرأته، والماشي على القاعد، والراكب على الماشي، وراكب الفرس على راكب الحمار، والصغير على الكبير، والأقل على الأكثر، وإذا التقيا ابتدرا‏.‏ وقيل‏:‏ «بأحسن منها» لأهل الملة «أو ردوها» لأهل الذمة‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم ‏"‏ أي وعليكم ما قلتم لأنهم كانوا يقولون «السام عليكم»‏.‏ وقوله عليه السلام ‏"‏ لاغرار في تسليم ‏"‏ أي لا يقال «عليك» بل «عليكم» لأن كاتبيه معه ‏{‏إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَيْءٍ حَسِيباً‏}‏ أي يحاسبكم على كل شيء من التحية وغيرها‏.‏

‏{‏الله‏}‏ مبتدأ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ خبره أو اعتراض والخبر ‏{‏لَيَجْمَعَنَّكُمْ‏}‏ ومعناه‏:‏ الله والله ليجمعنكم ‏{‏إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ أي ليحشرنكم إليه‏.‏ والقيامة القيام كالطلابة والطلاب وهي قيامهم من القبور، أو قيامهم للحساب ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 6‏]‏ ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ هو حال من يوم القيامة والهاء يعود إلى اليوم، أو صفة لمصدر محذوف أي جمعاً لا ريب فيه، والهاء يعود إلى الجمع ‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً‏}‏ تمييز وهو استفهام بمعنى النفي أي لا أحد أصدق منه في إخباره ووعده ووعيده لاستحالة الكذب عليه لقبحه لكونه إخباراً عن الشيء بخلاف ما هو عليه‏.‏

‏{‏فما لكم‏}‏ مبتدأ وخبر ‏{‏فِي المنافقين فِئَتَيْنِ‏}‏ أي مالكم اختلفتم في شأن قوم قد نافقوا نفاقاً ظاهراً وتفرقتم فيهم فرقتين، وما لكم لم تقطعوا القول بكفرهم‏؟‏ وذلك أن قوماً من المنافقين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو معتلين باجتواء المدينة، فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين‏.‏ فاختلف المسلمون فيهم فقال بعضهم‏:‏ هم كفار، وقال بعضهم‏:‏ هم مسلمون‏.‏ و«فئتين» حال كقولك «مالك قائماً»، قال سيبويه‏:‏ إذا قلت «مالك قائماً» فمعناه لم قمت‏؟‏ ونصبه على تأويل أي شيء يستقر لك في هذه الحال‏؟‏ ‏{‏والله أَرْكَسَهُمْ‏}‏ ردهم إلى حكم الكفار ‏{‏بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ من ارتدادهم ولحوقهم بالمشركين فردوهم أيضاً ولا تختلفوا في كفرهم ‏{‏أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ‏}‏ أن تجعلوا من جملة المهتدين ‏{‏مَنْ أَضَلَّ الله‏}‏ من جعله الله ضالاً، أو أتريدون أن تسموهم مهتدين وقد أظهر الله ضلالهم فيكون تعييراً لمن سماهم مهتدين‏.‏ والآية تدل على مذهبنا في إثبات الكسب للعبد والخلق للرب جلت قدرته ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً‏}‏ طريقاً إلى الهداية‏.‏

‏{‏وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ‏}‏ الكاف نعت لمصدر محذوف و«ما» مصدرية أي ودوا لو تكفرون كفراً مثل كفرهم ‏{‏فَتَكُونُونَ‏}‏ عطف على «تكفرون» «سَوَآء» أي مستوين أنتم وهم في الكفر ‏{‏فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حتى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ فلا توالوهم حتى يؤمنوا لأن الهجرة في سبيل الله بالإسلام ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ عن الإيمان ‏{‏فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ كما كان حكم سائر المشركين ‏{‏وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً‏}‏ وإن بذلوا لكم الولاية والنصرة فلا تقبلوا منهم ‏{‏إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ‏}‏ أي ينتهون إليهم ويتصلون بهم‏.‏ والاستثناء من قوله ‏{‏فَخُذُوهُمْ واقتلوهم‏}‏ دون الموالاة ‏{‏بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق‏}‏ القوم هم الأسلميون كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، وذلك أنه وادع قبل خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه، وعلى أن من وصل إلى هلال والتجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال، أي فاقتلوهم إلا من اتصل بقوم بينكم وبينهم ميثاق ‏{‏أَوْ جَآءُوكُمْ‏}‏ عطف على صفة «قوم» أي إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين، أو قوم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم أو على صفة الذين أي إلا الذين يتصلون بالمعاهدين، أو الذين لا يقاتلونكم ‏{‏حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ‏}‏ حال بإضمار «قد»‏.‏ والحصر‏:‏ الضيق والانقباض ‏{‏أن يقاتلوكم‏}‏ عن أن يقاتلوكم أي عن قتالكم ‏{‏أَوْ يقاتلوا قَوْمَهُمْ‏}‏ معكم ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ‏}‏ بتقوية قلوبهم وإزالة الحصر عنها ‏{‏فلقاتلوكم‏}‏ عطف على ‏{‏لَسَلَّطَهُمْ‏}‏ ودخول اللام للتأكيد ‏{‏فَإِنِ اعتزلوكم‏}‏ فإن لم يتعرضوا لكم ‏{‏فَلَمْ يقاتلوكم وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم‏}‏ أي الانقياد والاستسلام ‏{‏فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً‏}‏ طريقاً إلى القتال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 99‏]‏

‏{‏سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏91‏)‏ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏92‏)‏ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ‏(‏93‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏94‏)‏ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏95‏)‏ دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏96‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏97‏)‏ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ‏(‏98‏)‏ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏سَتَجِدُونَ ءاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ‏}‏ بالنفاق ‏{‏وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ‏}‏ بالوفاق هم قوم من أسد وغطفان، كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم ‏{‏كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الفتنة‏}‏ كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين ‏{‏أُرْكِسُواْ فِيِهَا‏}‏ قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه وكانوا شراً فيها من كل عدو ‏{‏فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ‏}‏ فإن لم يعتزلوا قتالكم ‏{‏وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السلم‏}‏ عطف على «لم يعتزلوكم» أي ولم ينقادوا لكم بطلب الصلح ‏{‏وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ‏}‏ عطف عليه أيضاً أي ولم يمسكوا عن قتالكم ‏{‏فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ‏}‏ حيث تمكنتم منهم وظفرتم بهم ‏{‏وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سلطانا مُّبِيناً‏}‏ حجة واضحة لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر وإضرارهم بالمسلمين، أو تسلطاً ظاهراً حيث أذنا لكم في قتله

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ‏}‏ وما صح له ولا استقام ولا لاق بحاله ‏{‏أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً‏}‏ ابتداء من غير قصاص أي ليس المؤمن كالكافر الذي تقدم إباحة دمه ‏{‏إِلاَّ خَطَئاً‏}‏ إلا على وجه الخطأ وهو استثناء منقطع بمعنى «لكن» أي لكن إن وقع خطأ، ويحتمل أن يكون صفة لمصدر أي إلا قتلاً خطأ والمعنى‏:‏ من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد بأن يرمي كافراً فيصيب مسلماً أو يرمي شخصاً على أنه كافر فإذا هو مسلم ‏{‏وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً‏}‏ صفة مصدر محذوف أي قتلاً خطأ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ مبتدأ والخبر محذوف أي فعليه تحرير رقبة‏.‏ والتحرير‏:‏ الإعتاق، والحر والعتيق الكريم لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد، ومنه عتاق الطير وعتاق الخيل لكرامها‏.‏ والرقبة‏:‏ النسمة ويعبر عنها بالرأس في قولهم‏:‏ «فلان يملك كذا رأساً من الرقيق ‏{‏مُؤْمِنَةٍ‏}‏ قيل‏:‏ لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار، لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها من قبل أن الرقيق ملحق بالأموات، إذ الرق أثر من آثار الكفر والكفر موت حكماً‏.‏ ‏{‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏‏.‏ ولهذا منع من تصرف الأحرار وهذا مشكل إذ لو كان كذلك لوجب في العمد أيضاً، لكن يحتمل أن يقال‏:‏ إنما وجب عليه ذلك لأن الله تعالى أبقى للقتال نفساً مؤمنة حيث لم يوجب القصاص فأوجب عليه مثلها رقبة مؤمنة‏.‏ ‏{‏وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ‏}‏ مؤادة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء فيقضي منها الدين وتنفذ الوصية، وإذا لم يبق وارث فهي لبيت المال‏.‏

وقد ورّث رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم، لكن الدية على العاقلة والكفارة على القاتل‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ‏}‏ إلا أن يتصدقوا عليه بالدية أي يعفوا عنه، والتقدير‏:‏ فعليه دية في كل حال إلا في حال التصدق عليه بها‏.‏

‏{‏فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ‏}‏ فإن كان المقتول خطأ من قوم أعداء لكم أي كفرة فالعدو يطلق على الجمع ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ أي المقتول مؤمن ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ‏}‏ يعني إذا أسلم الحربي في دار الحرب ولم يهاجر إلينا فقتله مسلم خطأ تجب الكفارة بقتله للعصمة المؤثمة وهي الإسلام، ولا تجب الدية لأن العصمة المقومة بالدار ولم توجد ‏{‏وَإِن كَانَ‏}‏ أي المقتول ‏{‏مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ‏}‏ بين المسلمين ‏{‏وَبَيْنَهُمْ ميثاق‏}‏ عهد ‏{‏فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً‏}‏ أي وإن كان المقتول ذمياً فحكمه حكم المسلم، وفيه دليل على أن دية الذمي كدية المسلم وهو قولنا ‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ‏}‏ رقبة أي لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها ‏{‏فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ‏}‏ فعليه صيام شهرين ‏{‏مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ الله‏}‏ قبولاً من الله ورحمة منه، من تاب الله عليه إذا قبل توبته يعني شرع ذلك توبة منه، أو فليتب توبة فهي نصب على المصدر ‏{‏وَكَانَ الله عَلِيماً‏}‏ بما أمر ‏{‏حَكِيماً‏}‏ فيما قدّر‏.‏ ‏{‏وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً‏}‏ حال من ضمير القاتل أي قاصداً قتله لإيمانه وهو كفر أو قتله مستحلاً لقتله وهو كفر أيضاً ‏{‏فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خالدا فِيهَا‏}‏ أي إن جازاه‏.‏ قال عليه السلام ‏"‏ هي جزاؤه إن جازاه ‏"‏ والخلود قد يراد به طول المقام‏.‏ وقول المعتزلة بالخروج من الإيمان يخالف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ا يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏‏:‏ ‏{‏وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ‏}‏ أي انتقم منه وطرده من رحمته ‏{‏وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً‏}‏ لارتكابه أمراً عظيماً وخطباً جسيماً‏.‏ في الحديث ‏"‏ لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم ‏"‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ سرتم في طريق الغزو ‏{‏فَتَبَيَّنُواْ‏}‏ «فتثبتوا»‏:‏ حمزة وعلي وهما من التفعل بمعنى الاستفعال أي اطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تتهوكوا فيه ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام‏}‏ «السلم»‏:‏ مدني وشامي وحمزة وهما الاستسلام‏.‏ وقيل‏:‏ الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام‏.‏ ‏{‏لَسْتَ مُؤْمِناً‏}‏ في موضع النصب بالقول‏.‏ وروي أن مرداس بن نهيك أسلم ولم يسلم من قومه غيره، فغزتهم سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى منعرج من الجبل وصعد فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال‏:‏ لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد وجداً شديداً وقال

‏"‏ قتلتموه إرادة ما معه ‏"‏ ثم قرأ الآية على أسامة‏.‏ ‏{‏تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا‏}‏ تطلبون الغنيمة التي هي حطام سريع النفاد فهو الذي يدعوكم إلى ترك التثبت وقلة البحث عن حال من تقتلونه‏.‏ والعرض‏:‏ المال، سمي به لسرعة فنائه‏.‏ و«تبتغون» حال من ضمير الفاعل في «تقولوا» ‏{‏فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ‏}‏ يغنّمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام ويتعوذ به من التعرض له لتأخذوا ماله ‏{‏كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ‏}‏ أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم، والكاف في «كذلك» خبر «كان» وقد تقدم عليها وعلى اسمها ‏{‏فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ بالاستقامة والاشتهار بالإيمان فافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم ‏{‏فَتَبَيَّنُواْ‏}‏ كرر الأمر بالتبين ليؤكد عليهم ‏{‏إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً‏}‏ فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك‏.‏

‏{‏لاَّ يَسْتَوِى القاعدون‏}‏ عن الجهاد ‏{‏مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر‏}‏ بالنصب‏:‏ مدني وشامي وعلي لأنه استثناء من القاعدين، أو حال منهم‏.‏ وبالجر عن حمزة صفة للمؤمنين، وبالرفع غيرهم صفة للقاعدين‏.‏ والضرر المرض أو العاهة من أعمى أعرج أو زمانة أو نحوها ‏{‏والمجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ‏}‏ عطف على «القاعدون»‏.‏» ونفى التساوي بين المجاهد والقاعد بغير عذر وإن كان معلوماً، توبيخاً للقاعد عن الجهاد وتحريكاً له عليه ونحوه ‏{‏هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏ فهو تحريك لطلب العلم وتوبيخ على الرضا بالجهل ‏{‏فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين‏}‏ ذكر هذه الجملة بياناً للجملة الأولى وموضحة لما نفى من استواء القاعدين والمجاهدين كأنه قيل‏:‏ ما لهم لا يستوون‏؟‏ فأجيب بذلك ‏{‏دَرَجَةً‏}‏ نصب على المصدر لوقوعها موقع المرة من التفضيل كأنه قيل؛ فضلهم تفضلة كقولك «ضربه سوطاً»‏.‏ ونصب ‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ أي وكل فريق من القاعدين والمجاهدين لأنه مفعول أول لقوله ‏{‏وَعَدَ الله‏}‏ والثاني ‏{‏الحسنى‏}‏ أي المثوبة الحسنى وهي الجنة وإن كان المجاهدون مفضلين على القاعدين درجة ‏{‏وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين‏}‏ بغير عذر ‏{‏أَجْراً عَظِيماً * درجات مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً‏}‏ قيل‏:‏ انتصب «أجراً» بفضل لأنه في معنى أجرهم أجراً و«درجات ومغفرة ورحمة» بدل من «أجراً»، أو انتصب «درجات» نصب «درجة» كأنه قيل‏:‏ فضلهم تفضيلات كقولك «ضربه أسواطاً» أي ضربات، و«أجراً عظيماً»‏.‏ على أنه حال من النكرة التي هي «درجات» مقدمة عليها‏.‏ و«ومغفرة ورحمة»‏.‏

بإضمار فعلهما أي وغفر لهم ورحمهم مغفرة ورحمة‏.‏ وحاصله أن الله تعالى فضل المجاهدين على القاعدين بعذر درجة وعلى القاعدين بغير عذر بأمر النبي عليه السلام اكتفاء بغيرهم درجات لأن الجهاد فرض كفاية ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً‏}‏ بتكفير العذر ‏{‏رَّحِيماً‏}‏ بتوفير الأجر‏.‏

ونزل فيمن أسلم ولم يهاجر حين كانت الهجرة فريضة وخرج مع المشركين إلى بدر مرتداً فقتل كافراً ‏{‏إِنَّ الذين توفاهم الملئكة‏}‏ يجوز أن يكون ماضياً لقراءة من قرء «توفتهم» ومضارعاً بمعنى تتوفاهم، وحذفت التاء الثانية لاجتماع التاءين‏.‏ والتوفي‏:‏ قبض الروح، والملائكة‏:‏ ملك الموت وأعوانه ‏{‏ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ حال من ضمير المفعول في «توفاهم» أي في حال ظلمهم أنفسهم بالكفر وترك الهجرة ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الملائكة للمتوفّين ‏{‏فِيمَ كُنتُمْ‏}‏ أي في أي شيء كنتم في أمر دينكم‏؟‏ ومعناه التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين‏.‏ ‏{‏قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ‏}‏ عاجزين عن الهجرة ‏{‏فِى الأرض‏}‏ أرض مكة فأخرجونا كارهين ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الملائكة موبخين لهم ‏{‏أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا‏}‏ أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، ومن الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ونصب «فتهاجروا» على جواب الاستفهام ‏{‏فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً‏}‏ خبر «إن» «فأولئك» ودخول الفاء لما في «الذين» من الإبهام المشابه بالشرط، أو «قالوا فيم كنتم» والعائد محذوف أي قالوا لهم، والآية تدل على أن لم يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يجب وعلم أنه يتمكن من إقامته في غيره حقت عليه المهاجرة‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة ‏"‏ وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنساء والولدان‏}‏ استثنى من أهل الوعيد المستضعفين الذين ‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً‏}‏ في الخروج منها لفقرهم وعجزهم ‏{‏وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً‏}‏ ولا معرفة لهم بالمسالك‏.‏ «ولا يستطيعون» صفة للمستضعفين أو للرجال والنساء والولدان‏.‏ وإنما جاز ذلك والجمل نكرات لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس بشيء بعينه كقوله

ولقد أمر على اللئيم يسبني ***‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 104‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏100‏)‏ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏101‏)‏ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏102‏)‏ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ‏(‏103‏)‏ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏فَأُوْلَئِكَ عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ‏}‏ و«عسى» وإن كان للإطماع فهو من الله واجب لأن الكريم إذا أطمع أنجز‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً‏}‏ لعباده قبل أن يخلقهم‏.‏

‏{‏وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأرض مُرَاغَماً‏}‏ مهاجراً وطريقاً يراغم بسلوكه قومه أي يفارقهم على رغم أنوفهم، والرغم‏:‏ الذل والهوان، وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب‏.‏ يقال راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك ‏{‏كَثِيراً وَسَعَةً‏}‏ في الرزق أو في إظهار الدين أو في الصدر لتبدل الخوف بالأمن ‏{‏وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا‏}‏ حال من الضمير في «يخرج» ‏{‏إِلَى الله وَرَسُولِهِ‏}‏ إلى حيث أمر الله ورسوله ‏{‏ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت‏}‏ قبل بلوغه مهاجره وهو عطف على «يخرج» ‏{‏فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله‏}‏ أي حصل له الأجر بوعد الله وهو تأكيد للوعد فلا شيء يجب على الله لأحد من خلقه‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ قالوا‏:‏ كل هجرة لطلب علم أو حج أو جهاد أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة أو زهداً أو ابتغاء رزق طيب فهي هجرة إلى الله، ورسوله، وإن أدركه الموت في طريقه فقد وقع أجره على الله‏.‏

‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأرض‏}‏ سافرتم فيها، فالضرب في الأرض هو السفر ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ‏}‏ حرج ‏{‏أَن تَقْصُرُواْ‏}‏ في أن تقصروا ‏{‏مِنَ الصلاة‏}‏ من أعداد ركعات الصلاة فتصلوا الرباعية ركعتين، وظاهر الآية يقتضي أن القصر رخصة في السفر والإكمال عزيمة كما قال الشافعي رحمه الله، لأن «لا جناح» يستعمل في موضع التخفيف والرخصة لا في موضع العزيمة وقلنا‏:‏ القصر عزيمة غير رخصة ولا يجوز الإكمال لقول عمر رضي الله عنه‏:‏ صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأما الآية فكأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ إن خشيتم أن يقصدكم الكفار بقتل أو جرح أو أخذ، والخوف شرط جواز القصر عند الخوارج بظاهر النص، وعند الجمهور ليس بشرط لما روي عن يعلى بن أمية أنه قال لعمر‏:‏ ما بالنا نقصر وقد أمنّا‏؟‏ فقال‏:‏ عجبت مما تعجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال ‏"‏ صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ‏"‏ وفيه دليل على أنه لا يجوز الإكمال في السفر لأن التصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد، وإن كان المتصدق ممن لا تلزم طاعته كولي القصاص إذا عفا فمن تلزم طاعته أولى،، ولأن حالهم حين نزول الآية كذلك فنزلت على وفق الحال وهو كقوله‏:‏

‏{‏إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏‏.‏ دليله قراءة عبد الله «من الصلاة أن يفتنكم» أي لئلا يفتنكم على أن المراد بالآية قصر الأحوال وهو أن يومئ على الدابة عند الخوف، أو يخفف القراءة والركوع والسجود والتسبيح كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏ ‏{‏إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً‏}‏ فتحرزوا عنهم‏.‏

‏{‏وَإِذَا كُنتَ‏}‏ يا محمد ‏{‏فِيهِمْ‏}‏ في أصحابك ‏{‏فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة‏}‏ فأردت أن تقيم الصلاة بهم وبظاهره تعلق أبو يوسف رحمه الله فلا يرى صلاة الخوف بعده عليه السلام وقال‏:‏ الأئمة نواب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عصر فكان الخطاب له متناولاً لكل إمام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏ دليله فعل الصحابة رضي الله عنهم بعده عليه السلام ‏{‏فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ‏}‏ فاجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك فصل بهم وتقوم طائفة تجاه العدو ‏{‏وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ‏}‏ أي الذين تجاه العدو‏.‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ وإن كان المراد به المصلين فقالوا‏:‏ يأخذون من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر ونحوهما ‏{‏فَإِذَا سَجَدُواْ‏}‏ أي قيدوا ركعتهم بسجدتين فالسجود على ظاهره عندنا وعند مالك بمعنى الصلاة ‏{‏فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ‏}‏ أي إذا صلت هذه الطائفة التي معك ركعة فليرجعوا ليقفوا بإزاء العدو ‏{‏وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ‏}‏ في موضع رفع صفة ل «طائفة» ‏{‏فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ‏}‏ أي ولتحضر الطائفة الواقفة بإزاء العدو فليصلوا معك الركعة الثانية ‏{‏وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ‏}‏ ما يتحرزون به من العدو كالدرع ونحوه ‏{‏وَأَسْلِحَتَهُمْ‏}‏ جمع سلاح وهو ما يقاتل به‏.‏ وأخذ السلاح شرط عند الشافعي رحمه الله، وعندنا مستحب، وكيفية صلاة الخوف معروفة ‏{‏وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ‏}‏ أي تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم ‏{‏فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً واحدة‏}‏ فيشدون عليكم شدة واحدة ‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ‏}‏ في أن تضعوا ‏{‏أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ‏}‏ رخص لهم في وضع الأسلحة إن ثقل عليهم حملها بسبب ما يبلهم من مطر أو يضعفهم من مرض، وأمرهم مع ذلك بأخذ الحذر لئلا يغفلوا فيهجم عليهم العدو ‏{‏إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً‏}‏ أخبر أنه يهين عدوهم لتقوى قلوبهم، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لتوقع غلبتهم عليهم وإنما هو تعبد من الله تعالى‏.‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة‏}‏ فرغتم منها ‏{‏فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ‏}‏ أي دوموا على ذكر الله في جميع الأحوال، أو فإذا أردتم أداء الصلاة فصلوا قياماً إن قدرتم عليه، وقعوداً إن عجزتم عن القيام، ومضطجعين إن عجزتم عن القعود ‏{‏فَإِذَا اطمأننتم‏}‏ سكنتم بزوال الخوف ‏{‏فَأَقِيمُواْ الصلاة‏}‏ فأتموها بطائفة واحدة أو إذا أقمتم فأتموا ولا تقصروا، أو إذا اطمأننتم بالصحة فأتموا القيام والركوع والسجود ‏{‏إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كتابا مَّوْقُوتاً‏}‏ مكتوباً محدوداً بأوقات معلومة‏.‏

‏{‏وَلاَ تَهِنُواْ‏}‏ ولا تضعفوا ولا تتوانوا ‏{‏فِى ابتغاء القوم‏}‏ في طلب الكفار بالقتال والتعرض به لهم‏.‏ ثم ألزمهم الحجة بقوله ‏{‏إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ‏}‏ أي ليس ما تجدون من الألم بالجرح والقتل مختصاً بكم بل هو مشترك بينكم وبينهم، يصيبهم كما يصيبكم، ثم إنهم يصبرون عليه فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم مع أنكم أجدر منهم بالصبر لأنكم ترجون من الله ما لا يرجون من إظهار دينكم على سائر الأديان، ومن الثواب العظيم في الآخرة ‏{‏وَكَانَ الله عَلِيماً‏}‏ بما يجد المؤمنون من الألم ‏{‏حَكِيماً‏}‏ في تدبير أمورهم‏.‏

روي أن طعمة بن أبريق أحد بني ظفر سرق درعاً من جار له اسمه قتادة بن النعمان في جراب دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه وخبأها عند زيد بن السمين رجل من اليهود فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وما له بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها فقال‏:‏ دفعها إليّ طعمة وشهد له ناس من اليهود‏.‏ فقالت بنو ظفر‏:‏ انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا‏:‏ إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرئ اليهودي فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل فنزل‏:‏