فصل: تفسير الآيات رقم (103- 112)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 112‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏103‏)‏ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏105‏)‏ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏106‏)‏ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ‏(‏107‏)‏ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏108‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏109‏)‏ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ‏(‏110‏)‏ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏111‏)‏ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏112‏)‏‏}‏

موسى‏:‏ نبي الله ورسوله إلى بني اسرائيل‏.‏ فرعون‏:‏ لقب لملوك مصر القدماء، والفرعون الذي تربى موسى في قصره هو رعمسيس الثاني، اما الذي حصل في زنمه الخروج فهو منفتاح بن رعمسيس، وجثته موجودة بالمتحف المصري، وقد كتب بجانب هيكله هذه الآية الكريمة ‏{‏فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً‏}‏‏.‏

الملأ‏:‏ اشراف القوم ظلموا بها‏:‏ جحدوا وكفروا حقيق‏:‏ جدير وخليق به‏.‏ نزع يده‏:‏ اخراجها لهم‏.‏ فماذا تأمرون‏:‏ فماذا تشيرون في امره أرجِه‏:‏ أرجئه أي أخِّره في المدائين‏:‏ في مدائنك وبلادك‏.‏ حاشرين‏:‏ جامعين للحسرة‏.‏ ساحر عليم‏:‏ علام بفنون السحر ماهر فيها‏.‏

هذه قصة سيدنا موسى، وقد ذُكرت بتطويلٍ وتفصيل في اثنتين وخمسين آية‏.‏ وقد جاء ذِكر موسى في نحو اثنتين وعشرين سورةً بين مختصَر ومطوّلة، وذكر اسمه اكثر من مائة وثلاثين مرة‏.‏ وسرُّ هذا التكرار ان قصص موسى شبيه بقصص النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت شريعتُه دِينيةً ودينوية، ولقيب من أُمته عَنَتاً كبيرا‏.‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى‏}‏‏.‏

ثم بعثنا من بعد أولئك الرسلِ موسى بالمعجزات الّتي تدلّ على صِدقه فيما كلفناه تبليغه الى فرعون وقومه فبلّغهم موسى الدعوة، وأراهم آية الله لكنهم ظلموا انفهسم وقومهم بالكفر، فاستحقّوا من الله عقوبة صارمة كانت فيها نهاية امرهم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابو بكر وأبو عمرو ويعقوب‏:‏ «أرجئْهُ» وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ «بكل سحَّار»‏.‏

وقال موسى‏:‏ يا فِرعون، إن مرسَلٌ من الله ربّ العالمين، لأبلِّغَكم دعوتَه، وأدعوكم الى شريعته وأنا حريص على قول الصدق، فاستمعوا اليّ‏.‏

ثم بيّن ان الله أيّده بآيات تدل على صدقه في دعواه فقال‏:‏

‏{‏قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ‏}‏‏.‏

ها أنا قد جئتكم بآيةٍ عظيمة الشأن، ظاهرةِ الحجّة، في بيان الحق الذي جئت به، فاترك بني إسرائيل لأُخرجَهم من العبوديّة في ديارك الى دارٍ غيرها يعبدون فيها ربهم بِحرّيَّةٍ‏.‏

قال فرعون لموسى‏:‏ ان كنت جئتَ مؤيَّداً بآية من عند من أرسلكَ فأَظهِرها لديَّ إن كنتَ صادقا‏.‏

فوقف موسى وألقى عصاه التي كانت بيده اليمنى أمام فرعون وقومه، فاذا العصا حيّة تسعى من مكانٍ الى مكان، لم تخفَ على أحد‏.‏

واخرج يدَه من جيبه فإذا هي بيضاء ناصعةُ البياض تتلألأ للناظرن مع ان موسى أسمرُ البشرة‏.‏

فلما أظهر موسى آية الله تعالى، ثارت نفوسُ بطانةِ فرعون وعظماءِ قومه وقالوا‏:‏ «إن هذا لَساحرٌ عليم» ماهرٌ في فنون السِحر، وليس ذلك بآيةٍ من الله‏.‏ انظروا، لقد وجّه إرادته لسلب مُلككم، وإخراجكم من أرضكم بسِحره‏.‏ فكِّروا يا قوم فيما يكون سبيلاً للتخلص منه‏.‏

وحين استشارهم فرعون بقوله‏:‏ فماذا تأمرون‏؟‏ أجابوه‏:‏ أَخّرِ الفصل في موسى وأخيه هارون الذين يعاونه في دعوته، وأرسلْ في مدائن ملكك رجالاً من جُندك يجمعون لك عظماء السَّحَرة من كل البلاد‏.‏

والسِّحر أعمالٌ غريبة وحِيَلٌ تخفَى حيقتُها على جماهير الناس، لخفاءِ أسبابها ومهارةِ من يزاولها من السّحَرة‏.‏ وقد كان السحر فناً منا لنفون العالية التي يتعلمها قدماء المصريين في معاهد خاصة لهم‏.‏ وكان شائعا في لك العصر ولا يزال السحر، او خفة الحركمة موجودا الى الآن، وفي امريكا وأوروبا عدد كبير من السحرة والمشعوِذين‏.‏ اما في البلاد الجاهلة المتأخرة، وبين القبائل الهمجيّة فله شأن عظيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 122‏]‏

‏{‏وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ‏(‏115‏)‏ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ‏(‏116‏)‏ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ‏(‏117‏)‏ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏118‏)‏ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ‏(‏119‏)‏ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ‏(‏120‏)‏ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏121‏)‏ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

لقف الشيء‏:‏ تناوله بحذق وسرعة‏.‏ يأفكون‏:‏ يصرفون الناس عن الحق وأُلقي السحَرة ساجدين‏:‏ خرّوا ساجدين‏.‏

ولما جاء السحَرة من جميع المدائن، واجتمع الناس ليروا ذلك المشهد الكبير، قال السحَرةُ لفرعون‏:‏ إننا نريد مكافأةً عيظمة اذا غلبنا موسى وأخاه، فقال فرعون مجيباً لهم‏:‏ نعم، ان لكن أجراً عظيماً على ما تقومون به، وأنتم أولا وأخيراً من أهل الحظوة لدى العرش‏.‏

ثم توجه السحرة الى موسى، بعد ان وعدهم فرعون ومنّاهم، واظهروا الثقة بأنفسهم واعتدادَهم بسحرهم، فقالوا‏:‏ يا موسى‏:‏ اما ان تلقي ما عند اولاً، وإما أن نبدأ نحن‏.‏

فاجابهم موسى اجابة الواثق بالغلبة والنصر، «أَلقوا» فلما ألقى كل واحد من السحرة ما كان معه من حبال وعصي، سحروا بها أعينَ الناس المشاهدين ومَوَّهوا عليهم ان مافعلوه هو حقيقة‏.‏

‏{‏واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏

فهالَ الأمر الحاضرين وأوقع في قلوبهم الرهبة والرعب‏.‏ وبخاصة حين جعلت حبالهم وعصُّيهم التي ألقوها تسير وتتحرك كأنها حقيقة‏.‏

عند ذلك أصدر الله امره الى موسى بقوله‏:‏ ‏{‏أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ‏}‏ فالقاها موسى، فاذا تلك العصا تبتلع ما لفّقه السحرة من التمويه‏.‏

وهكذا، فان الباطل يكبُر ويتزايد، ويسترهب القلوب ويُخَيَّل الى الكثيرين أنه غالب، وما إن يواجه الحق حتى يبطُل وينكشف زيفهُ‏.‏

‏{‏فَوَقَعَ الحق‏}‏ وعندئدٍ ثبت الحق وذهب ما عداه، ‏{‏وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون‏}‏ ومن ثَم ذلّ السحرة وصغُروا بعد الزهو الذي استشعروه قبل قليل‏.‏ كما هُزم فرعون وملؤه في ذلك المجمع العظيم‏.‏

‏{‏وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ‏}‏‏.‏

أما السحرة فقد بهرهم الحقُّ لما عاينوا قدرة الله فخرُّوا ساجدين لربهم مذعِنين للحق‏.‏

وقالوا‏:‏ آمنا برب العالمين، ورب موسى وهارون، فانه الإله المعبود لا اله الا هو‏.‏ لقد صدقنا بما جاءنا به موسى، وزالت من نفوسهم عظمة فرعون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 126‏]‏

‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏123‏)‏ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏124‏)‏ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ‏(‏125‏)‏ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ‏(‏126‏)‏‏}‏

المكر‏:‏ صرف الغير عما يقصده بحيلة‏.‏ التقطيع من خلاف‏:‏ ان تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والعكس بالعكس‏.‏ الصلب‏:‏ وضع الانسان على خشبة وتعليقه مدة من الزمن نقمت الشيء‏:‏ انكرته أفرغ علينا صبرا‏:‏ أفِض علينا صبرا يغمرنا، كأن الصبر في دلو من الماء يفرغ عليهم، وهو مجاز‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حفص آمنتم على الإخبار، وقرأ حمزة والكسائي وابو بكر‏:‏ أأَمنتم‏.‏‏.‏‏.‏ بهمزتين، على الاستفهام، وقرأ الباقون أآمنتم بتحقيق الهمزة الأولى وتليين الثانية‏.‏

هال ذلك الامرُ فرعون، وأثار حميته فقال للسحرة‏:‏ هل آمنتم وصدقتم برب موسى وهارون قبل أن آذن لكم‏؟‏ ان ما فعلتموه انتم وموسى وهارون، ليس الا مكراً دبّرتموه في المدينة ‏(‏مصر‏)‏ كي تُخرجوا منها أهلَها بخِدعكم وحيلكم لسوف ترون ما يحلّ بكم من العذاب، جزاء ذلك إنني أٌقسِم لأُنكّلنّ بكم أشد التنكيل‏:‏ لأقطعنّ ايديكم وارجلكم من خِلاف، اليد من جانب والرِجل من الآخر، ثم لأصلِبنّ كل واحد منكم وهو على هذه الحالة المشوّهة‏.‏‏.‏ لِتكونوا عبرة لمن تحدثه نفسه بالكيد لفرعون والخروج عن أمره‏.‏

سمع السحرةُ هذا التهديد والوعيد من ذلك الجبّار المتكبر، فرجعوا الى ربهم، وأبجابوا فرعون قائلين‏:‏ «إنّا إلي ربِّنا مُنقَلِبون»، أي أنهم لم يأبهوا لتهديداته‏.‏ ثم أضافوا‏:‏ هل تعاقبنا يا فرعون لأنّنا صدّقنا موسى، وأذعنّا لآيات ربنا‏!‏ انها واضحة دالّة على الحقّ، وقد جاءتنا، فهل تريدنا أن لا نعتبر بها‏!‏‏؟‏

ثم توجهوا الى الله ضارعين‏:‏ ‏{‏رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ‏}‏ يا ربّنا هبْ لنا صبراً واسعاً نقوى معه على احتمال الشدائد، وتوفّنا على الإسلام غير مفتونين بتهديد فرعون، ولا مطيعين له في قوله ولا فعله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏127- 129‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ‏(‏127‏)‏ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏128‏)‏ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ‏(‏129‏)‏‏}‏

أتذَرُ موسى‏:‏ اتتركه نستحْيِ‏:‏ نستبقي نساءهم أحياء‏.‏

بعد ان شاهد فرعون وقومه ما شاهدوا، من ظهور موسى وغلبتِه وايمان السحرة به، قال الاشراف الكبراء من القوم، يا فرعون الجبار، هل تترك موسى وقومه احرارا آمنين‏؟‏ إنَّ عاقبتهم إن ظلّوا في هذه الديار ان يفسدوا عليك قومك بادخالهم في دينهم، وعندئذ يظهر لأهل مصر عجزُك وعجز آلهتك‏.‏

قال فرعون مجيبا للملأ‏:‏ سنتقل أبناء قوم موسى كلّما تناسلوا، ونستبقى نساءهم أحياء، فهن يخدمننا‏.‏ بذلك لا يكون لهم قوة، ‏{‏وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ‏}‏ نقرهم بالغلبة والسلطان‏.‏ سنظل معهم كما كنا من قبل، فلا يقدرون على أذانا، ولا الافساد في أرضنا‏.‏

ولما رأى موسى أثر الخوف والجزع في نفوس قومه، شدّ من عزمهم وطمأنهم، فقال لهم‏:‏ أُطلبوا معونة الله وتأييدَه، واصبِروا ولا تجزعوا‏.‏ إن الأرض في قَبضة الله، يجلعها ميراثاً لمن يشاء من عباده، لا لفرعون‏.‏ والعاقبةُ الحسنة للّذين يقون الله، بالاعتصام به، والاستمساك بأحكامه‏.‏

لكن هذه الوصية وتلك النصائح لم يؤثّر لم تؤثّر في قلوبهم، ففزعوا من فرعون وقومه، ‏{‏قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا‏}‏ لقد نالَنا الأذى يا موسى، قبل مجيئك وبعده‏.‏

وكانوا قبل مجيء موسى مستضعَفين في يد فرعون، يرهقهم بالضرائب، ويتخدمهم في القيام بالاعمال الشاقة، ويقتل ابناءهم ويتسحيي نساءهم ثم جاء موسة، لكنه لم يستطع انقاذهم لذلك قالوا‏:‏ ‏{‏أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا‏}‏‏.‏

عندئذٍ فتح لهم موسى باب الأمل وقال لهم‏:‏

‏{‏قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ‏}‏‏.‏

إن رجائي من فضلِ الله ان يُهلك عدوّكم الذي ظلمكم وآذاكم، ويجعلَكم خلفاءَ في الأرض التي وعدكم إياها، ‏{‏فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

فيعلم سبحاه ما أنتم عاملون بعد هذا التمكين‏:‏ أتشكرون النعمةَ ام تكفرون‏؟‏ وتصلحون في الارض أم تفسدون‏؟‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 133‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏130‏)‏ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏131‏)‏ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏133‏)‏‏}‏

اخذنا آل فرعون‏:‏ عاقبناهم وجازيناهم‏.‏ آل فرعون‏:‏ قومه وخاصته واعوانه‏.‏ بالسنين‏:‏ بالجذب والقحط‏.‏ بالحسنة، المراد هنا‏:‏ الخصب والرخاء، وبالسيئة‏:‏ ما يسوؤهم من جدب او مصيبة يطيّروا‏:‏ يتشاءَموا، لأن العرب كانت تتوقع الخير والشر من حركة الطير، فاذا طار من جهة اليمين تيّمنت به ورجتْ الخير والبركة، واذا طار من الشِمال تشاءمت وتوقعت الشر، وسموا الشؤم طيرا وطائرا والتشاؤم تطيراً‏.‏ الطوفان‏:‏ كثرة المياه وطغيانها وتخريبها الارض والزرع‏.‏ القُمّل ‏(‏بضم القاف وفتح الميم المشددة‏)‏‏:‏ حشرة صغيرة تلصق بالحيوانات وتؤذيها‏.‏ وتطلب ايا على حشرة تقع في الزرع فتأكل السنبلة وهي غَضَّة‏.‏ والجراد معروف، وكذلك الضفادع الدم‏:‏ الرعافُ يصيب الناس‏.‏

ولقد عاقبنا فرعونَ وقومه بالجدب والقحط وضيق الميعشة، بنقص ثمرات الزروع والأشجار‏.‏‏.‏‏.‏ رجاءَ ان ينتبهوا الى ضعفهم وعجزِ ملكهم الجبار أمام قوة الله، فيتعّظوا ويرجعوا عن ظلمهم، ويستجيبوا لدعوة موسى عليه السلام‏.‏

ولكن فرعون واعوانه أخذهم الاغترار بقوّتهم وجبروتهم‏.‏ كانوا اذا جاءهم الخِصب والرخاء قالوا‏:‏ نحن المستحقون له لما لنا من الامتياز على الناس‏.‏ ان اصبهم ما يسوؤهم، كجدب او مصيبة في الابدان والرزاق، قالوا‏:‏ انما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه‏.‏ لقد غفلوا عن ظلمهم لقومِ موسى كما غفلوا عن فجورهم فيما بينهم‏.‏ ألا فلْغلموا ان ما نزل بهم كان من عند الله، وبسبب أعمالهم القبيحة، لا نحساً رافقهم لسوء طالع موسى ومن معه‏.‏ ولكن أكثرهم لا يعلمون حكمة الله في تصرفه مع خلقه‏.‏

ثم اخبر الله تعالى عن شدة تمرد فرعون وقومه وعتوِّهم، وإصراهم على الجحود فقال‏:‏

‏{‏وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

قالوا ذلك لموسى‏:‏ مهما جئتنا أيها الرجل بانواع الآيات التي تستدل بها على حقيقة دعوتك، كيما تصرفنا عما نحن عليه من ديننا، ومن استعباد قومك- فلن نصدّقك او نتّبع رسالتك التي تدّعيها‏.‏

فأنزل الله عليهم مزيدا من المصائب والنكبات، بالطوفان الذي يغشى اماكنهم وبالجراد الذي يأكل زروعهم، وبالقُمّل الذي يُهلك حيواناتهم وسنابل غلّتهم، وبالضفادع التي تنشر فتُنَغّص عليهم حياتهم، وبالدم الذي ينزف منهم ولا يتوقف نزيفه- أصابهم الله بهذه المصائب، فلم يتأثروا بها‏.‏ لقد قسَت قلوبهم، وفسد ضميرهم، فعتَوا عن الإيمان والرجوع الى الحق، وأصروا على الذنوب «وكانوا قوماً مجرِمين» موغِلين في الإجرام كما هو شأنهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏134- 136‏]‏

‏{‏وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏134‏)‏ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ‏(‏135‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

الرجز‏:‏ العذاب الذي يطرب هل الناس في شئونهم‏.‏ العهد‏:‏ النبوة والرسالة‏.‏ النكث‏:‏ نقض العهود والمواثيق‏.‏ اليمّ‏:‏ البحر‏.‏

بعد أن ذكر سبحانه الآيات الخمسة التي أرسلها على قوم فرعون، بيّن هنا ما كان من أثرها في نفوس المصريين جيمعا‏.‏ لقد طلبوا من موسى ان يرفع الله عنهم العذاب، فاذا هو فعلَ آمنوا به‏.‏ ثم تبيّن نقضُهم للعهد، وخُلفهم للوعد حتى حلّ بهم عذابُ الاستئصال بالغرق‏.‏

‏{‏وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ولما وقع ذلك العذابُ بهم اضطربوا وفزِعوا أشد الفزع وقالوا‏:‏ يا موسى، سل ربّك ان يكشف عنا هذا الرِجز، ونحن نقسِم أن نؤمن لك ونرسل معك بني اسرائيل كما أردت، إن كشفت عنا هذا العذاب‏.‏

فلما كشفنا عنهم العذاب، مرة بعد أخرى، اذا هم ينقُضون عهدهم، ويحنثون في قَسمهم، ويعودون الى ما كانوا عليه، ولم تُجدِ فيهم هذه المحن الزاجرة‏.‏

‏{‏فانتقمنا مِنْهُمْ‏}‏ فانزلنا عليهم نقمتنا، بأن اغرقناهم في البحر جزاء استمرارهم التكذيب بآياتنا، وتمام غفلتهم عما تقتضيه هذه الآيات من الايمان والاذعان‏.‏

والخلاصة‏:‏ لقد كانوا يُظهرون الايمان عند لكل آية من آيات العذاب ثم يكذّبو، حتى اذا انقضى الأجل المضروب لهم انتقمنا منهم بسب استمرارهم على الكذب‏.‏ وكانوا غافلين عما يعقب ذلك من العذاب في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏137‏]‏

‏{‏وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ‏(‏137‏)‏‏}‏

مشارق الارض ومغاربها‏:‏ جميع نواحيها، والمراد بالأرض بعض بلاد الشام تمت كلمة ربك‏:‏ مضت، وهي وعدُه اياهم بالنصر‏.‏ باركنا فيها‏:‏ بالخصب وسعة الرزق‏.‏ دمرنا‏:‏ خربنا وأهلكنا‏.‏ ما كانوا يعرِشون‏:‏ ينصبون العرائش من الجنّات، ويشيدون من الأبنية‏.‏

هذا آخر ما قصّة الله علينا وأخبرنا به من نبأ فرعون وقومه، وتكذيبهم بآيات الله‏.‏ ثم أبتعه بقصَص بني إسرائيل، وما عينوه من الآيات العظام مثل‏:‏ مجاوزتهم البحر، وما أحدثوه بعد إنقاذهم من ظلم فرعون مثل‏:‏ عبادتهم العجل، وطلبهم ان يروا الله جهرة، وغير ذلك من المعاصي، وذلك ليعلم حال الانسان وانه كما وصفه «ظلوم كفاّر» الا من عَصمه الله، «وقيلٌ من عباديّ الشَّكور»

وهذا كلّه ليسلّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أظهر بنو اسرائيل من العناد‏.‏ ومع كل ذلك فقد أعطيناهم الأرض التي حباها الله بالخِصب والخير الكثير، في مشارقها ومغاربها‏.‏ وقد نفذت كلمة الله الحسنى وتمّت أما وعد الله بالنصر شاملا لبني اسرائيل، فكان جزاء صبرهم على الشدائد‏.‏ وأما تدمير ما كان يصنع فرعون وقومه من الصروح والقصور المشيدة، وما يقيمون من عُرُوش للنبات والشجر المتسلق فهو جزاء ظلهمهم وكفرانهم بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏138- 141‏]‏

‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏138‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏139‏)‏ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏140‏)‏ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏141‏)‏‏}‏

جاوزنا‏:‏ عدّيناهم‏.‏ يعكفون‏:‏ يلازمان الأصنام ويعبودنها‏.‏ الاصنام، واحدها صنم‏:‏ ما يُصنع من الحجارة والخشب والمعدن من التماثيل للعبادة من دون الله‏.‏ وبعض العرب كان يصنع من التمر، فاذا جاع أكل الربّ الذي صنع متبر ما هو هم فيه‏:‏ مدمَّر، والتتبير التدمير والهلاك باطل‏:‏ زائل وهالك اغير الله ابغيكم ربا‏:‏ اطلب لكم ربا غيره‏.‏

وجاز بنو اسرائيل البحر، بعنايتنا وتأييدنا، فلما قطعوه مروا على قوم كانوا منكبّين على عباده أصنام لهم، فلما شاهدوا ذلك غلبَ عليهم ما ألِفوه قديماً من عبادة المصريين للأصنام، فطلبوا نم موسى ان يجعل لهم صنماً يعبدونه كما رأوا القوم يفعلون‏.‏ عندئذٍ سارع موسى الى توبيخهم قائلاً لهم‏:‏ حقاً انكم قوم سفهاء لا عقول لكم، لا تعرفون العبادة الصحيحة، ولا من هو الإله الذي يستحق ان يُعبد‏.‏

ان القوم الذيين ترونهم عاكفين على عبادة الاصنام قوم هالكون، وما يفعلون باطل وزائل، فهو من بابِ عبادة غيرِ الله‏.‏

ويْحَكُم يا بني اسرائيل‏!‏ أأطلبُ لكم، معبوداً غير الله رب العالمين وخالق السماوات والأرض‏!‏ أما منحَكم من فضله، لقد خصّكمن بنعمٍ لم يعطها غيركم من أهلِ زمانكم‏؟‏ ولقد فضّلكم على أهل عصركم هذا بأن هداكم الى وحدانيته‏!‏

اذكروا إذ أنجاكم بعنايته من آل فرعون وظلمهم‏.‏ وأنتم تعلمون انهم كانوا يذيقونكم، اشد العذاب، ويسخّرونكم لخدمتهم، ولا يرون لكم حرمة الا كما للبهائم‏.‏ كانوا يقتلون ما يولد لكم من الذكرو، ويسبقون الاناث لتزدادوا ضعفا بكثرتهن، وليجعلوهن خدماً لهم ويستمتعوا بهن‏.‏ ان فيما نزل بكم من تعذيب فرعون وانجائكم منه اختبار عظيم من ربكم ليس وراءه بلاء واختبار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 145‏]‏

‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏142‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏143‏)‏ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏145‏)‏‏}‏

الميقات‏:‏ الوقت المحدد‏.‏ اخلفني‏:‏ كن خليفتي‏.‏ تجلي‏:‏ ظهر نوره وعم الجبل‏.‏ جعله دكا‏:‏ مفتتا منهارا‏.‏ خر موسى‏:‏ وقع صعقا‏:‏ مغشيا عليه من هول ما رأى‏.‏ اصطفيتك‏:‏ اخترتك‏.‏ فخذها بقوة‏:‏ بجد وحزم وعزيمة‏.‏

بعد أن بيّن الله تعالى ما أنعم به على بني اسرائيل من نجاة لهم من عدوهم وتحريرهم من العبودية- ذكر هنا بدء التشريع المنزل على موسى عليه السلام، وكيف انه واعد موسى ثم أنزل عليه التوراة‏.‏

لقد ضرب الله تعالى موعدا لموسى لمناجاته وإعطائه الألواح فيها أصولُ الشريعة في مدة ثلاثين ليلة، ثم اتم مدة الوعد بعشر ليال يستكمل فيها موسى عبادته، ويتلقى أوامر ربه فصارت المدة أربعين ليلة‏.‏ وعندما توجّه موسى للماجاة قال لأخيه هارون‏:‏ كمن خليفتي في قومي، أصلحْ ما يحتاجون اليه من امروهم، وراقبهم فيما يأتون وفيما يذرون، واحذر ان تتبع سبيل المفسِدين‏.‏

ولما جاء موسى في الموعد الّذي وقّته له ربه لمناجاته كلّمة ربه، لكن موسى قال‏:‏ رب أرني ذاتك لأتمتع بها وأحصل على فضيلتَي الكلام والرؤية، وأزداد شرفا‏.‏ فقال له ربّه‏:‏ لن تطيق رؤيتي يا موسى‏.‏ ثم اراد الله سبحانه ان يُقنع موسى بانه لا يطيق رؤية ما يطلب فقال‏:‏ انظر الى الجبل الذي هو أقوى منك، فإن ثبت في مكانه عند التجلّي فسوف تراني اذا تجلّيت لك‏.‏ فلما تجلى الله للجبل انهدّ الجبل وبات أرضا مستوية‏.‏ عند ذاك سقط تنزيهاً عظيما عما لا ينبغي في شأنك مما سألت، إن تُبْت إليك من الإقدام على السؤال بغير إذن، وأنا أول المؤمنين من قومي بجلالك وعظمتك‏.‏

ولما منع الله موسى من رؤيته عدَّد عليه نعمه ليتسلى بها فقال‏:‏ يا موسى، لقد اخترتك مفضّلاً إياك على اهل زمانك، بتبليغ التوراة، وبتكليمي إياك من غير واسطة، فخذ ما فضّلتك به، واشكرني كما يجب‏.‏

وقد وردت أحاديث كثيرة فيها إمكان رؤية الله عن اكثر من عشرين صحابياً، لكنه ورد عن السيدة عائشة خلافُ ذلك‏.‏ فقد رُوي عن مسروق قال‏:‏ قلت لعائشة، يا أمّاه، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربَّه ليلة المعراج‏؟‏ فقالت‏:‏ لقد قفّ شعري مما قلتَ، ثلاث من حدثكهن فقد كذب‏:‏ من حدثك ان محمداً رأى ربه فقد كذب، ومن حدثك أنه يعلم ما في غدٍ فقد كذب، ومن حدثك انه كتم شيئا من الدين فقد كذب‏.‏ قال مسروق‏:‏ وكنت متكئا فجلست وقلت‏:‏ الم يقل الله‏:‏ «ولقد رآه نزلةً اخرى» فقالت‏:‏ أنا أول من سأل رسول الله عن ذلك فقال «إنما هو جبريل»‏.‏

وهذه الرؤية هي في الدنيا، أما الآخرة فانها تختلف عن هذه الدنيا، وكل ما في الحياة الآخرة يختلف اختلافا كليا عن حياتنا الدنيا‏.‏

وترى جمهرة المسلمين ان رؤية العباد لربهم في الآخرة حق‏.‏

بعد ان اخبر سبحانه في الآيات السالفة انه منع موسى من رؤيته في الدنيا، اخبرنا هنا بما آتاه يؤمئذ فقال‏:‏

‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏}‏‏.‏

أي أعطيناه ألواحاً بيّنا له فيها كل شيء من المواعظ والاحكام المفصلة التي يحتاج الناس اليها وقلنا له‏:‏ خذ الالواح بجدٍّ وحزم، وامُر قومك ان يأخذوا بأفضل ما فيها وأيسره وان لا يشدّدوا على انفهسم‏.‏ وسأجعلهم يرون دار الخارجين على أوامر الله، وما صارت اليه من الخراب، كما سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي، فلا تخالفوا حتى لا يصيبكم ما أصابهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏146- 147‏]‏

‏{‏سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏146‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

الرشد‏:‏ الصلاح والاستقامة، وضده الغي والفاسد كل آية‏:‏ كل بينة كذبوا بآياتنا‏:‏ الآيات المنزلة من عند الله حبطت اعمالهم‏:‏ بطلت‏.‏

بعد ان بيّن الله تعالى لما لحق فرعون وقومه بسبب من استكباره وظلموه وفساده في الأرض، بيَّن هنا ضلال البشر وتكذيبهم للرسل، وذكر ان السبب في كل ذلك هو التكبر‏.‏

ومعنى الآية‏:‏

سأمنع اولئك الذين يتطاولون في الأرض ويتكبّرون عن قبول الصواب بغير الحق من التفكير في دلائل قدرتي إنهم يروا كل آية تدل على صدق رسُلنا لا يصدقوا بها، أما حين يشاهدون طريق الضلال فسرعان ما يلكونه راغبين، وذلك لأنهم كذّبوا بآياتنا المنزلة، وغفلوا عن الاهتداء بها‏.‏

وامثال هؤلاء كثيرون اليوم في بلادنا من المسلمين، لقد درسوا في الغرب ورأوا رخرف المدنيّة الأوروبية، وغرَّهم بَهْرَجها، وأخذوا منها ما يوفر لهم اللذات والمتع ولم يأخذوا العلم النافع ولا الصناعة المفيدة، والأنظممة النافعة‏.‏ ان هذه تكلهم جهاً كبيراً فيما هم لا يريدون غير المتع والملذات‏.‏

والذين كذّبوا بآياتنا المنزلة على رسلنا للهداية، كما كذّبوا بلقائنا يوم القيامة، ومن ثم أنكروا البعث والجزاء- بطلت أعمالُهم التي كانا يرجون نفعها‏.‏ لذا فإنهم لن يلاقوا إلا جزاء ما استمروا عليه من العصيان، وانكار دعوة الرسل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148- 149‏]‏

‏{‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏148‏)‏ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏‏}‏

الحلي‏:‏ بضم الحاء وقرئ بكسرها، مفردها حَلْي وهو كل ما يتُزين به من المصوغات المعدنية والحجارة الكريمة‏.‏ العجل‏:‏ ولد البقرة‏.‏ له خوار‏:‏ له صوت البقر سُقِط في أيديهم‏:‏ ندموا، وهذا من تعابير القرآن الكريم البليغة‏.‏

بعد ان ذكر الله خبر مناجاة موسى واصطفاءه له بالرسالة، وأمرَه إياه ان يأخذ الاواح بقوة- بين هنا ما حدث اثناء غياب موسى عن قومه، حيث بدّلوا الوثنية بديانتهم‏.‏

لقذ ذهب موسى الى الجبل لمناجاة ربه، فما أسرع ما اتخذ قومه من مصوغاتهم وزينتهم جسماً على صورة عجلٍ من الحيوان، لا يعقل، له صوت كصوت البقر، كان قد صنعه لهم السامريُ وأمرهم بعابدته‏.‏ لقد عَمُوا، فلم يروا حين عبدوه انه لا يكلمهم ولا يقدر على هاديتهم الى طريق الصواب‏!‏ ومع هذا فقد اتخذوه إلهاً لهم، وبذلك ظلموا أنفهسم باقترافهم مثل هذا العمل الشنيع‏.‏

ولما شعروا بزلتهم وخطيئتهم، تحيَّروا فيما يفعلون، وندموا اشد الندم وتبيّنوا ضلالهم، وقالوا‏:‏ واللهِ لئن لم يتبْ علينا ربنا، لنكوننّ من الذين خسروا سعادة الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏150- 151‏]‏

‏{‏وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏150‏)‏ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

الاسف‏:‏ الحزن أعجِلتم امر ربكم‏:‏ اسبقتم‏.‏ القى‏:‏ طرح، شمت بعدوه‏:‏ فرح بمكروه اصابه‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حفص يا ابن ام بفتح الميم، وقرأ الكسائي وحمزة وابن عارم‏:‏ يا ابن أمِّ بكسر الميم‏.‏

بعدما ذكرت الآياتُ ما احديه السامريّ من صناعته العجل لبني اسرائيل وعبادتهم له، ثم ندمهم على ذلك وطلبهم الرحمة من ربهم- تورد هذه الآيات ما حدث من غضب موسى وحزنه حين رأى قومه على تلك الحال من الضلال والغّي، وتصف ما وجّهه موسى من التعنيف واللوم لأخيه هارون، الذي سكت عن قومه حين رآهم في ضلالتهم يعمهون‏.‏

‏{‏وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ولما رجع موسى من مناجاة ربّه ووجد قومه على تلك الحال غضب عليهم، وحزن لأنهم وقعوا في تلك الفتنة، وقال‏:‏ ما أقبح ما فعلتم بعد غيبتي عنكم‏!‏ اسبقتم بعبادتكم العجلَ ما أمركم به ربكم من انتظاري حتى أتيكم بالتوراة‏!‏‏؟‏ آنئذٍ وضع الألواح، واتجه الى اخيه هارون، واخذ يشدّهُ من رأسه، ويجره نحوه من شدة الغضب، ظنّاً منه انه قصر في ردعهم‏.‏ فقال هارون‏:‏ لا تعجل بلومي وتعنيفي يا أخي، ولا تظن اني قصرت في ردع القوم‏.‏ لكنّهم استضعفوني وكادوا يقتلونني حين نهيتهم عن عبادة العجل‏.‏ لا تدع الأعداء يفرحون لتخاصُمنا ويشتمون بي، ولا تجعلني في زمرة هؤلاء الظالمين فأنا بريء منهم ومن ظلمهم‏.‏

قال موسى‏:‏ ربِّ اغفر لي ما صنعتُ بأخي، واغفر لأخي إن كان قصّر، وأَدخلنا جميعاً في رحمتك التي وسعت كل شيء فأنت أرحكم الراحمين، بل وأرحم بنا منا على انفسنا‏.‏

والآية صريحة في براءة هارون من جريمة اتخاذ العجل، في القرآن الكريم‏.‏ أما التوراة ففيها ان هارون هو الذي صنعه‏.‏ وهذا احد مواضع التحريف الذي جرى فيها، كما نص عليه القرآن الكريم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏152- 153‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ‏(‏152‏)‏ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏153‏)‏‏}‏

الغضب‏:‏ هنا، هو ما امروا به من قتل انفسهم‏.‏

بعد ان ذكرت الآيات عتاب موسى لأخيه هارون، ثم استغفاره لنفسه ولأخيه، استطردتْ تذكر ما استحقه بنو اسرائيل من الجزاء على اتخاذ العجل‏.‏

ان الذين اتخذوا العجل إلهاً واستمروا على ذلك، كالسامريّ وأتباعه، سيواجهون مذلّة ومهانة شديدة‏.‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين‏}‏‏.‏

بمثل هذا الجزاء في الدنيا نجزي كل من اختلق الكذب على الله وعبَدَ غيره‏.‏

هذا بخلاف الذين اقترفوا السيئات من الكفر والمعاصي ثم تابوا ورجعوا الى الله وصدقوا به، فإن الله سيغفر لهم ويعفو عنهم، فعفو الله أكبر وأجلّ، وكرمه أعظم، بشرط التوبة والندم والاستغفار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

السكوت‏:‏ ترك الكلام، وهنا معناه‏:‏ لما ذهب الغضب عن موسى‏.‏ وفي نسختها‏:‏ ما كتب منها هدى‏:‏ بيان للحق الرهبة‏:‏ اشد الخوف‏.‏

بعد ان ذكر الله حال القوم وبين انهم قسمان‏:‏ قسم مصرّ على الذنب وعبادة العجل، وقسم تائب منيب الى ربه- هنا بيان حال موسى بعد ان سكنتْ سَورة غضبه‏.‏

ولما ذهب عن موسى الغضبُ باعتذار أخيه، عاد الى الالواح التي ألقاها، فأخذها، وكان فيها الهدى والرشاد، واسباب الرحمة للّذين يخافون الله ويرجون ثوابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 157‏]‏

‏{‏وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ‏(‏155‏)‏ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏156‏)‏ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

اختار موسى قومه‏:‏ اختار موسى من قومخ‏.‏ اختار‏:‏ انتقى واصطفى‏.‏ الرجفة‏:‏ الصاعقة‏.‏ السفهاء‏:‏ الجهلاء‏.‏ الفتنة‏:‏ الاختبار والامتحان والابتلاء انت ولينا‏:‏ المتولي امورنا الحسنة‏:‏ في الدنيا‏:‏ حسن المعيشة، والعافية‏.‏‏.‏‏.‏ وفي الآخرة‏:‏ دخول الجنة‏.‏ هُدنا اليك‏:‏ تبنا ورجعنا اليك‏.‏ النبي‏:‏ هو من اوحى اليه الله وانبأه بما لم يكن يعلم‏.‏ والرسول‏:‏ نبي امره الله بتبليغ شرع ودعوة دين‏.‏ الأمي‏:‏ الذي لا يقرأ ولا يكتب‏.‏ واهل الكتاب يلقبون العرب بالاميين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏8‏;‏لِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏ المعروف‏:‏ ما تعرف العقول السليمة حسنة‏.‏ والمنكر ما تنكره القلوب وتأباه الطيبات‏:‏ كل ما تستطيبه الاذواق من الاطعمة وتستفيد منه التغذية النافعة‏.‏ الخبائث‏:‏ كل ما حرم اكله وذبحه، والخبيث من الأموال‏:‏ ما أُخذ بغير حق‏.‏ الإصر‏:‏ الثقل الذي يتعب صاحبه الأغلال‏:‏ واحدها غُلّ بضم الغين، هو القيد الذي يقيَّد به الأسير والجاني‏.‏ وهنا معناه الشدائد والمحن‏.‏ عظّروه‏:‏ نصروه وهي من الكلمات التي لها معنيان مختلفان‏.‏

ثم أمر الله موسى أن يأتيه في جماعة من قومه يعتذرون عمّن عبدوا العجل، فاختار موسى من قومه سبعين رجلا لم يشاركوا في عبادة العِجل، وذهب بهم الى الطور‏.‏ وهنالك سألوا الله أن يكشف عنهم البلاء، ويتوب على من عبد العجل من قومه‏.‏ فأخذتهمفي ذلكالمكان رجفة شديدة غُشي عليهم بسببها، وكان هذا جزاءً لهم لأنهم لم يفارقوا قومهم حين عبدوا العجل، ولم ينهوهم عن المنكر فلما رأى موسى ذلك قال‏:‏ يا ربِّ، لو شئتَ إهلاكَهم أهلكتَهم من قبل خروجهم الى الميقات، وأهلكتني معهم، ليرى ذلك بنو إسرائيل فلا يتهموني، فلا تهلكنا يا رب بما فعل الجهّال منا، فما محنة عبَدَة العجل الا فتنة منك، أضللتَ بها من شئتَ إضلاله ممن سلكوا سبيل الشر، وهدَيت بها من شئت هدايته‏.‏‏.‏ إنك أنت المتولِّي امرونا والقائم علينا، فتجاوزعن سيئاتنا، وتفضل علينا باحسانك، وانت أَكرم من يفعل ذلك‏.‏

كذلك قَدِّر لنا في هذه الدنيا حياة طيبة، وهبْنا من لدنك عافية وتوفيا لطاعتك، وامنحنا من فضلك في الآخرة مثوبة حسنة ومغفرة ورحمة ندخل بها جنتك وننال رضوانك، فقد تُبنا ورجعنا اليك‏.‏

فقال له ربه‏:‏ إن عذابي أصيبُ به من أشاء ممن لم يتب، ورحمتي وسعت كل شيء‏.‏

ثم بين من ستكتب له الرحمة فقال‏:‏

‏{‏فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

سأكتبها للذين يتّقون شرَ المعاصي من قومك، ويؤدون الزكاة المفروضةَ عليهم، ويصدّقون بجميع الكتب المنزلة وسوف أخصُّ بها أولئك الذين يتبعون الرسول محمدا، الأميَّ الذي لا يقرأ ولا يكتب، وهو الّذي يجدون وصفه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بكل خير وينهاهم عن كل شر، ويُحِل لهم ما يستطيبه الطبع من الأشياء، ويحرِّم عليهم ما يستخبثه منها، ويزيل عنهم الاثال والشدائد التي كانت عليهم‏:‏

فالّذين صدّقوا برسالته وآزروه وأيّدوه ونصروه على أعدائه، واتبعوا القرآن الذي أُنزل معه- هؤلاء هم الفائزون بالرحمة والرضوان دون سواهم‏.‏

لقد ظهر في هذه الايام كتاب جديد بعنوان «محمد في الكتاب المقدس» تأليف خوري طائفة الكلدانيين، واستاذ اللاهوت؛ البروفسور «عبد الحق داود» فقد اعتنق الاسلام والف هذا الكتاب وبين فيه المواضع التي ذكر فيها سام سيدنا محمد أو الاشارة اليه في التوارة والانجيل وكيف حرفت تلك الأصول‏.‏

وقد ترجم الكتاب الى اللغة العربية صديقنا السيد فهمي شما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏158‏)‏‏}‏

كلماته‏:‏ كل ما أَنزل من تشريع على أَلسنَةِ رسُله الكرام‏.‏

بعد ان ذكر تعالى ما في التوراة والانجيل من صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وشرفَ من يتبعه من اهل الكتاب، ونيلَهم السعادة في الدنيا والآخرة- بيّن هنا عموم رسالته، ودعوة الناس كافّة الى الايمان به‏.‏

قل يا أيها النبيّ لجميع بين البشر‏:‏ إني رسول اليكم جيمعا، أرسلني الله، الذي له وحده ملك السماوات والارض، فهو يدبّر أمرهما بحكمته، ويتصرف فيها كيف يشاء‏.‏ انّه لا معبودَ بحق إلا هو، وهو وحده الذي يُحيي ويُميت‏.‏‏.‏‏.‏ آمنوا به وحده، وصدّقوا رسوله، فهو النبيّ الأمّيُّ الذي لا يقرأ ولا يكتب‏.‏ واتّبِعوه في كل ما ينقل منا لدن ربّه، واسلكوا طريقه واقتفوا أثره‏.‏ بذلك تهتدون وترشدون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏159- 160‏]‏

‏{‏وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏159‏)‏ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

قطعناهم‏:‏ صيرناهم فِرقا كل فرقة سبط، والسبط ولد الولد، واسباط بني اسرائيل‏:‏ سلائل اولاده‏.‏ الامة‏:‏ الجماعة التي تؤلف بين افرادها رابطة او نظام او مصلحة‏.‏ الاستسقاء‏:‏ طلب الماء للشرب‏.‏ انبجس‏:‏ انفجر‏.‏ الغمام‏:‏ السحاب‏.‏ المن‏:‏ مادة بيضاء تنزل من السماء مثل الندى حلوة الطعم‏.‏ السوى‏:‏ طائر قدْر الحمام طويل الساقين والعُنق سريع الحركة‏.‏

بد ان بيّن تعالى ان من يتبع النبيَّ الكريمَ من قوم موسى مفلحون مهتدون- ذكر هنا حال خواصّ أتباع موسى عليه السلام الذي اتّبعوه حق الاتباع، ثم ذكرحالّين من أحوال بني اسرائيل‏:‏

أولاهما‏:‏ انه قسمهم اثنتي عشرة فرقة بعدد أسباطهم الاثني عشر‏.‏

ثانيتهما‏:‏ أنهم لما استسقَوا موسى ضرب موسى الحجر ‏(‏اشارة الى امكانية الحفر‏)‏، فانبجستْ منه اثنتا عشرة عيناً، بقدر عدد الأسباط وقد تقدم ذكر هاتين الواقعتين في سورة البقرة‏.‏

ومن قوم موسى جماعة تمسَّكوا بما جاء به موسى من الدين الصحيح، فظلوا يهدون الناس الى الحق الذي جاء به نبيُّهم، فلا يتّبعون هوى، ولا يأكلون سُحتاً ولا رشوة‏.‏

ثم عدّد الله نعمة على قوم موسى، فذكر انه صيّرهم اثنتي عشرة فرقة، وميّز كل جماعة بنظامها، منعا للتحاسُد والخلاف‏.‏ وأنه اوحى الى موسى حين طلب قومه الماء في التيه، ان يضرب الصخر في الأرض، ففعل موسى ذلك، فانفجرت عنه ذلك اثنتا عشرة عيناً قد عرف كل سبط من القوم مورد شربهم الخاص بهم‏.‏ هذا كما جعل لهم السحابَ يلقي عليهم ظلّة في اليته ليقيَهم حر الشمس، وانزل عليهم المنّ وهو طعام حلو شهيّ والسلوى وهو طائر يشبه السُّمانَي‏.‏ وقال لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم‏.‏ لكنهم ظلموا انفهسم وكفروا بتلك النعم، وتمسَّكوا بالجحود والانكار‏.‏ وهذا دأبهم وتلك اخلافهم لم تتغير ولم تتبدل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161- 162‏]‏

‏{‏وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏161‏)‏ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏162‏)‏‏}‏

تقدم مثل هاتين الآيتين في سورة البقرة الآية رقم ‏(‏59‏)‏ والآية رقم ‏(‏60‏)‏ وهناك بعض الفروق‏:‏ ‏(‏1‏)‏ قال هنا‏:‏ «اسكُنوا القريةَ» وفي سورة البقرة قال «ادخُلوا» ‏(‏2‏)‏ وقال هنا‏:‏ «وكُلوا منها حيثُ شئتم» وفي سورة البقرة قال‏:‏ «فكُلوا من حيث شئتم رغَدا» ‏(‏3‏)‏ وقال هنا‏:‏ «وقولوا حِطّة وادخلوا الباب سُجَّدا» وقال في سورة البقرة «وادخلوا البابَ سجَّدا وقولوا حِطّة» ‏(‏4‏)‏ وقال هنا‏:‏ «سنزيد المحسِنين» وقال في سروة البقرة‏:‏ «وسنزيد المحسنين» بالعطف والمعنى واحد ‏(‏5‏)‏ وقال هنا‏:‏ «فبدَّلَ الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قِيلَ لهم» فزاد هنا لفظة منهم، وقال في سورة البقرة‏:‏ «فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم» ‏(‏6‏)‏ وقال هنا‏:‏ «فأرسلْناعليهم رِجْزاً من السماء بما كانوا يظلمون»، وقال في سورة البقرة «وأنزلنا على الّذين لظموا رِجزاً من السماء بما كانوا يفسقون»‏.‏ والفرق بين الإرسال والانزال فرقٌ لفظيّ‏.‏ وكذلك بين ‏(‏عليهم‏)‏ و‏(‏على الذين ظلموا‏)‏، ومثله ‏(‏يظلمون‏)‏ و«يفسقون‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏163- 166‏]‏

‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏163‏)‏ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏164‏)‏ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏165‏)‏ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏166‏)‏‏}‏

القرية‏:‏ أيلة‏.‏ حاضرة البحر‏:‏ على شاطئه، قريبة منه يعدون في السبت‏:‏ يخالفون امر الله بالصيد المحرم عليهم يوم السبت‏.‏ يوم سبتهم‏:‏ يوم عطلتهم وراحتهم شُرَّعا‏:‏ ظاهرة على وجه الماء نبلوهم‏:‏ نختبرهم‏.‏ امة منهم‏:‏ جماعة منهم معذرة الى ربكم‏:‏ اتعذروا الى ربكم نسوا ما ذكروا به‏:‏ تركوه بئيس‏:‏ شديد‏.‏ عتَوا‏:‏ تكبروا وعصوا‏.‏ خاسئين‏:‏ اذلاء صاغرين‏.‏

هذه الآية الى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ مدنيّة نزلتْ في المدينة، وقد ضُمت الى هذه السورة المكيّة في هذا الموضع، تكلمةً للحديث عما ورد فيها من قصة بين اسرائيل‏.‏

وهنا عَدَل في أُسلوب الحكاية عن ماضي بني اسرائيل، إلى أسلوب المواجهة لذاراريهم التي كانت تواجه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في المدينة وتحاروه وتجادله‏.‏

يأمر الله تعالى رسلوه الكريم ان يسأل يهود المدينة المنوَّرة في زمانه عن هذه الواقعة المعلومة لهم من تاريخ أسلافهم، وهو يواجههم بهذا التاريخ باعتبارهم أمةً متصلة الأجيال، ويذكّرهم بعصيانهم القديم، فيقول‏:‏

اسأل أيها النبي اليهودَ المجاورين لك في المدينة عن فعل اهل القرية التي كانت على شاطئ البحر، كيف كان يفعل أسلافهم فيها فيخالفون أوامر الله بصدد صيد السمك يوم السبت‏.‏ كانت تأيتهم الحيتانُ ظاهرةً على وجه الماء يوم السبت، مع أنهم مأمورون بالتفرُّغ فيه للعبادة، وأما في غير السبت فلم تكن تأتيهم، كل ذلك ابتلاءٌ واخبتارٌ من الله ليظهر المحسِنَ من المسيء منهم‏.‏

وقد انقسم سكان القرية الى ثلاث فرق‏:‏ فرقة كانت تحتال على صيد السمك يوم السبت الذي حُرّم عليهم الصيد فيه، وفرقة كانت تحدذِر هؤلاء العصاة مغبَّة عملهم واحتيالهم وتنكر عليهم ذلك، وفرقة اخرى تقول لهؤلاء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر‏:‏ ما فائدة تحذيركم لهؤلاء العصاة- وهم لا يرجعون عن غيِّهم وعصيانهم‏؟‏ لقد كتب الله علهيم الهلاك والعذاب‏!‏ وذلك قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

وإذ قالت جماعة من صلَحاء أسلافهم لمن يعظون أولئك الأشرار، لأي سبب تنصحون قوماً سيهلكهم الله بسبب ما يرتكبون من مخالفات، أو يعذّبهم في الآخرة عذابا شديدا‏؟‏ لم تعدْ هناك جدوى لنصحهم وتحذيرهم‏.‏

قالوا‏:‏ لقد وعظناكم اعتذاراً الى الله، وأدّينا واجبنا نحوه، لئلا نُنسَب الى التقصير، ولعلّ النصح يؤثر في تلك القلوب العاصية فَيَسْتثيرُ فيها وِجدان التقوى‏.‏

فلمّا تركوا ما ذكّرهم به الصالحون وأعرضوا عنه، أنجينا الذين ينهون عن المنكر من العذاب، وأخذنا الذين ظلموا بعذاب شديد بسبب تماديهم في الفسق، والخروج عن طاعة الله‏.‏

‏{‏فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

فلما تمردوا وأبَوا أن يتركوا ما نُهوا عنه، ولم يردعهم العذاب الشديد جعلناهم كالقِرَدة في مسخ قلوبهم، وعدم توفيقهم لفهم الحق، فكانوا قردة مَهينين، وانتكسوا الى عالَم الحيوان حين تخلّوا من خصائص الانسان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏167- 167‏]‏

‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏167‏)‏‏}‏

تأذن‏:‏ أعلم‏.‏ ليبعثن‏:‏ ليسلطن عليهم يسومهم‏:‏ يذيقهم‏.‏

ثم كانت اللعنةُ الأبدية على جميع اليهود إلا الذين يؤمنون بالنبي الأميّ ويتبعونه‏.‏ وقد بعث الله على اليهود في فترات من الزمن من يسومهم سوءَ العذاب، وسيظل هذا الأمر نافذا في عمومه الى الأبد، فيبعث الله عليهم بين آونةٍ وأخرى من يسومهم سوء العذاب، وكلّما انتعشوا وطغَوا في الأرض، جاءتهم الضربة ممن يسلّطهم الله من عباده على هذه الفئة الباغية‏.‏

وقد يبدو أحياناً أن اللعنة قد توفقت، وان اليهود عزُّوا واستطالوا كما هو ظاهر للعيان في فلسطين الآن، لكن ذلك ما هو إلى فترة عارضة من فترات التاريخ، قود تم ذلك لتنابذ الحكام العرب وفُرقهم فيما بينهم، تفضيلاً للمصلحة الفردية على المصحلة العامة، حتى على حساب الجميع، وبسبب ما تمدهم به امريكا المتصهينة‏.‏ وذلك لا يدوم أبدا، ولا يدري الا الله من ذا الذي سيسلَّط عليهم في الجولة التالية، وما بعدها الى يوم القيامة، ونحن بانتظار مواكب المجاهدين الفاتحين، وكلآتٍ قريب مهما طال الزمن‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ والله تعالى يعقّب دائما بعد ذكره العذابَ بالرحمة والمغفرة للمحسنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏168- 171‏]‏

‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏168‏)‏ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏169‏)‏ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏170‏)‏ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

قطعناهم‏:‏ فرقناهم‏.‏ امما‏:‏ جماعات‏.‏ دون ذلك‏:‏ منحطون عنهم‏.‏ بلوناهم‏:‏ امتحناهم‏.‏ خلْف بسكون اللام‏:‏ نسل شرير‏.‏ الكتاب‏:‏ التوراة العرض بفتح الراء‏:‏ متاع الدنيا وحطامها‏.‏ الادنى‏:‏ الدنيا‏.‏ نتقنا الجبل‏:‏ رفعناه وابرزناه فوقهم الظُّلَّة‏:‏ كل ما يظلل الناس‏.‏

تأتي بقية الآيات المدنية الواردة هنا تكملةً لقصة بين اسرائيل بعد موسى، إذ تفرّق اليهود في الأرض جماعاتٍ مختلفة المذاهب، مختلفة المشارب والمسالك، فكان منخم الصالحون وكان منهم دون ذلك، وظلت العناية الإلهية تواليهم بالابتلاءات تارة، وبالنعماء أخرى، علّهم يرجعون لاى ربهم ويستقيمون‏.‏

وقد فصّل سبحانه عقابهم فذكر بدء إذلالهم بإزالة وحدتهم وتمزيق جمعهم فقالك

‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

وقد فرّقناهم في الأرض جماعات وجعلنا كل فرقة منهم في قطر، منهم الصالحون وهم الذين آمنوا واستقاموا، ومنهم اناس منحطُّون عن الاتصاف بالصلاح‏.‏ لقد اختبرناهم جميعا بالنعم والنقم ليتوبوا عما نهوا عنه‏.‏

فجاء من بعد الّذين ذكرناهم خَلْفُ سوءٍ ورِثوا التوراةَ من أسلافهم، لكنهم لم يعملوا بها، ولم تتأثّر قلوبهم ولا سلوكهم، وكلما رأَوا عَرَضاً من أعراض الدنيا تهافتوا عليه ثم تأولوا وقالوا‏:‏ «سيُغفرُ لنا»، فهم مصرون على الذنْب مع طلب المغفرة‏.‏

ثم وبَّخهم الله على طلبهم المغفرةَ مع إصرارهم على ما هو عليه فقال‏:‏ إنّا انفَذْنا عليهم العهدّ في التوراة- وقد درسوا ما فيها- أن يقولوا الحق، فقالوا الباطل‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ لم يعقِلوا بعدُ ان نعيم الدار الآخرة الدائم خير من مناع الدنيا الفاني، فقل لهم يا محمد‏:‏ من العجب ان تستمروا على عصيانكم، افلا تعقلون ان ذلك النعيم خير لكم‏!‏‏.‏

وفي هذه إيماء الى ان الطمع في متاع الدنيا هو الذي افسد على بني إسرائيل امرهم‏.‏

وفيه عبرة للمسلمين الذي سرى إليهم كثير من الفساد، وغلب عليهم حبُّ الدنيا وعرضها الزائل، والقرآن الكريم بين أيديهم لكنهم لا يعملون به بل هم عنه غافلون‏.‏

‏{‏والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

والذين يتمسّكون بالتوراة وأقاموا الصلاة المفروضة عليهم، ويعتصمون بحبله في جميع شئونهم- لن يضيع اجرهم عند الله، لأنهم قد اصحلوا اعمالهم‏.‏

ثم ختم الله هذه القصة مذكِّراً بِبَدء حالهم في إنزال الكتاب عليهم عقب بيان مخالفتهم لأمور دينهم حتى بعد أَنْ أخذ الله عليهم الميثاق‏.‏ وقد ردّ عليهم في قولهم‏:‏ إن بين اسرائيل لم تصدر منهم مخالفة في الحق، فقال جلّ وعلا‏:‏

‏{‏وَإِذ نَتَقْنَا الجبل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

اذكر لهم أيها النبيّ حين رفعنا الجبل فوق رؤوسهم كأنه غمامة، يؤمئذٍ فزِعوا مما رأوا، إذ ظنوا ان الجبل واقع عليهم، فقلنا لهم‏:‏ خذوا ما أعطيناكم من هدى التوراة بجد وعزم على الطاعة، وتذكّروا ما فيه لعّكم تعتبرون وتهذب نفوسكم بالتقوى‏.‏ لكن اليهود هم اليهود، فقد نقضوا العهد، ونسوا الله، ولجّوا في العصيان حتى استحقوا غضب الله ولعنته، وحقَّ عليهم القول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 174‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ‏(‏172‏)‏ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏173‏)‏ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏174‏)‏‏}‏

الظهور‏:‏ جمع ظهر وهو معروف‏.‏ الذرية‏:‏ سلالة الانسان من ذكور واناث‏.‏

بيّن الله هنا هداية بين آدم بنصْب الأدلّة في الكائنات، بعد ان بينها عن طريق الرسل والكتب، فقال‏:‏ واذكر ايها النبيّ للناس حين أخرج ربُّك من أصلاب بني آدم ما يتوالدون قرنا بعد قرن، ثم نصب لهم دلائل روبيّته في الموجودات، وركّز فيهم عقولاً وبصائر يتمكّنون بها من معرفتها، والاستدلال بها على التوحيد والربوبية، فقال لهم‏:‏ ألستُ بربكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ بلى انت ربنا شهِدنا بذلك على أنفِسنا‏.‏ وإنما فعل الله هذا لئلا يقولوا يوم القيامة‏:‏ إنّا كمنّا عن هذا التوحيد غافلين‏.‏

وقد اكثرَ المفسرون الكلام في تفسير هذه الآية وأوردوا عدداً من الاحاديث والأقوال، لكنه منا لصعب الوثوق بها، كما أنها غير صحيحة الإسناد‏.‏

وأحسنُ ما يقال‏:‏ إن هذه الآية تعرِض قضية الفطرة في صورة مشهدٍ تمثيلي على طريقة القرآن الكريم‏.‏ وإن مشهدّ الذرية المستكنّة في ظهور بني آدم قبل ان تظهر الى العالم المشهود لمشهدٌ فريد حتى في عالَم الغيب‏.‏ وهذه الذرية هي التي يسألها الخالق المربي‏:‏ ألستُ بربكم، فتعترف له بالربوبية وتقرّ له بالعبودية‏.‏

أما كيف كان هذا المشهد‏؟‏ وكيف أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدَهم على أنفسهم، وكيف خاطبهم- فكل هذه الأمور من المغيَّبات التي تخالف حياتنا الدنيا‏.‏

وأقربُ تفسير لأفهامنا ان هذا العهد الذي اخذه الله على ذرية بني آدم هو عهد الفطرة، فقد انشأهم مفطورين على الاعتراف له بالربوية وحده، كما جاء في الحديث الصحيح عن ابي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من مولود إلا يولَد على الفطرة فأبواه يهوّدانه او ينصرّانه او يمجّسِانه» اخرجه البخاري ومسلم‏.‏

وفي سورة ‏[‏الروم الآية‏:‏ 30‏]‏ ‏{‏فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله‏}‏ ‏{‏أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا‏}‏‏.‏

او تقولوا إنما أشرَك آباؤنا من قبلنا‏.‏ ولقد خرجنا إلى هذا الوجود فوجدنا آباءنا على دينِ فاتّبعنهم، فهل تؤاخذنا يا ربّ بما فعل السابقون من آبائنا، فتجعل عذابنا كعذابهم فلا حجّة لكم أبدا‏.‏

‏{‏وكذلك نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏‏.‏

يرجعون الى فطرتهم وعهِدها مع الله، فاللهُ لا يقبل الاعتذار من أي إنسان بانه يقلّد آباءه واجداده، وقد بين له الرسل الكرام الطريق الى الهدى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏175- 177‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ‏(‏175‏)‏ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏176‏)‏ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏177‏)‏‏}‏

التلاوة‏:‏ القراءة‏.‏ النبأ‏:‏ الخبر‏.‏ انسلخ منها‏:‏ نبذها وكفر بها فاتبعه الشيطان‏:‏ ادركه‏.‏ من الغاوين‏:‏ من الضالين‏.‏ يلهث‏:‏ يتنفس بشدة مع اخراج اللسان، والسبب في ان الكلب يلهث دائما، ان جلده أملس لا توجد فيه مسامات كافية‏.‏

بعد ان ذكر اللهُ تعالى أخْذ العهد والميثاق على بني آدم جميعا، وأشهدّهم على أنفسهم أن الله ربهم‏.‏‏.‏ أيُّ عذر سيكون لهم يوم القيامة في الإشراك بالله جهلاً او تلقيدا‏!‏

هنا نفيٌ بضرب المثَل للمكذّبين بآيات الله المنزلة على رسوله الكريم بعد ان أيّدها بالأدلة العقلية والكونية، وهو مثَل من آتاه الله آياتِه فكان عالماً بها قادراً على بيانها، لكنه لا يعمل بها، بل يأتي عمله مخالفا لعلمه‏.‏ لذا سلبه الله ما آتاه، فكان ذلك الانسان كمثَل الكلب يظل يلهث دون جدوى‏.‏

اقرأ اتيها النبيُّ على قومك خبرها الإنسان الذي آتاه الله علماً بآياته المنزلة على رسُله، فأهملها، بل انسلخ منها، كأنما الآيات جلد له متلبِّس بلحمه فهو ينسلخ منه بعد جهد ومشقة، وينحرف عن الهدى ليتّبع الهوى، فلاحقه الشيطان، وتسلط عليه باغوائه، فصار في زُمرة الضالين‏.‏

ولو شاء ربك رفعه الى منازل الأبرار لفعل، وذلك بتوفيقه للعمل بتلك الآيات، لكن الرجل اخلد الى الأرض، وهكذا هبط من الأفق المشرق فالتصق بالطين المعتم، ولم يرتفع الى سماء الهداية‏.‏ لقد ابتع هواه، فبات في قلق دائم، وانشغل بالدنيا وأعراضهم، لذا فإن مثله مثل الكلب في اسوأ حواله‏.‏‏.‏‏.‏ يظل يلهث على غير طائل، تماماً مثل طالب الدنيا الشرِه، يظل يلهث وراء متعه وشهواته، وهي لاتنقضي ولا هو يكتفي منها‏.‏

اما من هو الرجل الذي يشير إليه هذا المثل فقد وردت روايات عديد ة تجعله بعضها «بلعام ابن باعوراء» من بني اسرائيل، والبعض الآخر «أميّة بن أبي الصلت» الشاعر العربي المشهور، أو هو «ابو عامر الفاسق» وهناك روايات أخرى لا حاجة لنا بها اصلاً، فلسنا مكلَّفين ان نعرف من هو‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏178- 181‏]‏

‏{‏مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏178‏)‏ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏179‏)‏ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏180‏)‏ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏181‏)‏‏}‏

ذرأنا‏:‏ خلقنا‏.‏ الجن‏:‏ خلاف الانس الفقه‏:‏ العلم بالشيء والفهم به‏.‏ ويرد في القرآن الكريم المعنى دقة الفهم والتعمق في العلم‏.‏

بعد ان أمر الله تعالى نبيه الكريم ان يقصّ خبر ذلك ضلّ على علم منه، يقصَّه الى اولئك الضالين لعلهم يهتدون ويتركون ما هم عليه من الاخلاد الى الضلالة، والكفر- بيّن هنا ان اسباب الهدى والضلال ينتهيان للمستعدّ لأحدهما الى احدى الغايتين بتقدير الله والسيرِ على سنّته في استعمال مواهبه الفطرية، وان الهدى هدى الله‏.‏

فمن يوفقه الله لسلوك سبيل الحق فهو المهتدي حقا، الفائز بسعادة الدارين؛ ومن يُحرم من هذا التوفيق بفعل سيطرة هواه فهو الضال خسِر سعادة الدنيا وسعادة الآخرة‏.‏

ثم فصّل سبحانه ما أجملَه في الآية السالفة مع بيان سببه فقال‏:‏

‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ولقد خلقْنا كثيراً من الجن والانس مآلهم النار يوم القيامة‏.‏ وتتساءل لماذا‏؟‏ فتأتي الإجابة‏:‏ لأن لهم قلوباً لا يَنقُذون بها الى الحق، وأَعيُناً لاينظرون بها دلائل القدرة، وآذاناً لا يسمعون بها الآيات والمواعظ سماعَ تدبُّرٍ واتعاظ، أفليس اصحاب هذه الصفات كالبهائم، ما داموا لم ينتفعوا بما وهبهم الله من عقول للتدبر، بل الحقّ إنهم اضل منها، فالبهائم تسعى الى ما ينفعها، وتهرب مما يضرها، وهؤلاء لا يدركون ذلك، فيظلون غافلين عما فيه صلاحهم في الدارين‏.‏

ثم بعد ذلك ذكرت الآيات الدواء لتلك الغفلة والوسائل التي تخرج الى ضدها وهي ذِكْر الله ودعاؤه في السرّ والعلَن في جميع الاوقات‏.‏

ولله دون غيره الأسماءُ الدالة على أكمل الصّفات فاذكروه بها، دعاءً ونداءً وتسمية، واتركوا جميع الذين يلحدون في اسمائه فيما لا يليق بذاته العلّية، لأنه سيلقَون جزاءَ علمهم، وتحلُّ بهم العقوبة‏.‏

وللذِكر فوائد، منها‏:‏ تغذية الإيمان، ومراقبة الله تعالى والخشوع له والرغبة فيما عنده، ونسيان آلام الدنيا‏.‏ وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على الدعاء والالتجاء الى الله، منها الحديث الصحيح‏:‏ «من نزل به غَم او كربٌ، أو أمرٌ مهم فليقل‏:‏ لا إله الا الله العظيم الحليم، لا إله الا الله ربّ العرش العظيم، لا إله الا الله ربّ السماوات والأرض ورب العرش الكريم» رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي‏.‏

وروى الحاكم في ‏(‏المستدرك‏)‏ عن أَنس رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها‏:‏ «ما يمنعكِ أن تسمعي ما أُوصيكِ به‏؟‏ ان تقولي إذا أصبحتِ واذا أمسيتِك يا حيّ يا قيّوم، برحمتِكَ أَسغيث، أصلحْ لي شأني، ولا تكِلْني إلى نفسي طرفة عين»‏.‏

ثم بيّن وصْف أُمة الإجابة، وهي الامة الاسلامية، الذين أجابوا وأطاعو وهدوا بالحق وبه يَعدِلون‏.‏

وممن خلَقْنا للجنة طائفةٌ يدعون غيرهم للحق بسبب حُبِّهم له، ويدلّون الناس على الاستقامة، وبالحق يحكمون‏.‏

أخرج ابنُ جَرير وابن المنذِر وابو الشيخ عن ابن جُريج قال‏:‏ ذَكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «هذه أمتي، بالحق يحكُمون ويقضون ويأخذون ويعطون»‏.‏

فهذه الأمة الثابتة على الحق، هي الحارسة لأمانة الله في الأرض، الشاهدة بعهده على الناس‏.‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ «لا تزلا طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحق»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏182- 186‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏182‏)‏ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏183‏)‏ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏184‏)‏ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏185‏)‏ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏186‏)‏‏}‏

سنستدرجهم‏:‏ سنأخذهم درجة بعد درجة، اي شيئا فشيئاً الى العذاب‏.‏ أُملي لهم‏:‏ امهلهم‏.‏ الكيد، كالمكر‏:‏ هو التدبير الخفي‏.‏ الجِنة‏:‏ ما يصيب الانسان من صرع وغيره من الجنون‏.‏ الملكوت‏:‏ الملك العظيم فبأي حديث بعده يؤمنون‏:‏ الحديث هنا القرآن الكريم الطغيان‏:‏ تجاوز الحد في الباطل والشر‏.‏ العمَة‏:‏ التردد والحيرة بحيث لايدري اين يتوجه‏.‏

والّذين كذّبوا بآيات الله سندعهم يسترسلوه في غيّهم وضلالهم حتى يصلوا أقصى غاياتهم، وذلك بإدرار النعم عليهم، ومع انهماكم في الغي، حتى يفاجئهم الهلاك وهم غافلون‏.‏

إنني أُمهل هؤلاء المكذّبين وسأمد لهم في الحياة بدون اهمال، لكن أخْذي لهم سيكون شديدا، بقدر سيئاتهم الّتي كثُرت بتماديهم فيها، وفي الحدث الصحيح‏:‏ «ان الله لَميلي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته» رواه البخاري ومسلم عن ابي موسى الاشعري رضي الله عنه‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏‏.‏

كان زعماء قريش يقولون للناس‏:‏ إن محمداً مجنون‏.‏‏.‏ فردّ الله عليهم بقوله‏:‏ او لم يتفكروا في حاله من بدءِ نشأته‏!‏ إنهم يعرفونه حقا‏.‏ أما كان اسمه الامين‏!‏ وهم يعرفون حقيقة دعوته ايضاً، انه سليم العقل، لا جنون به، بل هو منذر لهم، ناصح ومبلّغ عن الله رسالتَه الى الناس كافة‏.‏ ولو تأمل مشركو مكة في نشأته صلى الله عليه وسلم وما عُرف عنه من الامانة والاستقامة والصدق لما نزعوا الى هذه الفِرية على رجلٍ عرفوه، ولأدركوا أن ما يأتي به من عند ربه لن يصدر عن مجنون‏.‏

لقد كذّبوا محمداً فيما يدعوهم اليه من التوحيد، ولم يتأملوا في هذا الملكوت العظيم من السماوات والأرَضِين وما فيها، مما يدل على قدرة الصانع ووحدانيته‏.‏ كذلك لم يفكروا في انه قد اقترب أجلُهم، فيسارعوا الى طلب الحق قبل مفاجأة الاجل‏.‏ والحقّ أنهماذا لم يؤمنوا بالقرآن فباي حديث بعده يؤمنون‏!‏‏!‏

ثم يعقب تعالى بتقرير سنّته الجارية بالهدى والضلال، وفق ما ارادته مشيئته‏:‏ هداية من يطلب الهدى ويجاهد فيه، واضلال من يصرف قلبه عنه فيقول‏:‏

‏{‏مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏‏.‏

وتفسير ذلك‏:‏ إن من يكتب الله عليه الضلال لسوء اخياره هو يظل في بُعدِهِ عن الحق وعماه عنه، وحيرته بحيث لا يدري أين يتوجه‏.‏ وليس في هذا الإهمال ظُلم لأنه جاء بعد البيان والتحذير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏187- 188‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏187‏)‏ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏188‏)‏‏}‏

الساعة‏:‏ القيامة، ايان‏:‏ متى‏.‏ مرساها‏:‏ وقت حصولها‏.‏ يجلِّيها‏:‏ يظهرها‏.‏ بغتة‏:‏ فجأة حفيّ عنها‏:‏ عالم بها، مختم بالسؤال عنها‏.‏

بعد أن أرشد اللهُ من كانوا في عصر التنزيل الى النظر والتفكير في اقتارب اجلهم بقوله‏:‏ ‏{‏عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ‏}‏ قفّى على ذلك بالإرشاد الى النظر والتفكير في أمر الساعة التي ينتهي بها أجل جميع من على هذه الارض‏.‏ وقد كانت عقيدة الآخرة والحشْر وما فيها من حساب وجزاء غريبةً عن أهل الجزيرة العربية، وكانوا يعجبون من الحياة بعد الموت، ومن البعث للحساب والجزاء‏.‏ لذلك كله كان التوكيد في القرآن شديداً على عقدية الآخرة‏.‏

يسألك مشركو مكة يا محمد عن الساعة والقيامة في اي وقت تكون‏؟‏ قل لهم عِلمُ وقتها عند ربي وحده، لا يكشف الخفاء عنها احد سواه، فقد ثَقُلت وعظُم هلوها، وهي لن تأتيكم الا فجأة بلا إشعار ولا انذار وهم يسألونك هذا، وكأنك عالِم بها حريصٌ مهتم بالسؤال عنها، فكرر عليهم الجواب بأن علمها عند الله، ولكن اكثر الناس لا يدركون الحقائق التي تغيب عنهم‏.‏

قل لهم أيها الرسول‏:‏ إني لا أملِك لنفسي جَلْب نفعٍ ولا دفع ضرر الا ما شاء الله ان يقدِّرني عليه‏.‏ ولو كنت اعلم الغيبَ كما تظنون، لاستكثرت من كلّ خير، ولدفعتُ عن نفسي كل سوء‏.‏ لكن الحقّ أني لست الا نذيراً للناس أجمعين فالذين يؤمنون ينتفعون بما جئت به، ويذعنون للحق‏.‏

فالرسول عليه الصلاة والسلام كغيره من الرسل، بشر لا يدّعي الغيب، بل إنه مأمور ان يَكِلَ الغيب الى الله، فذلك من خصائص الألويهة، أما الرسل فهم عباد مكرّمون لا يشاركون الله في صفاته ولا أفعاله، وانما اصطفاهم تبليغ رسالته لعباده، وجَعَلَهم قدوةً صالحة للناس في العمل لما جاؤا به من هدى وفضيلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏189- 190‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏189‏)‏ فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏190‏)‏‏}‏

ليسكن اليها‏:‏ ليأنس بها ويطمئن إليها‏.‏ تغشّاها‏:‏ باشرها في الاتصال الجنسي، وهو من التعابير القرآنية المهذَّبة‏.‏ فمَرَّت به‏:‏ استمرت بالحمل ولم تُسقطه‏.‏ اثقلت‏:‏ حان وقت الولادة‏.‏ صالحا‏:‏ ولد سوياً تام الخلقة‏.‏

فيه هاتين الآيتين تمثيل لطبع الإنسان وكيف انه‏:‏ إذا نزل به ما يكره، أو أراد الحصول على ما يجب- اتلجأ الى الله يتضرع، ويقطع على نفسه العهود والمواثيق ان يشكر الله ويطيعه اذا حقق له ما يريد، فاذا تمّ له ما طلب تولى مُعرِضا ولم يوفِ بالعهود والمواثيق‏.‏

هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل زوجها من جنسها، وكانا يسكنان معا فلما قاربَ الذكرُ الانثى عَلِقت منه‏.‏ وكان الحمل في اول عهده خفيفا لا تكاد تشعر به، فلما ثقل الجنين دعا الزوج والزوجة ربهما قائلَين‏:‏ والله لئن رزقتنا ولدا سليما تام الخلقة، لنكونن من الشاكرين لنعمائك‏.‏ ونالا ما طلبا، لكنهما جعلا الأصنام شركاء في عطيته الكريمة، وتقربا إليها بالشكر، والله وحده هو المستحق لذلك فتعالى اللهُ يُشِركون‏.‏

وهناك بعض الروايات المأخوذة من الاسرائيليات تنسب هذه القصة لآدم وحواء وهذا خلط وتخريف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏191- 198‏]‏

‏{‏أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏191‏)‏ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏192‏)‏ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ‏(‏193‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏194‏)‏ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏195‏)‏ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ‏(‏196‏)‏ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏197‏)‏ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏198‏)‏‏}‏

افتُتحتْ صورة الأعراف بدعوة القرآن إلى دين التوحيد والأمر باتّباع ما انزل الله والنهي عن اتّباع من دونَه، وتلاه التذكير بنشأة الانسان الاولى في الخلق والتكوين، والعداوة بينه وبين الشيطان، ثم اختتمت بهذه المعاني، وفيها التذكير بالنشأة الاولى والنهي عن التشِرك‏.‏ والآية ههنا تتساءل‏:‏

هل يصحّ ان يشركوا مع الله أصناماً لا تقدِر أن تخلُق شيئا من الاشياء، بل هي أضعف مخلوقاته‏!‏ ان الخلق والأمر لله، هو وحده يخلق كل شيء‏.‏

ولا تستطيع هذه الاصنام ان تنصر من يعبدونها، بل حتى ان تردّ الأذى عن نفسها اذا تعدى عليها احد‏.‏

وإنْ تدْعوا ايها العبادون لغير الله هذه الاصنام طالبين ان ترشدكم الى ما تحبون، فإنها لن تجيبكم‏.‏ ان دعاءكم إياها وعدمه سواء، فهي لا تنفع ولا تضر، ولا تهدي ولا تهتدي‏.‏ أما الرب المعبود الذي بيده كل شيء فهو الله‏.‏

ثم بالغ في الردّ عليهم واثبت أنّها أحط منزلة من الناس، ووبخهم على عبادة تلك الحجارة والاصنام، فقال‏:‏

‏{‏أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

بل ان هذه الاصنام اقل منكم في الخلق والتكوين، فهل لهم ارجل يمشون بها‏؟‏ او أيدٍ يدفعون بها الضر عنكم وعنهم‏؟‏ او اعين يبصرون بها‏؟‏ او حتى آذان يسمعون بها ما تطلبون منهم‏؟‏ ليس لهم شيء من ذلك، فكيف تشركونهم مع الله‏؟‏

وهذ التحديث للمشركين ليبني جهلهم وعجز آلهتهم، وقد تحداهم في اكثر من آية ولهم عجز هذه الآلهة‏.‏ من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏‏.‏

وبعد ان تحدى المشركين وآلهتهم قال لهم‏:‏ ان الله هو مولِّي أمري وناصري، الذي نزّل عليّ القرآن، وهو وحده الذي ينصر الصالحين من عباده

ثم اكّد هذا التحدي بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ولاا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ‏}‏ وقد تقدم هذا في الآية 192، وجاء التكرار ليؤكد ان هذه الأصنام لن تناله بأذى وأنها أعجزُ من أن تنصر أحداً‏.‏

وبعد ذلك أضاف‏.‏‏.‏‏.‏ وإن تسألوهم الهدايةَ إلى ما فيه خيركم لا يسمعوا سؤالكم، وإنّك يا محمد لتراهم ينظرون إليك، وهم في الحقيقة ولا يَرَوْن شيئا، لأنهم مجرد حجارة وتماثيل لا حياةَ فيها ولا حِسّ‏.‏