فصل: تفسير الآيات رقم (53- 57)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 57‏]‏

‏{‏قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏53‏)‏ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏54‏)‏ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏55‏)‏ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ‏(‏56‏)‏ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

طوعا‏:‏ باردتهم‏.‏ كرها‏:‏ من غير ارادتهم‏.‏ تزهق انفهسم‏:‏ تخرج بصعوبة‏.‏ يَفرقون‏:‏ يخافون بشدة‏.‏ ملجأ‏:‏ مكان يتحصنون به‏.‏ مغارات‏:‏ جمع مغارة، معروفة‏.‏ مدخلا‏:‏ سربا في الارض يدخله الانسان بدة‏.‏ يجمعون‏:‏ يسرعون اسرعا لا يردهم شيء‏.‏ يقال جمع الرجل‏:‏ ركب هواه فلا يرده شيء‏.‏

‏{‏قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ‏}‏‏.‏

بعد ان بيّن الله تعالى أعذار المنافقين الكاذبة، تعللاتِهم الباطلةَ في التخلُّفِ عن الجهاد، وما يجول في نفوسِهم من كراهتهم للرسول اصحابه، وأنهم يتربَّصون بهم الدوائر- بيَّن هنا أنّ بعضَ هؤلاء المتربِّصين من المنافقين قد عَرَضَ ماله، وهو يعتذر عنه الجهاد، فردَّ الله عليهم مناورتهم، وكلّف رسوله ان يعلن ان إنفاقَهم غيرُ مقبولٍ عند الله قل ايها الرسول للمنافقين‏:‏ أنفِقوا ما شِئتُم طائعينَ او مُكْرَهين فلن يتقبل الله عملّكم الذي أحبطَهُ نفاقُكم، لأنكم قومٌ فاسقون خارِجون من دائرة الايمان‏.‏

‏{‏وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِه‏}‏‏.‏ وما ِمنع اللهَ من قبول نفقاتِهم إلا كُفرهم بالله، وكفرهم برسوله وما جاء به من الهدى‏.‏

‏{‏وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ‏}‏‏.‏

ولا يصلُّون إلا رياءً وتِقِيَّة، لا إيماناً بوجُوبها‏.‏ فهم يؤدّونها غير مُقْلِلين عليها، سَتْراً لِنفاقهم، ويؤدونها متثاقلين كسالى لا تنشرح لها نفوسُهم ولا تنشَط لها أبدانهم، ولا يُنفقون أموالهم في مصالح الجهاد وغيره إلا وهم كارهون لذلك‏.‏

هذه صورة المنافقين في كل آن، خوفٌ ومدارارة، وقلبٌ منحرف، وضمير مدخول، ‏{‏يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ‏}‏ «سورة الفتح»‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي «وما منعهم ان يقبل منهم نفقاتهم» بالياء‏.‏

‏{‏فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا‏}‏‏.‏

فلا تعجبْك ايها الرسول اموالُهم ولا أولادهم وما هم فيه من نِعم وخيرات، فان الله تعالى جعلَ هذه الاموالَ حسراتٍ عليهم، لأنهم لا ينتفِقعوا بها في الحياة الدنيا، ولن يؤْجَروا عليها في الآخرة‏.‏ اما الأولاد فإنهم اعتنقوا الاسلامَ وأخلَصوا له، فكان ذلك أشدَّ حسرةً على آبائهم، ولا شيء أشدُّ على الوالد من ان يكون ولده على غير دينه‏.‏ وكان عبد الله بن عبد الله ابن أُبَيّ من اكبر المسلمين المتحمسين للاسلام، وقد عرض على الرسول الكريم ان يَقتُلَ أباه، فلم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا معنى‏:‏ انما يريدُ الله ليعذِّبَهم بها في الحياةِ الدنيا‏.‏

‏{‏وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ‏}‏‏.‏

وتخرج أرواحُهم بصعوبة وشدة حين يموتون على الكفر فيعذّبهم اللهُ كفرِهم في الآخرة كما عذّبَهم بأموالِهم وأولادهم في الدنيا‏.‏

وبعد ان بين الله حالة المنافقين وفضحَهم بأنهم يُظهرون غير ما يضمرون، ذكر هنا غلوَّهم في النفاق، فقال‏:‏

‏{‏وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ‏}‏‏.‏

يُقسم هؤلاء المنافقون كَذِباً بأنهم مؤمنون مثلكم وأنهم منكم، والحقيقة أنهم ليسوا مؤمنين بالله، وليسوا منكم، لكنّهم قومٌ يخافونكم، مما يدفعهم الى النفاق‏.‏

لقد ملأ الرعب قلوبهم، فلا يدرون ماذا يفعلون، واين يتوجهون او يختبئون‏؟‏ وهذا ما تعبر عنهم الآية الكريمة الآتية‏:‏

‏{‏لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ‏}‏‏.‏

وانهم لشدة كرههم للقتال معكم، ولبغضهم معاشرتكم، ولشدة جبنهم وخوفهم من ظهور نفاقهم لكم- يتمنون الفرار منكم والعيش في اي مكان يعتصمون به، فهم تطلقعون أبداً الى مخبأ يجمعهم، ويأمنون فيه، وليكن حصناً او مفاغرة او رسدابا ضيقا‏.‏ انهم مذعورون يطاردهم الفزغ الداخلي والجبن الروحي، ولذلك يحلفون بالله إنهم منكم، ليتقوا انكشاف طويتهم، ولكن الله لا يخفى عليه شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ‏(‏58‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

يلمزك‏:‏ يعيبك ويطعن بك في وجهك‏.‏ حسبنا الله‏:‏ يكفينا الله‏.‏ الى الله راغبون‏:‏ محبّون ضارعون‏.‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ‏}‏‏.‏

لا يزال الحديث في مساوئ المنافقين‏.‏ فبعض هؤلاء المنافقين يعيبك أيها الرسول، ويطعن عليك في قِسمة الصدَقات والغنائم‏.‏ اذ يزعمون أنك تُحابي فيها‏.‏‏.‏ تؤتي من تشاء من الأقارب، واهلِ المودّة، ولا تراعي العدْل، فإن أعطيتَهُم ما يرغبون رضوا عن عملِك وإلا فإنهم يَسْخَطون ويغضبون‏.‏

روى البخاري ومسلم عن ابي سعيد الخدري قال‏:‏ «بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يَقْسِم مالاً إذ جاءه حرقوص بن زهير ذو الخُويصِرةَ التميميّ، فقال‏:‏ اعدِلْ يا رسول الله فقال‏:‏ ويلَك، ومن يعدِل اذا لم أعدِلْ‏!‏‏؟‏ فقال‏:‏ عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ دعني يا رسول الله أضرِب عنقه، فقال رسول الله‏:‏ دعه» الحديث‏.‏

وهناك عدة روايات تدل على ان اشخاصاً من المنافقين قالوا ذلك لأنّهم لم يأخذوا من الصدقات، فنزلت فيهم هذه الآية‏.‏

ثم يبين الله تعالى ما هو الألْيَقُ بالانسان، وهو الرضا بِقِسمة الله ورسوله، والقناعةُ والاكتفاء بالله، والرجاء في فضله، فقال‏:‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ‏}‏‏.‏

ولو ان هؤلاء المنافقين الذين عابوك في قِسمة الصدَقات، رضوا بما قَسَمَ اللهُ لهم، وهو ما اعطاهم رسول الله، وطابت نفوسهم به- وان قَلَّ- وقالوا‏:‏ كفنا حُكم الله، وسيرزقُنا من فضله، لأن فضلَه لا ينقطع، ورسولُه لا يبخَس أحداً وإنّا إلى طاعة الله وإحسانه راغبون، لو فعلوا ذلك- لكان خيراًلهم من الطمع‏.‏

والخلاصة‏:‏ انهم لو رضوا من الله بنِعمته، ومن الرسول بقِسمته، لكان في ذلك الخير كل الخير لهم‏.‏

قراءات‏:‏

قرا يعقوب‏:‏ «يلمزك» بضم الياء وقرأ ابن كثير‏:‏ «يلامزك»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

الصدقات‏:‏ الزكاة المفروضة‏.‏ الفقراء‏:‏ هم الذين لا يجدون كفايتهم‏.‏ المساكين‏:‏ الذين لا يجدون كفايتهم ولا يستطيعون العمل العاملين عليها‏:‏ كل من يعمل على تحصيل المال‏.‏ المؤلفة قلوبهم‏:‏ هو الذين يراد استمالتهم الى الاسلام‏.‏ وفي الرقاب‏:‏ عتق العبيد والغارمين‏:‏ الذين عليم دين لا يستطيعون تأديته‏.‏ وفي سبيل الله‏:‏ الجهاد، وكل عمل في الصالح العام، وابن السبيل‏:‏ هو المنقطع عن بلده في سفر ولم يبق معه مال يوصله الى بلده‏.‏

بعد ان بيّن اللهُ الأدبَ اللائق في حقّ اللهِ والرسول، وأن الصدقاتِ فرضها الله ثم أمر الرسولَ الكريم بقسمتها، عدّد الذين يستحقّون الزكاة المفروضة‏.‏ وهؤلاء هم المحتاجون لها حقيقة‏.‏

‏{‏إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ‏}‏‏.‏

لا تصرف الزكاة المفروضة إلا للفقراء الذين لا يجِدون ما يكفيهم «والمساكين» وهم اسوأ حالاً من الفقراء، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 16‏]‏ ‏{‏والعاملين عَلَيْهَا‏}‏ الذين يجمَعونها من جُباة او موظفين وغيرهم‏.‏

روى أحدم والشيخان عن ابن السعدي المالكي قال‏:‏ استعمَلَني عُمَرُ على الصدقة، فلما غرغتُ منها وأدّيتُها اليه امر لي بِعُمالةٍ، فقلت‏:‏ إنما عَمِلتُ لله، فقال‏:‏ خذْ ما أُعطِيتَ فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني عمالة، فقلتُ مثلَ قولك، فقال رسول الله‏:‏ «إذا أُعطيتَ شيئاً من غيرِ أن تسألَ فكُلْ وتصدَّق»‏.‏

‏{‏والمؤلفة قُلُوبُهُمْ‏}‏ وهم قومٌ يراد استمالتُهم إلى الاسلام وترغيبهم فيه‏.‏

‏{‏وَفِي الرقاب‏}‏ تُدفع الزكاة من أجل عِتْقِ العبيد، وهذا غير موجود اليوم‏.‏

‏{‏والغارمين‏}‏ وهم الّذين عَلْيهِم دُيون وعجَزوا عن وفائها، تُدفع لهم الزكاة ليوفوا ديونهم‏.‏

‏{‏وَفِي سَبِيلِ الله‏}‏ في تزويد المجاهدين في سبيل الله، وفي كل عمل ينفع المسلمين في مصالحهم العامة‏.‏

‏{‏وابن السبيل‏}‏ وهو المسافر الذي انقطعَ عن بلدِه، فيعطَى ما يستعين به على العَودة الى بلده، ولو كان غنيا‏.‏

‏{‏فَرِيضَةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏

شرع الله ذلك فريةً منه لمصلحة عباده، وهو عليم بمصالح خلْقه، ومقدار حاجاتهم، حكيم فيما يشرعّه لهم‏.‏

والزكاة مفصّلأة في كتب الفقه‏:‏ تدفع بنسبة العُشْر من الزرع الذي يُسقى بماء السماء، ونصف العشر من الزرع الذي يسقيه صاحبُه ويكلّفه ذلك نفقةَ، وعن الاموال ربع العشر مقيّما اثنين ونصفاً بالمئة‏.‏ وكل من عنده نحو عشرين دينار فائضه عن نفقته ودَينه يدفع الزكاة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 63‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏61‏)‏ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ‏(‏63‏)‏‏}‏

اذن‏:‏ يسمع كل ما يقال ويصدقه‏.‏ اذن خير‏:‏ يسمع الصدق ولا يخدع بالباطل‏.‏ يؤمن للمؤمنين‏:‏ يصدقهم لما يعلم فيهم من الاخلاص والايمان الصادق‏.‏

لا يزال الحديث في المنافقين ومداوراتهم، وما كانوا يفعلون من توجيه الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد رودت عدة روايات في هذا الموضع عن ابن اسحاق وابن المنذر وغيرهم‏.‏ من ذلك ان رجلا من المنافقين اسمُه‏:‏ نبتل بن الحارث، كان يأتي الرسول الكريم فيجلس اليه فسمع منه ثم ينقل حديثه الى المنافقين‏.‏ وهو الذي قال لهم‏:‏ إنما محمد أذُنٌ، مَنْ حدّثَه شيئا صَدّقه‏.‏

وكذلك روي ان جماعة من المنافقين منهم جلاس بن سويد بن الصامت، ومخشي بن حِمْير، وديعة بن ثابت- اجتمعوا فأرادوا ان يقعوا في النبي الكريم‏.‏ فنهى بعضهم بعضا، وقالوا‏:‏ نخاف ان يبلغ محمدا فيقع بكم‏.‏ فقال بعضه انما محمد أُذُونٌ نَحْلِفُ له فيصدّقنا‏.‏‏.‏‏.‏ فنزل قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

ومن المنافقين جماعة يتعمّدون إيذاء النبيّ، فيتّهمونه بأنه يسمعُ من كّلِ أحدٍ ما يقوله ويصدِّقه، وانه يُخْدع بما يَسْمَع، فقل لهم ايها الرسول‏:‏ إن من تتناولونه بهذه التُّهمة ليس كما زعمتم، بل هو أُذُن خير لكم لا يَسْمع الا الصِدق، ولا يُخدع بالباطل، ويصدِّق بالله وبما يوحي اليه، ويصدِّق المؤمنين، لانه يعمل ان إيمانهم يمنعُهم من الكذب‏.‏ وهو رحمةٌ للذين آمنوا منكم إيمانا صحيحا، اما الذين يؤذون الرسول بالقولِ او بالفعل فجزاؤهم العذاب الشديد‏.‏

وقد صار هذا القول عن بعض المنافقين لأن النبي الكريم كان لا يواجهُهم بسوء، ويعاملهم بكل سماحة، ويهَشّ لم ويستقبلهم، فظنّوا أنه ينخدِع بهم، وتنطلي عليه حيلُهم ونفاقهم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع‏:‏ «أذن» باسكان الذال، والباقون «اذن» بضم الذال، وقرأ حمزة‏:‏ «ورحمة» بالجر عطفا على «خير» والباقون‏:‏ «رحمة» بالضم‏.‏

‏{‏يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

الخِطابُ للنبي والمؤمنين‏:‏ يحلِفون لكم أنهم ما قالوا ما نُقل عنهم لترضوا عنهم وتقبلوا معاذيرهم، واللهُ والرسول أحقُّ بالحِرص على رضائهما، ان كانوا مؤمنين كما يدّعون‏.‏

روى ابن المنذر عن قتادة قال‏:‏ ذُكر لنا ان رجلاَ من المنافقين قال شأن المتخلفين عن غزوة تبوك‏:‏ والله إن هؤلاء لَخيارُنا وأشرافُنا، وإن كان ما يقول محمدٌ حقاً لهُم شَرُّ من الحُمُر‏.‏ فسمعها رجل من المسلمين فقال‏:‏ واللهِ ان ما يقول محمدٌ لحقّ، ولأنت شرُّ من الحمار‏.‏ وجاء وأخبر النبيَّ بذلك، فأرسل الى الرجل فدعاه فقال له‏:‏ ما حَمَلَكَ على الذين قلت‏؟‏ فجعل يلعن نفسضه ويحلِف بالله ما قال ذلك‏.‏ وجعل الرجلُ المسلمُ يقول‏:‏ اللهمَّ صدِّق الصادقَ، وكذِّب الكاذبَ‏.‏ فأنزل الله ‏{‏يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذلك الخزي العظيم‏}‏‏.‏

ألم يعملم هؤلاء المنافقون ان من يكفر باللهِ وعيادي اللهَ ورسولَه جزاؤه العذابُ الأليم في جهنم يوم القيامة، وأن ذلك هو الذلّ والهوان العظيم الذي يصغر دونه كل خِزي في الحياة الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 66‏]‏

‏{‏يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ‏(‏64‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏65‏)‏ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

مخرج ما تحذرون‏:‏ مظهرٌ ما تخافون‏.‏ كنا نخوض ونلعب‏:‏ الخوض في الشيء الدخول فيه، وكَثُرَ استعماله في الباطل‏.‏

‏{‏يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ‏}‏‏.‏

يخشى المنافقون ان تنزل سورةٌ فيهم على النبيّ تُخبر يُخفون في قلوبهم، ويُسِرُّونه بينهم‏.‏ إنهم يحذّرون ان تنزلَ سورةٌ في شأنهم وبيان حالهم فتكون في ذلك فَضيحتُهم وكشفُ عوارتِهم وإنذارُ ما يترتب عليه من عقابهم‏.‏ قل لهم أيّها الرسول‏:‏ استهزِئوا ما شئتم، فان الله سيُظهرُ ما تخشَون ظهوهرَه بما يفضحكم به‏.‏

‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ‏}‏‏.‏

إنك ايها الرسول ان سألتَ هؤلاء المنافقين عن أقوالهم هذه، وسببِ طَعْنِهم في الدين واستهزائِهم بالله وآياته، اعتذَروا بقولهم كنّا نخوض في الحديث ونلهو‏.‏‏؟‏

أخرج ابنُ المنذر وابن أبي حاتم وابو الشيخ عن قتادة قال‏:‏ «بينما رسول الله في غزوة تبوك، إذ نظر الى أناس يقولون‏:‏» أيرجو هذا الرجلُ ان يتُفْتَحَ له قصورُ الشام وحصونها‏؟‏ هيهات هيهات، فأطلَع اللهُ نبيّه على ذلك، فقال‏:‏ احبِسوا على هؤلاء الرَّكب «بمعنى أوقفهم فاهم، فقال‏:‏ قلتم كذا وقلتم كذا قالوا‏:‏ يا نبي الله، إنما كنا نخوض ونلعب»‏.‏ فأنزل الله تعالى فيهم‏.‏

‏{‏قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ‏}‏‏.‏

ألم تجدوا ما تستهزئون به في خَوْضِكم ولعبكم إلا الله وآياتِه ورسولَه‏!‏‏!‏، هل ضاقت سبُل القول، فلم تجدوا ما تخوضون فيه وتلعبون غير هذا‏.‏

‏{‏لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ‏}‏‏.‏

لا تعتذروا بهذه الأعذار الباطلة، قد ظَهَرَ كُفرهم بعد ادّعائكم الإيمان، فان نعفُ عن طائفةٍ منكن لأنهم تابوا وآمنوا وصدَقَت توبتُهم، فسنعدّب طائفةً اخرى منكنم بسبب إصرارِهم على الكفر والنفاق، وإجرامهم في حقّ الرسول والمؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 70‏]‏

‏{‏الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏67‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏68‏)‏ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏69‏)‏ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

المنكر‏:‏ كل ما تستنكره الفطرة السليمة وستقبحه الشرع، وضده المعروف‏.‏ نسوا الله فنسيهم‏:‏ تركوا طاعة الله فجازاهم على نسيانهم بحرمانهم من الثواب‏.‏ بخلاقهم‏:‏ بنصيبهم خضتم‏:‏ دخلتم في الباطل‏.‏ حبطت اعمالهم‏:‏ فسدت وذهبت‏.‏ اصحاب مدْين‏:‏ قوم شُعيب المؤتمفكات‏:‏ قوم لوط‏.‏

‏{‏المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ‏}‏‏.‏

ان اهل النفاق، رجالاً ونساءً، يتشابهون في صفِاتهم وأخلاقهم وأعمالهم، فهم يفعلون القبيح ويأمرون به، كالكذِب والخيانة وإخلاف الوعد ونقض العهد‏.‏ وفيه الحديث الصحيح عن ابي هريرة‏:‏ «آيةُ المنافق ثلاث‏:‏ إذا حدَّث كَذَب، واذا وعد أخلَف، واذا ائتِمُنَ خان» رواه البخاري ومسلم‏.‏

وينهَون عن المعروف كالجِهاد في سبيل الله وبذْلِ المال، وهو الذي عبَّر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ‏}‏ أي يبخلون في بذْل المال في سبيل الله‏.‏

‏{‏نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏‏.‏

تركوا طاعةَ الله وخالفوا أوامره فجازاهم الله تعالى بحِرمانهم من رحمته ونسِيَهم، فلا وزنَ لهم ولا اعتبار‏.‏ إنّهم خارجون عن الايمان، منحروف عن الصراط المستقيم، ولذلك وعدهم الله مصيراً كمصير الكفار، وبيَّن ما أعدّ لهم ولأمثالهم من العقاب جزاءً لهم فقال‏:‏

‏{‏وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ‏}‏‏.‏

وعد الله هؤلاء جميعاً نارَ جهنّم يدخلونها ويَصْلَونها خالدين فيها لا يخرجون منها أبدا، وهي حسبُهم عِقابا، وعليهِم مع هذا العقاب غضبُ الله وعذابه الدائم‏.‏

ثم بعد ذلك يذكِّر الله تعالى هؤلاء القومَ بما كان من أسلافهم، ويبصِّرُهم بأنهم يسلكون طريقَهم، ويحذّرهم أن يُلاقوا مصيرَهم، لعلّهم يهتدون فيقوله‏:‏

‏{‏كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا‏}‏‏.‏

إنكم أيها المنافقون كأولئك المناقين الذين خَلَوْا من قبلِكم، فإنهم كانوا أقوى منكم واكثّر اموالاً واولاداً، وقد اسمتَعوا بما قُدِّرَ لهم من حظوظ الدنيا، وأعرضوا عن ذِكر الله وتقواه، وقابلوا أنبياءَهم بالاستخفافِ وسخِروا منهم فيما بينم وبين أنفسِهم‏.‏ وقد استمتعتُم أنتم بما قُدر لكم من ملاذّ الدنيا، وحَذَوْتم حذوهم ودخلتم في البالطل كما دخلوا، وخضتم فيما خاضوا فيه، وسلكتم سبيلَهم في طريق الضلال‏.‏

‏{‏أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون‏}‏‏.‏

إن أولئك المستمتعين بملذّاتهم في الدنيا، والخائضين في الباطل، بَطَلَت أعمالهم بطلانا أساسا، فل تنفعْهم في الدنيا ولا في الآخرة، وخسروا كل شيء وأنتم مثلهم في سوء الحال والمآل‏.‏

ثم شاء ان ينبّههم ويحذرهم من سوء عاقبة اعمالهم، فاتجه من خطابهم الى خطاب عام، كأنما يَعجب من هؤلاء الذين يسيرون في طريق الهالكين، لعلّهم يعتبرون بالذين خلّوا من قبلهم، ويتّعِظون بهم، فيقول‏:‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ والمؤتفكات أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏‏.‏

أفلا يعتبر المنافقون والكافرون بحال الذين سبقوهم ممن ساروا في نفس الطريق الخاطئة، عَصَوا رسُلَهم وخالفوا أمر ربهم فأّخذهم العذاب‏!‏‏!‏ ومن هؤلاء «قوم نوح» وقد غمرهم الطوفان وأغرقهم، وقوم «عاد» وقد أُهلِكوا بريحٍ صَرْصر عاتيه، و«ثمود» وقد أخذتْهم الصحيةُ، و«قوم ابراهيم» وقد أهلَك الله طاغيتَه المتجبّر الذي حاول إحراق ابرهيم، «واصحاب مدين» وقد اصابتهم الرجفةُ وخنقتْهم الظُلّة، «والمؤتفكات» قرى قوم لوط، وقد جعل الله عاليَها سافلَها وقطَع دابرَهم‏.‏ ألم يأتِهم نبأ هؤلاء الذين «أتتهم رسُلُهم بالبينات» فكذّبوا بها، فأخذهم الله بذنوبهم‏!‏‏!‏، لقد ظلموا انفسَهم بكفرهم وتمرّدهم على الله، وإن كثيراً ممن سبتليهم الله بالقوة والنِعمة لتغشَى ابصارَهم وبصائرهم غشاوة، فلا يُبصرون مصارع الاقوياء قبلهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 72‏]‏

‏{‏وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏72‏)‏‏}‏

جنات عدن‏:‏ جنات الخلود‏.‏ رضوان من الله‏:‏ رضى من الله‏.‏

بعد ان ذكرا لله تعالى افعال المافقين وصفاتِهم المنكرة، وذكر ما أعدَّه لهم من العذاب في الدنيا والآخرة- بيّنَ لنا صفة المؤمنين والمؤمنات، الصادقين في في ايمانهم، الذين هُدُوا الى الطّيب من القول، وساروا على الصراط المستقيم‏.‏

‏{‏والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر‏}‏‏.‏

إنهم نصراء بعضٍ يتّجهون بهذه الوَلاية الى الأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر، لتحقيق الخير ودفع الشر، مع التضامن والتعاون إلاعلاء كملة الله‏.‏ وهم «يقيمون الصلاة» في اوقاتها، وهي الصلة التي تربطهم بالله، «ويؤتون الزكاة» تلك الفريضة العظيمة التي تربط بين جماعة المسلمين، وتحقّفِ الصورة الماديّة والروحية للولاية والتضامن، «ويطيعون اللهَ ورسولَه» بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي‏.‏

ماذا اعد الله لِلذين يتّصفون بهذه الصفات السامية‏؟‏

‏{‏أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله‏}‏‏.‏

ان الله يتعهدهم برحمته في الدنيا والآخرة‏.‏

فهذه الصفات الأربع في المؤمنين‏:‏ الأمر بالمعروف‏.‏ والنهي عن المنكر، واقامة الصلاة، وايتاء الزكاة- تقابلُ من صفاتِ المنافقين‏:‏ الأمرَ بالمنكر، والنهيَ عن المعروف، ونسيانَ الله، وقبضَ الأيديد، وصفات المؤمنين هي التي وعدهم اللهُ عليها بالنصر والتمكين في الأرض، ‏{‏الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

وبعد ان بيّن رحمتَه للمؤمنين ونصره لهم إجمالاً بيّن ثانيةً ما وعدّهم به من الجزاء المفسِّر لرحته تفصيلاً فقال‏:‏

‏{‏وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ‏}‏‏.‏

لقد وعدهم اللهُ الجنةَ خالدين في نعيمها، وأعدَّ لهم مساكنَ تَطيبُ بها نفوسُهم في دار الاقامة والخلود‏.‏ ولهم فوقها ما هو اكبر واعظم‏.‏

‏{‏وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ‏}‏‏.‏

وإن الجنةَ لك ما فيها من نعيم لَتتضاءل أمام ذلك الرضوان الكريم‏.‏

‏{‏ذلك هُوَ الفوز العظيم‏}‏‏.‏

وذلك الوعدُ بالنعميم الجسمانّي والروحاني هو الفوزُ العظيم الذي يُجزى به المؤمنون المخلصون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 74‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏73‏)‏ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

الغلظة‏:‏ الخشونة والشدة في المعاملة‏.‏ وهموا بما لم ينالوا‏:‏ ارادوا ان يعملوا شيئا لم يستطيعوا‏.‏ وما نقموا‏:‏ ما انكروا وعابوا‏.‏

بعد ان بيّن صفاتِ المؤمنين الصادقين، وصفةَ المنافقين الذين يدّعون الإيمان، اعاد الكرّة الى تهديد المنافقين وإنذارِهم بالجهاد كالكفار المجاهرين بكفره، فان هؤلاء المنافقين قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد اسلامهم، وهموا بأم خيَّبهم الله فيه‏.‏

‏{‏ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير‏}‏‏.‏

يا ايها النبيّ ثابرْ على جهادِك في رَدْع الكفار عن كفرهم، والمنافقين عن نفاقهم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُلاينُ المنافقين، ويصفح عنهم كثيرا‏.‏ لكن هذا كله لم يجد معهم، فأمره الله تعالى ان يعاملَهم بالشدّة والغِلظة لعلا تربيّيهم وتردعهم، أما مآلُهم الذي أعدّه الله لهم في الآخرة فهو جنهم وبئس المصير‏.‏

ثم ذكر الله سبحانه الجرائم الموجبةَ لجهادهم كالكفّار، وهي أنهم أظهروا الكفرَ بالقول وهموا بشرِّ ما يُغري به من الفعل، وهو الفتكُ برسول الله وهو عائد من تبوك‏.‏ فقد تآمر بعض منهم على ان يفتكوا به عند عَقَبةٍ في الطريق، لكنه تنبّه وأخذَ الحَيْطة ونجّاه الله منهم‏.‏

‏{‏يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ‏}‏‏.‏

يحلف المنافقون أمامك يا محمد بالله أنهم ما قالوا منكَراً مما بلغَك عنهم، لكنهم كاذبون في الإنكار، فقد قالوا كلمةَ الكفر التي رويتْ عنهم، وظهر كفرهم بعد ان كانوا يتظاهرون بالاسلام‏.‏ بل إنهم همّوا بما لم ينالوا‏.‏

وهذا ما رواه كثير من أئمة الحديث، أنهم أرادوا ان يغتالوا رسول الله ف منصرَفَه من تبوك عند العقبة على الطريق، وقد احتاط الرسولُ لذلك وأمر عمّار بن ياسر وحُذَيفة بن اليمان ان يكونا معه حتى اجتاز المكان‏.‏ ولما غِشِيَه المتآمرون كانا منتبهَين فنجا رسول الله‏.‏ وقد عرفهم حذيفة، وكانوا اثني عشر رجلاً كما في صحيح مسلم‏.‏ وحاول بعض الصحابة ان يقتلهم فلم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ «لا اريد ان يتحدّث الناس بأن محمداً قتل أصحابه»‏.‏

‏{‏وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ‏}‏‏.‏

ما كان سبب نقمتهم على الرسول الا بَطَراً بالنعمة، بعد ان أغناهم الله ورسوله بما حَصلوا عليه من الغنائم التي شاركوا فيها المسلمين‏.‏

‏{‏فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدنيا والآخرة‏}‏‏.‏

فان يرجعوا الى الله بِتَرْكِ النفاق والندمٍ على ما كان منهم يَقْبَلِ اللهُ توبتهم، ويكون ذلك خيراً لهم، وان يُعرضوا عن الإيمان يعذّبهم الله في الدنيا بمختلف ألوان البلاء، وفي الآخرة بنار جهنم‏.‏

‏{‏وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏‏.‏

وليس في الأرض من يدافع عنهم او يشفع لهم وينصرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 78‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏75‏)‏ فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏76‏)‏ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏77‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏78‏)‏‏}‏

أعقبهم‏:‏ أورثهم ونجواهم‏:‏ كلامهم الخفي‏.‏

تُعتبر هذه الآياتُ بياناً لحال طائفة اخرى من المنافقين‏:‏ أغناهم اللهُ بعد فقرٍ، فلما كثر مالُهم وأصبحوا من الأغنياء كفرو النعممة وهضَموا الحقوق‏.‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين‏}‏‏.‏

ومن المنافقين نَفَرٌ أعطى اللهَ عهدَه وميثاقه لئن آتاه مالاً وثروة لشكرنّ الله على نعمته بالصَدَقة، وليعلمنَّ عمل أهل الصلاح من صِلة الرَّحْم والإنفاق في سبيل الله‏.‏

‏{‏فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏‏.‏

فلما استجاب الله لهم، وأعطاهم من فضله ما طلبوا، بخلوا بما أُوتوا وأمسكوه، فلم يتصدّقوا منه بشيء وانصرفوا عن الخير، وهم معرضون عنه وعن الله‏.‏

‏{‏فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ‏}‏‏.‏

كانت عاقبةُ بُخلِهم أن تمكَّنَ النفاقُ في قلوبهم الى ان يموتوا ويلقوا الله يوم الحساب‏.‏

ثم ذكر سببين هما من أخصّ أوصاف المنافقين‏:‏ إخلافُ الوعد والكذِب فقال‏:‏

‏{‏بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ‏}‏‏.‏

ذلك بسبب نقضِهم لعهدهم وكِذْبِهم في يمينهم‏.‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب‏}‏‏.‏

الم يعملوا- وهم يدَّعون الإيمان- أن الله مطَّلِعٌ على السرائر، لا يخفى عليه ما يُضمِرونه في السر من نقض العهد، وما يتناجَوْن به في الخفاء من الطعن في الدين وتدبير المكايد للمسلمين‏!‏ وان الله يعلم الغيوب كلَّها لا يخفى عليه شيء في هذا الكون‏.‏

وقد وردت عدة روايات في سبب نزول هذه الآيات‏.‏ «روى ان جرير ان ثَعلبةَ بن حاطِبٍ الأنصاري قال لرسول الله‏:‏ ادعُ الله أن يرزقَني مالا، فقال له رسول الله‏:‏» ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدّي شُكرَه خيرٌ من كثيرٍ لا تُطيقه «‏.‏

فراجعه مرة اخرى وقال‏:‏ والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطينَّ كل ذي حق حقه، فدعا له فاخذ غنماً، فمنت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة‏.‏ فنزل وادياً وانقطع عن الجماعة والجمعة‏.‏ فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل‏:‏ كثُرَ ماله حتى لا يَسَعُه واد، فقال‏:‏ يا ويح ثعلبة، فبعث رسلو الله مصدقين لاخذ الصدقات فاستقبلها الناس بصدقاتهم ومرا بثعلبة فسألاه وأقرآه الكتاب الذي فيه الفرائض فقال ما هذه الا جزية ما هذه الا اخت الجزية فارجعا حتى أرى رأيي، فلما جرعا اخبرا رسول الله بما قال ثعلبة، فقال‏:‏ ويح ثعلبة، فانزل الله تعالى‏:‏» ومنهم من عاهد الله لئن آتاهم من فضله لنصدقن‏.‏‏.‏‏.‏ «فسمع بذلك ثعلبة فجاء بالصدقة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ ان الله منعني ان اقبل منك صدقتك‏.‏ فجعل يحثوا على رأسه التراب‏.‏ وقبض رسول الهل فجاء أبا بكر الصديق فلم يقبلها، ثم جاء عمر فلم يقبلها، وجاء عثمان فمل يقبلها رضي الله عنهم، وهلك في خلافه عثمان»‏.‏

وهذه الصورة من البشر موجودة في كل زمان ومكان، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول الصوليون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 80‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

يلزمون‏:‏ يعيبون‏.‏ المطوعين‏:‏ المتطوعين وهم الذين يؤدون ما يزيد على الفريضة‏.‏ جهدهم‏:‏ طاقتهم‏.‏

بعد ان ذَكر الله بُخلَ المافقين وشُحَّهم بأموالهم حتى بعد أن عاهدوا على ان يتصدّقوا اذا رَزقَهم من فضله، عَرَضَ هنا لوناً آخر من رأي المنافقين في الزكاة، وكشَفَ عن الغمز واللّمزِ النابعَين عن طبعهم المنحرف‏.‏

‏{‏الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ‏}‏‏.‏

من نقائص هؤلاء المنافقين علاوة على بُخلم أنهم يَعيبون على الموسِرين من المؤنين تصدُّقَهم على المحتاجين‏.‏

روى ابن جرير عن عكرمة قال‏:‏ «حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فجاء عبدُ الرحمن ابن عوف بأربعة آلافٍ، وقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ مالي ثمانيةُ آلاف، جئتكم بنصفِها وامسكت نصفها‏.‏ فقال‏:‏» باركَ الله لك فيما امسكتَ وفيما أعطيت «‏.‏ وتصدق عاصِمُ بن عديّ بمائة وسَقْ وثلاثمائةٍ وعشرين رِطلاً من تمر، وجاء أبو عقيل بصاعٍ من تمر، قال فلمزه المنافقون وقالوا‏:‏ ما الذي أعطى ابنُ عوف إلا رياء‏.‏ وقالوا‏:‏ ألم يكنْ الله ورسوله غنيَّين عن صاع هذا‏!‏‏!‏‏؟‏»

‏{‏وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

ولذلك يلمزون الذين لا يجِدون إلا طاقتَهم من فقراء المسملين، ويسخَرون منهم لأنهم تصدّقوا بالقليل الذي وجدوه وقَدَروا عليه، جازاهم الله على سخريتهم بما كشف من فضائحهم، وجعلَهم سخريةً للناس أجمعين، ولهم في الآخرة عذابٌ شديد‏.‏

ثم بيّن الله تعالى عقابهم وسوّاهم بالكافرين فقال‏:‏

‏{‏استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ‏}‏‏.‏

لقد تقرر مصير هؤلاء المنافقين حتى إن الاستغفارَ لهم وطلبَ العفو عنهم لن يجدي، فسواءٌ ان تستغفر لهم أيها النبي ام لا، ومهما أكثرتَ من طلب المغفرة لهم، فلن يعفو الله عنهم، وهذا معنى «إن تستغفرْ لهم سبعين مرة فلن يغفرَ الله لهم» فالمراد كثرة الاستغفار لا العدَد المحدد‏.‏

‏{‏ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين‏}‏‏.‏

ولقد كفر هؤلاء بالله ورسوله، فلا أملَ في العفو والمغفرة مع الكفر والاصرار عليه، واللهُ لا يهدي الخارجين عليه وعلى رسوله، أولئك الذين انحرفوا عن الطريق فلم تعدْ تُرجى لهم توبة، وفسَدت قلوبُهم فلم يعدْ يُرجى لها صلاح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 83‏]‏

‏{‏فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ‏(‏81‏)‏ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

خلاف رسول الله‏:‏ بعده المخلَّفون‏:‏ الذين تخلّفوا عن الغزو‏.‏ مع الخالفين‏:‏ المتخلفين‏.‏

بعد ان ذكر اللهُ بعض سيئات المنافقين من لمزِهم المسلمينَ في الصدقات وغيرِ ذلك- عادَ الى الحديث عن الذين تخلَّفوا عن القتال في غزوة تبوك، وإلى بيان ما يجب من معاملة هؤلاء بعد الرجوع اليها‏.‏

‏{‏فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله‏}‏‏.‏

لقد فرح المخلّفون من هؤلاء المنافقين بقعودهم في المدينة بعد خروج النبي، وبمخالفتِهم أمرَه بالجهاد، وكرِهوا ان يجاهدوا بأموالهم وأرواحهم في سبيل الله اعلاء كلمة الله ونصر دينه‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ‏}‏‏.‏

وكذلك أخذوا يثّبطون غيرَهم ويُغرونهم بالقعود معهم، وقالوا لإخوانهم في النفاق‏:‏ لا تنفِروا في الحر‏.‏ قل لهم أيها الرسول‏:‏ لو كنتم تعقِلون لعلمتم أن نار جهنم أكثرُ حرارةً وأشدُّ قسوةً من هذا الحر الذي تخافون‏.‏

ثم اخبر تعالى عن عاجل أمرِهم وآجله من الضحك القليل والبكار الطويل التي تؤدي اليه أعمالُهم السيئة بقوله‏:‏

‏{‏فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏

فليضحكوا فَرَحاً بالقعود، وسخريةً من المؤمنين‏.‏ إن ضَحِكَهم زمنُه قليل، لانتهائه بانتهاء حياتِهم في الدنيا، وسيعقُبُه بكاءٌ كثير لا نهاية له في الآخرة، جزاءً لهم بما ارتكبوا من الاعمال السيئة‏.‏

ثم بين ما يجب ان يُعامَلوا به في الدنيا، وأنهم لا يصلُحون لكفاح، ولا يُرجَون لجهاد، ولا يجوز ان يُتسامع معهم‏.‏

‏{‏فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً‏}‏‏.‏

إن ردك الله يا محمد من سفرِك هذا وجاءت إليك طائفة من المنافقين المتخلّفين عن الغزو، فاستأذنوك ليخرجوا معك للجهاد في غزوةٍ أخرى، فلا تأذنْ لهم، وقل لهم‏:‏ لن تخرجوا معي أيّةٍ غزوةٍ للجهاد في سبيل الله، ولن تقاتِلوا معي عدوا‏.‏

ثم بيّن سبب النهي عن صحبتهم للرسول الكريم فقال‏:‏

‏{‏إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ فاقعدوا مَعَ الخالفين‏}‏‏.‏

إنكم تخلّفتم عن الخروج للجاد في أولِ مرةٍ بدون سبب، ورضيتم لأنفسِكم، بخزي القعود، فاقعدوا كما ارتضَيتم، وابقوا مع المتخلفين من العجزة والنساء والاطفال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 89‏]‏

‏{‏وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏84‏)‏ وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏86‏)‏ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏87‏)‏ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏88‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏89‏)‏‏}‏

الطول‏:‏ الغنى والقوة‏.‏ ذرنا اتركنا‏:‏ الخوالف‏:‏ كل من تخلف عن الجهاد‏.‏ طبع على قلوبهم‏:‏ ختم عليها‏.‏

بعد ان امر الله رسوله بفضح المنافقين وإذلالهم بمنعهم من الجهاد، أمره ان لا يصلّي على من مات منهم، ولا يوليهم أيَّ تكريم، فهم لايستحقونه أبدا‏.‏

‏{‏وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏‏.‏

لا تُصَلِّ أيها الرسولُ عبد الآن في جنازة أحدٍ من هؤلاء المنافقين، ولا تتولّ دفنه، ولا تقُمْ عليه كما تفعل على قبور المؤمنين‏.‏ وكان الرسول اذا فرغ من دفن الميت وقف على قبره وقال‏:‏ «استغفِروا لأخيكم وسلو له التثبُّت فإنّه الآن يُسأل»‏.‏ رواه ابو داود والحكم عن عثمان رضي الله عنه‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏‏.‏

لأنهم كفروا وماتضوا وهم خارجون من حظيرة الاسلام‏.‏

«روى احمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب يقول‏:‏ لما توفي عبد الله بن أُبّي، دُعي رسول الله للصلاة عليه، فقام عليه، فلما وقف قلت‏:‏ أَتصلي على عدوّ الله، عبدِ الله بن أبّي القائل كذا وكذا‏؟‏ ورسولُ الله يبتسم‏.‏ حتى اذا أكثرتُ قال‏:‏ يا عمر، أخِّر عني‏.‏ انّي قد خُيرت‏:‏ قد قيل لي‏:‏ استغفر لهم‏.‏‏.‏‏.‏ الآية، فلو أعمل اني زدتُ على السبعين غُفر له لزدتُ عليها ثم صلى عليه ومشى معه حتنى قام على قبره الى ان فرغ منه‏.‏ فعجبتُ لي ولجرأتي على رسول الله، فوا اللهِ ما كان الا يسيراً حتى نزلتْ هاتان الآياتان‏:‏» ولا تصلِّ على أحدٍ منهم ماتَ أبدا‏.‏‏.‏ «فما صلى رسول الله على منافق بعده»‏.‏

وقد أنكر بعضُ العلماء هذا الحديث، وقالوا إنه مخالف للآية، وقد روي عن طريق ابن عمر وجابر بن عبد الله، ولا أرى في هذا الحديث ما يخالف الآية اذا كان الحديث من اسباب النزول‏.‏ والحديث صحيح لا مجال للطعن فيه، والنبي انما صلى عليه من أجل ولدِه المؤمن الصحابيّ الجحليل، وكان هذا طلبَ من الرسول الكريم ان يصلّي على والده وقال له‏:‏ يا رسول الله، إنك ان لم تأتِه نُعَيَّر به‏.‏

‏{‏وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ‏}‏‏.‏

تقدمت هذه الآية في نفس السورة رقم 55 وفيها زيادة ‏(‏لا‏)‏ وهي‏:‏ «فلا تعجبك اموالهم ولا اولادهم الخ‏.‏‏.‏‏.‏» وقد أعاد الله تعالى هذه الآية تأكيداً للتحذير‏.‏

‏{‏وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بالله وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين‏}‏‏.‏

إذا أُنزلتْ سورة تدعو المنافقين الى الإخلاص في الإيمان بالله، وتأمرُ بالجهادِ في سبيل الله- جاء الأغنياءُ منهم والذين عندهم المقدرةُ يطلبون من الرسول الكريم ان يأذَنَ لهم في التخلّف، وقالوا‏:‏ اتركْنا مع القاعدين في بيوتِهم‏.‏

وذلك لجُبنِهم وبُخلهم في ان يجودوا بأموالهم وأنفسُهم في سبيل الله‏.‏

‏{‏رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ‏}‏‏.‏

انهم قد ارتضوا لأنفسِهم ان يكونوا في عِداد المتخلّفين من النساء والعجزة والاطفال ممّن لم يُكتب عليهم القتال، وخَتَم الله على قلوبهم بالخوف والنفاق، فهم لا يفقهون ما في الجهاد من عّزٍ في الدنيا ورضوانٍ من الله في الآخرة‏.‏

‏{‏لكن الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وأولئك لَهُمُ الخيرات وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏‏.‏

ان الرسول والذين آمنوا معه قد جاهدوا وبذلوا أرواحهم وأموالهم في سبيل الله، اعلاء لكلمته، فلهؤلاء كل خيرٍ في الدنيا من العزّ والنصر والعمل الصالح، وهم الفائزون بسعاد الدنيا والآخرة‏.‏

‏{‏أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ذلك الفوز العظيم‏}‏‏.‏

قد هيأ الله لهم في الآخرة النعيمَ الدائم، في جناتٍ تتخلّلها الأنهار، وذلك هو النجاح الكبير‏.‏ وهذا من أسلوب القرآن الحيكم يقابل الصور دائما ويبين السّيء من الحسن ليتعظ الناس بذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 93‏]‏

‏{‏وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏90‏)‏ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏91‏)‏ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ‏(‏92‏)‏ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

المعذرون‏:‏ المعتِذرين سواء كان العذر صحيحا ام غير صحيح الاعراب‏:‏ سكان البادية نصحوا‏:‏ اخلصوا‏.‏

‏{‏وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ‏}‏‏.‏

كما تخلّف بعض المنافقين في المدينة عن الخروج للجهاد، جاء فريق من أهل البادية، ينتحلون الأعذارَ ليُؤذن لهم في التخلف، وقال بعضهم‏:‏ يا نبي الله، إن غَزَوْنا معك أغارت طّيء على نسائنا وأولادنا وأنعامنا، فقال لهم رسول الله‏:‏ قد أنبأَني اللهُ من أخباركم وسسُغني الله عنكم‏.‏

‏{‏وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏‏.‏

وهؤلاء هم المنافقون‏.‏ قعدوا عن كل من القتال والمجيء للاعتذار وتخلّفوا بلا عذرٍكاذبين على الله ورسوله‏.‏

‏{‏سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

سيكون جزاء الذين كفروا بكِذْبهم على اللهِ ورسولِه من المنافقين والكاذبين من المتعذرين، عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ يعقوب‏:‏ «المعذرون» بسكون العين والذال المسكورة بدو تشديد‏.‏

وبعد ان بيّن الله تعالى أحوالَ المنافقين والكاذبين، وما ينتظرهم من عذاب، ذكر هنا ثلاثة أصناف أعذارُهم مقبولة، فالإسلام دين يُسْرٍ، ولا يكلّف الله نفساً الا وُسْعَها‏.‏

‏{‏لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏‏.‏

ان التكليف بالغزو ساقِط عن أصناف ثلاثة‏:‏

1- الضعفاء‏:‏ وهم من لا قوّة لهم تمكّنهم من الجهاد كالشيوخ المتقدمين في السنّ، والعجَزة، والصبيان وذوي العاهات التي لاتزول‏.‏

2- المرضى‏:‏ وهم من أُصيبوا بأمراض أقعدتهم فلا يتمكّنون معها من الجهاد، ونتهي عذرهم اذا شفاهم الله‏.‏

3- الفقراء الذين لا يجِدون ما ينفقون منه على أنفسهم إذا خرجوا للجهاد ولا ما يكفي عيالهم‏.‏

ليس على الضعفاء العاجزين عن القتال لعلّةٍ في تكوينهم، أو شيخوخة تقعهدهم، ولا المرضى الذين لا يستطيعون الحركةَ والجُهد، ولا المعدمين الذين لا يجدون ما يتزودون منه- أيُّ حَرجٍ اذا تخلفوا عن المعركة، وقلوبهم مخلصة لله ورسوله‏.‏

‏{‏مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

ليس على المحسن في عمله وإيمانه أية مؤاخَذة ولا مسئولية، فالله كثيرُ المغفرة، واسع الرحمة يستر على المقصر في أداء واجبه ما جام مخلصة لله والرسول‏.‏

نزلت هذه الآية في ابن أُم مَكتوم، واختُلف في اسمه أهو‏:‏ عبد الله أم عمرو بن قيس بن زائدة وكان هذا ضريراً جاء الى الى رسول الله فقال‏:‏ يا نبيّ الله، إني شيخ ضرير ضعيف الحال وليس لي قائد، فهل لي رُخصة في التخلّف عن الجهاد‏؟‏ فسكت النبي الكريم فأنزل الله «ليس على الضعفاء ولا على المرضى‏.‏‏.‏‏.‏ الآية»‏.‏

‏{‏وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ‏}‏‏.‏

كذلك لا حرج ولا مسؤولية على القادرين على الحرب، لكنّهم لا يجدون الرواحِلَ التي تحمِلُهم الى أرض المعركة، واذا جاؤك يطلبون منك العون لتؤمَِّ لهم ما يركبون لم تجد أنت أيضاً ما تحمِلُهم عليه، فانصرفوا من عندك وهم يبكون، لأنهم حُرموا من الجهاد ولم يجدوا ما يُعينهم عليه‏.‏

هؤلاء هم البكّاؤن نزلت فيهم الآية وهم سبعة أشخاص‏:‏ عبد الرحمن بن كعب، وعليه بن زيد، وعمرو بن ثعلبة، وسالم بن عُبيد، ومَعْقل بن يَسار، وعبد الله بن عمرو بن عوف، وعبد الله بن مغفل‏.‏‏.‏‏.‏ جاؤوا الى الرسول الكريم فقالوا‏:‏ يا رسول الله، احمِلنا فانه ليس لنا ما نَخرج عليه، فقال‏:‏ لا أجدُ ما أحملكم عليه‏.‏

وهناك روايات اخرى‏.‏

‏{‏إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

انما اللوم والمسؤولية على هؤلاء الذين يطلبون الإذنَ في القعود عن الجهاد، وهم أغنياء قادرون على الخروج معك، لكنهم مع قدرتهم رضوا بأن يقعدوا مع المخلفين من العجزة والمرضى‏.‏ هؤلاء ختم اللهُ عل قلوبهم فأغِلقت عن الحق، فهم لا يعلمون حقيقة أمرِهم، ولا سوءَ عاقبتهم في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 96‏]‏

‏{‏يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏94‏)‏ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏95‏)‏ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

عالم الغيب‏:‏ كل ما غاب عنا علمه‏.‏ والشهادة‏:‏ ما نشهده ونعرفه‏.‏ اذا انقلبتم اليهم‏:‏ اذا رجعتم اليهم رجس‏:‏ قذر يجب تجنبه‏.‏

‏{‏يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ‏}‏‏.‏

سعيتذرُ إليكم أيها المؤمنون المجاهدون هؤلاء المتخلِّفون المقصّرون، عند رجوعكم من ميدان الجهاد‏.‏

‏{‏قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ‏}‏‏.‏

قل لهم أيها الرسول‏:‏ لا تعتذِروا، فإنّا لن نصدّقكم‏.‏ ثم بيّن الله السببَ في عدمٍ تصديقهم فقال‏:‏

‏{‏قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ‏}‏‏.‏

فالله قد كشف حقيقةَ نفوسِكم وأوحى الى نبيّه بعض أخباركم التي تُسِرّونها في ضمائركم‏.‏

‏{‏وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

وسيرى اللهُ عملَكم ورسوله فيما بعد، ثم يكون مصيرُكم بعد الحياةِ الدنيا الى الله الذي يَعلم ما تكتُمون وما تُظهرون، فيُخبرك بما كنتم تعلمون، ويجازيكم عليه‏.‏

ثم أكد ما سبق من نفاهم بقوله‏:‏

‏{‏سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ‏}‏‏.‏

سيؤكد لكم اعتذارَهم بما يحلِفون بالله لكم من الأيمان الكاذبة بأنهم صادقون في معاذيرِهم، إذا رجعتم من سفرِكم في غزوة تبوك، لكي يُرضوكم فَتغْفلوا عن علمهم‏.‏‏.‏‏.‏ لا تحقِّقوا لهم هذا الغرض‏.‏

‏{‏فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ‏}‏‏.‏

فاجتنِبو وامقُتوهم‏.‏

روى مقاتل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال حين قدِم المدينة «ا تُجالسوهم ولا تكلّموهم، إنهم رجس» فهم في أشد درجات الخبث النفسي والكفر‏.‏

‏{‏وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏

ومصيرهم إلى جهنم، عقاباً على ما اقترفوه من نفقا وكذب‏.‏

ثم ذاد في تأكيد نفاقهم فقال‏:‏ «يحلِفون لكم لتَرضوا عنهم» أي إنهم سوف يحلفون لكم طمعاً في رضاكم عنهم، لتُعاملوهم معاملة المسلمين‏.‏

‏{‏فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين‏}‏‏.‏

فان خُدعتم بأيمانهم ورضيتُم عنهم، فإن هذا لا ينفعُهم، لأن الله ساخطٌ علهيم لِفسْقِهم ونفاقهم، وخروجهم على الدين‏.‏

روي عن ابن عباس ان هذه الآيات نزلت في الجدّ بن قيس بن قشير واصحابه‏.‏

من المنافقين، وكانوا ثمانين رجلاً امر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين لَمّا رجعوا الى المدينة أن لا يجالسوهم لا يكلّموهم‏.‏

وهكذا قرر الله العلاقات النهائية بين المسلمين والمنافقين، كما قررها من قبل بين المسلمين والمشركين، وبي اهل الكتاب والمسلمين، وكانت هذه السورة العظيمة هي الحكم النهائي الأخير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 99‏]‏

‏{‏الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏97‏)‏ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏98‏)‏ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏99‏)‏‏}‏

الأعراب‏:‏ سكان البادية من العرب‏.‏ مَغرما‏:‏ غرامة الدوائر‏:‏ مفردها دائرة المصيبة‏.‏ قربات‏:‏ واحدها قربة، طلب الثواب، والكرامة من الله‏.‏ صلوات من الرسول‏:‏ دعوات منه‏.‏

كان يجاور المؤمنين السابقين المخلصين من المهاجرين والانصار، جماعاتٌ اخرى‏:‏ الأعراب‏:‏ وفيهم المخلِصون والمنافقون؛ والمنافقون من أهل المدينة، وقد كشفهم الله تعالى بهذه السورة المباركة؛ وآخرون خلطوا عملا صالحا ولآخر سيئا ولم ينصهِروا في بوتقة لاسلام تماما؛ وطائفة مجهولة الحال لا تُعرف حقيقة مصيرها، أمرُها متروك لله؛ ومتآمرون يتستّرون باسم الاسلام، ويدبّرون المكايدّ ويتَّصِلون بأعداء الاسلام في الخارج‏.‏ والقرآن الكريم يتحدث عن هذه الجماعات كلِّها باختاصر مفيد، ويقرر كيف يجب ان تُعامل هذه الجماعات‏.‏

وهو يقسِم الناسَ على أساس التقوى والإيما الخالص بالله والعملِ الصالح، فقد تحدّث عن أحال العرب مؤمنيهم ومنافقيهم، وبيّن في هذه الآيات الثلاثِ أحوالَ الأعراب مؤمنيهم ومنافقهم فقال‏:‏

‏{‏الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

الأعراب من أهل البادية اشدُّ ونفاقا من أمثالهم أهلِ الحضر، لأنهم يقضون جُلَّ أعمارهم في البادية يخدمون مواشيَهم وأنعامهم، بعيدين عن أهل العلم والحكمة‏.‏ وهم حقيقون أن يجهَلوا حدودَ الله، وما أنزلَ على رسوله من شرائع واحكام، واللهُ عليم حكيم، واسعُ العلم بشئون عباده وأحوالهم، حيكم فيما يقدِّره من جزاء ومن نعيم‏.‏

وقد وردت أحاديث كثيرة تشير الى جَفاء الاعراب، وغِلْظَتِهم، وبُعدهم عن الآداب والمعرفة‏.‏ قال ابن كثير في تفسيره‏:‏ «جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان، أحدِ التابعين العلماء الشجعان، وقد شهِد الفتوحَ وقُطعت يده في نَهاوَنْد، فقال له الاعرابي‏:‏ واللهِ إن حديثك لَيُعجبني، وإن يَدك لتُريبني‏.‏ فقال زيد‏:‏ وما يريبك من يدي، إنها الشَّمال‏!‏ فقال الاعرابي‏:‏ واللهِ ما أدري اليمينَ يقطعون أو الشمال فقال زيد بن صوحان‏:‏ صدق الله ورسوله‏:‏ ‏{‏الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ‏}‏‏.‏

وعن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏» من سكنَ الابديةَ جفا «وهناك روايات كثيرة تكشف عن طابَع الجفوة والفظاظة في نفوس الأعراب حتى بعد الاسلام‏.‏

وبعد هذا الوصف العام للأعراب يقسِمهم القرآن قسمين فيقول تعالى‏:‏

‏{‏وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

هنا بدأ بذِكر المنافقين من الأعراب، لأن الحديث أصلاً كان من المنافقين عامة‏.‏ ومعناه‏:‏ ان بعض المنافقين من اهلا البادية يعتبرون الإنفاق في سبيل الله غرامةً وخسرانا، فالرجل منهم مضطر لأن ينفقِ من ماله في الزكاة وغيرها تظاهراً بالإسلام وهو كاره لذلك‏.‏

وهو لا يفعل حُبّاً في انصار الاسلام والمسلمين، وإنما ليستمتعَ بمزايا الحياة في المجتمع المسلم‏.‏

ومثلُ هذا المنافق البدوي ينتظِر متى تدور الدوائر على المسلمين، فعليه وعلى أمثاله وحدهم ستحلّ دائرة السَّوء والمصيبة‏.‏ ان الشر ينتظرونه لكم، أيها المسملون سيكون محيطاً بهم، فاللهُ سميع لما يقولون عنكم، عليمٌ بأفعالهم ونيّاتهم تجاهكم‏.‏

وبعد اؤلئك الأعراب المنافقين، يذكر الكتابُ حال المؤمنين الصادقين ممن خالطت قلوبهم بشاشةُ الإيمان‏:‏

‏{‏وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ الله وَصَلَوَاتِ الرسول ألاا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

أما المؤمنون بالله واليوم الآخر، والّذين يتخذون الانفاق في سبيل الله وسيلةً يتقربون بها إلى الله، وسبباً لدعاء الرسول لهم «اذ كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، وستغفر لهم» فإن ما ينفقونه في، الخير وصلوات الرسول عليهم- قُربةٌ عظيمة قد تقبّلها الله وأثاب عليها، وسيُدخلُهم في رحمته الواسعة، فهو وساع المغفرة لمن يخلصون في أعمالهم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وابو عمرو‏:‏ «السوء» بضم السين‏.‏ والباقون‏:‏ «السوء» بفتح السين‏.‏ وقرأ ورش واسماعيل عن نافع‏:‏ «انها قربة» بضم القاف والراء والباقون‏:‏ «قربة» باسكان الراء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 102‏]‏

‏{‏وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏100‏)‏ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ‏(‏101‏)‏ وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏

رضي الله عنهم‏:‏ قبلِ طاعتهم‏.‏ ورضوا عنه‏:‏ بما افاض عليهم من نعمة‏.‏ مَردوا على النفاق‏:‏ بتوا عليه، واتقنوا اساليبه‏.‏

بعد تصنيف الأعراب الى مؤمنين ومنافقين، صنف الله تعالى المجتمع كله حاضِرَه وبادِيَة الى اربع طبقات‏:‏

الأولى‏:‏ السابقون الأولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان‏.‏

الثانية‏:‏ المنافقون الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة والأعراب‏.‏

الثالثة‏:‏ الذين خلطوا عملاً صالحا وآخر سيئا‏.‏

والرابعة‏:‏ الذين ارجئ الحكم في أمرهم يقضي الله فيهم بقضائه‏.‏

‏{‏والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ‏}‏‏.‏

هؤلاء هم الطبقة الأولى‏:‏ السابقون من المهاجرين الذين لاقوا من الشدائد والعذاب والاضطهاد ما اضطرهم إلى الهجرة، والسابقون من الأنصار، الذي آووا الرسول ونصروه، والذين ابتعوهم بإحسان‏.‏ هذه الطبقة بمجموعاتها الثلاث هم القاعدة الاساسية للمجتمع المسلم‏.‏ هؤلاء جميعا رضي الله عنهم في ايمانهم وإسلامهم، فقبِلَ طاعتهم وسجيزيهم أحسنَ الجزاء، ورضوا عنه بالاطمئنان اليه، والثقة بقدَره‏.‏

ولذلك ‏{‏وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلك الفوز العظيم‏}‏‏.‏

وها الوعدُ الكريم من رب العالمين هو الذي يستبشر به أولئك المسلمون‏.‏‏.‏ إنه جنات تجري الأنهار تحت اشجارها، فينعمون فيها نعيماً أبديا، وأيّ فوز بعد هذا‏!‏‏!‏

ثم إنه يذكر حال الطبقة الثانية، وهم منافقو اهلِ المدينة ومن حولَها‏:‏

‏{‏وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏

لقد سبق الحديثُ عن المنافقين عامة، لكن الحديث هنا عن صنف خاص منهم، حَذَقَ النفاقَ ومَرَنَ عليه، حتى لَيخفى امره على رسول الله مع كل فراسته وتجربته‏.‏ والله تعالى يقرر ان هذ الفئة من الناس موجودةٌ في أهل المدينة وفي الأعراب المحيطين بالمدينة، ويُطمئن الرسولَ الكريم والمؤمنين معه، من كيدِ هذه الفئة الماكرة، وانه سيتولى أمرهم ولن يدعَهُم، بل سيعذّبهم عذاباً مضاعفا‏:‏ مرتين في الدنيا، مرةً بنصر بالمسلمين على اعدائهم مما يغيظ أولئك المنافقين، ومرة بفضيحتهم وكشف نفاقهم‏.‏ أما في الآخرة فسيَصْلَون عذاب جهنم وهولها الشديد‏.‏

وجملة القول ان المنافقين فريقان‏:‏ فريق عُرفوا بأقوال قالوها، وأعمال عملوها‏.‏‏.‏‏.‏ وهؤلاء مكشوفون معرفون، وفريق حذَقوا النفاق حذَقوا النفاق حتى لا يشعر احد بشيء يستنكره منهم‏.‏

وهذان الفريقان يوجَدان في كل عصر، والأمة مبتلاةٌ بهم في كل قطر، وهم يزعمون انهم يخدمون الأمة باسم الوطنية او اسم الدين، ويستغلّون مناصِبهم، ويجمعون الاموال لأنفسِهم‏.‏ نسأل الله السلامة منهم‏.‏

‏{‏وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

هذه هي الطبقة الثالثة‏:‏ هؤلاء من المؤمنين ليسوا منافقين، ولا من السابقين الأولين ولكنهم من الذين خَلطوا الصالحَ من العمل السيء منه، كالّذين تخلّفوا عن الخروج الى غزوة تبوك من غير عذر صحيح، ولم يستأذنوا كاستئذان المرتابين، ولم يعتذِروا بالكذب كالمنافقين‏.‏

ومنهم ثلاثةٌ معرُوفون، هم أبو لُبابة بن عبد المنذر، وثعلبة بن وديعة، وأَوس ابن حذام، من الأنصار، تخلّفوا عن رسول الله في غزوة تبوك‏.‏ فلما رجع من غزوته، ندموا على ما فعلوا وأوثقوا أنفسَهم في سواري المسجد‏.‏ فلما مر بهم سأل عنهم فقالوا له تخلّفوا عنك يا نبي الله، فصنعوا بأنفسم ما ترى، وعاهدوا الله ان لا يُطلقوا انفسهم حتى تطلقهم انت فقال‏:‏ وأنا لا أُطلقهم حتىأوَمَرَ بإطلاقهم‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏}‏‏.‏

وهذا الصنف الناس كثير، فالانسانُ ضعيف والمغريات كثيرة، والنفس أمّارة بالسوء‏.‏ ونحمد الله تعالى على أن باب التوبة مفتوح دائماً، ولذلك قال تعالى‏:‏

‏{‏عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

فالاعتراف بالذنب والشعورُ بوطأته دليلٌ على حياة القلب، ومن ثَمّ فإن التوبة مرجُوَّة القبول، والمغفرة مرتقبة من الغفور الرحيم‏.‏

وقد قبل الله توبتهم ورحِمَهم‏.‏‏.‏ وهذا ينطبق على كل مسلم يخطئ ثم يرجع الى الله‏.‏ بل ان هذه الفئة من الناس هي الغالبية العظمة من البشر‏.‏‏.‏ يخطئون ويتوبون، لكن الله رؤوف رحيم تواب يقبل التوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 106‏]‏

‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏103‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏104‏)‏ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏ وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏106‏)‏‏}‏

الصدقة‏:‏ ما ينفقه المؤمن قربة لله‏.‏ تطهرهم‏:‏ تمحو ذنوبهم‏.‏ وتزكّيهم‏:‏ تصلحهم وترفعهم الى منازل الابرار‏.‏ ان صلاتك سكن لهم‏:‏ ان دعائك لهم يدخل الاطمئنان والراحة الى نفوسهم وآخرون مرجون‏:‏ مؤخرون لأمر الله‏.‏

والطبقة الرابعة ستأتي في الآية ‏(‏106‏)‏

‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

خذْ أيها الرسول من أموال هؤلاء التائبين صدقات تطرهّهم بها من الذنوب والشحُّ، وترفع درجاتهم عند الله، وادعُ لهم بالخير والهداية‏.‏‏.‏‏.‏ فإن دعاءك تطمئنّ به قلوبُهم، والله سميح للداء عليمٌ بالمخلصين في توبتهم‏.‏

«روى ابنُ جرير عن ابن عباس قال‏:‏ لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لُبابة وصاحبَيْه انطلق ابو لبابة وصاحباه بأمواله الى الرسول الكريم، وقالوا‏:‏ خذ من أموالنا فتصدَّقْ بها عنا وصلِّ علينا ‏(‏يعني استغفر لنا وطهرنا‏)‏ فقال رسول الله‏:‏ لا آخذُ منها شيئاً حتى يأتيَنا أمرُ الله» أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏}‏ فأخذ‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي وحفص‏:‏ «ان صلاتك» وقرأ الباقون‏:‏ «ان صلواتك» بالجمع‏.‏

‏{‏أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم‏}‏‏.‏

أَلا فلْيعلم هؤلاء التائبون أن الله هو الذي يقبل التوبةَ الخالصة من عباده، وهو الذي يأخذُ الصدقة، وأنه سبحانه هو الواسعُ الفضلِ في قبول التوبة، ذو الرحمة الشاملة لعباده‏.‏

وبابُ التوبة مفتوح دائما، روى الترمذي‏:‏ ما أصَرَّ من استغفرَ، وإن عادّ في اليوم سبعين مرة‏.‏

وفي موضع الصدقات، روى الشيخان عن ابي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما تصدّق أحدُكم بصدقةٍ من كسبٍ حلال طيب، ولا يقبل الله الا الطّيب، إلا أخَذَها الرحمن بيَمينه وإن كانت تَمْرة، فَتَربُو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظمَ من الجبل، كما يُربي أحدُكم فِلْوَه أو فَصِيله» فالصدقة مقبولة مهما كان حجمها‏.‏ وفي الحديث ايضا «تصدَّقوا ولو بِشِقّ تمرة» والغِلْو، المُهر يُفصَل عن الفَرَس‏.‏

ثم يتوجّه الكلام بالخطاب إلى جميع المكلَّفين أن يعملوا، لأن الإسلامَ منحَهُم حياةً واقعية، لا تكفي فيها المشاعر والنوايا، ما لم تتحوّل الى حركةٍ وعمل دائم‏.‏

‏{‏وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

قل لهم ايها الرسول‏:‏ اعملوا لِدُنياكم وآخرِتكم ولا تقصّروا في عمل الخير وأداء الواجب‏.‏ إن ربّكم يعلم كل أعمالكم، وسيراها هو والرسول والمؤمنون، فيزِنونها بميزان الإيمان ويشهدون بقتضاها‏.‏ ثم ترجعون بعد الموتٍ الى الله الذي يعمل سِركم وجهركم، فيجازيكم بأعمالكم‏.‏ والمنهج الإسلامي في حقيقته منهج عقيدةٍ وعمل‏.‏

ثم جاء ذكر الطبقة الرابعة التي لم يبتَّ في أمرهان بل وكَلَ امرها الى الله‏.‏

‏{‏وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

هؤلاء هم القسم الأخير من المتخلفين عن غزوة تبوك، غير النافقين والمعتذرين والمخطئين التائبين‏.‏ وقد تأخر البتُّ في أمرهم، وكان أمرُهم موكولاً الى الله، لم يعلموه، ولم يعلمْه الناس‏.‏ قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة‏:‏ هم الثلاثة الذين خُلّفوا وهم‏:‏ مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك وهلال بن أميّة، قعدوا عن غزوة تبوك كسلاً وميلاً الى الدّعة والتمتع بطيب الثمار، لا شكاَّ ولا نفاقا‏.‏ وسيأتي ذكرهم في الآية ‏(‏118‏)‏‏.‏

فهؤلاء مرجَأون لأمرِ الله‏:‏ إما أن يعذّبَهم، واما ان يتوبَ علهيم ويغفرَ لهم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص «مُرْجَون» كما في المصحف، وقرأ الباقون «مرجأون» وهذا في اللغة جائز يقال أرجأت الأمر وأرجيته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 110‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏107‏)‏ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ‏(‏108‏)‏ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏109‏)‏ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

ضرارا‏:‏ لمحاولة الضرر‏.‏ ارصادا‏:‏ ارتقابا‏.‏ على شفا‏:‏ على حرف‏.‏ جرف‏:‏ جانب الوادي هار‏:‏ متداع آيل للسقوط‏.‏

سبب نزول هذه الآيات انه كان في المدينة رجل اسمه ابو عامر الراهب، قد تنصّر في الجاهلية وقرأ التوراة‏.‏ وكان فيه عبادةٌ في الجاهلية وله شرقٌ كبير بين قومه من الأوس والخزرج، فلما قدِم الرسول الى المدينة دعاه الى الله وقرأ عليه القرآن، فأبى أبو عامرٍ أن يُسلم وتمرَّد، فدعا عليه الرسول أن يموت طريداً‏.‏‏.‏‏.‏ فنالته الدعوة ماتَ في بلاد الروم‏.‏

وقد تجمَّع حوله جماعةٌ من المنافقين، ورأوا ان افضلَ وسيلةٍ يكيدون فيها للإسلام ونبيّه الكريم أن يبنوا مسجداً تحت شعار الدين، ثم يعملون للكفرِ بالله ورسوله، ولهدْمِ الإسلام، والإضرار بالمسليمن وتفريقِ كلمتهم‏.‏

وقد بنوا المسجد وفرغوا منه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم الى تبوك، وجاؤوا فسألوه ان يصلّيَ في مسجدهم ليكون ذلك ذريعةً الى غَرِضهم، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلّة في الليلة الشاتية‏.‏ فقال لهم الرسول الكريم‏:‏ إنا على سَفرٍ، ولكن اذا رجعنا إن شاء الله‏.‏

وقبل ان يصل المدينةَ في رجوعه من تبوك نزلت عليه هذه الايات، فبعثَ بعضَ أصحابه وأمرهم أن يهِدموا ذلك المسجدَ، ففعلوا‏.‏

أما أبو عامر الفاسق كما سمّاه الرسول فإنه لما رأى الاسلام في ظهورٍ وارتفاع- هربَ إلى هِرَقْلَ ملكِ الروم يستنصره‏.‏ فوعده هذا وأقام أبو عامر عنده، وكتب الى جماعة من اهل النفاق في قومه يعدُهم بانه سيقدم بجيشٍ يقاتل به رسول الله، وامرهم ان يتخذوا معقِلا يَقْدَم عليهم فيه، ويكون له مرصدا بعد ذلك فشرعوا في بناء مسجدٍ مجاورٍ لمسجِد قُباء كما تقدّمت قصته، وهلك ابو عامر ولم يعد‏.‏

وابو عامر هذا من الأوس، لكنه ورد في تفسير ابن كثير انه من الخزرج‏.‏‏.‏ وقديماً كانوا يسمُّون الأوسَ والخزرج باسمِ «الخزرج»‏.‏

هذا هو مسجد الضرار الذي اتخذ على عهد رسول الله مكيدةً للاسلام والمسلمين‏.‏

‏{‏والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏‏.‏

من المنافقين جماعة بنوا مسجدا لا يبتغون به وجه الله، وأنما لإلحاق الضرر والتفريق بين جماعة المؤمنين‏.‏ وسحلفون على انهم ما ارادوا ببناء هذا المسجد إلا الخير والعمل الأحسن، لكن الله يشهدُ عليهم أنهم كاذبون في أيمانهم‏.‏

‏{‏لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ‏}‏‏.‏

لا تصلِّ أيها الرسول في هذا المسجد ابدا‏.‏ إن المسجد الذي أقيم على التقوى ابتغاءً لوجه الله، وطلباً لمرضاته، من اول يوم- هو أحقُّ من غيره ان تصلّي فيه وتؤدي شعائر الله وهو مسجد قباء‏.‏

‏{‏فيه رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين‏}‏‏.‏

ان في مسجد قباء رجالاً يعمُرونه بإقامة الصلاة، يحبّون ان يطهِّروا اجسادَهم وقلوبَهم بأداء العبادة الصحيحة فيه، «والله يحب المطهّرين» الذين يبالغون في طهارة الروح والجسد، لأن فيهما الكمالَ الانساني‏.‏

‏{‏أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين‏}‏‏.‏

لا يستوي في عقيدته ولا في عمله مَنْ أقام بنيانه على الإخلاص في تقوى الله وابتغاءِ مَرْضاتِه مع ذاك الذي أقامَ بنيانَه على النفاق والكفر‏!‏‏!‏ فإنّ عمل المؤمن الصالح مستقيمٌ ثابت على أصل متين، فيما علم المنافق كالبناء على حافَةِ هاويةٍ بدون أساس، فهو واهٍ ساقط، يقع بصاحبه في نار جنهم، واللهُ لايهدي الظالمين إلى طريق الرشاد‏.‏

‏{‏لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

سيظل الذي بناه المنافون ريبةً مَصْدَرَ اضطرابٍ وخوف في قلوبهم، لا ينتهي حتى تتقطع قلوبُهم بالندم والتوبة أو بالموت، والله عليم بكل شيء، حكيم في افعاله‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وابن عامر‏:‏ «الذين اتخذوا مسجدا ضرارا» بدون واو والباقون‏:‏ «والذين‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏» وقرأ نافع وابن عامر‏:‏ «أُسّسِ بنيانه» بضم الألف ورفع بنيانه في الموضعين‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ «أَسسَّ بنيانَه» وقرأ ابن عامر وحمزة وابو بكر‏:‏ «جرف» باسكان الراء‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ «جرف» بضم الجيم والراء‏.‏ وقرا يعقوب‏:‏ «الى ان تقطع قلوبهم» وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص‏:‏ «تقطع» بفتح التاء والطاء المشددة‏.‏ وقرا الباقون‏:‏ «تقطع» بضم التاء وتشديد الطاء المفتوحة‏.‏