فصل: الجزء الأول

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


الجزء الأول

سورة الفاتحة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏1‏)‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏3‏)‏ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏4‏)‏ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ‏(‏5‏)‏ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏6‏)‏ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين‏}‏‏:‏ الحمد والمدحُ أخَوانِ لفظاً، ومعناهما الثناء الجميل، وهم هنا بقصد التعظيم والتبجيل في الضّراء والسراء على السواء‏.‏

وبعضهم فرقاً بينهما، فيقول‏:‏ الحمد يكون بعد الإحسان وهو مأمور به دائما لحديث‏:‏ «من يحمَدِ الناسَ لم يحمد الله»‏.‏

أما المدح فيكون قبل الاحسان وبعده‏.‏ وهو منهيٌّ عنه، لحديث «احثُوا في وجوه المدّاحين التراب»‏.‏

والربّ في كلام العرب له معان ثلاثة‏:‏ السيد المطاع، والرجل المصْلح للشيء، والمالك للشيء‏.‏

فربُّنا جل ثناؤه‏:‏ السيد المطاع في خلقه، والمصلح أمْرَ خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخَلْق والأمر‏.‏ ‏{‏العالمين‏}‏‏:‏ جميع الكائنات في هذا الوجود‏.‏

فمعنى ‏{‏الحمد لله رب العالمين‏}‏ الحمد لله الذي له الخلق كله، السماوات والأرض، ومن فيهن وما مبينهن، مما يُعلم وما لا يُعلم، فالثناء المطلق الذي لا يُحَدّ لله سبحانه إنما كان لأنه هو رب العالمين‏.‏

‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏‏:‏ الرحن صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة، وقد تقدم أنه لايوصف بها الا الله‏:‏ ‏{‏الرحمن عَلَّمَ القرآن‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 12‏]‏،

‏{‏الرحمن عَلَى العرش استوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏

‏{‏قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏‏.‏

أما الرحيم، فقد كثر استعمالها في القرآن وصفاً فعليا وجاءت بأسلوب ايصال النعمة والرحمة‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقر‏:‏ 143‏]‏ ‏{‏وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏ ‏{‏وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 43‏]‏‏.‏ ولا نطيل أكثر من ذلك، وإنما نريد أن نبين هنا نكتة إعادتها وتكرارهما‏.‏ فنأيأ عن أن يُفهم من لفظه الرب صفة الجبروت والقهر اراد الله تعالى أن يذكِّر الخلق برحمته واحسانه، ليجمعوا بين اعتقاد الجلال والجمال‏.‏ فذكَر «الرحمن» أي المفيض للنعم بسعة وتجدُّ لا منتهى لهما، و«الرحيم» الثابتَ له وصف الرحمة، لا تزايله أبدا‏.‏ بذا عرّفهم أن ربوبيته رحمة واحسان، ليعملوا ان هذه الصفة هي الأصلية التي يرجع اليها معنى بقية الصفات فيتعلقوا به ويُقبلوا على اكتساب مرضاته‏.‏

هذا وإن تكرار وصف الله لنفسه بالرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب لهو تأكيد لمعنى أن الدين الذي كتابه القرآن انما تقوم فضائله ونظُمه على الرحمة والحب والإحسان‏.‏

وإذا كان الحمد لله والثناء عليه مرجعهما وأساسهما التربية من الله للعالَم فما أجدر المؤمن ان يتخلق بخُلق الله، وان يلتمس الحمد والثناء من هذا السبيل الكريم‏.‏ فمن حمّله الله مسئولية التربية من إمام أو معلّم أو أحد الزوجين فإن عليه أن يعتبر ما كُلف برعايته أمانةً عنده من المربي الاعظم سبحانه، فلْيمض فيها على سَنَن الرحمة والاحسان لا الجبروت والطغيان‏.‏ ان ذلك أوفى الىأن يُصلح الله به، وأقربُ ان تناله رحمته‏.‏

‏{‏مالك يَوْمِ الدين‏}‏‏:‏ قرئ‏:‏ «مَلك يَوم الدِّين» و«مالكِ يوم الدين» قراءتان يدل مجموعهما على ان المُلك والمِلك في يوم القيامة لله وحده‏.‏

‏{‏يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏الإنفطار‏:‏ 19‏]‏ لا يشاركه في ذلك أحدٌ ممن خلق‏.‏

وللفظ «الدين» معان كثيرة، منها المكافأة والعقوبة، وهذا المعنى يناسب المقام‏.‏

وفي هذا تربية أُخرى للعبد، فإنه إذا آمن بأن هناك يوماً يظهر فيه احسان المحسن، واساءة المسيء، وأن زمام الحكم في ذلك اليوم العظيم بيد الله تكوّن عنده خُلُق المراقبة، وتوقَّع المحاسبة، فكا ذلك أعظمَ سبيل لإصلاح كل ما يعمل‏.‏

‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏‏:‏ نخصّك بالعبادة ونخصك بطلب المعونة‏.‏ والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلُّل، لذلك لم يستعمل اللفظُ الا في الخضوعِ لله تعالى، لأنهُ مولي أعظم النعم، فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع‏.‏

أمرنا الله تعالى أن لا نعبد غيره لأنه هو الإلَه الواحد لا شريك له‏.‏ وترشدنا عبارة ‏{‏وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ الى أمرين عظيمين هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة‏.‏

أحدهما‏:‏ أن نعمل الاعمال النافعة ونجتهد في إتقانها ما استطعنا، لأن طلب المعونة لا يكون الا على عمل يود المرء أن يبذل فيه طاقته، فهو يطلب المعونة على اتمامه‏.‏

وثانيهما‏:‏ قصْر الاستعانة بالله عليه وحده‏.‏

وليس في هذا ما ينافي بين الناس‏.‏

‏{‏وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

فان هذا التعاون في دائرة الحدود البشري لا يخرج عنها‏.‏

قال بعض السلف‏:‏ الفاتحة سر القرآن‏.‏ وسرُّها هذه الكلمة ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ فالقسم الأول من الآية تبرؤ من الشِرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، وتفويضٌ إلى الله عز وجل‏.‏

‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏‏:‏ هداه الله هُدًى وهِدَايةً الى الإيمان أرشدهخ، وهداه الى الطريق وهداه الطريق وللطريق بيّنة له وعرّفه به‏.‏ والهداية دلالة بلطف، كما يقول الراغب الاصفهاني، والصراط المستقيم‏:‏ هو الطريق الواضح الذي لا عوج فيه ولا انحراف‏.‏

والصراط المستقيم هنا هو جملة ما يوصِل الناس الى سعادة الدناي والآخرة من عقائد وآداب وأحكام من جهتي العلم، وهو سبيل الاسلام الذي ختم الله به الرسالاتِ وجعل القرآن دستوره الشامل، ووكل الى الرسول الكريم تبليغه وبيانه‏.‏ فالشريعة الاسلامية في جميع أمورها من عقيدة، واخلاق، وتشريع، وفي صلة الانسان بالحياة، وعلاقته بالمجتمع، وعلاقة المسلمين بالأمم تأخذ الطريق الصائب، لا إفراط ولا تفريط‏.‏ هذا هو الصراط المستقيم‏.‏

وهداية الله تعالى لا تحصى، نذكر منها‏:‏

أولاً‏:‏ الهداية التي تعم كل مكلَّف بحيث يهتدي الى مصالحه، كالعقل والفطنة والمعارف الضرورية كما قال عز وجل ‏{‏الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏‏.‏

ثانياً‏:‏ نَصْبُ الدلائل الفارقة بين الحق والباطل، والصلاح والفساد‏:‏ ‏{‏وَهَدَيْنَاهُ النجدين‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ الهداية بإرسال الرسل وانزال الكتب‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا‏}‏ ‏[‏الآنبياء‏:‏ 73‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ‏}‏

‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏‏.‏

رابعاً‏:‏ الكشف عن كثير من أسرار الأشياء كما هي، بالوحي والالهام والرؤيا الصادقة‏.‏ وهذا القسم يختص بنيله الأولياء‏.‏ والى ذلك اشار سبحانه وتعالى بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏‏.‏

وقال ابن تيمية‏:‏ «كل عبد مضطرٌّ دائا الى مقصود هذا الدعاء، أي هداية الصراط المستقيم‏.‏ فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية، ولا وصول الى السعادة الا بها، فمن فاته هذا الهدى فهو إما من المغضوب عليهم، واما من الضالين»‏.‏ وهذا الاهتداء لا يحصل غلا بهدى الله ‏{‏مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وقد بين الله تعالى هذا الصراط المستقيم بقوله‏:‏ ‏{‏صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين‏}‏‏.‏

اختلف المفسرون في بيان‏:‏ الذين أنعم اللهُ عليهم، والمغضوبِ عليهم، والضآلِّين وكتبوا وطوّلوا في ذلك‏.‏ وأحسن ما قيل في ذلك ان الآية دلّت على أن الناس ثلاث فرق‏:‏

الفرقة الأولى‏:‏ أهل الطاعة ‏{‏الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 35‏]‏، وهؤلاء هم الذين انعم الله عليهم‏.‏

الفرقة الثانية‏:‏ الكافرون‏:‏ ‏{‏سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏، وهؤلاء هم أهل النقمة المغضوب عليهم‏.‏

الفرقة الثالثة‏:‏ هم المنافقون الحائرون، المترددون بين إيمانهم الظاهر وكفكرهم الباطني ‏{‏فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏ فهم ‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وهؤلاء هم الضالّون المتحيرون‏.‏

وقد فصّل الله تعالى هذه افرق الثلاثة في أول سورة البقرة كما سيأتي ان شاء الله‏.‏

القراءات‏:‏

قرأ ابنُ كَثير برواية قنبل، والكسائي عن طريق رويس «السراط» بالسين في الموضعَين، وقرأ الباقون «الصراط» بالصاد، وهي لغة قريش‏.‏

هذه هي سورة الفاتحة، وقد تكفّل نصفُها الاول ببيان الحقيقة التي هي أساس هذا الوجود‏:‏ تقرير ربوبية الله للعاملين ورحمته ورحمانيته، وتفرُّده بالسلطان يوم الدين؛ وتكفّل نصفها الثاني ببيان أساس الخطة العلمية في الحياة، سواء في العبادات أو المعاملات‏.‏

فالعبادة لله، الاستعانة به، والهداية منه بالتزام طريق الله، والبعد عن طريق الجادين والضالين المتحدّين‏.‏

هذا والمتتبع للقرآن جميعه، الواقف على مقاصده معارفه، يرى أنه جاء تفصيلاً لما أجملته هذه السورة الكريمة‏.‏

بهذا كانت «فاتحة الكتاب» و«أمَّ القرآن» و«السبع المثاني» والسورة الوحيدة التي طُلبت من المؤمنين في كل ركعة من كل صلاة‏.‏

سورة البقرة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

بدئت سورة البقرة بهذه الحروف الثلاثة، وهي تُقرأ حروفاً مفرّقة، لا لفظة واحدة، وفي القرآن عدة سور بدئت بحروف على هذ النحو، منها البقرة آل عمران مدنيّتان والباقي سور مكيّة‏.‏

وقد جاءت بدايات هذه السوَر على أنواع‏:‏ منها ما هو حرف واحد مثل «ص‏.‏ والقرآنِ ذي الذِكر»‏.‏ «ق‏.‏ والقرآن المجيد» «ن‏.‏ والقلمِ وما يسطُرون»؛ ومنها ماهو حرفان، مثل «طه ما أنزلنا عليكَ القرآن لتشقى»‏.‏ «يس والقرآنِ الحكيم»‏.‏ «حم تنزويلُ الكتاب من اللهِ العزيزِ الحكيم»؛ ومنها ما هو ثلاثة أحرف أو اكثر مثل «ألم» «المص» «كهيعص» و«حم عسق» الخ‏.‏

وهذه الحروف أربعة عشر حرفاً، جمعها بعضهم في عبارة «نصٌّ حكيم قاطع له سر»‏.‏ والعلماء في تفسير معنى هذه الحروف فرقان‏:‏ فريق يرى أنها مما استأثر الله بعلمه‏.‏ ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم المراد منها، فالله أعلم بمراده‏.‏

وفريق يقول‏:‏ لا يجوز ان يرد في كتاب الله ما ليس مفهوماً للخلْق‏.‏ وهؤلاء اختلفوا في تفسير هذه الحروف اختلافاً كثيرا‏.‏ فبعضهم يقول إنها أسماء للسور التي بدئت بها؛ وبعضهم يعتبرها رموزاً لبعض أسماء الله تعالى أو صفاته، فالألف مثلاً اشارة الى انه تعالى «أحد، أول، آخر، أبدي، أزلي»، واللام مثلا اشارة الى انه «لطيف»، والميم الى انه «ملك، مجيد، منان» الخ‏.‏‏.‏

اما الرأي الأشهر الذي اختاره المحققون فهو‏:‏ انها حروف أنزلت للتنبيه على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف، وفي متناول المخاطَبين به من العرب، فهو يتحداهم ان يصوغوا من تلك الحروف مثله، وهم أمراء الكلام، واللغةُ لغتهم هم‏.‏

من هذه الحروف يصوغ البشر كلاما وشعرا، ومنها يجعل الله قرآنا معجزاً، فما أعظم الفرق بين صنع البشر وصنع الله‏!‏

‏{‏ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

ذلك‏:‏ اسم اشارة للبعيد كنايةً عن الإجلال والرفعة، ولذا لم يقل سبحانه «هذا هو الكتاب»‏.‏ المعنى‏:‏ هذا هو الكتاب الكامل، القرآن، الذي انزلناه على عبدنا، لا يرتاب في ذلك عاقل منصف، ولا في صدق ما اشتمل علهي من حقائق وأحكام‏.‏ وقد جعلنا فيه الهداية الكاملة للَّذين يخافون الله ويعملون بطاعته، قد سمت نفوسهم فاهتدت الى نور الحق والسعي في مرضاة الله‏.‏ و«فيه» هنا لا تفيد الحصر، بل الشمول، لكنه ليس كتاب علم، بالمعنى الحديث، وانما هو كتاب كامل في الدين‏.‏ أما ‏{‏مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ‏}‏ فانها تعني‏:‏ من شيء متعلق بالدين، لا بالعلوم الطبيعية التي يستجدّ منها كل عصر نصيب‏.‏

المتقون‏:‏ جمع متقٍ، وهو المؤمن المطيع لأوامر الله‏.‏ وأصلُ الاتقاء هو اتخاذ الوقاية التي تحجز عن الشر، فكأن المتقي يجعل امتثال أوامر الله حاجزاً واقيا بينه وبين العقاب الإلَهي، وهؤلاء المتقون هم الذين وصفهم الله تعالى بقوله‏:‏ الذين يؤمنون بالغيب الآيات 35‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

الذين يصدّقون بما غاب عنهم علمُه، كذات الله تعالى وملائكته، والدار الآرة وما فيها من بعث ونشور، وحساب، وجنة ونار‏.‏

ويقيمون الصلاة‏:‏ يؤدون الصلاة المفروضة علهيم خاشعين لله، وقلوبهم حاضرة لمراقبة خالقهم‏.‏ واقامة الصلاة توفية حقوقها وإدامتها‏.‏ وقد أمر الله تعالى باقامة الصلاة، وطلب أن تكون تامة وافية الشروط، فقال‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصلاة‏}‏، و‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏‏.‏‏.‏ هذا يعني أنهم يوفونها حقها‏.‏ وعندما ذم المنافقين قال‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 4‏]‏ وفي ذلك تنبيه على أن المصلّين كثير، والمقيمين قليل‏.‏ وقد نوه القرآن كثيراً بالصلاة وحثّ على اقامتها في كثير من الآيات، لأثرها العظيم‏.‏ في تهذيب النفوس والسموّ بها الى الملكوت الأعلى‏.‏ وسيأتي تفصيل ذلك في كثير من الآيات‏.‏‏.‏‏.‏

‏{‏وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ‏}‏ الرزق كل ما يُنتفع به من المال والثمار والحيوان وغيره‏.‏ والإنفاق العطاء‏.‏‏.‏ يعطون من أموالهم التي رزقهم إياها الله الى المحتاجين من الفقراء والمساكين وذوي القربى واليتامى وأمثالهم‏.‏ وكذلك ينفقون في سبيل الله للجهاد وفي الدفاع عن الوطن، ولبناء المساجد والمدارس والمستشفيات‏.‏ ومساعدة كل مشروع فيه نفع للناس‏.‏ فكما أن الله يرزقهم يجب عليهم أن ينفقوا، لأن الدنيا أخذ وعطاء‏.‏ والواقع اليوم أن كثيراً من الناس قد بات همهم جمعَ المال وتكديسه، فأولئك ليسوا من المتقين‏.‏ وآية الانفاق هنا أن يكون في وجه الخير ونفع الناس، اما على الترف والمباهاة وفي طريق السفه فإن الانفاق تبذير ممجوج بمقته الله، وعلى المسلمين ان يوقفوه ولو كان ذلك عن طريف العنف‏.‏ ان أموال الله التي في يد المسلمين هي لكافّتهم بالخير، لا لقلتهم بالضلالة‏.‏

والمتقون هم الذين يؤمنون بالقرآن الذي أوحي اليك، وبما بينتَ لهم من الدين وما فيه من أحكام وحدود‏.‏ والإنزال هنا هو الوحي من العليّ القدير‏.‏ وكذلك يؤمنون بما أُنزل من قبلك على الرسل الكرام من التوراة والانجيل والزبور والصحف‏.‏ وبها يمتاز الاسلام عن غيره ويفضُله‏.‏ لأن المسلم الحق يؤمن بجميع الديانات السماوية وجميع الأوبياء والرسل‏.‏

‏{‏وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ اليقين حقيقةُ العلم‏.‏ أيقن الأمرَ وبالأمر، تحققه‏.‏ والذين يصدّقون حق اليقين بأن هناك حياة أخرى بعد الموت، فهم يؤمنون بها ايماناً قاطعاً لا تردد فيه‏.‏ صفات المؤمن الحق‏.‏ الايمان بالغيب‏.‏ مع التقوى‏.‏ وإقامْ الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه‏.‏ ثم السخاء بجزء من الرزق اعترافاً وشعوراً بالإخاء‏.‏ وسعة الضمير لموكب الايمان العريق المتلاحق بالوحي، والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن بنيّ صاحب راسلة، ثم اليقين باليوم الآخر بلا تأرجح في هذا اليقين‏.‏

الهدى‏:‏ التوفيق والرشاد‏.‏ والفلاح‏:‏ الفوز والنجاة‏.‏ إن الذين تقدمتم صفاتهم في التقوى والايمان بالغيب والعطاء وتصديق جميع الرسل والاديان السماوية واليقين بالآخرة هم المهتدون الظافرون برضى الله وهداه وأولئك هم أهل الفلاح والفوز والنجاة‏.‏

هذه صورة من ثلاثة صور استعرضها القرآن لثلاث فئات‏:‏ الاولى التي تقدَّم وصفها هي جماعة المؤمنين، وقد وصفهم الله تعالى في آيتين‏.‏ والثانية‏:‏ الكافرون الجاحدون، وقد وصفهم تعالى أيضا في آيتين‏.‏ والفئة الثالثة‏:‏ المنافقون، وقد ذكرهم الله تعالى في ثلاث عشرة آية‏.‏ بهذا يتبين لنا ان الناس أمام القرآن ثلاث طوائف تقدمت الطائفة المؤمنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

المفردات

الكُفر‏:‏ ستر الشيء وتغطيته، ومن كفر فقد غطى الحقيقة وستر نعم الله عليه، وجحد الايمان‏.‏

والختم‏:‏ الطبع، كأنما خُتم على قلوبهم فلا ينفذ اليها الإيمان‏.‏

والغشاوة‏:‏ ما يغطى به الشيء‏.‏

ان هؤلاء الكافرين ميئوس منهم، سواء أخوّفتهم يا محمد أم لم تفعل، فهم لا يؤمنون‏.‏ لقد أُغلقت قلوبهم وطُبع عليها ففي سمعهم ثِقَل وعلى أعينهم حجاب‏.‏ وذلك ما فسدت به فطرتهم من أوهامهم الضالة، وقصور استعدادهم لادراك الحق‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ‏}‏ ‏[‏فصّلت‏:‏ 5‏]‏‏.‏ اولئك هم الكافرون، لهم عذاب أليم‏.‏ فلا يؤثّر فيهم موعظة ولا تذكير ولا يرجى تغيير حالهم، ولا أن يدخل الإيمان في قلوبهم‏.‏

هذه هي الصورة الطائفة الثانية، وقد بين الله أوصافها في كثير من آيات القرآن وعبر عنها بالكافرين، والفاسقين، والخاسرين، والضالين، والمجرمين‏.‏

والصورة الثالثة هي صورة المنافقين، الطائفة التي ظهرت في المدينة بعد الهجرة، وبعد أن ترك «ز المسلمون وقيت شوكتهم، فضعفت هذه الطائفة عن المجاهرة بالكفر والعناد‏.‏ لذلك ظلوا كافرين في قلوبهم وإن ظهروا بين المسلمين كالمسلمين‏:‏ يقولون كلمة التوحيد ويصلّون كما يفعل المسلمون‏.‏ لقد ظنّوا أنهم يخادعون الله ورسوله والمؤمنين، ومن ثمَ اتخذوا لأنفسهم وجهين‏.‏ وما ابتُلي المسلمون في أي زمان ومكان بشّرِ من هذه الطائفة‏:‏ انها تدبر المكائد، وتروّج الأكاذيب، وتنفث سموم الشر والفتن‏.‏ وقد اهتم القرآن بالحديث عنهم، والتحذير منهم، حتى لا نكاد نجد سورة مدنية تخلو من ذكرهم، بل وقد نزلت فيهم سورة كاملة سميت باسمهِم» المنافقون «‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

أما هنا فقد جاء فيهم ثلاثة عشرة آية تبيّنت فيها صفاتهم وحقيقتهم وخطتهم في الضلالة‏.‏ هذا شرح وتفصيل لأحوال المنافقين وخداعهم، وهم أخبث الناس، لأنهم ضماو على لاكفر الاستهزاءَ والخداع والتمويه، فنعى الله عليهم مكرهم وخداعهم بقوله ما معناه‏:‏ ان بعض الناس قوم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يزعمون أنهم يؤمنون باله واليوم الآخر، وهم كاذبون‏.‏ انما يقولون ذلك نفاقاً وخوفا من المؤمنين‏.‏ وهم بعملهم هذا يظنون أنهم يخادعون الله، ظناً منهم انه غير مطلع على خفاياهم‏.‏ لكنهم في الواقع انما يخدعون أنفسهم، لأن ضرر عملهم لاحقٌ بهم‏.‏ والله يعلم دخائل أنفسهم‏.‏ ان هؤلاء القوم في قلوبهم مرض الشك والعناد والحسد، فزادهم الله مرضاً على مرضهم، بنصره للحق، ولهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة جزاء ريائهم‏.‏

القراءات‏:‏

قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «يخادعون اللهَ والّذين آمنوا وما يخادعون غلا أنفُسَهم‏؟‏» وقرأ الباقون «وما يخدعنون إلا أنفُسَهم»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 16‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ‏(‏11‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ‏(‏14‏)‏ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

المفردات‏:‏

الفساد‏:‏ خروج الشيء عن حد الاعتدال‏.‏ والصلاح ضده‏.‏ والسفه‏:‏ خفة في العقل وفساد في الرأي‏.‏

واذا قيل لهؤلاء المنافقين لا تفسدوا في الارض بالصدّ عن سبيل الله، ونشر الفتن برّأوا أنسفهم من الفساد، وقالوا انما نحن مصلحون‏.‏ وما ذلك الا لفرط غرورهم، الذي أعماهم عن حقيقة كونهم جراثيم الفساد، وأسباب الفتن والبلاء‏.‏

واذا قيل لهم‏:‏ ادخلوا في الإيمان بهذا الدين العظيم الذي دخل فيه الناس، قالوا ساخرين‏:‏ أتريدون منا ان نكون مثل هؤلاء الضعفاء السفهاء، نصدّق الأوهام وننقاد للأضاليل‏!‏ وذلك لأن كثيراً من المسلمين كانوا من الفقراء والموالي والعبيد مثل بلال وصهيب وسلمان الفارسي‏.‏ وقد رد الله عليهم قولهم وتطاولهم وحكَم عليهم بأنهم هم السفهاء، لكنهم لا يعملون حقاً ان النقص والسفه محصور فيهم‏.‏

واذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين، قالوا‏:‏ آمنا بما آمنتم به وصدّقنا الرسول وقبلنا دعوته، نحن معكم‏.‏ واذا اجتمعوا بشياطين الكفر من اخوانهم الضالين، قالوا لهم‏:‏ نحن معكم، انما قلنا للمؤمنين ما علمتم استخفافاً بهم واستهزاء بعقولهم‏.‏

ولقد روي ان عبدالله بن أبيّ بن سلول، رأسَ المنافقين، كان مع اصحابه فقدِم عليهم جماعة من الصحابة‏.‏ فقال عبدالله لقومه‏:‏ انظروا كيف أردُّ هؤلاء السفهاء عنكم‏.‏ فأخذ بيد أبي بكر وقال‏:‏ مرحبا بالصدّيق، سيد بني تيم، وشيخ الاسلام، والثاني رسول الله في الغار‏.‏ ثم أخذ بيد عمر بن الخطاب فقال‏:‏ مرحباً بسيد بني عديّ، والفاروق، والقوي في دينه، الباذل نفسه وماله لرسول الله‏.‏ ثم أخذ بين عليّ رضي الله عنهم فقال‏:‏ مرحبا بابن عم رسول الله، وختَنِه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله‏.‏

فنزلت هذه الآية‏.‏

هذا هو عبدالله بن أُبيّ الذين كان الأوسُ والخزرجُ في يثرب يريدون ان يتوّجوه ملكاً عليهم قبل هجرة الرسول‏.‏ فلما تمت الهجرة وأسلم معظم الخزرج وجميع الأوس، أُلغيت فكرة ملكيته، فحقد عبدالله على الاسلام وحسد النبي على فضله، لكنه عجز عن اظهار حنقه فنافق، وأصبح يكيد للمسلمين سراً وإن جاهر بالاسلام زوراً‏.‏

ورد الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ‏}‏ أي يجازيهم على استهزائهم ويكتب عليم الهوان، ويمهلهم في عماهم عن الحق، ثم يأخذهم بعذابه‏.‏

ان مثَل المنافقين مثل الذين باعوا الهدى، واشتروا به الضلالة‏.‏ فكانوا كالتاجر الذي يختار لتجارته البضاعة الفاسدة فتكسد وتبور‏.‏ بذلك لا يربح في تجارته، ويخسر ماله‏.‏ والضلال والضلّ الهدى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 20‏]‏

‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏17‏)‏ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏18‏)‏ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

المفردات‏:‏

المِثل والمثَل كالشِبه والشَبه والشبيه، يُستعمل في تمثيل حالة الشيء وبيانه‏.‏ وللمَثَل وقع كبير مؤثر في الكلام‏.‏ وقد اكثر القرآن من ضرب الأمثال ‏{‏وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 29‏]‏‏.‏

شبّه الله حال المنافقين بقومٍ أوقدوا ناراً لتضيء لهم وينتفعوا بها، فلما أنارت ما حولهم من الأشياء ذهب اللهُ بنورهم، وترك موقديها في ظلماتٍ كثيفة لا يبصرون معها شيئاً‏.‏ وذلك لأن الله تعالى قدّم لهم أسباب الهداية فأبصروا وعرفوا الحق بالإيمان، ثم عادوا الى النفّاق والكفر‏.‏ انهم لم يتمسكوا بهداية الله، فصارت بصائرهم مطموسة بسبب نفاقهم وتذبذبهم، فاستحقوا ان يبقوا في الحيرة والضلال‏.‏

وهؤلاء كالصُمّ، لأنهم فقدوا منفعة السمع، إذ لايسمعون الحق سماع قبولٍ واستجابة‏.‏ وهم كالبُكم أي الخرس، لأنهم لا ينطقون بالهدى والحق‏.‏ كذلكهم كالذين فقدوا ابصارهم لأنهم لا ينتفعون بها ولا يعتبرون‏.‏ لقد سُدت عليهم منافذ الهدى وظلوا حائرين في ظلمة الكفر والنفاق فهم لا يرجعون عن ضلالهم‏.‏ وتبين حقيقتُهم في سورة المنافقين ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ‏}‏‏.‏

والله سبحانه وتعالَى لمّا وصفهم في الآية السابقة بأنهم اشترو الضلالة لأنفسهم الهدى الذي تخلّوا عنه مثّل هداهم الذي باعوهن بالنار المضيئة لما حولها، ومثل الضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم وبقائهم في ظلمات لا يبصرون‏.‏

وهناك صورة اخرى للمنافقين، وهي صورة مفزعة تبيّن حالهم في حيرتهم بعد كذبهم على الله والناس وعلى أنفسهم مثلَ قوم نزل عليهم «صيّب من السَماءِ‏:‏، أي سحاب فيه مطر شديد ورعد وصواعق، في ليلة مظلمة‏.‏ لقد ارعدت السماء وأبرقت، ولم يجد القوم ملاذاً يلتجئون اليه الا خداع أنفسهم‏.‏ لقد أخذوا يجعلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا، ويرتجفون خائفين من الموت لا يدرون الى اين يهربون‏.‏

ذالك فَرَقهم من الرعد، أما البرق الشديد الوهج فهو يكاد يخطف أبصارهم من شدته، وكّلما أضاء لهم مشوا في ضوئه خطوات، ثم يزول‏.‏ واذا ذاك يشتد الضلام فيقفون متحيرين ضالين‏.‏

وهذه صورة ناطقة لحال المنافقين‏:‏ تلوح لهم الدلائل والآيات فتبهرهم أضواؤها، فيهمّون ان يهتدوا، لكنهم إذا خلَوا الى شياطينهم من اليهود عادوا الى الكفر والنفاق‏.‏ ولو أراد الله لأذهب أسماعهم وأبصارهم من غير إرعاد ولا برق، فهو واسع القدرة لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، لكنه جاء بالصورة المذكورة تقريباً لغير المحسوس بالمحسوس، ومن باب ضربِ المثل‏.‏

انه مشهد عجيب، حافل بالحركة، مشوب بالاضطراب، فيه تيه وضلال وفيه هو ورعب، وفيه فزع وحيرة‏.‏‏.‏ والحقّ ان الحركة التي تعمر المشهد كلَّه لَتصوّر موقف الاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها اولئك المنافقون‏.‏ فيا له من مشهدٍ حيّ يرمز لحالة نفسية، ويجسّم صورة شعورية‏.‏ وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال لنفوس كأنها مشهد محسوس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 25‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏21‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏23‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏24‏)‏ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

بعد ان استعرض الله تعالى طوائف الناس الثلاث‏:‏ المؤمنين المتقين، والكافرين، والمنافقين وجّه دعوة للناس جميعاً الى عبادته والايمان بالكتاب الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وخاطبهم ب ‏{‏يَاأَيُّهَا الناس‏}‏، فصوفهم بهذه الإنسانية التي هي عنوا على العقل والنظر والتدبُّر‏.‏

يا أيها الناس اعبُدوا ربَّكم‏.‏ الذي أنشأكم وخلقكم كما خلق الأقوام الذين سبقوكم‏.‏ إنه خالق هذا الكون وكل شيء فيه‏.‏ اعبُدوه لعلكم تُعدون أنفسكم وتهيئونها لأن تتطهر بفضل عبادتها له فيسهُل عليها ان تذعن للحق‏.‏

وبعد ان أرشدهم الرحمن الى دلائل التوحيد وحثهم على عبادة الخالق العظيم أشار لهم الى دلائل وحدانيته من آيات قدرته المحيطة بهم في أرضه وسمائه، وبصّرهم بما أنعم عليهم فيها من وسائل الحياة، وموارد الرزق فقال‏:‏ ‏{‏الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً‏}‏ مهّده بقدرته وبسَط رقعته بحكمته كما يسهُل عليكم العيش فهيا والانتفاع بها‏.‏ والبسط والتمهيد هنا لا يعني كروية في الشكل ولا عدمها، وانما يعني تذليل الأرض لنفع الانسان‏.‏ لكنّ الله بسط لنا في الأرض السهول، وجعل لنا فيه الجبال الشاهقة والبحار العميقة، والأنهار الجارية والأودية السحيقة‏:‏ كل ذلك جعله لنا، نتمتع بكافة خيراتها العديدة الأصناف‏.‏ اما فوقنا فقد جعل السماء وأجرامها وكواكبها المتراصة في نظرنا كالنبيان المشيد‏.‏ ومن هذه السماء أمدّنا جلّ وعلا بسب بالحياة والنعمة‏.‏ ألا وهو الماء، أنزله علينا يغيثنا به فجعله سبباً لأخراج النبات والشجر المثمر‏.‏ لذا فإن من عمى البصيرة والبصر أيها الناس ان جعلوا لله أندادا‏.‏ وفلا تفعلوه‏.‏ إذ من الغيّ وحده أن تنصروا ان لله نظراء، ثم تأخذون تعبدونهم كعبادته‏.‏ انه خالقكم، ليس له مثيل ولا شريك، وأنتم بفطرتكم الأصيلة تعلمون انه لا مثيل له ولا شريك، فلا تحرّفوا هذه الطبيعة‏.‏ نعم ان كثيراً من مشركي العرب كانوا يعتقدون بالإلَه لكنهم يتذرعون بقولهن‏:‏ انما نعبد هذه الأصنام لتُقِّربنا الى الله‏.‏‏.‏ فهل الله حاجة الى وثن يتخذه واسطة بينه وبين عبادهن‏!‏‏!‏

وفي هذه الآية جزء من دلائل الإعجاز في القرآن الكريم‏:‏، وهو قوله تعالى ‏{‏السماء بِنَآءً‏}‏، ففي ذلك معنى ما كان يمكن أن يعرفه النبي الأميّ غلا بوحي من الله‏.‏ فالسماء في المعنى العلمي هي كل ما يحيط بالارض في أي اتجاه، والى أي مدى، وعلى أية صورة، ويشمل ذلك الجوّ المحيط بالارض الى ارتفاعات تنتهي حيث يبدأ الفراغ الكوني الشاسع بما فيه من الأجرام السماوية المنتشرة في اعماقه السحيقة على اختلاف أشكالها وأحجامها‏.‏ وهي تتحرك في نظام بديع عجيب، على أساسه يتوالى ظهورها واختفاؤها لسكان الأرض‏.‏ وهي جميعاً في دورانها وترابطها بقوى الجاذبية، كالبنيان في تماسكه واتزانه، وتدّرجه طبقة بعد طبقة‏.‏

وكل هذا لم يكن معروفاً للعلم في عصر محمد‏.‏ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي الجزء الأدنى من السماء، وهو الحد المحيط بالأرض القريبُ منها مباشرة توجد الطبقات الجوية المختلفة الواقية من الإشعاعات الضارة عن أرجاء الكون، والتي لا تسمع الا للأشعة المنيرة منها بالنفاذ، فهي كالمضلات الواقية‏.‏ وفي هذه الطبقة يكون السحاب ومنه المطر‏.‏

وبعد أن بيَّن الله للناس انه هو الخالق الواحد المعبود بحق، وانه المنعم بكل ما في الوجود برف قائلا‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ‏}‏ وذلك لا، المشركين كانوا ينكرون الراسلة وأن القرآن وحي من عند الله‏.‏ لذا طلب اليهم، لتبرير شكّهم وإنكارهم، عند أنفسهم، أن يأتوا بسورة واحدة ت ضارع أياً من سور القرآن في بلاغتها وإحكامها وعلومها وسائر هدايتها‏.‏ وحجّتهم قائلاً‏:‏ نادوا الذين يشهدون لكم أنكم أتبتم بسورة مماثلة‏.‏ استعينوا بهم في اثبات دعواكم‏.‏ غير انكم لن تجدهم‏.‏‏.‏ وهؤلاء الشهود هم غير الله حُكماً، لأن الله يؤيد عبده بكتابه، ويشهد له بأفعاله‏.‏

ثم ينتقل الى التحدّي والتحذير فيقول‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

فإن لم تستطيعوا ان تأتوا بسورةٍ من مِثلِ سوَر القرآن ولن تستطيعوا ذلك بحال من الأحوال، لأن القرآن كلام الهل الخالق، فهو فوق طاقة المخلوقين فالواجب عليكم ان تجتنبوا مايؤدي بكم الى عذاب الآخرة، وإلى النار التي سيكون وقودها الكافرين من الناس والحجارة من أصنامكم، والتي أعدّها الله لتعذيب الجاحدين أمثالكم‏.‏

ولقد سجل القرآن على المشركين المكابرين واقع العجز الدائم عن الإتيان بمثل هذا القرآن، بل جزءٍ منه أو سورة واحدة‏.‏ وذلك من إعجاز القرآن‏.‏ لأن التحدي ظل قائماً في حياة الرسول الكريم رغم وجود الفصحاء والبلغاء من خطباء العرب وشعرائهم وكبار متحدثيهم‏.‏ ولا يزال قائماً الى يومنا هذا والى يوم الدين‏.‏ وحيث عجز بلغاء ذلك العصر وفصحاؤه‏.‏ فإن سواهم أعجز‏.‏ في هذا أكبر دليل على ان القرآن ليس من كلام البشر، بل هو من الخالق العظيم، انزله تصديقاً لرسوله محمد بن عبداللنه، الرسول الأميّ الذي لم يجلس الى معلم، ولم يدخل أية مدرسة‏.‏

وبعد أن حذّر المكذّبين المعاندين وأنذرهم بعقاب الفجّار في نار لاهبة أخذ يبشّر المؤمنين المتقين بالجنة‏.‏ لقد أذعنوا للحق دون شك أو ارتياتب، وعملوا الأعمال الصالحة الطيبة، فبشّرْهم يا محمد بما يسرهم ويشرح صدروهم‏:‏ لقد أعدّ الله لهم عنده جنات تتخللها الأنهار الجارية تنساب تحت أشجارها وبين قصورها، وكلّما نالوا رزقاً من بعض ثمارها قالوا‏:‏ هذا شبيه ما رزقنا الله في الدنيا من قبل‏.‏ ومع أن الثمرات التي ينالونها اذ ذاك تتشابه في الصورة والشكل والجنس مع مثيلاتها في الدنيا فهي تتمايز عنها في الطعم واللذة‏.‏ ولهم في الجنة زوجات رضيّات، مطهرات من الخبث والدنس، هن أرفعُ من المكر والكيد ومساوء الاخلاق‏.‏ هناك سيبقون في الحياة الخالدة، ويعيشون في النعيم المقيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

المفردات‏:‏

ضربُ المثل أيرادهُ ليُتمثل به ويُتصوّر ما اراد المتكلم بيانه‏.‏ يقال‏:‏ ضرب الشيءَ مثلاُ، وضرب به مثلاً، وتمثّله به‏.‏ وقد وردت عبارة ضرب المثل في القرآن في عدة آيات‏:‏ ‏{‏واضرب لهُمْ مَّثَلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 32‏]‏ ‏{‏ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏‏.‏‏.‏ ‏{‏واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وهذه الآية جاءت رداً على الكفرة المعاندين حيث قالوا أما يستحي ربُّ محمد ان يضرب مثَلاً بالذباب والعنكبوت‏!‏ فبّين الله تعالى انه لا يعتبريه ما يتعري الناسَ من استحياء، فلا مانع من ان يصوّر لعباده ما يشاء من أمورٍ بأي مثل مهما كان صغيرا، بعوضة فما فوقها‏.‏ فالذين آمنوا يعلمون ان هذا حق من الله، أما الذين كفروا فيتلقّونه بالاستنكار‏.‏ وفي ذلك يكون المثل سبباً في ضلال الذين يجانبون الحق وسبباً في هداية المؤمنين به‏.‏

وقد وصفهم تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ‏}‏ اي الّذين تركوا العملَ بعهد الله، وهو صيّتُه لهم وأمرُه إياهم بلزوم طاعته وتحاشي معصيته‏.‏ وعهدُ الله هو العهد الذي أنشأه في نفوسهم بمقتضى الفطرة، تدركه العقول السليمة، وتؤيده الرسل والأنبياء‏.‏

أما نقضُهم له فهو انهم يقطعون ما أمر الله به ان يكون موصولا، كوصل الأقارب وذوي الأرحام، والتوادّ والتراحم بين بني الإنسان، وسائر ما فيه عمل خير‏.‏ وعلاوة على ذلك تجدُهم يفسدون في الارض بسوء المعاملة، وإثارة الفتن وأيقاد الحروب وافساد العمران‏.‏

وجزاء هؤلاء أنهم هم الخاسرون، لكل توادٍّ وتعاطف وتراحم بينهم وبين الناس في الدنيا ولهم الخزي والعذاب في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏28‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

يقوم الاسلام على أصول ثلاثة هي‏:‏ توحيد الله بالعبادة، والإقرار برسالة سيدنا محمد، والايمان بالبعث والنشور‏.‏ هذه هي أصول الدين عند الله، بعث بها كلَّ نبي، وطلبها في كل كتاب، وأرسل محمداً عليه الصلاة والسلام يجدّدها في القلوب ويحييها في النفوس‏.‏ والعبادة الكاملة هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر‏.‏

على هذا درج القرآن يوقظ العقول، وينبّه الناس الى هذه الأصول، فهو يُوجّه الأنظار على الدوام الى الأدلة الكونية الدالة على حقيقة الدعوة، واستبعاد ان يكفر انسان ذو عقل بها بعد ثبوتها في الأنفس والآفاق‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله‏.‏‏.‏‏}‏ إن حالكم تثير العجب‏!‏ كيف تكفرون أيها المشركون والجاحدون ولا توجد شبهة تعتمدون عليها في كفركم‏؟‏ إنكم لو نظرتم في أنفسكم، وعرفتم كيف كنتم والى إين سترجعون، لأفقتم من غفلتكم هذه‏.‏ لقد كنتم أمواتا في حالة العدم، فخلقكم الله ووهبكم هذه الحياة جاعلاً إياكم في أحسن تقويم‏.‏ ثم انه تعالى يعيدكم أمواتا، ثم يعيدكم أحياء للحساب والجزاء يوم القيامة، إنّكم إليه لا الى غيره تعودون‏.‏

ثم بيّن الله في الآية للناس نعمة أخرى مترتبةً على خلْقهم وايجادهم، وهي أنه هو الذي تفضل على الخَلق فخلَق لمنفعتهم كل هذه النعم الموجودة في الارض، توجهت ارادته الى السماء فجعل منها سبع سماوات منتظمات، فيها ما ترون أيها الناس وما لا ترون، والله محيط بكل شيء‏.‏

ولكلمة «استوى» عدة معانٍ، فيقال‏:‏ استوى أي اعتدل، وسوّيت الشيءَ فاستوى عدلته فاعتدل، واستوى الطعام نضح، والعود استقام، والرجل انتهى شبابه وبلغ أشُدَّه واستقام أمره‏.‏ واستوى على دابّته استقر، وعلى سرير الملك جلس واستولى عليه، واستوى الى الشيء قصد‏.‏

يصح أن يراد بِ «سَبْع سماواتٍ» الطبقات المختلفة لما يحيط بالارضِ‏.‏ وذلك ان الله تعالى بعد ان أكمل تكوين الأرض ودبّت الحياة على سطحها كيَّف سبحانه جَوَّ الارض المحيط بها بما يلائم هذه الحياة ويحفظها من أهوال الفضاء‏.‏ وهكذا كانت طبقات الجو المختلفة، ودوائر التأمين في الفراغ الكوني الذي يحدثنا العلم عن بعضها‏.‏ والحق ان هذه الطبقات لم تُعرف الا من جديد، ولا يزال علم الفلك حتى الآن في طفولته، فأنى لمحمد ان يعلم هذه الأمور إلا من الله العليّ الحكيم‏!‏ لقد بعثه بالحق وأنزل عليه الوحي وعلّمه بالقرآن ما لم يكن يعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 34‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏30‏)‏ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏32‏)‏ قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏33‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

ان أمر الخليقة، وكيفية تكوين هذا الكون على هذه الصورة‏.‏ وخلق الحياة فيه‏.‏ لهي من الشئون الإلَهية التي حيّرت العقول‏.‏ والتي يعزّ الوقوف عليها كما هي‏.‏ وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الانسانية بطريقة لطيفة‏.‏ ومثّل لنا المعاني في صور محسوسة وأبرز لنا الحِكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار‏.‏

ويعتبر بعض العلماء هذا النوع من القصص في القرآن من المتشابه الذي لا يمكن حمله على ظاهره‏.‏ ذلك أن هذه الآيات بحسب قانون التخاطب إما ان تكون استشارة‏.‏ وذلك محال على الله تعالى‏.‏ واما ان يكون إخباراً منه سبحانه وتعالى للملائكة واعتراضاً منهم ومحاجّة وجدالا، وذلك لا يليق بجلال الله ولا بملائكته الذين ‏{‏لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وللعملاء في هذا النوع من المتشابه طريقتان‏:‏

الاولى‏:‏ طريقة السلَف وهي التنزيه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 180‏]‏ وتفويض الأمر الى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك، مع العلم بأن الله يعلّمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به من أعمالنا، ويأتينا في ذلك بما يقرّب المعاني من عقولنا ويصروها لمخيّلاتنا‏.‏

والثانية‏:‏ طريقة الخلَف وهي التأويل، يقولون‏:‏ ان قواعد الدين الاسلامي وُضعت على أساس العقل‏.‏ فمن ثمَ لا يخرج شيء منها عن العقول، فإذا ورد في القرآن أو الحديث شيء يخالف العقل حسُن تأويله حتى يقرب الى الأذهان‏.‏

وعلى هذا قالوا‏:‏ ان قصة الخلق انماوردت مورد التمثيل لتقريبها من أذهان الناس، ولفْهم حالة خَلق الانسان وحال النشأة الاولى‏.‏ لذا بيّن الله سبحانه انه هو الذي أحيا الانسان ومكّن له في الارض، ثم بين بعد ذلك أصل تكوين الانسان وما أودع فيه من عِلم الأشياء وذكّره به‏.‏‏.‏ فاذكر يا محمد نعمةً أخرى من ربك على الانسان، وهي أنه قال للملائكة‏:‏ إني جاعل في الأرض من أمكّنه فيها وأجعله صاحب سلطان، وهو آدم وذريته‏.‏ وإنها لمنزلة عظيمة وتكريم كبير لهذا الانسان‏!‏

فاستفهم الملائكة عن سر ذلك قائلين‏:‏ أتجعل في الأرض من يُفسد فيها بالمعاصي وسفك الدماء بالعدوان، لما في طبيعته من شهوات، بينما نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتكم ونطهّر ذكرك ونمجّدك‏؟‏ فأجابهم الله بقوله‏:‏ إني أعلم ما لا تعلمون، من المصلحة في ذلك‏.‏ لقد أودعتُ فيه من السر ما لم أودعه فيكم‏.‏

وفي هذا ارشاد للملائكة وللناس ان يعلموا أنّ أفعاله تعالى كلّها بالغةٌ غايةَ الحكمة والكمال، وإن لم يفهموا ذلك من أول وهلة‏.‏

وقال فريق من المفسرين‏:‏ ان قول الملائكة‏:‏ «أتجعل فيها من يُفسد في الأرض ويسفك الدماء» يُشعر بأنه كان في الأرض صنفٌ أو أكثر من نوع الحيوان الناطق، وانه كان قد انقرض يوم خلْق الاسنان، وقدّر الملائكةُ ان الصنف المستخلَف الجديد، أي آدم وذريته، لن يسلك الا مثل ما سلك سابقوه، وقاسوا فعله اللاحق على فعل السلف السابق، من إفساد وسفك دماء‏.‏‏.‏

من ثم استنبطوا سؤالهم وكأنهن اعتراض، مع انه تقرير مبني على قياس‏.‏ واذا صحّ هذا فليس آدم أول الصنف العاقل من الحيوان على هذه الأرض، وانما كان أول طائفة جديدة من الحيوان الناطق تماثل الطائفة البائدة منه في الذات والمادة، كيما يصح القياس‏.‏

وهذه الآية تجلّي حجة الرسول ودعوته من حيث أنه‏:‏ اذا كان الملائكة محتاجين الى العلم ويستفيدونه بالتعلم من الله تعالى بالطريقة التي تناسب حالهم، فإن البشر أولى منهم في إنكار مال لم يعرفوه حتى يعلموا؛ وأن الافساد في الارض وجحود الحق ومناصبه الداعي اليه العداءَ ليس بدعاً من قريش، وانما هو طبيعة البشر‏.‏

والملائكة والملائك جمع مَلك نؤمن بوجودهم ولا نعرف عنهم الا ما ورد في الكتاب‏.‏ إنهم أرواح علوية مطهّرة، يعبدون الله، لا يعصون الله ما أمَرَهُم ويفعلون ما يُؤمرون‏.‏ ولفظة ملَك في اللغة مَعناها الرسالة‏.‏ ويقول الطبري‏:‏ سُميت الملائكة ملائكةً بالرسالة لأنه رُسل الله الى أنبيائه‏.‏

نسبّح بحمدك‏:‏ نصلّي لك، وننزهك ونبرّئك مما يضيفه اليكم أهل الشرك‏.‏ ونقدس لك‏:‏ نعظّمك ونمجّدك‏.‏ وكل ذلك اقراراً بالفضل وشكرانا لله على خلقهم‏.‏

‏{‏وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا‏.‏‏.‏‏}‏ الآية آدم أبو البشر، وجمعُه أوادم، يجوز أن يكون لفظه عربيا‏.‏ واشتقاقه من الأُدمة، وهي السُّمرة الشديدة، أو من أديم الارض اي قشرتها لأنه خُلق من تراب‏:‏ «ان الله خلق آدم من قبضة قَبَضَها من جميع الارض فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منه الأحمر والأبيض وبين ذلك، والسهلُ والحزن، والخبيث والطيب»‏.‏

قال السهيلي في «الروض الأُنُف»‏:‏ قيل؛ ان آدم عربي، أوعبراني، أو سرياني ‏(‏وهذا ظنّ مردود، والحقيقة لا يعلمها غلا الله‏)‏‏.‏ وعلّمه اسماء جميع الأشياء وخواصها، وأودع في نفسه علم جميع الأشياء من غير تحديد ولا تعيين ‏(‏ونحن نصرف ذلك الى انه أودع فيه القدرة على الإدراك والتمييز، لا علّمه لفظاتٍ معينة في لغة بعينها‏)‏‏.‏ وبعد أن علّمه أسماء الأشياء وخواصها ليتمكن في الأرض عرض هذه الأشياء على الملائكة وقال لهم‏:‏ أخبروني بأسماء هذه الأشياء وخواصها ان كنتم صادقين في ظنّكم أنكم أحقُّ بخلافة الأرض من هذا المخلوق الجديد، انطلاقا من واقع طاعتكم لي وعبادتكم إياي‏.‏ فقالوا‏:‏ سبحانك ربنا، إننا ننزهك التنزيه اللائق بك، ونقر ونعترف بعجزنا، فلا علم عندنا الا ما وهبتنا إياه، انك أنت العالم بكل شيء، والحكيم في كل أمر تفعله‏.‏

فلما اعترفوا بعجزهم قال الله تعالى لآدم‏:‏ أخبرهم يا آدم بهذه الأشياء‏.‏

فأجاب آدم وأظهر فضله عليهم‏.‏ فقال الله تعالى مذكّراً لهم بإحاطة علمه‏:‏ ألم أقل لكم إني أعلم كل ما غاب في السماوات والارض، وأعلم ما تُظهرون في قولكم، ما تخفون في نفوسكم‏!‏‏!‏

وفي هذه الآية دليل على شرف الانسان على غيره من سائر المخلوقات حتى الملائكة، وانه أفضلهم‏.‏ وفيها دليل على فضل العلم على العبادة، وان العلم أساسٌ مهم في الخلافة في هذه الارض، فالأعلم هو الأفضل، يؤيد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ولقد قام الدين الإسلامي على العلم، فلمّا تأخر المسلمون عنه تقدّمهم غيرُهم‏.‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدَمَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية اذكرُ يا محمد حين قلنا للملائكة اسجُدوا سجود خضوع وتحيّة لآجم ‏(‏لا سجود عبادة، فالمعبود هو الله وحده‏)‏ فصدعوا للأمر الرباني وسجدوا‏.‏ وقد جاء السجودُ في القرآن بمعنى غير العبادة كما هو هنا، وفي سورة يوسف‏:‏ ‏{‏وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏ أي تحيةً، كما هي العادة التي كان الناس يتبعونها في تحية الملوك والعظماء‏.‏

ولقد سجد الملائكة كلهم أجمعون الا أبليس أبى وامتنع‏.‏ لقد استكبر، فلم يطع أمر الحق، ترفعاً عنه، وزعماً بأنه خيرٌ من آدم، كما ورد في سورة الأعراف ‏{‏قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ‏}‏ ‏[‏الاعراف‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وكان من الكافرين بِنِعم الله وحكمته وعلمه‏.‏

وقد التبسَ على بعض الغربيّين أمرُ السجود، وذلك ديدنُهُم في النقد كلّما وجدوا له فرصة في قصص القرآن‏.‏ قال‏:‏ بابيني «الايطالي صاحب كتاب» الشيطان «‏:‏» انه يستغرب ان يؤْمر إبليس بالسجود لآدم مع غلوّ القرآن في تحريم الشِرك وتنزيه الوحداينة الإلَهية‏.‏ «فهو إما أنه لا يعرف ان السجود قد يكون للتحية والتكريم‏.‏ أو انه من اولئك المتعصّبين الذين لا يريدون ان يفهموا‏.‏ وهؤلاء لا حيلة لنا معهم، وهم في الغرب كثيرون‏.‏

وإبليس‏:‏ أشهر اسم للشيطان الأكبر، ومن أشهر أسمائه في اللغات‏:‏» لوسيفر «و» بعلزبول «و» مغستوفليس «و» عزازيل «‏.‏ وقد تقدم أن الشيطانَ كل عاتٍ ومتمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء، وهذا الأسماء تمثل قوةَ الشر الكبرى في العالم في موقفها أمام عوامل الخير والكمال‏.‏

والشيطان كلمةٌ عربية أصيلة، لأن اللغة اشتملت على كل أصل يمكن اني تفرع منه لفظ الشيطان، ففيها مادة شط وشاط وشطَنَ وشَوَط، وكل هذه الألفاظ تدل على البُعد والضلال والتلهُّب الاحتراق‏.‏ وهي تستوعب أصول المعاني التي تُفهم من كلمة شيطان‏.‏ وقد كان العرب يسمّون الثعبان الكبير شيطاناً، وبذلك فسّر بعض المفسّرين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 65‏]‏ أي الأفاعي، وورد كثيرا في الشعر العربي‏.‏

ويرى بعضهم ان» إبليس «مأخوذ من الإبليس، ومعناه النَّدم والحُزن واليأس من الخير، فيما يقول بعضهم إنه أعجمي‏.‏‏.‏

لكنه على كل حال يدل على الفتنة والفساد‏.‏

وإبليس من الجن، لما ورد بصراحة في القرآن ‏{‏وَإِذَا قُلْنَا للملاائكة اسجدوا لآدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 50‏]‏‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ «جنّيُّ الملائكةِ والجن واحد، لكن من خَبُثَ من الجن وتمرد شيطان، ومن تطهّر ملَك»‏.‏ وقال الراغب‏:‏ «» الجن يقال على وجهين احدُهما للروحانيين والمستترين عن الجواس كلها بإزاء الإنس، فعلى هذا تدخل فيه الملائكة كلها «‏.‏

ويقول في تفسير المنار‏:‏» وليس عندنا دليل على ان بين الملائكة والجن فصلاً جوهرياً يميمز أحدهما عن الآخر وانما هو اختلاف أصنافٍ عندما تختلف أوصاف، كما ترشد اليه الآيات‏.‏ وعلى كل حال فانّ جميع هذه المسمّيات بهذه الأسماء من عالم الغيب لا نعلم حقائقها ولا نبحث عنها «فعلينا ان نؤمن بها كما وردت‏.‏

ولا يهمنا ان كان ابليس من الملائكة أو من الجن، فهذا جدلٌ لا طائل تحته، والمهم انه عصى ربه وأصبح عنواناً على الشر والطغيان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 37‏]‏

‏{‏وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏35‏)‏ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏36‏)‏ فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قد عُلم مما تقدم ان حقيقة كل أمور التكوين والخلق ونشأة الانسان أمرٌ يفوضه السلَفُ الى الله تعالى، ويكتفون بظاهر اللفظ فيه‏.‏

اما الخلف فيلجأون الى التأويل، وأمثلُ طرقه في هذا المقام التمثيل‏.‏

وقد مضت سنّة الله في كتابه ان يُبرز لنا الأشياء المعنوية في قوالب العبارة اللفظية ويبين لنا المعارف المعقولة بالصور المحسوسة، تقريباً للأفهام‏.‏ ومن ذلك انه عرّفنا قيمة أنفسنا، وما أُدعته فطرتُنا مما تمتاز به على سائر المخلوقات‏.‏ فعلينا والحال هذه ان تجتهد في تكميل أنفسنا بالعلوم التي خلقنا الله مستعدّين لها من دون الملائكة وسائر الخلق‏.‏‏.‏ بذلك تظهر حكمته فينا، ونشرف، على معنى إعلام الله الملائكةَ بفضلِنا عليهم ومعنى سجودهم لأصلنا‏.‏

فمجمل الآيات السابقة ان هذا العالَم لما استعدّ لوجود هذا النوع الانساني واقتضت الحكمة الإلَهية استخلافه في الارض أعلم الله تعالى الملائكةَ بذلك‏.‏ وقدّر الملائكة انه يفسد النظام ويسفك الدماء، حتى اعلمهم الله ان علمهم لم يحط بمواقع حكمته‏.‏ ثم أوجد آدم وفضّله بتعليمه الأسماء كلها، فيما كلُّ صنف من الملائكة لا يعلم الا طائفة محدودة منها‏.‏ لذلك أمرهم الله بالخضوع لآدم فأطاعوه الا روحاً واحداً هو مبعث الشر، أبى الخضوع واستكبر عن السجود‏.‏ فكان بذلك من الكافرين‏.‏

ومجمل الآيات هنا‏:‏ ان الله تعالى لما خلق آدم وزوجته أسكنهما الجنة وقال لهما‏:‏ اسكنا فيها، وكُلا منها ما تشاءان، من اي مكان وأي ثمر، ولا تقربا شجرة معينة، لتأكلا منها، وإلا كنتما من الظالمين العاصين‏.‏ لكن ابليس الحاسد لآدم، الحاقد عليه، أخذ يغريهما بالأكل من تلك الشجرة حتى زلاَ فأكلا منها‏.‏ عند ذلك أخرجهما الله مما كان فيه من النعم وأمرهما أن يعيشا في هذه الارض، وذرّيتهما من بعدهما، ويكون بعضهم لبعض عدوّا‏.‏ وأبلغهم أن لهم في الأرض استقراراً، وتيسيراً للمعيشة الى أجل معين، لأن هذه الدنيا فانية والدار الآخرة هي الباقية‏.‏

‏{‏فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ‏}‏ يعني ان الله تعالى ألهمه بعض الدعاء وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين‏}‏ فتاب عليه، اي رجع عليه بالرحمة والقبول ‏{‏إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم‏}‏ الذي يقبل التوبة عن البعد اذا اقترف ذنباً ثم ندم على ما فرط منه‏.‏ انه هو الذي يحفّ عباده بالرحمة اذا هم أساؤوا ورجعوا اليه تائبين‏.‏

وقد جاءت هذه الآيات ليعتبر الخلقُ ببيان الفطرة الآليهة التي فَطَر الله عليها الخلق، الملائكة والبشر، وليدركوا ان المعصية من شأن البشر، فكأنه تعالى يقول‏:‏ لا تأسَ يا محمد على القوم الكافرين، ولا تبخع نفسك على ان لم يؤمنوا برسالتك، إن الضعف موجود في طبائعهم‏.‏

انظر ما وقع لآدم وما كان منه، وسنّة الله لا تتبدل‏.‏

وقد استقر أمر البشر على ان سعادتهم في اتّباع الهداية الإلَهية، وشقاءهم في الانحراف عن سبلها‏.‏

والجننة المرادة هنا أمرٌ اختلف فيها المفسرون‏.‏ فقال بعضهم انها جنة الخُلد، اي دار الثواب التي اعدها الله للمؤمنين يوم القيامة‏.‏ قال ابن تيمية «وهذا قول أهل السنّة والجماعة، ومن قال غير ذلك فهو من الملحِدة»، ولا أدري كيف يجرؤ غفر الله له على هذا القول ويجعل من قال به ملحِدا، وعلى رأس القائلين بذلك إمامان جليلات هما ابو حنيفة والماتريدي وكثيرون غيرهم‏.‏

وقال كثيرون ان تلك الجنةى بستان في الأرض وليست هي جنة الخلد‏.‏ وعلى هَذا جرى أبو حنيفة وتبعه أبو منصور الماتريدي في تفسيره حيث قال‏:‏ «نحن نعتقد ان هذه الجنة بستان من البساتين، كان آدم وزوجته منعمين فيها وليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها»‏.‏

وقال الأولي في تفسيره‏:‏ روح المعاني، «ومما يؤيد هذا الرأي‏:‏

01 ان الله خلق آدم في الارض ليكن خليفة فيها هو وذريته‏.‏

02 انه تعالى لم يذكر أنه بعد خلْق آدم في الارض عرج به الى السماء، ولو حصل لذُكر، لأنه أمر عظيم‏.‏

03 ان الجنة الموعود بها لا يدخلها إلاَّ المتقون المؤمنون، فكيف دخلها الشيطان الكافر للوسوسة‏!‏

04 انها دار للنعيم والراحة، لا دار تكليف وقد كُلف آدم وزوجه ألا يأكلا من الشجرة‏.‏

05 أنه لا يُمنع من في الجنة من التمتع بما يريد منها‏.‏

06 انه لا يقع فيها العصيان والمخالفة لأنها دار طهر، ولا دار رجس‏.‏

وعلى الجملة، فالأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها لا تنطبق على هذه الجنة التي سكنها آدم وطرد منها‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

اما الشجرة التي نُهي آدم وزجته ان يأكلا منها فلم يبيّن الله في كتابه نوعها، ولم يَرد في السنّة الصحيحة تعيينها، فلا نستطيع ان نعيّنها من تلقاء أنفسنا بلا دليل قاطع‏.‏

وقال الاستاذ العقاد في كتابه‏:‏ المرأة في القرآن «ان قصة الشجرة الممنوعة التي أكل منها آدم وحواء هي الصورة الانسانية لوسائل الذكَر والأنثى في الصلة الجنيسة بين عامة الأحياء، الرجل يريد ويطلب، والمرأة تتصدى وتغري‏.‏ وتتمثل في القصة بداهة النوع في موضعها، أي حيث ينبغي ان تتمثل أول علاقة بين اثنين من نوع الانسان‏.‏ وقد وردت القصة في القرآن في ثلاثة مواضع، ووردت في الاصحاح الثالث من سِفر التكوين‏.‏ وفي الاصحاح الحادي عشر من العهد الجديد في كتاب كورنثوس الثاني، والاصحاح الثاني في تيموثاوس‏.‏

وهي تعبّر برموزها السهلة عن بداهة النوع المتأصلة في ادراكه للمقابلة بين الجنسين، وعن دور اكل منهما في موقفه من الجنس الآخر، على الوجه الوحيد الذي تتم به ارادة النوع، والمحفاظة على بقائه‏.‏

وخلاصة القول‏:‏ ان ثمرات هذه الشجرة هي ثمرات التكليف بجميع لوازمه ونتائجه، وما كان الفارق بين آدم قبل الأكل منها وبعد الأكل الا الفارق بين الحياة في دعة وبراءة، والحياة المكلّفة التي لا تخلو من المشقة والشقاق والامتحان بالفتنة ومعالجة النقائص والعيوب‏.‏ وكلّما تكررت القصة في الآيات القرآنية كان في تكرارها تثبيت لهذا المعنى على وجه من وجوهه المتعددة‏.‏ يبدو ذلك جلياً من المقابلة بين ما تقدم، وما جاء عن هذه القصة في سورة الأعراف، وذلك حيث يُذكر التصوير بعد الخلق، أو اعطاء الصورة بعد اعطاء الوجود‏.‏‏.‏‏.‏

وفيها يتبين ان من تمام التوكيد لحدود التكليف في هذه القصة ان خطاب آدم به لا يغني عن خطاب بنيه وأعقابه، فهو مكلَّف وهم مكلَّفون، وخطيئته لا تُلزمخم وتبوته لا تغنيهم‏.‏ اما مولدهم منه فإنما يُخرجهم على سنَة الأحياء المولودين حيث يحيون وحيث يكّرمون ويموتون‏.‏

واما قضية عصيان آدم ومخالفته فقد تكلم فيها المفسرون، والمستشرقون الغربيون، وتخبطوا في ذلك‏.‏ والحق ان قليلاً من النقاد الغربيين من يفطن للخاصة الاسلامية التي تتمثل في قصة آدم هذهز اذ الغالب في أوساطهم ان يتكلموا عن زلة آدم فيسمّوها «سقوطا» ثم يرتبوا عليها ما يترتب على السقوط الملازم لطبيعة التكوين‏.‏ هذا مع انه ليس في القرآن أثر قط للسقوط بهذا المعنى في حق كائن من الكائنات العلوية أو الارضية، وانما هو انتقال الانسان من حال الى حال او من عهد البراءة والدعة الى عهد التكليف والمشقة‏.‏

وجوهر المسألة في القصة ان القرآن الكريم لم يذكر قط شيئاً عن سقوط الخليقة من رتبة الى رتبة دونها، ولا سقوط الخطيئة الدائمة بمعنى تلك التي يدان فيها الانسان بغير عمله‏.‏ انه لا يعرف ارادةً معاندة ف يالكمون لإرادة الله يكون من أثرها ان تنازعه الأرواحَ وتشاركه في المشيئة وتضع في الكون أصلاً من أصول الشر‏.‏

لقد جاء الاسلام بهذه الخطوة العظمى في أطوار الأديان فقرر في مسألة الخير والشر والحساب والثواب أصحَّ العقائد التي يدين بها ضمير الانسان، وقوام ذلك عقيدتان‏:‏

أولاهما‏:‏ وحدة الارادة الالَهية في الكون‏.‏

والثانية‏:‏ ملازمة التبعة لعمل العامل دون واسطة أخرى بين العامل وبين ضميره وربّه «‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعاً‏.‏‏.‏‏}‏ أي آدم وحوّاء وابليس، فقد انتهى طور النعيم الخالص الذي كنتم فيه، وادخلوا في طور لكم فيه طريقان‏:‏ هدًى وايمان، وضلال وخسران؛ ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى‏}‏ عن طريق رسولٍ مرشد وكتاب مبين فإن لكم الخيار‏.‏ فمن تبع هداي الذي أشرعه وسلَكَ صراطي المستقيم الذي أوضحه ‏{‏فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ من وسوسة الشيطان وما يعقبها من الشقاء والعذاب بعد يوم الحساب والعرض على الملك الديّان، ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ على فوت مطلوب أو فقد محبوب، لأنهم يعلمون بهذه الهداية ان الصبر والتسليم مما يرضى الله ويوجب مثوبته، فيكون لهم من ذلك خير عوض عما فاتهم، وأفضل تعزية عما فقدوه‏.‏

والهبوط في «اهبطوا» أصله الانحدار على سبيل القهر، ويجوز أن يُقصد به هنا مجرد الانتقال كما في قوله تعالى‏:‏ «اهبطوا مصراً» أي ارتحِلوا اليها‏.‏

وقد أمر الله تعالى آدم وحواء وإبليس بالهبوط مرّتين‏:‏

الاولى، للاشارة الى أنهم يهبطون من الجنة الى دار بلاء وشقاء، ودار استقرار في الأرض للتمتع بخيراتها الى حين‏.‏

والثانية، لبيان حالهم من حيث الطاعة والمعصية، وانهم ينقسمون فريقين‏:‏ فريق يهتدي بهدى الله الذي أنزله وبلّغه للناس على لسان رسُله، وفريق سار في الضلال وكذّب بالآيات، فحق جزاؤهم في جهنم خالدين فيها أبدا‏.‏ وهم المشار اليهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

والآيات جمع آية‏:‏ وهي العلامة الظاهرة، وكل ما يدل الإنسانَ ويرشده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 43‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏40‏)‏ وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ‏(‏41‏)‏ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏42‏)‏ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

اسرائيل‏:‏ لقب يقعوب بن اسحاق بن ابراهيم، ومعنى اسرائيل‏.‏ الأمير المجاهد، أو صفّي الله‏.‏ وهناك من يرى أنه تعني «عبد ايل»، اي عبدالله، من فعل أسِر العبري، ورديفِه في العربية‏.‏ اما إسحاق، فمن أصل «يستحك» العبري ومعناه‏:‏ يضحك‏.‏ وقد اعترض الكثير من علماء اللاهوت الاوروبيين على الستمية بصيغة «الفعل» حتى شكّوا في الأصل‏.‏ وبنوه‏:‏ ذريته، وهم الأسباط الاثنا عشر، ويسمَّون العبرانيين ايضا لعبورهم نهر الأردن‏.‏ وهم منتشرون في العالم كله، حيث اختصوا بالنشاطات السهلة الكبيرة المردود، وكانوا يقدَّرون قبل الحرب العالمية الثانية بنحو 16 مليوناً، هلك منهم في الحرب نحو خمسة ملايين كما يزعمون‏.‏ ويتكلم أكثرهم اللغة الإيديّة، وهي لغة أقلِّيَةٍ اساسُها الألمانية ممتزجة بكلمات عبرية، والعبرية لغتهم الاولى وهي احدى اللغات الساميّة‏.‏

ويبدأ تاريخهم المعروف باقامة فريق منهم في «غوش» في الشمال الشرقي من مصر، منذ عدة قرون قبل المسيح، أيام رمسيس الثاني، وكانوا زرّعا‏.‏ وقد لاقوا في مصر بعض العنَت الى ان خرج بهم موسى‏.‏ وفي طور سيناء أبلغهم الوصايا العشر فلم يحفظوها‏.‏ ثم تاهوا في الصحراء سنين عديدة قبل ان يستولوا على قسمٍ من ارض كنعان استقروا فيه‏.‏

وكانوا منقسمين الى قبائل، على رأس كل احدة شيخ قبلي وكاهن يسمّونه القاضي‏.‏ هذا هو نظام القضاة‏.‏ ولقد حاربوا الفلسطينيين القادمين من كريت، بقيادة شاؤول‏.‏ فهزمهم هؤلاء‏.‏ ثم جاء داود ووحّدهم وانتصر بهم على اعدائه، وحقّق لشعبه السلام والرفاهية‏.‏

وعقبه سليمان الذي بنى أول هيكل‏.‏ ثم انقسم بعده اليهود الى اسباط الشمال بقياة يربعام، وكونّوا مملكة السامرة، وأسباط الجنوب تحت قيادة ابن سليمان وكونوا مملكة يهوذا‏.‏

ودارت الحرب بين المملكتين مدة طويلة، ثم استولى الآشوريون على المملكتين، ونفوا كثيرا من اليهود‏.‏ ثم استولى عليهما المصريون، ومن بعدهم البابليون الذين هدموا الهيكل 586 ق‏.‏ م وا×ذوا اليهود اسرى الى بابل‏.‏ وقد بقوا هناك حتى سمح لهم قورش الفارسي بالعودة، واعادوا بناء هيكلهم مرة أخرى سنة 516 ق‏.‏ م‏.‏ وفي العصر الهليني كانوا جماعة دينية لا كيان لهم، واستعادوا استقلالهم السياسي تحت المكابيين‏.‏ ثم أدى النضال بين الفريسيين والصدوقيين، وهما من أهم الفرق اليهودية، الى ان تدخّل الرومان الذين استولوا على البلاد من البطالسة وهدموا اورشليم سنة 70 م‏.‏ وفي القرون الوسطى وقع على اليهود من قبل الاوروبيين اضطهاد شديد استمر حتى القرن الثامن عشر‏.‏ لقد حُرّم عليم امتلاك الارض، وممارسة كثير من المهن الحرة، ولم يُترك لهم الا التجارة الصغيرة وتسليف النقود‏.‏ لذا تجمعت شراذمهم في أحياء خاصة بهم‏.‏ وقد طرد كثير منهم من فرنسا وانجلترا واسبانيا والبرتغال، ولجأوا الى هولندا وبلاد الاسلام حيث عاشوا آمنين‏.‏

ثم أخذت الرأسمالية بيدهم في القرن الثامن عشر للميلاد وأصبحوا وراء الأعمال الاقتصادية الكبرى‏.‏

وقد أدى تحررهم التدريجي الى ظهور تيارين متعارضين في أوساطهم، أولهما يدعو الى رسالة ثقافية، وعلى رأسه موسى مندلسون، والثاني يدعو الى رسالة سياسية هي الصهيونية، وعلى رأسه ثيودور هرتزل 1896‏.‏ وقد نشط التيار الثاني وسعى معتنقوه الى المطالبة بدولة يهودية في فلسطين حتى نجحوالا في ذلك بمساعدة الدول الغربية المسيحية، وما مساعدتها هذه الا حركة امتداد للحروب الصليبية الغابرة‏.‏

هكذا وُجدت الحركة الصهيونية الرامية الى أقامة دولة يهودية على غرار الدولة القديمة التي قضت عليها روما‏.‏ وقد سعى زعيمها هرتزل سعياً حثيثاً لجمع المال والرجال وعقّد أول مؤتمر لجماعته في مدينة بال بسويسرا وفي ذلك المؤتمر قال هرتزل‏:‏ «الآن خُلقت دولة اسرائيل»، فقد قرر المؤتمرون تكوين منظمات صيهونية في البلاد التي يقطنها عدد كاف من اليهود‏.‏ وقام بأمر الصهيونية من بعده زعماء آخرون أمثال ماكسي نوردو، وحاييم وايزمان‏.‏ وتعاقبت مؤتمارتها، وتحمس لها يهود شرق اوروبا، وأمداها يهود امريكا بالمال‏.‏

وتطلعت الصهيونية الى فلسطين‏.‏ ثم جاء وعد بلفور، الوزير الانجليزي، سنة 1917 الذي سمح لليهود ان يكون لهم وطن قومي في فلسطين فعزز آمال الصهاينة‏.‏ ومن ثم بدأت هجرة اليهود الى فلسطين سنة 1923 وزادت في عهد الانتداب الانجليزي بالتواطؤ، وقد شجّعت على ذلك حركات الاضطهاد في أوروبا كالحركة النازية‏.‏

وفي سنة 1945 أوقف الانجليز الهجرة، ولكن بعد أن أصبح عدد اليهود في فلسطين خطرا على العرب‏.‏ ثم كانت المشلكة الفلسطينية الكبرى التي عُرضت على هيئة الأمم، فقررت تقسيم فلسطين بين العرب واليهود في 14 يونيه 1948‏.‏

ولم يقبل العرب هذا التقسيم لأنه هدرٌ لحقهم في وطنهم، ورغم ذلك أُعلنت الدولة اليهودية في ذلك التاريخ‏.‏ وقامت الحرب بين أهل فلسطين واليهود حتى دخلت جيوش الدول العربية‏.‏ ولم يكن العرب على استعداد للحرب اما اليهود فكانوا قد أعدوا كل شيء، بفضل الدول الغربية‏.‏ لذا أخذوا أكثر من القسم الذي خصصه لهم قرار التقسيم‏.‏

ولا تزال الحالة متوترة والحرب قائمة ولن تهدأ حتى يسترد الفلسطينيون حقوقهم كاملة‏.‏ والله نسأل ان يلهمنا رشدنا ويوحّد صفوفنا بقوة من عنده‏.‏ ولابد من نصرِنا عليهم طال الزمن أو قصر‏.‏

بعدن استعرض سبحانه وتعالى في أوائل هذه السورة الكتابَ الحكيم وانه لا ريب فيه، بيّن أصناف البشضر من مؤمن وكافر ومنافق، ثم طالب الناس بعبادته‏.‏ ثم اقام الدليل على ان الكتاب مُنزل من عند الله على عبده محمد وتحدى المرتابين ان يأتوا بمثله‏.‏ ثم حاجّ الكافرين‏.‏ ثم ذكر خلق السماوات والأرض، وان جميع ما في الارض من منافع هي للانسان‏.‏

وهنا خاطب الشعوب والأمم التي ظهرت بينها النبوة، فبدأ بذِكر اليهود لسببين‏:‏

الأول أنهم أقدم الشعوب التي أُنزلت عليها الكتب السماوية، والثاني لأنهم كانواأشد الناس حقداً على المؤمنين في المدينة المنورة‏.‏ كان اليهود في المدينة وشمال الحجاز، في خَيبر وغيرها، يكيدون للاسلام، ويوغرون صدور المشركين على النبي والصحابة، فذكّرهم الله تعالى بنعمته عليهم اذا جعل النبوة فيهم زمناً طويلا، وطلب اليهم القيام بواجب شكرها وكأنه يسألهم أن أوفوا بوعدي الذي أخذتُه علكيم وأقررتموه على أنفسكم وهو الايمان والعمل الصالح والتصديق بمن يجيء بعد موسى من الأنبياء حتى أوفي بوعدي لكم، وهو حسن الثواب والنعيم المقيم‏.‏

وهذه الآية تشير إلى وجوب وفاء كلا المتعاقدين بما عليه من التزام، فاذا أخلّ احدهما بالتزامه سقط وجوب الوفاء عن الآخر‏.‏

ان عليكم يا أبناء يعقوب وذريته أن تؤمنوا بالقرآن الذي أنزلتُ مصدّقاً لما عندكم من كتب، واحذروا ان تسارعوا الى جحود القرآن فتكونوا أول الكافرين به بدل أن تكونوا أول المؤمنين بهديه‏.‏

‏{‏وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ اي لا تُعرِضوا عن التصديق بالنبيّ وما جاء به وتستبدلوا بهدايته هذا الثمن القليل الذي يستفيده الرؤساء من مرؤوسيهم من مالٍ وجاه، ويرجوه المرؤوسون من الحظوة باتباع الرؤساء خشية سطوتهم اذا ما خالفوهم‏.‏ كذلك اتقوني بالإيمان، واتّباع الحق، والإعراض عن لذات الدنيا متى شغلت عن أعمال الآخرة‏.‏

‏{‏وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ لا تخلطوا الحق المنزَل من عند الله بالباطل الذي تخترعونه من عند أنفسكم، ولا تكتموا الحق وأنتم تعرفونه حق المعرفة‏.‏

لقد بيّنت هذه الآية مسلكهم في الغرابة والإغراء‏.‏‏.‏‏.‏ فرغم انه قد جاء في الكتب التي بين أيديهم تحذير متكرر من أنبياء كذَبةٍ يُبعثون فيهم ويجترحون العجائب، وجاء فيها أيضاً ان الله تعالى يبعث فيه نبياً من ولد اسماعيل وزوجه الجارية هاجر فقد ظلّ الاحبار يكذبون على العامل ويقولون‏:‏ إن محمداً واحدٌ من اولئك الأنبياء الذين وصفتهم التوراة بالكذب‏.‏ لقد ظلوا يكتمون ما يعرفون من أوصافه التي تنطبق عليه، وبذلك يحرّفون كثيرا من الكتب التي بين أيديهم‏.‏

وهنا أمَرهم الله تعالى أن يؤمنوا حقيقة وفعلاً، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة علّها تطهّرهم، ثم أن يركعوا مع الراكعين‏.‏‏.‏ حتى يكون من المسلمين حقيقة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 46‏]‏

‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏44‏)‏ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ‏(‏45‏)‏ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

لا يزال الكلام موجَّهاً الى بني إسرائيل، وأحبارهم على الخصوص‏.‏ لقد وبخهم الله على اعوجاج سيرتهم وفساد أعمالهم، فقد كانوا يتلون التوراة ولا يعملون بما فيها‏.‏ كانوا يأخذون ما يوافقهنم ويتركون ما يعارض شهواتهم وأهواءَهم‏.‏ وقد جاء في عدة مواضع من التوراة نبأ البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فحرّفوا هذه الباشرة وأوّلوها بما يوافق هواهم‏.‏ حتى إن بعض احبارهم كان ينصح سراً بالإيمان بمحمد لمن يحب ولا يعمل بذلك‏.‏

‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ألا يوجد فيكم عقل يردكم عن هذه السفة‏؟‏

ومع ان الخطاب ليهود، وهذا حالهم، فإنه عامٌ وعبرة لغيرهم‏.‏

وبعد ان بيّنت الآيات سوء حالهم وأن عقلهم لم ينفعهم، أرشدتْهم الى الطريقة المثلى للانتفاع بالكتاب والعقل والعمل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏‏.‏‏.‏ والصبر حبْسُ النفس على ما تكره‏.‏ وقد حث الله على الصبر كثيراً في عدة آيات، وجعل أحسن الجزاء لمن صبر على الشدائد، وعن الشهوات المحرمة التي تميل اليها النفوس، وعلى أنواع الطاعات التي تشق على النفس‏.‏ كذلك أمر بالاستعانة بالصلاة لما فيها من تصفية النفس ومراقبتها في السر والنجوى‏.‏ وناهيك بعبادة يناجي فيها العبدُ ربه خمس مرات في اليوم‏!‏ وليست الصلاة مجرد عبادة فحسب، بل هي انبعاث خفي لروح العبادة في الانسان، وأقوى صورة للطاقة التي يمكن أن يولّدها الانسان‏.‏ واذا ما أصبحت الصلاة الصادقة عادةً فإن حياتنا ستمتلئ بفيض عميق من الغنى الملموس‏.‏

لذلك ورد الحث على الصلاة في كثير من الآيات‏.‏ ان الصلاة قوة لا يقدّرها الا العارفون والملهمون‏.‏ ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين‏}‏ أي أن الصلاة ثقيلة شاقّة إلا على المؤمنين ايماناً حقيقياً، الخاشعين لله حقا‏.‏ ‏{‏الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏}‏ أي الّذين يتوقعون لقاءَ الله تعالى يوم الحساب والجزاء، فيجازيهم أحسن الجزاء على ماقدّموا من عمل صالح‏.‏