فصل: تفسير الآيات رقم (70- 71)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 71‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ‏(‏70‏)‏ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

الميثاق‏:‏ العهد‏.‏ الفتنة‏:‏ الاختبار، ما يسّبب التخريب والقتل‏.‏

لقد أخذ الله العهد على بني اسرائيل في التوراة أن يتّبعوا أحكامها، لكنهم نقضوا هذا الميثاق ‏(‏كما تقدم في أول السورة‏)‏، وعاملوا الرسل أسوأ معاملة، فكانوا كلّما جاءهم رسلو لم يوافق هواهم كذّبوه أو قتلوه‏.‏ وقد أوغلوا في الضلال، حتى لم يعد يؤثّر في قلوبهم وعظ الرسل ولا هديتهم‏.‏ لقد تمكّن من نفوسهم أنه لن تقع لهم فتنة بما فعلوا من الفساد، انطلاقاً من زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه‏.‏ لذلك لم يعودوا يبالون بآثامهم‏.‏ وهكذا أصابهم العمى عن آيات الله التي أنزلها في كتبه، وصَمُّوا عن سماع المواعظ التي جاءهم بها أولئك الرسل‏.‏ وإذ ظلموا انفسهم فقد سلّط عليهم الله من أذاقهم الخسف‏.‏

لقد غزاهم بختنصّر، فأهلكهم واستباهم وسقاهم الى بابل‏.‏ ثم رحمهم الله وأعاد اليهم مُلكهم على يد كورش، أحد ملوك الفرس، فرجع عدد كبير منهم الى القدس‏.‏ لكنهم ما لبثوا ان عَمُوا وصمّوا مرة أخرى، وعادوا الى ظلمهم وفسادهم في الأرض، فقتلوا زكريّا وأشعيا، وأرادوا قتل عيسى عليه السلام، فسلّط الله عليهم الفُرس ثم الرومان فأزالوا ملكهم‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَثِيرٌ مِّنْهُمْ‏}‏ إشارةٌ الى أنه فيهم أناسٌ خيرون أتقياء‏.‏ لكن الله سبحانه يعاقب الأمم بذنوبها اذا كثرت وشاعت فيها، ولو كان فيهم قلة من الصالحين‏.‏ لذلك يقول تعالى في آية أخرى ‏{‏واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏‏.‏

‏{‏والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏

الله مطلع عليهم مشاهدٌ لأعمالهم، ومجازيهم عليها‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابو عمروا وحمزة والكسائي ‏{‏أَلاَّ تَكُونَ‏}‏ بالرفع والباقون بالنصب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 75‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏72‏)‏ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏74‏)‏ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

بعد ان جادل الكتابُ اليهود، وعدّد مخالفتهم لصُلْب ديانتهم، ونقضَهم المواثيق والعهود، شرع هنا يفصّل ما عمله النصارى من تحريف في عقيدتهم‏.‏

إن الذين ادّعوا أن الله هو المسيح بن مريم قد كفروا وضلُّوا ضلالا بعيدا‏.‏ والحق أن عيسى بريء من هذه الدعوى، فقد قال لهم عكس ما ينسبون اليه‏.‏ لقد أمرهم بعبادة الله وحده، معترفاً بأنه ربه وربهم‏.‏‏.‏ وجاء هذا صريحاً في الاناجيل، ففي إنجيل يوحنا ‏(‏هذه هي الحياةُ الأبدية، أن يعرِفوك أنت الإله الحقيقيَّ وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلتَه‏)‏‏.‏ وبعد ان أمرهم عليه السلام بالتوحيد الخالص، أتبعه بالتحذير من الشرك والوعيد عليه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة وَمَأْوَاهُ النار وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ‏}‏‏.‏ ن اللهَ هو الذي خلقني وخلقكم جميعاً، وهو مالك أمرِنَا جميعا، وإن كل من يدّعي لله شريكاً، فان جزاءه ان لا يدخل الجنة أبدا، وليس لمن يتعدى حدوده ويظلم ناصرٌ يدفع عنه العذاب يوم القيامة‏.‏

لقد كفر الذين قالوا ان الله، وهو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما ثالثُ أقانيم ثلاثة‏:‏ الأب، والابن، روح القدس، فالحق أنه يتصِف بالوحدانية، ولا تركيب في ذاته ولا في صفاته‏.‏ إنه ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏‏.‏ ثم قال متوعداً ‏{‏وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ فإن لم ينتهِ هؤلاء عن العقائد الزائفة، ويرجعوا إلى الإيمان باللهِ وحده، فواللهِ ليصيبنَّهم عذابٌ شديد يوم القيامة‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏ ن الله واسع الرحمة اذا تابوا ورجعوا اليه‏.‏

ثم أكد الله تعالى ان المسيح رسول كغيره من الرسل وأقام الدليل على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام‏}‏ ليس عيسى بن مريم إلا عبداً من البشر، أنعم الله عليه بالرسالة كغيره من الرسل‏.‏ أمّا أمه مريم فهي صدّيقةٌ في مرتبة تلي مرتبة الأنبياء، ولكنها أيضاً من البشر، فعيسى وأمه يأكلان الطعام كغيرهما من الناس، فانظر أيها السامع نظرة عقلٍ وفكر، ثم تأمل كيف ينصرفون عن الحق مع وضوحه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 77‏]‏

‏{‏قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏76‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏77‏)‏‏}‏

الغلو‏:‏ الإفراط وتجاوز الحد‏.‏ الأهواء‏:‏ الآراء التي تدعو اليها الشهوة‏.‏

سواء السبيل‏:‏ وسطه‏.‏

قل أيها الرسول لليهود والنصارى‏:‏ أتعبدون غير الله مّمن لا يملك لكم ضُرّاً تخشَونه ولا نفعاً ترجون ان يجزيكم به اذا اعبدتموه‏!‏‏!‏‏.‏ كَيف تتركون عبادة الله، وهو الاله القادر على كل شيء، السميع العالم بكل شيء‏!‏‏!‏

يا أيها اليهود والنصارى، إن الله ينهاكم عن الإفراط في معتقداتكم فتتجاوزوا حدود الحق الى الباطل‏.‏ ولا تتّبعوا أهواء أسلافكم الذين ضلّوا عن الحق من قبل، وأضلّوا خلقاً كثيراً معهم‏.‏ لقد حادوا عن الصراط المستقيم، وهو دين الاسلام، فلا تقتفوا آثارهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 81‏]‏

‏{‏لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏78‏)‏ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏79‏)‏ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏80‏)‏ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

اللعن‏:‏ الحرمان من لطف الله وعنايته‏.‏ يتولون الذين كفروا‏:‏ يوالونهم‏.‏

يأتي هذا التقرير في موقف النبي داود وعيسى عليهما السلام من اليهود على مدى التاريخ، وكلاهما لعن كفار بني إسرائيل لعصيانهم وعدوانهم‏.‏ وقد استجاب الله له جزاء سكوتهم عن المنكر يفشو فيما بينهم‏.‏

لعن الله الذين كفروا من بني اسرائيل في الزبور والانجايل، من جرّاء تماديهم في العصيان وتمرّدهم على الأنبياء، وهذا معنى ‏{‏بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ‏}‏‏.‏ ثم بيّن أسبابَ استمرارهم في العصيان فقال‏:‏ ‏{‏كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ‏}‏ فدأبُهم ألا يتناصحوا، فلا ينهى احد منهم احداً عن منكَر يقترفه مهما قُبح‏.‏ وفي الآية تلميح إلى فشوّ المنكَرات فيهم، وانحلال مجتمعهم لما فيه من فسق وفجور‏.‏ وهذا داء قديم فيهم، لا يزال مستمرا حتى الآن، فَ ‏{‏لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏ من اقتراف المنكرات، والسكوت عليها‏.‏

هذا ما يحدثنا به اخواننا من الشعب الفلسطيني عن مجتمع اليهود‏.‏ إنه موبوء فاجر‏.‏

روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن أولَ ما دخل لنقصُ على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فقول‏:‏ يا هذا، اتقِ الله ودعْ ما تصنع، فإنه لا يحِلّ لك‏.‏ ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك ان يكون أكيله وشريبه وقَعيده‏.‏ فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض» ثم قال ‏{‏لُعِنَ الذين كَفَرُواْ‏.‏‏.‏‏}‏ إلى قوله ‏{‏فَاسِقُونَ‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات‏.‏ ثم قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كَلاّ واللهِ لتأمُرنّ بالمعروف، ولتنهَوُن عن المنكر، ثم لتأخذُن على يد الظالم ولتأطِرُنَّه على الحق، أو لتقسُرُنّه على الحق قسراً، أو ليضربنّ اللهُ قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم»‏.‏

تأطِرنّه‏:‏ تردُّونه، والقسر‏:‏ القهر‏.‏

والأحاديث في ذلك كثيرة وصحيحة‏.‏ وأظن كثيراً من أحوالنا تسير الى السوء، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معطّل‏.‏ نسأله تعالى ان يردنا الى ديننا‏.‏

‏{‏ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ‏}‏

هذا هو من الأمور التي كانت تقع منهم، فقد كان اليهود يتحالفون مع مشركي قريش والعربِ ضدّ النبي والاسلام‏.‏ وقد ذهبَ كعبُ بن الأشرف مع جماعة منهم الى مكة يحرّض كفّار قريش على قتال الرسول الكريم، كما حالف بنو قريظة المشركين في وقعة الخندق‏.‏ وحوادثهم كثيرة‏.‏

‏{‏لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ‏}‏

إن هذه الشرور عمل ادّخرته لهم أنفسُهم الشريرة حتى غضب الله عليهم، وسيخلَّدون في جهنم وبئس المصير‏.‏

‏{‏وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ‏}‏‏.‏

ولو كان أولئك اليهود الذين يتولَّون الكافرين من مشركي العرب، يؤمنون بالله والنبي، وما أُنزل اليك من القرآن، لما اتخذوا عبدة الأوثان أنصاراً، ‏{‏ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ متمردون في النفاق، خارجون عن حظيرة الدين، لا يريدون الا الجاه والرياسة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 86‏]‏

‏{‏لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏83‏)‏ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ‏(‏84‏)‏ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏85‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏86‏)‏‏}‏

العداوة‏:‏ البغضاء‏.‏ المودة‏:‏ المحبة‏.‏ القَس‏:‏ جمعه قُسوس، والقسيس‏:‏ جمعه قسيسون، الذي يكون بين الشمّاس، والكاهن‏.‏ الراهب‏:‏ العابد المنقطع عن الناس في دير أو صومعة حرم نفسه فيها من التنعم بالزواج ولَذَّات الطعام‏.‏ تقبيض من الدمع‏:‏ تمتلئ دمعا حتى يتدفق من جوانبها‏.‏ مع الشاهدين‏:‏ الذين شهدوا وصدّقوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ فأثابهم‏:‏ جازاهم‏.‏

نزلت هذه الآية في نجاشي الحبَشَة وأصحابه، حين هاجر فريق من المسلمين إلى هاك‏.‏ قالت أم سَلَمة وكانت من المهاجرات الى الحبشة قبل ان يتزوجها الرسول الكريم‏:‏ لما نزلنا بأرض الحبشة جاوَرَنا بها خيرٌ جارٍ، النجاشي‏.‏‏.‏ امِنّا على ديننا وعبدْنا الله تعالى لا نؤذَى ولا نسمع شيئاً نكرهه‏.‏

وقد بقي المهاجرون فيها الى ان هاجر الرسول الكريم الى المدينة، ولم يقدِروا الوصول اليه، فقد حالت بينهم وبينه الحرب‏.‏

فلما كانت وقعة بدر وقُتل فيها صناديق قريش، قال كفار قريش‏:‏ ان ثأركم بأرض الحبشة، فابعثوا الى سيّدها رجلين من ذوي الرأي فيكم مع هدايا له ولرجاله لعلّه يعطيكم مَن عنده فتقتلونهم بقتلى بدر‏.‏ فعبث كفار قريش عمرو بن العاص، وعبدالله بن ابي ربيعة بهدايا‏.‏ فخرجا حتى قدما على النجاشي، فأهَدوا الى البطارقة مما معهما من الهدايا، وطلبوا منهم ان يساعدوهما عند الملك بأن يسلّمهما أولئك المهاجرين‏.‏ ثم قابلا النجاشي وقدّما له هداياهما فقبلها منهما‏.‏ ثم كلماه فقالا له‏:‏ أيها الملك، قد جاء الى بلدك غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤا بدينٍ ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت‏.‏ وقد بعثنا من آبائهم وأعمامهم أشرافُ قومه لتردهم إليهم‏.‏ فقالت بطارقته حوله‏:‏ صدَقا أيها الملك، فأسلمْهُم إليهما‏.‏ فغضب النجاي ثم قال‏:‏ لا واللهِ لا أُسلمهم حتى أدعوَهم، فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم‏.‏ ثم أرسَل إليهم‏.‏ فلما جاؤا، قال لهم النجاشي وأساقفته‏:‏ ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين آحد‏؟‏

فقام جعفر بن ابي طالب، فقال‏:‏ أيها الملك، كنا قوماً أهلَ جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف‏.‏ وظللنا على ذلك حتى بعث الله الينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وعفافه، فدعانا الى الله، أن نوحّده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد قبله من الحجارة والأوثان‏.‏ ولقد أمرَنا بصِدق الحديث، وأداء الامانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء‏.‏ كما نهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكلِ مال اليتيم، وقذف المحصنات‏.‏ أمرنا ان نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام‏.‏ فصدّقناه وآمّنا به، واتّبعناه على ما جاء به من الله‏.‏‏.‏‏.‏

فعدا علينا قومُنا فعذّبونا، وفتنونا عن ديننا لنرتدّ الى عبادة الأوثان‏.‏‏.‏‏.‏ فلمّا قهرونا وضيقوا علينا، خرجنا الى بلادك، ورغبنا في جوارك‏.‏

فقال النجاشي‏:‏ هل معك مما جاء به من الله من شيء‏؟‏ قال جعفر‏:‏ نعم أول سورة مريم‏.‏ قالت أم سلمة‏:‏ فبكى والله النجاشي، حتى اخضلّت لحيته‏.‏ وبكت اساقفته حين سمعوا ما تلا جعفر‏.‏ ثم قال النجاشي‏:‏ ان هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة‏.‏ إنطلِقا، فوالله لا أسلّمهم إليكما‏.‏ الخ القصة‏.‏

فهذه القصة من أسباب نزول هذه الآيات‏.‏ فبعد أن حاجّ اللهُ تعالى أهل الكتاب، وذكر مخالفتهم لكتبهم وأنبيائهم، وانهم اتخذوا الاسلام هزواً ولعبا، وبلغت الجرأة باليهود ان يتطالوا على الله بقولهم ‏{‏يَدُ الله مَغْلُولَةٌ‏}‏، وان النصارى اعتقدوا بأن المسيح ابن الله ذكر هنا احولهم في عداوتهم للمؤمنين، أو محبتهم لهم‏.‏ ومقدار تلك العداوة أو المحبة‏:‏

‏{‏لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ‏}‏

قسَمَاً أيها الرسول لسوف تجد أشد الناس عداوة لك وللمؤمنين معك، اليهودَ المشركين من عبدة الاصنام‏.‏ وقد وقع ذلك‏.‏ فإن أشد إيذاء واجهه النبي عليه السلام إنما كان من اليهود في المدينة وما حولها، ومن مشركي العرب، ولا سيما قريش‏.‏

ويشترك اليهود والمشركون في بعض الصفات والاخلاق، كالتكبّر والغرور، وحب المادّة، والقسوة‏.‏ والمعروف عن اليهود ا نهم يعتبرون كل من عداهم لا حرمة له ولا قيمة، فكل مَن كان غير يهودي مباح لهم دمه وماله وعرضه، هذا مقرَّر في تملودهم‏.‏

‏{‏وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى‏}‏

أما أقرب الناس محبة للذين آمنوا بك وصدّقوك فهم النصارى‏.‏ رأى النبي من نصارى الحبشة أحسن المودة‏.‏ ولما أرسل كتبه الى الملوك ورؤساء الدول كان النصارى منهم أحسنَ ردا، واستقبالاً للرسل‏.‏ والواقع ان مودة النصارى للمسلمين في عصر النبي الكريم كانت ظاهرة ملموسة‏.‏

‏{‏ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

وسببُ تلك المودّة أن فيهم قسيسين يعلّمون دينهم، ورهبانا يخشون ربهم‏.‏ هذا كما أنهم لا يستكبرون عن سماع الحق واتّباعه‏.‏ وفيهم من إذا سمعوا القرآن وتأثروا به، فتفيض اعينهم بالدمع‏.‏ انهم يعرفون ان ما سمعوه حق، فتميل اليه قلوبهم وتنطلق ألسنتهم بالدعاء الى الله قائلين‏:‏ رنبا آمنا بك وبرسُلك، وبالحق الذي انزلته عليهم، فتقبّل منا إيماننا، واجلعنا مع الشاهدين من أمة محمد الذين جعلتهم حجة على الناس يوم القيامة‏.‏ وأي مانع يمنعنا من الايمان بالله، وتصديق ما جاء على محمد ونحن نرجو ان يُدخلنا ربنا الجنةَ مع خبرة عباده‏!‏‏!‏

لذا كتب الله لهم ثواباً، جنات تجريى من تحتها الانهار، خالدون فيها الى الأبد‏.‏

هذا جزاء المحسنين من ربهم‏.‏ اما عقاب المسيئين الى انفسهم بالكفر والجحود والتكذيب، اي‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ‏}‏ فهو الجحيم‏.‏ انهم أهل النار، وسيبقون في العذاب الشديد الدائم‏.‏

ويجب ان نوضح هنا موضوعاً مهما، وهو أن النصارى الذين تعنيهم الآية إما هم أصحاب النجاشي الذين عاصروا النبيّ، وقد جاء بعضهم مع جعفر بن ابي طالب الى المدينة وأسلم‏.‏

اما اذا استعرضنا النصارى الأوروبيين، وما كادوا للاسلام والمسلمين، وما شنّوه من حروب صليبيّة مجرمة في المشرق الاسلامي كما في الاندلس، وما قاموا به من مذابح يسعّرها التعصب والحقد فإننا لا نجدهم يختلفون عن اليهود‏.‏ بل إن احقادهم مستمرة في موازرة الصهيونية‏.‏ وقد لنا سابقا، ونكرر هنا ان هذا لا يشمل النصارى العرب، الذين لم يقصروا في واجبهم نحو وظنهم واخوانهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 88‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏87‏)‏ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

عندما نزلت الآيات السابقة، وفيها مدح للقسيسين والرهبان، ظنه بعض المؤمنين ان في هذا ترغيبا في الرهبانية، ودعوةً إلى ترك الطيبات من الطعام واللباس والنساء، فأزال الله تعالى هذا الظن بهذا النهي الصريح‏.‏

ذلك ما يرويه كثير من المحدّثين‏.‏ فقد روى الطبري‏:‏ ان عثمان بن مظعون وعلي بن ابي طالب وعبدالله بن مسعود والمقداد بن الأَسْود، وسالماً مولى ابي حذيفة، وقدامة بن مظعون تبتّلوا فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح وحرّموا طيبات الطعام واللباس، وهمّوا بالاختصاء واجمعوا على القيام بالليل وصيام النهار، فنزلت هذه الآية‏.‏ فلما نزلت، بعثَ اليهم رسول الله فقال‏:‏ «ان لأنفسكم حقاً، وان لأعينكم حقاً، وان لأهلهكم حقا، فصلّوا وناموا، وصوموا وأفطِروا، فليس منا من ترك سنّتنا» فقالوا‏:‏ اللهمّ صدّقْنا واتبعنا ما انزلت مع الرسول‏.‏

والمعنى‏:‏ يا أيها الذين آمنوا، لا تحرّموا على أنفسكم ما احلّ الله لكم من الطيبات، ولا اعطاكم الله من الرزق الحلال، ولا تعتدوا بالتضييق على انفسكم مما لم يكلّفكم به الله‏.‏

من محاسن شرعنا انه يميل دائما الى التوسط في الأمور، وعلينا ان نقتدي بالرسول الكريم عليه صلوات الله، فانه كان يأكل أطيب الطعام، إذا وجد، وتارة يأكل اخشنه، وحينا يجوع، واخرى يشبع، ويحمد الله على الحالين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

اللغو في اليمين‏:‏ الحلف على وجه الغلظ من غير قصد‏.‏ بما عقدتم‏:‏ بما قصدتموه‏.‏ الكفّارة‏:‏ الستر والتغطية، لانها تمحو الذنوب وتسترها‏.‏ الاوسط‏:‏ الطعام العادي، ليس‏.‏ بالرديء، ولا الفاخر‏.‏ تحرير رقبة‏:‏ عتقها‏.‏

روى ابن جرير عن ابن عباس، قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ‏}‏ قالوا يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ‏}‏‏.‏

لا يؤاخذكم الله بالأيمان التي تحلفونا بلا قصد، ولا يعاقبكم عليها، وإنما يعاقبكم إذا أنتم حنثتم باليمين فيما قصدتم به‏.‏

فلو قال رجل‏:‏ واللهِ لا أفعل كذا، وفَعَلَه، فعليه الكفّارة‏.‏ وهذه الكفارة هي إطعام عشرة مساكين وجبةً واحدة، مما جرت العادة أن تأكلوا في بيوتكم من غير إسراف ولا تقتير‏.‏ او كِسوة عشرة مساكين كسوةً معتادة‏.‏ او ان تحرروا إنسانا من الرق‏.‏ فاذا لم يستطع الحالف القيام بأي من هذه الأمور فعليه ان يصوم ثلاثة أيام‏.‏ ان كل واحد من هذه الامور كفارة كافية، لكنّ عليكم ان تحفظوا أيمانكم فلا تحلفوا على أتفه الاشياء‏.‏ لا تُكثروا من الأيمان سواء أكانت صادقة ام كاذبة، فالاحسنُ تجنُّب الحلف‏.‏

‏{‏كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏

على ذها النحو الشافي الوافي يبين الله أحكامه ويشرحها لكم، لتشكروا نعمته بعد معرفتها بالقيام بحقها‏.‏

والإيمان ثلاثة أقسام‏:‏

‏(‏1‏)‏ قسم ليس من أيمان المسلمين، مثل الحلق بالمخلوقات، نحو الكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء وغير ذلك‏.‏‏.‏ وهذه من اللغو في الايمان، غير منعقدة، ولا كفارة فيها، ولا يجوز الحلف بها‏.‏

‏(‏2‏)‏ أيمان بالله تعالى، كقول الحالف‏:‏ واللهِ لأفعلنّ كذا، وهذه يمين منعقدة فيها الكفّارة عند الحلف‏.‏

‏(‏3‏)‏ أيمان بمعنى الحلف بالله، يريد بها الحالف تعظيم الخالق، كالحلف بالنِّذْر، والحرام الطلاق، كقوله‏:‏ إن فعلتُ كذا فعليّ صيام شهر، أو الحج الى بيت الله، اوالطلاقُ يلزمني، او عليّ الطلاق لا أفعل كذا، او ان فعلته فنسائي طوالق، او كل صدقة او نحو ذلك، فهذا كله فيه كفّارة اليمين‏.‏

وهناك نوع من الأيمان تسمى اليمين الغموس، وهي كما جاء في صحيح البخاري عند عبد الله بن عمرو قال‏:‏ «جاء اعرابي الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله ما الكبائر‏؟‏ قال‏:‏ الإشراك بالله، قال‏:‏ ثم ماذا‏؟‏ قال عقوق الوالدين، قال‏:‏ ثم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ اليمين الغموس»‏.‏ قال وما اليمين الغموس‏؟‏ قال‏:‏ «التي يُقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب»‏.‏

فهذه اليمين لا كفّارة فيها لأنها جرم لا يُغتفر‏.‏ ولأنها تغمس صاحبها في النار، ولا يكفّرها عتق ولا صيام ولا صدقة، بل لا بدّ من التوبة ورد الحقوق‏.‏

ويلاحظ ان الكفّارات وردت كثيراً في عتق العبيد، فان الاسلام رغّب كثيراً في عتقه، والعتق يدخل في أكثر الكفّارات للذنوب‏.‏

قراءات

قرأ حمزة والكسائي وابو كبر عن عاصم «عقدتم» بالتخفيف، وقرأ ابن عامر «عاقدتم» وقرأ الباقون «عقدتم»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 91‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏90‏)‏ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

الخمر‏:‏ كل شراب مسكر‏.‏ الميسر‏:‏ القمار‏.‏ الانصاب الأصنام التي نصبت للعبادة، وكانوا يذبحون قرابينهم عندها‏.‏ الأزلام‏:‏ قِداح اعواد من الخشب بهيئة السهام كانوا يستقسمون بها في الجاهلية‏.‏ الرجس‏:‏ المستقذَر حساً او معنى‏.‏

بعد ان نهى سبحانه عن تحريم الحلال من الطيبات، وامر بأكل الطيّب من الرزق، نظر إلى الخمر والميسر والازلام‏.‏ وكانت هذه من الطيبات في الجاهلية، وكان العرب يشربون الخمر بإسراف، بل يجعلونها من المفاخر التي يتسابقون في مجالسها‏.‏ وكان يصاحب مجلسَ الشراب نحرُ الذبائح، واتخاذ الشواء منها للشاربين، والمقامرة عليها بالأزلام‏.‏ كذلك كانوا يذبحون قرابينهم عند الانصاب‏.‏‏.‏ فنهى الله تعالى عن هذه المفاسد كلها نهياً قاطعاً، بعد ان مهد لتحريم الخمر مرتين من قبل هذه الآية‏.‏

وأول ما ذُكرت الخمر في سورة النحل، وهي مكيّة، في قوله تعالى ‏{‏وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

ثم نزل في المدينة وفي سورة البقرة‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية فالمنافع في الربح والتجارة، والإثم في الشر والمفاسد التي تنجم عنهما‏.‏ وقد تركها بعضُ الصحابة، واستمر آخرون‏.‏

ثم نزل قوله تعالى في سورة النساء‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية كذلك تركها البعضُ واستمرّ عليها آخرون‏.‏ وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه دائما يقول‏:‏ اللهم بَيّن لنا في الخمر‏.‏ وقد حدثت حوادث بين بعض الأنصار ونفرٍ من قريش، وهم على الشراب، وكان من جملة الذي لحقهم أذى سعد بن أبي وقّاص حيث ضربه احد الانصار ففَزَر له أنفه‏.‏ وحين نزلت ‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية كانت الحاسمة في تحريم الخمر تحريماً قاطعاً‏.‏

يا أيها الذين صدَّقوا بالله ورسوله‏:‏ إن الخمر التي تشربونها، والميسر الذي تقامرون به، والاصنام التي تذبحون عندها قرابينكم، والازلام التي تستقسمون بها، كل ذلك رِجسٌ قذِر من إغواء الشيطان لكم، وقد كرهه لكم ولذلك حرّمها، فاجتنبوها نهايئاً، رجاء ان تفلحوا وتفوزوا برضاه‏.‏

‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ‏}‏‏.‏

بعد ان أمر الله تعالى باجتناب الخمر والميسر ذكر أن فيهما مفسدتين‏:‏ احدهما دنيوية، هي ايقاع العداوة والغضاء بين الناس‏.‏ والثانية دينية هي الصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة التي هي عماد الدين‏.‏ ثم اكد بذلك بهذا الاستفهام بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ‏}‏، أي انْتَهُوا عن هذه الأشياء‏.‏

وأسمعُ بعض الناس يقولون‏:‏ ان الخمر غير محرّمة، لأ، ه لم يقل الله انها حرام صراحةً بل قال‏:‏ اجتنبوه‏.‏

وقولهم هذه كلام فيه الهوى والتذرّع بالتلاعب بالالفاظ لتعليل الأمور التي يحبونها، فالقرآن ليس كتاب فقه حتى ينصّ على كل شيء بأنه حارم او حلال، وانما هو قرآن كريم له اسلوب عربي فريد لا يدانيه اسلوب‏.‏ واكبر دليل على تحريم الخمر تحريما نهائياً أن الله تعالى قرن الخمر بالميسر الذي هو القمار، وبالأزلام والأنصاب، وقد جاء تحريم الأزلام والانصاب صريحاً بقوله تعالى في أول هذه السورة ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ولما نزلت ‏{‏إِنَّمَا الخمر والميسر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية قال سيدُنا عمر‏:‏ أُقرِنْتِ بالميسِر والأنصابِ والأزلام، بعداً لكِ وسحُقا‏.‏

فإذا كانت عبادة الأصنام والذبحُ عندها تقرّباً لها حلالا، فإن الخمر تكون حلالا، واذا كانت الأزلام والاستقسام بها حلالا، فإن الخمر تكون كذلك، واذا كان الميسر والمقامرة حالاً فإن الخمر كذلك تكون حلالا‏.‏‏.‏ الذين يقولون بتحليلها أناس يتّبعون أهواءهم، ولا يخشَون الله فيما يقولون‏.‏

والأزلام‏:‏ هي سهام من خشب، وهي ثلاثة أقسام‏.‏ ‏(‏1‏)‏ قِداح الميسر وهي عشرة واساؤها كما يلي‏:‏ الفَذّ والتوأم والرقيب والحِلْسُ والنافِس والمُسيل والمعلَّى والمَنِيح والسَّفِيح والوغد، ولكل واحدٍ من هذه نصيبٌ اذا فاز، واذا خاب عليه ذلك النصيب‏.‏ وأعلاها المعلَّى له سبعة أجزاء‏.‏ ‏(‏2‏)‏ والقسم الثاني‏:‏ ثلاثة ازلام‏:‏ مكتوب على أحدها‏:‏ امرني ربي، وعلى الثاني نهاني ربي، والثالث غُفل ليس عليه كتابة‏.‏ ‏(‏3‏)‏ وهذا القسم للأحكام‏.‏

وكانت العرب في الجاهلية إذا أراد أحدهم سفراً او تجارة او نكاحاً او اختلفوا في نسب، أو أمر قتيل أو تحمُّل دية مقتول او غير ذلك من الامور جاء الى هُبَل، أعظم صنم في الكعبة لقريش، وقدّم مائة درهم الى السادن، فيخرج له القداح ويسحب واحداً منها من الكيس التي هي فيه‏.‏ فإذا خرج أمرني ربي، أمضى عمله، والا تركه‏.‏

ولقد رحم الإسلام هذه الأمور لأنها تشتمل على مفاسد، والاسلام يريد ان يبني مجتمعاً نقيا طاهرا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 93‏]‏

‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏92‏)‏ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

طعم‏:‏ ذاق، وتأتي بمعنى أكل‏.‏ جناح‏:‏ إثم او جُرم‏.‏

أطيعوا الله تعالى فيما أمركم به من اجتناب الخمر والميسر وغيرهما من المحرّمات، وأطيعوا الرسول فيما بيّنهن لكم مما نزّل عليكم، واحذروا ما يصيبكم اذا خالفتم ذلك من فتنة في الدنيا وعذاب في الآخرة‏.‏‏.‏ فإن أعرضتم عن الطاعة، فتيقنوا ان الله معاقبكم‏.‏ ولا عذر لكم بعد هذا البلاغ الواضح المبين‏.‏ وفي هذا تهديد ووعيد شديد‏.‏

ليس على الذين آمنوا وصدّقوا بالله ورسوله، وأتوا بصالح الأعمال إثمٌ فيما يأكلون من الطيبات ولا فيما سبق أن أكلوه من المحرّمات قبل عملهم بتحريمها، شرط ان يبتعدوا عنها بعد الآن، وان يستمروا على خوفهم من الله وتصديقهم بما شرعه لهم من احكام‏.‏ والله يجب المتقربين اليه بنوافل الاعمال التي يرضاها‏.‏ والاتقاء الأول في هذه الآية‏:‏ هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق‏.‏ والاتقاء الثاني‏:‏ الاتقاء بالثبات على التصديق، وترك التبديل والتغيير‏.‏ والاتقاء الثالث‏:‏ هو الاتقاء بالإحسان، والتقرب بنوافل الاعمال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 96‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏94‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏95‏)‏ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

الابتلاء‏:‏ الاختبار‏.‏ الصيد‏:‏ كل صيد من حيوان البر والبحر‏.‏ تناله ايديكم‏:‏ تصيدونه‏.‏ حُرُم‏:‏ مفرده حرام، للذكر والانثى، وهو المحرِم بحج او عمرة‏.‏ النعم‏:‏ الحيوان من البقر والضبأن والإبل‏.‏ العدل‏:‏ بفتح العين، والمُساوي للشيء‏.‏ الوبال‏:‏ الشدة، وسوء العاقبة‏.‏ السيّارة‏:‏ جماعة المسافرين‏.‏ تُحشرون‏:‏ تجمعون وتساقون اليه‏.‏

كان الصيد احد معايش الناس في ذلك الزمان، وكان كثير من الصحابة لا مورد لهم إلا ما يصيدون، وقد نزلت هذه الآية عام الحديبية، وفيها تحريم الصيد للمحرم بالحج او بالعمرة‏.‏

يا أيها الذين آمنوا، إن الله يختبركم في الحج بترحيم صيد الحيوان البريّ بأيديكم أو برماحكم، ليُظهر الذين يراقبونه منكم في غيبية من اعين الخلق ويعلم إطاعتكم لأوامره‏.‏ وما ذلك إلا تربية لكم وتزكية لنفوسكم، فمن اعتدى بأن أخذ شيئاً من ذلك الصيد بعد هذا التحريم فله عذاب شديد في الآخرة‏.‏

وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن هذا البلدَ حرام، لا يُعضَد شجره، ولا يُختلى خلاه، ولا يُنفَّر صيده، ولا تُلتقط لُقطتُه إلا لمعرّف»‏.‏

يُعضد شجرة‏:‏ يقطع‏.‏ الخلا‏:‏ الرطب من النبات، ويختلى يُحَشّ‏.‏

ولا يجوز قتل او صيد أي حيوان أو طير ما عدا «الغراب والحَدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور والحيّة» كما ورد في الاحاديث الصحيحة‏.‏

وفي الصحيحين، ان رسول الله عليه السلام قال‏:‏ «ان ابراهيم حرَّم مكةَ ودعا لها، وإنّي حرّمتُ المدينة كما حرّم إبراهيمُ مكة»، كما قال‏:‏ المدينُ حَرَمٌ ما بين عِيرَ الى ثَور «‏.‏

عير‏:‏ جبل كبير القسم الجنوبي من المدينة‏.‏ ثور‏:‏ جبل صغير خلف جبل أحُد‏.‏

يا أيها الذين آمنوا، لا تقتلوا الصيد وقد نويتم الحج والعمرة‏.‏ ومن فعله منكم قاصداً فعليه ان يؤدي نظير الصيد الذي قتله، يُخرجه من الإبل والبقر والغنم، بمعرفة رجلَين عادلين منكم يحكمان به، ويقدّم ذلك هدية للفقراء عند الكعبة‏.‏‏.‏ او يدفع لدله إليهم‏.‏‏.‏ أو يُخرج بقيمة المِثْل طعاماً للفقرا، لكل فقير ما يكفيه يومه‏.‏ هذه كفّارة مسقطة لذنب تعدّيه على الصيد في الوقت الممنوع‏.‏ فإذا عجز عن الثلاثة السابقات، فإن عليه ان يصوم أياماً بعدد الفقراء الذين كانوا يستحقّون الطعام لو أخرجه‏.‏

وقد شُرع ذلك ليحس المعتدي بنتائج جرمه‏.‏ لقد عفا الله عما سبق قبل التحريم، اما من عاد الى قتل الصيد وهو محرم بعد النهي فان الله سيعاقبه، والله غالب على أمره، ذو انتقام شديد ممن يصر على الذنب‏.‏

والآية صريحة في ان الجزاء الدنيوي يمنع عقاب الآخرة اذا لم يتكرر الذنب، فان تكرر استُحق‏.‏

أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال‏:‏ اذا قتل المحرِم شيئاً من الصيد فعليه الجزاء، فإن قتل ظبياً او نحوه فعليه ذبحُ شاة في مكة، فان لم يجد فإطعام ستة مساكين، فان لم يجد صام ثلاثة أيام‏.‏

أما إن قتل أيّلاً «من بقر الوحش» فعليه بقرة، فإن لم يجد صيام عشرين يوما‏.‏ وإن قتل نعامة او حمار وحش أو نحو ذلك فعليه بُدنة من الإبل، فان لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا، فإن لم يجد صام ثلاثين يوما، والطعام مدُّ يشبعهم‏.‏

وقد أُحل الله لكم صيد حيوان البحر، تأكلون منه وينتفع به المقيمون منكم والمسافرون، ووحرم عليكم صيد البر ما دمتم محرمين بالحج او العمرة، سواء صاده غيركم، أو انتم قبل إحرامكم‏.‏ واتقوا الله بطاعته فيما امركم به وما نهاكم عنه، فإن إليه مرجعكم، فيجازيكم على ما تعملون‏.‏

يشيع على ألسنة بعض الناس خطأ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر‏}‏ ولا يوجد في القرآن آية بهذا النصّ، وإنما ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

قراءات‏:‏ قرأ الكوفيون ويعقوب «فجزاءُ مثلُ» برفع جزاء ومثل، وقرأ الباقون «فجزاءُ مثلٍ» برفع جزاء والاضافة‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر «كفَارةَ طعامٍ» بالاضافة والباقون «كفارةً» بالتنوين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏97‏)‏‏}‏

الكعبة‏:‏ هي البيت الحرام بمكة‏.‏ قياما‏:‏ ما يقوم به أمر الناس‏.‏ الشهر الحرام‏:‏ ذو الحجة‏.‏ الهَدي‏:‏ ما يُهدى الى الحرم من الأنعام‏.‏ القلائد‏:‏ الأنعام التي كانوا يزينونها بقلائد اذا ساقوها هَديا، وخصها بالذكر لعظم شأنها‏.‏

جاءت هذه الآية استكمالاً للسياق السابق، فلقد حرّم الله في الآية المتقدمة الصيد على المحرِم، باعتبار الحرم موطن أمنٍ للوحش والطير، فالأَولى إذن ان يكون موطن أمن للناس من الآفات والمخاوف، وسبباً لحصول الخير والسعادة للناس في الدنيا الآخرة‏.‏

ان الله جعل الكعبة التي هي البيت الحرام مانعاً وحاجزاً تؤمّن الناس، أرواحَهم ومصالحهم ومنافعهم في معاشهم، بها يلوذ الخائف، ويأمن فيه الضعيف، ويربح التاجر، ويتوجه اليها الحجاج والمعتمرون‏.‏

فمعنى «قياما» المانع الذي به يكون صلاح الناس، كالحكومة التي بها قوام الرعية، ترعاهم وتحجز ظالمهم، وتدفع عنهم المكروه‏.‏ كذلك هي الكعبة والشهر الحرام والهَدي والقلائد قوام العرب الذي كان به صلاحهم في الجاهلية‏.‏

فقد كان الرجل لو فعل اكبر جريمة ثم لجأ الى الحرم لم يُتناول، ولو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يَعرِض له أو يقربه، ولو لقي الهديَ مقلَّدا، وهو يأكل العصَب من الجوع لم يقربْه‏.‏ كان الرجل اذا اراد البيت تقلّد قلادة من شَعر فَحَمَتْه من الناس، وإذا عاد من الحج تقلد قلادة من الأّذْخر أو السَمُر فمنعته من الناس حتى يأتيَ أهله‏.‏

الاذخِر‏:‏ نبات كيب الريح‏:‏ السَّمُر‏:‏ مفمردها سَمُرة، شجر الطَّلح‏.‏

وهي في الاسلام معالم حجَ الناس، ومناسكهم، فهم في ضيافة الله اذ ذاك، فليعلموا على جمع شملهم، ويتجهوا اليه في صلاتهم‏.‏ أما الهدي فقد جعله تعالى سبباً لقيام الناس، لأنه يُهدى الى البيت ويًُذبح ويفرَّق لحمه على الفقراء‏.‏‏.‏ بذلك يكون نسكا للمُهدي، وقياماً لمعيشة الفقراء‏.‏

‏{‏ذلك لتعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏

ان ذلك التدبير اللطيف من الله تعالى إنما جعله كي توقنوا أن علمه محيط بما في السماوات وما في الارض، فهو يشرّع لمن فيهما بما يحفظهم ويقوم بمصالحهم‏.‏ فإذا احست قلوب الناس رحمةَ الله في شريعته، وتذوقت جمال هذا التطابق بينها وبين فطرتهم، أدركوا يقيناً ان الله بكل شيء عليم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر «قِيَما» وقرأ الباقون «قياما» كما هو هنا في المصحف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 100‏]‏

‏{‏اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏98‏)‏ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏99‏)‏ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

بعد ان ارشدنا الله تعالى في الآية السابقة الى بعض آياتِ علمه في خلقه نبهنا هنا الى أن العليم بكل شيء، لا يمكن ان يترك الناس سُدًى، كما انه لم يخلُقهم عَبَثا، فلا يليق بحكمته وعدله ان يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين عملوا الصالحات، ولا ان يسوّي بين الطيب الخبيث، فيجعل البَرّ كالفاجر‏.‏ لا بد إذن من الجزاء بالحق‏.‏ ولا يملك الجزاء الا من يقدر على العقاب كما على المغفرة والرحمة‏.‏ لذلك جاءت هذه الآيات ترغيباً وترهيباً، فقال‏:‏ ‏{‏اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏، فلأنه يعلم ما في السموات والارض، لا يخفى عليه شيء من سرائر اعمالكم وعلانيتها‏.‏ ومن ثم فهو شديدٌ عقابُه لمن عصاه، وواسعة مغفرته لمن أطاعه وأناب اليه‏.‏ والله سبحانه وتعالى دائما يوعد ويَعِد، والرحمة غالبة‏.‏ لذلك يغفر كثيرا من ظلم الناس لأنفسهم ‏{‏وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ‏}‏‏.‏

‏{‏مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ‏}‏

هذا بيان لوظيفة الرسول عليه الصلاة والسلام، فليس عليه الا أن يؤدي الرسالة، وبعد ذلك يكون الناس هم المسئولين عند الله، وهو يعلم ما يبدون وما يكتمون‏.‏

وبعد ان بين الله تعالى ان الجزاء منوط بالأعمال، اراد ان يبيّن ما يتعلق به الجزاء من صفات الأعمال والعاملين لها، وأرشد الى حقيقتين يترتب على كل منهما ما يليق بها من الجزاء‏:‏

1- لا يستوي الرديء والجيد من الاشياء والأعمال، لا من حيث صلاح أمور الحياة بهما، ولا في حكمهما عند الله‏.‏ فبالظلم لا تستقيم الحياة ولا يرضى الله عنه‏.‏ وذلك بخلاف العدل والصلاح‏.‏

2- ان الخبيث غرّار في الظاهر، لكن الطيّب أفضلُ وأبقى‏.‏ فالقليل من الحلال خير من الكثير الحرام، كما أنه أدوَم وأطهر‏.‏

وما دام الأمر كذلك يا ذوي العقول المدركة، فسارعوا الى ط اعة الله وقاية لكم من عذابه، باختيار الطيبات واجتناب الخبائث‏.‏ بذلك تفوزون في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 102‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

بعد ان بين الله تعالى ان وظيفة الرسول هي التبليغ، ناسَبَ ان يصرّح بأن الرسول قد أدى وظيفة البلاغ الذي كمُل به الاسلام، وانه لا ينبغي للمؤمنين ان يكثروا عليه من السؤال، لئلا يكون ذلك سبباً لكثرة التكاليف التي يشقّ على الأمة احتمالها‏.‏

يا أيها المؤمنون، لا تسألوا عن أشياء من أمور الدين ودقائق التكاليف ولا من امور الغيب، مما يُحتمل أن يكون إظهارها سبباً لإرهاقكم، إما بشدة التكاليف وكثرتها، أو بظهور حقائق تفضح أهلها، وإن تسألوا النبي عنها في حياته اذ ينزل عليه القرآن يُبّينها الله لكم‏.‏ ولقد فعلتم ذلك، لكن الله عفا عن مسألتكم، وهو حكيم بكم رؤوف في معاملتكم‏.‏ عفا الله عنكم في هذه الاشياء، فلا يعاقبكم عليها، ولقد سأل عن أمثال هذه الامور الشاقة اقوام سبقوكم، وأجابهم الله على السنة انبيائهم، وحين زادت التكاليف ثقُل عليهم تنفيذها، فأعرضوا عنها وأنكروها‏.‏ وبذلك كانوا هم الخاسرين‏.‏

والله سبحانه وتعالى يريد بنا اليسر لا العسر، وقد أنزل هذا القرآن ليربي الرسول على هَديه وينشئ مجتمعا متكاملا، فمن الأدب مع الله والرسول ان يترك الناس لحكمة اللهة تعالى تفصيل تلك الشريعة وإجمالها‏.‏

وفي الحديث الصحيح عن ابي ثعلبة الخشني قال، قال رسول الله عليه السلام‏:‏ «ان الله فرض فرضا فلا تضيّعوها، وحدَّ فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن اشياءَ رحمةً بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» رواه الدارقطني وغيره‏.‏

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ذَرُوني ما تركتُكم، فإذا أمرتُكم بشئ فأتُوا منه ما استطعتُم، وإذا نهيتكم عن شيء فدَعُوه، فانما أُهلِكَ مَن كان قبلَكم بكثرة سؤالهم واختلافِهم على أنبيائهم»‏.‏

وذكر عن الزهري قال‏:‏ «بلغنا ان زيد بن ثابت الانصاري وهو من علماء الصحابة الكرام كان يقول اذا سئل عن الأمر‏:‏ أكان هذا‏؟‏ فإن قالوا‏:‏ نعم قد كان، حدّث فيه بالذي يعلم، وان قالوا‏:‏ لم يكن، قال‏:‏ ذروه حتى يكون»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

البحيرة‏:‏ الناقة اذا انتجت خمسة أبطن آخرُها ذكَر، شقّوا أُذنها وخلّوا سبيلها فلا تُركب ولا تُحمّل‏.‏ السائبة‏:‏ كان الرجل يقول اذا شُفيت من مرضي فناقتي سائبة، ويجعلها مثل البحيرة‏.‏ الوصيلة‏:‏ اذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم، واذا ولدت ذكرا فهو لآلهتهم، واذا ولدت توءماً ذكرا وأنثى قالوا‏:‏ وصلتْ أخاها فلا يُذبح الذكر‏.‏ الحامي‏:‏ كان من عادتهم إذا تَنُج من صلب الفحل عشرة أبطن حرّموا ظهره، ولم يمنعوه من ماءٍ ولا مرعى وقالوا حَمى ظَهْرَه‏.‏

بعد ان نهى الله تعالى في الآية السابقة عن السؤال عما لا لزوم له من الأمور، ناسَابَ ان يبيَن هنا ضلال أهل الجاهلية وخرافاتهم فيما حرموه على انفسهم، فقال‏:‏ ‏{‏مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ‏}‏ بالمعنى المشروح أعلاه‏.‏ فهذه الامور كلها من بدع الجاهلية، ‏{‏ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب‏}‏، أي يضعون من عندهم تقاليد وعادات، ينسبونها الى الله كذبا وزوراً‏.‏

قال ابن الكَلْبي في كتاب «الأصنام»‏:‏ «كان أو من غيّر دين اسماعيل عليه السلام، فنصب الأوثان وسيّب السائبة، ووصَل الوصيلة، وبحرَ البحيرة، وحمى الحامي، عمرو بن لِحْي الخُزاعي‏.‏ فقد مرض مرضاً شديدا فقيل له إن بالبلقاء من الشام حَمّةً إنْ أتيتهَا بَرِئتَ‏.‏ فأتاها، فاستحمّ بها فبرئ‏.‏ ووجد أهلَها يعبُدون الأصنام، فقال‏:‏ ما هذه‏؟‏ فقالوا نستقي بها المطر ونستنصر بها على العدو‏.‏ فسألهم ان يعطوه منها، ففعلوا، فقدم بها مكّة ونصَبَها حول الكعبة‏.‏

وقد روى ابن جرير عن ابي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخُزاعي‏:‏» يا اكثر، رأيت عمرو بن لِحْي يجر قُصْبَهُ يعني أمعاءه في النار، فما رأيتُ من رجلٍ أشبه برجُل منك به، ولا به منك‏.‏ فقال أكثم‏:‏ أيضرني شَبَهُه يا نبي الله‏.‏ قال‏:‏ لا، لأنك مؤمن وهو كافر، وإنه أول من غيّر دينَ اسماعيل، ونصب الأوثان وسيّب السوائب، فيهم «أي في اهل الجاهلية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

حسبُنا‏:‏ كفانا‏.‏

واذا قيل لهؤلاء الجاحدين‏:‏ تعالوا الى ما انزل الله من القرآن، وما بيّنه الرسول من الشريعة لنهتدي به قالوا‏:‏ لا نبغي زيادة، بل يكفينا ما وجدْنا عليه آباءَنا، فهم لنا أئمة وقادَة‏.‏ بذلك يصرّون على التقليد الأعمى حتى لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الشرائع، ولا يهتدون سبيلا الى الصواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

عليكم أنفسكم‏:‏ احفظوها، والزموا اصلاحها‏.‏

بعد ان نَعَى الله تعالى على المشركين ما هم عليه من جهل وعناد في اتباع القديم المتوارَث رغم عماه، دون إخضاعه لنقد ولا تمحيص أمر المؤمنين أن يهتموا بإصلاح أنفسِهم، فاذا أصلحوها وقاموا بما أوجب الله عليم، لن يضرّهم بعد ذلك ضلالُ غيرهم‏.‏

روى ابن جرير عن قيس بن ابي حازم قال‏:‏ سمعت أبا بكر يقول وهو يخطب الناس‏:‏ يا أيها الناس، إنكم تقرأون ‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ولا تدرون ما هي‏.‏ وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إن الناس إذا رأوا منكَرا فلم يُغَيِّروه عَمَّهُم بِعقاب»‏.‏

ومعنى أن الأمة يجب أن تتخلَّى عن واجباتها في دعوة الناس الى الهدى، ولا في كفاح الشر، ومقاومة الضلال، فإذا ضل أناسٌ من غير ديننا، ولم يستجيبوا لهدايتنا، فلا يضرُّونا ذلك‏.‏ أما اذا قصّرنا في الدعوة، فقد يعمُّنا العقاب‏.‏

اعلما أيها المؤمنون بما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه، ومروا من حاد عن سبيلي، بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، فإن اليّ مرجعكم، وأَنَا العالِم بما تعملون من خير وشر، وفأُخبركم يوم الحساب بكل ذلك ثم أجازي كل فرد على ما قدّم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 108‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ ‏(‏106‏)‏ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏107‏)‏ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

الشهادة‏:‏ قول صادر عن علم حصل بالمشاهدة‏.‏ ضربتم في الارض‏:‏ سافرتم‏.‏ تحبسونهما‏:‏ تمسكونهما وتمنعونهما من الهروب‏.‏ ارتبتم‏:‏ شككتم في صدقهما فيما يُقِرَّانِ به‏.‏

يرشدنا الله تعالى هنا الى اداء الشهادة بحقها، بالوصية، حتى لا يضيع حق من الحقوق على أصحابها، فيقول‏:‏

يا أيها الذين آمنوا‏:‏ حينما تظهر على احد منكم علامة الموت، ويريد ان يوصي بشيء، فالشهادة بينكم على الوصية‏:‏ أن يشهد اثنان عادلان من اقاربكم، أو آخران من غيركم اذا كنتم في سفر‏.‏ وعليكم ان تجمعوا هذين الشاهدين بعد أداء الصلاة التي يجتمع عليها الناس، فيحلفان بالله قائلين‏:‏ لا نستبدل باليمين عِوضاً ولو كان فيه نفع لنا او لأحد من أقاربنا، ولا نخفي الشهادة التي أمرنا الله بأدائها‏.‏‏.‏ فاذا أخفينا الشهادة أو قلنا باطلاً حقَّ علينا عذابُ الله لأننا ظالمان‏.‏

فان ظهر فيما بعد ان الشاهدين قد كذبا في شهادتهما او اخفيا شيئا، فإن اثنين من اقرب المستحقين لتركة الميت، هما أحقُّ أن يقفا مكان الشاهدَين بعد الصلاة، ليحلفا بالله أن الشاهَدين قد كذبا، وأن ذينك الرجلين لم يتّهما الشاهدين زورا وبهتاناً، ولو فعلا فإنهما يكونان من الظالمين المستحقين عقاب من يظلم غيره‏.‏

ان هذا التشريع اقرب ا طلرب الى ضمان أن يؤدي الشهود شهاداتهم صحيحة، وذلك محافظة على حلفهم بالله، وخوفا من فضيحتهم بظهور كذبهم، حين يحلف الورثة لردِّ أيمانهم‏.‏ راقبوا الله أيها المؤمنون في ايمانكم وأماناتكم، واطيعوا احكامه راضين بها، فان فيها مصالحكم، ولا تخافلوها فتكونوا من الخارجين على الله، والمطرودين من هدايته، المستحقين لعاقبه‏.‏

روى القرطبي في تفسيره قال‏:‏ كان تميم الداري وعديّ بن بَداء رجُلين نصرايّين يتّجران الى مكة في الجاهلية، فلما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم حوّلا تجارتهما الى المدينة‏.‏ فخرج بُدليل مولى عمرو بن العاص تاجراً حتى قدم المدينة، فخرجوا تجاراً الى الشام‏.‏ حتى اذا كانوا ببعض الطريق استكى بُديل، فكتب وصية بيده ثم دسها في متاعه وأوصى اليهما‏.‏ فلما مات فتحا متاعه، فأخذا منه جاماً من فضة عليه خيوط من ذهب، وقدِما على أهله فدفعا اليهم متاعه‏.‏ ففتح اهله متاعه فوجدوا كتابه وعهده‏.‏ وفقدوا الجام فسألوهما عنه فقالوا‏:‏ هذا الذي قبضنا منه، فقالوا‏:‏ هذا كتابه بيده‏.‏ قالوا‏:‏ ما كتمنا له شيئا‏.‏ فترافعوا الى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية‏.‏ فأمر رسول الله ان يستحلفوهما في دُبُر صلاة العصر‏.‏ فحلفا، ثم بعد ذلك ظهر الجام معهما، فاقل اهل بُديل‏:‏ هذا من متاعه، قالا‏:‏ نعم، لكنّنا اشتريناه منه ونسينا ان نذكره حين حلفْنا فكرهْنا ان نكذّب نفوسنا‏.‏ فترافعوةا الى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية ‏{‏فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً‏}‏ فأمر النبي رجلَين من أهل الميت ان يحلفنا على ما كتما وغيّبا ويستحقانه‏.‏

قال تميم الداري‏:‏ فلما أسملتُ، تأثّمت من ذلك، فأتيت اهل بُديل وأخبرتهم الخبر، وأديتُ اليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم ان عند صاحبي مثلها‏.‏ فأتوا به الى رسول الله، فسألهم النبيّنةَ، فلم يجدوا‏.‏ فأمرَرَهم ان يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه‏.‏ فحلَف، فأنزل الله عز وجلّ ‏{‏يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات فقام عمرو بن العاص ورجلٌ آخر مهم فحلّفا، فنُزعت خمسمائةُ درهمٍ من يد عدي بن بداء‏.‏

وكان تميم يقول‏:‏ صدق الله ورسوله، أنا اخذت الإناء‏.‏ ثم قال‏:‏ يا رسول الله، ان الله يُظهرك على أهل الأرض كلِّها فهَبْ لي قريةَ عَيْنون من بيت لحم‏.‏ وهي القرية التي وُلد فيها عيسى، فكتب له بها كتاباً، فلمّا قدِم عمرَ الشامَ ِأتاه تميم بكتاب رسول الله‏.‏ فقال عمر‏:‏ أنا حاضِرٌ ذلك، فدفعها إليه‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حفص والكسائي «استحق» بفتح التاء الحاء، الباقون «استحق» بضم التاء وكسر الحاء، وقرأ حمزة وأبو بكر «الأوّلين» بفتح الواو المشدَّدة وفتح النون، والباقون «الأوليان» بالتثنية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏109‏)‏‏}‏

وتذكَّروا يوم القيامة حين يجمع الله أمامه كلَّ الرسُل ويسألهم قائلا لهم‏:‏ ماذا أجابتكم أُممكُم الّذين أرسلتُكم إليهم‏؟‏ والناسُ في ذلك اليوم من كل الأمم واقفون بين يدي الله يسمعون، لتقوم عليهم الحجّة بشهادة رسلهم، اذا يقولون لا نعمل ما كان بعدَنا من أمر الأمم الذين بلّغناهم رسالتك، أنت وحدك علاّم الغيوب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 111‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏110‏)‏ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

روح القدس‏:‏ هو جبريل ملَك الوحي‏.‏ الكتاب‏:‏ كل ما يُكتب‏.‏ الحمة‏:‏ العلم الصحيح الذي يبعث الإنسانَ على العمل النافع مع معرفة الأسرار ما يعمل‏.‏ الاكمه‏:‏ الذي وُلد أعمى‏.‏ البرص‏:‏ داء بشكل بياضٍ يظهر على الجلد‏.‏ السِّحر‏:‏ تمويه وتخييل يرى الانسان به الشيء على غير حقيقته‏.‏ الحواريون‏:‏ انصار سيدنا عيسى‏.‏ الوحي‏:‏ الإشارة الخفيّة السريعة، والإلهام، ‏{‏وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى‏}‏، ‏{‏وأوحى رَبُّكَ إلى النحل‏}‏‏.‏

بعد أن وجّه السؤال الى جميع الرسل، واعلنوا ان العلم الحقيقي لله وحده، ‏{‏قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب‏}‏ يتلفت الخطاب الى عيسى ابن مريم ويذكّره بنعمة الله عليه وعلى والدته، وبالمعجزات التي أيّده بها، فيناديه من بين الرسل، ويقول له‏:‏ اذكر ما أنعمتُ به عليك وعلى أمك في الدنيا، حينما ثبتُّك بالوحي، وأنطقتُك في المهد بما يبرّئ أمَّك مما اتُّهمتْ به، كما انطقتك وانت كبير بما قد أوحيتُ اليك‏.‏ لقد علّمتُك الكتابة، وآتَيْتُك الحكمة وعلّمتُك توراة موسى، والإنجيلَ الذي انزلته عليك‏.‏ كما أيّدتُك بمعجزات تخرج عن طوق البشر، فصرتَ تتخذ من الطين صورةَ الطير، فتنفخ فتصبح طائراً حياً بقدرة الله لا بقُدرتِك‏.‏ كذلك تشفي من وُلِد أعمى، وتبرئ الأبرصَ من برصه بإذن الله‏.‏ كذلك تمّ لك إحياء الموتى بقدرته تعالى‏.‏

ففي انجيل يوحنا ان عازر مات في بيت عنيا ووُضع في مغارة، فجاء المسيح وكان للميت أربعة أيام‏.‏ فرفع المسيح عينيه الى فوق وقال‏:‏ «أيها الأب، أشكرك لانك سمعت لي، وانا علمت انك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا انك ارسلتَني» ولما قال هذا‏:‏ صرخ بصوت عظيم لعازر هلّم خارجاً، فخرج الميت الخ‏.‏‏.‏ وفي هذا النص يصرح المسيح أنه رسول وليس إلهاً، ويطلب من الله ان يعينه‏.‏ واذكر أيضاً يا عيسى‏.‏‏.‏ حينما منعتُ اليهود من قَتْلِك وصَلْبك عندما أتيتَهم بهذه المعجزات ليؤمنوا بالله، فأعرضَ فريق منهم، وادّعوا ان ما أظهرتَه من المعجزات ما هو الا من قبيل السحر والواضح‏.‏

قراءات

قرأ حمزة والكسائي «ساحر مبين»‏.‏ وقرأ الباقون «سحر مبين» كما هو هنا في المصحف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 115‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

المائدة‏:‏ خِوان الطعام، او الطعام نفسه‏.‏ العيد‏:‏ الفرح والسرور، او الموسم الديني الذي يجتمع الناس له في أيام معينة من السنة‏.‏ آية منك‏:‏ علامة‏.‏

لا يزال الكلام عن سيدنا عيسى وأُمه، وهذا عرضٌ لشيء من نعمة الله على قومه، ومن معجزاته التي أيّده الله بها وشهد بها الحواريون، وعدد كبير من قومه‏.‏

اذا قال الحواريون‏:‏ يا عيسى‏:‏ هل يجيبك ربك لو سألته أن يُنزل علينا مائدة من السماء‏؟‏ فأجابهم‏:‏ يا قوم، خافوا الله من أمثال هذا السؤال ان كنتم تؤمنون به، ولا تطلبوا حُججاً غير التي قدمتها لكم‏.‏

قالوا‏:‏ نريد أن نأكل من هذه المائدة‏.‏ عند ذلك تطمئن قلوبنا بما نؤمن به من قدرة الله، ونعلم بالمشاهدة الحيّة انك قد صَدَقتنا فيما أخبرتنا عنه، ونشهد لك بالمعجزة عند قومنا‏.‏

فاستجاب لهم عيسى وقال‏:‏ يا ربّنا ومالِكَ أمرِنا، أَنزلْ علينا مائدة من السماء يكون يوم نزولها عيداً للمؤمنين منا، ولتكون معجزة نؤيّد بها دعوتك، وارزُقنا رزقاً طيبا، وانت خير الرازقين‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ سأُنزل المائدة علكيم من السماء، فأيّ امرئ منكم يكفر بعد ذلك فسوف أعاقبه عقاباً لا أعاقِب بمثله احدا من الناس‏.‏‏.‏ فلقد كفر بعد ما شاهد دليل الإيمان الذي اقترحه‏.‏

وبين لنا هذا الحوار بين المسيح والحواريّين، ذلك الفرق الكبير بين الحواريّين وأصحابِ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ فلقد شاهد الحواريون كذلك من المعجزات التي اظهرها الله على يد رسولهم، ومع ذلك فهاهم يطلبون معجزة جديدة لتطمئن نفوسهم‏.‏ اما أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فإنهم لم يطلبوا أية معجزة بعد اسلامهم‏.‏‏.‏ لقد اطمأنت قلوبهم مذ خالطتها بشاشة الايمان، وصدّقوا رسولهم، ومضوا في سبيل الله يعملون في نشر الاسلام، ولم يطلبوا على ذلك دليلا‏.‏

ولقد تكلم المفسرون كثيراً في موضوع المائدة، هل نزلت فعلاً ام ورد ذلك لضرب المثل، كما تكلم بعضهم في ألوان طعامها، وأطلقوا لخيالهم العنان في كل ذلك‏.‏ ونحن لا نرى فائدة في ذكر كل ذلك، بل نضرب عنه صفحا، ولكنّنا نشير الى أنه قد ورد عن الحسن البصري، ومجاهد المفسّر الكبير وقَتادة أحد كبار المحدّثين انها لم تنزل‏.‏ وقالوا في تأويل قوله تعالى ‏{‏إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الى آخر الآية‏.‏ إن الحواريّين لمّا سمعوا هذا الوعيد قالوا‏:‏ إننا نستغفر الله ولا نريدها‏.‏

هذا وقد استدل بعض الكاتبين على عدم نزولها بأن قال‏:‏ إن النصارى لا يعرفونها وليس لها ذكر في كتبهم‏.‏ ونحن نقول‏:‏ إن كتب النصارى التي بين أيديهم كتب ناقصة، فليست هي كل ما جاء به عيسى‏.‏ اما الاناجيل الاربعة المتداولة فلا تعدو كونها تراجم سيرةٍ لحياة المسيح كتبها أُناس مجهولين بعد المسيح بمدة طويلة‏.‏

وقد كتبت هذه الاناجيل من الذاكرة، وهي ليست الا قصصاً منقّحاً للأناجيل التي بلغ عددها فوق الخمسين انجيلا‏.‏ وقد قرر مجمع نيقية المنعقد في سنة 325 ميلادية برئاسة الامبراطور قسطنطين البيزنطي اعتماد هذه الاناجيل الاربعة، وإعدام ما عداها‏.‏ فالأمر انتقائي وافق هوى نفس الحاكم‏.‏ ويعلّمنا التاريخ في مثل هذه الحال ان الحاكم لا ينتقي الا ما يتفق ومصلحته في السيطرة والحكم، دون النظر الى الصدق او غيره‏.‏

وقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة، ولا يلزم ان يكون كل ما قصّه الله تعالى في القرآن قد قصّه في غيره من الكتب المتقدمة، فليس الأمر تجميل طبعات الكتاب الواحد، كما لا يلزم ان يكون أصحاب الاناجيل المارون عدم ذكرهم لقصة المائدة دليلا على عدم ورودها‏.‏

يقول الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فيما يختص بنسبة القصص القرآني عامة الى كتب العهد القديم‏:‏ «وإذا ورد في كتب اهل المِلل او المؤرخين ما يخالف بعض هذه القصص، فعلينا ان نجزم بأن ما أوحاه الله الى نبيه ونُقل إلينا بالتواتر هو الحق، وخَبَره الصادق، وما خالفه هو الباطل، وناقله مخطئ او كاذب، فلا نعدّه شُبهة على القرآن، ولا نكلف انفسنا الجواب عنه‏.‏ فإن حال التاريخ قبل الإسلام كانت مشتبهة الأعلام، حالكه الظلام، فلا رواية يوثق بها في معرفة رجال سندِها‏.‏ وقد انتقل العالَم بعد نزول القرآن من حال الى حال، فكان بداية تاريخ جديد للبشر، كان يجب عليهم لو أنصفوا أن يؤرخوا به أجمعين»‏.‏

هذا ونحن نؤمن بما قصه القرآن الكريم من ان الحوارين قد سألوا عيسى ان يُنزل عليهم الله المائدة، فسأل عيسى ربه ذلك، واجاب الله سؤاله على كيفيةٍ اقنعتهم‏.‏

لا يفوتنا هنا ان نشير الى انه قد ورد في الاناجيل خبر يشبه خبر المائدة‏.‏ ففي إنجيل متّى، نهاية الاصحاح الخامس عشر‏:‏ «واما يسوع فدعا تلاميذه، وقال إني أُشفق على الجميع، لأن لهم الآن ثلاثة أيام يمشون معي، وليس لهم ما يأكلون، ولست اريد ان اصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق، فقال له تلاميذه‏:‏ من أين لنا في البرية خُبز بهذا المقدار حتى يُشبع جمعاً هذا عدده‏؟‏ فقال لهم يسوع‏:‏ كم عندكم من الخبرز‏؟‏ فقالوا‏:‏ سبعة وقليل من صغار السمك‏.‏ فأمرالجموع أن يتكئوا على الأرض، وأخذ السبع خبزات والسمك وشكَر وكسَر‏.‏ وأعطى تلاميذه‏.‏ والتلاميذ أعطوا الجمع‏.‏ فأكل الجمع وشبعوا‏.‏ ثم رفعوا ما فضُل من الكِسر سبع سلال مملوءة، والآكلون كانوا آربعة آلاف ما عدا النساء والأولاد»‏.‏ فإذا سلّمنا جَدَلاً، بصحة هذا الخبر وأمثاله مما ورد في الاناجيل التي كتبت بعد المسيح بأجيال، فان خبر المائدة أحق بالتسليم وأصوب‏.‏ ولماذا لا يكون هذا الخبر نفسه هو حديث المائدة، لكنّه جاء محرَّفاً لأنه كُتب من الذاكرة بعد سنين عديدة‏!‏‏!‏

قراءات

قرأ الكسائي «هل تستطيع ربك» وقرأ نافع وعاصم وابن عامر «إني منزلها» بالتشديد‏.‏ والباقون «منزلها»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 120‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏116‏)‏ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏117‏)‏ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏118‏)‏ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏119‏)‏ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏

كان الكلام قبل هذه الآيات في تعداد النعم التي أنعم الله بها على عيسى، وفي إلهامه للحواريين بالإيمان به وبرسوله، وفي طلب الحواريين من عيسى انزال المائدة من السماء، وبقية القصة، اما فيه هذه الآيات فنحن أمام أحد مشاهد يوم القيامة، ذلك اليوم العظيم الذي يُكشَف فيه كل شيء، على مرأى من الناس جميعا‏.‏ يومذاك يأتي جواب سيدنا عيسى الصريح بأنه بريء من كل افتروا عليه، وانه يفوّض الأمر لله العلي القدير‏.‏

أّذكر ايا النبي ما سيحدث يوم القيامة، حين يقول الله مخاطبا عيسى ابن مريم على رؤوس الأشهاد‏:‏ أأنتَ يا عيسى قلتَ للناس اجعلوني أنا وأمذ‏]‏ إلَهين، من دون الله‏؟‏ فيقول عيسى‏:‏ سبحانك‏.‏ إنني أنزّهك تنزيهاً تاماً عن أن يكون لك شريك، ولا يصح لي ان طلب طلبا ليس لي أدنى حق فيه‏.‏ ولو كنتُ يا ربّي قلتُ ذلك لعلمتَه سبحانك، فأنت تعلم خفايا نفسي، ولا أعلم ميط بكل شيء، أما أنا فلا أعلم شيئاً‏.‏

وبعد تنزيه ربه، وبرئة نفسه مما نُسب إليه، بيّن المسؤول حقيقةَ ما قاله لقومه وأن ذلك لم يتعدّ تبليغ الرسالة التي كُلِّف بها، وأنه أعلن عبوديته وعبوديتهم لله، ودعاهم الى عبادته‏.‏

‏{‏مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ‏}‏

ما قلتُ لهم إلا ما أمرتَني بتبليغه لهم‏.‏ قلتُ لهم‏:‏ اعبدوا الله وحده مالك َ أمري وأمركم، وانك ربي وربهم، وانني عبد من عبادك مثلهم‏.‏

‏{‏وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ‏}‏

كنت قائما عليهم أراقبُهم وأشهد على ما يقولون ويفعلون مدة وجودي بينهم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏

فلمّا انتهى أجل إقامتي الذي قدّرتَه لي بينهم، وقبضتني إليك، ظللتَ انت وحدك المطلع عليهم، لأني إما شهِدت من أعمالهم ما علوه وأنا بين أظهُرهم، فكل شيء غيّروه بعدي لا عِلم لي به، وأنت تشهَد

على ذلك كله‏.‏

وظاهر النصوص القرآنية يفيد أن الله تعالى توفّى عيسى ابنَ مريم ثم رفعه إليه، فيما تفيد بعض الآثار أنّه حيّ عند الله‏.‏ وليس هناك أي تعارض، فإن الله تعالى قد توفّاه من حياة الأرض، لكنّه حيٌّ عنده، مثل بقيّة الشهداء‏.‏‏.‏ فهم يموتون في الأرض وهم عند الله أحياء‏.‏ اما صورة حياتهم عند ربهم فشيء لا نعرف كيفَه‏.‏

وقد جاء في إنجيل يوحنا نص صريح بأن المسيح رسول‏:‏ «وهذه هِية الحياةُ الأدبية، ان يعرفوك انت الإلَه الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته»‏.‏ فالتبديل في العقيدة والتغيير، انما حدث بعد غياب المسيح‏.‏

وقد تكلم المفسّرون والعلماء في موضوع الرفع الذي نطرقه واطالوا في ذلك، وقد بحث أستاذنا المرحوم الشيخ محمود شلتوت هذا الموضوع مستفيضا في فتاواه، وخلاصه ما قال‏:‏ «والمعنى ان الله توفىعيسى ورفعه اليه وطهره من الذين كفروا‏.‏

وقد فسّر الألوسي قوله تعالى ‏{‏إِنِّي مُتَوَفِّيكَ‏}‏ بمعنى‏:‏ إني مُسْتوفٍ أجَلَك ومميتُك حتفَ أنفك لا اسلِّط عليك من يقتُلُك، وهو كنايةٌ عن عصتمه من الأعداء وما كانوا بصدَدِه من الفتك به عليه السلام‏.‏

وظاهرٌ ان الرفع الذي يكون بعد استيفاء الأجَل هو رفْع المكانةٍ لا رفع الجسد، خصوصاً وقد جاء بجانبه قولُه‏:‏ ‏{‏وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ مما يدل على أن الأمر أمرُ تشريفٍ وتكريم‏.‏

وقد جاء الرفع في القرآن كثير بهذا المعنى، ‏{‏فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ‏}‏، ‏{‏نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ‏}‏، ‏{‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏، ‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً‏}‏، ‏{‏يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ‏}‏‏.‏ الى ان يقول وبعد، فما عيسى إلا رسولٌ قد خلَتْ من قبلِه الرسل، ناصَبَه قومُه العداء، وظهرت على وجوههم بوادرُ الشر النسبة إليه، فالتجأ إلى الله، فأنقذه الله بعزته وحمته وخيّب ممكر أعدائه‏.‏ هذا هو ما تضمنته الآيات ‏{‏فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله‏}‏ إلى آخرها، بين الله فيه قوة مَكره بالنسبة الى مكرهم، وأن مكرهم في اغتيال عيسى قد ضاع اذ قال‏:‏ ‏{‏ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ‏}‏، فهو يبشِّرُه بإنجائه من مكرِهم وردِّ كيدهم في نحورهم، وانه سَيَتْوفي أجَله حتى يموت من غير قتل ولا صلب، ثم يرفعه الله إليه‏.‏ الخ «‏.‏

ثم ينتهي عيسى ابن مريم إلى التفويض المطلق في أمرهم إلى الله تعالى وحده‏:‏

‏{‏إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم‏}‏‏.‏

ان تعذِّبهم بما فعلوا من تبديل وتغيير فإنهم عِبادُك، وتتصرف فيهم كما تريد، وإن تعفُ عنهم فإنك وحدك مالكُ أمرِهم، والقاهر الذي لا يُغلَب‏.‏ ومهما تدفعه من عذاب فلا دافع له من دونك، ومهما تمنحهم من مغفرة فلا يستطيع أحد حرمانهم منها بحَوْلِك وقوّتك، لأنك أنت العزيز الذي لا يُغلب، والحكيم الذي يضع كل شيء موضعه‏.‏

ثم يعقّب على كل هذا المشهد بقوله تعالى‏:‏

‏{‏قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ‏}‏

أي أن هذا اليوم هو يومُ القيامة، اليوم الّذي ينفع فيه الصادقين صدقُهم في إيمانهم، وفي سائر أقوالهم وأحوالهم‏.‏

فهؤلاء الصادقون أعَدّ الله لهم جناتٍ يعجز عنها الوصف تجري من تحت أشجارها الأنهار، ثواباً من عند الله‏.‏ وهم مقيمون فيها لا يخرجون منها ابدا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع» هذا يوم «النصب، والباقون» هذا يوم «بالرفع‏.‏

وبعد أن بيّن ما أعدّ لأهل الصدق عنده من الجزاء الحق في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ختم هذه السورة المباركة بختام عظيم بيّن فيه تعالى أنه وحده له ملكُ السماوات والأرض وما فيهن، فهو وحده المستحق للعبادة‏.‏

‏{‏للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

أي ان الملك كله والقدرة كلها لله وحده فلا يجوز لانسان ان يتوجه الا اليه‏.‏

وقد روى الامام أحمد والنّسائي والحاكم والبيهقي عن جُبير بن نفير الحضرمي الشامي، ‏(‏أحد المخضرمين، أسلم في زمن أبي بكر‏)‏ قال‏:‏ حججتْ فدخلت على عائشة، فقالت‏:‏ يا جبير، تقرأ المائدة‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ فقالت‏:‏ أما إنها اخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه، وما وجدتم من حرام فحرموه‏.‏

والحقيقة ان سورة المائدة من اعظم السور في القرآن الكريم لما اشتملت عليه من احكام وارشادات وبيان للحقائق بعد ان استتب الأمر للمسلمين‏.‏ وفيها ما يريد الى الوقت الذي نزلت فيه، والحالة الّتي صار إليها المسلمون في ذلك الوقت‏.‏ فقد جاء فيها بعد ان فصّل الله المحرّمات قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً‏}‏ تُقَرِّر أن المشركين الذين كانوا يعملون دائما على قهر المسلمين واذلالهم وتشتيتهم وتفريق كلمتهم وفتنتهم عن دينهم صاروا من كل ذلك في عجز وضعف، واستولى عليهم اليأس في الوصول الى أغراضهم‏.‏

وعليه فجيب على المسلمين وقد عَصَمهم الله من اعدائهم، وبدّل بضفهم قوة، وبخوفهم أمنا، ان يشكروا الله رب هذه النعمة، وان لا يكترثوا في اقامة دينه وتنفيذ احكامه بأحد سواه‏.‏ فلقد يئس المشركون بإكمال الدين‏.‏ وإكمالُ الدين يتناول إكمالَه بالبيان والتشريع، وبالقوة والتركيز‏.‏

وقد روي أن رجلاً من اليهود جاء الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال‏:‏ ان في كتابكم آية تقرؤونها لو أنها أُنزلت علينا معشر اليهود لاتخذْنا اليوم الذي أُنزلت فيه عيدا‏.‏ قال عمر‏:‏ وأية آية‏؟‏ قال ‏{‏اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً‏}‏‏.‏ فقال عمر‏:‏ إنّي والله لأعلم اليوم الذي أُنزلت فيه والساعة التي نزلت فيها‏.‏ نزلت على رسول الله عشيّيةعَرَفة في يوم جمعة، والحمدُ لله الذي جعله لنا عيدا‏.‏

وفي هذه السورة المباركة ظواهر تنفرد بها لا نكاد نجد شيئا منها في غيرها من السور المدنية حتى في أطول سوَر القرآن وهي سورة البقرة‏.‏ ولذلك نرى ان كل ما يدور الحديث عنه في سورة المائدة يتعلق بأمرين بارزين‏:‏ تشريع للمسلمين في خاصة أنفسهم وفي معاملة من يخالطون، وارشاداتٍ لطُرق المحاجّة في المزاعم التي كان يثيرها أهل الكتاب‏.‏

وفي سياق هذه المحاجَة تعرض السورة لكثير من مواقف الماضين من اسلاف أهل الكتاب مع انبيائهم، تسليةَ للنبي من جهة، وتنديداً بهم عن طريق أسلافهم من جهة اخرى‏.‏

وقد اشتملت على عدة نداءات الَهية للمؤمنين، يُعتبر كل واحد منها قانوناً لشأن من الشئون، فنادى الله تعالى عباده المؤمنين بما شرع لهم من احكام، وأرشد اليه من اخلاق في مواضع لم نر عددها في أطول سورة وهي البقرة، نذكرها بالترتيب‏:‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود‏.‏‏.‏‏.‏

‏.‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بالقسط‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ والكفار أَوْلِيَآءَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

‏{‏يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

هذه ستة عشرة نداءً وُجّهت الى المؤمنين خاصة، يعتبر كل نداء منها قانوناً ينظم ناحية من نواحي الحياة عند المسلمين بأنفسهم، وفيما يختص بعلاقتهم بأهل الكتاب‏.‏

وفيها كذلك نداءات من الله لرسوله، وليس هناك نداء له عليه الصلاة والسلام بهذا الوصف في غير هذه السورة‏:‏ وهما قوله تعالى‏:‏

‏{‏ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ‏}‏،

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس‏}‏‏.‏

وقد وجهت نداءين الى أهل الكتاب‏:‏ وهما قوله تعالى‏:‏

‏{‏يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب‏}‏، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل‏}‏‏.‏

وأمرت الرسول الكريم ثلاث مرات ان يوجه اليهم النداء في موضوعات ثلاثة في شأن ما يثيرون به الخلاف بينه وبينهم‏.‏

‏{‏قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ ياأهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل‏}‏‏.‏

هذه جملة النداءات التي وجهت الى الرسول صلى الله عليه وسلم، والى المسلمين، والى اهل الكتاب، أو أُمر النبي بتوجيهها اليهم في هذه السورة، وقد مرت كلها في اثناء الكلام عليها باخصار، ومن اراد زيادة تفصيل فليرجع الى ما كتبه في التفسير استاذنا المرحوم الشيخ شلتوت‏.‏

نسأل الله تعالى ان يجعلنا ممن توجهت قلوبهم اليه، ولم يعتمدوا في قبولهم ونجاتهم الا عليه، وان يجعل ثمرة ايماننا زكاة نفوسنا، وثبات قلوبنا، وصلاح اعمالنا، وفكاك اسارنا‏.‏

‏{‏يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏‏.‏ والحمد الله رب العالمين‏.‏