فصل: تفسير الآيات رقم (73- 77)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 77‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ‏(‏73‏)‏ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ‏(‏74‏)‏ إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏76‏)‏ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

كدت تركن اليهم‏:‏ قربت من الميل اليهم‏.‏ ضعف الحياة‏:‏ عذابا مضاعفا في الحياة الدنيا، وفي الآخرة‏.‏ لا يلبثون‏:‏ لا يبقون‏.‏ خلافك‏:‏ بعدك‏.‏ تحويلا‏:‏ تبديلا‏.‏

‏{‏وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً‏}‏‏.‏

لقد حاول المشركون من قريش، ومن ثقيف وغيرهم ان يساوموا الرسول الكريم بان يتساهل معهم في عدم شتم آلهتهم، وبعضم قال له ان يتمسح بالهتهم حتى يدخلوا في دينه‏.‏ قد تكررت هذه المحاولات، وقاروبا ان يخدعوك، ولو انك اتبعت ما يريدون لاتخذوك صديقا، ولكنك رسولنا الامين‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً‏}‏‏.‏

وهذا نص واضح ان الرسول عليه الصلاة والسلام لم يجبهم الى اغرائهم‏.‏

‏{‏إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً‏}‏‏.‏

وهذا وعيد شديد للرسول، فلو قاربتَ الركون اليهم، لجمعنا عليك عذاب الدنيا وضاعفناه، وعذاب الآخرة وضاعفناه، ثم لا تجد من ينصرك ويمنع عنك العذاب‏.‏

‏{‏وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏‏.‏

ولقد قارب اهل مكة ان يزعجوك ويخرجوك من مكة بالقوة، ولو انهم فعلوا ذلك واخرجوك لا يبقون بعدك الا زمانا قليلا‏.‏

‏{‏سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً‏}‏‏.‏

وهكذا مضت سنتنا مع الرسل الذين ارسلناهم قبلك‏.‏‏.‏‏.‏ اهلكنا اقوامهم الذين اخرجوا رسلهم‏.‏ ان سنتنا في هذه الحياة لا تتبدل‏.‏ وقد اُخرج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة، ولم يَمْضِ على اخراجه سنة ونصف حتى كانت وقعة بدر وقُتل فيها صناديد قريش واهلكهم الله‏.‏

وبعض المفسرين يقول ان هذه الآية مدنية، وان اليهود هم الذين ضايقوه وهمَّ بترك المدينة، ولكن هذا بعيد‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص‏:‏ «خلافك» والباقون‏:‏ «خلفك» والمعنى واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 81‏]‏

‏{‏أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ‏(‏78‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ‏(‏79‏)‏ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ‏(‏80‏)‏ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ‏(‏81‏)‏‏}‏

دلوك الشمس‏:‏ زوالها عن منتصف السماء في النهار‏.‏ غسق الليل‏:‏ شدة الظلمة‏.‏ قرآن الفجر‏:‏ صلاة الصبح‏.‏ التهجد‏:‏ صلاة الليل‏.‏ نافلة لك‏:‏ صلاة زائدة عن الفريضة‏.‏ مقاما محمودا‏:‏ مقاما عاليا يحمده الناس‏.‏ زهق‏:‏ زال واضمحل‏.‏

‏{‏أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل‏}‏‏.‏

الصلاة لب العبادة، فحافظ عليها وأدّها على احسن وجه، من زوال الشمس من وسط السماء الى ظلمة الليل، وهذا الوقت يشمل الصلوات الاربع‏:‏ الظهر والعصر والمغرب والعشاء‏.‏ ‏{‏وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً‏}‏‏.‏

وصلاة الصبح فان الملائكة تشهدها‏.‏ وقد بينت السنة من اقوال الرسول الكريم وافعاله تفاصيل هذه الاوقات وكيفية ادائها واقامتها‏.‏

‏{‏وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً‏}‏‏.‏

وصلّ من الليل صلاة زائدة عن الفريضة بقدر ما تستطيع‏.‏ وبهذه الصلاة، وبهذه الصلة الدائمة بالله‏.‏ يقيمك ربك يوم القيامة في مقام سام يحمدك فيه الخلائق‏.‏ وفي هذا تعليم لنا أن نتعبد ونقوم بالليل، فاذا كان الرسول الكريم مأموراً بذلك فنحن أولى واحوج‏.‏

‏{‏وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً‏}‏‏.‏

وقل رب أدخلني فيما حملته من اعباء الرسالة ادخلا مُرضيا، واخرجني مخرجاً حسنا مرضيّا ‏(‏وهذا دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعو به، ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وفيم تتجه اليه‏)‏ واجعل لي قوةً أعلي بها دينك ورسالتك التي حمّلتني اياها‏.‏

‏{‏وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً‏}‏‏.‏

وقل جاء الحق بالاسلام، وذهب الباطل واضمحل، ان الباطل مضمحل زائل دائما‏.‏

روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعودٍ في يده ويقول‏:‏ «جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 85‏]‏

‏{‏وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ‏(‏83‏)‏ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ‏(‏84‏)‏ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

نأى بجانبه‏:‏ استكبر‏.‏ شاكلته‏:‏ مذهبه وطريقته‏.‏ يئوسا‏:‏ شديد اليأس‏.‏ أهدى سبيلا‏:‏ اقوم طريقا‏.‏

ونزل عليك ايها الرسول من القرآن ما هو شفاء لأدواء النفوس ورحمة للمؤمنين، ولا اصابته مصيبة الا خسرانا لكفرهم وعنادهم‏.‏

واذا انعمنا على الانسان بالصحة والسعة بطر واستكبر وبعُدَ كأنه مستغن عنا، واذا اصابته مصيبة كان كثير اليأس والقنوط من رحمة الله‏.‏

ولما ذكر حال الضالين والمهتدين ختم ببيان ان كلاً يسير على مذهبه فقال‏:‏

‏{‏قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

قل أيها النبي‏:‏ كل منا يعمل ويسير على طريقته، وعلى ما طُبع علهي من الخير والشر، وربكم أعلم من كل واحد بمن هو سائر على الطريق المستقيم‏.‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ويسألك قومك عن حقيقة الروح، قل الروح من علم ربي الذي استأثر به، وما مُنحتم من العلم الا شيئا قليلا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي «ونأى بجانبه» بالامالة‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ «وناء بجانبه» من الفعل ناء ينوء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 89‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا ‏(‏86‏)‏ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ‏(‏87‏)‏ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ‏(‏88‏)‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏89‏)‏‏}‏

الظهير‏:‏ المعين‏.‏ طرَّفنا‏:‏ كررنا القول ورددناه بوجوه مختلفة‏.‏ الكفور‏:‏ الجحود‏.‏

ولو أردنا ان نمحو من صدرك القرآن الذي اوحينا اليك، لفعلنا، ثم لا تجد من ينصرك، ولكن أبقيناه منا لأن فضل ربك في هذه المعجزة كان عليك عظيما‏.‏ قل لهم ايها النبي متحديا ان يأوا بمثله، لئن اجتمعت الإنس والجن وتعاونا على ان يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يستطيعون، ولو كانوا متعاونين‏.‏

ولقد نوعنا مناهج البيان بوجوه مختلفة للناس في هذا القرآن، فآبى اكثر الناس الا الجحود والانكار، والاعراض عن الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 96‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ‏(‏90‏)‏ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏91‏)‏ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا ‏(‏92‏)‏ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏93‏)‏ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏94‏)‏ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ‏(‏95‏)‏ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏96‏)‏‏}‏

الينبوع‏:‏ النبع، عين الماء‏.‏ كسفا‏:‏ جمع كسفة كَقِطْعَة لفظا ومعنى‏.‏ قبيلا‏:‏ مقابلين، تأتي بهم عيانا‏.‏ الزخرف‏:‏ الزينة، الذهب‏.‏ ترقى‏:‏ تصعد‏.‏

وقالوا في تَعنُّتِهم لن نؤمن لك يا محمد حتى تخرج لنا ماء من عين تفجّرنا لا ينضب ماؤها‏.‏

او يكون لك في مكة بستان من نخيل وعنب فتجرى الانهار وسطه، او تسقط السماء فوق رؤوسنا كما زعمتَ ان الله توعّدنا بذلك، او تأتي بالله والملائكة نقابلهم نراهم مواجهة ليشهدوا على صحة ما تقول لنا‏.‏

او يكون لك بيت مزخرف من ذهب، او تصعد في السماء‏.‏ ولن نصدقك في هذا الحل الا اذا جئتنا بكتاب من الله يقرر فيه صدقك نقرؤه‏.‏ قل لهم ايها الرسول‏:‏ سبحان ربي ان يتحكم فيه احد، او يشاركه في قدرته، فهل انا الا بشر رسول من الذين يرسلهم بما يلائم احوالهم ويصلح شئونهم، وما منع مشركي مكة ان يؤمنوا لما جاءهم الرسول بالهدى‏.‏

الا زعمهم جهلاً مهم ان قالوا‏:‏ كيف يبعث الله رسولا من البشر، قل لهم ايها الرول‏:‏ لوك ان في الارض بدل البشر ملائكة يعيشون مستقرين فيها لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا من جنسهم، فان الحكمة الالهية اقتضت ان يرسل لكم جنس ما يناسبه من الرسل‏.‏

قل‏:‏ يكفي ان الله شاهد على صدق رسالتي اليكم، انه كان بعباده خبيرا يعمل احوالهم، بصيرا لاتخفى علي منهم خافية‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الكوفيون ويعقوب‏:‏ «تفجر» بفتح التاء وضم الجيم‏.‏ والباقون‏:‏ «تفجر» بضم التاء وفتح الفاء وكسر الجيم المشددة‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ اهل المدينة وابن عامر وعاصم‏:‏ «كسفا» بكسر الكاف وفتح السين‏.‏ والباقون «كسفا» باسكان السين‏.‏

وقرأ ابن كثير وابن عامر‏:‏ «قال سبحان ربي» والباقون‏:‏ «قل سبحان ربي»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 100‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ‏(‏97‏)‏ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏98‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏99‏)‏ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ‏(‏100‏)‏‏}‏

خبت‏:‏ سكن لهيبها‏.‏ السعير‏:‏ اللهيب‏.‏ خشية الانفاق‏:‏ خوف الفقر‏.‏ قتورا‏:‏ شديد البخل‏.‏

ومن تيولاّه الله بالهداية فهو المهتدي، ومن يقضي علهيم بالضلال فلن تجد لهم من ينقذهم، ونحشرهم يوم القيامة فيُسبحون على وجوههم، لا نيطقون ولا يرون ولا يسمعون، منزلهم جنهمُ كلما سكن ليهبها زدناها توقدا واشتعالا‏.‏ وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة الاعراف 178‏.‏

أَغَفِلوا ولم يعلموا ان الله الذي خلق هذا الكون موما فيه، قادر على ان يخلق مثله‏!‏ والذي يقدر على خلق مثل هذه السموات والارض يقدر عل اعادتهم‏.‏ وهو اهون عليه‏.‏ لقد جعل لاعادتهم وقيامهم من قبورهم أجلاً مضروبا ومدة مقدرة، وبعد اقامة الحجة عليهم ابوا الا تماديا في ضلالهم وكفرهم‏.‏ وتقدم فقي نفس السورة نفس المعنى الآية 50‏.‏

ثم بين حرصهم على الدنيا، وتمسكهم بها وشحهم بانهم لو ملكوا خزائن الدنيا لبخلوا فقال‏:‏

‏{‏قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

قل ايها الرسول لهؤلاء المعاندين لو كنتم تملكون خزائن رزق الله وسائر نعمه لبخلتم مخافة نفادها بالانفاق، والانسان مطبوع على شدة ا لحرص والبخل والله هو الغني الرزاق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 104‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ‏(‏101‏)‏ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ‏(‏102‏)‏ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ‏(‏103‏)‏ وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

مسحورا‏:‏ مخبول العقل‏.‏ بصائر‏:‏ حججا وبينات‏.‏ مثبورا‏:‏ هالكا‏.‏ يستفزهم‏:‏ يخرجهم من الارض‏.‏ جئنا بكم فليفا‏:‏ جميعاً‏.‏

ولول أوتي هؤلاء من الآيات ما اقترحوا، لما آمنوا بها، ولقد آتينا موسى تسع آيات هي‏:‏ العصا، واليد البيضاء‏.‏ والطوفان‏.‏ والجراد والضفادع والقمل والدم‏.‏ والجدب ونقص الثمار وفلق البحر، وابنجاس الماء من الحجر‏.‏ ونتوق الجبل كانه مظلة‏.‏ وخطابه لربه، واسأل بني اسرائيل لما جاءهم، فانهم مع كل ذلك كفروا وقال فرعون لموسى‏:‏ اني اظنك مسحورا‏.‏ قال موسى‏:‏ لقد علمتَ يا فرعون ان الذي انزل الآيات هو الله خالق هذا الكون وربه‏.‏ وهي دائل واضحة تبصرك بصدقي، ولكنك تكابر وتعاند، واني لأظنك يا فرعون هالكا‏.‏ فتمادى فرعون بطغيانه، افارد ان يخرج موسى وبني اسرائيل من ارض مصر فاغرقناه مع جنوده جميعا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الكسائي‏:‏ «لقد علمت» بضم التاء والباقون‏:‏ بفتحها‏.‏

ونجينا موسى وقومه، وقلنا من بعد اغراق فرعون لبني اسرائيل، اسكنوا حيث شئتم بمصر او الشام، وكان المفروض ان يشكروا الله ان خلصهم من ذلك البلا الكبير، ولكنهم لم يلبثوا ان عبدوا العجل من دون الله، وبدلوا نعمة الله كفرا، فاذا جاء وقت الحياة الاخرى جئنا بكم من قبوركم جميعا ثم نحكم بينكم بالعدل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 111‏]‏

‏{‏وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏105‏)‏ وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ‏(‏106‏)‏ قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ‏(‏107‏)‏ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ‏(‏108‏)‏ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ‏(‏109‏)‏ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏110‏)‏ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ‏(‏111‏)‏‏}‏

فرقناه‏:‏ انزلناه مفرقا‏.‏ على مكث‏:‏ على مهل وبتأَنٍ يخرّون للاذقان‏:‏ يسقطون على وجوهه‏.‏ خفت الرجل بقراءته‏:‏ لم يرفع صوته با‏.‏ لاتخافت بها‏:‏ اقرأها بوضوح‏.‏

ولقد انزل الله هذا القرآن قائما بالحق، فنزل ليقر الحق في الارض ويثبته، فالحق مادة، والحق غايته‏.‏ فأنزلناه مؤيدا بالحكمة الآلهية‏.‏ وما ارسلناك ايها النبي الا بمشرا من آمن بالجنة، ونذيرا لم نجحد بالنار‏.‏

وقد فرقنا هذا القرآن ونلزناهُ منجَّما على مدة طويلة، لتقرأه على الناس على مهل، ليفهموه‏.‏ نزلناه شيئا بعد شيء تنزيلا مؤكدا لا شبهة فيه‏.‏

ثم هدد الله تعالى اولئك الجاحدين على لسان نبيه بقوله‏:‏

‏{‏قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا‏}‏‏.‏

قل لاولئك الضالين اختروا لانفسكم ما تحبون من الايمان بالقرآن وعدمه، ان الذين اوتوا العمل وقرأوا الكتب السابقة، يخرون لله سجدا، شكرا له على انجاز وعده بارسالك، حين يتلى عليهم القرآن، ويقولون في سجودهم‏:‏

‏{‏سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً‏}‏ ان وعده كان محققا‏.‏

ويخرون للاذقان باكين من خشية الله ا يتلى عليهم، ويزيدهم ما فيه من العبر والمواعط خشوعا وخضوعا‏.‏ وهنا موضع سجدة‏.‏

قُلْ ايها الرسول هؤلاء المشركين‏:‏ سموا الله، او سموا الرحمن فبأيّ اسم تمسونه فهو حسن، ثم امر رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام أن يقرأ بصلاته صلاة متوسطة لا يرفع صوته بها ولا يسر كثيرا‏.‏

وتختم السورة كما بدئت بحمد الله وتقرير وحدانيته بلا ولد ولا شريك، وتزيهه عن الحاجة الى الولي والنصير، وهو العلي الكبير‏.‏

‏{‏وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذل وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً‏}‏‏.‏

فالله سبحانه وتعالى غني عن كل معين ان نصير او شريك او ولد، وهو مالك هذا الملك، وهو اكبر من كل شيء، فكبره تكبيرا‏.‏

سورة الكهف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ‏(‏1‏)‏ قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ‏(‏2‏)‏ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ‏(‏3‏)‏ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ‏(‏4‏)‏ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ‏(‏5‏)‏ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ‏(‏7‏)‏ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

عوجا‏:‏ العِوج بكسر العين عدم الاستقامة‏.‏ قيّما‏:‏ مستقيما، معتدلا‏.‏ البأس‏:‏ العذاب‏.‏ من لدنه‏:‏ من عنده‏.‏ كبرتْ كلمة‏:‏ ما اعظمها من مقالة في الكفر، ومعنى الكلام الاستغراب والتعجب‏.‏ فلعلك باخعٌ نفسَك‏:‏ لعلك مهلكٌ نفسك‏.‏ على آثارهم‏:‏ من بعدهم‏.‏ صعيدا جرزا‏:‏ تراباً لا يُنبت‏.‏

ان الله تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها، ولهذا حمد نفسه على إنزاله القرآنَ على رسوله الكريم، وهو اعظم نعمة أنعمها الله على أهل الارض‏.‏ فبه أَخرجهم من الظلمات الى النور، ولم يجعل فيه اعوجاجا لا باختلال ألفاظه، ولا بتباين معانيه، بل جعله مستقيما معتدلا، لا إفراط فيه ولا تفريط، لينذر الجاحدين بعذا شديد من عنده، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الاعمال الصالحة بأن لهم ثوابا جزيلا‏.‏ ‏{‏مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً‏}‏ مقيمين فيه ابدا‏.‏

وينذر على الخصوص الذين قالوا إن الله اتخذ ولدا، وهو منزه عن الولد والشريك، ولا دليل لديهم على قولهم هذا لا هم ولا آباؤهم، فما أعظمَ هذا الافتراء، وما اكبر هذه الكلمة التي تفوهوا بها‏!‏ وما قولهم هذا الا محض اختلاق وكذب‏.‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ‏}‏ لا تهلك نفسك أيها النبي أسفاً وحسرة عليهم‏.‏ لأنهم لم يؤمنوا بالقرآن، أبلغهم رسالة ربك، فمن اهتدى منهم فلنفسه، ومن ضل فانما يضل عليها‏.‏

إنا خلقناهم للخير ولاشر، وصيرنا ما فوق الارض زينة لها ومنفعة لأهلها، لنرى من يحسن منهم ومن يسيء، ويمتاز افراد الطبقتين بعضهم عن بعض بحسب درجات اعمالهم‏.‏

‏{‏وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً‏}‏ وانا لجاعلون الارض وما عليها تراباً لا نبات فيه عند انقضاء الدنيا‏.‏ والخلاصة ان ‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ‏(‏9‏)‏ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ‏(‏10‏)‏ فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ‏(‏11‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

الكهف‏:‏ النقب المتسع في الجبل‏.‏ الرقيم‏:‏ اللوح الذي كتبت فيه اسماء اصحاب الكهف‏.‏ فضربنا على آذانهم‏:‏ أنمناهم عدداً من السنين، والنائم عادة لا يسمع‏.‏ ثم بعثناهم‏:‏ ايقظناهم‏.‏ احصى‏:‏ اضبطُ لاوقات لبثهم‏.‏

لقد انكر الذين استهوتهم الدنيا البعثَ، مع ان الوقائع تثبت الحياة بعد الرقود الطويل، وهذه قصة أهل الكهف واللوح الذي رُقمتْ أسماؤهم فيه بعد موتهم لم تكن وحدها من العجائب وان كانت قصةً خارقة للعادة‏.‏

اما قصتهم فهي ان جماعة من الشباب آمنوا بربهم، وهربوا بدينهم من الاضطهاد، فلجأوا الى كهف، ودعوا ربهم ان ينقذَهم قائلين‏:‏ ربنا آتِنا من عندك رحمة وهيّئ لنا من أرمنا رشَدا‏.‏

فاستجبنا دعاءهم، فأنمناهم آمنين في ذلك الكهف سنين عديدة لا ينتبهون‏.‏ ثم أيقظناهم لنعلم مَن مِن الحزبين اللذين اختلفا في مدة مُكثهم بالكهف أضْبَطُ احصاءً لطول المدة التي مكثوها‏.‏

روي عن ابن عباس‏:‏ ان الرقيم اسم قرية قرب أَيلة «العقبة»، ويقول ياقوت في معجم البلدان‏:‏ «وبقرب البلقاء من اطراف الشام موضع يقال له الرقيم‏.‏‏.‏» ويقول‏:‏ «ان بالبلقاء بأرض العرب من نواحي دمشق موضعاً يزعمون انه الكهف والرقيم قرب عَمان، وذكروا ان عمّان هي مدينة دقيانوس» الملِكِ الذي كان في ذلك الزمان‏.‏

وهناك اقوال كثيرة متضاربة علُها عند الله‏.‏ وقد اورد الطبري وغيره من المفسرين قصتهم، وليس لها سند صحيح، وقد اعتنى احد موظفي الآثار من اهل عمان بهذا الكهف وهو اليوم في ضواحي عمان، وعمل له باباً، وألّف رسالة مؤكدا فيها انه هو الكهف المقصود في القرآن، وبنى بجانبه مسجدا، والآن يزور الكهف كثير من السيّاح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 18‏]‏

‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ‏(‏13‏)‏ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ‏(‏14‏)‏ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏15‏)‏ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ‏(‏16‏)‏ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ‏(‏17‏)‏ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

النبأ‏:‏ الخبر العظيم‏.‏ وربطنا على قلوبهم‏:‏ قوّينا عزائمهم‏.‏ الشطط‏:‏ الجور والظلم‏.‏ السلطان المبين‏:‏ الحجة الظاهرة‏.‏ اعتزلتموهم‏:‏ بعدتم عنهم وتجنبتموهم‏.‏ المرفق‏:‏ كل ما ينتفع به‏.‏ تزاور‏:‏ اصله تتزاور، تميل‏.‏ وتقرضهم‏:‏ تجاوزهم‏.‏ في فجوة منه‏:‏ متسع من الارض‏.‏ وتحسبهم ايقاظا‏:‏ تظنهم صاحين غير نائمين‏.‏ وهم رقود‏:‏ جمع راقد نائم‏.‏ باسط ذراعيه‏:‏ عندما يجلس الكلب فانه يمد ذراعيه‏.‏ بالوصيد‏:‏ فناء الكهف‏.‏

نحن نقصّ عليك أيها الرسول خَبَرهُم بالصدق، إنهم شبابٌ آمنوا بربهم وسط قوم مشركين، وزِدناهم هدى بالتثبيت على الإيمان‏.‏

وثبّتنا قلوبهم، فثبتوا ولم يرهبوا أحدا، ووقفوا وقفة واحدة فقالوا‏:‏ ربّنا الحقُّ ربُّ السموات والارض، ولن نعبدَ غيره إلهاً، ولن نتحول عن هذه العقيدة، لأننا اذا دَعَوْنا غيرَ الله نكون قد بعُدنا عن الحق وتجاوزنا الصواب‏.‏

ثم إنهم تشاوروا فيما بينهم، فقال بعضهم لبعض‏:‏ ما دمنا قد اعتزلْنا قَوْمَنا في كفرهم وشِركهم، فالجأوا الى الكف فراراً بدينكم، وأخلِصوا لله العبادة، فإنه تعالى يبسط لكم الخير من رحمته في الدارَين، ويسهل لكم من امركم ما تنتفعون به من مرافق الحياة

ثم بين تعالى حالهم بعد ان لجأوا الى الكهف فقال‏:‏

‏{‏وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

وانك ايها المخاطَب لو رأيتَ الكهف لرأيت الشمس حين طلوعها تميل عنه جهةَ اليمين، ورأيتها حين الغروب تتركهم وتعدِلُ عنهم جهةَ الشمال، وهم في متّسع من الأرض، فحرارة الشمس لا تؤذيهم، ونسيمُ الهواء يأتيهم‏.‏ وذلك كلّه من دلائل قدرة الله، فمن اهتدى بآيات الله فقد هاده وفقَ ناموسه حقا، ومن لم يأخذ بأسباب الهدى فقد ضلّ، ولن تجد له من يرشدُه ويهديه‏.‏

وتظنهم أيها الناظر منتبهين، وفي الحقيقة هم نيام، ونقلّبهم في نومهم مرةً يمينا، وُخرى يسارا لنحفظ أجسامَهم من تاثير الارض، وكلبُهم الذي صاحَبَهم مادٌّ ذراعيه بفناء الكهف وهو نائم في شكل اليقظان‏.‏ ولو شاهدتَهم وهم على تلك الحال لهربتَ منهم، ‏{‏وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً‏}‏ ولفزعت منهم فزعا شديدا، لأنهم في وضع غريب، وذلك لكيلا يدنومنهم احد ولا تمسّهم يد‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر واهل المدينة‏:‏ «مَرفِقا» بفتح الميم وكسر الفاء‏.‏ والباقون‏:‏ «مِرفقا» بكسر الميم وفتح الفاء‏.‏ وقرأ ابن عامر ويعقوب‏:‏ «تزورّ» بفتح التاء وإسكان الزاي وتشديد الراء‏.‏ والباقون‏:‏ «تزاور»‏.‏ وقرأ اهل الحجاز‏:‏ «لملّيت» بتشديد اللام وبالياء وبدون همزة‏.‏ والباقون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 22‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ‏(‏19‏)‏ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏20‏)‏ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ‏(‏21‏)‏ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

بورقكم‏:‏ الورق بفتح الواو وكسر الراء، والورق باسكان الراء‏:‏ الفضة، سواء كانت عملة او غيرها‏.‏ ازكى طعاما‏:‏ اجود او اطيب‏.‏ وليتلطف‏:‏ ليكن حذرا ومعاملته لطيفة‏.‏ ولا يشعرن بكم احدا‏:‏ لا يفعل ما يؤدي الى كشف احوالهم‏.‏ ان يظهروا عليكم‏:‏ ان يطّلوا عليكم‏.‏ وكذلك اعثرنا عليهم‏:‏ كذلك كشفنا امرهم فاطلع عليهم اهل المدينة‏.‏ رجما بالغيب‏:‏ القول بدون علم‏.‏

وكما أنمناهم بعثناهم نم نومِهم، ليسأل بعضهُم بعضا عن مدة بقائهم نائمين‏.‏ فقال احدهم‏:‏ كم مكثتُم نائمين‏؟‏ قالوا‏:‏ مكثنا يوماً او بعض يوم‏.‏ ثم احالوا العِلم الى الله، فقالوا‏:‏ الله أعلمُ بما لبثتم‏.‏ وشعروا باحتياجهم الى الطعام والشراب فقالوا‏:‏ ابعثوا أحدكَم بدراهمكم الفضيّة الى المدينة، فلْينظْر أي الاطعمة أشهى فليأتِنا برزق منه وليتلطف بالتخفيّ حتى لا يعرفه احد‏.‏ وكانوا لا يعلمون ان ثلاثة قرونٍ قد مرّت عليهم وهم راقدون‏.‏

انهم ان يطّلعوا عليكم يقتلوكم رجماً بالحجارة، او يعيدوكم إلى دينهم، ولن تفلحوا إذَنْ أبدا‏.‏

واطلعنا عليهم أهل المدينة ليعلم الناسُ أن وعدَ الله بالبعث حق، وان القيامة لا شك فيه‏.‏ وآمن اهلُ المدينة بالله واليوم الآخر، ثم امات الله الفتية وتنازعَ الناس في شأنهم، فقال بعضهم‏:‏ ابنُوا عليهم بنيانا ونتركهم وشأنهم، فربُّهم أعلمُ بحالهم‏.‏ وقال الذين غلبوا على امرهم لنتخذنَّ على مكانهم مسجداً نعبد الله فيه‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابو عمرو وحمزة وابو بكر‏:‏ «بَورْقكم» بفتح الواو وسكون الراء‏.‏ والباقون «بورِقِكم» بفتح الواو وكسر الراء‏.‏

‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

لما ذكر الله القصة ونزاعَ المتخاصمين فيما بينهم، شرع يقصّ علينا ما دار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الخلاف في عدد اصحاب الكهف‏.‏ سيقولُ فريق من الخائضين في قِصتّهم من اهل الكتاب‏:‏ هم ثلاثةٌ رابعهم كلبهم، ويقول آخرون‏:‏ هم خمسة سادسهم كلبهم، ظناً بدون يقين، ويقول آخرون هم سبعة وثامنهم كلبهم‏.‏ قل يا محمد لهؤلاء المختلفين‏:‏ ربي أعلمُ بعددهم، ولا يعلم حقيقته الا قليل من الناس أطلعَهم الله عليه، فلا تجادلْ في شأن الفتية الا جَدَلاً سهلاً ليّنا، ولا تستفتِ في شأنهم احدا، فقد جاءك الحق الذي لا مرية فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 26‏]‏

‏{‏وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ‏(‏23‏)‏ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ‏(‏24‏)‏ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله‏}‏‏.‏

جاءت هاتان الآيتان معترضتين اثناء القصة فيهما ارشادٌ وتأديب للرسول الكريم، وتعليمٌ للمؤمنين بأن يفوّضوا الأمورَ كلّها إلى الله، بعد ان يتخذوا كل الاحتياطات، وان يقرِنوا قولهم بمشيئة الله علاّم الغيوب‏.‏

لا تقولن ايها الرسول لشيء تُقدمِ عليه وتهتم به‏:‏ إني فاعل ذلك غداً او بعد غد دون أن تقرِنَ قولك بمشيئة الله بان تقول‏:‏ «إن شاءَ الله»‏.‏ فاذا كان هذا الخطاب للرسول الكريم الذي قال‏:‏ «أدّبني ربي فأحسنَ تأديبي» فنحن أَوْلى وألزم ان نلتزم بهذا الادب القرآني العظيم، ونشعر دائما اننا مع الله يوجّهنا الى ما فيه الخير لنا ولأمتنا‏.‏

واذا نسيتَ امراً فتداركْ نفسك بذِكر الله، وقل عسى ان يوفقني ربي إلى امرٍ خير مما عزمتُ عليه وأرشدَ منه‏.‏

ثم بعد ذلك بين الله تعالى ما أجملَ في قوله‏:‏ فضربْنا على آذانِهم في الكهف سنينَ عددا فقال‏:‏ ‏{‏وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً‏}‏‏.‏ وثلاثمئة سنة وتسعٌ قمرية هي ثلاثمئة سنة شمسية، ولذلك جاء هذا النص مبينا حقيقة علمية لم تكن معروفة في ذلك الزمان‏.‏

قل أيها الرسول للناس‏:‏ ان الله تعالى وحدَه هو الذي يعلم كم لبثوا في كهفهم وهو الذي يعلم ما غاب في السموات والارض‏.‏ ‏{‏أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ‏}‏ ما اعظم بصره في كل موجود وما اعظم سمعه بكل مسموع، فهو لا يخفى لعيه شي‏.‏ والله ولي امر هذا الخلق جميعهم، لا يُشرك في قضائه أحداً من خلقه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك‏.‏

قراءت‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ثلاثمئةِ سنين‏:‏ بالاضافة، والباقون «ثلاثمئةٍ سنين» بتنوين مئة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏27‏)‏ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ‏(‏28‏)‏ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

لا مبدل لكلماته‏:‏ لا مغير لأحكامه‏.‏ ملتحدا‏:‏ ملجأ‏.‏ واصبر نفسك‏:‏ احبسها‏.‏ بالغداة والعشي‏:‏ في الصباح والمساء‏.‏ يريدون وجهه‏:‏ يطلبون رضاه‏.‏ فرطا‏:‏ مجاوزاً للحد‏.‏ أعتدنا‏:‏ هيأنا، اعددنا‏.‏ السرادق‏:‏ الخيمة، الفسطاط، كالمهل‏:‏ خثارة الزيت، المعدن المذاب‏.‏ مرتفقا‏:‏ متكأ‏.‏

بعد ان ذكر الله قصة اهل الكهف، وبين ان هذا القرآن يقص الحق، لأنه وحي من علام الغيوب، أمَرَ بالمواظبة على تلاوته ودرسه، وبيّن في هذه الآية الكريمة، ان القيم الحقيقية ليست هي المالَ، ولا الجاه، ولا السُّلطة، ولا لذائذ الحياة ومتعها- فانها كلّها قيم زائفة- وان الاسلام لا يحرِّم الطيب منها، ولكنه لا يجعل منها غاية الحياة، فمن شاء ان يتمتع بها فليتمتع، ولكن لِيذكُرِ الله الذي انعم بها، وليشكرْه على نعمة بالعمل الصالح‏.‏

‏{‏واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً‏.‏‏.‏‏}‏

اتلُ ايها الرسول الكتابَ الذي اوحي اليك، والزم العمل به، واتّبع ما فيه من احكام وتعليم وتأديب‏.‏ ولا يستطيع أحدٌ ان يغيّر او يبدّل مافيه، وليس لك ملجأٌ الا الله، فإليه المرجع والمآب‏.‏

‏{‏واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏‏.‏

احتفظ بصحابتك ايها الرسول، الذي يعبدون اللهَ وحده في الصباح والمساء، يطلبون رضوانه، وهم فقراءُ الصحابة مثل‏:‏ عمار بن ياسر، وصهيب، وبلال وغيرهم، فقد رُوي ان عُيَيْنَةَ بن حصن الفَزاري والأقرعَ بن حابس وغيرَهم- جاءوا الى الرسول الكريم، طلبوا منه ان يبعد هؤلاء الفقراءَ من الصحابة ليحادثوه ويسْلموا‏.‏ فنزلت‏.‏ ويقال إن أشرافَ قريش هم الذين طلبوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره الله تعالى ان لا يتخلّى عن اصحابه، ولا يلتفت إلى هؤلاء وما عندَهم من قوةٍ وجاهٍ ورجال، فاللهُ أكبرُ من كل ما عندهم‏.‏ وهذا الأصح لأن السورة مكية‏.‏

ثم امره بمراقبة أحوالهم ومجالسِهم فإن فيهم الخير فقال‏:‏

‏{‏وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ولا يتحول اهتمامُك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة، فهذه زينةُ الحياة الدنيا الزائلة‏.‏

ثم اكد هذا النهي بقول‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً‏}‏‏.‏

لا تطع هؤلاء المتكبرين فيما يطلبون من تمييزٍ بينهم وبين الفقراء، وطردِهم من مجلسك‏.‏ فهؤلاء قد أغفلْنا قلوبَهم عن ذكرنا، واتجهوا الى ذواتهم وإلى لذّاتهم، وشغلوا قلوبهم بزخرف الدنيا وزِينتها، وصار أمرُهم في جميعِ أعمالهم بعيداً عن الصواب‏.‏ ولقد جاء الاسلام ليسوّي بين الناس امام الله، فلا تفاضل بينهم بمال ولا نسبٍ ولا جاه‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر‏:‏ «بالغدوة والعَشِيّ» والباقون‏:‏ «بالغداة والعشي»‏.‏

‏{‏وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

بعد ان أمر اللهُ رسوله صلى الله عليه وسلم ان لا يلتفت لى قولِ أولئك الأغنياء الذين قالوا‏:‏ إن طردتَ اولئك الفقراء منا بك، أمره ان يقول لهم ولغيرِهم على طريق التهديد والوعيد‏:‏ انّ ما جئتُ به هو الحقُّ من عند ربكم، فمن شاءَ أن يؤمن به فليؤمن، فذلك خير له، ومن شاء ان يكفر فليكفر، فانه لا يظلم الا نفسه‏.‏ إن الله قد أعدّ لمن ظلم نفسه بالكفر نارا تحيط بهم كالسُّرادقِ، وإن يطلبوا الغوثَ بطلب الماء يؤتَ لهم بماءٍ عكرٍ أسود يحرقُ الوجوه لشدة غليانه‏.‏

‏{‏بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً‏.‏‏.‏‏}‏

ما أقبح ذلك الشرابَ، ويا لَسوءِ النار وسرادقها مكانا للارتفاق والاتكاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ‏(‏30‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

جنات عدن‏:‏ جنات الاقامة والاستقرار‏.‏ يقال عدنَ بالمكان اذا اقام فيه‏.‏ الاساور‏:‏ واحدها سوار، معروفة‏.‏ من سندس‏:‏ من حرير الديباج وهو حرير رقيق، فاسيٌّ معرب‏.‏ استبرق‏:‏ حرير ايضا ولكنه غليظ‏.‏ الأرائك‏:‏ جمع اريكة، المقعد المنجَّد‏.‏

بعد ان ذَكر حال اهل النار وما يلاقون فيها من عذاب وشقاء، ثنّى هنا بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وبدينه الحق، وعملوا الصالحات، فانهم عند ربهم في جنات عدن يقيمون فيها منعمين أبدا، تنساب الانهار من تحتهم بين أشجارهم وقصورها، ويتحلَّون فيها بمظاهر السعادة، إذ يرفُلون بالحرير من سندس ناعم، واستبرقٍ كثيف، في ايديهم الأساور من الذهب، ومتكئين على أفخر المقاعد بين الوسائد والستائر، نعم الثوابُ لهم، وحسنت الجنة دار اقامة وراحة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 44‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ‏(‏32‏)‏ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ‏(‏33‏)‏ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ‏(‏34‏)‏ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ‏(‏35‏)‏ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ‏(‏36‏)‏ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ‏(‏37‏)‏ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏38‏)‏ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏39‏)‏ فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ‏(‏40‏)‏ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ‏(‏41‏)‏ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏42‏)‏ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ‏(‏43‏)‏ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

الجنة‏:‏ البستان‏.‏ حففناهما بنخل‏:‏ جعلنا النخل يحيط بهما‏.‏ آتت أُكلها‏:‏ اثمرت الثمر الجيد‏.‏ ولم تظلم منه شيئاً‏:‏ كان له مال‏.‏ وهو ظالم لنفسه‏:‏ لكفره وغروره‏.‏ يحاوره‏:‏ يجادله‏.‏ اعز نفرا‏:‏ اكثر خدما وحشما واعوانا‏.‏ ان تبيد‏:‏ ان تفنى‏.‏ وما أظن الساعة قائمة‏:‏ لا أؤمن بيوم القيامة‏.‏ منقلبا‏:‏ مرجعا وعاقبة‏.‏ حسبانا من السماء‏:‏ مطرا عظيما، آفة مهلكة‏.‏ صعيدا زلقا‏:‏ ارضا ملساء لا شيء فيها‏.‏ او يصبح ماؤها غورا‏:‏ يغور نهرها في الارض‏.‏ واحيط بثمره‏:‏ هلكت امواله‏.‏ يقلب كفيه‏:‏ تصوييراً للندامة والحسرة‏.‏ خاوية‏:‏ خالية، خلت من اهلها وزرعها‏.‏ على عروشها‏:‏ ساقطة على عرائشها‏.‏ عقبا‏:‏ عاقبة‏.‏

لقد ضرب الله مثلاً في هذه الآيات الكريمة يبيّن فيه أن المال لا ينبغي ان يكون موضع فَخار، لأنه ظلٌّ زائل، وانه كثيرا ما يصير الفقير غنياً والغني فقيراً، وغنما الذي يجب ان يكون أساسَ التفاضل هو الإيمانُ بلله والعمل الصالح الذي ينفع الناس‏.‏

واذكر ايه الرسول مثلاً وقع فيما سلَف بين رجلَين‏:‏ كافرٍ ومؤمن، وقد رزقنا الكافر جنّتين فيهما أعنابٌ واصناف كثيرة من الشجر المثمر، وأحطناهما بالنخل، وجعلنا بين البستانين زرعا جيدا‏.‏

وقد اثمرت كل واحدةٍ من الجنتين ثمراً كثيرا، ولم يَنْقُص منه شيءٌ، وقد فجرّنا بينهما نهرا يسقيهما‏.‏

وكان لصاحب الجنتين أموالٌ أخرى مثمرة، فداخَلَه الغرور والكبرياء بتلك النعم، فقال لصاحبه المؤمن وهو يجادله‏:‏ أنا أَكثرُ منك مالاً وأكثر خدماً وحشَما وانصارا‏.‏

ثم زاد فخرا على صاحبه المؤمن، فدخل إحدى جنتيه وهو مأخوذ بغروره فقال‏:‏ ما أظنُّ أن تَفنى هذه الجنة أبدا، وما أظنّ ان يوم القيامة آتٍ كما تقول، ولو فُرض ورجعتُ إلى ربي البعث كما تزعم، ليكوننّ لي هناك أحسنُ من هذا الحظ عند ربي، لأنه لم يعطِني هذه الخيراتِ في الدنيا الا ليعطيني ما هو أفضل منها فيما بعد‏.‏

فقال له صاحبه المؤمن واعظاً له وزاجراً عما هو فيه من الكفر‏:‏ كيف تكفر بربك الذي خَلَقك من ترابٍ ثم من نطفة لا تُرى، ثم صوّرك رجلاً كاملا‏.‏ أنا أقول‏:‏ إن الذي خلَقني وخلَق هذا الكونَ وما فيه هو الله ربي، وانا أومن به وأعبُده وحده ولا أُشرِك معه أحدا‏.‏

ثم زاد في وعظه قائلا‏:‏ هلاّ إذ أعجبتْك جنتُك حين دخلتَها ونظرتَ الى ما فيها من رزق وجمال حمدتَ الله على ما أنعم به عليك وقلت‏:‏ ‏{‏مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله‏}‏ هذا ما شاء الله، فيكون ذلكَ شكراً كفيلاً بدوام النعمة عليك‏.‏

وبعد ان نصح الكافرَ بالإيمان، وأبان له عظيم قدرة الله وكبيرَ سلطانه، قال له‏:‏ إن تَرَنِي انا أفقرَ منك وأقلُ ولدا، فإني ارجو من الله ان يرزقني خيراً من جنتك ويرسلَ على جنتك سيولاً عظيمة وصواعقَ تخرّبها فتصيرَ أرضاً ملساء لا ينبت فيها شيء ولا يثبت عليها قوم، وتصبح انتَ وما تملك أثراً بعد عين‏.‏

وقد اخبر الله تعالى بانه قد حقّق ما قدّره هذا المؤمن فقال‏:‏

‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

أحاطت الجوائحُ بثمار جنته التي كان يقول‏:‏ ‏{‏مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً‏}‏ وأهلكتها الصواعقُ والآفات، وأبادت أصولَها، فأصبح يقلّب كفيه ندماً وتحسرا على خسارته وضياع ماله حين رآها ساقطةً على عروشها خاليةً من الثمر، وضاعت منه الدنيا وحُرم الدنيا والآخرة معا، وعظُمت حسرته وقال‏:‏ ليتَني لم أشرك بربّي أحدا‏.‏

‏{‏وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً‏}‏‏.‏ ولم تكن له عشيرة تنصره من دون الله، وما كان منتصراً بقوّته‏.‏ وهنا تبيَّنَ ان الله ينفرد بالوَلاية والنصرة والعزة، ومن اعتزّ بغير الله ذلّ، فلا قوةَ الا قوّته، ولا نصر الا نصرهُ، وثوابهُ‏.‏

ويسدل الستار على مشاهد الجنة الخاوية على عروشها، وصاحبها يقلّب كفّيه أسفاً وندما، وجلالُ الله يظلل الموقف، حيث تتوارى قدرةُ الإنسان‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة‏:‏ «الوِلاية لله الحق» بكسر الواو، وقرأ ابو عمرو‏:‏ «الوَلاية لله الحق» بفتح الواو، وبضم القاف‏.‏ وقرأ الكسائي‏:‏ «الوِلاية لله الحقُّ» بكسر الواو وضم القاف من الحق‏.‏

وقرأ عاصم‏:‏ وكان له ثمر‏.‏ واحيط بثمره، بفتح الثاء والميم‏.‏ وقرأ ابو عمرو‏:‏ بضم الثاء واسكان الميم، والباقون‏:‏ ثمر بضم الثاء والميم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ‏(‏45‏)‏ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

هشيما‏:‏ يابسا متفتتا‏.‏ تذروه الرياح‏:‏ تنثره، تفرقه‏.‏ الباقيات الصالحات‏:‏ الاعمال الصالحة‏.‏

اذكر ايها الرسول للناس مَثَلَ حال الدنيا في نُضْرتها ثم سرعةِ فنائها وزوالها كمثَلِ نباتٍ اخضرَّ والتفّ وأزهر، ثم صار هشيماً يابسا تنثره الرياح، والله قادر على كل شيء، وكل ما نراه إلى زوال، وفي الحديث‏:‏ «الدنيا كَسُوقٍ قام ثم انفضّ»

والمال والبنون جمالٌ ومتعة للناس في هذه الحياة الدنيا ولكنْ لا دوامٍ لشيءٍ منها‏.‏ وقد بين الله تعالى ما هو الباقي فقال‏:‏ ‏{‏والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً‏}‏، فإن الاعمال الصالحةَ التي تنفع الناس، وطاعة الله خيرٌ عند الله يُجزل ثوابها، وخير املٍ يتعلّق به الانسان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 49‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏47‏)‏ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ‏(‏48‏)‏ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

بارزة‏:‏ ظاهرة ليس على وجهها شيء‏.‏ حشرناهم‏:‏ سقناهم الى الموقف‏.‏ فلم نغدر‏:‏ لم نترك‏.‏ وعرضوا‏:‏ أُحضروا للفصل والحساب‏.‏ صفا‏:‏ مصطفين‏.‏ ووضع الكتاب‏:‏ جعل كتاب كل انسان في يده‏.‏ مشفقين‏:‏ خائفين‏.‏ الويل‏:‏ الهلاك‏.‏ احصاها‏:‏ عدها‏.‏

بعد ان بين الله تعالى ان الدنيا فانية زائلة، وانه لا ينبغي ان يعتزَّ أحدٌ بِزخْرفها ونعيمها، أردف هنا بذِكر مشاهدِ يوم القيامة وما فيها من أهوال، وانه لا ينجيّ في ذلك اليوم الا من آمنَ وعمل صالحا، ولا ينفع الانسانَ مالٌ ولا بنون ولا جاهٌ ولا مناصب‏.‏

اذكر أيها الرسول للناس وأنذِرْهم يومَ نُفني هذا الوجودَ ونقتلع هذه الجبالَ من أماكنها ونسيّرها ونجعلها هباء منثورا، كما قال تعالى في سورة النمل 88‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب‏}‏ وتبصر في ذلك اليوم الأرضَ ظاهرة مستوية لا عوج فيها ولا وادي ولا جبل‏.‏

‏{‏وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً‏}‏‏.‏

وجمعنا الناس وبعثناهم من قبورهم فلم نترك احدا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 104‏]‏‏.‏ وعن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏» يُحشَر الناس حفاةً عراة‏.‏‏.‏ فقلت‏:‏ الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض‏؟‏ فقال‏:‏ الأمر أشدُّ من ان يهمَّهم ذلك «وزاد النِّسائِّي‏:‏ ‏{‏لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 36‏]‏، يعني من شدّة الهول لا ينظر أحد إلى غيره‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر‏:‏» ويوم تُسيَّر الجبالُ «بضم التاء ورفع الجبال، والباقون» نسير «بضم النون ونصب الجبال‏.‏

ثم بين كيفية حشرِ الخلق وعرضِهم على ربهم بقوله‏:‏

‏{‏وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ويعرَض الناس في ذلك اليوم على الله في جموع مصفوفة ويقول الله تعالى‏:‏ لقد بعثناكم بعدَ الموت كما أحييناكم أولَ مرة، وجئتمونا فُرادى حفاةً عراةً لا شيء معكم من المال والولد، وقد كنتم في الدنيا تكذِّبون بالبعث والجزاء‏.‏

ووُضع كتابُ الأعمال في يد كل واحد، فيبصره المؤمنون فَرِحين بما فيه، ويبصره الجاحدون فتراهم خائفين مما فيه من الأعمال السيئة‏.‏ وعند ذلك يقولون‏:‏ يا ولينَا ما لِهذا الكتابِ لا يترك صغيرةً ولا كبيرة الا بيَّنها بالتفصيل والدّقة وعدَّها‏!‏‏!‏‏.‏

ثم اكد الله ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً‏}‏‏.‏

ووجدوا أمامهم في كتابهم كلَّ عملٍ عملوه مثبتا، والله سبحانَه عادلٌ لا يظلم أحداً من خَلْقه بل يعفو ويصفح، ويغفر ويرحم، ويعذّب من يشاء بحكمته وعدله‏.‏

أخرج ابن المنذر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏» ان الله تعالى ينادي يوم القيامة‏:‏ يا عبادي، أنَا الله لا اله الا انا ارحمُ الراحمين وأَحكَم الحاكمين واسرع الحاسبين، أحضِروا حجّتكم، ويسرِّروا جوابكم، فإنم مسئولون محاسَبون «

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 53‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ‏(‏50‏)‏ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ‏(‏51‏)‏ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ‏(‏52‏)‏ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

فَسَقَ عن امر ربه‏:‏ خرج عن طاعته‏.‏ فهم لكم عدو‏:‏ العدو يطلق على الواحد والجمع‏.‏ العضد‏:‏ ما بين المرفق والكتف ومعناه هنا المعين المساعد والنصير‏.‏ فدعوهم‏:‏ فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم‏.‏ موبقا‏:‏ حاجزا فيه الهلاك‏.‏ الموبق‏:‏ المهلك، وبق يبق وبوقا‏:‏ هلك‏.‏ مواقعوها‏:‏ واقعون فيها‏.‏ مصرفا‏:‏ مكانا ينصرفون اليه‏.‏

‏{‏وَإِذَا قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

تقدم ذلك في الآية 34 من سورة البقرة والآية 11‏]‏ من سورة الاعراف، والآية 61 من سورة الاسراء، وهي في كل موضع جاءت لفائدةٍ ومعنى غير ما جاءت له في المواضع الأخرى، على اختلاف اساليبها وعباراتها المعنى المراد منها‏.‏

وهنا يشير الله تعالى الى أن الكفر والعصيانَ مصدرهما طاعة الشيطان، وابليس أعدى الأعداءِ‏.‏ وقد خرج عن طاعة الله ولم يسجد لآدمَ سجودَ تحيَّةٍ وإكرام، مع ان الملائكة كلَّهم سجدوا وأطاعوا أمرَ ربهم، فعصى ربه عن امره‏.‏ ومعهذا وبعد ان عرفتم عصيانه وتمرُّدَه على الله تتخذونه هو وأعوانَه أنصاراً لكم من دون الله، وهم لكم اعداء‏!‏

‏{‏بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً‏}‏ بئس البدلُ للكافرين بالله اتخاذُ إبليسَ وذرّيته أولياءَ من دونه‏.‏

‏{‏مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً‏}‏‏.‏

ما أطلعتهم على أسرار التكوين، وما احضرتُ إبليس ولا ذريته خَلْقَ السموات والارض وما أشهدتُ بعضَهم خلق بعض لأستعين بهم، وما كنتُ في حاجةٍ الى معين، وما كنت متخذ المضلِّين الجاحدين أعوانا وانصارا، تعالى الله الغنيُّ عن العالمين‏.‏

ثم اخبر سبحانه عما يخاطَب به المشركون يوم القيامة على روؤ الاشهاد تقريعاً لهم وتوبيخا فقال‏:‏

‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً‏}‏‏.‏

اذكر لهم أيها الرسول يوم يقول الله للمشركين‏:‏ نادوا الذين ادَّعيتم أنهم شركائي في العبادة ليشفعوا لكم كما زعمتم، فاستغاثوا بهم فلم يُجيبوهم، وجعلْنا بينهم حاجزاً مهلكا، وهو النار‏.‏ ورأى المجرمون النارَ بأعينهم، فأيقنوا انهم واقعون يها، ولم يجدوا عنها مَحِيدا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة وحده‏:‏ «ويوم نقول» بالنون، والباقون‏:‏ «ويوم يقول» بالياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 56‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ‏(‏54‏)‏ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ‏(‏55‏)‏ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ‏}‏‏.‏

لقد وضحنا للنا كلَّ ما هم في حاجة إليه من أمورِ دينهِم ودنياهم، ليتذَّكروا ويعتبروا، لكنهم لم يقبلوا ذلك‏.‏

‏{‏وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً‏}‏

كان الانسان بمقتضى جِبِلَّتِه اكثرَ شيء مِراءً وخصومة، لا يُنيب الى حق، لا يزدَجِر بموعظة‏.‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا‏.‏‏.‏‏}‏

وما منع هؤلاءَ المشركين من الإيمان، حين جاءهم الحقُّ وهو الرسول والقرآن، الا تعنُّتهم وطلبهم من الرسول أن يأتيَهم بالهلاك، وهي سُنَّةُ الاولين، أو يأتيَهم العذابُ مواجهة وعيانا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ اهل الكوفة‏:‏ «قُبُلا» بضم القاف والباء‏.‏ والباقون‏:‏ «قبلا» بكسر القاف وفتح الباء

‏{‏وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

وما نرسل الرسلَ والأنبياء الا ليبشّروا بالإيمان والتصديق بالله ورسُله وبجزيل ثوابه، وينذِروا الناسَ بعظيم عقابه وأليم عذابه‏.‏

ويجادل الذين أشركوا بالباطل، ليُبْطِلوا الحق، واتخذوا آيات الله وحُجَجَهُ والنذُرَ التي انذرهم بها استهزاء وسخريّة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 59‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏57‏)‏ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ‏(‏58‏)‏ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

اكنة‏:‏ أغطية، واحدها كنان‏.‏ ان يفقهوه‏:‏ ان يفهموه‏.‏ وقرا‏:‏ ثقلاً‏.‏ موئلا‏:‏ ملجأ، يقال وَأُلَ يَئِل وَأْلاً وَوُؤلاً‏:‏ لجأ‏.‏

ليس هناك أظلمُ ممن وُعظ بآيات الله فلم يتدّبرها، ونسي عاقبةَ ما عمل من المعاصي، وبسبب مَيْلِهم الى الكفر جعلْنا على قلوبهم أغطية، فلا تعقِل، وفي آذانهم صَمماً فلا تسمع، وإن تدْعُهم ايها الرسول الى دين الله الحق فلن يهتدوا ابدا‏.‏

ثم بين الله تعالى انه لا يعجِّل العقوبة لعباده على ما يقترفون من السيئات والآثام، لعلّهم يرجعون اليه ويتوبون فقال‏:‏

‏{‏وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

إن ربك ايها الرسول عظيمُ المغفرة لذنوب عباده، فهو يرحمهم ويتجاوز عن خطاياهم‏.‏ ولو شاء ان يؤاخذَهم على أعمالهم السيئة لعجَّل لهم العذاب، لكنّه لحكمة قدّرها إنما أخّرهم لموعدٍ ليس لهم عنه مهرب ولا ملجأ‏.‏

‏{‏وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً‏}‏‏.‏ وتلك القرى من عاد وثمود واصحاب الأيكة وغيرهم دمرناهم لما ظلم اهلها بتكذيب رسلهم، وجعلنا لهلاكهم موعدا، وكذلك نفعل بالمكذبين من قومك اذا لم يؤمنوا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حفص‏:‏ لمهلكهم‏:‏ بفتح الميم وبكسر اللام والكاف‏.‏ وقرأ ابو بكر‏:‏ لمهلكهم‏:‏ بفتح الميم واللام‏:‏ والباقون‏:‏ لمهلكهم‏:‏ بضم الميم وكسر اللام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 64‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ‏(‏60‏)‏ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ‏(‏61‏)‏ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ‏(‏62‏)‏ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ‏(‏63‏)‏ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا ‏(‏64‏)‏‏}‏

فتاه‏:‏ خادمه، تلميذه‏.‏ لا ابرح‏:‏ لا ازال سائرا‏.‏ مجمع البحرين‏:‏ مكان اجتماعهما‏.‏ حقبا‏:‏ مدة طويلة‏:‏ سربا‏:‏ مسلكا‏.‏ نصيبا‏:‏ تعبا‏.‏ اوينا‏:‏ التجأنا‏.‏ ذلك ما كنا نبغي‏:‏ ذلك ما كنا نريد‏.‏ فارتدا على آثارهما قصصا‏:‏ رجعا في نفس الطريق التي جاءوا منها‏.‏ الحوت‏:‏ السمكة الكبيرة‏.‏

هذه القصة الثالثة التي اشتملت عليها سورة الكهف، وهي قصة موسى مع الرجل الصالح الذي آتاه الله علما‏.‏ وهذه القصة وردت هنا في سورة الكهف ولم تكرر في القرآن‏.‏ وموسى هذا اختلف المفسرون فيه‏:‏ هل هو موسى بن عمران النبي المرسل صاحب التوراة، او موسى آخر‏؟‏ واكثر المفسرين على انه موسى بن عمران‏.‏ وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن جبير قال‏:‏ قلت لابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ان نوفا البكالي من اصحاب امير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه، يزعم ان موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني اسرائيل، فقال ابن عباس‏:‏ كذب عدو الله‏.‏

ونوف البكالي هذا كان من التابعين ومن اصحاب سيدنا علي بن ابي طالب وإمام اهل الشام في عصره‏.‏ وكان ابن زوجة كعب الاحبار، وكان راويا للقصص، توفي نحو سنة 95 ه‏.‏

وعند اهل الكتاب وبعض المحدّثين والمؤرخين ان موسى هذا ليس موسى بن عمران، بل موسى آخر، وهو متقدم في التاريخ‏.‏

والقرآن الكريم لم يحدد الاسماء ولا زمن الحادثة، ونحن لا يهمنا الاشخاص وانما نقف مع نصوص القرآن، والعبرة من القصص، وما نستفيد منها‏.‏

وفتاه‏:‏ يقول المفسرون انه يوشع بن نون تلميذه وخليفته‏.‏ ومجمع البحرين لم يحدَّد مكانهما، وهناك اقوال كثيرة منها انهما البحر الاحمر والبحر الابيض، او مجمع البحرين عند طنجة وغير ذلك‏.‏

قال البقاعي في «نظم الدرر»‏:‏ الظاهر واللهُ اعلم ان مجمع البحرين عند دمياط او رشيد من بلاد مصر، حيث مجمع النيل والبحر الابيض‏.‏

وكلها اقوال بدون دليل او خبر قطعي‏.‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

اذكر ايها الرسول حين قال موسى لفتاه خادمه وتلميذه‏:‏ سأظل اسير حتى ابلغ ملتقى البحرين او أسير زمنا طويلا حتى التقي به‏.‏

وسبب ذلك كما في كتب الحديث‏:‏ «عن ابي كعب رضي الله عنه انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ان موسى قام خطيبا في بني اسرائيل، فسئل اي الناس اعلم‏؟‏ قال‏:‏ أنا، فعتب الله عليه اذ لم يردّ العلم اليه، فأوحى الله اليه ان لي عبدا بمجمع البحرين هو اعلم منك‏.‏ قال موسى‏:‏ يا رب وكيف لي به‏؟‏ قال تأخذ معك حوتا فتجعله بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو هناك» المِكتَل‏:‏ النزبيل، القفة‏.‏

فلما وصل موسى وفتاه المكان الجامع بين البحرين نسيا حوتهما الي حملاه معهما، وكان الحوت سقط في الماء وغاص فيه‏.‏

فلما ابتعدا عن ذلك المكان، أحس موسى بالجوع والتعب، فقال لفتاه‏:‏ آتنا غداءنا، لقد لقينا في هذا السفر تعبا ومشقة‏.‏

فقال له فتاده‏:‏ اتذكر حين جلسنا نستريح عند الصخرة، فاني نسيت الحوت هناك، ان الحوت سقط في البحر، ونسيت ان اذكر لك ذلك، وما انساني ذلك الا الشيطان‏.‏

فقال له موسى‏:‏ ان هذا الذي حدث هو ما اريده لحكمة ارادها الله‏.‏ فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه يتتبعان اثرهما حتى أتيا الصخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 70‏]‏

‏{‏فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ‏(‏65‏)‏ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ‏(‏66‏)‏ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏67‏)‏ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ‏(‏68‏)‏ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ‏(‏69‏)‏ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

رشدا‏:‏ اصابة الخير‏.‏ على ما لم تحط به خُبرا‏:‏ على معرفة الشيء معرفة تامة‏.‏ والخُبر‏:‏ المعرفة‏.‏ ذكرا‏:‏ بيانا وشرحا‏.‏

فلما بلغا تلك الصخرة وجدا عندها رجلا صالحا اعطاه الله الحكمة، أي علّمه من عنده علما كثيرا‏.‏ وسلم عليه موسى، وقال له‏:‏ هل اصحبك لتعلمني مما علمك الله أسترشدُ به في امري‏؟‏ فقال الرجل الصالح‏:‏ انك لن تستطيع الصبر على ما تراه مني‏.‏

وكيف تصبر على أمور ظاهرها منكر، وباطنها مجهول لا خبرة لك بمثلها‏؟‏ قال موسى‏:‏ ستجدني ان شاء الله صابرا معك مطيعا لك فيما تأمر به‏.‏

قال الرجل الصالح‏:‏ ان سرت معي ورأيت اني عملت عملاً منكرا فلا تعترض علي وتسألني عنه حتى أحدثك عنه وأبين لك سره‏.‏

وهذا العبد الصالح اختلف العلماء فيه، هل هو الخضر كما هو شائع بين اكثر المفسرين او هو رجل آخر، وهل هو نبي او ملك من الملائكة، او ولي‏؟‏ وهذا قول كثير من العلماء‏.‏

واختُلف فيه‏:‏ هل هو لا يزال حيا الى اليوم او انه مات، فقد انكر البخاري ان يكون حيا، وعلماء السنة يقولون انه ميت بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 34‏]‏‏.‏

وبذلك جزم ابنُ المناوي وابراهيم الحربي وابو طاهر العبادي، وابو يعلى الحنبلي، وابو الفضل بن تامر، والقاضي ابو بكر بن العربي، وابو بكر بن النقاش، وابن الجوزي‏.‏ قال ابو الحسين بن المناوي‏:‏ بحثت عن تعمير الخشر، وهل هو باق ام لا فاذا اكثر المغفلين مغترون بانه باق، والاحاديث الواردة واهية والسند الى اهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم‏.‏

وقال في «فتح البيانط‏:‏ والحق ما ذكره البخاري واضرابه في ذلك، ولم يرد في ذلك نص مقطوع به، ولا حديث مرفوع اليه صلى الله عليه وسلم حتى يقيمه عليه‏.‏

ويقول الصوفيون انه حي، وان بعضهم لقيه، وهذا كلام ليس عليه دليل ويناقض نصوص القرآن‏.‏

وبما انه لم يرد نص معتمد في القرآن او الحديث فاننا نكتفي بالعبرة من القصة، ولا يهمنا معرفة الاسماء والاشخاص‏.‏

وقد كتبا لحافظ ابن حجَر في» الاصابة «بحثا طويلا في نحو عشرين صفحة قال فيه‏:‏ وقد جمعت من اخباره ما انتهى إليّ علمه مع بيان ما يصح من ذلك وما لا يصح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 82‏]‏

‏{‏فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ‏(‏71‏)‏ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏72‏)‏ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ‏(‏73‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ‏(‏74‏)‏ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏75‏)‏ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ‏(‏76‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ‏(‏77‏)‏ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏78‏)‏ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ‏(‏79‏)‏ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ‏(‏80‏)‏ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ‏(‏81‏)‏ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏82‏)‏‏}‏

إمرا‏:‏ منكرا‏.‏ لا ترهقني‏:‏ لا تحمّلني ما لا اطيق‏.‏ العسر‏:‏ الشدة والمشقة وضد اليسر، يعني ارفق بي وعاملني باليسر‏.‏ زكية‏:‏ طاهرة من الذنوب‏.‏ نكرا‏:‏ منكرا تنفر منه النفوس‏.‏ قد بلغت من لدني عذرا‏:‏ وجدت عذرا من قبلي‏.‏ استطعما اهلها‏:‏ طلبا منهم ان يطعموهما‏.‏ جدارا يريد ان ينقض‏:‏ حائطا مشرفا على السقوط‏.‏ فأقامه‏:‏ فسوّاه ورممه‏.‏ هذا فراق بيني وبينك‏:‏ إلى هنا انتهى اجتماعنا‏.‏ سأنبك بتأويل‏:‏ سأخبرك بتفسير ما لا تعرفه‏.‏ خيرا منه زكاة‏:‏ احسن منه طهارة‏.‏ واقرب رحما‏:‏ قرابة ورحمة‏.‏ كنز‏:‏ مال مدفون تحت الجدار‏.‏ يبلغا اشدهما‏:‏ بلوغ الرشد وكمال العقل‏.‏

فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، حتى وجدا سفينة فركباها، فخرقها العبد الصالح فاعترض موسى قائلا‏:‏ أخرقتَ السفينة لتغرق من فيها من الركاب‏؟‏ لقد راتكبت امراً منكرا‏.‏

قال العبد الصالح‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً‏}‏ لما ترى من اعمالي ولا تدرك سرها‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ «ليغرق اهلها» بالياء ورفع اهلها‏.‏

قال له موسى‏:‏ لا تؤاخذني فقد نسيت العهد الذي بيننا، ولا ترهقني وتكلفني مشقة ويسّر عليّ أمري‏.‏

وخرجا من السفينة فانطلقا يمشيان، فلقيا صبياً، فقتله العبد الصالحن فقال موسى مستنكرا هذا العمل‏:‏ كيف تقتل نفسا طاهرة بريئة من الذنوب، ولم ترتكب ذنبا‏!‏

‏{‏لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً‏}‏ لقد ارتكبت اثما عظيما‏.‏

الى هنا تم تفسير الجزء الخامس عشر، والحمد لله على ذلك، واسأل الله تعالى ان يعين على اتمامه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‏.‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً‏}‏‏.‏

قال العبد الصالح‏:‏ لقد قلت لك‏:‏ انك لن تستطيع الصبر على ما ترى من اعمالي‏.‏

قال موسى‏:‏ ان سأتلك عن شيء بعد هذه المرة عن عجيب افعالك التي اشاهدها فلا تصاحبني، قد بلغتَ الغاية التي تعذر بسببها في فراقي‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ يعقوب‏:‏ فلا تصحبني‏.‏ والباقون‏:‏ فلا تصاحبني‏.‏ وقرأ نافع‏:‏ من لدني‏.‏ بتخفيف النون‏.‏ وقرأ ابو بكر‏:‏ من لدني‏:‏ بإسكان الدال‏.‏

قرأ ابن كثير والبصْرِيَّان‏:‏ لتخِذت عليه اجرا، بفتح التاء وكسر الخاء‏.‏

فانطلقا يمشيان حتى وصلا الى قرية، فطلبا من اهلها ان يطعمهما، فرفضوا ان يضيّفوهما ووجدا في القرية جدارا يكاد يسقط، فسوّاه العبد الصالح ورممه‏.‏ فقال موسى‏:‏ لو شئت لطلب اجره على بنائه‏.‏

فقال‏:‏ هذا الاعتراض الدائم منك على ما افعل سبب الفراق بيني وبينك، وسأخبرك بحكمة هذه الافعال التي خفي عليك امرها ولم تستطع الصبر عليها‏.‏

اما السفينة التي احدثتُ فيها خرقا، فهي لمساكين ضعفاء يعملون بهافي البحر لتحصيل رزقهم، فاحدثتُ فيها عيبا، لانه كان هناك ملك يغتصب كل سفينة صالحة، وبعملي هذا نجت السفينة من ذلك‏.‏

واما الغلام الذي قتلته، فكان ابواه مؤمنين، وعلمت انه ان عاش فإنه سيكون سبباً لكفرهما‏.‏

واراد ربك بقتله ان يعوضهما خيرا منه ديناً واقرب براً ورحمة‏.‏ واما الجدار الذي أقمته دون اجر، فكان لغلامين يتيمين من اهل المدينة، وكان تحته مال مدفون تركه ابوهما لهما، وكان رجلا صالحا، فاراد الله ان يحفظ لهما ذلك المال حتى يبلغا رشدهما ويستخرجاه، رحمة ربهما، وتكريماً لأبيهما‏.‏

واعلمْ اني ما فعلت هذا كله بأمري واجتهادي من عندي نفسي، وانما فعلته بتوجيه من ربي، هذا تفسير ما خفي عليك يا موسى، ولم يستطع الصبر عليه‏.‏

قرأ نافع وابو عمرو‏:‏ ان يبدلهما بتشديد الدال‏.‏ وقرأ ابن عامر ويعقوب وعاصم‏:‏ رحما بضم الراء واسكان الحاء‏.‏ والباقون‏:‏ رحما بضم الراء والحاء‏.‏

اختلف المؤرخون والمفسرون في شخصية ذي القرنين، فقال كثير من المفسرين انه اسكندر المقدوني، وفي تاريخ ملوك حمير واقيال اليمن ان ذا القرنين هو تبَّع بن شمر يرعش‏.‏‏.‏ وانه غزا بلاد الروم واوغل فيها حتى وصل الى وادي الظلمات‏.‏

وفي رواية انه الصعب بن تبع ابن الحارث ويلقب بذي القرنين، وروايات كثيرة، وكلها من باب الرجم بالغيب والظن الذي لا يغني عن الحق شيئا‏.‏

ويقول ابو الكلام أزاد في كتابه عن ذي القرنين انه «كورش الأكبر» مؤسس الاسرة الاخمينية، والذي يقول العقاد إننا اذا انعمنا النظر في التاريخ نجد ان اوصافه تنطبق على ما وصف به القرآن ذا القرنين، اذ كان ملهماً وفاتحا عظيما، غزا الارض شرقا وغربا واقام سدا ليصد به هجمات المغيرين من «يأجوج ومأجوج» على بلاده‏.‏ واما اسكندر المقدوني فقد كان وثنيا معروفا بالقسوة والوحشية، ثم ان الاسكندر لا يعقل ان يكون هو باني سور الصين، فهو اولاً لم يصل الصين، بل عاد من الهند حيث تمرد عليه رجاله، وان سد الصين بني بعده بنحو مائة وعشرين سنة‏.‏ ما بين سنة 246- 209 قبل الميلاد وبانيه معروف وهو الملك «ش هو انجتي»‏.‏ وطول سد الصين 2400 كيلو متر استغرق بناؤه سنين عديدة‏.‏ وسيأتي الكلام على السد ومكانه قريبا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 91‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏83‏)‏ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ‏(‏84‏)‏ فَأَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏85‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ‏(‏86‏)‏ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏87‏)‏ وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ‏(‏88‏)‏ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏89‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ‏(‏90‏)‏ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ‏(‏91‏)‏‏}‏

ذكراً‏:‏ خبرا‏.‏ مكنّا له في الارض‏:‏ جعلنا له قوة وسلطة‏.‏ آتيناه من كل شيء سببا‏:‏ هيأنا له السبب الذي يوصله الى ما يريد‏.‏ وأتبع سببا‏:‏ سار في طريقه‏.‏ حمئة‏:‏ ذات طين اسود‏.‏ نكرا‏:‏ فظيعا‏.‏ الحسنى‏:‏ المثوبة الحسنة‏.‏ يسرا‏:‏ سهلا ميسرا‏.‏ خبرا‏:‏ علما‏.‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً‏}‏

يسألك بعض زعماء قريش ايها الرسول عن نبأ ذي القرنين فقل لهم سأقص عليكم بعض اخباره‏.‏

روي في سبب نزول سورة الكهف ان زعماء قريش ارسلوا النضر بن الحارث وعقبة بن ابي معيط الى احبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما‏:‏ سلاهم عن محمد وَصِفا لهم صفته، واخبراهم بقوله فانهم اهل الكتاب الاول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الانبياء‏.‏‏.‏ فقال لهم اليود‏:‏ سلوه عن ثلاث، فان اخبركم بهن فهو نبي مرسل والا فهو رجل متقوِّل فروا فيه رأيكم‏:‏ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الاول، ما كان من امرهم، فانهم كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الارض ومغاربها، ما كان نبؤه‏؟‏ وسلوه عن الروح ما هو‏؟‏ فان اخبركم بذلك فهو نبيّ فاتبعوه‏.‏‏.‏‏.‏ فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا‏:‏ يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، فأخبروهم بما قال اليهود‏.‏ فجاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه عن هذه الأمور الثلاثة‏.‏ فقال‏:‏ اخبركم غدا عما سألتم ولم يَقُلْ ان شاء الله، ومكث خمس عشرة ليلة لم يأته الوحي‏.‏ فأرجف اهل مكة وقالوا‏:‏ وعدنا محمد غدا، واليوم خمش عشرة قد اصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه‏!‏ وشق ذلك على النبي الكريم، ثم جاءه جبريل بسورة الكهف‏.‏ وهناك روايات اخرى في سبب النزول ولا يهمنا ذلك كله، والمهم العبرة من القصص القرآني ويكفينا ذلك‏.‏

‏{‏إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً‏}‏

انا مكنا لأمره في الأرض، فاعطيناه سلطانا قويا، ويسرنا له اسباب الحكم والفتح، واسباب البناء والعمران، وآتيناه الكثير من العلم بالاسباب كي يستطيع توجيه الأمور، ورحل ثلاث رحلات‏:‏ واحدة الى المغرب، وواحدة الى المشرق، وواجدة الى ما بين السدّين‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر واهل الكوفة‏:‏ فأتْبع سببا، بفتح الهمزة وسكون التاء، اولباقون‏:‏ فاتَّبع سببا‏:‏ بجعل الهمزة الف وصل، وتشديد التاء المفتوحة‏.‏

‏{‏فَأَتْبَعَ سَبَباً‏}‏ ومضى بهذه الاسباب يبسط سلطانه على الارض، حتى اذا وصل الى مكان بعيد جهة مغرب الشمس، ووقف على حافة البحر، وجد الشمس تغرب عند عين ذات حمأة وطين اسود، ووجد بالقرب من هذه العين قوما كفارا‏.‏ فألهمه الله ان يتخذ فيهم احد امرين‏:‏ اما ان يدعوهم الى الايمان، وهذا امر حسن في ذاته؛ واما ان يقاتلهم إن لم يجيبوا داعي الايمان‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر واهل الكوفة الا حفصا‏:‏ في عين حامئة‏.‏ والباقون‏:‏ في عين حمئة بفتح الحاء وكسر الميم وفتح الهمزة، كما هو في المصحف‏.‏

قرأ اهل الكوفة الا ابا بكر‏:‏ فله جزاءً الحسنى‏:‏ بنصب جزاء مع التنوين‏.‏ والباقون فله جزاءُ الحسنى‏:‏ برفع جزاء واضافته الى الحسنى‏.‏

فقال ذو القرنين‏:‏ ان من ظلم نفسه بالبقاء على الشرك، استحق العذاب في هذه الدنيا على يديه، ثم يرجع الى ربه فيعذبه عذابا شديدا‏.‏

واما من استجاب وآمن بِرِبِه وعمل صالحا، فله المثوبة الحسنى في الآخرة، وسنعامله في الدنيا برفق ولين ويسر‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً‏}‏ وقفل راجعا من مغرب الشمس حتى بلغ مشرق الشمس حيث بلغ غاية المعمور من الارض في ذلك الزمن، فوجدها تطلع على قوم ليس لهم بناء يكنّهم، ولا لباس لهم، فهم عراة في العراء او في سراديب في الارض‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً‏}‏

ان امر ذي القرنين كما وصنا من قبل بلوغه طرفي المشرق والمغرب، ونحن مطلعون على جميع احواله لا يخفى علينا شيء منها‏.‏