فصل: سورة النحل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


سورة النحل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏1‏)‏ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ‏(‏2‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏3‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

اتى امر الله‏:‏ دنا وقرب‏.‏ امر الله‏:‏ وعده وحكمه‏.‏ الروح‏:‏ الوحي‏.‏ انذاروا‏:‏ خوفوا‏:‏ خصيم‏:‏ مخاصم‏.‏

كان مشركو مكةَ يستعجلون الرسولَ عليه الصلاة والسلام ان يأتيهم بعذاب الدنيا او عذاب الآخرة، فجاء ملطعُ هذه السورة حاسماً‏:‏ ‏{‏أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوه‏}‏‏.‏

وقد تحقَّقَ هذا الوعيدُ بان اهلك الله عدداً من صناديِدهم في هذه الدنيا ونصر رسولَه والمؤمنين، ولَعذابُ الآخرة أشدّ، وهو واقعٌ لا ريب فيه ‏{‏سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ تَنَزَّه الله عنه ان يكون له شريك يُعبد دونه‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ «تشركون» بالتاء، والباقون «يشركون» بالياء كما هي في المصحف‏.‏

‏{‏يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أنذروا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون‏}‏‏.‏

بعد ان تبرّأَ سبحانه من الشريك- بيّن انه تعالى وحدَه يعرف أسرار هذا الكون، وانه يُنَزّلُ ملائكتَه بالوحي الذي يُحيي القلوبَ على من يريد من عبادِه الذين يصطفيهم، لِيُعلِّموا الناس، ويُنذِروهم بأنَّ إله الخلْق واحدٌ لا اله الا هو، فاحذَروا، وأخلِصوا له العبادة، والتزِموا بالتقوى والإيمان‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الكسائي عن ابي بكر‏:‏ «تنزيل الملائكة» بفتح التاء والنون والزاي المشددة‏.‏ وقرأ ابن كثير وابو عمرو‏:‏ «ينزل» بضم الياء وكسر الزاي من أنزل‏.‏ والباقون‏:‏ «ينزل» بضم الياء وكسر الزاي المشددة‏.‏

‏{‏خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

بعد ان بيَّن الله أنه تنزَّه عن الشريك، وأنه هو الخالقُ الواحد، وأمر الناسَ بتقواه وإخلاص العبادة له- أخذَ في عرضِ أدلَّة التوحيد، والآياتِ الدالّة على النِعمة عرضاً لطيفاً هادئا‏.‏

خلَق الله العاَلَم العُلويَّ والسفليَّ بما حوة بالحق على نهجٍ تقتضيه الحكمة، لوم يخلقْه عَبَثا، وقد تنزَّه عن ان يكونَ له شريكٌ يتصرَّفُ في مُلكِه، او يستحقّ ان يُعبد مثله، تعالى عن شِركهم، وتعالى عما يشركون‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ «تشركون» بالتاء‏.‏

‏{‏خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ‏}‏ ما أعجبَ هذا الانسان الذي خلقه اللهُ من مادة لا تُرى بالعين المجرَّدة، فإذا به إنسانٌ قويٌّ مخاصِم مجادِل، ان هذا الكون كلّه عجيب، وأعجبُ ما فيه هذا الانسان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 9‏]‏

‏{‏وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ‏(‏6‏)‏ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

الانعام‏:‏ الابل والبقر والمعز والغنم‏.‏ الدفء‏:‏ ما يدفئ الانسان من ثياب وغيرها‏.‏ المنافع‏:‏ ما يفيد الانسان منها من ركوب وحرث ولبن‏.‏ وجمال‏:‏ زينة‏.‏ تريحون‏:‏ تردونها من المرعى الى مَراحِلها بعد رعيها‏.‏ تسرحون‏:‏ تخرجونها صباحا الى مراعيها‏.‏ الاثقال‏:‏ الامتعة‏.‏ بشق الانفس‏:‏ بمشقة وتعب‏.‏ قصد السبيل‏:‏ الطريق المستقيم‏.‏ جائز‏:‏ مائل، منحرف‏.‏

‏{‏والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏‏.‏

وقد تفضَّل اللهُ عليكم بأن خَلَقَ لكم الإبلَ والبقرَ والغنمَ والمَعز لتتّخِذوا من أصوافها وأوبارِها وأشعارِها وجلودها ما تحتاجون إليه في حياتكم وتشربون من ألبانِها، وتأكلون من لحومها‏.‏

‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ‏}‏‏.‏

ولكم في هذه الأنعام بهجةٌ وسرور عندما ترجع من مراعا وهي مُقْبِلَةٌ مساءً ملأى البطون، حافلةَ الضروع، رائعةً سمينة، وحين تُخرِجونها صباحاً إلى المرعى، فإن منظَرَها يسرُّ الناظرين‏.‏ وهذا يبدو لأهلِ الريفِ والبدو، ولا يدركه أهل المدينة‏.‏

‏{‏وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس‏}‏‏.‏

وبعضُ هذه الأنعامِ كانت من وسائل المواصلات ولا تزال كذلك في كثيرٍ من البلدان، تحمل أمتعتكم الثقيلة وتوصلُكم الى بلدٍ لم تكونوا تستطيعون الوصولَ إليه بدنها إلاّ بكلّ مشقّةٍ وتعب‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ إن ربّكم الذي هَيَّأ لكم كلَّ هذه النعم وجعلّها لراحتكم لهو رؤوف بكم واسع الرحمة لكم‏.‏

‏{‏والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً‏}‏‏.‏

وخلَق لكم الخيل والبغالَ والحمير أيضاَ لتركبوها، وهي بالإضافة الى الإبلِ كانت وسائلَ النقل، وزينةً لكم‏.‏ وهذه اللفتةُ لها قيمتُها في بيان نظرة القرآنِ والإسلام للحياة، فإن الجَمالَ عنصرٌ أصيل في هذه النظرة، وليست النعمةُ مجردَ تلبيةِ الضرورات من طعام وشرابٍ وركوب، بل هناك ما يُدْخلُ السرورَ على الانسان، ويلبيّي حاسَّةَ الجَمال ووِجدان الفرحِ والشعورِ بالجمال‏.‏

ومع ان هذه الوسائلَ أصحبت قديمة، فإن كثيراً من الناس لا يزالُ يربِّي الخيلَ والإبلَ ويُسَرُّ فيها صباح مساء، ولا تزال في كثي من البلدان فرقٌ كاملة من الفرسان والهجّانة في الجيشِ، وهي من أجملِ الأشياء التي يحبُّها الانسان‏.‏

‏{‏وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

وهذا من عَظمة القرآنِ حيثُ أشار الى ما يجدُّ من وسائل النقل، وستجدُّ وسائل كثيرة لا نعلمها نحن في الوقت الحاضر‏.‏ والقرآن الكريم دائماً يهيّئ القلوبَ والأذهان بلا جمود ولا تحجُّر‏.‏

ولحومُ الخيل محرَّمةٌ عند أبي حنيفة، وحلالٌ عند مالكٍ والشافعيِّ وابن حنبل، اما لحومُ البغال والحمير فهي محرَّمة عند أبي حنيفة والشافعيّ وابنِ حنبل، ومكروهةٌ عند مالِك، وجميعُها حلال عند الشِّيعة الإمامية مع الكراهة‏.‏

‏{‏وعلى الله قَصْدُ السبيل‏}‏‏.‏

وعلى اللهِ بيانُ الطريقِ المستقيم يوصلكم الى الخير‏.‏ «ومنها جائزٌ» ومن الطرق ما هو جائز منحرفٌ لايُوصلُ الى الحق، وعلى الله بيانُ ذكل ليهتدي إليه الناس‏.‏

ثم أخبر سبحانه ان الهداية والضلال بقدرته ومشيئته فقال‏:‏

‏{‏وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏.‏

ولو شاءَ هدايتكم جميعاً لهادكم، لكنّه شاء ان يخلُقَ الإنسانَ مستعدّاً للهدى والضلال وان يدعَ لإرادته اختيار الطريق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 19‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ‏(‏10‏)‏ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏11‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏12‏)‏ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏14‏)‏ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏15‏)‏ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏16‏)‏ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏17‏)‏ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏18‏)‏ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

تسيمون‏:‏ ترعون الماشية، تجعلونا ترعى النبات‏.‏ ذرأ‏:‏ خلق‏.‏ سخر البحر‏:‏ ذلله وجعله في خدمتكم‏.‏ مواخر‏:‏ جمع ماخرة‏:‏ جارية فيه، مخر الماء شقة‏.‏ الرواسي‏:‏ الجبال‏.‏ ان تميد بكم‏:‏ ان تميل وتضطرب‏.‏ وسبلا‏:‏ طرقا‏.‏ وعلامات‏:‏ اشارات، ومعالم يستدل الانسان بها‏.‏

‏{‏هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ‏}‏‏.‏

بعد أن ذكر اللهُ نعمته على الناس بتسخير الدوابّ والأنعام، شرع يَذْكُر نعمتَ عليهم بإنزال المطرِ والخلْق وتسخير الكونِ كلّه لهذا الإنسان‏.‏

إن الذي خلقَ لكم الأنعام والخيلَ وسائرَ البهائم لمنافِعِكم ومصالحِكم هو الذي أنزلَ المطر من المساءِ عذباً زلالاً تشربون منه وتسقون الشَجر والنبات‏.‏ وهذا الجشرُ والنبات هو الذي تجعلون أنعامكم ترعاه وتمدّكم باللّبن واللّحم والأصواف والأوبارِ والأشعار والجلود‏.‏

‏{‏يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات‏}‏‏.‏

إن هذا الماء ينزله اللهُ من السماء بقدْرته فيحيي به الأرضَ وينبتُ لكم زرعكم المختلفَ من جميع أنواع الثمرات وتيجعله رِزِقاً لكمن ونعمةً منه عليكم، وحجةً على من كفر به‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

ان فيما ذُكر من الآيات الداّلة على قدرة الله وما فيها من نعم لا تحصى لأدلّةً وحُجَجَاً لقومٍ لهم عقول تفكّر، بها يدركون حكمة الله، ويفهمونها حق الفهم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابو بكر‏:‏ «ننبت لكم» بالنون، والباقون‏:‏ «ينبت لكم» بالياء‏.‏

‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ‏}‏‏.‏

ومن نعمة تعالى عليكم ان جعل لكم الليلَ مهَّيئاً لراحتكم، والنارَ جعله مناسباً لِسعيكم وحركتكم وأعمالكم، والشمس تمدّكم بالدفء والضوءِ، والقمرَ لتعرفوا به عددَ السنين والحساب، والنجوم مسخَّرات بأمر الله لتهتدوا بها في أسفاركم في ظُلمات البرّ والبحر‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

إن في كلّ هذه النعمِ والدلائل لآياتٍ لقوم لهم عقول تدرك وتتدبّر ما وراء هذه الظواهر من قدرة‏.‏

‏{‏وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ‏}‏‏.‏

ومن نعمه التي لا تُحصى عليكم ما خلقَ لكم في الأرضِ من أنواعِ الحيوان والنبات والجماد، وجعل في جوفها من المعادن المختلفة الألوانِ والأشكار، وجعلَ كلَّ ذلك لمنافِعِكم، ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ ان في ذلك كله لأدلة واضحة لقوم يذكرون ولا ينسون‏.‏ ‏{‏وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 269‏]‏‏.‏

قرأ حفص‏:‏ «والنجوم مسخرات» بالرفع‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ «والشمس والقمر والنجوم مسخرات» بالرفع‏.‏ والباقون «والشمس والقمر والجوم مسخرات» كلها بالنصب‏.‏

‏{‏وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا‏}‏‏.‏

ومن هذه النعمِ الكبرى نعمةُ البحر وما فيه من أنواع الحيوان، فإن اله تعالى جلعَ هذا كلَّه للإنسان ليأكل منه ذلك الحمّ الطريَّ الشهيّ، ويستخرجَ من جوفه أنواعَ اللؤلؤ والمرجان حِيلةً جميلة تلبَسونها ايها الناس وتتلحَّوْن بها‏.‏

‏{‏وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏‏.‏

وترى أيُّها الناظرُ تلك السفنَ تمخر عبابَ الماء وتشقّه‏.‏‏.‏ كلّ ذلك في خِدمتكم، سخَّرى الّلهُ لكم أيها الناسُ لتنتَفِعوا بما فيه، وتطلبوا من فضلِ الله الرزقَ عن طريق التجارة وغيرا، فلْتشركوا اللهَ على ما هيَّأ لكم وأنعمَ به عليكم‏.‏

‏{‏وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ‏}‏

وجعل في الأرض جبالاً ثابتة حتى لا تميل بكم وتضطربَ بما عليها‏.‏

‏{‏وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏‏.‏

وجعل في هذه الأرضِ أنهاراً تجري فيها المياهُ الصالحة للشرُّرب والزرع، وجعلَ فيها طُرُقاً ممهَّدة لتهتدوا بها في السَّير إلى مقاصدكم‏.‏

‏{‏وَعَلامَاتٍ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏‏.‏

وجعلَ لكم في هذا الكون علامات ودلائل يهتدي بها الساري ويسترشدُ في أثناء سيرة ليلاً بالنجوم التي أودعَها اللهُ في السماء‏.‏

بعد ان بيّن الله الدلائل على وجود الإله القادر، الذي خلَقَ هذا الكونَ على أحسنِ نظام، وان جميع ما في هذا الكون في خدمة الإنسان- أخذَ يردُّ على المشركين ويُبطل شِرْكَهم عبادتضهم غيرَ الله من الأصنام والأوثان، وأنهم عاجِزون لا يستطيعون اني يخلقوا شيئا فقا‏:‏

‏{‏أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

أفمنْ يخلُق كلَّ هذه الأشياءَ التي مرَّ ذِكُرها وغيرها، كمن لا يخلُق شيئاً لا كبيراً ولا صغيرا، أتَعْمُون أيّها المشرِكون عن آثار قدرةٍ الله فلا تعتَبروا وتشركوا الله عليها‏!‏‏؟‏‏.‏

ثم بعد ان نبّهههم سبحانه إلى عظَمته وقدرته، ذكَّر الناسَ بنعمة عليهم واحسانه فقال‏:‏

‏{‏وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

إنْ تحاولوا عدَّ نِعم الله عليكم فلن تستطيعوا احصاءَها لكثرتها‏.‏‏.‏‏.‏ وأكثرُ النعمٍ لا يدري بها الإنسانُ لأنه يألفُها فلا يعشر بها إى حينَ يفتقدها‏.‏ إن الله لغفورٌ، يستُرُ عليكم تقصيركم في القيام بشكرها، رحيم بكم يُفيض عليكم نعمه‏.‏

‏{‏والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ‏}‏‏.‏ لا يخفى عله شيء من سركم وجهركم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 23‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏21‏)‏ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏22‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

أيان يبعثون‏:‏ متى يبعثون‏.‏ لا جرم‏:‏ لا بد‏.‏ ولا محالة وتأتي بمعنى القسم‏:‏ حقا‏.‏

‏{‏والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏}‏‏.‏

إن هذه الأوثانَ التي تبعدونها من دونِ الله لا تخلق شيئاً بل هي مخلوقة، فيكف يكونُ إلهاً ما يكون مصنوعاً بالأيدي‏!‏‏!‏

وهم ‏{‏أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏‏.‏

إنها جماداتٌ ميتة لا حِسَّ لها ولا حركة، ولا تسمع ولا تُبصر ولا تعقل، وما تدري هذه الأصنامُ متى تكون القيامة والبعث للناس، فلا يَليقُ بكم أيّها العقلاء بعدَ هذا أن تظنوا أنها تنفعكم فتُشرِكوها مع الله في العبادة‏.‏

ولما أبطل اللهُ عبادة الاصنام وبيّن فساد مذهب المشركي- بيَّن أنه الإله الواحد الخالقُ المدبِّر‏.‏

‏{‏إلهكم إله وَاحِدٌ فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ‏}‏‏.‏

ان الإله الذي تجبُ عبادته هو الله الواحدُ الخالق لا شريك له، أما الذين لا يؤمنون بالعبث والحساب فإنّ قلوبَهم مغلَقَةٌ منكِرة لوحدانيته، وهم مستكبِرون لا يريدون التسليمَ بالبراهين الواضحة، ولا يؤمنون بالرسول الكريم‏.‏

وبعد ان ذكر الأسبابَ التي لأجلِها أصرَّ الكفار على الشِرك وانكارِ التوحيد- ذَكَرَ هنا وعيدهم على أعمالهم فقال‏:‏

‏{‏لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏‏.‏

حقاً إن الله يعمل ما يسر هؤلاء المشركون ويعمل ما يعلنون من كفرهم وافترائهم عليه‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين‏}‏ عن سماع الحق والخضوع له‏.‏

وفي الحديث الصحيح‏:‏ «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقالُ ذرةٍ من كِبْر» وفي حديث صحيح آخر «ان المتكبرين امثال الذر يم القيامة، تطؤهم القيامة، تطؤهم الناس باقدامهم لتكبّرهم»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 29‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏25‏)‏ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏27‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

أساطير الاولين‏:‏ أباطيل وخرافات السابقين من الأمم‏.‏ الأوزار‏:‏ الآثام واحدها وزر‏.‏ ساء ما يزرون‏:‏ بئس ما يعملون من آثام فاتى الله بنيانهم من القواعد‏:‏ هدمها من الأساس‏.‏ فخر عليم السقف‏:‏ سقط عليهم‏.‏ فالقوا السلم‏:‏ استسلموا‏.‏ مثوى المتكبرين‏:‏ مكان إقامتهم‏.‏

بعد ان ذكر الله تعالى دلائلَ التوحيد والبراهين الواضحة على بطلان عبادةٍ الأصنام وعدَّدَ نِعمه على عبادِه وما سخَّره في هذا الكون للإنسان- أردفَ ذلك بذِكر شبُهات من انكروا النبوة والجواب عنها فقال‏:‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين‏}‏‏.‏

كان كفار قريش وزعماؤهم يخشون أن يأتيَ الناسُ ويجتمعوا بالرسولِ الكريم عليه الصلاةُ والسلام ويقولون‏:‏ ان محمداً رجلٌ حلو اللسان، إذا كلّمه أحدٌ ذهب بعقله‏.‏ وكانوا يرقبون الطرقَ المؤدّيةَ الى مكة حتى يمنعوا من يأتي قاصداً الرسولَ الكريم ويصدّوه، كما يفترون على الرسول عليه الصلاة والسلام أقوالاً مخلتفة، فتارةً يقولون إنه ساحر، وأخرى إنه شاعرٌ أن كاهن الخ، وما هذا الّذي يأتي به إلا أباطيل الأُمم السابقة وخرافاتها يتلوها على الناس‏.‏

وكل هذه الأمور الّتي يأتونها من نوعِ الدعاية يدبِّرونها حتى يتفادوا الإيمان بالنبيّ الكريم ولكنّ اللهَ هزمهم ونَصَرَ رسوله والمؤمنين‏.‏

‏{‏لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ‏}‏‏.‏

إما عمِلوا، وتقولَّوا الكذبَ ليصدُّوا الناسَ عن اتِّباع رسول الله، ولتكون عاقبتهم أنهم يتحملون آثامَهم وآثام الذين غرَّروا بهم وأضلُّوهم فاتَّبعوهم على جهلٍ وبغير علم‏.‏

‏{‏أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ‏}‏ بئس ما يرتكبونه من الإثمِ والذنوب‏.‏

ثم بين لهم أن عاقبة مكرِهم عائدة إليهم، كدأْب مَن قبلَهم من الأمم السابقة الذين اصبهم من العذاب ما أصبهم بتكذيب رسلهم، فقال‏:‏

‏{‏قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏‏.‏

ان الذين من قبلهم من الأمم السابقة قد مكروا برسلهم وكذّبوهم ودبروا لهم المكايد، فأبطل الله كيدَهم ودمرهم بلادهم وهدمها من الأسس، فانهارت البيوت وخرَّت سقوفها على أصحابها، واتاهم العذاب من حيث لا يشعرون‏.‏

والله سبحانه سوف لا يُنجيهم من العذاب في الآخرة، بل لهم عذابٌ أشد واعظم‏.‏

‏{‏ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ‏؟‏‏}‏‏.‏

يسألهم الله تعالى يوم القيامة على سبيل الخِزي والاستهزاء بهم ويقول لهم‏:‏ اين الذي اتخذتموهم شركاءَ لي في العبادة، وكنتم تحاربونني ورسُلي في سبيلهم‏؟‏ أين هم حتى ينصروكم ويمدوا لكم يد العون‏؟‏ فلا يستطيعون جوابا‏.‏

‏{‏قَالَ الذين أُوتُواْ العلم إِنَّ الخزي اليوم والسواء عَلَى الكافرين‏}‏‏.‏

وحينئذ يقول الذين يعلمون الحقّ من الأنبياء والمؤمنين والملائكة ان الذل والخزيَ والهوانَ اليوم على الكافرين المكذبين‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع‏:‏ «تشاقونِ» بكسر النون‏.‏ والباقون «تشاقونَ» بفتحها‏.‏

ثم يبيّن ان الكافرين الذين يستحقون هذا العذاب هم الذين استمروا على كفرهم الى ان تتوفاهم الملائكة وهم ظالمون‏:‏

‏{‏الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ‏}‏‏.‏

ماذا يفعلُون في ذلك الموقف المخزي‏؟‏‏.‏

‏{‏فَأَلْقَوُاْ السلم مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء‏}‏‏.‏

إنهم استسملوا لَمّا عاينوا العذابَ قائلين‏:‏ ما كنّا نشرك بربّنا احداً، ولكنّ الله يكذّبهم بقوله‏:‏

‏{‏بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

ان الله لا يَخفى عليه شيء، وهو على علمٍ بما كنتم تكفرون وتكذبون‏.‏

ثم بين الله تعالى مصيرهم المحتوم، فقال‏:‏

‏{‏فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين‏}‏‏.‏

ان مصيركم جهنمُ فادخلوها من أبوابها المتعددة، وذوقوا الواناً من العذاب خالدين فيها أبداً، وبئس المقامُ والمثوى لمن كان متكبراً عن اتّباع الرسل والاهتداء بما أُنزل عليهم من آيات‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة‏:‏ «الذين يتوفاهم» بالياء‏.‏ والباقون بالتاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 34‏]‏

‏{‏وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏30‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏31‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏32‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏33‏)‏ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

ينظرون‏:‏ ينظرون‏.‏ أمر بك‏:‏ حكم ربك فيهم‏.‏ حاق بهم‏:‏ أحطا بهم‏.‏

بعد ان بين اله أحوالَ المكذبين وما ينالهم في الدنيا والآخرة، وذكر هنا وصف المؤمنين وثقتَهم بالله ورسوله، وما أعدّ لهم من الخير والسعادة في جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ جزاء ايمانهم واحسانهم‏.‏

‏{‏وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ‏}‏‏.‏

وقيل للذين آمنوا بالله واتقوا‏:‏ ما الذي أنزلَه ربُّكم على رسوله‏؟‏ قالوا‏:‏ أَنزل عليه القرآن فيه خيرُ الدنيا والآخرة للناس جميعا، فكانوا بذلك من المحسنين‏.‏ والله تعالى وعد بان يكافئ المحسنين بحياة طيبة، وفي الآخرة لهم الجنةُ بما أحسنوا‏.‏

‏{‏وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين‏}‏‏.‏

لنِعم الدارُ التي يقيم فيها المتقون، جناتُ عدْن تجري من تحت قصورها واشجارها الانهار، ولهم فيها ما يردون من النعيم‏.‏ ومثل هذا الجزاء الأوفى يجزي الله الذين اتقوه‏.‏

وفي هذا حثٌّ للمؤمنين على الاستمرار على التقوى، ولغيرِهم على تحصيلها‏.‏

‏{‏الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادخلوا الجنة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

هؤلاء المتقون تقبض الملائكة أرواحَهم طيبين، طاهرين من دَنس الشِرك والمعاصي، وتستقبلهم الملائكة بقولهم‏:‏ سلام عليكم، ادخلوا الجنة بما قدّمتم من أعمال صالحة في دنياكم ولن يصيبكم بعدَ اليوم مكروه‏.‏

أخرج ابن جرير والبيهقي عن محمد بن القرظي قال‏:‏ «إذا اشرفَ المؤمن على الموت جاءه ملَك فقال‏:‏ السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام، وبشرّه بالجنة»‏.‏

ثم يعود الكلام عن المشركين من قريش‏:‏ ماذا ينتظرون، بعد عنادهم وكفرهم وتكذيبهم للرسول الكريم عليه صلواتُ الله وسلامه‏؟‏ وجزاءُ كفرهم وتكبّرهم النارُ وبئس القرار‏.‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏‏.‏

ماذا ينتظر كفار مكة الذين قالوا ان القرآن أساطيرُ الأولين غير ان تأتيَهم الملائكة لتبقض اوراحهم، او يأتي أمر الله بالعذاب المهلك‏.‏ وهم ليسوا بأول من كذّب الرسل، فقد فعل مثلَهم الذين من قبلهم من الأمم وحلّ بهم العذاب، وما ظَلضمهم اللهُ في ذلك، فقد اندّرهم بواسطة الرسل، وإننزاله الكتب، ولكنْ ظلموا أنفسَهم بمخالفة الرسل وتكذيبهم ما جاؤا به‏.‏ ثم اعقب الله ذلك بذكر ما ترتب على اعمالهم فقال‏:‏

‏{‏فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏‏.‏

لهذا نزلت بهم عقوبةٌ من الله جزاءَ ما عملوا من سيئات، وأحطا بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 37‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏35‏)‏ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏36‏)‏ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

الطاغوت‏:‏ كل ما عُبد من دون الله من شيطان وكاهن وصنم، وكل من دعا الى ضلالة‏.‏ حقت عليه‏:‏ وجبت عليه‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ‏}‏‏.‏

لقد تكرر هذا القول من المشركين، وهم يريدون بقولهم هذا أن الله سبحانه أراد ان يشرِكوا ورضَي بذلك‏.‏ وهذه مغالطةٌ وحجّة باطلة يستندون عليها من كفرهم‏.‏

وقد رد الله عليهم شُبْهَتَهم هذه بقوله‏:‏

‏{‏كذلك فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ ومثل هذا الفعل الفعل الشنيع فعلَ مَن قبلَهم من الأمم‏.‏ ثم بيّن خطأهم فيما يقولون ويفعلون فقال‏:‏

‏{‏فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين‏؟‏‏}‏‏.‏

هذه هي مهمة الرسل‏.‏‏.‏‏.‏ إبلاغُ الناس رسالاتِ ربهم وانذارُهم، وليس عليهم هداهم‏.‏

فالله لا يريد لعباده الشِرك، ولا يرضى لهم ان يحرِّموا ما أحلَّه لهم من الطيبات، وإرادتُه ظاهرة منصوص عليها في شرائعه، وانما شاءت ارادة الله أن يخلقَ البشرَ باستعداد للهدى والضلال، وان يدعَ مشيئتهم حرةً في اختيار اي الطريقين‏.‏ لذا منحهم العقل يرجّحون به أحدَ الاتجاهين، وبَعَثَ الرسُلَ منذِرين ومبشّرين‏.‏

ثم بين الله تعالى ان بعثة الرسل امرٌ جرت به السنّة الالهية في الأمم كلها، وجُعلت سبباً لهُدى من أراد اللهُ هدايته، وزيادةِ ضلالِ من أراد ضلاله، كالغذاء الصالح ينفع الصحيح السليم، ويضر بعض المرضى‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين‏}‏‏.‏

ولقد أرسلنا في كل أمةٍ سلفتْ قبلكم رسولا يقول لهم‏:‏ اعبدوا الله وحده، واجتنبوا عبادة مَن دونَه مما لا ينفع ولا يضر، ففريقٌ استمع الى الرسول واهتدى، وفريق أعرضَ عن سماع الحق فحق عليه العذاب‏.‏ واذا كنتم في شكّ أيها المشركون، فسيروا في الأرض قريبا منكم، فانظروا ما حلّ بالمكذّبين من عاد وثمود وقوم لوط، وكيف كانت عاقبة أمرهم لعلّكم تعتبرون بما حل بهم‏.‏

فالقرآن الكريم ينفي بهذا النصِّ، وَهْمَ الإجبار لوَّح به المشركون، والذي يستند اليه كثير من المنحرفين‏.‏ والعقيدةُ الاسلامية عقيدةٌ واضحة، فالله يأمر عبادَه بالخير وينهاهم عن الشر، ويعاقب المذنبين أحيانا في الدنيا، وعقابُ الآخرة لا شكَّ فيه، ويثيب المؤمنين المتقين‏.‏

ثم خاطب الله رسوله الكريم مسلّياً له عما يراه من جحود قومه وشديد إعراضهم، مع جدَبه عليهم وعظيم رغبته في إيمانهم، ومبيّنا له ان الأمر بيدِ الله‏.‏ فقال‏:‏

‏{‏إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ‏}‏‏.‏

ان تكن حريصا ايها النبي على هداية المشركين من قومك فلن ينفهم حرصك، لانهم قد تحكّمت في نفوسهم الشهات والكِبْرُ والعناد، وليس لهم يومَ القيامة ناصر ينصرهم من عذاب الله‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ اهل الكوفة‏:‏ «لا يهدي بفتح الياء وكسر الدال‏.‏ والباقون‏:‏» لا يهدى «بضم الياء وفتح الدال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 42‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏40‏)‏ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

جهد ايمانهم‏:‏ اشد ايمانهم، أي بالغوا في الايمان لنبوئنهم‏:‏ نُسكنهم، ونعطيهم‏.‏

‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ‏}‏‏.‏

لقد أقسمَ المشركون أشدّ أيمانهم وأكدوا بان الله لا بيعث من يموت‏.‏ وكانت قضيةُ البعث بعد الموت هي المشكلة الكبرى عند المشركين‏.‏‏.‏‏.‏ لقد غلقوا عن معجزة الحياة الأولى، مع أن الله الذي اوجدّ الانسانَ من العدم قادر على ان يبعثه بعد الموت‏.‏ لذلك ردّ الله عليكم وكذبهم فقال‏:‏

‏{‏بلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

بلى إن الله سبعث الخلقَ بعد الموت، قد وعد بذلك وعدا حقا لا بد منه، ولن يُخلف اللهُ وعدَه، ولكن اكثر الناس لجهلهم لا يعلمون حكمة الله في خلق هذا العالم‏.‏

ثم ذكر سبحانه الحكمة في المعاد، وقيامِ الأجساد يوم القيامة فقال‏:‏

‏{‏لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ‏}‏‏.‏

ان من عدْل الله في خلقه ان يبعهم جميعاً بعد موتهم، ليبين لهم حقائق الأمور التي اختفلوا فيها، فيعلم المؤمنون أنهم على حق، ويعلم الكافرون كذبهم في دعواهم ان الله لا يبعث من يموت‏.‏

ثم أخبر عن كامل قدرته، وانه لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء فقال‏:‏

‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏‏.‏

إننا اذا اردْنا شيئا فإنما نقول له كن فيكون، والبعث شيء من هذه الأمور يتم عندما نريد‏.‏ ‏{‏مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 29‏]‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الكسائي وان عامر‏:‏ «فيكون» بنصب النون‏.‏ والباقون بالرفع‏.‏

ثم جاء العرض للجانب المقابل للمنكرين، فذكر لمحةً عن المؤمنين الذين حملهم إيمانُهم على الهجرة في سبيل الله، فقال‏:‏

‏{‏والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

والمؤمنون الذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم وهاجروا الى بلاد غريبة عنهم وتحمّلوا التعب احتساباً لأجر الله، وإخلاصاً لعقيدتهم من بعدِ ما وقع عليهم الظلم والعذاب، سنعوّضهم عن ذلك مساكنَ طيبةً في الدنيا وسيكون أجرُهم يوم القيامة أكبرَ ونعيمهم في الجنة أعظم‏.‏

ثم وصف اولئك المهاجرن بقوله‏:‏ ‏{‏الذين صَبَرُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ سينالون أعظم الأجرِ عند الله في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 50‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏43‏)‏ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏44‏)‏ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏45‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏46‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏47‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏49‏)‏ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

اهل الذكر‏:‏ اهل العلم‏.‏ البينات‏:‏ المعجزات‏.‏ الزبر‏:‏ الكتب، مفردها زبور‏.‏ زبرت الكتاب‏:‏ كتبته‏.‏ المكر‏:‏ السعي بالفساد خفية‏.‏ في تقلبهم‏:‏ في سيرهم وسعيهم وتصرفهم‏.‏ على تخوف‏:‏ على تنقص‏.‏ يتفيأ ضلاله‏:‏ يعود ويرجع‏.‏ داخرون‏:‏ صاغرون‏.‏ من فوقهم‏:‏ بالقهر والغلبة وهي كناية عن قدرة الله‏.‏

‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

انكر كفارُ قريش بعثة الرسول الكريم، وقالوا‏:‏ اللهُ أعظمُ من ان يكون رسوله بشراً‏.‏ فردّ الله تعالى عليهم مبيناً أنه لم يرسِل الرسل إلا رجالاً من بني آدم، مؤيَّدين بالوحي، وانه لم يرسل ملائكةً وخلقا آخر‏.‏ فاسألوا اهل العلم بالكتب السابقة، ان كنتم لا تعلمون ذلك‏.‏

‏{‏بالبينات والزبر وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

وقد أيَّدنا هؤلاء الرسل بالمعجزات والدلائل المبينّة لصدقهم، وانزلنا إليك أيها النبي القرآنَ لتبين للناس ما اشتمل عليه من العقائد والأحكام، وتدعوهم الى التدبر فيه، ولعلّهم يتفكرون في آيات الله، ويتدبرون القرآن ويدركون أسراره واهدافه، ويعلمون انه أُنزل لخيرهم ومصلحتهم‏.‏

ثم حذّرهم وخوفهم مغبّة ما هم فيه من العصيان والكفر فقال‏:‏

‏{‏أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

افأمِن الذين مكروا برسول الله وحاولوا صدَّ أصحابه عن الايمان بالله ان يصيبهم بعقوبة من عنده‏.‏

1- إمان بان يخسف بهم الارض ويبيدهم من صفحة الوجود كما فعل بقارونَ وغيره‏.‏

2- او بأن يأتيهم بعذابٍ من السماء فجأة من حيث لا يشعرون كما فعل بقوم لوط‏.‏

3- او يأخذَهم بعقوبة وهم في أعمالهم او اسفارِهم يكدحون في الارض‏.‏

4- او يهلكهم بنقصِ اموالهم او بنقص انفسِهم رويداً وهم في كل لحظة في عذاب من الخوف منه والترقيب لوقوعه، فلا تتمادوا ايها المشركون وتعتروا بتأخير عقوبتكم، فان الله سبحانه رؤوف رحيم، ورحمة الله واسعة شاملة‏.‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمين والشمآئل سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ‏}‏‏.‏

أَغَفلَ هؤلاء الناس عن آيات الله حولهم، ولم يروا ما خلقه من الاشياء القائمة تنتقل ظلالها، وتمتد تراة يمينا وتارة شمالا، وكل ذلك خاضع لأمر الله مناقد لإحكام تدبيره والكل ساجد لله وهم صاغرون‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي وخلق‏:‏ «الم تروا» بالتاء والباقون بالياء‏.‏

‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملائكة وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏‏.‏

وللهِ وحده يخضع وينقادُ جميع ما خلقه في السموات، وما يدبّ على الأرض ويمشي على ظهرها من مخلوقات، وفي مقدِّمهم الملائكةُ يخضعون له ولا يستكبرون عن طاعته‏.‏

‏{‏يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ وهنا موضعُ سجدة‏.‏

وكل هؤلاء الذين مر ذكرهم يخافون ربهم القاهرة، ويفعلون ما يأمرهم به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 55‏]‏

‏{‏وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏51‏)‏ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ‏(‏53‏)‏ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

الواصب‏:‏ الدائم‏.‏ تجأرون‏:‏ تتضرعون، جأر‏:‏ رفع صوته بالدعاء والاستغاثة‏.‏

‏{‏وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ فَإيَّايَ فارهبون‏}‏‏.‏

يحذّر الله تعالى من الشِرك به، ويقرر وحده الآله، انما الله الاله واحد فلا تعبدوا منعه إلهاً آخر، وخافوني ولا تخافوا غيري‏.‏

ثم بين انه هو المالك لهذا الكون، وان الدين له والطاعة فقال‏:‏

‏{‏وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض وَلَهُ الدين وَاصِباً أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ‏}‏‏.‏

ان الله هو المالك الواحد لا شريكَ له في شيءٍ من ذلك، وله الطاعةُ والاخلاص دائما، فتحرروا ايها الناس من عبادة سواه، وأخلصوا له العبادة‏.‏‏.‏ أفبعدَ ان علمتم هذا ترهبونَ غيرَ الله، وتخافون سواه‏؟‏

‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ‏}‏‏.‏

ان كل ما لديكم من نِعم في أبدانكم من صحة وعافية وسلامة، وفي أموالكم- لهي هبة الله، فبيده الخيرُ وهو على كل شيءٍ قدير، إنه هو الملجَأ الوحيد لكم، فإذا لحِقَكم ما يضرُّكم فإليه تتضرعون بالدُّعاء أن يكشفه عنكم‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

ثم استجابَ لدعائكم ورفع عنكم ما أصابكم من الضرر، وفرَّج البلاءَ عنكم، اذا جماعة منكم ينسَون ربهم ويجعلون له شركاء، ويعبدون غيره‏.‏

‏{‏لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ‏}‏‏.‏

ذلك يحدث من بعضهم إذ ينكرون فضلَ خالقهم، ويكفرون بنعمةِ التي لا تحصى، ولذلك هدّدهم وتوعدهم بقوله‏:‏ ‏{‏فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ تمتّعوا في هذه الحياة الدنيا، فسوف تعلمون عاقبة كفرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 60‏]‏

‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ‏(‏56‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏58‏)‏ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏59‏)‏ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏60‏)‏‏}‏

تفترون‏:‏ تكذبون‏.‏ كظيم‏:‏ ممتلئ غيظا وغما‏.‏ يتوارى‏:‏ يستخفي‏.‏ على هون‏:‏ على ذل‏.‏ يدسه في التراب‏:‏ يخفيه في التراب، وهو وأد البنات‏.‏ مثل السوء‏:‏ الصفة السيئة‏.‏ المثل الاعلى‏:‏ الصفة العليا‏.‏

بعد ان بين الله اقوال المشركين، اردف هنا بذكر قبائح افعالهم فقال‏:‏

‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ‏}‏‏.‏

ويجعل المشركون لالهتهم التي لا عِلْمَ لها، لأنها جاد، شيئاً من أموالهم يتقربون به إليها‏.‏ وقد مر في سورة الانعام قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً‏}‏ ‏[‏الانعام‏:‏ 136‏]‏‏.‏

‏{‏تالله لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ‏}‏‏.‏

هَذا قِسَمٌ من الله عظيمٌ فيه تهديدٌ ووعيد على كذبهم وافترائهم، وأن اللهَ سوف يسألهم عن هذا الكذب‏.‏

‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ‏}‏‏.‏

وهذا ايضاً من افترائهم، حيث جعلوا الملائكة الذين هم عبادُ الرحمن بناتِ الله، فنسبوا اليه الولد، وهو لم يلدْ ولم يولد‏.‏ سبحانه تنزّه عن إفكهم‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ‏}‏ يختارون لأنفسِهم الذكور، ويأنفون من البنات‏.‏ وهذا جهلٌ كبير، والحياة تنشأ من الذكر والأنثى، فالأنثى أصلية في نظام الحياة أصالةَ الذكر، بل ربما كانت أشدَّ أصالةً لأنها المستقر، فكيف يأنفون من الأنثى ونظام الحياة يقوم على وجود الزوجين‏!‏‏!‏

ثم أشار الى شدة كراهيتهم للاناث بقوله‏:‏

‏{‏وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يتوارى مِنَ القوم مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ‏}‏‏.‏

واذا أُخبر أحدُهم بانه وُلدت له أنثى، اسودَّ وجهه من الغم والغيظ، وحاول الاختفاء عن أعين الناس، وبات بين أمرين‏:‏ إما أن يبقيها على قيد الحياة مع ما يلحقُه من الذل في زعمه، وإما ان يدفنَها في التراب‏.‏‏.‏ بئسَ ما قالوا، وبئسَ حُكمهم الذي ينسِبون فيه الى الله ما يكرهون ان يُنسَب اليهم‏.‏

‏{‏لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء وَلِلَّهِ المثل الأعلى وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏‏.‏

للذين لا يصدّقون بالمعاد والثواب والعقاب صفةُ السوءِ، وله تعالى الصفةُ العليا، تنزَّه عن الولد، وله العزّة والحكمة، وجميعُ صفات الجلال والكمال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 64‏]‏

‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ‏(‏62‏)‏ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

اجل مسمى‏:‏ يوم القيامة‏.‏ ما يكرهون‏:‏ البنات‏.‏ تصف السنتهم الكذب‏:‏ يكذبون‏.‏ لا جرم‏:‏ حقا‏.‏ مفرطون‏:‏ بفتح الراء، معجل بهم‏.‏ ومفرطون بكسر الراء‏:‏ متجاوزون الحد‏.‏ ومفرطون بكسر الراء المشددة‏:‏ مقصرون وقرئ بالثلاثة كما سيأتي‏.‏

لما حكى الله عن المشركين عيمَ كفرهم وقبيح أفعالِهم، بيّن هنا عِلمه بخلْقه مع ظلمهم وأنه يُمهلهم بالعقوبة وإظهاراً لفضله ورحمته‏.‏

‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى‏}‏‏.‏

لو أن الله يؤاخذ الكفارَ والعصاة بذنوبهم، ويعاجلُهم بقعوباتهم واستحقاقِ جناياتهم، لما ترك على وجه الأرض أحداً ممن يستحقّ ذلك من الظالمين، وإنما يؤخرهم تفضُّلاً منه ليراجعوا التوبة، ولكن يؤخرهم الى أجَلٍ سمّاه وعيّنه لهم‏.‏

‏{‏فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏‏.‏

فاذا جاء الوقت الذي عيّنه، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون‏.‏ وقد تقدم في سورة الأعراف ‏{‏فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ ‏[‏33‏]‏‏.‏

‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى‏}‏‏.‏

وينسب هؤلاء المركون الى اللهِ ما يكروهون لأنفسهم من البنات، وتنطق ألسنتُهم بالكذِب إذ يزعمون أنّهم سيدخُلون الجنة‏.‏ ورُوي أنهم قالوا‏:‏ إن كان محمدٌ صادقاً في البعث فإنّ لنا الجنة، فردّ علييهم مقالهم بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ‏}‏ حقا ولا شك أنّ لهم جهنّم وأنّهم إليها معجَّلون‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع‏:‏ «مفرِطون» بكسر الراء، وقرأ أبو جعفر «مفرِّطون» بكسر الراء المشددة‏.‏ والباقون «مفرَطون» بفتح الراء كما هو في المصحف‏.‏

ثم بيّن الله ان هذا الصنيع الذي صدرَ من قريشٍ قد حدث مثلُه من الأمم السابقة في حق أنبيائهم، فقال مسلّياً رسولَه الكريم على ما كان يناله من الغم بسبب جهالاتهم وعنادِهم‏.‏

‏{‏تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

يُقسم الله تعالى بأنه أرسل رسُلاً من قبلك أيها الرسول إلى أُمم سابقة فحسَّن لهم الشيطانُ الكفرَ فاتّبعوه وكذّبوا رسلَهم، فهو متولي أمورهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار الأليم‏.‏

‏{‏وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

القرآن هو الفاصل بين الناس فيما يتنازعون فيه، وهو الهداي الى سبيل الرشاد لجميع الخلْق، وما أنزلنا عليك هذا القرآن الا لتبيِّن به للناس أجمعين الحقَّ فيما اختلفوا فيه، ولتهديَهم الى الصراط المستقيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 69‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏65‏)‏ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ‏(‏66‏)‏ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ‏(‏68‏)‏ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

الأنعام‏:‏ يطلق على الجمع ويذكر ولذلك قال هنا مما في بطونه وفي سورة المؤمنين ونسقيكم مما في بطونها بالتأنيث «الآية 21» من بين فرث ودم، الفرث‏:‏ ما يبقى في كرش الحيوان من بقايا الاكل‏.‏ سائغا‏:‏ سهل المرور في الحلق تتخذون منه سكرا‏:‏ خمرا‏.‏ ورزقا حسنا‏:‏ كل ما يستخلص من الثمرات من انواع المربى وغيره‏.‏ يعرشون‏:‏ بضم الراء وكسرها‏.‏ يرفعون العرائش من الكرم وغيرها‏.‏ ذللا‏:‏ مفردها ذلول‏:‏ الطائع المنقاد‏.‏

‏{‏والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ‏}‏‏.‏

هذه الآية من الحجج الدالّةِ على توحيد الله، وقد ذُكرت في سورة البقرة 22 و164 والانعام 99 وسورة الرعد 19، وسورة ابراهيم 32 وفي سورة النحل هذه 10‏.‏

‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ‏}‏‏.‏

ان لكم أيها الناسُ في الأنعام من الإبلِ والبقر والغنَم لموعظة دالّة على قدرة الخالق، إذ يُخرج اللبنَ السائغ اللذيذ الطعم من بين الفرْث والدم، فالعشبُ الذي يأكله الحيوان يتولَّد من الماء والتراب، فهذا الطينُ يصير نباتاص وعشباً، ثم يأكله الحيوانُ فيتحول الى لبنٍ سائغ للشاربين‏.‏‏.‏‏.‏ وفي هذا كلِّه أكبرُ وأعظمُ دليل على قدرة الخالق سبحانه‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب‏:‏ «نسقيكم» بفتح النون والباقون‏:‏ «نسقيكم» بضمها والمعنى واحد، سقاهُ وأسقاه‏.‏

‏{‏وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

ومن هذه النِعم التي أنعم اللهُ بها عليكم ما تتخذون من العنب والتمر، فتصنعون منه خَمْرا، ‏(‏وكان هذا في مكةَ وقبل تحريم الخمر‏)‏، ورزقاً حسنَاً من الثمار وما تعلمون منه من شراب ومربَّى وغير ذلك‏.‏ وفي هذه آية دالة على قدْرة الله ورحمته لكم لعلّكم تسمعون فتعقلون‏.‏

‏{‏وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ‏}‏‏.‏

وألهَمَ اللهُ النحل أسبابَ حياتها، ووسائلَ معيشتها، فهي تتَّخِذ بيوتاً في كهوف الجبال، وفي الشجر، وفي عرائشِ الكرم وغيرها‏.‏

ومن يرى خليَّةَ النحل وما فيها من نظامٍ وتدبير وهندسة بيوتٍ يجد العَجَبَ في هذه القدرةِ الفائقة والترتيب العجيب‏.‏ وقد كُتب في ذلك مؤلفاتٌ عديدة، فالخليّة مملكة قائمةٌ بذاتها، لها ملكة واحدة، وعددٌ كبير من الشغّالين منهم من يطعم الملكة التي تبيض لهم، ومنهم من يخدم الصغار ويربيهم، ومنهم من يحرس الخلية، ومنهم من يصنع العسلَ والشمع الذي تُبنى منه البيوتُ السداسية الشكل العجيبةُ في الدقة والصنع‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابو بكر وابن عامر‏:‏ «يعرُشون» بضم الراء‏.‏

و الباقون‏:‏ «يعرِشون» بكسر الراء‏.‏

‏{‏ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

ثم هداها الله للأكل من جميع أنواع الثمرات والنبات، وأن تسلكَ الطرق التي هيأها لها الله‏.‏ وبعد ان تتغذى من شتّى أنواع الثمار تهضم ذلك كلَّه ثم يخرج من بطونها شارب مختلف الالوان، جعل الله فيه شفاءً عظيما للناس، وغذاءً لا مثيل له‏.‏ ومنيرة العسل انه يُستعمل غذاء ودواء‏.‏ وقد أُلفت فيه مؤلفاتٌ عديدة، وكان العسل هو الوسيلةَ للتحلية من أقدم العصور الى ان صار السكّر سلعةً تجارية هامة‏.‏ وكما قتلُ‏:‏ ان عسل النحل مغذّ ويمتصه الجسم بسهولة، وينتفع به، ويحتوي على 70- 80% سكراً، والبقية ماء، واملاح معدنية، وآثار من البروتين والأحماض ومواد اخرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 74‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ‏(‏70‏)‏ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏71‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏73‏)‏ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

ارذل العمر‏:‏ أخسه وهو الهرم مع فقدان الذاكرة، لان كثيرا من المعمرين يبلغون مرحلة كبيرة في السن ويبقون بصحة وذاكرة جيدة‏.‏ ما ملكت ايمانكم‏:‏ العبيد‏.‏ حفدة‏:‏ جمع حفيد، ان الابن وابن البنت‏.‏ فلا تضربوا لله الامثال‏:‏ لا تجعلوا له اشباها ونظائر‏.‏

بعد ان ذكر الله عجائب أحوال ما ذكر من النبات والماء والأنعام والنحل- أشار هنا الى بعض عجائب أحوال البشَر من أول عُمر الإنسان الى آخره وتطوراته فيما بين ذلك‏.‏

‏{‏والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ الله عَلِيمٌ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

ان الله خلقكم أيها لناس ولم يتكونوا شيئا، ثم قدّر آجالاً مخلتفة، منكم من يتوفّاه مبكِّرا ومنك من يهرَم ويصير إلى أرذل العمر فتنقص قواه، ويكون في عقله وقوّتِه كالطِفل، فتكون عاقبته أن يفقدّ ذاكرته ولا يعود يعلم شيئا، حتى انه لا يستطيع التمييز بين أهله وأولاده وأقربائه، ‏(‏وقد رأينا أناساً بهذه الحالة‏)‏ ان الله عليم بأسرار خلقه، قادر على كل شيء‏.‏

ثم بعد ان ذكَر اللهُ تفاوتَ الناس في الأعمال ذكر تفاوتَهم في الأرزاق فقال‏:‏

‏{‏والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ‏}‏‏.‏

والله جعلكم متفاوتين في أرزاقكم، فمنكم الغنيُّ ومنكم الفقير، فما لاذين فُضِّلوا بالرزق وأعطاهم الله المالَ الكثير بمعطين قِسماً من أموالهم لعبيدهم المملوكين لهم حتى يصيروا مشاركين لهم في الرزق ومساوين لهم، مع أنهم إخوانُهم وبشرٌ مثلهم وهم اعوانهم‏.‏ فما بالكم ايها المشركون بالله، وهو الذي خَلَقَكم ورزقكم وأنعم عليكم‏!‏ كيف تجحدون بنعمة الله وتشركون به غيره‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابو بكر‏:‏ «تجحدون» بالتاء والباقون بالياء‏.‏

ثم ذكر ضرباً آخر من ضروب نِعمه على بعاده تنبيهاً الى جليل إنعامه بها إذ هي زينةُ الحياة فقال‏:‏

‏{‏والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات‏}‏‏.‏

واللهُ أنعمَ عليكم نِعماً لا تحصى، منها ان خلَق لكم أزواجاً لتسكُنوا الهيا، وأكبر نعمةٍ على الانسان هي الزوجةُ الصالحة، فهي جنّةُ البيت‏.‏ وجعل لكم من أزواجكم بنينَ وأبناءَ البنين والبنات، كما رزقكم من الأرزاق الطيبة التي تنعَمون بها، وهذه من زينة الحياة الدنيا‏.‏

‏{‏أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ‏؟‏‏}‏‏.‏

ابعدَ كل هذه النِعم، وكل هذه الدلائل البينة يُشركون بالله، ويكفرون بهذه النعم‏!‏‏!‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ‏}‏‏.‏

ومع كل هذِه النعم التي أنعم الله بها عليهم فإنهم يعبدون الأصنامَ التي لا تملِك شيئا، ولا تستطيع أن ترزقَهم أيَّ رزقٍ، سواء كان كان هذا الرزقُ آتياً من السماء كالماء أم من الارض كالنبات والشجر‏.‏

‏{‏فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

لا تجعلوا لله مَثَلاً ولا تشبّهوه بخلْقِه، ولا تبعدوا غيره، فانه لا شبيه له ولا مثيل‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 10‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 77‏]‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏76‏)‏ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏77‏)‏‏}‏

ألكم‏:‏ اخرس‏.‏ كَلٌّ‏:‏ عاجز، كأنه حمل ثقي على غيره فهو لا يستطيع ان يعمل شيئا‏.‏ الساعة‏:‏ القيامة‏.‏

بعد ان بين الله دلائل التوحيد البيانَ الشافي، وبيّن بعض نِعمه على عباده، ضرب هنا مثَلين يؤكد بهما إبطالَ عبادة الأصنام والشرك‏.‏

المثل الاول‏:‏ عبد مملوك لا يقدِر على شيء ورجل حر كريم غنيٌّ كثير الإنفاق سِراً وجهرا، ‏{‏هَلْ يَسْتَوُونَ‏}‏ هل يجوز ان يكونا سواءً في الكفاية والمقدرة‏!‏‏!‏ وعلى هذا فكيف يجوز ان يُسوَّى بين الله القادر الرازق، وبين الأصنام التي لا تملك شيئاً ولا تقدر على النفع والضرر‏!‏‏!‏ ‏{‏الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ إن الثناء كلَّه والحمد لله، وان أكثر هؤلاء لا يعملون فيضيفون نعمه الى غيره، ويعبدون من دونه‏.‏ والتعبير بقوله‏:‏ «هل يستوون» بالجمع، ولم يقل‏:‏ هل يستويان، لانه اراد النوع يعني هل يستوي العبيد والاحرار‏؟‏

والمثل الثاني‏:‏ مثل رجلّين احدُهما أبكم عاجزٌ لا يقدِر على عمل شيء، واينما توجَّه لا يأتي بخير، والثاني فصيحٌ قوي السمع، يأمر بالحق والعدل، وهو مستقيم ؤمن مخلص، هل يستويان‏؟‏ ولذلك لا يجوز مساواة الجماد برب العباد‏.‏

‏{‏وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

ولله عِلم ما غاب عن أبصاركم في هذا الكون، وما أمرُ مجيء يوم القيامة وبعث الناس عند الله الا كردّ الطرف، بل أسرعُ من ذلك، ان الله قادر على كل شيء، ولا أحدَ يملك معه شيئا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 83‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏79‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ‏(‏80‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏82‏)‏ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

في جو السماء‏:‏ الجو‏:‏ الفضاء ما بين السماء والارض، سكنا‏:‏ مسكنا‏.‏ يوم ظعنكم‏:‏ وقت ترحالكم وتنقلكم وسفركم‏.‏ الاثاث‏:‏ فرش البيت‏.‏ متاعا‏:‏ ما يتمتع وينتفع به في المتجر والمعاش‏.‏ ظلالا‏:‏ ما يستظل به‏.‏ اكنانا‏:‏ واحدها كن وهو كل ما يقي الحر كالبيت والكهف وغيره‏.‏ سرابيل‏:‏ واحدها سربال وهو القميص او الثوب‏.‏ وساربيل الحرب الدروع‏.‏ البأس‏:‏ الشدة عند الحرب‏.‏

‏{‏والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏‏.‏

وهذه المنن التي يذكرها ربُّنا يَعْرِ ض فيها مثلاً من حياة البشر تعجِز عنه قُواهم، ويعجز عنه تصوُّرُهم، وهو يقع كل يوم‏.‏ إن الله تعالى يُخرجكم ايها الناس من بطون أمهاتكم لا تدرِ كون شيئاً مما يحيط بكم، ثم أعطاكم السمعَ والبصرَ والأفئدة‏.‏ وقد ثبت للباحثين اليومَ أن حاسّة السمع تبدأ مبكرة جدّاً في حياة الطفل في الأسابيع القليلة الأولى، اما البصر فيبدأ في بالشهر الثالث، تركيز الإبصار إلا بعدَ الشهر السادس، وأما الفؤاد وهو الإدراك والتمييز- فلا يتم إلا بعد ذلك‏.‏ وهكذا فالترتيبُ الذي جاء به القرآن هو ترتيبُ ممارسة الحواس‏.‏

وهذه الاجهزة‏:‏ السمع والبصر والافئدة، في الإنسان من أعجب العجب في تركيبها وعملها وأداء وظيفتها، ومن أكبرِ الأدلة على وجو الخالق القدير، وهي وسائل للعمل والإدراك، لتؤمنوا بالله، وتشكروه على ما تفضل عليكم‏.‏

ثم بعد ذلك نبّه عبادَه الى دليلٍ آخر من آثار القدرة الالهية يراها الناس كلَّ يوم فلا يتدبرونها، فقال‏:‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السمآء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

الم ينظر المشركون الى الطير سابحاتٍ في الهواء، بما زوّدها الله به من أجنحةٍ أوسعَ من جسمِها تبسطها وتقبضها، وسخّر الهواء لها، فما يمسكهن في الجو الا الله بالنظامِ الذي خلَقها عليه، ان في النظر إليها والاعتبار بحمة الله في خلْقها، لدلالةً عظيمة ينتفع بها المؤمنون‏.‏

ولقد اخترع الانسان الطائرة وغيرها مما تطير في الفضاء، وقد انتفع بالطير وآلاته، وانه لَعملٌ جبّار ولكنه لا يزال غير أمين، ولا تزال تحفّ بالراكبين الاخطار، كما جعلوا القسم الاكبر منها للحرب والتدمير‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر وحمزة وخلف ويعقوب‏:‏ «الم تروا» بالتاء والباقون بالياء‏.‏

‏{‏والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ‏}‏‏.‏

ومن نِعمه تعالى عليكم أن جعلكم قادرين على إنشاء بيوت لكم تتخذونها مساكن لكم فيها وتطمئّنون فيها بأمنٍ وسلام، وجعل لكم من جلودِ الأنعام بيوتاً تسكنون فيها وتنقلونها بخفّةٍ وسرعة في أسفاركم وتنقّلكم، كما تتخذون من صوفها ووبرها وشعرها فُرُشاص ولباساً تتمتوعون بها في هذه الدنيا الى حين آجالكم‏.‏

‏{‏والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ‏}‏‏.‏

ومن نعمه تعالى عليكم ان جعل لكم من الأشجار وغيرِها ظِلالاً تقيكم شرّ الحر والبرد، وجعل لكم من الجبال مواضعَ تسكنون فيها، وجعل لكم ثياباُ تقيكم الحرَّ والبرد، ودروعاً من الحيديد تصونكم من قَسوة الحرب، كما جعل لكم هذه الأشياءَ فهو الآن يتم نعمتَه عليكم بالدِّين القيم، لعلكم تُسلمون، وتُخلصون عبادتكم له دون غيره‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو‏:‏ «يوم ظعنكم» بفتح العين‏.‏ والباقون بتسكينها‏.‏

وبعد ان عدّد ما أنعم به عليهم من النعم ذكر مايتَّبع معهم إذا أصرّوا على عنادهم فقال‏:‏

‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين‏}‏‏.‏

فإن أعرضوا وتولوا عنك ايها النبي، فلا تَبِعَةَ عليك في إعراضهم، فما عليك الا التبليغ الواضحُ، وحسْبُك ذلك وعلينا نحن حسابهم‏.‏

‏{‏يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون‏}‏‏.‏

انهم يعرفون أن هذه النعم كلَّها من الله، ولكنهم ينكرونها بكفرهم وعنادهم، وإن أكثرَهم لجاحدون نعم الله كافرون بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 89‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏84‏)‏ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏86‏)‏ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏87‏)‏ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ‏(‏88‏)‏ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

الامة‏:‏ الجيل من الناس‏.‏ شهيدا‏:‏ شاهدا‏.‏ لا يستعتبون‏:‏ لا يقبل عذرهم‏.‏ ولا هم ينظرون‏:‏ لا يؤخرون‏.‏ فالقوا اليهم القول‏:‏ يعين ان شركاءهم الذين كانوا يعبدونهم كذبوهم‏.‏ السلم‏:‏ الاستسلام تبيانا‏:‏ بيانا‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ‏}‏‏.‏

ويوم القيامة نحشرُ الناسَ ونأتي من كل أمةٍ بشهيدٍ يشهد لها او عليها بما قابلت رسولها، ويومئذ لا يُسمع من الكافرين أيُّ قول، لا يُقبل لهم اعتدار‏.‏ وذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 35-36‏]‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏‏.‏

ويوم القيامة اذا رأى الظالمون عذابَ النار، وطلبوا ان يخفَّف عنهم لا يجابُ طلبُهم، ولا يؤخرون عن دخول جهنم‏.‏

ثم اخبر الله عن محاولة المشركين إلقاءَ تبعه أعمالِهم على آلهتهم التي عبدوها وردَّ آلهتهم عليهم فقال‏:‏

‏{‏وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاءآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ‏}‏‏.‏

واذا رأى الذين أشركوا اآلهتَهم التي عبدوها قالوا‏:‏ يا ربنا هؤلاء الذين كنا نعبُدهم خطئين، فخفَّف عن العذابَ بإلقاء بعضِه عليهم‏.‏

فيجيبهم شركاؤهم قائلين‏:‏

‏{‏فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏‏.‏

فردّوا عليه قولَهم وقالوا إنكم لكاذبون في دعواكم أنّنا شركاء لكم في الإثم، وإنكم لما عبدتمونا، إنما عبدتُم أهواءكم‏.‏ ‏{‏وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏‏.‏

واستسلموا إلى الله خاضعين، ولم يجدوا من ينصرهم وخاب ظنهم بمعبوداتهم وما كانوا يفترون على الله الكذب‏.‏

‏{‏الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ‏}‏‏.‏

ان الذين كفروا ومنعوا غيرهم من الإيمان بالله زدْناهم عذاباً فوق العذاب الذي استحقّوه بالكفر، بسبب ما كانوا يعملون من الفساد وإضلال غيرهم من الناس، فلهُم على ذلك عذابٌ مضاعف‏.‏

ثم يخاطب الله رسولَه الكريمَ بهذه الآية المبشرة للمؤمنين‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاءآء‏}‏‏.‏

اذكر أيها الرسول يومَ القيامة، يوم يبعُ الله نبيَّ كلِ أمةٍ شاهداً عليهم، ونجيء بك شاهدهاً على هؤلاء الذين كذّبوك‏.‏

‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ‏}‏‏.‏

ولقد أنزلْنا عليك القرآن يبيّن للناس كلّ شيءٍ من الحق وما يحتاجون اليه، وفيه الهدايةُ والرحمة والبشرى للذين أسلموا وآمنوا بك وصدقوك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 93‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏90‏)‏ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏91‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏92‏)‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

العدل‏:‏ الانصاف، والاستقامة واعطاء كل ذي حق حقه‏.‏ العهد‏:‏ كل ما يتلزمه الانسان باختياره‏.‏ ولا تنقضوا الايمان‏:‏ لا تخنثوا بها‏.‏ كفيلا‏:‏ ضامنا‏.‏ انكاثا‏:‏ واحدها نكث، بمعنى منكوث، منقوض‏.‏ دخلا بينكم‏:‏ مكرا وخديعة‏:‏ اربى‏:‏ أكثر‏.‏

‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

ان الله يأمر عبادَه بالعدل في اقوالهم وأفعالهم، والإحسان الى الناس والتفضُّل عليهم ومساعدتهم، ويأمر بصِلَة الأقارب والأرحام وإعطائهم ما يحتاجون اليه لدعم روابط المحبة بين الأُسَر، وينهى عن إتيان الفواحش والغلو في تحصيل الشهوات، كما ينهى عن الظلم والاعتداء على الغير‏.‏‏.‏ واللهُ سبحانه يذكّركم بهذا ايها الناس ويوجّهكم الى الخير لعلكم تتذكرون فضله‏.‏

أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي انه قال‏:‏ دعاني عمر بن عبد العزيز فقال لي‏:‏ صف العدل، فقلت بخٍ، سألتَ عن أمرٍ جسيم، كمن لصغير الناس أباً، ولكبيرهم ابناً، وللمِثْل أخاً، وللنساءِ كذلك، وعاقبِ الناس قدْر ذنوبهم، ولا تضرِبنّ لغضبك سوطا واحداً فتكون من العنادين‏.‏

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ اجمعُ آية في كتاب الله للخير والبعد عن الشر قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

رواه البخاري وابن جرير وابن المنذر‏.‏

‏{‏وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏‏.‏

أوفوا أيها المؤمنون بالعهود التي تعطُونها على انفسكم، ولا تنقضوا الأيمان بالحنْثِ فيها بعدٍ عقدِها، وقد جعلتم الله كفيلاً عليكم بالأيمان التي حلفتموها، ان الله رقيبٌ ومطلع عليكم، فكونوا عند عهودكم وأيمانكم‏.‏

‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ‏}‏‏.‏

لقد شدّد الاسلام على الوفاء بالعهود، ولم يتسامح فيها ابدا، لأنها قاعدةُ الثقة التي ينفرط بدونها عقدُ الجماعة، ولذلك أكد هنا بضربِ هذا المثل، بالمرأة الحمقاء التي تفتِلُ غَزْلَها ثم تنقضُه من بعد ان يكون قد اكتمل، منتخذين أيمانكم وسيلةً للمكرِ والخداع، وتنوون الغدر بمن عاقدتم، لأنكم اكثرُ وأقوى منهم‏.‏

‏{‏إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏‏.‏

انما يختبركم الله، فإن آثرتُم الوفاءَ كان لكم الغُنم في الدنيا والآخرة، وان اتجهتم الى الغدر كان الخسران، وليبيّنَ لكم يوم القيامة حقيقة ما كنتم تختلفون عليه في الدنيا، ويجازيكم حسب أعمالكم‏.‏

وهاتان الآيتان تدلان على أساس العلاقات بين المسلمين وغيرهم، مع العدالة والوفاء بالعهد وان العلاقات الدولية لا تنظَّم الا بالوفاء بالعهود، وان الدول الاسلامية إذا عقدت عهداً فإنما تعقده باسم الله فهو يتضمن يمين الله وكفالته، وفيهما ثلاثة معان لو نفَّذتها الدولُ لساد السلم العالم‏.‏

اولها‏:‏ انه لا يصح ان تكون المعاهدات سبيلاً للخديعة وإلا كانت غشّاً، والغش غير جائز في الاسلام في العلاقات الانسانية سواء كانت بين الافراد او الجماعات والدول‏.‏

ثانيها‏:‏ ان الوفاء بالهد قوةٌ في ذاته، وان من ينقض عهده يكون كمن نقض ما يناه من اسباب القوة، مثلَ تلك الحمقاء التي نقضت غَزْلها بعد ان أحكمته‏.‏

ثالثها‏:‏ انه لا يصح ان يكون الباعث على نكث العهد الرغبة في القوة او الزيادة في رقعة الأرض او نحو ذلك، كما تفعل اسرائيل، وكانت من ورائها بريطانيا، واليوم امريكا‏.‏

هذه المبادئ لم تكن معمولاً بها قبل الاسلام، وقد رأينا دولاً عظمى لم تفِ بالعهد وكذبت في عهودها فبدّد الله شملَها وعادت من الدول الفقيرة الحقيرة‏.‏

‏{‏وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

ولو شاء الله لجعل الناس على دين واحد، ولكنه خلقهم متفاوتين بالاستعداد، وجعل نواميس للهدى والضلال، وشاء ان تختلفوا في الأجناس والالوان، ولكّلٍ اختيارٌ أُوتيه بحسب استعداده، وكلٌّ مسئول عما يعمل، فلا يكون الاختلاف في العقيدة سببا في نقض العهود‏.‏ وهذه قمة في صدق التعامل والسماحة الدينية، لم يحققها في واقع الحياة الا الاسلام‏.‏