فصل: تفسير الآيات رقم (71- 75)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 75‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ ‏(‏71‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏74‏)‏ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

أرأيتم‏:‏ أخبرِوني‏.‏ سرمدا‏:‏ دائما‏.‏ تسكنون فيه‏:‏ تستقرون فيه من متاعب الأعمال‏.‏ ونزعنا‏:‏ أخرجنا‏.‏ شهيدا‏:‏ شاهدا‏.‏ وضلّ‏:‏ غاب‏.‏

في هذه الآيات الكريمة تنبيهٌ للناس الى حقيقةٍ يجب ان يعوها، وهي ان الله تعالى لو خلق الأرضَ بحيث يكون ليلُها دائماً او نهارُها دائما لكان في ذلك حَرَجٌ على الخلق ولتَعَذّرت الحياة عليها‏.‏ وليس غير الله تعالى مَن يستطيع ان ينعم علينا بالنهار والليل، لنسكنَ ونستريح بالليل من عناء العمل، وننشط في النهار لنبتغي فيه الرزق‏.‏ وما أقسى الحياةَ لو كانت عملاً بلا راحة‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ لذلك يجب ان نشكره تعالى على هذه النعم الجزيلة‏.‏

فاذكر ايها الرسول يوم ينادي اللهُ المشركين ويقول لهم‏:‏ أين الشركاء الذين عبدتموهم من دوني‏؟‏ فلا يجيبون‏.‏

ويوم القيامة يُحضر الله من كل أمةٍ شاهداًهو نبيُّها يشهد عليهم بالحق، ثم يطلب الله منهم بعد ذلك حجتهم ‏{‏فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فعلموا أَنَّ الحق لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ فيعجزن عن الجواب ‏{‏فعلموا أَنَّ الحق لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ ويكذبون على ربهم في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 82‏]‏

‏{‏إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ‏(‏76‏)‏ وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏77‏)‏ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏78‏)‏ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏79‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ‏(‏80‏)‏ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ‏(‏81‏)‏ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

فبغى عليهم‏:‏ تكبر وتجبر‏.‏ الكنوز‏:‏ جمع كنز‏:‏ وهو المال المدفون في باطن الأرض والمراد به هنا المال المدخَر‏.‏ مفاتحه‏:‏ جمع مفتح‏:‏ ومفاتيح جمع مفتاح والمعنى واحد، وهو المفتاح المعروف لفتح الابواب‏.‏ لَتنوء بالعصبة أولي القوة‏:‏ يعني ان مفاتيح خزائنه من الكثرة بحيث يثقل حملها على الجماعة الاقوياء‏.‏ لا تفرح‏:‏ لا تبطَر، وتتمسك بالدنيا‏.‏ على علم عندي‏:‏ على حسن تصرفٍ في التجارة واكتساب المال‏.‏ ويلكم‏:‏ كلمة تستعمل للزجر‏.‏ وي‏:‏ كلمة يراد بها التندم والتعجب‏.‏ ويقدر‏:‏ يضيّق، يقلل‏.‏

كان قارون من قوم موسى، ويقول بعض المفسرين انه تكبّر على قومه غروراً بنفسه وماله، حيث أعطاه الله من الأموال قدراً كبيرا، بلغت مفاتيحُ خزائنها من الكثرة بحيث يثقل حملُها على الجماعة الأقوياء من الرجال‏.‏ وحين اغترّ وكفر بنعمة الله عليه نصحه قومه قائلين‏:‏ لا تغترّ بمالك ولا يفتنك الفرح به عن شكر الله، ان الله لا يرضى عن المغرورين المفتونين‏.‏

وقد أورد القرآن هذه القصة حتى يعتبر قومُ سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، إذ أنهم اغترّوا باموالهم، فبيّن لهم ان أموالهم بجانب مال قارون ليست شيئاً مذكورا‏.‏

ثم نصحوه بعدة نصائح فقالوا‏:‏

1- ‏{‏وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة‏}‏ اجعلْ نصيباً منه في سبيل الله والعملِ للدار الآخرة‏.‏

2- ‏{‏وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا‏}‏ لا تمنع نفسك نصيبها من التمنع بالحلال في الدنيا‏.‏ كما في الحديث الشريف‏:‏ «ان لربك عليك حقاً، ولنفسِك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا»

3- ‏{‏وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ‏}‏ أحسنْ الى عباد الله كام احسن الله اليك بنعمته، فأيمنْ خلْقه بمالك وجهك، وطلاقة وجهك، وحسن لقائهم‏.‏

4- ‏{‏وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين‏}‏ لا تفسد في الأرض متجاوزا حدود الله، ان الله سبحانه لا يرضى عن ذلك‏.‏

قال قارون وقد نسي فضلَ الله عليه‏:‏ انما أوتيتُ هذا المالَ بعلمٍ خُصصت به‏.‏

ألم يعلم هذا المغرور ان الله قد أهلكَ من أهلِ القرون الأولى من هم أشدّ منه قوة واكثر جمعا‏؟‏ إنه عليم بالمجرمين، في غير حاجة لأن يسألهم ماذا يعملون‏.‏

وتجاهل قارون كل هذه النصائح وخرج على قومه في زنيته، فتمنّى الذين يطلبون الحياة الدنيا مثلَ ما عند قارون، وقال الذين رزقَهم اللهُ العلم النفع‏:‏ ويلكم، ثوابُ الله خيرٌ من هذا لمن آمن وعمل الاعمال الصالحة‏.‏

ثم ذكر الله ما آل اليه بطره من وبال ونكال فقال‏:‏

‏{‏فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

فخسفنا به الأرض فابتلعته هو وداره بما فيها من أموال وزينة، فلم يكن له أنصار يمنعونه من عذاب الله، وما أغنى عنه مالُه ولا خدَمه، ولا استطاع ان ينصر نفسه‏.‏

ولما شاهد قوم قارون ما نزل به من العذاب، صار ذلك زاجراً لهم عن حب الدنيا وداعيا الى الرضا بقضاء الله وبما قسمه لهم‏.‏ وصاروا يرددون عباراتِ التحسّر والندم، ويقولون‏:‏ ان الله يوسع الرزق على من يشاء من عباده المؤمنين وغير المؤمنين، ويقتر ويضيّق على من يشاء منهم‏.‏

‏{‏لولا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا‏}‏‏.‏

لولا لَطَفَ الله بنا لخسَف بنا الأرض‏.‏ ثم زادوا ما سبق توكيدا بقولهم‏:‏ «وَي، كأنه لا يفلِح الكافرون» ان الكافرين بنعمة الله لا يفلحون‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ يعقوب وحفص‏:‏ لخسف بنا بفتح الخاء والسين، والباقون‏:‏ لخسف بنا، بضم الخاء وكسر السين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 88‏]‏

‏{‏تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏83‏)‏ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏84‏)‏ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏85‏)‏ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ‏(‏86‏)‏ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏87‏)‏ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

فرضَ عليك‏:‏ أوجب عليك‏.‏ لرادّك الى معاد‏:‏ لمعيدك الى بلدك‏.‏ ظهيرا‏:‏ معينا‏.‏ هالك‏:‏ ذاهب، معدوم‏.‏ وجهه‏:‏ ذاته‏.‏ له الحكم‏:‏ له القضاء‏.‏

تلك الدارُ الآخرة ‏(‏وهي الجنة‏)‏ نجعلها للذين لا يريدون تكبراً في الأرض ولا فسادا، والعاقبة الحميدة للمؤمنين المتقين‏.‏

وفي الحديث الصحيح‏:‏ «لا يدخل الجنةَ من كان في قبله مثقالُ ذرة من كِبر، فقال رجل‏:‏ ان الرجل يحبّ ان يكون ثوبُه حسناً وفعله حسنا فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ان الله جميلٌ يحب الجَمال، الكِبر بطر الحق، وغمط الناس» رواه مسلم وابو داود‏.‏

من جاء بالحسنة له يومَ القيامة أفضلُ منها والله يضاعف لمن يشاء، ومن جاء بالعمل السيء فان الله لا يجزيه الا بمثل علمه، وهذا منه سبحانه رحمة وتفضل‏.‏

‏{‏إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ‏}‏

ان الله الذي أنزل عليك القرآن وفرض عليك تلاوته والعملَ بما فيه- لمعيدُك الى الأرض اتي اعتدتها، وهي مكة؛ او‏:‏ إن المعادَ يوم القيامة، فقل ربي أعلم بمن جاء بالهدى وما يستحقه من الثواب والنصر والتمكين في الأرض، وبمن هو في ضلال مبين، وما يستحقه من القهر والاذلال والعذاب المهين‏.‏

‏{‏وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

ما كنت ايها الرسول تأمل ان ينزَّلَ عليك القرآن، لكن الله أنزله عليك من عنده رحمةً بك وبأمتك، فاذكر هذه النعمة، وثابر على تبليغ الرسالة، ولا تكن أنت ومن اتبعك عوناً للكافرين‏.‏

ولا يمنعك الكافرون يا محمد من تلاوة آياتنا والعملِ بها بعدَ إذ أُنزلتْ اليك، وادعُ الناس الى عبادة ربك وتوحيده، ولا تكوننّ من المشركين‏.‏

ولا تعبد مع الله آلهاً غيره، فانه لا اله الا هون، كل شيء فانٍ الا ذاتُه فإنها أزليّة ابدية، له الحكمُ المطلَق النافذ وإليه تردّون يوم القيامة‏.‏

وهكذا تختم هذه السورة الكريمة بتقرير قاعدة الدعوة الى وحدانية الله سبحانه، تفرده بالألوهية والبقاء والحكم والقضاء، ليمض أصحاب الدعوات في طريقهم على هدى، وعلى ثقة وعلى طمأنينة وفي يقين‏.‏

سورة العنكبوت

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ‏(‏2‏)‏ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ‏(‏3‏)‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏4‏)‏ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏5‏)‏ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏6‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏7‏)‏ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

لا يُفتنون‏:‏ لا يمتحنون‏.‏ الفتنة‏:‏ الامتحان والاختبار‏.‏ ساء ما يحكمون‏:‏ قَبُح حكمهم‏.‏ يرجو لقاء الله‏:‏ يطمع بنيل ثوابه‏.‏ أجَل الله‏:‏ الوقت المضروب للقائه‏.‏ جاهد‏:‏ بذل جهده في حرب نفسه‏.‏ جاهداك‏:‏ حملاك على الشرك‏.‏

‏{‏الم‏}‏ حروف صوتيه تقرأ هكذا ألف، لام، ميم، افتتحت بها السورة لبيان ان القرآن المعجز مؤلَّفٌ من هذه الحروف، ولتنبيه السامعين وتوجيه أنظارهم الى الحق، وكل سورةٍ صدرت بهذه الأحرف تتضمن حديثا عن القرآن إما مباشرة، واما في ثنايا السورة، كقوله تعالى في الآية 45 من هذه السورة ‏{‏اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ والآية‏:‏ 47 ‏{‏وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ والآية 51 ‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

‏{‏أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ‏}‏

ايظنّ الناس أنهم يُتركون بمجرد قولهم آمنا بالله دون ان يُختبروا بما تتبيَّن به حقيقةُ إيمانهم‏.‏ لا بدَّ من امتحانهم بذلك‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين‏}‏

لقد اختبرنا الناسَ من الأمم السابقة بضروبٍ من البأساء والضراء فصبروا وتمسكوا بدِينهم، والله يعلم الذين صدقوا في ايمانهم، ويعلم الكاذبين‏.‏

روى البخاري وابو داود والنسائي «عن خَبَّاب بن الأرتّ قال‏:‏ شكونا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقينا من الشمركين من شدةٍ فقلنا‏:‏ الا تستنصرُ لنا‏؟‏ ألا تدعو لنا‏؟‏ فقال‏:‏ قد كان من قبلِكم يؤخَذُ الرجل فيُحفَرُ له في الأرض فيُجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضعُ على رأسه فيُجعل نصفَين، ويمشَط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه، فما يصدُّه ذلك عن دينه‏.‏ والله ليتمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكبُ من صنعاء الى حضرموتَ لا يخاف الا الله، والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون»

‏{‏أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ‏}‏

ام يظن المشركون والذين يرتكبون الأمورَ السيئة أننا لا نقدِر عليهم‏!‏‏!‏ بئسَ هذا الحكم الذي يحكمونه بجهلهم وغرورهم‏.‏

‏{‏مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ وَهُوَ السميع العليم‏}‏

من كان يؤمن بالبعثِ، فوي لقاء الله- فان إيمانه حق، واليومُ الموعود الذي عيّنه الله آت لا محالة، وهو سميع لاقوال العباد، عليم بأفعالهم‏.‏

ثم بين الله تعالى أن التكليفَ بجهاد النفس وغيرها ليس لنقعٍ يعود اليه بل لفائدة الناس‏.‏ ‏{‏وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ العالمين‏}‏‏.‏

ومن جاهدَ نفسه بالصبر على الطاعة، فإن ثواب جهاد لنفسه، والله سبحانه لا يحتاج الى شيء من اعمالنا، كما قال‏:‏ ‏{‏مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ‏}‏ ‏[‏فصّلت‏:‏ 46‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 7‏]‏‏.‏

لقد ظن بعض المفسّرين ان هذه الآية مدينة لأن فيها ‏{‏وَمَن جَاهَدَ‏}‏ والصوابُ ان الآية مكّية والمراد هنا بالجهاد جهادُ النفس والصبر على الأذى‏.‏

‏{‏والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏

والذين آمنوا إيماناً صادقا وعملوا الاعمالَ الصالحة سنمحو عنهم خطاياهم، ونجزيهم بأحسنَ مما عملوا، وأضعاف أضعافه‏.‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً‏}‏ تقدم في سورة الاسراء ‏{‏وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية 23‏.‏

‏{‏وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

على المرء أن يعامل والديه بالرِفق واللين ولو كانا مشركَين، فأما إذا اراد منه ان يشرك بالله، فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق‏.‏

‏{‏والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين‏}‏

والذين آمنوا إيماناً صادقا مع العمل الطيب الخالص لله- يدخلُهم ربهم في زمرة من أنعمَ عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين ‏{‏وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 15‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ‏(‏10‏)‏ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ‏(‏11‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏13‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

فتنة الناس‏:‏ أذاهم‏.‏ ونحمل خطاياكم‏:‏ لتكون ذنوبكم علينا‏.‏ الأثقال‏:‏ واحدها ثقل بكسر الثاء وسكون القاف‏:‏ الحمل الثقيل، والمراد هنا الذنب والاثم‏.‏

الناي في الدين ثلاثة أقسام‏:‏ مؤمن حسن الاعتقاد والعمل، وكافر مجاهر بالكفر والعناد، ومذبذب بينهما، يُظهر الايمانَ لبسانه، ويبطن الكفر في قلبه، وقد بيّن الله تعالى القسمين الاولين بقوله‏:‏ ‏{‏فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين‏}‏ وهنا يبين القسم الثالث بقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ‏}‏‏.‏

ومن الناس من يقول بلسانه آمنتُ بالله ويدعي الإيمانَ ظاهرا، فإذا أُصيب بأذىً بسبب ايمانه جزعَ وسوّى بين الناس وعذابِ الله في الآخرة، واعتقدَ ان هذا من نقمةِ الله تعالى، فيرتدّ عن الاسلام‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏‏.‏

‏{‏وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ‏}‏

لئن فتحَ الله على المؤمنين وجاءهم بعضُ الخيرات يقول المنافقون إنا كنّا معكم فأشركونا فيها معكم‏.‏

وقد توعّدهم الله وذكر انه عليمٌ بما في صدورهم، لا يخفى عليه شيء من أمرِهم فقال‏:‏ ‏{‏أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين‏}‏‏.‏

ثم بين ان هذه الفتنة إنما هي اختبارٌ من الله ليظهر المؤمنَ الصادقَ من المنافق‏:‏ ‏{‏وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين‏}‏ فيجازي الفريقين كلا بما يستحقه‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏‏.‏

كان زعماء قريش من المشركين يقولون للذين دخلوا في الاسلام‏:‏ ارجِعوا إلى ديننا واتّبعوا ما نحن عليه، واذا كان هناك بعثٌ وحساب تخشونه فنحن نحمل عنكم ذنوبكم‏.‏ فردّ الله عليهم قولهم بأنهم لا يحملون ذنوبهم يوم القيامة، ولن تحمل نفسٌ وِزرَ نفسٍ أخرى، وان الكافرين لكاذبون في وعدهم‏.‏

وبعد ان بين عدم منفعة كلامهم لمخاطِبيهم، بيّن ما يستتبعه ذلك القول من المضرة لأنفسهم فقال‏:‏

‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏‏.‏

سوف يحمل أَولئك الكفار أوزارَ أنفسِهم الثقيلة، ويحملون معها مثل اوزارِ من أضلّوهم وصرفوهم‏:‏ عن الحق، وسيحاسَبون يوم القيامة على ما كانوا يختلقون في الدنيا من الأكاذيب‏.‏

وفي الصحيح‏:‏ ما دعا الى هدىً كان له من الأجرِ مثلُ أجور من اتبعه الى يوم القيامة، من غير ان ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا الى ضلالٍ كان عليه من الإثمِ مثلُ آثام من اتبعه الى يوم القيامة من غيرِ ان ينقص من آثامهم شيئا‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطوفان وَهُمْ ظَالِمُونَ فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ‏}‏

لا يحزنك أيها الرسول ما تلقى من أذى المشركين أنت واصحابُك، فإن مصيرهم الى البوار، ومصيرك وأصحابك الى العلوّ والنصر‏.‏

ان نوحاً مكث في قومه تسعمائةٍ وخمسين سنة يدعوهم وهم لا يستجيبون له، فأغرقهم الله بالطوفان وهم ظالمون لأنفسِهم، وأنجاه ومن معه من المؤمنين في السفينة، وجعل قضيّتهم عبرةً للعالمين‏.‏

وقد تقدّم ذكر نوح في آل عمران والنساء والأنعام والأعراف والتوبة ويونس وهود وابراهيم والإسراء ومريم والانبياء والحج والمؤمنون والفرقان والشعراء والعنكبوت‏.‏ هذا وسيأتي في عدد من السور‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً‏}‏ لم يقل الف سنة الا خمسين سنة، حتى لا يكرر كلمة سنة فلا يكون الكلام بليغا، والعرب تعبر عن الخِصب بالعام، وعن الجَدْب بالسنة، ونوح لما استراح بقي في زمن حسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏16‏)‏ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏17‏)‏ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

تخلقون افكا‏:‏ تختلقون كذبا‏.‏ فابتغوا‏:‏ فاطلبوا‏.‏

مرت قصةُ إبراهيم في عدد من السورة وستأتي ايضا، وفي إيراد هذا القصص تثبيتٌ للنبي عليه الصلاة والسلام وان النتيجة هي النصرُ له باذن الله‏.‏

أذكُر أيها الرسول قصة ابراهيم حين دعا قومه الى توحيد الله، ثم أرشدهم الى فضلِ ما يدعوهم اليه وفسادِ ما هم عليه، بعبادتهم الأصنامَ التي يصنعونها بأيديهم، وقال لهم إن هذه الأوثان التي تعبدونها من دون الله لا تنفع ولا تضر، ولا تعطيكم رزقاً، فاطلبوا الرزق من الله وحده، واعبدوه واشكروه، فإليه مصيركم أجمعن‏.‏

وان تستمروا على الكذب، فقد كذّبت الأمم السابقةُ رسلَها، وما ضر ذلك الرسلَ شيئا، وليس على الرسول الا تبليغ الرسالة بأمانة ووضوح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 27‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏19‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏22‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏23‏)‏ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏24‏)‏ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏25‏)‏ فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏26‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

يبدئ الخلق‏:‏ يخلقه اول مرة‏.‏ ويعيده‏:‏ في الآخرة يوم القيامة‏:‏ ينشئ‏:‏ يخلق‏.‏ النشأة‏:‏ الخلق‏.‏ تقلبون‏:‏ تردون بعد موتكم‏.‏ من ولي‏:‏ قريب‏.‏ ولا نصير‏:‏ ولا معين‏.‏

في هذه الآية تكملةٌ لقصة إبراهيم فانه لهم‏:‏ ألم تروا كيف بدأ الله الخلق‏؟‏ انه سيعيد الخلق يوم القيامة كما خلقه اول مرة‏.‏ وذلك على الله يسير‏.‏ ثم ارشدهم الى الاعتبار بما في هذه الأرض من دلائلَ وما في الآفاق من شواهد، وقال لهم‏:‏ سيروا في هذه الأرض، ابحثوا فيها كيف بدأ الله الخلق، فانكم ستجدون الدلائلَ الكافية على كيفية تكوين الخلق كما بدأه الله، وهو سيعيد غنشاءه يوم القيامة‏.‏ وهو حسب حكمته يعذّب من يشاء ويرحم من يشاء بعدله في حكمه، إليه مرجعُكم جميعا يوم الحساب والجزاء‏.‏ لستم أيها المكذِّبون بمعجزين اينما كنتم، ولا يستطيع أحدٌ نصركم‏.‏ إن الذين كفروا بالدلائل التي بينّها الله في هذا الكون، وكذّبوا برسله وكتبه- انما يئسوا من رحمة الله، ولهم عذابٌ شديد مؤلم‏.‏

فما كان جوابُ قوم إبراهيم على هذا الحوار العظيم إلا الامعان في الكفر، وقالوا‏:‏ اقتلوا إبراهيم او احرقوه في النار، فأنجاه الله من النار وجعلها بردا وسلاما، وإن في ذلك لدلائل واضحة لمن يصدق بالله‏.‏

وقال ابراهيم لقومه‏:‏ انما اتخذتم هذه الأصنامَ تعبدونها من دون الله، لا اعتقاداً واقتناعا بعبادتها، وانما يجاملُ فيها بعضكم بعضا‏.‏ ان مودّة بعضكم بعضا هي التي دعتكم الى عبادتها، لكن هذه المودة ستنقلب الى عداوةٍ يوم القيامة، حيث يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا، ومصيركم جميعا الى النار‏.‏

وآمن لوط واجاب دعوته وكان ابن اخيه، وقال‏:‏ إني مهاجر الى بلاد الشام‏.‏ ووهب الله لابراهيم اسحاق ويعقوب وجعلَ من نسله النبوةَ، وأحسنَ إليه جزاء عمله، في الدنيا وفي الآخرة‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي وابو بكر‏:‏ ألم تروا بالتاء‏.‏ والباقون‏:‏ الم يروا بالياء‏.‏ وقرأ ابن كثير وابو عمرو‏:‏ النشَاءة بفتح الشين ومدها‏.‏ الباقون‏:‏ النشْأة‏:‏ بسكون الشين‏.‏

قرأ ابن كثير وابو عمرو والكسائي‏:‏ مودةُ بينِكم برفع مودة وجر بينكم بالاضافة، وقرأ نافع وابو بكر وابن عامر‏:‏ مودةً بينكم بنصب مودة منونا ونصب بينكم‏.‏ وقرأ حفص عن عاصم وحمزة‏:‏ مودةَ بينِكم بنصب مودة وخفض بينكم بالاضافة وهي قراءة المصحف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 35‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏28‏)‏ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏29‏)‏ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏30‏)‏ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏32‏)‏ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏34‏)‏ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

الفاحشة‏:‏ العمل القبيح الذي تنفر منه النفوس‏.‏ السبيل‏:‏ الطريق‏.‏ القرية‏:‏ سدوم في منطقة البحر الميت بالأردن‏.‏ الغابرين‏:‏ الباقين‏.‏ سيء بهم‏:‏ حصل له سوء وغم بسببهم‏.‏ ضاق بهم ذرعا‏:‏ عجز عن تدبير شئونهم‏.‏ الرجز‏:‏ العذاب‏.‏

ذُكرت قصة لوط في عدد من السور باختلاف يسير، وبعضها يكمل بعضا، وقد مرت في كل من سورة الأعراف وهود والحِجر والشعراء والنمل‏.‏

وخلاصتها ان قوم لوط كانوا أشراراً يقطعون الطريق على السابلة، قد ذهب الحياء من وجوههم فلا يستقبحون قبيحا، ولا يرغبون في حسَن‏.‏ وكانوا يأتون الذكورَ من الناس، ويُعلنون ذلك ولا يرون فيه سوءا‏.‏ فكانوا يتربصون لكل داخلٍ مدينتَهم من التجّار ويجتمعون عليه ويمدون ايديهم الى بضاعته يأخذُ كل واحد منها شيئا حتى لا يبقى معه شيء‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَقْطَعُونَ السبيل‏}‏‏.‏

ولقد أنجىلله لوطاً وابنتَيه من القرية وبقيت امرأته فيها، لأنها كانت كافرة مع قومها، فحل بهم العذاب، وامطر الله عليهم حجارةً من سِجِّيل، قلبتْ ديارَهم عاليَها سافلها، وبقيت الى آيامنا آية بيّنة لقوم يعقلون‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ أهل الحجاز وابن عامر ويعقوب وحفص‏:‏ إنكم لتأتون الفاحشة بهمزة واحدة‏.‏ وقرأ اهل الكوفة أإنكم بهمزتين على الاستفهام‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب‏:‏ لنُنَجينه بفتح النون الثانية وتشديد الجيم المكسورة‏.‏ وانا مُنَجوك‏:‏ بفتح النون وتشديد الجيم المضمومة‏.‏

وقرأ ابن عامر والكسائي‏:‏ منزلون بفتح النون وتشديد الزاي المكسورة‏.‏ والباقون‏:‏ منزلون، باسكان النون وكسر الزاي دون تشديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 40‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏36‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏37‏)‏ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ‏(‏38‏)‏ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ‏(‏39‏)‏ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

مدين‏:‏ اسم قرية شعيب في شمال الحجاز، وشُعيب عربي‏.‏ وارجو اليوم الآخر‏:‏ توقعوا يوم القيامة وما يحدث فيه من أهوال‏.‏ لا تعثوا‏:‏ لا تفسدوا‏.‏ الرجفة‏:‏ الزلزلة‏.‏ جاثمين‏:‏ باركين على ركبكم، هالكين‏.‏ ما كانوا سابقين‏:‏ وما كانوا هرابين‏.‏ حاصبا‏:‏ ريحا فيها رمل وحجارة صغيرة‏.‏

تقدم ذكر قصة شعيب في سورة الأعراف وهود والشعراء بأطولَ مما هنا، وكذلك مرت قصة صالح مع قومه عادٍ في سورة الأعراف وهود وغيرها، وهم عربٌ مساكنهم في الأحقاف في شمال حضرموت‏.‏ وموضع بلادهم اليوم رمال خالية على اطراف الرَّبع الخالي‏.‏ وصالح وقومه ثمود عربٌ ايضا، ومساكنهم الحِجر في شمال الحجاز وتُعرف اليوم بمدائن صالح، واسماؤهم عربية‏.‏ وهذا نصّق وجده المنقبون على حجرٍ بالحرف النبطي وتاريخه قبل الميلاد‏.‏

«هذا القبرُ الذي بنته كمكم بنتُ وائلة بنت حرم وكليبة انتها لأنفسِهن وذريتهن، في أشهرٍ طيبةٍ من السنة التاسعة للحارث ملك النبطيين محب شعبه‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ»‏.‏

لقد أهلك الله قوم شعيب في «مدين»، وقوم هود في «الاحقاف»، وقوم ثمود في «الحجر» ويخاطب قريشاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ‏}‏ لانهم يمرون عليها في ذهابهم الى اليمن والشام‏.‏

وأهلك الله فرعون وقارون وهامان الذي جاءهم موسى بالمعجزات الواضحة فاستكبروا وكفروا، فما استطاعوا ان ينجوا من عذاب الله الأليم، بل أخذَهم الله بذنوبهم‏.‏ فعادٌ أخذهم حاصبٌ، وهو الريحُ الصرصر التي تتطاير معها حصباء الأرض فتضربهم وتقتلهم‏.‏ وثمود اخذتهم الرَّجفة والصيحة‏.‏ وقارون خَسف به وبداره الأ ‏{‏ض‏.‏ وفرعون وهامان غرقا في اليمّ وذهبوا جميعا مأخوذين بظلمهم ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏‏.‏

وذا نظرنا الى احوال الأمم الآن في معظم أقطار الأرض نجد الفتنَ والحروب والمشاكل التي لا تنتهي، وغلاءض الاسعار المتزايدَ في جميع أقطار الأرض، أليسَ هذا كلّه من انواع العذاب والبلاء‏!‏ لكن فرعون اليوم هو أمريكا وأوروبا من دول الاستعمار، وهامان هو بعض الحكّام الذين لا يخلصون لشعوبهم‏.‏

اما نحن، المسلمين، فقد حِدنا عن جادة الصواب، وانحرفنا عن ديننا واتبعنا اهواءنا فضعُفنا وتخاذلنا وتأخرنا، وصرنا نبهاً للأمم تنهب شركاتها خيراتنا حتى التي في باطن الارض، وتغتصب اراضينا بتواطؤ بعضنا في ذلك‏.‏ أليس هذا من العذاب‏!‏‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 45‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏42‏)‏ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ‏(‏43‏)‏ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏44‏)‏ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

بعد هذه الجولة في سورة العنكبوت، والحديث عن الفتنة والابتلاء والاغراء وقصص بعض الانبياء وأممهم، والذين بهرتهم قوى المال والجاه، فظنوا انها تحميهم من الله- يضرب الله المثلَ لحقيقة القوى المتصارعة في هذه الميادين وانهم خاطئون بكل تقديراتهم، وان هنالك قوة واحدة هي قوة الله، وما عداها فهو هزيل ضعيف، لن يحميهم الا كالعنكبوت الضعيفة التي اتخذت أوهنَ البيوت لحمايتها‏.‏

ثم زاد الله الانكار توكيدا بقوله‏:‏

‏{‏إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏

فكيف يتسنى للعاقل ان يترك القادر الحكيمويعبد سواه‏!‏‏!‏،

بعد ذلك بين الله فائدة ضرب الامثال للناس، وانه لا يدرك مغزاها الا ذوو الألباب الذين يعلمون ويعقلون‏.‏ إن الإله الذي يستحق العبادة هو الذي ‏{‏خَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق‏}‏، لا عبثا ولا لعباً بل لحكمة يعلمها المؤمنون، وفي نظام دقيق لا يتخلف ولا يبطئ ولا يصدم بعضه بعضا‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ الذين تتفتح قلوبهم لآيات الله الكونية وعجائب هذا الكون الكبير‏.‏

وبعد نهاية هذه الجولة العظيمة سلّى رسوله الكريم بتلاوة ما أوحى اليه من الكتاب، وامره بإقامة الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، هي اكبر مطهر للانسان حين يقيمها حق الاقامة‏.‏

‏{‏وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ‏}‏‏.‏

فذِكر الله اكبر من كل شيء، واكبر من كل تعبد وخشوع‏.‏ والله يعلم ماتفعلون من خيرٍ وشر فيجازيكم عليه‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابو عمرو ويعقوب عاصم‏:‏ ان الله يعلم ما يدعون من دونه، بالياء، والباقون‏:‏ ان الله يعلم ما تدعون من دونه، بالتاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 49‏]‏

‏{‏وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏46‏)‏ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ‏(‏47‏)‏ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏48‏)‏ بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

الجدَل‏:‏ الحِجاج والمناظرة، مأخوذ من جدلَ الحبلَ وفتله، والمُناظر يفتل خصمه عن رأيه‏.‏ مسلمون‏:‏ مطيعون، خاضعون‏.‏ وما يجحدون بآياتنا‏:‏ وما ينكر‏.‏ اذاً لارتاب المبطلون‏:‏ اذا لشك أهل الباطل‏.‏

يؤكد القرآن الكريم على الدعوة بالرِّفق واللين، ومجادلة اهل الكتاب بالتي هي أحسن، ومقابلة الغضب ولاعصبية بالهدوء وكظم الغيظ، فيقول ‏{‏وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏‏.‏ ويقول‏:‏ ‏{‏ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 125‏]‏‏.‏ ويقول‏:‏ ‏{‏ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 96‏]‏‏.‏

هذه أوامر الله تعالى في القرآن الكريم، يأمرنا ان نتحلّى بالرفق واللين، وندعو ونجادل بالتي هي أحسن‏.‏ لكننا مع الأسف نجد معظم الذين يرتدون في الظاهر زِيّ الدين، ويدعون الى الله- لا يتحلّون بهذه الاخلاق، فتجدهم على المنابر متشنّجين متشدّدين، وقد لا نظلمهم إذا قلنا ان بعضهم يتشنّج في خدمة جيبه، لا خدمة ربّه‏.‏

‏{‏إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ‏}‏

اما الذين ظلمونا وحاربونا وناصبونا العداء فإن الله تعالى أمرنا ان نقابلهم بالمثل، حيث لا ينفع معهم الرفق ولا اللين‏.‏ وفي مذابح لبنان وافغانستان شاهدٌ على ذلك‏.‏

‏{‏وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏

قولوا لهم‏:‏ آمنّا بالقرآن الذي أُنزل الينا، والتوراةِ والإنجيل، معبودُنا ومعبودكم واحد ونحن خاضعون له، ومنقادون لأمره‏.‏

ثم بين الله انه لا عجبَ في إنزال القرآن على الرسول الكريم، فهو على مثال ما أُنزل من الكتب من قبل فقال‏:‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الكافرون‏}‏‏.‏

كما أنزلنا الكتب على من قبلَك من الرسل أنزلنا إليك القرآن، فالذين آتيناهم الكتابَ قبل القرآن من اليهود والنصارى- يؤمنون به، اذ كانوا مصدّقين بنزوله حسب ما ورد في كتبهم‏.‏ ومن هؤلاء العربِ من يؤمن به، وما يكذّب بآياتنا بعد ظهورها الا المصرّون على الكفر‏.‏

ثم اكد الله إنزاله من عنده، وأزال الشبهة في افترائه فقال‏:‏

‏{‏وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون‏}‏‏.‏

ما كنتَ يا محمد تقرأ ولا تكتب من قبل ان ينزل اليك القرآن، وهذا أمرٌ يعلمه جميعُ أهل مكة، ولو كنتَ تقرأ وتكتب لشكّ أهل الباطل في أن هذا القرآن من عند الله‏.‏

ثم اكد ما سلف وبيّن ان هذا القرآن منزلٌ من عند الله حقا فقال‏:‏

‏{‏بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظالمون‏}‏‏.‏

ان هذا القرآن لا يمكن ان يكون موضعَ ارتياب، بل هو آياتٌ واضحات محفوظة في صدور الذين آتاهم الله العلم‏.‏ ولا ينكر آياتن الا الظالمون للحقّ ولأنفسِهم، الذين لا يَعدلِون في تقدير الحقائق وتقويم الأمور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 55‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏50‏)‏ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏51‏)‏ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏52‏)‏ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏53‏)‏ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏54‏)‏ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

فاجابهم الله بقوله‏:‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله‏}‏

قل يا محمد‏:‏ إن المعجزات عند الله ينزلها حين يشاء، وانما أنا مكلف بالإنذار الواضح، وتبليغ الرسالة، وليس عليَّ هداكم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ كيف يطلبون الآياتِ مع نزول القرآن‏!‏ أليس فيه ما يكفي ويقنع‏!‏

‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

انهم يطلبون المعجزات الحسية، أما كفاهم دليلاً على صدقك هذا القرآنُ الذي أنزلناه عليك يُقرأ عليهم، وهو الآيةُ الخالدة على الزمن‏!‏‏.‏ ان في إنزال هذا الكتاب عليك لرحمةً من الله بهم وبالناس اجمعين، وتذكرةً دائمة نافعة لمن يؤمن به‏.‏

‏{‏قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض والذين آمَنُواْ بالباطل وَكَفَرُواْ بالله أولئك هُمُ الخاسرون‏}‏‏.‏

بعد ان أقام الله الادلة على صدق رسالة النبي الكريم، وبيّن أن المعاندين من أهل الكتاب والمشركين لم يؤمنوا به- أمر رسوله ان يَكِلَ عِلم ذلك الى الله، فهو العليم بصدقه‏.‏ أما الذين عبدوا غيره فقد خسروا الدنيا والآخرة‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وابو عمرو وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم‏:‏ لولا انزل عليه آياتٌ من ربه، بالجمع، وقرأ الباقون‏:‏ لولا انزل عليه آيةٌ من ربه، بالإفراد‏.‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات‏.‏

بعد ان أنذر المشركين بالعذاب وهدّدهم، قالوا تهكماً واستهزاء‏:‏ ان كان هذا حقاً فأْتنا بالعذاب‏.‏ فأجابهم الرسول بانه لا يأتيكم بسؤالكم، ولا يعجّل باستعجالكم، لأن الله أجَّله لحكمة، ولولا ذلك الأجل المسمّى الذي اقتضته حكمته لعجّله لكم، ولَيأتينكم فجأة وانتم لا تشعرون‏.‏

ثم تعجّب منهم في طلبهم استعجال العذاب، وهو سيحيط بهم في جميع نواحيهم، ويكون من الأهوال ما لا يوصف، ويقال لهم على سبيل التوبيخ ‏{‏ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ أهل الكوفة ونافع‏:‏ ويقول ذوقوا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ بالياء‏.‏ والباقون‏:‏ ونقول‏:‏ بالنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 63‏]‏

‏{‏يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ‏(‏56‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏58‏)‏ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏59‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏60‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏61‏)‏ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏62‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

فإياي فاعبدون‏:‏ فاعبدوني‏.‏ لنبوّئنهم‏:‏ لننزلنّهم، بوأهم‏:‏ أنزلهم منزلا حسنا‏.‏ يؤفكون‏:‏ يُصرَفون عن الحق‏.‏ ويقدر‏:‏ ويضيق‏.‏

بعد ان بيّن حال الجاحدين المكذّبين، وما يغشاهم من عذاب محيط بهم، لأنهم قد اشتد عنادهم وكثر أذاهم للمؤمنين، ومنعوهم من أداء عبادتهم- امره الله بالهجرة الى دار اخرى حتى ينجوا بعقيدتهم‏.‏

ولما كانت مفارقة الأوطان عزيزة على النفس، بيَّن لهم ان المكروه واقع لا محالة، ان لم يكن بالهجرة فهو حاصل بالموت، وأنتم ايها المؤمنون، لا تستصعِبوا مفارقة الأوطان في مرضاة الله، فان أرض الله واسعة، ومدى الدنيا قريب، والموتُ لا بد منه، ثم مرجعكم الى ربكم، وحينئذ تنالون من النعيم المقيم ما لا عينٌ رأت ولا أُذن سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر، فهنالك الجنة ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ العاملين‏}‏‏.‏

وقد بين الله هؤلاء العاملين الذي استحقوا تلك الجنات بقوله‏:‏

‏{‏الذين صَبَرُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏‏.‏

ولا تقلقوا على توفّر الرزق ولا تخافوا بعد مغدرة الأوطان، إن الله هو الكافي أمرَ الرزق في الوطن والقرية‏.‏

‏{‏وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

ان الله يرزق الجميع حيث كانوا، هو يسمع لهم، ويعلم حالهم، ولا يدعهم وحدهم ‏{‏وَهُوَ السميع العليم‏}‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابو بكر‏:‏ ثم الينا يرجعون بالياء‏.‏ والباقون‏:‏ ترجعون بالتاء‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي لنتوينهم بالثاء، يعني لنقيمنهم، من‏:‏ ثوى بالمكان‏:‏ أقام‏.‏ والباقون‏:‏ لنبوئنّهم‏:‏ بالباء‏.‏

‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ‏؟‏‏}‏‏.‏

انهم يعترفون بأن الله هو خالق السموات والأرض والمسخِّر للشمس والقمر، وهم مع ذلك يعبدون سواه، فلماذا هذا التناقض‏؟‏‏!‏ وكيف إذْن يُصرفون عن توحيد الله وعن عبادته، مع اقرارهم بهذا كله‏؟‏

‏{‏الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

ما دام الخالقُ هو الله، فانه يوسع الرزق على من يشاء، ويضيق على من يشاء، حسبما يقتضيه علمه بالمصالح، ‏{‏إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ‏}‏‏.‏

وان اقوال هؤلاء المشركين تخالف أفعالهم، فهم يقرّون بالوحدانية ثم هم يعبدون مع الله سواه، ولذلك يقول‏:‏

‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله‏}‏

إنهم مقرّون بان الله هو الخالق، وهو الرازق، وهو مدبّر الكون، لكنهم انحرفوا وعبدوا غيره ولذلك يتعجب من أقوالهم ويقول‏:‏

‏{‏قُلِ الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

قل يا محمد، الحمدُ لله على اعترافهم بالحق، ولكن اكثرهم لا يَستعملون عقولهم، ولا يفهمون ما يقعون فيه من تناقض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 69‏]‏

‏{‏وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏64‏)‏ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏65‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏66‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ‏(‏67‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ‏(‏68‏)‏ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

لما بين الله فيما تقدم ان المشركين يعترفون بان الله هو الخالق والمدبر لهذا الكون، ومع ذلك فانهم يتركون عبادته اغترارا بزخرف الدنيا وزينتها- بين هنا ان الدنيا وما فيها باطلٌ وعبث زائل، وانما الحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة التي لا فناء بعدها، ولكنهم لا يعلمون‏.‏

ثم ارشد الى انهم مع اشراكهم بربهم سِواه في الدعاء والعبادة، اذا هم ابتلوا بالشدائد كما اذا ركبوا البحر وعلتهم الامواج من كل جانب، وخافوا الغرق- دعوا الله معترفين بوحدانيته ولكنهم سرعان ما يرجعون بعد نجاتهم ويعودون سيرتهم الأولى‏.‏

‏{‏لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ‏}‏

لينكروا ما أعطيناهم من النعم، ويتمتعوا بلذّاتهم وشهواتهم، فسوف يعلمون عاقبةَ الكفر حين يشاهدون العذابَ الأليم‏.‏ وفي هذا تهديد كبير لو كانوا يعلمون‏.‏

ثم يذكّرهم بنعمة الله عليهم باعطائهم هذا الحرمَ الآمن يعيشون فيه بأمن وسلام، فلا يذكرون نعمة الله ولا يشكرونها‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ‏؟‏‏}‏

لقد جعلهم الله تعالى في بلد آمن يعيشون فيه، يعظّمهم الناس من أجل بيت الله، ومن حولهم القبائل تقتتلُ وتتناحر، فلا يجدون الأمان الا في ظل البيتِ العظيم‏.‏ وقد من الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏}‏‏.‏

ثم بين ان العقل كان يقضي بأن يشكروا هذه النِعم، لكنهم كفروا بها فقال‏:‏

‏{‏أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ‏؟‏‏}‏‏.‏

ولما وضحت الحُجة، وظهر الدليل، ولم يكن لهم فيه مقنَع- بين انهم قوم ظلمة مفترون مكذبون فقال‏:‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

ليس هناك أحدٌ أشدَّ ظلماً ممن نَسَب الى الله ما لم يشرعه، او كذّب بالدين الحق‏.‏ ان مثوى هؤلاء واشباههم جَهنمُ وبئس المصير‏.‏

ثم يختم السورةَ بصورة المؤمنين الّذين جاهدوا في الله، واحتملوا الأذى، وصبروا ولم ييأسوا، الذين اهتدوا بهدى الله وساروا على الصراط المستقيم فقال‏:‏

‏{‏والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين‏}‏‏.‏

أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع ايمانهم، ولن ينسى جهادهم، وان الله لمعهم يعينهم ويؤيدهم بالنصر والتوفيق‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي‏:‏ لْيكفروا ولْيتمتعوا، بسكون اللام‏.‏ والباقون‏:‏ لِيكفروا وليتمتعوا، بكسر اللام‏.‏

سورة الروم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ غُلِبَتِ الرُّومُ ‏(‏2‏)‏ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ‏(‏3‏)‏ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏4‏)‏ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏5‏)‏ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏6‏)‏ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

أدنى الأرض‏:‏ بلاد الشام والعراق، لأنها أقرب البلاد الى مكة‏.‏ من بعد غَلَبِهِم‏:‏ من بعد ما غلبوا‏.‏ في بضع سنين‏:‏ البضع ما بين الثلاثة الى العشرة‏.‏ ظاهر الحياة الدنيا‏:‏ هو كل ما يشاهَد ويدرك بالحواس‏.‏

كانت الدولة الرومانية والدولة الفارسية أعظمَ دولِ العالم في عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانت الحروبُ بينما دائمة‏.‏ وفي عصر كسرى أبرويز نَشِطت الدولةُ الفارسية وانتصرتعلى الروم واستولت على جميع ممتلكاتهم في العراق وبلاد الشام ومصر وآسيا الصغرى‏.‏ يومذاك تقلصت الامبراطورية الرومانية في عاصمتها، وسُدّت عليها جميع الطرق في حصار اقتصادي قاس، وعم القحط، وفشت الامراض الوبائية‏.‏ وأخذ الفرس يستعدبون الرعايا الروم ويستبدّون بهم للقضاء على المسيحية، فدمروا الكنائس وأخذوا خشبة الصليب المقدس وأرسولها الى المدائن‏.‏ وأراقوا دماء ما يقرب من مائة الف من السكان المسيحيين‏.‏ وأوشكت الامراطورية الرومانية على الانهيار‏.‏

في هذه الفترة كان المسلمون في مكّةَ في أصعبش أيامهم وأشدّ مِحنتهم، وفي حالةٍ من الضعف والضَنْك لا يمكن تصوُّرها‏.‏ وقد فرح المشركون بنصر الفُرس لأنهم وثنيون مثلهم، وحزِن المسلمون باندحار الروم لأنهم أهلُ كتاب‏.‏ وقال المشركون شامتين‏:‏ لقد غلب إخوانُنا إخوانكم، وكذلك سوف نقضي عليكم إذا لم تتركوا دينكم الجديد هذا‏.‏

‏{‏الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ‏}‏‏.‏

يقول المؤرخ البريطاني «جيبون» في كتابه «تدهور الامبراطورية الرومانية وسقوطها» تعليقا على نبوءة القرآن هذه‏:‏ «في ذلك الوقت حين تنبأ القرآن بهذا لم تكن آية نبوءة ابعدَ منها وقوعا، لأن السنين الاثنتي عشرة الأولى من حكومة هِرَقل كانت تؤذِن بانتهاء الامبراطورية الرومانية»، المجلد الخامس صفحة 74‏.‏

«فلما سمع ابو بكر رضي الله عنه هذه الآيات خرج الى المشركين فقال لهم‏:‏ أفرِحتم بظهور إخوانكم الفرس، فواللهِ لتظهرنَّ الرومُ على فارس كما أخبرنا بذلك نبيُّنا صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقام اليه أُبيّ بن خلف فقال له‏:‏ كذبتَ‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ أنت كذبتَ يا عدو الله‏.‏ اجعل بيننا أجَلاً أراهنك على عشر قلائص منّي وعشرٍ منك، فان ظهرت الرومُ على فارس ربحتُ انا الرهان، وان ظهرت فارس ربحتَ أنت الرهان‏.‏ ثم جاء الى النبيّ عليه الصلاة والسلام فأخبره، فقال الرسول الكريم‏:‏ زايدْه في الرِهان ومادَّه في الأجلِ‏.‏

فخرج ابو بكر، فلقي أُبي بن خلف فقال له‏:‏ لعلّك ندمتَ‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ تعالى أزايدْك في الرهان، وأمادّك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين قال‏:‏ قد فعلت‏.‏ وقد قتل أُبي في معركة أُحُد‏.‏ ولما ظهرت الرومُ على الفرس واستعادوا بلادهم وصدقت نبوءة القرآن، أخذ ابو بكر مائةَ ناقة من ورثةِ أُبيّ وتصدّق بهاز وهذا كان قبل تحريم الميسر»

وهكذا صدقت نبوءةُ القرآن الكريم عن غلبة الروم في أقلَّ من عشر سنين، وفي هذا اكبرُ دليلس على ان القرآن كتابُ الله، وان هذه النبوءة جاءت من لدن مهيمنٍ على كل الوسائيل والأحوال، ومَن بيده قلوبُ الناس وأقدارُهم‏.‏

‏{‏وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله‏}‏

فقد فرح المؤمنون بنصرهم في معركة بدر، وجاءتهم الأخبارُ في نفسِ التاريخ بنصرِ الروم على الفُرس، فكان ذلك فرحاً عظيماً بنصرهم على قريش، بوصدق نبوءةِ القرآن الكريم‏.‏

‏{‏ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏

‏{‏وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏

ذلك النصرُ وعدٌ من الله للمؤمنين فلا بدّ من تحققه في واقع الحياة، فالله تعالى لا يُخلفُ وعده، ولكن اكثر الناس لا يعلمون، ولو بدا في الظاهر انهم يعرفون الكثير من امور الدنيا‏.‏

‏{‏يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا‏}‏

ثم لا يتجاوزون هذا الظاهرَ ولا يرون ببصيرتهم ما وراءه‏.‏ وظاهرُ الحياة الدنيا محدودٌ صغير، مهام بدا للناس واسعاً شاملا‏.‏ فما هذه الأرض بل هذا النظام الشمسي بأجمعه- الا ذرةً في هذا الكون الكبير الذي لا نعرف عنه شيئا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏{‏وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ‏}‏

فالآخرة حياةٌ ثانية تختلف عن كل ما نرى وما نعلم، وهي صفحة من صفحات الوجود الكثيرة، وصاحبُ الحظ من تزوّد لها، وعمل لها الأعمال الصالحة، ‏{‏فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 16‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏9‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏13‏)‏ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ‏(‏15‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

أثاروا الأرض‏:‏ حرثوها وأصلحوها‏.‏ عمروها‏:‏ بالبناء والعمران‏.‏ السَّوأى‏:‏ الحالة السيئة، وهي مؤنث الاسوأ‏.‏ يُبلِسُ المجرمون‏.‏ ييأس المجرمون‏.‏ في روضة‏:‏ الروضة هي الأرض ذات النبات والماء المعني في رضوان الله‏.‏ يحبُرون‏:‏ يسرون‏.‏ محضَرون‏:‏ مدخلون فيه‏.‏

لمّا أنكَرَ المشركون الإله، والبعث كما قال ‏{‏وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ‏}‏، أردف هذا بأن الأدلة متظاهرةٌ ومحسوسة في الأنفس والآفاق على وجوده وتفرده بخلْقها، وأنه لا إله غيره ولا رب سوا‏.‏ وأن الأنفسَ لم تُخلق سدى ولا باطلا، بل بالحق، وأنها مؤجَّلة الى اجل محدودٍ هو يوم القيامة‏.‏ ثم امرهم بالسير في اقطار الأرض ليعلموا حالَ المكذبين من الأمم قبلهم، وقد كاناو أشد منهم قوة، وزرعوا الأرض وعمروا البلاد اكثر من قريش- لكنّهم كذبّوا رسلهم فأهلكهم الله، ثم كانت نهايتُهم‏.‏ فلتأخذ قريش عبرة من ذلك‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر والكوفيون‏:‏ ثم كان عاقبةَ بالنصب، والباقون‏:‏ عاقبةُ بالضم‏.‏

‏{‏الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآيات‏}‏‏.‏

يبين الله ان هناك حياةً ثانية فيها الحسابُ والجزاء، وان الله قادر على اعادة هذا الخلق يوم القيامة كما بدأ إنشاءه‏.‏ ثم يبيّن ما يكون حين الرجوع إليه من إبلاس المجرمين ويأسِهم من الدفاع عن انفسهم، وان شركاءهم لا ينفعونهم ولا يستطيعون الدفاع عنهم، بل يكفرون بهم‏.‏ يومئذٍ ينقسم الناس الى فريقين‏:‏ فريقٍ في الجنة عند ربهم في عيشى راضية، وفريقٍ في السعير وبئس المصير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 25‏]‏

‏{‏فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ‏(‏17‏)‏ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ‏(‏18‏)‏ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ‏(‏19‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ‏(‏20‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ‏(‏22‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏23‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏24‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

تمسون‏:‏ تدخلون في وقت المساء‏.‏ تُصبحون‏:‏ تدخلون في وقت الصباح‏.‏ عشياً‏:‏ من صلاة المغرب الى العتمة‏.‏ وحين تُظهرون‏:‏ تدخلون في وقت الظهيرة‏.‏ من أنفسِكم‏:‏ من جنسكم‏.‏ لتسكنوا اليها‏:‏ لتأنسوا بها وتطمئنوا اليها‏.‏

سبِّحوا اللهَ أيها الناس في وقت المساء، وفي الصباح، لتَجَلِّي عظمتِه في هذين الوقتين اكثر من كل وقت، واحمَدوه أثنوا عيه بما هو أهله في وقت الظهر وفي الليل‏.‏ وتدل هذه الاوقات على اوقات الصلوات الخمس كام روي عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏حين تُمسون‏)‏ صلاة المغرب والعشاء، و‏(‏تصبِحون‏)‏ صلاة الفجر، ‏(‏وعشياً‏)‏ صلاة العصر‏.‏ ‏(‏وحين تظهِرون‏)‏ صلاة الظهر‏.‏

انه هو الذي يخلق الحيَّ من الجسم الميت، ويخلق الميتَ من الحيّ، ويحيي الأرضَ بالمطر بعد موتها، ‏{‏وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ‏}‏ ومثلُ ما تقدَّمَ من إخراج الحيّ من الميت وإحياء الأرض بعد موتها كذلك يُخرجكم الله من قبوركم الى الحاسب والجزاء‏.‏

ومن آياته انه خلقكم من ترابٍ ميت لا حراك به، ثم إذا انتم بشرٌ أحياء تنتشرون في الأرض وتعملون‏.‏ ومن آياته أنه خلق لكم من جنسِكم أزواجاً لتأنسوا بها، وجعل بينكم مودّة ورحمة‏.‏ ومن آياته الكبرى خلثُ السموات والأرض من العدَم، على ما فيها من إبداع وجمال، وعَظَمةٍ وجلالٍ، واختلافُ ألسِنتكم والوانكم وما يتبع ذلك من تخالفكم في طبائعكم وعاداتكم‏.‏ ومن آياته أنه هيّأ لكم أسبابَ الراحة بمنامكم، ويسّر لكم طلب الرزِق ليلاً ونهارا من فضله الواسع‏.‏ ومن آياته انه يريكم البرقَ من خلال السحاب، تخويفاً من صواعقه، وطمعاً في المطر، وينزّل لكم من السماء ماء فيحيي به الأرضَ بعد يبسها‏.‏

كل هذه الآيات لقوم يتفكرون، ويسمعون ويعقلون ويعلمون، فالله تعالى ينير العقل والعلم والفكر للوصول الى الحق‏.‏ أما الجاهلون الغافلون الجاحدون فإنهم من كل ذلك مبعَدون‏.‏

ومن الدلائل على كمال قدرته تعالى وسعة رحمته ان تقوم السماءُ بأمره على ما ترون بأعينكم من صَنعةٍ محكمة، وتدبير دقيق منتظم‏.‏ ثم اذا دعاكم للبعث تخرجون من القبور مسرعين مستجيبين لدعائه‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حفص‏:‏ للعالِمين بكسر اللام‏.‏ والباقون‏:‏ للعالَمين بفتح اللام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 29‏]‏

‏{‏وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ‏(‏26‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏27‏)‏ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏28‏)‏ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قانتون‏:‏ طائفون منقادون‏.‏ المثل الأعلى‏:‏ الوصف الارفع، الصفة العليا لا يشاركه فيها احد‏.‏ مما ملكت أيمانكم‏:‏ من العبيد‏.‏

ولله كلُّ من في السموات والارض من الأحياء والجمادات كلٌّ له خاضعٌ منقاد‏.‏ وهو الذي يبدأ الخلق على غير مثال، ثم يعيده بعد الموت، والاعادةُ أهونُ عليه من البدء‏.‏ وله الوصف الأرفع لا يشاركه احد فيه‏.‏

‏{‏وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ لا يغالَب ولا يغلَب، حكيم في تدبيره وتصريف شئونه فيما اراد‏.‏

لقد بين لكم الله مثلا منتزعا من أنفسكم‏:‏ هل لكم من عبيدِكم شركاءَ في أموالكم فأنتم وهم سواء في التصرف فيها، تخافون منهم الاستبدادَ في التصرف فيها كما يخاف بعضكم بعضا‏؟‏ اذا كان أحدكم يأنف ان يساويه عبيدُه في التصرف بأمواله، فكيف تجعلون لله أنداداً من خلقه‏؟‏ ‏{‏كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

ثم بيّن الله ان المشركين إنما عبدوا غيره سَفَهاً من أنفسهم وجهلاً بغير علم فقال‏:‏

‏{‏بَلِ اتبع الذين ظلموا أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله‏}‏‏؟‏ لا أحد‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏{‏وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ‏}‏ ليس لهم من يشفع لهم ويدفع عنهم عذابَهُ يومَ القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏30‏)‏ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏31‏)‏ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

أقمْ وجهك للدين‏:‏ أَقبل عليه وأخلص له‏.‏ حنيفا‏:‏ مائلا من الشر الى الخير، بعيدا عن الضلال‏.‏ فطرةَ الله‏:‏ خلقة الله‏.‏ القيم‏:‏ المستقيم‏.‏ منيبين‏:‏ راجعين اليه بالتوبة، واخلاص العمل‏.‏ فرّقوا دينهم‏:‏ اختلفوا فيما يعبدونه‏.‏ شيعا‏:‏ فرقا مختلفة‏.‏

وتوجّه يا محمد الى هذا الدين المستقيم، بعيداً عن العقائد الزائفة، فهو دينُ الفطرة التي خلق الله الناس عليها، وهي الاسلام‏.‏

‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏

لذا يحسبون ان الدِين أمرٌ معقّد يحتاج الى وسطاء بين الله وعباده ليفسروه لهم ويهدوهم اليه‏.‏ أما هذا الدين فهو يصل الانسان بالله دون واسطة‏.‏

ولما كان الخطاب للرسول الكريم وأصحابه رجع الى صيغة الجمع فقال‏:‏ ‏{‏مُنِيبِينَ إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ أقيموا وجوهكم للدّين تائبين الى الله، واتقوه، واقيموا الصلاة، ولا تكونوا من المشركين الذي اختلفوا في دينِهم وكانوا فِرقاً واحزبا ‏{‏كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي وابن عامر‏:‏ من الذين فارقوا، بالالف‏.‏ والباقون‏:‏ فرّقوا بتشديد الراء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 40‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏33‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏34‏)‏ أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ‏(‏35‏)‏ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ‏(‏36‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏37‏)‏ فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ‏(‏39‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

منيبين اليه‏:‏ راجعين اليه بالتوبة‏.‏ سلطانا‏:‏ حجة وبرهانا‏.‏ يَقدر‏:‏ يضيق‏.‏ ابن السبيل‏:‏ المسافر الذي انقطع عن ماله وأهله‏.‏ الربا‏:‏ الزيادة‏.‏ المضعِفون‏:‏ الذين يضاعف الله لهم الأجر‏.‏

في هذه الآيات الكريمة صورةٌ للنفس البشرية وتقلُّب الأهواء في السّراء والضراء وعند قبْضِ الرزق وبسطِه‏.‏ فبعد أن أرشد الله سبحانه الى التوحيد، وأقام الادلة عليه، وضرب المثل له- أعقبه هنا بذِكر حال للمشركين يُعرفون بها، وهي أنهم حين الشدة يتضرعون الى ربهم وينيبون اليه، فإذا خَلَصوا منها رجعوا الى كفرهم واوثانهم‏.‏ لذلك خاطبهم الله بصورة الأمر مع التهديد بقوله‏:‏ ‏{‏لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

فليضِلّوا ما شاؤا، فان لهم يوماً يرجعون فيه إلى ربهم‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ تمتّعوا كما تشاؤن، فسوف تعلمون عاقبتكم‏.‏

ثم انكر على المشركين ما اختلقوه من عبادةِ غيره بلا دليل فقال‏:‏

‏{‏أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ‏}‏

هل أنزلنا على هؤلاء الذين يشركون في عبادتنا الأوثانَ والأصنامَ كتاباً فيه تصديقٌ لما يقولون، حتى يكون لهم شبه العذر فيما يفعلون‏!‏‏!‏

ثم ذكر حالَ طائفة من الناس دون سابقيهم، وهم من تكون عبادتُهم الله رهنَ إصابتهم من الدنيا‏.‏‏.‏‏.‏ فإن آتاهم ربهم منها رَضُوا وفرحوا، واذا مُنعِوا سَخِطوا وقنِطوا فقال‏:‏

‏{‏وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ‏}‏

فلو انهم آمنوا ايمانا صادقاً لسلَّموا أمرهم الى الله واستراحوا‏.‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏

عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاءً الا كان خيراً له، فان أصابته سراء شكرَ فكان خيرا له، وان اصابته ضراء صبر فكان خيراً له‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏

وهذا انكارٌ من الله على هؤلاء الناس لما يلحقهم من اليأس والقنوط‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ألم يشاهِدوا ويعلموا ان كل شيء بيدِ الله؛ يوسف الرزق على من يشاء، ويضيقه على من يشاء بحسب ما تقتضيه حكمته‏!‏‏!‏

‏{‏فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏

بعد ان بيّن الله تعالى انه هو الذي يرزق ويمنع- بيّن هنا الطريقَ الذي به تزداد أموالهم فيه وتربح، فاذا كان المال مالَ الله أعطاكم إياه، فأعطوا الأقرباءَ من الفقراء، والمساكين الذين لا يعملون، والغريبَ المسافرَ الذي نفد مالُه ولا يستطيع ان يرجع الى بلده‏.‏‏.‏‏.‏ أعطوهم مما آتاكم الله، ذلك هو الخيرُ للذين يريدون رضا الله ويطلبون ثوابه، والفاعلون له هم الفائزون بالنعيم المقيم‏.‏

وقد جاء في الحديث الصحيح‏:‏ «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» رواه البخاري ومسلم‏.‏

‏{‏وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون‏}‏‏.‏

وما أعطيتم من مال ليزيد وينمو في أموال الناس على طريق التسليف بفائدةٍ فانه رِبا حرّمه الله ولا يمكن ان يزيدَ لكم عند الله‏.‏ أما ما أعطيتم من صدقاتٍ تبتغون بها وجه الله فهو الذي يضاعِف الله به حسناتكم أضعافا مضاعفة‏.‏

ولما بين الله انه لا زيادة الا فيما يزيده، ولا خير الا في الطريق المستقيم والبذل في سبيله- أكد ذلك بقوله‏:‏

‏{‏الله الذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ‏}‏‏؟‏

إنه الله، هوالذي خلقكم ثم أعطاكم الرزق الذي تعيشون به، ثم يقبض أرواحكم في هذه الدنيا، ثم يحييكم يوم القيامة، فهو الذي يستحق العبادة‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ هل يستطيع احدٌ من الذين تبعدونهم ان يعمل لكم شيئاً مما ذكر‏؟‏ الجواب‏:‏ لا‏.‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏؟‏

قراءات‏:‏

قرأ الكسائي وابو عمرو‏:‏ يقنِطون بكسر النون، والباقون‏:‏ بضمها‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ وما أتيتم بالهمزة دون مد، والباقون‏:‏ وما آتيتم بالمد‏.‏ وقرأ نافع ويعقوب‏:‏ لتربو بالتاء‏.‏ والباقون‏:‏ ليربوا بالياء‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ تُشركون بالتاء‏.‏ والباقون‏:‏ يُشركون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 45‏]‏

‏{‏ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏41‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ‏(‏42‏)‏ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ‏(‏43‏)‏ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ‏(‏44‏)‏ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

الفساد‏:‏ الخلل والاضطراب وإلحاق الضرر بالغير، والجدب والقحط والظلم والبغي‏.‏ لعلّهم يرجعون‏:‏ لعلهم يتوبون‏.‏ لا مردّ له‏:‏ لا يقدر احد ان يرده‏.‏ يصّدّعون‏:‏ يتصدعون، يتفرقون‏.‏ يمهَدون‏:‏ مهد الفراش‏:‏ وطأهُ، ومهد لنفسه خيرا‏:‏ هيأه‏.‏

يبّين الله تعالى هنا ان الفسادَ يظهر في الأرض متمثِّلاً بالظلم والبغي والبؤس والفقر والقلق والحيرة، وذلك بسبب ما كسَبت أيدي الناس من الذنوب، وتركِهم لأوامر الله، والبعدِ عن دينهم‏.‏

إذن فإن الفساد في العباد إنما كان نتيجةَ أفعالهم‏.‏ من ثَم أرشدهم الله الى ان من كان قبلَهم ممّن كانت أفعالُهم كأفعالهم- قد أصابهم الله بعذاب من عنده، وصاروا مثلا لمن بعدهم وعبرة لمن خلفهم فقال‏:‏

‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ‏}‏

قل يا ايها النبي للمشركين‏:‏ سيروا في نواحي الأرض، فانظُروا كيف كانت نهايةُ الذين مضَوا قبلكم‏؟‏ لقد أهلكهم الله وخرّب ديارهم لأن اكثرهم كانوا مشركين مثلكم‏.‏

‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ القيم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ‏}‏

اسلك ايها الرسول الطريقَ المستقيم الذي رسمه لك ربكن وهو الدين الكامل، منقبلِ ان يأتي يوم لا يستطيع احد ان يرده، هو يوم الحساب‏.‏ يومئذ يتفرق الناس بحسب اعمالهم ‏{‏فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 7‏]‏‏.‏

ثم بين أن ما ناله كل منهم من الجزاء كان نتيجةً حتمية لعمله فقال‏:‏

‏{‏مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ‏}‏

إنهم يهيّئون لأنفسهم الخيرَ وهم في الجنة خالدون‏.‏

‏{‏لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين‏}‏

وهذا سيكون يوم القيامة، حيث يياقي كل انسانٍ ما عمله حاضراً‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير ويعقوب‏:‏ لنذيقهم بالنون‏.‏ والباقون‏:‏ ليذيقهم بالياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 51‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ‏(‏49‏)‏ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏50‏)‏ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

فتثير‏:‏ تحرك‏.‏ فيبسطه‏:‏ فينشره‏.‏ كسفا‏:‏ قطعا‏.‏ الودق‏:‏ المطر‏.‏ من خلاله‏:‏ من بينه من بين السحاب‏.‏ لَمبلسين‏:‏ لآيسين، مفردُها‏:‏ مبلس، وهو المتحسر الآيس‏.‏

‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏}‏

من الدلائل على قدرة الله ورحمته انه يبعث الرياحَ مبشّراتٍ بالمطر الذي يسقيكم ويروي زروعكم، ولتجري فيه السفن في البحار‏.‏ كذلك تلطلبوا الرزق من فضل الله بالتجارة وغيرها، واستغلال ما في البر والبحر، ولتشكروه على نعمه التي لا تحصى‏.‏ ‏{‏وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا‏}‏ سورة ابراهيم 34‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بالبينات فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السمآء كَيْفَ يَشَآءُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآيات‏}‏‏.‏

ان الله تعالى يجمع في هذه الآيات بين ارسال الرياح مبشرات بالغيث والخير، وارسال الرسل الكرام بالحجج والبينات مبشرين ومنذرين، ونصرِ المؤمنين بالرسل، وانزال المطر الذي يحيي الارض، واحياء الموتى بعثهم، ‏(‏وهذا كله من رحمة الله بالعباد‏.‏ وكلها تتبع سُنة الله‏)‏‏.‏ وبين نظام هذا الكون البديع، ورسالات الرسل بالهدى، ونصر المؤمنين- صلةٌ وثيقة، وكلها من آيات الله، ومن نعمته ورحمته، وبها تتعلق حياتهم، وهي مرتبطة كلها بنظام الكون البديع‏.‏

فالله سبحانه يحمي عباده المؤمنين، وينتقم من المجرمين، ويتعهد بنصر المؤمنين، ولكن اين المؤمنون‏؟‏

لو أن المؤمنين حضروا فكرة وجهادا، وتعاونوا تعاونا وثيقا كالجسد الواحد على هدف واحد لنصرهم الله كما وعد هنا، ووعدُه الحق‏.‏

‏{‏الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

ان الله تعالى يرسل الريح فتحرك السحاب فينشره الله في السماء، حتى اذا تكاثف وبرد الجو انزل الله المطر في المكان الذي يريده من الأرض، فيبشر الناس بالخصب بعد ان يكونوا يائسين قبل نزول المطر‏.‏ وبالمطر يحيي الله الأرض بعد موتها، وكذلك سيحيي الموتى يوم القيامة ‏{‏وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ‏}‏‏.‏

ولئن ارسلنا ريحا عاصفة مضرة بالنبات فرأوا زرعهم مصفرا جافا، لظلوا من بعده يكفرون بالله وبرحمته، وكان الأجدر بهم ان يصبروا ويسألاو الله من فضله فانه رحيم بعباده‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي‏:‏ ومن آياته يرسل الريحَ‏:‏ بالافراد، والباقون‏:‏ الرياح بالجمع‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ ويجعله كِسْلإا بسكون السين‏.‏ الباقون‏:‏ كِسَفا بفتحها‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص‏:‏ فانظر الى آثار، بالجمع‏.‏ والباقون‏:‏ الى أثرِ، بالافراد‏.‏