فصل: تفسير الآيات رقم (47- 48)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏47‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

كرر الله تذكيرهم بالنعم التي أنعمها عليهم، ومن أكبرها انه فضهلم في ذلك على العالمين‏.‏‏.‏ لأنهم أهل التوحيد فيما غيرهم أهل شِرك‏.‏ كلنهم لم يشكروا هذه النعم، فوبخهم الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ‏}‏، فبيّن لهم سمات ذلك اليوم الشديد الهول حيث يقف الناس للحساب وتنقطع الأسباب‏.‏ آنذاك تبطُل منفعة الانسان، وتتحول سنّة هذه الحياة من انطلاق الانسان واختياره ليدفع عن نفسه بالعدل والفداء أو الشفاعة عند الحكام‏.‏ ان ذلك اليوم يختلف عن أمر الدنيا، وتضمحل فيه جميع الوسائل الا ما كان من عمل صالح‏.‏

‏{‏وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ‏}‏ اي ليس لهم من يمنعهم من العذاب‏.‏

وقد كان اليهود يعتقدون ولا يزالون أنهم، بدعوى انتسابهم للأنبياء لا يدخلون النار أو لا تمسّهم النار الا أياماً معدودة لأن لهم الجاه والتأثير يوم القيامة، كما أن أحبارهم يشفعون لهم، بل يمكنهم ان يخلّصوا مجريهم بشتى الوسائل التي يستخدمونها في الدنيا‏.‏‏.‏ فجاء الاسلام وسفّه هذه العقيدة وعلّمنا انه لا ينفع في ذلك اليوم الا مرضاة الله بالإيمان والعمل الصالح الذي يتجلى في أعمال الجوارح‏.‏

ونأتي الى معنى شفاعة النبي عامٌ لا يخص بها أشخاصاً معينين، وهي كما قال ابن تيمية «دعء يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم فيستجيبه المولى جلّ وعلا»، وهذا خلاف ما يعتقده اليهود كما مر آنفاً، انطلاقا من دعوى أنهم شعب الله المختار استناداً الى ما جاء في كتبهم من هراء وكذب‏.‏

القراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏ولا تقبل منها شفاعة‏}‏ بالتاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 53‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏49‏)‏ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏50‏)‏ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏51‏)‏ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏52‏)‏ وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

في هذه الآيات تعداد لنعم الله تعالى على بني اسرائيل ومننه الكثيرة، فيقول تعالى‏:‏ واذكروا من نِعَمنا علكيم أن أنجيناكم من ظلم فرعون وأعوانه الذين كانوا يذيقونكم أشد العذاب، فإنهم كانوا يذبحون الذكور من أولادكم تحسّباً من أن ينازعهم في حكم البلاد، ويبقون الإناث ليتخذوهن جواري لهم‏.‏ وفي هذا العذاب والتعرض للفناء بلاء شديد من ربكم لكم واختيار عظيم‏.‏

وفرعون لقبٌ لمن ملك مصر قبل البطالسة، مثل كسرىعند الفرس وقيصر عند الروم، وتُبَّع في اليمن، والنجاشي في الحبشة‏.‏

واذكروا كذلك من نعم الله عليكم أننا شققنا من أجلكم البحر وفصلنا بضعه عن بعض لتسيروا فيه، فتتخلصوا وتنجوا من ملاحقة فرعون وجنوده‏.‏‏.‏ هكذا جوتم، كما انقمنا لكم من عدوكم فأغرقناه أمام أبصاركم‏.‏

وهذه القصة من خوارق العادات ومن معجزات الأنبياء التي يؤيدهم اللهن بها حين يرسلهم‏.‏ وخوارق العادات جائزةٌ عقلا، وهي خاضعة لارادة الله وفق النواميس الطبيعية التي وضعها سبحانه وتعالى، لكن تفسيرها هو الذي يبدوا خارقاً‏.‏ فالحق أن السنن والقوانين الكونية لا تحكُم على واضعها ومبررها بل هو الحاكم المتصرف فيها‏.‏

واذكروا حين واعد ربُّكم موسى أربعين ليلة لمناجاته، وتلقى التوراة‏.‏ فلما ذهب موسى الى معياده، بعد اجيتاز البحر سألتموه أن يأتيكم بكتاب من ربكم، فلمّا أبطأ علكيم اتخذتم عِجْلاً من ذهبٍ وعبدتموهن من دون الله‏.‏ بذلك عدتم الى كفركم والإشراك في الله‏.‏ يومذاك كان الذهب هو ربكم، فبئس ما تفعلون‏.‏

أما العجل فقد اتسعاروهن من عبادة الكنعانيين‏.‏

والمراد بهذه الآيات هو تذكير أحفادهم بالنعمة وبيان كفرهم بها‏.‏ وذلك ليظهر أن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ليس بغريب منهم، بل هو معهود فيهم‏.‏ وهو دليل على أنهم عبيد المادة يجرون وراءها، هذا ديدنهم منذ أول أمرهم الى الآن‏.‏ ومن فعلَ من الأمم الأخرى فقد اكتسب بعض صفاتهم‏.‏‏.‏ إنه تهوّد‏.‏

ثم عفَونا عنكم ومحونا عقوبتكم أملاً في ان تنصلح حالكم ولعلّكم تشكرون ربكم على عفوه عنكم، وفضله عليكم، وتشجيعاً لأن تداوموا على طاعة الله ورسله‏.‏

واذكروا حين أنعمنا عليكم فأنزلنا على نبيكم موسى كتاباً من عندنا جعلناه يفرّق بين الحق والباطل، ويبين لكم الحلال من الحرام‏.‏ وذلك لكي تسترشدوا بنور هذا الكتاب وتهتدوا من الضلال باتباع ما جاء فيه‏.‏

القراءات‏:‏

قرأ نافع، وابن كثير، وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «واعدنا» والباقون «وعدنا»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

ما زال السياق في الكلام على بني إسرائيل‏.‏ واذكر أيها الرسول الكريم قول موسى لقومه يوم عبدوا العِجل حين كان غائباً عنهم يناجي ربه‏:‏ يا قومي ظلمتم أنفسكم باتخاذمكم عجل السامريّ معبوداً من دون الله، فتوبوا الى خالقكم وارجعوا عن هذه الجريمة، فاقتلوا أنفسكم ندماً على فعلتكم وتكفيراً عن معصيتكم‏.‏

روي ان موسى لما رجع من ميقات ربه، رأى ما صنع قومه بعده من عبادة العجل، فغضب غضباً شديداً، ورمى بالألواح من يده، ثم أحرق العجل الذي صنعوه‏.‏ ثم قال‏:‏ من كان من حرب الرب فليُقبل إلي، فأجابه بنو لاوي، فأمرهم أن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضا‏.‏ وانها لكفارة عنيفة، وتكليف مرهق كان لا بد منه لتطهُر تلك النفوس الشريرة المنغمسة في عبادة المادة المتجسدة بالعجل الذهبي‏.‏ واذ فعل بعضهم ما أمر به موسى قُلبت توبتهم وتدراكتهم رحمة الله الت تسع كل شيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

واذكروا نعمتي عليكم يوم سألتم وقلتم له‏:‏ اننا لن نصدّقك في قولك إن هذا كتاب الله، وأنك سمعت كلامه حتى نرى الله عياناً‏.‏ حنيذاك انقضّت عليكم صاعقة من السماء زلزلتكم جزاء عنادكم واظلمكم وأنتم تنظرون‏.‏ قال المفسرون‏:‏ ان الذين طلبوا رؤية الله هم السبعون الذين اختارهم موسى لميقات الله كما جاء في سورة الأعراف‏.‏ آية 154‏.‏

‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين‏}‏

فالحادثة واحدة هنا مختصرة وفٌصلت وشرحت في الأعراف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

الظاهر من لفظ الآية ان الله بعثهم بعد ان أماتهم‏.‏ وهذا رأي بعض المفسرين‏.‏ والبعض الآخرة يرى ان الصاعقة التي أصابتهم صعقتهم حتى صاروا كالأموات، ثم لمّا طلب موسى من ربه العفوَ‏.‏‏.‏ أفاقوا من غَشيتِهنم ليشكروا الله على نجّاهم وعفا عنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

ثم يذكّرهم تعالى بما أفاء عليهم من النعم‏:‏ ومن فضلِنا عليكم أننا جعلنا السحاب لكم كالظُلَّة يصونكم من حر الصحراء التي انتم بها‏.‏ وأنزلنا عليكم المنّ، وهو طعام لذيذ حلو كالعسل كان ينزل مع ندى الصباح فيلتقطونه بسهولة، وكان لهم بدل الخبز‏.‏ اما السلوى فهو طائر لحمه لذيذ يعرف بالسُّمّان، كان يأتيهم أسراباً كثيرة‏.‏

فلم يشكروا هذه النعم بل كفروا بها‏.‏ ولما كان كفرهم لا يضر الله وانما يضرهم هم‏.‏ فقد جاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

القرية‏:‏ قيل إنها بيت المقدس‏.‏ الرغد‏:‏ الهنيء والسعة من العيش‏.‏ الجز‏:‏ العذاب‏.‏

اذكروا يا بني اسرائيل حين قلنا لكم ادخلوا الأرض التي فيها تلك القرية التي عينها لكم موسى، فكلوا مما فيها وعيشوا راغدين‏.‏ ادخلوا من بابها خاشعين، وقولوا حُطّ عنا يا ربنا ذنوبنا، فاذا فعلتم ذلك غفرنا لكم ذنوبكم، وللمحسنين منكم عندنا زيادة‏.‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وهكذا خالف الضالمون أمر بهم وبدّلوا ما أُمروا به بالإحجام عن طاعة الأوامر، استهزاءً بالجزاء، فأنزل الله على الظالمين منهم عذابا من فوقهم‏.‏‏.‏ جزاء لهم على فسقهم وخروجهم على أوامر ربهم‏.‏

القراءات‏:‏

قرأ نافع «يغفر» بالياء‏.‏ وقرأ ابن عامر «تغفر» بالتاء على البناء للمفعول‏.‏ وقرئ «رُجزا» بضم الراء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

عثا يعثو عثوا عثيا‏:‏ أفسد أشد الافساد‏.‏ وكذلك عَثيَ يعثى‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

واذكروا يوم طلب موسى من ربه السقيا لكم حين اشتكم بكم العطش في التيه‏.‏ فقلنا له اضرب بعصاك حجراً من أحجار الأرض‏.‏ ويرى المفسرون أن في ذلك اشارة الى حفر الأرض لا مجرد الضرب بالعصا‏.‏ فضربه، فنبع الماء منفجرا في اثني عشر مسرباً، على عدد أسباط بني اسرائيل، وتعين لكلم سبط منهم مشربٌ خاص حتى لا يقع بنيهم نزاع وخصام‏.‏

وقال لهم الله تعالى على لسان نبيه‏:‏ الآن كلوا من المنّ والسلوى واشربوا من هذا الماء العذب وأنتم في هذه الصحراء المجدبة، ولا تنشروا الفساد في الارض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

الصبر‏:‏ حبس النفس عن الشيء‏.‏ البقل من النبات‏:‏ ما نبيت من البذور‏.‏ القثاء‏:‏ الفقوس‏.‏ الفوم‏:‏ الثوم‏.‏ الأدنى‏:‏ الدون الأخس‏.‏ الهبوط الى المكان‏:‏ النزول اليه والحلول به‏.‏ الصر‏:‏ البلد العظيم‏.‏ المسكنة‏:‏ الفقر‏.‏ باؤا بغضب‏:‏ استحقوا الغضب‏.‏

واذكروا أيها اليهود أفعال أسلافكم يوم سيطر عليهم البطر حيث كانوا في صحراء مجدبة لا شيء فيها فأنعم الله عليهم بالماء والمن والسلوى والغمام يظللهم، وكان قد أخرجهم من ديار الذل والاضطهاد ومع كل هذا فإنهم يتضجّرون فيقولون لنبيهم‏:‏ اننا لا نطيق قَصر طعامنا على صنف واحد هو المن والسلوى‏.‏ فاسأل ربك أن يخرج لنا ممن تنبت الأرض من الخضر البقول الحبوب‏.‏ اذ ذاك تعجّب مسى من ذلك وأنكروه عليهم فقال لهم أتفضّلون هذه الأصناف على ما هو أفضل وأحسن‏!‏ اذن اتركوا سيناء وادخلوا مدينة من المدن فانكم ستجدون فيها ما تريدون‏.‏ لكنهم جبنوا عن ذلك‏.‏ ومن ثم دهمهم الفقر والخنوع والذلة، واستحقوا غضب الله عليهم جزاء الكفر والعناد والعصيان‏.‏

القراءات

قرئ‏:‏ «اهبُطوا» بضم الباء وهو جائز لغة‏.‏ ويقول ابن جرير الطبري‏:‏ اهبطوا مصرا «، بالألف والتنوين هي القراءة التي لا يجوز غيرها لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين، واتفاق قراءة القراء على ذلك‏.‏

وقد جاء في مصحف ابن مسعود» مصر «بدون تنوين‏.‏ وهذا لا يعتمد لأن الصحابة أجمعوا على مصحف عثمان وتركوا ماعداه‏.‏ والفرق في معنى القراءتين واضح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

بعد ان ذكر جرائم اليهود، وبين ما نالهم من غضب الله جزاء ما اقترفوا من الأعمال السيئة والكفر وقتل الأنبياء، والبطر والتمرد ومخالفة الشرائع قرر سبحانه وتعالى في هذه الآية ان كل من آمن به وباليوم الآخر واتبع طريق الهدى من المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين، وكان موحداً لا يبعد الأصنام، وعمل صالحاً فان له ثواب عمله الصالح‏.‏ وهؤلاء لا خوف عليهم يوم القيامة‏.‏ ولاهم يحزنون اسفاً على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وزينتها‏.‏ ان لهم ما يعدهم الله من نعيم مقيم عنده‏.‏

وكل هذا قبل البعثة المحمدية‏.‏ أما بعدها فقد تقرر شكل الايمان الأخير‏.‏

القراءات‏:‏

قرأ نافع وحده «الصابين» بالياء بدون همزة‏.‏

والصابئون قوم يقرون بالله وبالمعاد وبعض الأنبياء، لكنهم يعتقدون بتأثير النجوم والافلاك ف يالخير والشر وتصريف مقدّرات الانسان‏.‏ ولذا فهم أقرب الى الشِرك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

الطور‏:‏ الجبل المعروف‏.‏ الميثاق‏:‏ العهد‏.‏

واذكروا حين أخذنا على أسلافكم العكهد بالعمل بتوراة موسى وقلنا لهم خذوا ما آتيانكم بجد ومواظبة على العمل بما فيه، ورفعنا فوقكم الجبل كالمظلَة كل ذلك لعلكم تتقون بايمانكم وعملكم العذابَ والخسران يوم القيامة‏.‏‏.‏ فأعرضتم بعد ذلك كله، فاستحققتم العذاب، ولكن فضل الله عليكم ورحمته أبعده عنكم‏.‏ ولولا ذلك لخسرتم سعادة الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏65‏)‏ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

الاعتداء‏:‏ تجاوز الحد في كل شيء‏.‏ القرد‏:‏ الحيوان المعروف‏.‏ الخاسئ‏:‏ المبعد المطرود من رحمة الله، الذليل‏.‏ النكال‏:‏ العقوبة، نكل تنكيلا ونكالا‏.‏ الموعظة‏:‏ التذكرة، وعظ يعظ وعظا وموعظة‏.‏

من تشريع موسى لليهود ان لا يعملوا يوم السبت، أي يوم الراحة والعبادة، لكن اليهود كما هو معهود بهم لا يثبتون على عهد ولا يطيعون الا أهواءهم‏.‏

هنا يذكّر الله اليهود الذي على زمن النبي وفي كل زمان ويقول لهم‏:‏ لقد علمتم بلا ريب خبر أسلافكم الذين تجاوزوا الحد في السبت بأن صادوا السمك فيه، وهو يوم راحة وعيد العملُ فيه محرم، لذلك مسخناهم وصيّرناهم مبعدين عن الخير أذلاّء صاغرين، مطرودين كالكلاب الخاسئين‏.‏

والمسخ كما يقول الطبري عن مجاهد مسخٌ مجازي، أي‏:‏ انه ما مُسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم، فلا تقبل وعظاً، ولا تعي زجراً‏.‏ وهذا ما أكده ابن كثير حيث قال‏:‏ الصحيح ان المسخ معنوي كما قال مجاهد‏.‏

‏{‏فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً‏}‏ اي فجعلنا هذه العقوبة عبرة رادعة للمخالفين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 73‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏67‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ‏(‏68‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏71‏)‏ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏72‏)‏ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

الهزؤ‏:‏ السخرية‏.‏ فارض‏:‏ كبيرة انقطعت ولادتها‏.‏ بكر‏:‏ صغيرة لم يركبها الفحل‏.‏

عوان‏:‏ نَصَف بين الكبيرة والصغيرة‏.‏ فاقع‏:‏ ناصع شديد الصفرة‏.‏ الذلول‏:‏ المدرب الذي عُوّد على العمل‏.‏ تثير الارض‏:‏ تقلبها وتهيئها للزراعة‏.‏ مسلمة‏:‏ خالية من العيوب‏.‏ لا شية فيها‏:‏ لونها واحد ليسي فيها ألوان مختلفة‏.‏ والشية‏:‏ العلامة‏.‏ ادّارأتم‏:‏ اختصتم، وتدافعتم بأن قال بعضكم أنتم القتَلة وقال الآخرون بل أنتم‏.‏

في هذه الآية يقص علينا تعالى موضوعاً يبين فيه تعنت اليهود، ومما حكتهم واستهزاءهم بأوامر الله، وتعجيزهم لنبيهم، وتنطعهم بالدين‏.‏ وأصل القصة ان جريمة قتل وقعت في بني إسرائيل ولم يعرف القاتل‏.‏ فأتوا الى مسى يطلبون حكمه فيها فقال لهم‏:‏ ان الله تعالى يأمركم ان تذبحوا بقرة ليكون ذلك مفتاحاً لمعرفة القاتل‏.‏ فقالوا‏:‏ أتسخر منا يا موسى‏!‏ فقال‏:‏ أعوذ بالله ان أكون من الجاهلين‏.‏ وهنا بدأ تعنتهم اذ قالوا‏:‏ اطلبت لنا من ربك ان يبين لنا لون هذه البقرة‏.‏ فأجابهم موسى‏:‏ ان الله تعالى يقول انها بقرة صفراء لونها فاقع تسر الناظرين لصفاء لونها ووضوحه‏.‏ ثم لجّوا في سؤالهم فقالوا‏:‏ ادعُ لنا ربك يبين شأن هذه البقرة، لأن البقر كثير وقد تشابه علينا‏.‏ فقال لهم ان الله يقول انها بقرة لم تذلل بالعمل في حرث الارض وقلبها للزراعة، ولم تعمل في سقي الارض، وهي مسلَّمة بريئة من العيوب ليس فيها آية علامة أو لون آخر‏.‏ فقالوا‏:‏ الآن جئت بالبيان الواضح، وأخذوا يبحثون عن البقرة التي بهذه الصفات‏.‏ ووجدوها عند أيتام فقراء فاشتروها بأضعاف ثمنها ثم ذبحوها، وما كادوا يفعلون ذلك لكثرة أسئلتهم وطول لجاجهم‏.‏

ثم يأتي الى القصد الاول من ذبح البقرة‏.‏ وهني قوله‏:‏ قتل بعضكم نفساً فود كل منكم ان يدفع عن نفسه التهمة، وتخاصمتم في ذلك، والله يعلم الحقيقة وهو كاشفها ومظهرها مع أنكم تكتمونها‏.‏

فقلنا على لسان موسى‏:‏ اضربوا التقيل بجزء من هذه البقرة، فلما فعلتم أحيا الله التقيل وذكر اسم قالته ثم سقط ميتا‏.‏‏.‏ وتلك معجزة من الله لنبيه موسى، والله على كل شيء قدير‏.‏

جمع المفسرين مجمعون على أن ضرب القتيل كان بجزء من البقرة وإن اختلفوا في تعيين ذلك الجزء‏.‏ ومعرفة هذا الجزء لا تنقص ولا تزيد

في قدر المعجزة، وانما هي علم لا يفيد أحدا‏.‏

وقد خالف المرحوم عبدالوهاب النجار في تفسير «اضربوه ببعضها» في كتابه قصص الأنبياء ص 259262 وقال‏:‏ المراد بعض أجزاء التقيل‏.‏ يعني ان يضرب المتهم بجزء من جسم القتيل، هذا ما نفهم من كلامه وهو يقول‏:‏ ان قصة ذبح البقرة منفصلة عن قصة القتل‏.‏ وكل واحدة على حدة‏.‏ أما المراد بذبح البقرة فهو أن بني إسرائيل كانوا مع المصريين الذين يقدسون البقر‏.‏ وكانت فيهم بقية من هذا التقديس بدليل أنهم عبدوا تمثال العجل، فكان لا بد لاقتلاع هذه البقية من نفوسهم تكليفهم ذبح البقرة، فكان لذلك الأمرُ بالذبح، وكان لذلك المجادلة والتلكؤ منهم، فذبحوها وما كادوا يقومون بالذبح‏.‏ والرأي هنا أقرب الى التعليل المنطقي لا مجرد التفسير‏.‏

ويريكم آياته وهي الإحياء وما اشتمل عليه من الأمور البديعة من ترتيب الحياة على الضرب بعضو ميت، وإخبارُ الميت بقاتله مما ترتتب عليه الفصل في الخصومة وازالة أسباب الفتن العداوة لعلكم تفقهون أسباب الشريعة وفائدة الخضوع لها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

القسوة‏:‏ الجفاء والغلطة والصلابة‏.‏ قست‏:‏ جفَت وغلظت‏.‏ يتفجر‏:‏ يخرج بشدة ويسيل‏.‏

يتشقق‏:‏ يتصدع‏.‏ يهبط‏:‏ ينزل ويتردى من خوف الله‏.‏

وصف الله بني اسرائيل في ذلك الزمان، وبعد ان رأوا الكثير من آيات الله التي عددها، بقساوة القلوب، وضعف الوازع الديني فيها، حتى أصحبت أشد من الحجارة قساوةً لأن بعض الحجارة يتشقق فيخرج منه النهر الخيّر والماء الزلال النافع، وبعضها يخرّ من خشية اللة لو كان له عقل مثل بني الانسان‏.‏ أما هذه القلوب فلم تتأثر بالعظات والعبر ولم تنفذ الى أعماقها النذر والآيات‏.‏ ما الله بغافل عما تعملون، فهو يُحصيه عليكم ثم يجازيكم بألوان من النقم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

انتقل الكلام هنا من مخاطبة اليهود في شأن أجدادهم الى الحديث مع المسلمين، فقد كان النبي شديد الحرص على دخول اليهود في الاسلام، لأن أصل الدينين واحد من حيث التوحيد والتصديق بالعبث، فافتتح الكلام بهذه الجملة الاستفهامية‏:‏ افتطمعون ان يؤمنوا لكم‏.‏‏.‏‏؟‏ أبعد كل ما قصصناه يطمع طمع طامع في ايمان هؤلاء القوم وهم الوارثون لذلك التارخي الملوث‏؟‏

ثم يقص علينا من مساوئ أفعال اليهود واقاويلهم في زمان البعثة زهاء عشرين سبباً لا تبقي مطمعاً لطامع في ايمانهم‏.‏

وهو لايدع زعماً من مزاعمهم الا قفى عليه بالرد والتفنيد، وقد بدأ هذا الوصف بتقسمهم فريقين‏:‏ علماء يحرّفون كلام الله ويتواصون بكتمان ما عندهم من العلم لئلا يكون حجة عليهم، وجهلاء أميين هم ضحايا التلبيس الذي يأتيه علماؤهم‏.‏ فمن ذا الذي يطمع في صلاح أمة جاهلها مضلَّل باسم الدين وعالمها مظلِّل يكتب من عنده ويقول هذا من عند الله‏!‏

لذلك ينبهنا الله الى انه‏:‏ ما كان ينبغي لكم أيها المؤمنون ان تطمعوا في ان يؤمن اليهود بدينكم، وقد اجتمعت في مختلف فرقهم اشتاب الرذائل‏.‏ ان احبارهم يسمعونن كلام الله ويفهمونه ثم يحرّفونه عمداً‏.‏ واذا لقي اناس منهم أصحاب النبي قالوا لهم كذباً‏.‏ ونفاقاً أنّا آمنا كإيمانكم وان محمداً هو الرسول الذي بشّرت به التوراة، فاذا خلا بعضهم الى بعض عاتبهم الباقون منهم على قولهم السابق، خشية ان يكون ذلك حجة على اليهود قاطبة يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 79‏]‏

‏{‏أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏77‏)‏ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏78‏)‏ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

هل غاب عن هؤلاء الذين يلومون غيرهم ويكتمون من صفات النبي ما يكتمون ويحرّفون كلام الله ان الله يعلم ما يُسِرون من كفرٍ ومكيدة وما يعلنون من اظهار الايمان ومن هؤلاء اليهود أميّون جهلة لا يعرفون شيئاً، ولا يعرفون عن التوراة الا الأكاذيب تنفق مع أمانيّهم حسب ما رسمه لهم أحبارهم‏.‏

والأماني جمع أمنيَة‏.‏ وهي في الاصل ما يقدّره الانسان في نفسه، ولذلك تطلق على الكذب وعلى ما يُتمنى وما يُقرأ‏.‏ وعلى ذلك يكون المعنى‏:‏ انهم يعتقدونن أكاذيب أخذوهنا تقليداً من المحّرفين، أو مواعيد فارغة سمعوها منهم، كقولهم ان الجنة قصرٌ على اليهود وحدهم وان النار لن تمسّهم الا أياماً يتركونها بعدها الى الجنة‏.‏

‏{‏وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏}‏ أي وما هو الا قوم قصارى أمرهم الظن الواهي دون علم ولا فهم‏.‏ ومع هذا فهم أكثر الناس جدلاً في الحق، وأشدهم كذباً وغرورا‏.‏

‏{‏فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

الويل‏:‏ الهلاك، اي هلاك وعذاب كبير لهؤلاء الأحبار الذين يكتبون من عندهم ثم يقولون للأميين هذه هي التوراة التي جاءت من عند الله‏.‏ كل هذا الافك ليصلوا من ورائه الى أغراض تافهة قليل‏.‏ فالحق أثمن الأشياء وأغلاها‏.‏

وقد جنى أحبار اليهود ثلاث جنايات‏:‏ تغيير صفة النبي صلى الله عليه وسلم، والافتراء على الله، وأخذ الرشوة، فهددهم الله على كل جناية بالويل والثبور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 81‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏80‏)‏ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

وهنا جعل يبين منشأ اجترائهم على كل موبقة، وهو غرورهم بزعمهم ان النار لن تمسهم الا اياماً معدودات‏.‏ فقل لهم يا محمد، ومن باب دحض الدعوى‏:‏ أين البرهان على ما تزعمون‏؟‏ ثم ينقصه الحق تعالى ببيان مخالفته لقانون العهد الإلَهي الذي لا يعرف شيئاً من الظلم، ولا المحاباة‏.‏

المس‏:‏ واللمس بمعنى، وهو اتصال الشيء بالبشرة بحيث تتأثر الحاسة‏.‏ العهد‏:‏ الخبر أو الوعد‏.‏ بلى‏:‏ لفظ يجاب به بعد كلام منفي سابق‏.‏ الكسب‏:‏ جلب المنفعة، وهنا يراد به التهكم‏.‏ السيئة‏:‏ الفاحشة‏.‏

يزعم اليهود أنهم سيعذَّبون بالنار اربعين ليلة وذلك عدةُ أيام عبادتهم للعجل، وزعم بضعهم ان النار ستمسُّهم سبعة أيام فقط‏.‏ وهنا يرد الله تعالى عليهم افتراءهم ويسألهم‏:‏ هل تعاهدتم مع الله على ذلك‏.‏ فاطمأننتم لأن الله لا يخلف عهده معكم‏؟‏ ثم يؤكد أن‏:‏ من كسَب سيئةً وأحاطت به خطيئةٌ وفأولئك أصحابُ النار هم فيها خالدون «‏.‏

فحْكم الله نافذ في خقله لا فرق بين يهودي وغيره الا بما كسبت يداه‏.‏

القراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وحفص‏:‏ اتخذتم باظهار الذال‏.‏ وقرأ الباقون بالادغام‏.‏ اتخذتم‏.‏ وقرأ نافع‏:‏» خطيئاته «وقرئ خطيته وخطياته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

بيَن سبحاه هنا ان الّذين أطاعوا وصدقوا وعملوا صالح الأعمال سيدخلون الجنة ينعمون بما أعطاهم الله‏.‏ وقد جرت سنة الله في كتابه العزيز ان يتبع الوعيد بالوعد حتى يستبشر الذين آمنوا ولا يقنطوا من رحمة الله وتلك حكمة بارزة من لدنه‏.‏ ويظهر من سياق الآية أن الإيمان وحده لا يكفي اذ يقول‏:‏ ‏{‏والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ فالإيمان يجب ان يقترن بالعمل به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

الميثاق‏:‏ العهد الشديد‏.‏ اليتيم‏:‏ من لا أب له‏.‏ المسكين‏:‏ من سكنت يده عن العمل، العاجز عن الكسب‏.‏

بعد ما بسطت الآيات السابقة ما انعم الله به على بني اسرائيل جاء الكتاب هنا يبين أهم ما أُمر به أسلافهم من عبادات وكيف كانوا يُصمّون أسماعهم عن سماع دعوى الحق‏.‏

فأول شيء وأهمه دعاؤهم الى عبادة الله، وحده ثم الاحسان الوالدين‏.‏ ويترتب على ذلك ترابط ا لاسرة وتماسكها‏.‏ فالأمة مكونة من مجموع الأسر والبيوت، وصلاح الأمة بصلاح الأسرة‏.‏ وقد أكد القرآن على ترابط الأسرة، والحفاظ عليها، وتقويتها من برِّ الوالدين أولاً‏.‏ ثم ذوي القربى، ثم الاحسان الى اليتامى بحسن تربيتهم وحفظ حقوقهم من الضياع‏.‏

ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنا وكافلُ اليتيم في الجنة» رواه البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي عنه سهل بن سعد‏.‏ وفي رواية‏:‏ «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» وأشار بالسّبابة والوسطى‏.‏ فهل بعد ذلك منزلة أكبر‏!‏

ثم قالت تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً‏}‏ فبعد ما أمر بالإحسان الى الوالدين والاقربين والمساكين واليتامى أمرنا، اذا لم نستطع أن نحسن الى جميع الناس بالفعل، فلنُحسن العِشرة، اذ ان الكلمة الطيبة صدقة كما ورد في الحديث الصحيح‏.‏

ثم بعد ذلك قال‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة‏}‏ وهنا لم يقل «صلّوا» بل قال أقيموا الصلاة، أي صلوها على أحسن وجوهها‏.‏ وهاتان فريضتان من أهم الفرائض التي تنقّي النفوس من الأدران‏.‏ فاذا صلحت النفوس صلَح المجتمع بأسره‏.‏

ثم ماذا حصل بعد ان أخذ الميثاق على أسلاف بني إسرائيل‏؟‏ الذي حصل أنهم تولوا وأعرضوا ونقضوا الميثاق الا قليلا منهم أذعن للحق‏.‏

القراءات

قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم ويعقوب‏:‏ «لا تعبدون» بالتاء الفوقية، وقرأ الباقون‏:‏ «لا يعبدون» بالياء‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب‏:‏ «حَسَنا» والباقون «حُسنا» وقرئ‏:‏ «حُسُنا» بضمتين‏.‏ و«حسنى» كبشرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 86‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏84‏)‏ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏85‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

السفك‏:‏ اراقة الدماء‏.‏ التظاهر‏:‏ التعاون‏.‏ الأثم، العدوان‏:‏ تجاوز الحد في الظلم‏.‏

ذكّر الله بني اسرائيل في الآية السابقة بما أُمروا به من عبادة الله وحده والاحسان الى الوالدين وذوي القربى، وان يعاشروا الناس جميعاً بالحسنى‏.‏‏.‏ ثم بيّن أنهم لم يطيعوا ما أُمروا به وتولَّوا وهم معرضون‏.‏ وهنا يمضي السياق فيقص علينا عن حال اليهود، مواقفهم التي تجلى فيها العصيان ويذكّرهم بأهم الأمور التي نُهوا عنها وقد أخذ الله عليهم العهد باجتنابها‏.‏

والخطاب هنا لليهود في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كانوا في المدينة ثلاثة أحياء‏:‏ بنو قينقاع، وبنو النضير، حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس‏.‏ وكان العداء بين الأوس والخزرج مستحكما، فهم في أغلب الأحيان في حرب دائمة‏.‏ اذ ذاك كان يقاتل كلُّ فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه وبينهم اليهودي من الفريق الآخر‏.‏

وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله‏.‏ وكانوا يخرجونهم من ديارهم اذا غُلب فريقهم وينهبون أموالهم ويأخذون سباياهم‏.‏ وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله معهم‏.‏ ثم اذا انتهت الحرب يَفدون الأسارى ويفكّون أسر المأسورين من اليهود، عملاً بحكم التوراة‏.‏

هذا هو التناقض الذي يواجههم القرآن، وهو يسألهم باستنكار شديد ‏{‏أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ‏}‏‏؟‏ ان الكتاب ينص على تحريم القتل والاخراج من الديار وأنتم تنقضون ذلك‏.‏ لذا فان الله يتوعدهم بالخزي في الحياة الدنيا، وأشد العذاب في الآخرة‏.‏ وذلك أنه آثروا أعراض الدنيا الزائلة على نعيم الآخرة الدائم‏.‏ فلن يخفَّف عنهنم عذاب جنهم، ولن يجدوا من ينقذهم منه‏.‏

القراءات‏:‏

قرأ عصام وحمزة والكسائي‏.‏ «تظاهرون» بحذف احدى التاءين وقُرئ «تتظاهرون» بهما معاً‏.‏ وقرأ حمزة «أسرى» جمع أسير كجريح وجرحى‏.‏ وقرا ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر‏:‏ «تفدوهم» وقرأ عاصم في رواية المفضل «تردون» بالتاء‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية ابن بكر وخلف ويعقوب «يعلمون» بالياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 88‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ‏(‏87‏)‏ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

قفّيناه‏:‏ أتبعناه‏.‏ البينات‏:‏ الحجج الواضحة‏.‏ أيدناه‏:‏ قويناه‏.‏ روح القدس‏:‏ جبريل‏.‏ غلف‏:‏ ومفرده أغلف‏:‏ المغطى المقفل الذي لا يفقه ما يقال‏.‏

ولقد أعطينا موسى الكتاب، أي التوراة، ثم أَتبعنا من بعده الرسل يعلّمونكم شرائع الله، وأعطينا عيسى بن مريم المعجزات الباهرة، وقويناه بروح القدس الذي يمدّه بالوحي من عندنا وهو جبريل، فلم يكن حظه بأحسن من حظ سابقيه‏.‏

ثم بين الله تعالى ما كانت حظ الرسل من بني اسرائيل فقال‏:‏ أفكلّما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفكسم استكبرتم عن اتّباعه وبغيتم في الارض، ففريقاً كذبتموه، وفريقاً قتلتموه‏!‏‏!‏ هكذا كان موقفهم من أنبيائهم‏.‏ بعد ذلك كله قالوا‏:‏ ان قلوبنا مغلقة لا تنفذ اليها دعوة جديدة، كدعوة محمد، فلا نكاد نفقه شيئاً مما يقول‏.‏

ولم تكن قلوبهم كما يزعمون، لكنهم استكبروا وآثروا الضلالة على الهدى‏.‏‏.‏ فلعنهم الله أي طردهم عن الهدى بسبب ذلك «فقليلاً ما يؤمنون» اي سبب هذا الطرد‏.‏

القراءات‏:‏

قرئ «آيدناه» بمد الألف وفتح الياء بدون تشديد وقرأ ابن كثير «القدس» باسكان الدال في جميع القرآن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 91‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏90‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

يستفتحون‏:‏ يستنصرون‏.‏ اشتروا‏:‏ باعوا‏.‏ البغي‏:‏ الفساد‏:‏ بغضب‏:‏ رجعوا محّملين بالغضب‏.‏ مهين‏:‏ مذل‏.‏ بما وراءه‏:‏ بما سواه‏.‏

كل هذا القصص الذي يقصه الله عن بني اسرائيل للمسلمين انما يُقصد به تحذيرهم من الوقوع في مثله، حتى لا تُسلب منهم الخلافة في الارض‏.‏ والامانة التي ناطها الله بهم‏.‏

‏{‏وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ هذه الآية مرتبطة بالآية السابقة‏.‏‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏‏.‏ ولما جاء رسولنا محمد بالقرآن، وهو كتاب من عند الله مصدّق لما أُنزل عليهم من التوراة، وعرفوا من التوراة نفسها صدق ما فيهن كفروا به عناداً وحسداً‏.‏ وذلك لأن من جاء به رسول من غير بني اسرائيل‏.‏

روى كثير من الصحابة ان الأوس والخزرج تغلبوا على اليهود، وأذلّوهم زمن الجاهلية فكانوا يقولون للعرب‏:‏ إن نبيّاً الآن مبعثُه قد أظلّ زمانه، يقتلكم قتل عادٍ وإرمَ‏.‏ وكان اليهود يستفتحون به على الكفار، يعني يستنصرون به، ويقولون‏:‏ اللهمّ ابعث هذا النبي الذي نجده في التوراة‏.‏ فلما بعث الله محمداً كفروا به‏.‏ وقد قال لهم مُعاذ بن جبَل وبشرْ بن البراء‏:‏ يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شِرك، وتخبروننا انه مبعوث، وتصِفونه بصفاته‏.‏ فقال له سلام بن مشكم بن النضير‏:‏ ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالّذي كنا نذكره لكم‏.‏ فأنزل الله تعالى في ذلك‏:‏ «ولما جاءهم، الآية‏.‏‏.‏‏.‏» ومعنى «مصدق لما معهم»‏:‏ موافق له في التوحيد وأصول الدين والايمان بالبعث واليوم الآخر‏.‏

‏{‏بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ ساء ما باعوا به أنفسهم، حين اختاروا الكفر على الايمان، حسداً أن يأتي نبي من غير اليهود، منكِرين على الله أن يكون له مطلق الخيرة في ان يوحي لمن يشاء من عباده‏.‏

واذا قيل لهم، أي اليهود المعاصرين للنبي في الحجاز، صدِّقوا بما أنزل الله من القرآن على محمد وابتعوه، قالوا‏:‏ نحن نؤمن بما أُنزل علينا من التوراة فحسب‏.‏‏.‏ مع ان القرآن مصدق لما معهم من التوراة‏.‏ وعلى هذا يكون كفرهم بهذا الكتاب المصدق لما في كتابهم كفراً بكتابهم نفسه‏.‏

ثم يخاطب الله الرسول الكريم بقوله تعالى‏:‏ قل يا محمد لليهود، لمَ كنتُم تقتلون أنبياء الله في الماضي مع أنهم دعوا الى ما انزل عليكم‏؟‏ إنّ قتلكم للأنبياء دليل قاطع على عدم ايمانكم برسالتهم‏.‏

القراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب «ان ينزل» بالتخفيف، والباقون «ان ينزّل» بالتشديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

ولقد جاءكم موسى يا معشر اليهود بالآيات الواضحة المعجزات الناطقة بصدقه، والعصا التي تحولت ثعبانا، يدهِ التي أخرجها بيضاء للناظرين‏.‏ وبالمنّ والسلوى وغيرها‏.‏‏.‏ فكفرتم كفراً صريحاً ورجعتم الى الشِرك وموسى حيّ بينكم وبمجرد غيابه عنكم لمناجاة ربه‏.‏

لقد اتخذتم العجل إلهاً وعبدتموه رجوعاً منكم الى وثنتيكم السابقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

واذكروا اذ أخذنا عهودكم بأن تأخذوا ما آتيانكم من التوراة بقوة، فتعلموا بما فيها من أمري، وتنتهوا عما نهيتكم عنه، لكنكم لما رأيتم ما فيها من تكاليف شاقة‏.‏ استثلقتم اعباءها وارتبتم فيها‏.‏ فأريناكم على صدق هذا الكتاب آيةً بالغة اذ رفعا جبل الطور فوقكم حتى صار كأنه ظُلَة، وظننتم انه واقع بكم‏.‏ عند ذاك اعلنتم الطاعة والقبول، وقلتم آمنا وسمعنا، لكن أعمالكم ظلت تكشف عن عصيانكم وتمردكم وتشير الى ان الايمان لم يخالط قلوبكم‏.‏ وكيف يدخل الايمان قلوبكم‏.‏ وقد شُغفت بحب المادة والذهب الممثلة في العجل الذي عبدتموه‏!‏

قال يا محمد ليهود بني اسرائيل الحاضرين الذي يتبعون أسلافهم‏:‏ بئس ما يأمركم به ايمانكم ان كان يأمركم بقتل الأنبياء والتكذيب بكتبه، وجحود ما جاء من عنده‏.‏

ثم أمر الله نبيه الكريم ان يتحداهم في ادّعائهم صادق الإيمان، وكامل اليقين فقال‏:‏ قل إن كانت‏.‏‏.‏ الآيات 9496

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 96‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏94‏)‏ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏95‏)‏ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

انْ صدَقَ قولكم فيما زعمتم من ان الله خصّكم وحدكم بالنعيم بعد الممات، وان الجنة نلكم لا يدخلها الا من كان يهودياً، وانكم شعب الله المختار فتمَّنوا الموت الذي يوصِلكم الى ذلك النعيم‏.‏ فامتَنعوا من اجابة النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم يعلمون حقاً ان دعواهم مجرد كذب‏.‏ ولعلمِهم بأنهم ان فعلوا ذلك فالوعيد نازل بهم، فهم في الواقع لا يرغبون في الموت أبدا‏.‏

بل إنك يا محمد لتجدَنّهم احرص الناس على الحياة، بل إنه أكثر امن حِرص المشركين الذين لا يؤمنون ببعث ولا جنة‏.‏ ولذلك يود أحدهم ان يبقى على قيد الحياة ألف سنة أو أكثر‏.‏ والحق ان طول حياته لن يبعده عن عذاب الله والله بصير بما يعملون‏.‏ فالمرجع اليه، والأمر كله بيديه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 98‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏97‏)‏ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

«روي ابن جرير في تفسير ان عصابة من اليهود حضرت عند الرسول الكريم فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم، حدِّثنا عن خلالٍ نأسلك عنهم لايعلمهن الا نبي‏.‏ فقال‏:‏ سلو عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه‏:‏ لئن أنا حدثتكم شيئاً فعرفتموه لتتابعُنّي على الاسلام‏.‏ فقالوا‏:‏ ذلك لك‏.‏ فلما سألوه وأجابهم وعرفوا انه صادق، قالوا‏:‏ حدثْنا من وليّك من الملائكة، وعندها نتابعك أو نفارقك، لو كان وليك سواه ن الملائكة لتابعناك وصدّقناك‏.‏ قال‏:‏ فما يمنعكم ان تصدقوه‏؟‏ قالوا‏:‏ انه عدوُّنا ينزل بالعذاب والنقمة ويأتي بالشدة وسفك الدماء‏.‏ ولون ان ميكائيل كان ينزل عليك لتابعناك وصدّقناك، لأنه ينزل بالحرمة والغيث» فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ‏}‏، لأن جبريل ما يجيء بهذا الكتاب من عنده واينما ينزله بأمر الله‏.‏ وكل هذه حجج ومعاذير واهية اعتذروا بها عن الايمان بمحمد عليه السلام، ولاتصلح ان تكون مانعة من الايمان بكتاب‏.‏ انزله الله جامعٍ لكل صفات شريفة‏.‏

القراءات

قرأ حمزة وال الكسائي «جبريل»، وقرأ ابن كثير «جبريل» بفتح الجيم وكسر الراء، وقرأ عاصم برواية أبي بكر «جبريل»، وقرأ الباقون «جبريل» كقنديل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 100‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ‏(‏99‏)‏ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

نبذة‏:‏ طرحه، نقضه‏.‏ الفريق‏:‏ الجماعة لا واحد له من لفظه‏.‏

ثم يتجه الخطاب الى الرسول عليه السلام ليُثبّته على ما أنزل اليه من الآيات البينات مقررا انه لا يكفر بهذه الآيات الا الفاسقون من علماء بني اسرائيل وأحبارهم‏.‏

وكما تذبذبوا في العقيدة والايمان، تذبذبوا كذلك فيما يبرمونه من عهود، فكانوا كلما عادهوا النبي والمسلمين عهدا نقضه فريق منهم، لأن معظمهم لا يؤمنون بحرمة عهد ولا بقداسة ميثاق‏.‏ وهذا ليس بغريب، فهو من صلب تعغاليم تلمودهم‏.‏ وأساسُ ما وضعه أحبارهم ان كل من عاداهم ليس له حرمة، ولا ذمة، ولا يجوز أن يُبْرَم معه عهد‏.‏ كذلك لا يرجى ايمان أكثرهم، لأن الضلال قد استحوذ عليهم، كما ان غرورهم بأنفسهم وتجبرّهم قد جعلاهم في طغيانهم يعمهون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 103‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏102‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

السحر‏:‏ ما لطف مأخذه وخفي سببه‏.‏ وسحره‏:‏ خدعه، ويقال أحيانا للشيء المعجب أو الحديث اللطيف‏.‏ وقد جاء في الحديث «ان من البيان لسحرا»‏.‏

لما جاء محمد صلى الله عليه وسلم الى اليهود، وهو رسول من الله اليهم والى الخلق كافة، مصدقاً لما معهم من التوراة التي فيها أوصافه ومتفقاً مع ما في التوراة من أصول التشريع، كالتوحيد بالله، والأخذ بجميع القيم نبذ فريق من اليهود القرآن وراء ظهورهم، أي جحدوه وأعرضوا عنه كأنهم لا يعلمونه‏.‏ وما ذا عملوا بعد ذلك‏!‏ لقد آثروا السِّحر واتبعوا ما يقصُّهع الشياطين عن عهد سليمان، ما يضللون به الناس من دعاوةى مكذوبة، كزعمهم ان سليمان كان ساحراً، وانه سخر الانس والجن عن طريق السحر الذي يستخدمه‏.‏ ما كفَر سليمان وما كان ساحراً بل رسولاً من عند الله‏.‏ ولكن الشياطين هم الذين كفروا وتقوّلوا على سليمان هذه الأقاويل وأخذوا يعلّمون الناس السحر من عندم‏.‏

‏{‏وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ‏}‏ في هذه الآية تفسيرات، فبعض المفسرين يقول ان معناها‏:‏ ولم ينزل الله على هاروت وماروت في بابل أيَّ سحر‏.‏ ويكون المعنى‏:‏ واتَّبعة الذي تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا‏.‏‏.‏‏.‏

وقال بعضهم وهم أكثرون‏:‏ يكون المعنى السحرَ الذي أُنزل على الملكين ببابل هاروت وما روت‏.‏ مع ان هذين الملكين ما كانا يعلّمان احداً حتى يقولا له انما نعلّمك ما يؤدي الى الفتنة والكفر فاعرفه ولا تعمل به‏.‏

ومن هنا أخذ بعض العلماء جواز تعلُّم السحر للعلم به وعدم العمل به‏.‏

ولكن الناس لم ينتصحوا بهذه النصيحة التي كان الملكان يقولانها لهم فاستخدموا ما يتعلّمون منهما وجعلوا يفرقون به بين المرء وزوجه‏.‏ وما هم بضارّين به من احد الا باذن الله‏.‏ وهذه قاعدة عظمى يقررها القرآن وهي‏:‏ ان الضرر والنفع بإذن الله‏.‏

ولا يزال في وقتنا هذا مع ما تقدم العلم به من أبحاث كثيرٌ من السحر والشعوذة وغير ذلك من التنويم المغناطيسي، والتلبثة‏.‏ ونحن نجد كثيراً من الناس يملكون خصائق لم يكشف العلم عن كنهها بعد‏.‏ ولقد رأيت كثيراً من هؤلاء المنوِّمين يأتون بالعجب العجاب، وقرأت الكثير من القصص عن أناس عندهم خصائص عجيبة‏.‏ وكل ما استطاع العلم ان يقوله تجاه هذه الأمور وهذه القوى انه اعترف بها وأعطاها أسماء، ولكنه عجز عن تفسيرها‏.‏ وصدق الله العظيم‏:‏ ‏{‏وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏‏.‏

أما من هما الملكان‏:‏ هاروت وما روت‏؟‏ وهنل هما رجلان حقيقة‏؟‏ فلا يوجد خبر صحيح يثبت شخصيتهما أو حقيقة جنسهما‏.‏ وانما كانت قصتهما معروفة مشهورة ووردت في القرآن اشارات مجملة عنها، ولنسا مكلفين بالاستقصاء عنهما والأفضل عدم البحث في ذلك‏.‏

القراءات‏:‏

قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «ولكن الشياطين كفروا» بتخفيف النون من لكن، ورفع الشياطين‏.‏ وقرأ الباقون «ولكنّ» بالشديد ونصب الشياطين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 105‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏104‏)‏ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏105‏)‏‏}‏

يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم من هؤلاء اليهود فلا تقولوا حينما يتلو الرسول عليكم الوحي ‏(‏راعنا‏)‏ رغبة في أن يجعلكم موضع رعايته، ويتمهل عليكم في تلاوته حتى تعوا القرآن وتحفظوه، لأن خبثاء اليهود يتظاهرون في ذلك ويستعملون كلمة «راعنوا»، ومعناها «شرّنا أو شرير»، فيلوون ألسنتهم بهذه الكلمة حتى تصير مطابقة للفظ شتيمةٍ ويوجهونها للرسول الكريم ليسخروا منه فيما بينهم‏.‏ ولكن اسعمِلوا كلمة اخرى لا يجد اليهود فيها مجالاً لخبثهم وسخريتهم فقولوا‏:‏ «أنظرنا»‏.‏ واسمعوا جيداً لما يتلوه علكيم‏.‏

وللكافرين يوم القيامة عذاب أليم‏.‏ واعلموا ان هؤلاء الكافرين والمشركين لا يحبون ان يأتكيم أي خير من ربكم‏.‏ والله سبحانه وتعالى يختص برحمته من يشاء من عباده‏.‏ وقد خصكم بهذا الكتاب العظيم الذي جمع به شملكم، وظهر عقولكم من زيغ الوثنية، والله ذو الفضل العظيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 108‏]‏

‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏106‏)‏ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏107‏)‏ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏108‏)‏‏}‏

النسخ في اللغة الازالة، يقال‏:‏ نسخت الشمس الظل‏:‏ أزالته‏.‏ الإنساء‏:‏ اذهاب الشيء من الذاكرة‏.‏ الولي‏:‏ الصديق‏.‏ النصير‏:‏ المعين‏.‏ يتبدل‏:‏ يُبدل‏.‏ يستبدل‏.‏ ضل‏:‏ حاد عن الطريق المستقيم‏.‏ السواء، من كل شيء‏:‏ الوسط‏.‏ السبيل‏:‏ الطريق‏.‏

في هذه الآيات ردٌّ على اليهود الذين كانوا يطعنون في الاسلام والقرآن والنبي عليه الصلاة والسلام‏.‏ وكانوا لا يتركون فرصة دون أن يعترضوا ويحاولوا تشويه الحقائق‏.‏ فكانوا يقولون‏:‏ ما بال هذا النبي يأمر قومه بام ثم يبدله بعد ذلك‏؟‏ فردَ الله تعالى عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ‏}‏ أي ما نغير حكم آية او نؤخرها الا أتينا بما هوخير منها‏.‏ وذلك لمصلحة الناس واظهار الدِّين‏.‏ كل هذا من الله‏.‏ القادر على كل شيء والذي له ملك السماوات والارض، يتصرف فيه كيف يشاء، وحسب مصلحة عباده‏.‏ فلا تتعنتوا كما فعل اليهود من قبلكم حين سألوا رسولهم موسى ان يأتيهم بأشياء مستحيلة‏.‏ وفي هذا نصيحة وتأديب للمسلمين ان يعملوا با يأمرهم به نبيهم الكريم، وينتهوا عما ينهاهم عنه‏.‏ أما من لا يتأدب‏.‏ بل يترك الثقة بالبينات المنزلة حسب المصلحة، ويطلب غيرها فقد اختار الكفر واستحبَ العمى على الهدى‏.‏

القراءات‏:‏ قرأ ابن عامر‏:‏ ما نُنسخ من أنسخ الرباعي‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ننسأها» اي نؤخرها‏.‏ وقرئ «تنسها»‏.‏ و«تنسها» بالبناء للمفعول‏.‏ وقرأ ابو عمرو «ناتِ» بدون همزة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 110‏]‏

‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏109‏)‏ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

العفو‏:‏ ترك العقاب على الذنب‏.‏

الصفح‏:‏ الإعراض عن المذنب‏.‏ وهو يشمل العقاب وترك اللوم‏.‏

الخطاب للمؤمنين تحذيراً من بعض أحبار اليهود مثل كعب بن الاشرف، وحييّ بن أخطب‏.‏ وأبي ياسر بن أخطب وأمثالهم الذين كانوا أشد الناس عداوة للإسلام ولنبيّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

بعد ان عرض الله حالة المنافقين والكافرين وناقش اليهود مناقشة طويلة، ثم أدّب المؤمنين كيف يخاطبون النبي وعلمهم ان التعاليم والأوامر المنزلة من عند الله بعضُها عُرضة للغير والتبديل حسب المصلح جاء هنا يحذّر جماعة المسلمين من ان كثيرا من الهيود يودون ان يردوهم عن الاسلام حسدا لهم، بعد ان تبين لليهود من كتابهم نفسه ان المسلمين على الحق‏.‏ وذلك لأنهم يخشون ان ينتقل السلطان منهم ويفلت من ايديهم‏.‏ بعد هذا يعلم القرآن المسلمين الأخلاق العظيمة فيأمرهم سبحانه بضبط النفس وان يعاملهم بالرفق واللين‏.‏ كما وعدهم بأنهم ان تحلّوا بهذه الأخلاق فانهم منصورون‏.‏ وأكد ذلك بقوله ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ فالله هو القادر على أن يهبكم من القوة ما تتضاءل دونه جميع القوى، فتتغلبوا على من يناوئكم‏.‏

ثم ذكر عز وجل بعض الوسائل التي تحقق النصر الذي وعدهم به فقال‏:‏

‏{‏وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة‏}‏ حافِظوا على شعائر دينكم، فأقيماو الصلاة على أحسن وجه من الخشوع وأداء اركانها، واعطوا الزكاة الى أهلها‏.‏ بهذه الأعمال الطيبة ينصركم الله إنه عالم بجميع أعمالكم، لا تخفى عليه من أمركم خافية وهو مجازيكم عليها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 112‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏111‏)‏ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

الأماني‏:‏ جمع امنية‏:‏ وهي كل ما يتمناه المرء ولا يدركه‏.‏ البرهان‏:‏ الججة والدليل‏.‏ من اسلم وجهه‏:‏ تعبير عن الايمان والاخلاص له والعلم بأوامهر‏.‏ بلى‏:‏ حرف يأتي ردا للنفي‏.‏

في هاتين الآيتين يبين الله تعالى دعوى كل من اليهود والنصارى في ان الجنة لهما ولأتباعهمنا فقط‏.‏ تلك أمانيّهم، وهي لا تتعدى ان تكون كذباً يزعمونه دون دليل‏.‏ فقولوا لهم‏:‏ هاتوا دليلكم ان كنتم صادقين‏.‏ والواقع انه يدخل الجنة من لم يكن يهوديا ولا نصراينا اذا آمن بالله وأخلص نفسه له وابتع أوامره‏.‏ ذلك ان رحمة الله لا تختص بشعب ولا ملّة ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

ومن العجيب ان اليهود يكذّبون النصارى ويعادونهم‏.‏ والنصارى يكذبون اليهود ويعادونهم‏.‏‏.‏ والجميع من أهل الكتاب‏.‏ وهم يتلون الكتاب‏:‏ التوراة والانجيل‏.‏ والكتابان من عند الله ولكن المطامع الشخصية‏.‏ والتعصب الاعمى جعلاهم يكفّر بعضهم بعضاً‏.‏ ومن يقرأ التلمود يجد فيه أمورا بشعة قذرة في وصف المسيح عليه السلام‏.‏ من ذلك قوله‏:‏ «يسوع المسيح ا رتد عن الدين اليهودي وعبد الاوثان، وكل مسيحي لم يتهود فهو وثني عدو لله ولليهود‏.‏‏.‏» وفيه أقوال تقشعر منها الأبدان‏.‏ وكذلك النصارى يتهمون اليهود بالكفر والخروج عن دين الله‏.‏ ولا أدري كيف يقولون ذلك مع ان المسيح عليه السلام يقول في الانجيل‏:‏ جئت لأتم الناموس لا لأنقُصه‏.‏ وكذلك قال الوثنيون من قبلهم بأنهم هم وحدهم الذين على الحق‏.‏ وكل هذه الأقوال باطلة‏.‏ وليس مثل الاسلام في صراحته وسعة أفقه، فهو يصدق بالأديان السماوية ويعتبرها، ويؤمن بكتبها الحقيقة قبل ان يطرأ عليها التحريف‏.‏ ما أعظم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملاائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏‏.‏ هذا هو الاسلام وهذه هي عظمته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏114‏)‏‏}‏

في هذه الآية انذار كبير وتحذير مخيف لكل من يمنع احدا من عبادة الله او يصد الناس عن دخول المساجد لأداء عباداتهم، أو من يسعى في خرابها‏.‏ والمنى‏:‏ أي امرئ أشد تعدياً وجرأة على الله ممن يفعل شيئاً من هذه المعاصي‏!‏ ان لهؤلاء في الدنيا خزياً ولهم في الآخرة عذاب عظيم‏.‏ وهذا انذار عام يصدُق على كفار قريش حين منعوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من دخول مكة وتأدية العمرة عام الحديبية، كما يصدق على كل من عمل على تعطيل مسجد أو حالَ دون أداء شعائر الله فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏115‏)‏‏}‏

قال بعض المفسرين‏:‏ نزلت هذه الآية قبل الأمر بالتوجه الى استقبال الكعبة في الصلاة‏.‏ وفيها إبطال لما كان يعتقده أرباب المِلل السابقة من ان العبادة لا تصح الا في المعابد، لأن الله موجود في كل مكان‏.‏ انه رب المشارق والمغارب‏.‏ ثم شُرعت بعد ذلك القبلة الموحدة، وجعلت الكعبة رمزاً لذلك‏.‏ ولا يزال بعض مفهوم هذه الآية سارياً الى الآن على من لم يعرف أين القبلة‏.‏

والذي يرجحه ابن جرير في تفسيره ان هذه الآية ليست منسوخة بل ان حكمها باق ومعمول به على أساس انه «اينما تولّوا وجوهكم في حال سيركم في أسفاركم، في صلاتكم التطوّع وفي حال مسايفتكم عدوَّكم، في تطوعكم ومكتوبكم، فثم وجه لله» وفي هذا توسيعك كبير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 117‏]‏

‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ‏(‏116‏)‏ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏117‏)‏‏}‏

قانتون‏:‏ خاضعون، طائعون‏.‏ بديع السماوات‏:‏ مبدعها، خالقها ومخترعها‏.‏

في هاتين الآيتين انتقال الى موضوع جديد، هو نسبة الولد الى الله، فقد قال اليهود‏:‏ عُزَير ابن الله، وقالت النصارى‏:‏ المسيح ابن الله‏.‏ وقال المشركون قديما‏:‏ الملائكة بنات الله‏.‏

وهنا ينفي سبحانه هذا كله فيقول‏:‏ ان له كل ما السماوات والأرض، ومن كان هذا شأنه، وجميع ما في الكون مسخر لأمره، فهو ارفع من ان يحتاج الى نسل او يتخذ ولدا‏.‏ وكيف يتخذ ولدا من أبدع هذا الكون العجيب بما فيه من سماوات وأرض ونجوم وكواكب، وقد اذعن كل ما فيه لإرادته، واذا أراد أمراً فاما يقول له‏:‏ كن فيكون‏؟‏‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 119‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏118‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ‏(‏119‏)‏‏}‏

الذين لا يعلمون‏:‏ مشركوا العرب والجهلة من أهل الكتاب‏.‏

ولق أمعنوا في عنادهم فطلبوا من الرسول آية حسّية أو يكلمهم الله بنفسه‏.‏ وهكذا طلبت الأمم السابقة من أنبيائهم، فقد قال بنو اسرائيل لموسى‏:‏ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهارا‏.‏ وطلب أصحاب عيسى اليه اني ينزل عليهم مائدة من السماء‏.‏ اما نحن فقد بيّنّا للناس الآيات على يديك يا محمد، بما لا يدع مجالاً للريب لدى طالبي الحق بالدليل والبرهان‏.‏

ثم يلتفت تعالى الى الرسول الكريم فيخاطبه بما معناه‏:‏ «إنّا ارسنلاك بالشيء الثابت الذي لا تضل فيه الأوهام وجعلناك بشيراً لمن اطاع بأنه من الفائزين، ونذيراً لمن عصى انه من الكافرين الجاحدين‏.‏ فلا عليك إن أصرّوا على الكفر والعناد، فانك لن تُسأل عن أصحاب الجحيم‏.‏ فأنت لم تُبعث ملزماً ولا جبارا، وانما بعثت معلماً وهادياً بالدعوة والأسوة الحسنة‏.‏ وفي هذا تسلية للنبي الكريم لئلا يضيق صدره‏.‏

القراءات‏:‏

قرأ نافع ويعقوب‏:‏ ‏{‏ولا تسأل عن أصحاب الجحيم‏}‏ بالنهي‏.‏ والباقون‏:‏ «لا تسئلُ»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏120‏)‏‏}‏

الملة‏:‏ الطريقة، الدين، الشريعة، جمعها ملل‏.‏ الاهواء‏:‏ جمع هوى، وأهل الأهواء أهل البدع، قال السيد الجرجاني «الهوى ميلان النفس الى ما تستلذ من الشهوات من غمير داعية للشرع»‏.‏ ولا يستعمل في الغالب الا فيما ليس بحق وفيما لا خير فيه‏.‏

كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على ان يبادر أهلُ الكتاب الى الايمان به، فكبُر عليه إعراضهم عن اجابة دعوته، مع انها موافقة لأصول دينهم‏.‏ وهنا يخاطبه الله تعالى بأنهم لن يرضوا عنه ابدا‏.‏ فيقول له‏:‏ لا ترهق نفسك في استرضاء المعاندين من اليهود والنصارى، فان هؤلاء لن يرضوا عنك حتى تتبع دينهم الذي يزعمون انه هو الصواب‏.‏ ولا يوجد هدى حقيقي الا ما أنزل الله على أنبيائه وماأنزلتُه عليك من الاسلام‏.‏ لا ما أضافه اليهود والنصارى من تحريف وتغيير حتى فرّقوا دينهم وكانوا شيعا‏.‏ ولئن اتبعتَ أهواءهم وما أضافوا الى دينهم وجعلوه أصلاً م أصول شريعتهم فان الله لن ينصرك أو يساعدك على ذلك‏.‏ وهذا انذار شديد الى الرسول الكريم الذي عصمه الله من الزيغ والزلل، ولكنه في الحقيقة موجه للناس كافة‏.‏ وقد جاء الكلام هنا على هذا الأسلوب الشديد ليرشد من يأتي بعده ان يصدع بالحق ولا يبالي بمن خالفه مهما قوي حزبه واشتد امره‏.‏ فمن عرف ان الله ناصره لا يخاف انكار المعاندين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏121‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

يذكر الله سبحانه في هذه الآية ان هناك فريقاً من أهل الكتاب يرجى ايمانهم، وهم الذين يتدبرون كتابهم ويتبعون ما جاء فيه من الحق فيؤمنون به، ولا يحرّفونه عن موضعه‏.‏ وقد آمن منهم جماعة وكانوا من خيرة الصحابة كعبدالله بن سلام‏.‏ أما من يكفر بما أُنزل اليك يا محمد بعد ان تبيَّّن له الحق فأولئك هم الذين خسروا سعادة الدنيا ونعيم الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏122- 123‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏122‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

هذه الآية عظة من الله تعالى لليهود في عصر الرسول الكريم، وتذكير لهم بما سلف من نعمة الله على آبائهم بانقاذهم من أيدي عدوهم، واعطائهم كثيرا من النعم‏.‏ فخاطبهم على هذه الصورة‏.‏

يا بني اسرائيل، اذكروا نعتمي عليكم وانقاذي اياكم من أيدي عدوكم فرعون وقومه، وانزالي عليكم المنَّ والسلوى في تهيكم، واختصاصي الرسل منكم، وتفضيلي اياكم على غيركم ممن كانوا في ذلك الزمان‏.‏‏.‏ وذلك كله حتى يترك اليهود المعاصرون للرسول تماديهم في الغي والضلال ويثوبوا الى رشدهم‏.‏ ثم يورد الآية التي بعدها «واتقوا يوما‏.‏‏.‏» ترهيبا منه للذين وعظهم بالآية التي قبلها‏.‏ فيقول‏:‏ اتقوا يا معشر بني اسرائيل، المبدّلين كتابي وتنزيلي، المحرفين تأويله عن وجهه، المذكبين برسولي محمد عذا يوم لا تجزىي فيه نفس عن نفس شيئا، ولا يشفع فيما وجب عليها شافع، ولا يمنعها احد من عذاب الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

الابتلاء‏:‏ الاختبار‏.‏ الكلمات‏:‏ التكاليف من أمر ونهي وتشريع‏.‏‏.‏

أتَمَّهن‏:‏ قام بهن خير قيام‏.‏

واذكر يا محمد لقومك المشركين وغيرهم ان الله تعالى اختبر ابراهيم ببعض الأوامر والنواهي، فقام بما امره خير قيام، فقال له‏:‏ اني جاعلك للناس رسولا يقتدى بهديك‏.‏

قال ابراهيم‏:‏ واجعل من ذريتي أئمة يقتدى بهم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ أجبتك على ما طلبت، ولكن عهدي بالإمامة لا يناله الظالمون، فهم لا يصلحون ان يكونوا قدوة للناس‏.‏ ذلك ان الإمامة الصالحة لا تكون الا لذوي النفوس الفاضلة‏.‏ وفي الآية اشارة الى انه سيكون من ذريته الابرار والفجار‏.‏

القراءات‏:‏ قرأ ابن عامر‏:‏ ابراهام بالألف جمع ما في هذه السورة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏125- 126‏]‏

‏{‏وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏125‏)‏ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏126‏)‏‏}‏

البيت‏:‏ الحرم المكي‏.‏ مثابة‏:‏ مرجعا يثوب اليه الناس‏.‏ مقام ابراهيم‏:‏ هو الحجر الذي كان يقوم عليه حين بناء الكعبة‏.‏ وقيل ان الحرم كله مقام ابراهيم‏.‏

عهد‏:‏ وصّى‏.‏

في هذه الآيات يأتي الحديث عن ابراهيم واسماعيل، وعن البيت الحرام وشعائره، لتقدير الحقائق الخالصة في ادعاءات اليهود والنصارى والمشركين جمعيا حول النسب الذي يمتُّ به ويحترمه أهل الكتاب ومشركوا العرب، وهو ملة ابراهيم ونسبه الى عقيدة المسلمين‏.‏

اذكروا قصة بناء ابراهيم مع ابنه اسماعيل لبيت الله الحرام بمكة، اذ جعلنا هذا البيب للخلَف ملاذا ومأمنا، واذ امرنا الناس ان يتخذوا منه مكاناً يصلّون فيه‏.‏ وعهدنا الى ابراهيم واسماعيل، اي وصيناهم، بتطهير البيت، وان يصوناه من كل رجس معنوي كلاشرك بالله وعبادة الأصنام، أو رجس حسي كاللغو والرفث والتنازع فيه، وقت اداء العبادات‏.‏ كما أوصيناهما ان يجعلاه مهيَّأً للناس للطواف والصلاة والسعي‏.‏

ومقام ابراهيم الذي جاءت الاشارة اليه كان ملاصقاً للكعبة، وكان الحجاج أثناء الطواف يتزاحمون عنده، وربما حدث كثير من الانزعاج لبعضهم، مما حدا بالمسئولين ان يستفتوا العلماء لإبعاده قليلا‏.‏ وقد افتى بذلك جمهور من العلماء فتمت زحزحته عن مكانه‏.‏ وهناك من المفسرين من يقول‏:‏ مقام ابراهيم هو الحرم جميعه، سماه الله بيته لأنه أمر المصلّين ان يتوجهوا في عبادتهم اليه‏.‏ والحكمة في ذلك ان الناس في حاجة الى التوجه الى خالقهم لشكره والثناء عليه، لكنهم يعجزون عن التوجه الى «ذات مجردة» لا تنحصر في جهة، فعيّن الله لهم هذا البيت المقدس نسبة اليه‏.‏

واذكروا اذا طلب ابراهيم الى ربه ان يجعل مكة، البلد الحرام، بلداً آمنا، وان يرزق مَن يحل فيه من ثمرات الأرض وخيراتها‏.‏ هذا ما طلبه ابراهيم، فأجابه الله تعالى اليه‏.‏ اما من كفر فإني انا العلي القدير، أُمتِّعه في هذه الحياة الدنيا القصيرة الأمد ثم أسوقه الى عذاب النار يوم القيامة‏.‏

القراءات‏:‏

قرأ نافع وابن عام‏:‏ «اتخذوا» بلفظ الماضي‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ «فأمتعه» من أمتع الرباعي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏127- 129‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏127‏)‏ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏128‏)‏ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏129‏)‏‏}‏

القاعدة‏:‏ ما يقوم عليه البناء من أساس‏.‏ الأمة‏:‏ الجماعة‏.‏ والمناسك‏:‏ جمع منسك العبادة، وأصبحت شائعة في عبادة الحج‏.‏ الكتاب‏:‏ القرآن‏.‏ الحكمة‏:‏ كلمة معامة تجمع معاني العلم والعدل والحلم وكل أنواع المعرفة التي تجعل المرء حكيما يسلك طريق السداد‏:‏ ويزكيهم‏:‏ يطهر نفوسهم من دنس الشرك والمعاصي‏.‏

بعد ما مر من الآيات التي نوهت بالحرم والبيت، وان الله جعله بلدا آمناً تجبى اليه الثمرات انتقل التنويه الى ان الذي بنى ذلك البيت هو ابراهيم بمعنونة ولده اسماعيل‏.‏

وكانا يدعوان بقولهما‏:‏ ربنا تقبّل منا هذا العمل الخالص لوجهك الكريم، إنك انت السميع لدعائنا؛ العليم بنيّاتنا في جميع اعمالنا‏.‏

وفي الآية اشارة الىأن كل من عمل عملاً صالحاً أو أدى فريضة مقررة وابتهل الى الله بالدعاء طالبا القبول فإنَّه لا يرده خائبا‏.‏

ربنا واجعلنا مخلصين لك بأن لا نتوجه بقلبنا الا اليك، ولا نستعين بأحد الا بك، ولا نقصد بعملنا الا مرضاتك‏.‏ واجعل من ذريتنا جماعة مخلصة لك، وعلّمنا طريقة عبادتنا الصحيحة لك في بيتك المحرم وما حوله، في الحج وغيره، ووفّقنا للتوبة انك تقبل توبة عبادك وتغفر لهم بفضل من رحمتك‏.‏

ربنا وابعث في ذريتنا رسولاً منهم، يقرأ آياتك، ويعلّمهم ما تُنزل من الوحي، ويبصّرهم بكل علم نافع وشريعة قويمة، ويطهرهم من ذميم الأخلاق، إنك انت القوي الذي لا يُغلب، ولا يناله ضيم، والعزيز الحكيم الذي يفعل ما تقتضيه الحكمة والعدل والصلاح‏.‏

وقد أجاب الله دعاءهما وأرسل فيهم محمداً عليه الصلاة والسلام من ذرّية اسماعيل، فكوّن من العرب بفضل الاسلام أُمة كانت خير الأمم‏.‏ واذا كانت هناك الآن وحدة اسلامية عامة أو شيء يشبه هذه الوحدة، فإنما هي بفضل القرآن وُجدت وبفضل القرآن ستبقى، مهما تختلف الظروف وتدلهمّ الخطوب‏.‏ فالقرآن هو أساس هذه الوحدة الجديدة كما كان أساسا للوحدة القديمة‏.‏ والعرب أجدر ان يفهموه وينفذوه، فقد نزل فيهم، وأنزل بلغتهم، واتّجه اليهم أول ما أُنزل‏.‏