فصل: تفسير الآية رقم (18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

روى ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس قال‏:‏ أتى رسولَ الله جماعة من اليهود، فكلّمهم وكلّموه، ودعاهم الىلله وحذّرهم نقمته فقالوا‏:‏ «ما تخوِّفُنا يا محمد‏؟‏ نحن والله أبناءُ الله وأحبّاؤه»‏.‏ وكذلك قالت النصارى‏.‏ فأنزل الله تعالى هذه الآية يردُّ فيها عليهم‏.‏

والتفسير‏:‏

قالت اليهود والنصارى‏:‏ نحن المفضَّلون، لأننا أبنا ءالله والمحَبَّبُون لديه‏.‏ فقل لهم أيها الرسول‏:‏ لماذا يعذّبكم بذنوبكم إذن‏؟‏ ولماذا يُدخلكم نار جهنم بأعمالكم‏؟‏ إنكم في قولكم هذا لكاذبون، فما أنتم الا بشر كسائر الناس‏.‏ والله تعالى بيده كل شيء، يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء‏.‏ هو ربّ السماوات والأرض وإليه مَردُّ كل مخلوقاته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏19‏)‏‏}‏

يا أهل الكتاب، ها قد جاءكم رسول الله من عند ربكم يظهر لكم الحق، بعد ان توقفت الرسالات فترة من الزمن، ويبين لكم جميع ما أنتم في حاجة إليه، لئلا تقولوا‏:‏ ما جاءنا بشير ولا نذير‏؟‏ ها قد جاءكم بشير لمن أحسن، ونذير لمن أساء‏.‏ فماذا أنتم فاعلون‏؟‏ افعلوا ما شئتم، فالله على كل شيء قدير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏20‏)‏ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

اذكر يا محمد حينما قال موسى لقومه‏:‏ يا بني إسرائيل، تذكَّروا فضل الله عليكم، واشكروا له نعمه وأطيعوه، إذ جعل فيكم أنبياء يتولّونكم بالهداية والارشاد، وجعل منكم ملوكاً فأعزّكم بهم بعد أن كنتم أذلاء في مملكة فرعون، وحباكم بنعمٍ لم يؤتِ مثلها أحداً غيركم فأطيعوا‏.‏ يا قوم، أدخُلوا الارض المقدَّسة التي قدَّر الله عليكم دخولها، ولا تجبُنوا أمام أهلها، ولا تتراجعوا عن طاعته أيضاً‏.‏ فإن انقلبتم عن الطاعة عُدتم خاسرين لثواب الدارَين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ‏(‏22‏)‏ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قال قوم موسى مخالفين أمر الله‏:‏ يا موسى، إن في هذه الأرض التي أمرتنا بدخولها جبابرة لا طاقة لنا بهم، ولا نقوى على محاربتهم ولهذا فإننا لن ندخل هذه الأرض ما دام هؤلاء الجابرون فيها، فإذا خرجوا منها دخلناها‏.‏

عند ذلك قال رجلان من رؤسائهم أنعم الله عليهم بالطاعة والتوفيق‏:‏ أدخلوا أنتم على الجبارين واقتحموا الباب مفاجئين لهم، وستنتصرون عليهم‏.‏ توكلوا على الله يا قومنا في كل أموركم ان كنتم صادقين في ايمانكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

بذلك أصرّوا على العناد والتمرد ومخالفة أوامر الله وبيّهم‏.‏ لقد قالوا‏:‏ نحن مصممون على البقاء في مكاننا وعدم لقيا هؤلاء الجبارين، فدعنا يا موسى واذهب أنت وربك‏.‏‏.‏ قاتِلا الجبارين وحدكما‏.‏ فلن نشارككما ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

فلما يئس موسى من قومه وأصروا على العناد قال مناجياً ربه‏:‏ يا رب، لا سلطان لي إلا على نفسي وأخي، فافصِل بيننا وبين هؤلاء القوم المنحرفين عن طاعتك، بقضاء تقضيه بيننا، فاستجاب الله لموسى وقال‏:‏ ان هذه الأرض محرّمة عليهم أربعين سنة، يقضونها تائهين في الصحراء‏.‏ ثم ودّ اللهُ أن يواسي موسى، فأمر ألا يحزن على ما أصابهم، لأنهم عصوا أمري اليك، فاستحقوا عذابي هذا تأديباً لرؤوسهم‏.‏

وإذا نظرنا لحالنا اليوم وجدنا أنفسنا أتعس من أولئك اليهود‏.‏‏.‏ لقعودنا عن الجهاد وجُبننا عنه، وضفعنا وتشتُّت كلمتنا‏.‏ لقد تخلَّفنا عن الجهاد في سبيل وطننا السليب، وصار بعضُ حكامنا ينتظرون من أميركا وبريطانيا، حلفاءِ عدوّنا وشركائه في الجريمة، ان يساعدونا على حل مشكلتنا‏.‏ والحق، أننا طوال ما ظلننا على هذه الحال فسنظل مشرّدين معذّبين، يضل اليهود يحتلّون أرضنا وينتهكون حرمة مقدّساتنا‏.‏ ولعلنا نستفيدُ من هذه العِبر ونتدّبر قرآننا ونعتبر بهذا التأديب الإلَهي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏27‏)‏ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏28‏)‏ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

التلاوة‏:‏ القراءة وغلبت على قراءة القرآن‏.‏ النبأ‏:‏ الخبر‏.‏ القربان‏:‏ ما يُتقرّب به من الذبائح والصدقات‏.‏ بسَط يده‏:‏ مدّها ليقتله‏.‏ تبوء بإثمي‏:‏ تلتزم بجريرتي‏.‏

في هذه الآيات والتي تليها بيان بعض الأحكام التشريعية الأساسية في الحياة البشرية، وهي التي تتعلق بحماية النفس والحياة، والنظام العام، والسلطة التي تقوم عليه، في ظل شريعة الله‏.‏ وقد بدأها سبحانه بقصة ابني آدم، وهي قصةٌ تكشف عن طبيعة الجريمة وبواعثها في النفس البشرية‏.‏

اتلُ يا محمد على الناس ذلك النبأ العظيم، وهو خبر ابنَي آدم‏:‏ هابيل وقابيل‏.‏ لقد قدّم كل واحد منهما قرباناً إلى الله‏.‏ كان هابيل صاحبَ غنَم فقدّم أكرم غنمِه واسمنها ‏(‏وهذا يمثّل طور البداوة والرعي‏)‏‏.‏ وكان قابيل صاحَب زرعٍ فقدم شرَّ ماعنده ‏(‏وهذا يمثل طور الزراعة والاستقرار‏)‏‏.‏ فتقبّل الله قربان هابيل ‏(‏الراعي‏)‏ ولم يتقبَّل قربان قابيل ‏(‏المزارع‏)‏، ‏(‏وكانت علامة القبول ان تأتَي نار وتحرقَ القربان المقبول‏)‏‏.‏ فحسد قابيلُ أخاه وتوعّده بالقتل حقداً عليه، فرد عليه الأخير ان الله لا يتقبّل العمل الا من الأتقياء المخلصين‏.‏ وقال له‏:‏ لئن أغواك الشيطان ومدَدت يدَك لتقتلَني، فلن أقابلَك بالمثل‏.‏ إني أخاف الله ربي ورب العالمين، ولن أقاومك إذا أردت قتلي‏.‏ فإن فعلت حملتَ ذنب قتلي، علاوة على ذنبك في عندم اخلاصك لله‏.‏ بذلك ستكون في الآخرة من أهل النار، وهذا جزاء الضالمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

فطوعت‏:‏ فسهَّلت‏.‏

لم تنفع معه المواعظ التي قدّمها أخوه ولم يخشَ بشاعة الجريمة وما يترتب عليها من إثم وعقاب‏.‏ وظلّت نفسه الأمارة بالسوء تشجّعه حتى قتل أخاه، فأصبح من الخاسرين‏:‏ خسر نفسه فأوردها موارد الهلاك، وخسر أخاه ففقد الناصر والرفيق‏.‏

لقد خسر دنياه فلم تعد تهنأ له حياة، وخسر آخرته بدخوله النار‏.‏ كذلك أصبح حائراً لا يدري ماذا يصنع، بعد ان رأى جثة أخيه وقد بدأ يسري فيها العفن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

عند ذلك أرسل الله غراباً ‏(‏وانتقى الغراب لأنه مقرون بالدمار في لغة العرب، والقتلُ شر دمار‏)‏ يعلّمه كيف يدفن غراباً ميتاً‏.‏ وقد باشر الغراب الحفر في الأرض ثم دفن الغرابَ الميت‏.‏ فقال القاتل عند ذلك‏:‏ يا حسرتي، أعجزتُ أن أكون مثل هذا الغراب فأستر جثة أخي‏!‏ وهكذا ظهرت سُنة الدفن‏.‏ وندم على جرمه الذي ارتكبه حيث لا ينفع الندم‏.‏

وفي الحديث الصحيح «لا تُقتل نفسٌ ظلماً إلا كان على ابنِ آدم كفلٌ من دمها لأنه أولُ من سنّ القتل»‏.‏

وتقدّم القصةُ صورتين لطبيعة بني آدم‏:‏ صورة لطبيعة الشر والعدوان كقاتل، وأخرى لطبيعة الخير والسماحة كرافض لأن يقتُل لذا بيّن سبحانه انه يجب ان يكون هناك تشريع يحفظ التوازن بين الناس، بموجبه يجب ان يلقى المجرم جزاءه‏.‏ وبذلك يعيش الناس في أمان وتصان نفوسهم، فقال‏:‏ من أجْل ذكك كتَبنا على بني اسرائيل‏:‏ الآية32‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

بسبب هذا الجرم الفظيع الذي ارتكبه ابن آدم أوجبنا قتْل المعتدي، لأن من قتل نفساً واحدة ظلماً وعدواناً بغير سبب موجب للقصاص، ولا فسادٍ يخلّ بالأمن، مثل ‏(‏قتْل الأنفس ونهب الأموال وقطْع الطرق‏)‏ فكأنما قتل الناس جميعاً‏.‏

هذا دليل على تعظيم أمر القتل العمد، وبشاعة هذا الجرم الكبير‏.‏ فقتلُ النفس الواحدة كقتل جميع الناس عند الله‏.‏ لأن القاتل هتك حرمة دمائهم، جرّأ غيره عليها‏.‏

ومن كان سببا في انقاذ نفس من الموت وإحيائها فكأنّما أحيا الناس كلهم، لصيانته دماء البشر، فهو يستحق الثواب العظيم من الله‏.‏

والآن‏.‏‏.‏ ما جزاء من يقتل المئات والألوف بأمرٍ منه‏!‏ سواء كان القتل بوسائل الحرب أم بالتجويع أم بقتل حرّيتهم عن طريق تجريدهم منها، فهو قتلٌ على كل حال‏؟‏ فانظروا ايها المسلمون الى واقعكم وتدبّروا أمركم، والله في عونكم حين تؤوبون الى صراطه‏.‏ فالاعتداء على الفرد اعتداءٌ على المجتمع، لذلك قال الفقهاء‏:‏ ان القصاص حق لولي الدم، ان شاء عفا واخذ الدية، وان شاء طلب القصاص‏.‏

وفي الآية ارشاد الى ما يجب من وحدة البشر وحرص كل منهم على حياة الجميع‏.‏ وكثيراً ما يشير القرآن الى وحدة الأمة ووجوب تكافلها وتضامنها، كما يؤكد وجوب تآزرها لرفع الضّيم عن حقوقها المهدورة‏.‏

ولقد بعث الله الرسل بالآيات الواضحة الي البشر‏.‏ فلم تغنِ عن الكثير منهم شيئا، اذ لم تهذب نفوسهم ولم تطهر اخلاقهم، فكانوا رغم كل ذلك يسرفون في الأرض فساداً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏33‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

يحاربون الله‏:‏ الذين يتعدون على الناس بالقتل والنهب وترويع الآمنين، ويخرجون على أحكام الشرع، ويفسدون في الأرض بقطع الطريق أو نهب أموال الناس‏.‏‏.‏ والاحتكارُ ضربٌ من الهب‏.‏ وعقابهم على اربعة انواع‏:‏ إما القتل او الصلبن، او تقطيع الايدي والأرجل من خلاف‏.‏ ‏(‏أي ان تُقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس‏)‏ او النفي من البلد الذي هم فيه‏.‏ والعقوبة اللازمة على قدر الجريمة المقترفة، وولادة المسلمين عن حقٍّ وجدارة هم الذين يقضُون في ذلك‏.‏

والحكمة في عدم التعيين والتفصيل أن المفاسد كثيرة تختلف باختلاف الزمان والمكان، فيختلف ضررها كذلك فللإمام الّذي يختاره المسلمون ان يقتلهم ان قتلوا، او يصلبهم ان جمعوا بين أخذ المال والقتل، او يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ان اقتصروا على أخذ المال، او أن يُنْفَوا من الأرض ان أخافوا الناس وقطعوا عليهم الطرق ولم يقتلوا‏.‏

ان ذلك العقاب ذلّ لهم وفضيحة في الدنيا ليكونوا عبرة لغيرهم من الناس، وجزاؤهم عذاب عظيم في الآخرة‏.‏

ثم استثنى ممن يستحقون العقوبة من تاب قبلَ ان يقدر عليه الحاكم‏.‏ فإن عقوبة الحاكم تسقط عنه، وتبقى حقوقُ العباد، او الحقوق الخاصة، فهي لا تسطق عنهم الا اذا سامح أصحاب الحقوق‏.‏ فاذا رأى الحاكم ان يُسقط الحق الخاص عن الجاني التائب، ولمصلحةٍ هو يراها وجب على ذلك الحاكم ان يعوض اصحاب الحقوق من مال الدولة‏.‏

وفي هذا الحكم بيانُ ان الشريعة الاسلامية تنظر الى آثار الجريمة التي فيها اعتداء مباشر على المجتمع، وتجعل العقوبة بقدر ما تحدثه الجريمة من اضطراب فيه، لا بقدر ذات الجرائم المرتكبة فقط‏.‏

ويُروى في سبب نزول هاتين الآيتين أن نفراً من قبيلة عُكل وعرينة قدموا المدينة، واعلنوا الاسلام، فأمر لهم النبيّ بعدد من الإبل وراعٍ، وأمرهم ان يقيمووا خارج المدينة، فانطلقوا حتى اذا كانوا بناحية الحَرَّة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا الراعي وهربوا بالابل‏.‏ وحين بلغ النبيَّ بعث بعض أصحابه فأدركوهم، وأحضروهم الى المدينة‏.‏ فعاقبهم الرسول الكريم أشد عقاب وقُتلوا جميعاً‏.‏

وعلى كل حال فإن العبرة بعموم اللفظ‏.‏ وقد احتج بعموم هذه الآيات جمهور العلماءِ وقالوا‏:‏ ان حكْم الذين يحاربون الله قائم، في اي مكان حصل منهم الاعتداء، في المدن والقرى، ام خارجها، لقولهن تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً‏}‏‏.‏ وهذا مذهب مالك والأوزاعي واللّيث بن سعد، والشافعي واحمد بن حنبل‏.‏ وزاد مالك فقال‏:‏ ان الذي يحتال على الرجل حتى يُدخله بيتاً فيقتله ويأخذ ما معه انما قد حارب الله، دمُه مهدور، يقتله السلطان، حتى لو عفا عنه أولياء المقتول‏.‏ وقال ابو حنيفة وأصحابه‏:‏ لاتكون الا في الطرق وخارج المدن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

تقوى الله‏:‏ طاعته واجتناب ما نهى عنه الشرع‏.‏ الوسيلة‏:‏ ما يتوسل به الانسانُ إلى ثواب الله، والفعل ‏(‏وسل‏)‏ بمعنى تقرَّب، واسمٌ لأعلى منزلة في الجنة‏.‏ الجهاد‏:‏ من الجهد والمشقة‏.‏ سبيل الله‏:‏ كل معمل في طريق الخير والفضيلة وفي الدفاع عن العقيدة والوطن، فكل عمل في هذه الأمور هو جهاد في سبيل الله‏.‏

بعد أن ذكَر الله تعالى ان اليهود قد هموا ببسْط أيديهم الى الرسول الكريم حسداً منهم لقوله، وغروراً بدينهم وأنفسهم أمر المؤمنين ان يتّقوا ربهم‏.‏ وذلك باجتناب نواهيه، والتقرب الى ثوابه ومرضاته بالايمان والعمل الصالح‏.‏ ثم أمرهم ان يجاهدوا في سبيله بإعلاء كلمته، ومحاربة اعدائه، كل ذلك للفوز بالفلاح‏.‏

اما الوسيلة التي هي منزلة من اعلى منازل الجنة فقد وردت في الأحاديث الصحيحة عن عدد من الصحابة الكرام‏.‏

روى البخاري وأحمد وأصحاب السنن عن جابر بن عبدالله ان النبي عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ «من قال حين يسم الأذان‏:‏ اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، حلّت له شفاعتي يوم القيامة»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏36‏)‏ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏37‏)‏‏}‏

ان الذين جحدوا ربوبية ربهم، وعبدوةا غيره، وماتوا على كفرهم لن يستطيعوا افتداء أنفسهم أبداً، فلو ملكوا ما في الأرض كلها وضِعفه معه وأرادوا ان يجعلوه فدية لأنفسهم من عذاب يوم القيامة لما قَبل منهم ذلك، ولا أخرجهم من النار‏.‏ فلا سبيل الى خلاصهم من العقاب‏.‏

روى مسلم والنسائي عن أنس بن مالك أن رسول الله قال‏:‏ «يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال له‏:‏ يا ابن آدم، كيف وجدت مضجعك‏؟‏ فيقول‏:‏ شر مضجع‏.‏ فيقال‏:‏ هل تفتدي بتراب الأرض ذهباً‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم يا رب، فيقول الله تعالى‏:‏ كذبتَ، سألتُك أقلَّ من ذلك لم تفعل، فيؤم به الى النار»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏38‏)‏ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏39‏)‏ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

النكال‏:‏ العقاب‏.‏ او العبرة، ‏{‏فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 66‏]‏‏.‏ بعد أن بيّن سبحانه عقاب الذين «يحاربون الله ورسوله»، وأمر بتقوى الله، وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيله ذكّرنا بعقاب اللصوص السارقين‏.‏ وقد جمع في هذه الآيات الكريمة بين الوازع الداخلي وهو الايمان والصلاح، والوازع الخارجي وهو الخوف من العقاب والنكال‏.‏

يا ولاة الأمور، اقطعوا يد من يسرق مِن الكف الى الرسغ‏.‏ وذلك لأن السرقة تحصل بالكف مباشرة‏.‏ وتُقطع اليد اليمنى أولاً لأن التناول يكون بها في الغالب‏.‏

والسرقة هي أخذُ مال الغير المحرَزِ خفيةً، فلا بد ان يكون المسروق مالاً مقوَّما‏.‏ والمبلغ المتفق بينَ فقهاء المسلمين على عقوبة سرقته هو ربعُ دينار‏.‏ ولا بد أن يكون هذا المالُ محفوظاً في دار او مخزن وان يأخذه السارق من هناك‏.‏ فلا قطع مثلاً على المؤتمن على مالٍ إذا سرقهن او أنكره‏.‏ وكذلك الخادم المأذون له بدخول البيت لا يُقطع فيما يسرق‏.‏ ولا على المستعير اذا جَحَد العارية‏.‏ ولا على سارق الثمار في الحقل‏.‏ ولا على المال خارج البيت او الصندوق المعد لصيانته‏.‏

ولا قطْع حين يسرق الشريكُ من مال شريكه، ولا على الذي يسرق من بيت مال المسلمين‏.‏ وعقوبة هؤلاء هي التعزير او الحبس اوة ما يراه القاضي‏.‏

والشُبهة تَدرأ الحدَّ، فشبهة الجوع والحاجة تدرأه، وشبهة الشركة في المال تدرأه، ورجوع المعترف وتوبته تدرأ‏.‏ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام «إدرأوا الحُدودَ بالشُبُهات» وفي ذلك يقول سيدنا عمر بن الخطاب‏:‏ «لأَنْ أَعطِّلَ الحدودَ بالشُبهاتِ أحبُّ إليَّ من أن أقيمَها بالشُبُهات»‏.‏

والعقوبة هنا على السرقة الصريحة، أمّا السرقة الضمنية، كالالتواء في التجارة وسرقة أقوات الشعب بتهريب الأموال الى خارج دار الاسلام فلهنا أحكام أخرى‏.‏

والاسلام يكفل حق كل فرد من الحصول على ضرورات الحياة، فمن حق كل فرد ‏(‏حتى غير المسلم‏)‏ الحصولُ على ضرورات الحياة، أن يأكل ويشرب ويلبس ويكون له بيت يؤويه، وان يوفَّر له العمل ما دام قادراً‏.‏ فإذا تعطَّل لعدم وجود العمل، او لعدم قدرته على العمل فله الحق بأن تؤمِّن له الدولة الضروري من العيش‏.‏ فاذا سرق وهو مكفيّ الحاجة، فإنهن لا يُعذر، ولا ينبغي لأحد ان يرأف به‏.‏

فأما حين توجد شُبهة من حاجة أو غيرها، فالمبدأ العام في الاسلام هو درءُ الحدود بالشُبهات‏.‏ ولذلك لم يوجِب سيدنا عمر القطعَ في عام الرّمادَة حيث عمَتِ المجاعة‏.‏ كذلك لم يقطع عندما سرق غلمانُ حاطبٍ بن أَبي بلتعة ناقةً رجل من مزينة ثم تبين للخليفة ان سيِّدهم يتركهم جياعاً‏.‏

هكذا يجب ان نفهم الحدودَ في الاسلام‏:‏ يضع الضمانات للجميع، ويتخذ أسباب الوقاية قبل العقوبة‏.‏

‏{‏والله عزيز حكيم‏}‏ عزيز في انتقامه من السارق وغيره من اهل المعاصي، حيكم في وضعه الحدود والعقوبات بما تقتضي المصلحة‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي، فقرأ هذه الآية فقلت «والله غفور رحيم» سهواً‏.‏ فقال الأعرابي‏:‏ كلام من هذا‏؟‏ قلت‏:‏ كلام الله‏.‏ قال‏:‏ أعِد، فأعدت‏.‏ ثم تنبّهت فقلت «والله عزيز حيكم»‏.‏ فقال‏:‏ الآن أصبت فقلت‏:‏ كيف عرفت‏؟‏ قال‏:‏ يا هذا «عزيز حكيم» فأمَرَ بالقطع، ولو غفر ورحم لما أمر به‏.‏ فقد فهم الاعرابي ان مقتضى العزة والحكمة غير مقتضى المغفرة والرحمة‏.‏

‏{‏فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

فمن تاب عن السرقة بعد ظلمه لنفسه باقترافها، وأصلح إيمانه بفعل الخير فإن الله يقبل توبته ويغفر به‏.‏

ولا يسقط الحد عن التائب، ولا تصحّ التوبة الا بإعادة المال المسروق بعينه ان كان باقيا أو دفعٍ قيمته إن هكل‏.‏

ثم بيّن الشارع أن عقاب السراق والعفَو عن التائبين جاء وفق الحكمة والعدل والرحمة فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ يدبّره بحكمته ان وضَع هذا العقاب لمن يسرق، كما وضع العقاب للمحاربين المفسدين في الأرض، وأنه يغفر للتائبين من هؤلاء وهؤلاء اذا صدقوا التوبة‏.‏ انه يعذّب العاصي تربية له، وتأميناً للعباد من أذاه وشره‏.‏ كما يرحم التائب بالغفران ترغيباً له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 43‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏41‏)‏ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏42‏)‏ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

الحزن‏:‏ ألمٌ يجده الإنسان عند فَوت ما يحب‏.‏ سارعَ في كذا‏:‏ أسرع فيه وهو داخل فيه، وهنا الكفّار داخلين في الكفر‏.‏ الفتنة‏:‏ الاختبار، كما يُفتن الذهب بالنار‏.‏ السحت‏:‏ ما خبُث من المكاسب وحرم‏.‏ المقسِط‏:‏ العادل‏.‏

يا أيها الرسول‏:‏ خطاب للنبي، وقد ورد الخطاب في جميع القرآن الكريم بعبارة «يا أيّها النبي» إلا هنا في هذه الآية، والآية 67 من هذه السورة ‏{‏ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ‏}‏‏.‏ هذا الخطاب للتشريف والتعظيم، وتعليمٌ للمؤمنين ان يخاطبوه بهذا الوصف العظيم‏.‏

أيها الرسول، لا تهتم بهؤلاء المنافقين الذين يتنقلون في مراتب الكفر من أدناها الى أَعلاها، ويسارعون في التحيز الى اعداء المؤمنين عندما يرون الفرصة سانحة، فالله يكفيك شرّهم، وينصرك عليهم وعلى من ناصرهم‏.‏

‏{‏مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

‏.‏‏.‏ الذين أدّعوا بألسنتهم ولم يؤمن قلوبهم‏.‏

‏{‏وَمِنَ الذين هِادُواْ‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ومن اليهود الذي يُكثرون الاستماعَ إلى ما يقوله رؤساؤهم وأحبارهم في النبي صلى الله عليه وسلم والاستجابة لطائفة منهم، لم يحضروا مجلسَك تكبُّراً وبغضاً‏.‏ فهم جواسيس بين المسلمين يبلّغون رؤساءَهم أعداءَ الاسلام كل ما يقفون عليه من أخبار، ويحرّفون ما يحرفون، ثم ينقلون تلك الأكاذيب الى الأحبار المتخلّفين عن الحضور‏.‏

‏{‏يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

اي يحرّفون كلام التوراة بعد أن ثبّته الله في مواضعه المعّينة إما تحريفاً لفظياً بإبدال كلماته، أو باخفائه وكتمانه تسهيلاً لزيادةٍ فيه او النقص منه، وإما تحريفاً معنوياً بالالتواء في التفسير‏.‏

روى الامام أحمد والبخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ «ان اليهود أتوا النبي صلى لله عليه وسلم برجلٍ منهم امرأةٍ قد زنيا فقال‏:‏ ما تجدون في كتابكم‏؟‏ قالوا‏:‏ نُسَخِّم وجوههما ويخزيان، قال‏:‏ كذبتم ان فيها الرجم، فأتُوا بالتّوراة فاتلوها إن كنتُم صادقين‏.‏ فجاؤوا بالتوراة مع قارئ لهم أعور يقال له ابن صوريا‏.‏ فقرأ، حتى اذا أتى الى موضع منها وضع يده عليه، فقي له‏:‏ ارفع يدك‏.‏ فرفع يده، فاذا هي تلوح» يعني آية الرجم «، فقالوا‏:‏ يا محمد، إن فيها الرجم، ولكنّا كنّا نتكاتمه بيننا‏.‏ فأمر بهما رسول الله فرُجما»‏.‏

ومن قبيل ذلك ما قاله مارتن لوثر في كتابه‏:‏ اليهود وأكاذيبهم‏.‏ «هؤلاء هم الكاذبون الحقيقيون مصّاصو الدماء، الذين لم يكتفوا بتحريف الكتاب المقدّس وإفساده، من الدفة الى الدفة، بل ما فتئوا يفسّرون محتوياته حسب أهوائهم وشهواتهم‏.‏‏.‏‏.‏ الخ» وهي كلمة طويلة‏.‏

‏{‏يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

يقول اولئك الرؤساء لأتباعهم الذين أرسلوهم ليسألوا النبيّ عن حكم الرجل والمرأة الزانين إن اعطاكم محمد رخصة بالجَلد عوضاً عن الرجّم فخُذوها، وارضوا بها، وإن حكَمَ بالرَّجم فارفضوا ذلك‏.‏

‏{‏وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

ومن يُرد الله اختباره في دينه فيُظهره الاختبارُ ضلالَه وكفره، فلن تملِك له يا محمد شيئاً من الهداية‏.‏ هؤلاء المنافقون والجاحدون من اليهود‏.‏‏.‏ قد أظهرت فتنةُ الله لهم مقدارَ فسادهم، فهم يقلبون الكذب ويحرفون كلام الله، اتباعاً لأهوائهم ومرضاة رؤسائهم‏.‏ لا تحزن البتةَ على مسارعتهم في الكفر، ولا تطمع في جذبهم الى الايمان، ولا تخفْ عاقبة نفاقهم فإنما العاقبة للمتقين‏.‏

‏{‏أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إنّ ا لذين بلغت منهم الفتنة ذلك المبلغ هم الذين لم يرد الله تطهير قلوبهم من الكفر والنفاق فلن تستطيع ان تهديهم، لهم في الدنيا خِزي وذلّ ولهم في الآخرة عذاب شديد‏.‏

‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ‏}‏

اعاد الله وصفهم بكثرة السماع للكذب، للتأكيد، وبيان أن أمرهم كلَّه مبينٌّ على الكذب‏.‏ كما وصفهم بأنهم أكالون للسحت، أي الحرام، لأنه انتشر بينهم، كالرشوة والربا واختلاص الأموال‏.‏ وكل ذلك شائع في مجتمعنا نحن الآن مع الأسف‏.‏

قراءات‏:‏ قرأ ابن كثير وابو عمرو والكسائي ويقعوب السُّحُت بضمتين، وهما لغتان‏.‏

‏{‏فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

فإن جاؤوك لِتحكم بينم فأنت مخيَّر بين الحكم بينهم والاعراض عنهم‏.‏ فإن اخترتَ الإعراض عنهم فلن يضروك بأي شيء، لأن الله عاصمُك من الناس‏.‏ ‏{‏وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين‏}‏‏.‏ وإن اخترتَ ان تحكم بينم فاحكم بالعدل الذي أمَر الله بيه، وهو ما تضمّنه القرآن واشتملت عليه شريعة الاسلام‏.‏ ان الله يحب العادلين‏.‏ ‏{‏وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك وَمَآ أولئك بالمؤمنين‏}‏‏.‏

عجباً لهم كيف يطلبون حكمك في قضاياهم مع ان حكم الله منصوص عليه عندهم في التوراة، هي شريعتهم، ثم يرفضون ما حكمتَ به لأنه لم يوافق هواهم‏!‏‏!‏ ان أمرهم لمن أعجب العجب، وما سببُ ذلك إلا أنهم ليسوا مؤمنين لا بالتوراة ولا بك أيضا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

التوراة‏:‏ الكتاب الذين أُنزل على موسى‏.‏ الذين هادوا‏:‏ اليهود‏:‏ الربانيون‏:‏ المنسوبون الى الرب‏.‏ الأحبار‏:‏ جمع حَبر، وهو العالِمخ، بما استحفظوا من كتاب الله‏:‏ بما طُلب اليهم حفظه منه‏.‏ شهود‏:‏ رقباء على الكتاب وعلى من يريد العبث به‏.‏

بعد ان ذكر سبحانه حال اليهود من تَرْكِهم حكم التوراة، وطلبِهم من النبي ان يحكم بينهم، ثم رفضهم الحكم لمّا خالف اهواءهم بيّن لنا سبحانه وتعالى صفة التوراة التي يرفضونها فقال‏:‏

التوراة هداية أُنزلت على موسى لبني اسرائيل، لكنهم أعرضوا عن العمل بها، لما عَرَض لهم من الفساد‏.‏ وفي ذلك من العبرة ان الانتماء الى الدين لا ينفع أهلَه اذا لم يقيموه ويهتدوا بهديه، وان إيثار اليهود اهواءهم هو الذي أعماهم عن نور القرآن والاهتداء به‏.‏

انا انزلنا التوراة على موسى مشتملة على الهدى والارشاد‏.‏

وبهذا الهدى والنور خرج بنو اسرائيل من وثنية الفراعنة إلى طريق التوحيد‏.‏‏.‏

بموجب التروامة هذه كان يحكم النبيّون الذي أخلصوا في دينهم، موسى ومن بعده من أنبياء بني اسرائيل الى وقت عيسى عليه السلام‏.‏ كذلك كان يحكم بها الربانيون والأحبار في الأزمنة التي لم يكن فيها أنبياء، او بإذنهم حالَ وجودهم‏.‏ كانوا شهودا رقباء على ذلك الكتاب وعلى من تحدثه نفسه العبث به‏.‏

وقبل ان ينتهي السياق من الحديث عن التوراة يتجه الحديث الى المؤمنين عامة، فيدعوهم الى الحكم بكتاب الله، ويذكّرهم أن من واجب كل من اسُحفظ على كتاب الله ان يحفظه‏.‏

‏{‏فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

فلا تخافوا الناس في أحكامهم، وخافوني انا ربكم ربّ العالمين‏.‏ ولا تجروا وراء طمعكم فتبدّلوا بآياتي التي أنزلتها ثمناً قليلا من متاع الدنيا كالرشوة والجاة وغيرها‏.‏ ان كل من رغب عن الحكم بما أنزل الله أو أخفاه وحكَم بغيره لهو كافر، يستر الحق ويبدي الباطل‏.‏ فأين يقع حكّمنا هذه الأيام‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

هنا يعود الشارع لعرض نماذج من شريعة التوراة‏:‏ وقد بقيت هذه الأحكام في شريعة الاسلام‏.‏ والقاعدة عندنا ان شَرْعَ من قبلنا من الأديان السماوية شرعٌ لنا ما لم يرد نسخُه في القرآن‏.‏ مثال ذلك‏:‏ ‏{‏فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ‏}‏‏.‏

فالأصلُ القصاصُ‏:‏ النفسُ بالنفس الخ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ثم جاء التسامح الاسلامي بأنَّ من تصدَّق بما ثَبَتَ له من حق القصاص، وعفا عن الجاني، كان عفُوه كفّارةً له، ويكفّر الله بها ذنوبه‏.‏ وقد تميز الاسلام بتسامحه، وورد ذلك في كثير من الآيات والاحاديث وسِير الصحابة الكرام‏.‏

ويقول النبي عليه الصلاة السلام‏:‏ «أيعجِز أحدكُم أ، يكون كأبي ضمضم‏؟‏ كان اذا خرج من بيته تصدَّق بعرضه على الناس» ‏(‏أي آلى ان يسامح من قد يشتمونه‏)‏‏.‏ وأبو ضمضم هذا مّمن كان قبلَنا من الأمم السابقة، كما جاء في رواية ابي داود‏.‏

وروي الإمام احمد، قال‏:‏ «كسرَ رجُل من قريش سنَّ رجل من الأنصار، فاستعدى عليه معاوية، فقال‏:‏ معاوية‏:‏ استَرضِه‏.‏ فألحَ الأنصاري، فقال معاوية‏:‏ شأنك بصاحبكز كان أبو الدرداء جالساً فقال‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏» ما مِن مسلم يصابُ بشيء من جسدِه فيتصدَّق به إلا شرفعه اللهُ به درجة، أو حطَّ به عنه خطيئة «فقال الأنصاري‏:‏ فإني قد عفوت»‏.‏

هكذا يعلّمنا الله ورسوله ان نكون متسامحين في أمورنا جميعها، وان نطلب العوض من الله‏.‏ وبعد هذا العرض يعقّب بالحكم الصارم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون‏}‏‏.‏

ان كل من كان بصدد الحكم في شيء من هذه الجنايات، فأعرضَ عما أنزل اللهُ من القصاص المبنيّ على قاعدة العدل والمساواة بين الناس، وحكم بهواه فلْيعتبر نفسَه من الظالمين‏.‏ وجزاء هؤلاء معروف‏.‏

في الآية التي قبلها كان الوصف هو «الكافرون» وهنا «الظالمون»، لكن هذا لا يعني ان الحالة الثانية غير التي سبق الوصف فيها بالكفر، وانما يعني الاضافة‏.‏ فمن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون الظالمون‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع‏:‏ والأذْن بالأذْن، باسكان الذال حيث وقع‏.‏ وقرأ الكسائي وابن كثير وابو عمرو وابن عامر‏:‏ والجروحُ، بضم الحاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 47‏]‏

‏{‏وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏46‏)‏ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قفّينا‏:‏ أتبعنا، قفّى فلاناً وبه أتبعه اياه‏.‏ الفاسق‏:‏ الخارج عن حظيرة الدين‏.‏ وبعثنا عيسى بن مريم بعد أولئك النبيّين الذين كانوا يحكمون بالتوراة متّبعاً أَثَرهم جارياً على سُننهم، مصدّقاً للتوراة التي تَقَدَّمتْه بقوله وعمله‏.‏ فشريعة عيسى عليه السلام هي التوراة التي لم تحرَّف‏.‏ وقد ورد في الأناجيل انه قال‏:‏ «ما جئت لأنقُض الناموس، وإنما جئت لأتمِّم»، يعني لأزيد عليها ما شاء الله من الأحكام والمواعظ‏.‏

وقد اعطيناه الإنجيل، مشتملاً على الهدى، ومنقذا من الضلال في العقائد والأعمال‏:‏ كالتوحيد، والتنزيه النافي للوثنية‏.‏ وقد جعل الله في الانجيل هدى ونوراً وموعظة للمتقين كما جعله منهج حياة وشريعةَ حكمٍ لأهل الانجيل، وليس رسالة عامّة للبشر، شأنه في هذا شأنَ التوراة، لا شأن القرآن الكريم‏.‏

‏{‏وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ‏}‏

وهذا أمر قاطع لازم يجب تنفيذه وإطاعته، يعني‏:‏ وأمرناهم بالعمل بالإنجيل، واتّباعه وعدم تحريفه‏.‏ وقد جاء في الإنجيل الصحيح بشارةٌ بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة، وكلن ذلك أُخفيَ وحُرّف‏.‏ كان عند النصارى عدد كبير من الأناجيل يربو على الخمسين، لكنهم في مجمع نيقية ‏(‏سنة 325 ميلادية‏)‏ اعتمدوا هذه الأربعة المتداولة الآن وحرقوا ما عداها‏.‏ وقد وُجد إنجيل منسوبٌ الى برنابا، تلميذِ المسيح، وتُرجم وطُبع عدة مرات، وفيه البشارة واضحةٌ بالنبيّ في عدة أماكن‏.‏ وهو قريب جداً من القرآن وتعاليمِه، لكن النصارى لا يعترفون به ويقولون إنه مزّيف‏.‏

‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون‏}‏

إن كل من يتقيد بالأحكام بشرائع الله لهو من الخارجين عن حكم الله، المتمردين عليه‏.‏ والنص هنا عام‏.‏ وصفة الفسق تضاف الى صفتي الكفر والظلم من قبل‏.‏ فالكفر برفض ألوهية الله ممثِّلاً ذلك في رفض شريعته، والظلم بحمل الناس على غير شريعة اللة، والفسق بالخروج عن منهج حكم الله واتباع طريق غير طريقه‏.‏

فالله سبحانه وتعالى يعرض هذه المسألة بأنها إيمان او كفر، لا وسَط في هذا الامر، فالمؤمنون هم الذين يحكمون بما أنزل الله، والكافرون الظالمون الفاسقون هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله‏.‏ فإما أن يكون الحكّام قائمين على شريعة الله كاملة فهم من أهل الايمان، واما ان يكونوا قائمين على شريعة أخرى فهم من أهل الكفر والظلم والفسق‏.‏ وكذلك الديانات‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة‏:‏ وليحكم، بكسر اللام ونصب الميم، والباقون بجزم الميم كما هو هنا في قراءة المصحف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

المهيمن على الشيء‏:‏ القائم على شئونه وله حق مراقبته وتولي رعايته‏.‏ الشرعة والشريعة‏:‏ مورد الماء، وكل ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة‏.‏ المنهاج‏:‏ السبيل والسنّة‏.‏ الابتلاء‏:‏ الاختبار‏.‏ استبِقوا‏:‏ ابتدروا وسارعوا‏.‏

بعد ان بين الله تعالى أنه انزل التوراة ثم الإنجيل، وذكر ما أودعه فيهما من فروض وواجبات وأحكام ألزم بها بني اسرائيل جاء البيان هنا الى الرسالة الاخيرة، الرسالة التي تعرض الإسلامَ في صورته النهائية، ليكون دين البشرية كلّها حتى يرث الارَ ومن عليها‏.‏

وأنزلنا اليك ايها النبي الكتاب الكامل، وهو القرآن، الذي أكملنا به دين الله‏.‏ وقد جاءك مصدّقاً لما تقدَّمه من الكتب السماوية، وشاهداً لها بالصحة ورقيباً عليها، لأننا سنحفظه من التغيير‏.‏ لذا احكُم بين أهل الكتاب، اذا تحاكموا اليك، بما في هذا القرآن‏.‏ لا تتّبع أيها الرسول في حكمك شهواتهم ولا تخضع لأهوائهم ورغباتهم‏.‏ فبسببٍ من ذلك حرّفوا كثيرا من كتبهم‏.‏

روي ان اليهود عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يؤمنوا برسالته اذا تصالح معهم على التسامح في احكام معينة، منها حكم الرجم وغير ذلك، فنزل هذا التحذير‏.‏

‏{‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

لكل أُمة منكم أيها الناس جعل الله منهاجاً لبيان الحق، وطريقاً واضحا في الدين تسيرون عليه، ولو شاء لجعلكم جماعة واحدة متفقة، لا تختلف مناهج حياتها وإرشادها في جميع العصور‏.‏ لقد جعلكم شرائع ليختبركم فيما أتاكم، فيتبين المطيعَ والعاصي‏.‏ انتهزوا الفرص أيها الناس، وسارِعوا الى عمل الخيرات، فإنكم الى الله ترجعون‏.‏ يومئذ ينبئكم بحقيقة ما كنتم تختلفون فيه من أمور الدين، ويجازي كلاً منكم بعمله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ‏(‏49‏)‏ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

ان يفتنوك‏:‏ ان يميلوا بك من الحق الى الباطل‏.‏ يبغون‏:‏ يريدون‏.‏

نحن نأمرك أيها الرسول ان تحكم بينهم وفق شريعتك التي أنزلناها عليك، فلا تتبع رغباتهم أبداً، ولو لمصحلة في ذلك، كتأليف قلوبهم وجذبهم الى الاسلام‏.‏ فالحق لا يوصل اليه بطريق الباطل‏.‏ واحذَرهم أن يميلوا بك من الحق الى الباطل، كأن يصرفوك عما أُنزل اليك لتحكم بغيره‏.‏

أَخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال‏:‏ قال كعب بن أسد وعبدالله بن صوريا وشاس بن قيس من زعماء اليهود‏:‏ اذهبوا بنا الى محمد لعلنا نفتنه عن دينه‏.‏ فأتوه فقالوا‏:‏ يا محمد، إنك عرفت أنّا أحبار اليهود واشرافهم وساداتهم، وأنّا إن اتّبعنانك اتبَعنا اليهودَ ولم يخالفونا‏.‏ وأن بيننا وبين قومنا خصومةً، فنخاصمهم إليك فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدّقل‏.‏ فأبى الرسول ذلك، فأنزل الله عز وجل فيه ‏{‏وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

فإن أعرضوا عن حكمك يا محمد بعد تحاكُمهم اليك، فاعلم ان الله إنما يريد أن يصيبهم بفساد أمورهم، لفسادِ نفوسهم، بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها، ثم يجازيهم على أعمالهم في الآخرة‏.‏

وهذال النص يسمو بالشرع الاسلامي عن غيره، في الحكم بين الناس‏:‏

أولا لأنه يسمو بالأحكام العادلة عن ان تكون تابعة لأوضاع الناس، فهي حاكمة على أوضاع الناس بالخير والشر‏.‏

وثانيا‏:‏ لأنه جعل باب القانون في الدولة واحداً لكل الناس ولكل الطبقات‏.‏

‏{‏أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ‏}‏

أيريد أولئك الخارجون عن أمر الله ونهيه ان يحكموا بأحكام الجاهلية التي لا عدل فيه ولا هدى، بل الحِيل والمداهنة‏!‏‏!‏

روي «ان بني النَّضِير، من اليهود، تحاكموا الى الرسول الكريم في خصومة كانت بينهم وبين بني قُريضة‏.‏ وقد طلب بعضُهم ان يجري الحكم وفق ما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل وجعل دية القرظي ضعفَي دية النضيري‏.‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ القتلى براء، يعنى سواء‏.‏ فقالوا‏:‏ نحن لا نرضى بذلك‏.‏ فانزل الله تعالى هذه الآية توبيخاً لهم‏.‏ اذ كيف لهم وهم أهل كتاب وعلم أن يبغوا حكم الجاهلية»

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

الولاية‏:‏ التناصر والمحالفة‏.‏ ومن يتولهم منكم‏:‏ من يتخذهم أنصاراً وحلفاء‏.‏

لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفّار معه ثلاثة أقسام‏.‏

قسم صالحهم ووادعهم على ان لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه أحدا ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على دينهم آمنون على دمائهم وأموالهم‏.‏

وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة‏.‏

وقسم تركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا إلامَ يؤول أمره أمر اعدائه‏.‏

وقد عامل الرسول كل طائفة من هؤلاء بما أمره الله به‏.‏ فصالَح يهودَ المدينة، وكتب بينه وبينهم عهداً بكتاب‏.‏ وكانوا ثلاثة طوائف هم‏:‏ بنو قينقاع، وبنو النُضير، وبنو قريظة‏.‏ فحاركبه بنو قينقاع بعد معركة بدْرٍ وأظهروا البغي والحسد‏.‏ ثم نقض العهدَ بنو النُّضير بعد ذلك بستة أشهر‏.‏ ثم نقض بنو قُريظة العهدَ لما خرج الى غزوة الخندق، وكانوا أشد اليهود عداوة للنبي والاسلام‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير في تفسيره عن عطية بن سعد قال‏:‏ «جاء الصحابي عبادة ابن الصامت، من الخزرج، الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، ان لي موالي من اليهود كثيرٌ عددُهم، وإني أبراُ الى الله ورسوله من ولاية يهود، واتولى الله ورسوله‏.‏ وكان عبد الله بن أبي رأس المنافقين حاضراً، فقال‏:‏ إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من مولاة مواليّ‏.‏ فقال له رسول الله‏:‏ يا أبا الحباب، أرأيتَ الذي نفِستَ به من ولاء يهود على عُبادة، فهو لك دونه» قال‏:‏ اذنْ أقبَل‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏

‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى‏}‏

يا أيها الّذين آمنوا، لا يحِلُّ لكم أن تتّخذوا اليهودَ ولا النصارى نُصراءَ لكم على أهل الإيمان بالله ورسوله، فمن اتخذَهم كذلك فهو منهم، واللهُ ورسوله بريئان منه‏.‏

‏{‏بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ‏}‏‏.‏

ان اليهود بعضُهم أنصار بعض، والنصارى بعضهم أنصار بعض، وقد يتحالف اليهود والنصارى معاً، أما أن يتحالفوا أو يصدُقوا مع المسلمين فلا‏.‏ وفي واقعنا الحاضر شاهد على ذلك‏.‏‏.‏ ولقد نقض اليهود ما عقَده الرسول الكريم معهم من العهد من غير أن يبدأهم بقتال‏.‏ وكذلك فعلت اوروبا في الحروب الصليبية، وتفعل امريكا اليوم مع كل من يطلب الحرية لشبعه، والمسلمين خاصة‏.‏

‏{‏إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين‏}‏

ان الله لا يهدي الذين يظلمون أنفسهم منكم بموالاة أعداء المؤمنين‏.‏

فإن اليهود بتدبير من النصارى، وبقوة سلاحهم أيضاً جاؤا واغتصبوا فلسطين وأجواء من سورية ومصر، بمعونة أمريكا وسلاحها ومالها، ولا يزالون في حماية امريكا‏.‏ وحتى اوروبا والدول الغربية جميعاً فإنهم يعطِفون على اليهود أعداء العالم أجمع ونحن بحكم جهلنا، لا نزال نستنصر أمريكا وغيرها ونطلب المعونة منها، مع أننا لو اجتمعت كلمتُنا ووحّدنا صفوفنا، لما احتجنا الى شيء من ذلك‏.‏ ولكنّنا تفرّقنا، وبعُدنا عن ديننا ومزّقتنا الأهواء وحب المناصب‏.‏ بذلك قوي اليهود من ضعفنا، فهم يهدّدوننا، ويهاجمون بلداننا وقرانا، ويعيثون في الأرض فسادا‏.‏ هذا وكلُّ منّا يود المحافظة على منصبه ويبيع في سبيله كل ماعداه‏.‏

ثم أخبر سبحانه وتعالى أن فريقاً من ضعاف الإيمان يفعل ذلك فقال‏:‏ فترى الذين في قلوبهم مرض‏.‏‏.‏ الآية 52‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

هذا تصويرٌ لحال المنافقين وبعضِ ضعاف الإيمان في المدنية‏.‏ لم يكونوا واثقين من نجاح دعوة الإسلام، فكانوا يوالون اليهود ويسارعون الى ذلك كلّما سنحت لهم فرصة‏.‏ لذا ورد قوله تعالى ‏{‏يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ‏}‏ بمعنى إننا نخاف أن نتعرض لكارثة عامة فلا يساعدوننا‏.‏ عسى الله يا محمد أن يحقق النصر لرسوله وللمسلمين على أعدائهم، أو يُظهر نفاق أولئك المنافقين، فيصبحوا نادمين آسفين على ما كتموا في نفوسهم من كفر وشك‏.‏ وقد تحقق وعد الله بالنصر للمؤمنين‏.‏

كان هذا النداء موجهاً في الأصل الى المسلمين في المدينة المنورة، لكنه جاء في الوقت ذاته موجّها لكل المسلمين في جميع أركان الأرض، وفي كل زمان ومكان‏.‏ وقد أثبت التاريخ والواقع أن عِداء النصارى لهذا الدين وأهله في معظم بقاع الأرض لم يكن أقلَّ من عداء اليهود‏.‏ وأكبر شاهدٍ هو ما يجري اليوم من دَعم أمريكا وأوروبا جميعها لليهود وتثبيتهم في فلسطين بكل ما يستطيعون من قوة ومال‏.‏ فالنصارى بدافعٍ من تعصبهم قد حملوا للإسلام منذ ظهوره كلَّ عداوة وضغنٍ ولا يزالون‏.‏ ولا نزال نعاني من الحروب الصليبية التي لم تنته الى الآن‏.‏ ولذلك فإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ‏}‏ حقيقةٌ قائمة‏.‏

أما النصارى العرب الذين يعيشون معنا ولا يمالئون الأعداء ضدّنا فإنهم مواطنون في ديار الاسلام، لهم ما لنا وعليهم ما علينا‏.‏ والمعاملة التي يلقَونها أكبر شاهد على ذلك‏.‏ بل إنهم في كثير من الحالات قد أخذوا وأكثرَ مما لهم‏.‏ وحتى اليهودُ الذين يعيشون في البلاد العربية، فإنهم معزَّزون مكرمون ما داموا يخدمون المجتمع الذي يعيشون فيه ضمن القانون، ونحن عندما نطلق كلمة نصارى او يهود نقصد بذلك أولئك المعتدين من الغربيين وغيرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

جهد أيمانهم‏:‏ أغلظ أيمانهم‏.‏ حبطت أعمالهم‏:‏ بطلت أعمالهمه التي كانوا يتكلفونها نفاقاً كالصلاة والصيام، فخسروا أجرها وثوابها‏.‏

ويقول المؤمنون الصادقون، متعجبين من حال المنافقين اذ أقسموا بأغلظ الايمان لهم أنهم معهم، وأنهم مناصرون على أعدائهم اليهود، أهؤلاء الذين بالغوا في حلْفهم بالله أنهم معكم في الدين مؤمنون مثلكم‏؟‏ لقد كذبوا فبطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها نفاقاً‏.‏ بذلك خسروات ما كانوا يرجون من الله‏.‏ لقد صدق الله وعدَه مع المؤمنين المخلصين وخذَل الكافرين‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ عاصم وحمزة والكسائي «ويقول» بالواو، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «يقول» بدون واو، وقرأ ابوعمرو «ويقول» بنصب اللام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

أذلّة على المؤمنين‏:‏ متواضعون رحماء للمؤمنين‏.‏ أعزّة على الكافرين‏:‏ اشداء على الكافرين‏.‏ كما قال تعالى في سورة الفتح ‏{‏أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ‏}‏‏.‏

بعد أن ذكر سبحانه أن من يتولّى الكافرين من دون الله يُعَدّ منهم، بيّن هنا حقيقةً دعّمها بخبر من الغيب أظهرَهُ الزمن يومذاك، وهي‏:‏ أن بعض الذين آمنوا نفاقاً سيرتدّون عن الاسلام جهراً‏.‏

يا أيها الذين آمنوا‏:‏ إن من يرجع منكم عن الإيمان الى الكفر، لن يضر الله قليلاً ولا كثيراً‏.‏ فالله سوف يأتي بَدَلَهم بقومٍ خير منهم، يحبّهم الله لأنهم يحبّونه، فيوفقهم للهدى والطاعة‏.‏

وسيكون هؤلاء ذوي تواضعٍ ورحمة بإخوانهم المؤمنين، وفيه شدةٌ على أعدائهم الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخشون في الله لومة لائم‏.‏ وذلك فضلُ الله يمنحه لمن يشاء ممن يستحقونه، والله كثير الفضل، عليم بمن هو أهل له‏.‏

في هذه الآية إخبار من الغيب، فإنه لما قُبض الرسول صلّى الله عليه وسلم ارتدّ كثير من العرب‏.‏ وكان المرتدّون فريقين‏:‏ فريقاً ارتدّ عن الإسلام، وفريقاً منع الزكاة‏.‏ وكان قد ارتد في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، بنو مدلج ورئيسُهم ذو الخمار، وهو الأَسود العنسي‏.‏ وكان كاهناً تنبّأ باليمَن، فأهلكه الله على يد فيروز الديلمي، واخبر سول الله صلى الله عليه وسلم بقتله فسُرّ به، وقُبض عليه السلام من الغد‏.‏

وارتدّ مُسَيلمة ومعه بنو حنيفة، وكتب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«من مسليمة رسولِ الله الى محمد رسولِ اللهِ، سلام عليك‏:‏ أما بعدُ فإني قد أُشْرِكتُ في الأمر معك، وإنّ لنا نصفَ الأرض ولقُريض نصف الأرض، ولكن قريشاً قوم يعتدون»‏.‏

فكتب اليه النبي‏:‏ «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذّاب‏.‏ السلامُ على من ابتع الهدى‏.‏ أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين»‏.‏

وحاربتْه جيوش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد، وقتله وحشيُّ قاتلُ حمزة، وكان يقول‏:‏ «قتلتُ في الجاهلية خير الناس، وفي إسلامي شرَّ الناس»‏.‏

وتنبأ طُليحة بن خويلد الأسدي، وتبعه جمع غفير، فهزمه خالد بن الوليد‏.‏ وهرب طليحة الى الشام ثم اسلم فحسُن إسلامه‏.‏

وتنبأت سَجاحُ بِنت المنذِر، الكاهنة، وزوَّجت نفسها من مسيلمة، ولها قَصَص طويل في التاريخ، ثم أسلمت بعد ذلك وحسُن اسلامها‏.‏

وارتدّت سبع قبائل في عهد أبي بكر منهم‏:‏ فَزارة، وغطفان، وبنو سليم، وبنو يربوع، وبعض بن تميم، وكِندة، وبنو بكر‏.‏ وهؤلاء كلهم حاربهم أبو بكر يُناصره المهاجرون والأنصار، وهزمهم جميعاً، وهكذا ثبّت أبو بكر رضي الله عنه الإسلام بعزيمة صادقة، وإيمان قويّ راسخ‏.‏ وقد وصف الله هؤلاء المؤمنين بستّ صفات‏:‏ بأن الله يحبّهم وهم يحبّونه‏.‏ وأنهم أشدّاء على الكفار رحماء بينهم‏.‏ وأنهم يجاهدون في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم‏.‏ وأنهم صادقون لا يخافون في الله لومة لائم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وابن عامر وأهل المدينة «من يرتدد» بدالين، والباقون «من يرتد» بإدغام الدالين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 56‏]‏

‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ‏(‏55‏)‏ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

الولي‏:‏ الناصر‏.‏ راكعون‏:‏ خاضعون‏.‏ يتولّ الله ورسوله‏:‏ يتخذهما أولياء وناصرين‏.‏

إنما ولايتكم أيها المؤمنون لله ورسوله، فلا ناصر ينصركم غيره، ورسوله، والمؤمنون الصادقون الذين يقيمون الصلاة ويحسنون اداءها، ويؤدون الزكاة وهم خاضعون‏.‏

قال الزمخشري في‏:‏ الأساس «العُربُ تسمِّي من آمن بالله ولم يعنبد الأوثان، راكعاً» ومن يتخذ الله ورسولَه والمؤمنين أولياءه فانه يكون من حِزب الله‏.‏ وحزبُ الله هم المنتصرون الفائزون‏.‏ فلنسمع نحن الآن هذه التحذيرات، ولنبتعد عن موالاة الأعداء والاستنصار بهم، ونعتمد على انفسها، تشدنا عقيدتنا، وينصرنا الله والعاقبة للمتقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 58‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

بعد أن نهى الله عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء من دونه، وبيّن العلّة في ذلك بأن بضعهم أولياء بعض أعاد النهيَ هنا عن اتخاذ الكفار عامة أولياء، وبيّن الوصفَ الذي لأجله كان النهيُ، وهو إيذاؤهم للمؤمنين بجميع ضروب الإيذاء، ومقاومتهم دينَهم ما استطاعوا الى ذلك سبيلا‏.‏ فقال‏:‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا أعداء الاسلام الذين اتخذوا دينكم سخريةً، وهم اليهود والنصارى والمشركون نصراءَ وأولياء ابداً‏.‏ خافوا أيها المؤمنون في مالاة هؤلاء ان كنتم صادقين في ايمانكم‏.‏

من استهزائهم بكم‏:‏ أنكم إذا أذّن مؤذّنكم داعياً الى الصلاة استهزؤا بها، وسخِروا منكم وتضاحكوا أو لعبوا فيها، وذلك أنهم قوم لا يدركون الفرق بين الهدى والضلال‏.‏

الاسلام يأمر بالسماحة وحسن المعاملة لأهل الكتاب عامة وللنصارى خاصة اذا كانوا غير محاربين لنا، وللمواطنين بيننا، وأما المعادون لنا، الذين يساعدون اسرائيل فيهم أعداء لا يجوز موالاتهم، فمن ولاهم فقد عصى الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 63‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏59‏)‏ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏60‏)‏ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏62‏)‏ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

نقم منه كذا‏:‏ أنكره عليه وعابه بالقول او الفعل‏.‏ المثوبة‏:‏ الجزاء والثواب‏.‏ الطاغوت‏:‏ الطغيان، وهو مجاوزة الحد المشروع‏.‏ السحت‏:‏ المحرّم، والدنيء من المحرمات‏.‏

بعد النداءات الثلاثة التي مرت ‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ و‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ و‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ يتوجّه الخِطاب إلى الرسول ان يواجه أهلَ الكتاب فيسألهم ماذا ينقمون من المسلمين‏؟‏ قل لهم يا محمد‏:‏ أنتم يا أهل الكتاب، هل تعيبون علينا شيئا غير إيماننا الصادق بالله وتوحيدِه، وإيماننا بما أَنزل الله إلينا وسابقينا من رُسُله، واعتقادنا الجازم أن أكثركم خارجون عن حظيرة الإيمان الصحيح‏؟‏

روى ابن جرير عن ابن عبّاس قال‏:‏ أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نفرٌ من اليهود منهم ابو ياسر أخطب، ورافع بن أبي رافع في جماعة، فسألوه عمَّن يؤمن به من الرسل فقال‏:‏ «أومن بالله ما أُنزل الينا، وما أنزل الى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى عيسى وما أوتي النبيّون من ربهم، لا نفرّق بين أحدٍ منهم ونحنُ له مسلمون»‏.‏

فلما ذَكر عيسى جحدوا نبّوته وقالوا لا نؤمن بمن آمن به، فأنزل الله فيهم ‏{‏قُلْ ياأهل الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

قل لهم‏:‏ ألا أخبرُكم بأعظمِ شرّ في الجزاء عند الله‏.‏ إنه انصبّ على موقعٍ لعَنَهم الله، وسخط عليهم، وطمس على قلوبهم، فكانوا كالقِردة والخنازير، وعبدوا الشيطان أولئك الذين اتّصفوا بما ذُكر من المخازي وشنيع الأمور، ولا مكانَ لهم في الآخرة إلا النار، لأنهم أبعدُ الناس عن طريق الحق‏.‏ ثم بيّن حال المنافقين منهم فقال‏:‏

‏{‏وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا‏}‏

وإذا جاءكم المنافقون، كذبوا عليكم بقوله‏:‏ آمنّا، والحق أنه قد دخلوا إليكم كافرين، كما خرجوا من عندكم كافرين‏.‏ كما جاء في سورة البقرة‏.‏‏.‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، والله أعلَمُ بما يكتمون من النفاق‏.‏

ثم ذكر في شئونهم ما هو شر مما سلف فقال‏:‏

‏{‏وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان وَأَكْلِهِمُ السحت‏}‏‏.‏

وترى أيها الرسول كثيراً من هؤلاء يساعرون في المعاصي والاعتداء عل الناس، وفي أكْلِ الحرام كالرِشوة والربا‏.‏

ثم بالغ في تقبيح هذه الأعمال، فقال ‏{‏لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي واللهِ، ما أقبح هذا العملَ الذي يعمله هؤلاء من مسارعتهم في كل ما يفسد النفوس ويقوّض نظم المجتمع‏!‏ ويل للأمة التي تعيش فيها أمثال هؤلاء‏!‏ فهلاً نهاهم عُلماؤهم وزّهادهم عن أفعالهم القبيحة‏!‏

والى هذا أشار الله تعالى بقوله‏:‏

‏{‏لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ‏}‏‏.‏

هلاّ ينهى الربانيّون، والأحبار هؤلاء الذين يسارعون فيما ذُكر من المعاصي‏!‏‏!‏، لبئس ما يصنع أولئك الأحبار حين يرضون ان تُقترف هذه الأوزار والخطايا ويتركون فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

روي عن ابن عابس أنه قال‏:‏ ما في القرآن أشدّ توبيخاً من هذه الآية للعلماء إذا قصّروا في الهداية والارشاد، وتركوا النهي عن الشرور والآثام‏.‏ وعلى العلماء والحكّام وأولي الأمر أن يعتبروا بهذا السخط على اليهود، ويعلموا أن هذه موعظةٌ وذكرا لهم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ أبو عمرو ونافع والكسائي ‏{‏من قبلكم والكفار‏}‏ بالجر، والباقون «والكفار» بالنصب‏.‏ وقرأ حمزة «عبد الطاغوت» بكسر التاء، والباقون «عبد الطاغوت» فتح التاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 66‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏64‏)‏ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏65‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

لليد عدة معان، منها اليد الجارحةُ المعروفة، والنعمة، اذ يقال‏:‏ لفلان عندي يد أشكره عليها‏.‏ والقدرةُ والمُلك، كما في قوله تعالى ‏{‏الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح‏}‏‏.‏ والمقصود هنا اليد الحقيقة كما يقصدون بذَلك‏.‏ غُلَّت أيديهم‏:‏ أمسكت وانقبضت عن العطاء، وهو دعاء عليهم بالبخل‏.‏ يداه مبسوطتان‏:‏ يعني هو كثير العطاء‏.‏ الحرب‏:‏ ضد السلم، فهي كل ما يهيج الفتن والقلاقل، ولو بغير قتل‏.‏ اقامة التوراة والانجيل‏:‏ العملُ بما فيهما على أتمّ الوجوه‏.‏ لأكَلوا من فوقِهم ومن تحت أرجُلهم‏:‏ أي لوسَّع الله عليهم موارد الرزق‏.‏ مقتصدة‏:‏ معتدلة في أمر الدين‏.‏

بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة بعض مخازيهم الّتي أدت الى اختلال نظُم مجتمعهم ذكر هنا أفضع مخازيهم وأقبحَها، وهي جرأتُهم على ربهم، ووصفُهم إياه بما ليس من صفته، وإنكار نعمته عليهم‏.‏ والذي يطالع التلمود ويقرأ ما فيه من جُرأة على الله ومن كلام تقشعرّ له الأبدان يعلم خُبثهم وقباحتهم‏.‏

وقالت اليهود اللهُ بخيل لا تبسط يده بالعطاء، بل كذبوا إنهم هم البخلاء، لعنهم الله وأبعدهم من رحمته‏.‏ ان الله عني سخيّ ينفق كما يشاء، فهو الجواد المتصرف وفق حكمته‏.‏ أما تقتير الرزق على بعض العباد فإنه لا ينافي سعة الجود، فهو سبحانه له الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق‏.‏

ان كثيرا من هؤلاء المنكرين سوف يزدادون إمعاناً في الضلال، حسداً لك يا محمد، ونقمة على ما أنزله إليك ربّك من كلامه في القرآن‏.‏

‏{‏وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ والعداوة ملموسة فيما بينهم وبين النصارى وفيما بينهم أنفسهم‏.‏ وإن المقام ليضيق عن سَرْد أقوال علماء النصارى وقادتِهم ورؤسائهم في شتم اليهود وإبراز مساوئهم‏.‏ لذا تجدني أكتفي بذكر بعض هذه الأقوال‏:‏

يقول بنيامين فرانكلين في خطابه في المؤتمر الدستوري التأسيسي المنعقد في فيلادلفيا ‏(‏الولايات المتحدة‏)‏ سنة 1787م‏.‏

«في كل بلد استوطنه اليهود‏.‏ انحطّت القيم الأخلاقيّة الى الدَّرْك الاسفل وشاعت الفوضى واللامسئولية والاحتيالُ في معاملات أبنائه التجارية‏.‏ هذا بينما ينعزل اليهود متقوقعين على أنفسهم في كتَلٍ وعصابات، لم نتمكّنمن القضاء عليها ولا دمجها في مجتمعنا‏.‏ لقد هزئ اليهودُ من قِيم ديانتنا المسيحية التي تقوم دولتنا عليها وتعيش بها، متجاهلين كلَّ أنظمِتنا ومحظوراتِنا، فمكّنهم ذلك من إقامة دولة لهم داخل دولتنا» إلى أن يقول‏:‏

«إنكم إن لم تطردوهم عن ديارنا فلن يمضي أكثرُ من مائتي سنة حتى يصبح أحفادُنا خَدَماً في حقولهم يمدّونهم بثروات بلادنا‏.‏‏.‏‏.‏ ان اليهود يشكّلون خطراً عظيماً على هذه البلاد، وإنني أؤكد على ضرورة طردِهم منها ومنعِهم من الدخول إليها أو الإقامة فيها، بموجب نصوص دستورية صريحة»‏.‏

وقد تحققت نبؤءته، فاليهود هم حكّام الولايات المتحدة الأمريكية دون جدال، وبأصواتهم في الانتخابات على الأقلّ‏.‏ هذا سيرينغ، السفير البريطاني في امريكا، يقول في تقريره المؤرخ في 13 تشرين الثاني سنة 1914 من كتاب ادمونسون «أنا أشهد» ص 193ما يأتي‏:‏ «يعتبر بول م‏.‏ واربورغ الألمانيُّ المولد، اليهودي الأصل، المسيِّر الوحيدَ لسياسة الولايات المتحدة الاقتصادية والمالية، إبّان عهد الرئيس ويلسون‏.‏ ومنذ وفاة ج‏.‏ ب‏.‏ مورغن الأب، قفز أصحاب المصارف اليهودُ في أمريكا الى أرفع المراكز في السلطة وأعلى مقامات النفوذ‏؟‏‏.‏

ويقول ويليام دادلي بالي، في الصفحة 9 من كتاب» الامبراطورية الخفية «ما يأتي» كان للرئيس فرانكلين روزفلت 72 مستشاراً، منهم 52 من اليهود المهاجرين الى الولايات المتحدة‏.‏ والأَهمُّ من ذلك، ان الإحصاءات الرسمية تدل على ان اليهود يملكون 80 بالمائة من عقارات الولايات المتحدة وأبنيتها ومواردها الطبيعية‏.‏ كما يشكّل اليهود نسبة 86 بالمائة من مجموع الموظفين في واشنطن «‏.‏

هذا إلى كتب كثير أُلّفت في هذا الموضوع، لكن الأمريكان مخدَّرون تحت وطأة رشوة اليهود للمسئولين في البلاد والضغط عليهم بشتّى الوسائل المغرية‏.‏

أما الأوربيّون فإنهم تكلّموا عن اليهود وحذّروا منهم كثيراً وانتقدوهم‏.‏ فهل هناك إلا قَبْضَ الريح من أمل لبعض الحكام، لا الشعوب العربية، في أمريكا‏!‏ لكن كل ذلك ذهب ادراج الرياح‏.‏

‏{‏كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله‏}‏

كلّما همّوا بالكيْد للرسول وللمؤمنين عليهم‏.‏ وقد كان اليهود يُغرون المشركين بمحاربة النبيّ والمؤمنين، بل إن منهم من سعى لتحريض الروم على مهاجمتهم‏.‏ ومنهم من كان يؤوي أعداء المسلمين ويساعدهم مثل كعب بن الأشرف أحد كبار زعمائهم‏.‏ وكان هذا عربياً من نبهان من طيّ، أُمه يهودية، فاتّخذ اليهودية ديناً له‏.‏ وكان شاعراً، فآذى النبيَّ عليه السلام والمسلمين كثيرا الى ان قُتل‏.‏

وما سببُ هذا الكيد إثارة الفتن الا الحَسد والعصبيّة من قِبل اليهود، وخوف الأحبار ان يزيل الإسلام امتيازاتهم العلميّة والدينية التي كانوا يعيشون عن طريق استغلالها في الارتشاء والدجَل على صغار العقول‏.‏

‏{‏وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً‏}‏‏.‏

ان ما يأتونه من عداوة الرسول الكريم والمؤمنين، بنشْر الفاسد في الأرض وإثارة الحروب ليس الا الفساد بعينه‏.‏ فهم يخافون اجتماع كلمة العرب، حيث تقوى شوكتهم‏.‏ وبذلك يذهب نفوذ اليهود الذي يتمتّعون به، ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ المفسدين‏}‏ بل يبغضهم ومن ثم لن ينجح سيعهم، أو يصلُح عملُهم‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب آمَنُواْ واتقوا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النعيم‏}‏‏.‏

ولو أن اليهودَ والنصارى آمنوا بالإسلام ونبيّه، واجتنبوا الآثام التي ذكراناها لمحونا عنه سيئاتِهم التي اقترفوها وغفرنا لهم ذنوبهم، ولأدخلناهم في جنات النعيم في الآخرة‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

لو أنهم عملوا بالتوراة والإنجيل، وحفظوهما من التحريف، وآمنوا بما أَنزل إليهم ربهم، وهو القرآن الكريم لأعطتهم السماءُ مطرها وبركتها، والأرضُ نباتها وخيراتها‏.‏

وهذا معنى‏:‏ لأكلوا من فوقِهم ومن تحتِ أرجلهم‏.‏ وكما قال تعالى ‏{‏لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 95‏]‏

ثم بيّن الله تعالى أنهم ليسوا سواءً في أفعالهم وأقوالهم، فهناك فيهم جماعة معتدلة في أمر دينها، وهم الذين آمنوا بمحمّد والقرآن‏.‏ بيد أن الكثير من جمهورهم متعصّبون مغرورون ساء ما يعلمون‏.‏

أخرج الإمام أحمد وابنُ ماجة عن زياد بن لبيد، وهو أحد الصحابة الكرام ممن شهد بدراً قال‏:‏ «ذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقال‏:‏ وذلك عند ذهاب العِلم‏.‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله‏:‏ وكيف يذهب العِلم نحن نقرأ القرآن ونُقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم الى يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ ثكلتْك أمك يا ابن أُم لبيد، إن كنتُ لأراك من أفقهِ رجل في المدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء»‏.‏

ومغزى هذا أن العبرة في الأديان هو العمل بها، فإذا لم نعمل نحن بالقرآن الكريم، بل اكتفينا بلوْك الألسن فقط، فإن مصيرنا معروف نسأله تعالى أن يلهمنا الصواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

عصمه الله‏:‏ حفِظه ووقاه ومنعه من السوء‏.‏

يا أيها الرسول، بلّغْ الناس جميعاً بكل ما أوحي الله اليك، ولا تخشَ في ذلك أحداً ولا تخفْ مكروهاً، فإن لم تقم بالتبليغ تكن قد خالفت أمر ربك‏.‏ ان الله يحفظك من مكائد الناس ويمنعك من أذاهم وفتكهم‏.‏

وهذه الآية مكيَّة نزلت في مكة، ولكنها وضعت في السورة المدنية لحكمة دوام التبليغ‏.‏ فقد روى الترمذي وابو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عن عدد من الصحابة‏.‏ «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُحرَس في مكة قبل نزول هذه الآية، وكان العبّاس ممن يحرسه، فلمّا نزلت ترك رسول الله الحرس»‏.‏

«وروى أن أبا طالب كان يبعث مع رسول الله من يحرسه إذا خرج حتى نزل قوله تعالى ‏{‏والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس‏}‏ فذهب ليبعث معه، فقال الرسول‏:‏ يا عم، ان الله حفظني، لا حاجةَ بي الى من تبعث»‏.‏

وقد صدَعَ رسولُ الله عليه الصلاة والسلام بالأمر وبلّغ الرسالة جميعها، وبيّن للناس كلّ شيء ولم يخصَّ أحداً بشيء من علم الدّين، فلا مجال لرأي بعض الفرق الإسلامية بصدد ذلك‏.‏

قال ابن أبي حاتم ان هارون بن عنترة الشيباني أخبره أن أباه قال‏:‏ كنت عند ابن عباس، فجاء رجل فقال له‏:‏ ان ناساً يأتوننا فيخبروننا أن عندكم شيئاً لم يُبدِه رسولُ الله للناس‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ ألم تعلم أن الله تعالى قال ‏{‏ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ‏}‏ واللهِ ما ورّثنا رسولُ الله سوداء في بيضاء‏.‏

وفي صحيح البخاري عن ابي جحيفة قال‏:‏ قلت لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن‏؟‏ فقال‏:‏ لا والذي فَلَق الحبّة وبَرأَ النَّسمة، إلاّ فَهْماً يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة‏.‏ قلت‏:‏ وما في هذه الصحيفة‏؟‏ قال‏:‏ العَقْلُ، وفكاكُ الأسير، وان لا يقتَل مُسلم بكافر‏.‏

هذا كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله أن رسول الله قال في خطبة الوداع «أيها الناس، إنكم مسئولون عَنّي، لما انتم قائلون‏؟‏ قالوا نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت‏.‏ فجعل يرفع اصبعه الى السماء وينكسها اليهم ويقول‏:‏ اللهم هل بلّغت»‏.‏

‏{‏إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين‏}‏

ان الله تعالى لا يهدي الكافرين الذي هم بصدد إيذائك يا محمد بل سيظلون خائبين، وتتم كلماتُ الله تعالى حتى يكمُل بها الداين‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وابن عامر وابو بكر «رسالاته» بالجمع، والبقاون «رسالته»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

الطغيان‏:‏ مجاوزة الحد المقبول، والظلم والاسراف والتجبر‏.‏ ‏{‏فَأَمَّا مَن طغى وَآثَرَ الحياة الدنيا فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 37-39‏]‏‏.‏

لا تأس‏:‏ لا تحزن‏.‏

بيّن الله تعالى هنا أن الانتساب الى الأديان لا ينفع أهلها إلا اذا عملموا بها، فقلْ أيها الرسول لليهود والنصارى‏:‏ إنكم لن تكونوا على دين صحيح، الا اذا أعلنتم جميع الأحكام التي أنزلت في التوراة والانجيل وعلمتم بها وآمنتم بما بشَّر به الكتابان من بعثةِ نبيٍّ يجيء من وَلَدِ إسماعيل الذي سمّاه المسيحُ روح الحق والبارقليط‏.‏ وأُقسم بأن الكثيرين من أهل الكتاب لا يزيده القرآن الا غلواً في تكذيبهم وكفراً على كفرهم، فلا تحزن عليهم‏.‏ ويجب أن نأخذ نحن من هذه عبرا، ونتمسك بالقرآن الكريم وسنة رسوله حتى لا نكون مثل السابقين من أهل الكتاب‏.‏

وقد سبق تفسير باقي الآية الكريمة من قبلُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

الصابئون‏:‏ الكلمة آرامية الأصل، تدل على التطهير والتعميد‏.‏ والصابئة فرقتان‏:‏ جماعة المندائيّين أتباعِ يوحنّا المعمدان، وصابئةُ حرّان الّذين عاشوا زمناً في كنف الاسلام، ولهم عقائدهم وعلماؤهم، ومن أشهرهم ابراهيم من هلال الصابي الأديبُ الكبير، والعالِم بالفلك والفلسفة الرياضية‏.‏

ورد ذكرهم في القرآن ثلاث مرات بجانب اليهود والنصارى، مما يؤْذِن بأنهم من أهل الكتاب‏.‏ وكتب عنهم المؤرخون المسلمون‏.‏ وخاصة الشهرستاني في «المِلل اوالنِّحل»، والدمشقي في «نخبة الدهر في عجائب البحر»‏.‏ وهم يُعَدّون بين الروحانيين، الّذين يقولون بوسائط بين الله والعالم، ويحرصون على تطهير أنفسهم من دنَسِ الشهوات والارتقاء بها إلى عالم الروحانيات‏.‏ للقوم طقوس ثابته، منها أنهم يتطهرون بالماء إذاى لمسوا جسداً، ويحرّمون الختان كما يحرّمون الطلاق إلا بأمر من القاضي، ويمنعون تعدُّد الزجات، ويؤدون ثلاث صلوات كل يوم بالسريانية‏.‏ أما قِبلتهم فهي القطب الشمالي‏.‏ وقد خدموا الإسلام في مجالات العلم والسياسة والترجمة‏.‏ ولا يزال منهم بعضة آلاف في العراق الى الآن، كتب عنهم السيد عبدالرزاق الحسن رسالةً مطبوعة بمصر، وقال إنهم إربع فِرق‏.‏

وتفسير الآية الكريمة

ان الذين صدقوا الله ورسوله، واليهود، والصابئين، والنصارى وغيرهم كل اولئك اذا أخلصوا في الإيمان بالله، وصدّقوا بالعبث والجزاء، وأتوا الأعمال الصالحة التي جاء بها الاسلام فيسكنون في مأمن من العذاب، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏.‏