فصل: تفسير الآيات رقم (41- 49)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 49‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ‏(‏41‏)‏ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏42‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ‏(‏43‏)‏ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ‏(‏44‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏45‏)‏ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ‏(‏46‏)‏ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ‏(‏47‏)‏ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏48‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

أصيلا‏:‏ الأصيل هن الوقت حين تصفرّ الشمس عند الغروب‏.‏ الصلاة من الله‏:‏ المغفرة والرحمة‏.‏ النكاح‏:‏ عقد الزواج‏.‏ من قبل ان تمسّوهن‏:‏ من قبل ان تدخلوا بهن‏.‏ فمتِّعوهن‏:‏ اعطوهن ما يخرج من نفوسكم من المال لتطيب به نفوسهن‏.‏

يا أيها الذين آمنوا، أكثِروا من ذكر الله وسبّحوه كلَّ وقت، ولا سيمّا أول النهار وآخره، هو الذي يرحمكم ويغفر لكم بصلاته عليكم، وتستغفر لكم الملائكة، ليخرجكم من ظلماتِ الجهل الى نور الاسلام ‏{‏وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً‏}‏‏.‏ وهذا أمرُهم في الدنيا دار العمل‏.‏ أماأمرهم في الآخرة وعندما يلقونه فلهم الكرامةُ والحفاوة والأجر الكريم‏:‏ ‏{‏تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً‏}‏‏.‏

يا أيها النبي إنا أرسلنا شاهداً على أُمتك ترفع أمرهم الى الله يوم القيامة، ونذيراً لهم حتى لا يتهاونوا، وداعياً الى الله بإذنه لنشْرِ الدين، ومصباحاً مضيئا يهدي بنوره الحائرين ويقتبس من نوره المهتدون‏.‏

وبعد هذا يأتي الفضل كله ‏{‏وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً‏}‏ على سائرِ الأمم بحَمْلهم أعباءَ هذا الدين الكريم وابلاغه الى الناس‏.‏

ثم بعد ذلك ينهي الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يهمل الكافرين والمنافقين ولا يحمل بأذاهم، وأن يتوكل على الله وحده ويفوّض أمره إليه كما أَمَرَه في مطلع السورة‏.‏‏.‏ ‏{‏وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏‏.‏

ثم يبين تشريعاً مهماً لحفظ الأُسرة، وكرامة المرأة وحفظ حقوقها بقوله‏:‏

‏{‏ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً‏}‏‏.‏

في هذه الآية الكريمة أمران‏:‏

الأول‏:‏ اذا عقدتم عقدكم على امرأة ثم لم يحصَل وِفاق وطلقتموها قبل الدخول فليس عليها عِدّة‏.‏

الثاني‏:‏ على المطلّق ان يمّتعِ المطلقةَ بشيء من المال حسب قُدرته حتى يطيبَ خاطرُها وليكون في ذلك بعضُ السلوة لها عما لحِق بها من أذى الطلاق‏.‏

‏{‏وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً‏}‏‏.‏

سبق في سورة البقرة نفس الموضوع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 236 و237‏]‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ من قبل ان تُماسّوهن بضم التاء والف بعدها‏.‏ الباقون‏:‏ تمسوهن، بفتح التاء من غير الف بعدها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏50‏)‏ تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ‏(‏51‏)‏ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

آتيتَ أجورهن‏:‏ اعطيت مهورهن‏.‏ وما ملكت يمينُك‏:‏ من الإماء التي جاءتك من المغانم‏.‏ خالصةً لك‏:‏ خاصة بك‏.‏ حرج‏:‏ ضيق، مشقة‏.‏ ترجِي‏:‏ تؤخر، تبعد‏.‏ تؤوي اليك‏:‏ تسكن معك‏.‏ ومن ابتغيتَ ممن عزلتَ‏:‏ ومن طلبتَ ممن ابعدتَ من نسائك‏.‏ ذلك أدنى ان تقر اعينهن‏:‏ ذلك أقرب ان تسر نفوسهن‏.‏

في هذه الآياتِ الكريمة يبيّن الله لرسوله الكريمِ ما يحِلّ له من النساء، وما في ذلك من خصوصية لشخصِه الكريم ولأهل بيته‏.‏

يا أيها النبي‏:‏ إنا أحبنا لك أزواجَك اللاّتي اعطيتّهن مهورَهن، وأحللنا لكم ما ملكتْ يدُك من الجواري، ويجوز لك ان تتزوج من بناتِ عمك، وبناتِ عماتك، وبناتِ خالك وبناتِ خالاتك اللاتي هاجرْن معك‏.‏

ويجوز لك ان تتزوّج امرأةً مؤمنة ان وهبتْ نفسَها لك بلا مهر‏.‏

‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ‏}‏ من شروط العقد الشرعي‏.‏

وهذه الإباحةُ خالصة لك من دون المؤمنين، أما غيْرك من المؤمنين إن وهبْت امرأةٌ الشرعي‏.‏

لقد أحلَلنا لك ذلك لِكَيلا يكونَ عليك حَرَجٌ في نِكاح من تريدُ من الأصنافِ التي ذُكرتْ ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏‏.‏

‏{‏تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤويا إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏

يخّير الله الرسول الكريم في هذه الآية بأن يدنيَ إليه من يشاءُ من نسائه ويؤخّر منهنّ من يشاء‏.‏ وإذا اراد ان يطلب واحدةً كان أبعدَها فله الخيارُ في ذلك دون حَرَجٍ او تضييق عليه‏.‏ وكلُّ ذلك حتى يكنَّ مسرورات قريراتِ الأعين، ولا يحزنّ بل يرضين بما قَسَم بينهن، ويعلمن أن هذا كلَّه بأمرِ الله وترخيصِه لرسوله الكريم‏.‏

روى ابن جرير عن ابي رزين قال‏:‏ لما نزلت ية التخيير السابقةُ خاف نساء النبي ان يطلّقهن فقلن‏:‏ يا رسول الله، لنا من مالك ومن نفسِك ما شئت، ودعنا كما نحنُ، فنزلت هذه الآية، فأرجأ رسول الله خمساً من نسائه وهن‏:‏ ام حبيبة، وميمونة، وصفية، وجويرية، وسودة، فكان لا يقسم بينهن ما شاء، يعني لم يجعل دورا في المبيت عندَهن منتظَما‏.‏

وآوى اليه أربع نساء هن‏:‏ عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، وكان يقسِم بينّهن على السواء، لكل واحدة ليلة‏.‏

‏{‏والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ‏}‏ من الميل الى بعضِهن دون بعض مما لا يمكن دفعُه، ‏{‏وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً‏}‏‏.‏

ثم ختم هذا الموضع بآيةِ كريمة فيها حكمان‏:‏ ان لا يتزوج عليه الصلاة والسلام غيرَ نسائه التسعَ الموجودات في عصمته، وان لا يستبدل بهن غيرَهن فقال‏:‏

‏{‏لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً‏}‏‏.‏

لا يحِل لك النساء بعد هؤلاء التسع اللاتي في عصمتك، ولا أن تستبدلَ بهن ازواجاً غيرهن، مهما كانت الواحدةُ بارعةً في الحسَب والجمال، الا ما ملكتْ يمينك من الجواري، وكان الله على كل شيء مطّلعا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وابوعمرو وابو بكر عن عاصم‏:‏ ترجئ بالهمزة، والباقون‏:‏ ترجي بدون همزة‏.‏ وقرأ ابو عمرو وحده‏:‏ لا تحل لك النساء بالتاء‏.‏ والباقون‏:‏ لا يحل لك النساء بالياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 55‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ‏(‏53‏)‏ إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏54‏)‏ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

غير ناظرين أَناهُ‏:‏ غير منتظرين نضجه، أنى الطعامُ يأني‏:‏ نضج واستوى‏.‏ طَعِمتم‏:‏ أكلتم‏.‏ فانتشروا‏:‏ اذهبوا وتفرقوا‏.‏ ولا مستأنسين لحديث‏:‏ لا تمكثوا بعد الطعام تتحدثون‏.‏ متاعا‏:‏ اي شيء‏.‏ من وراء حجاب‏:‏ من وراء حاجز‏.‏

في هذه الآيات إرشادٌ وتعليم للناس كيف يدخلون بيوتَ النبي، وفي اي وقت‏.‏ وقد كان بعض المنافقين يؤذون الرسولَ عليه الصلاة والسلام بالتردّد على بيوته‏.‏ وكان بعَضُ أصحابه يطلبون الجلوس، فأرشدَ الله أصحابه الى تعظيم الرسول، وعيّ الحالاتِ والأوقات التي يُسمح لهم بدخول بيوته، وأدّبهم خير تأديب‏.‏

روى الامام احمد والبخاري ومسلم وغيرهن عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ «لما تزّوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبَ بنتَ جحش دعا القومَ الى طعام، فأكلوا ثم جلسوا يتحدّثون، واذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا‏.‏ فلما رأى ذلك قامَ، فلما قام ذهب جماعةٌ وبقي ثلاثةُ نفر، فجاء النبي ليدخلَ فإذا القومُ جلوس‏.‏ ثم إنهم قاموا، فانطلقتُ فأخبرتُه بذهابهم‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏}‏‏.‏

يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا اذا أذن لكم، او دعاكم الى طعام، فاذا دعيتم الى طعام فلا تأتوا مبكرين لتنتظروا نضجه، بل ادخلوا عندما يكون قد تم إعداده فقبلَ ذلك يكون أهل البيت في شغل عنكم‏.‏

فاذا دعيتم فلبوا الدعوة، واذا اكلتم الطعام فتفرقوا واخرجوا ولا تطيلوا الجلوس وتمكثوا تتحدثون‏.‏ فان ذلك كان يؤذي النبي ويستحي منكم، والله لا يستحي من الحق‏.‏ وقد سمى بعض المفسرين هذه الآية آية لاثقلاء، وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها‏:‏ «حسبك في الثقلاء ان الله عز وجل لم يحتملهم»‏.‏

ثم علّمهم كيف يسألون نساء النبي وتيأدبون معهن فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ‏}‏‏.‏

وذلك اعظم طهارةً لقلوبكم وقولوبهن من وساوس الشيطان‏.‏

ولما ذكر الله تعالى بعض الآداب التي يجب ان يراعوها في بيت رسول الله اكده بما يحملهم على ملاطفته وحسن معاملته بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله‏}‏، ولا ان تتزوجوا نساءه من بعده ابدا، احتراما لهن لأنهنّ أمهات المؤمنين‏.‏

‏{‏إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً‏}‏ ولا يخفى ما ي هذا من الوعيد الشديد، وعظيم التهديد على هذا العمل‏.‏

والله يعلم ما تظهرونه وما تخفونه في صدوركم، لا تخفى عليه خافية‏.‏

ثم بين بعد ذلك الاقارب الذين يمكن ان يدخلو على نساء النبي ولا يحتجبن منه وهم‏:‏ الآباء والابناء واخوانهن، وابناء اخوانهن، وابناء اخواتهم، والنساء المسلمات، وما ملكت ايمانهن من العبيد، وعليهن ان يتقين الله، ان الله كان على كل شيء شهيدا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 58‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏56‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

الصلاة من الله‏:‏ الرحمة وذكره بالثناء على الملأ الاعلى، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الناس الدعاء له بالرحمة‏.‏ والمعنى ان الله يرحم النبي، والملائكة يدعون له ويطلبون له المغفرة‏.‏ يا ايها المؤمنون‏:‏ ادعوا له بالرحمة، وأظهروا شرفه بكل ما تصل اليه قدرتكم‏.‏

ان الذين يؤذون الله ورسوله من المنافقين وشياطينهم اليهود، بتدبير المؤامرات والدس للتفرقة بين المؤمنين- لعنهم الله في الدنيا والآخرة، وطردهم من رحمته وأعدّ لهم عذابا كبير يهينهم يوم القيامة ويذل كبرياءهم‏.‏

والذين يؤذنو المؤمنين والمؤمنات بقولٍ او فعل من غير ذنب فعلوه، فقد تحملوا وزر كذبهم عليهم، ‏{‏فَقَدِ احتملوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً‏}‏ فلا يجوز ايذاء الناس بالغيبة، او الافتراء عيلهم او الكيد لهم وما الى ذلك‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «سئل رسول الله عن الغِيبة فقال‏:‏ ذِكرك أخاك بما يكره‏.‏ قيل‏:‏ ارأيت ان كان فيه ما أقول‏؟‏ قال‏:‏ ان كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وان لم يكن فيه منا تقول فقد بهتّه»

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 62‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏59‏)‏ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏60‏)‏ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ‏(‏61‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

الجلباب‏:‏ ثوب واسع اوسع من الخمار دون الرداء تغطي به المرأة رأسها وصدرها‏.‏ وقيل هو الملحفة‏.‏ يُدين‏:‏ يُسدلِن‏.‏ أدنى ان يُعرفن‏:‏ اقرب ان يميَّزن من الإماء والفتيات‏.‏ المرجفون‏:‏ اليهود، كانوا يلفقون اخبار السوء وينشرونها‏.‏ لنغرينك بهمك لنسلطنك عليهم‏.‏ اينما ثقفوا‏:‏ اينما وجدوا‏.‏ خلَوا‏:‏ مضوا‏.‏

لم يكن في منازل المدينة مراحيض، فكان النساء يخرجن ليلا لقضاء الحاجة في البساتين وبين النخيل، وكان الاماء والحرائر يخرجن في زِيّ واحد، وكان فسّاق المدينة من المنافقين وغيرهم يتعرضون للاماء، وربما تعرضوا للحرائر، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر نساءه وبناته ونساء المؤمنين عامة اذا خرجن لحاجتهن ان يتسترن بلبس الجلابيب ويسترن اجسامهما ما عدا الوجه والكفين‏.‏ ‏{‏ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ‏}‏‏.‏

فعلى المسلمة اذا خرجت من بيتها لحاجة أن تسدل عليها ملابسها ولا تبدي شيئاً من مواضع الفتنة‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ لما سلف في أيام الجاهلية‏.‏

ولما كان الذى يحصل من المنافقين وشياطينهم ومن على شاكلتهم حذرّهم الله بقوله‏:‏

‏{‏لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِي المدينة لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏‏.‏

توعّد الله في هذه الآية ثلاثة اصناف من الناس وهم‏:‏ المنافقون الذين يؤذون الله ورسوله، ومن في قلوبهم مرض من فساق المدينة الذين يؤذون المؤمنين باتباع نسائهم، والمرجفون وهم اليهود الذين يؤذون النبي صلى الله عليه سولم بترويج الاشاعات الكاذبة والتشويش على المؤمنين‏.‏ وانهم اذا لم ينتهوا سلّط عليهم الرسولَ واصحابه فيقاتلونهم ويخرجونهم من المدينة‏.‏

ثم بين ما آل إليه امرهم من خزي الدنيا وعذاب الآخرة فقال‏:‏

‏{‏مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً‏}‏

مستحقين اللعنة والطرد اينما وجدوا أخُذوا وقتّلوا تقتيلا، عقوبةً لهم‏.‏

وهذه سنة الله في امثال هذه الفئات في كل زمان، لا تتغير ولا تتبدل، ولن تجد لسنة الله تبديلا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 69‏]‏

‏{‏يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ‏(‏63‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ‏(‏64‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏65‏)‏ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ‏(‏66‏)‏ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ‏(‏67‏)‏ رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ‏(‏68‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ‏(‏69‏)‏‏}‏

الساعة‏:‏ يوم القيامة‏.‏ وما يدريك‏:‏ وما يعرّفك بوقتها‏.‏ سعيرا‏:‏ نارا شديدة، مستعرة‏.‏ سادتنا‏:‏ ملوكنا‏.‏ كبراءنا‏:‏ علماءنا وزعماءنا‏.‏ ضِعفين‏:‏ مثلين‏.‏ وجيهاً‏:‏ له جاه ومنزلة عظيمة‏.‏

يسألك الناس عن وقت قيام الساعة، قل لهم‏:‏ ان علمها عند الله وحده، ولعل وقتها يكون قريبا‏.‏ وقد كثر في القرآن الحديث عن اقتراب الساعة‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏ سورة القمر ‏(‏1‏)‏ ‏{‏وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 77‏]‏‏.‏ ‏{‏أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وفي هذه كله تهديد للمستعجلين المستهزئين، والمتعنتين الغافلين عنها‏.‏ وقد ابقى الله علمها عنده حتى يبقى الناسُ على حذر من امرها، وفي استعداد دائم لمفاجأتها، ذلك لمن اراد الله الخير‏.‏

‏{‏إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ان الله طرد الكافرين من رحمته وهيأ لهم نارا شديدة متوقدة ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً‏}‏ باقين فيها امدا طويلا لا يعلم مداه الا الله‏.‏ ولا يجدون لهم من ينصرهم، لوتراهم يتقلّبون في تلك النار الموقدة، ويتحسرون على كفرهم ‏{‏يَقُولُونَ ياليتنآ أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا‏}‏‏.‏ ولكن فاتهم ذلك ولا ينفعهم قولهم، ولا تستجاب دعواتهم، ثم يتذكرون سادتهم ورؤساءهم، فتنطلق من نفوسهم النقمة عليهم وينادون ربهم بقولهم‏:‏ ربنا، لقد اطعنا رؤساءنا وكبراءنا فأضلونا السبيلَ وابعدونا عن الصراط المستقيم ‏{‏رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً‏}‏‏.‏

هذه هي الساعة وتلك هي القيامة، وهذا مشهد من مشاهدها‏.‏

‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً‏}‏

يا ايها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تؤذوا الرسول بقول يكرهه، ولا فعلٍ لا يحبه، كالذين آذاوا موسى فرمَوه بالغيب كذباً وباطلا، فبرأه الله مما قالوه عنه من الزور، وكان موسى عند الله ذا وجاهة وكرامة‏.‏

روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ «قَسَمَ رسول الله ذات يوم قَسْما فقال رجل من الانصار‏:‏ ان هذه القسمة ما اريدَ بها وجه الله، فاحمر وجه النبيّ ثم قال‏:‏» رحمة الله على موسى، رُمي باكثر من هذا فصبر «

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر ويعقوب‏:‏ ساداتنا بالف بعد الدال، والباقون‏:‏ سادتنا‏.‏ وقرأ عاصم وابن عامرك لعنا كبيرا بالباء‏.‏ والباقون‏:‏ كثيرا بالثاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 73‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏70‏)‏ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏71‏)‏ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ‏(‏72‏)‏ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

قولا سديدا‏:‏ قول الحق والصدق‏.‏ عرضنا الأمانة‏:‏ عرضنا التكاليف‏.‏ أشفقن منها‏:‏ خفن منها‏.‏ حَمَلها الانسان‏:‏ كان مستعدا لها‏.‏ ظلوما‏:‏ جهولا، كثير الجهل‏.‏

لقد امر الله المؤمنين في ختام هذه السورة ان يصدُقوا في قولهم ويتقوا الله في عملهم وبذلك تصلح اعمالهم، ويغفر الله لهم ذنوبهم، ويبين لهم ان من يطع الله ورسوله فسوف يفوز فوزا عظيما‏.‏

ثم ختم السورة بتعظيم امر الأمانة، وضخامة تبعتها، وما فيها من تكاليف شاقة وان السماوات والأرض والجبال اشفقن منها، وان هذا الانسان الضعيف حملها وكان مستعداً لها وقام بأعبائها، انه كان شديد الظلم لنفسه، جهولا بما يطيق حمله، وهو على ما هو عليه من الضعف وضغط الشهوات والميول والنزعات وقلة العلم، وقصر العمر‏.‏

ثم بين عاقبة تلك الامانة وما فيها من تكاليف فقال‏:‏

‏{‏لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين‏}‏

وكان عاقبة حمل الانسان لهذه الامانة ان يعذِّب الله من خانها وأبى الطاعة والانقياد لها، ويقبل توبة المؤمنين والمؤمنات، والله كثير المغفرة واسع الرحمة‏.‏

سورة سبأ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏1‏)‏ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏3‏)‏ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏4‏)‏ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏5‏)‏ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

ما يلج في الارض‏:‏ ما يدخل فيها‏.‏ وما يعرج فيها‏:‏ ما يصعد الى السماء‏.‏ لا يعزب عنه‏:‏ لا يغيب عنه‏.‏ مثقال ذرة‏:‏ ثقْل اصغر نملة‏.‏ معاجزين‏:‏ سابقين لإظهار عجزه‏.‏ من رجز‏:‏ الرِجزُ أشدّ العذاب، وله معان اخرى‏.‏ صراط العزيز الحميد‏:‏ طريق الهدى‏.‏

الحمد لله وحده مالكِ الكون ومدبّره، وله الحمد في الآخرة على جميل إحسانه ورحمته وهو الحكيم الخبير ببواطن الأمور وجميع ما يدور في هذا الكون‏.‏ إنه يعلم ما يدخل في جوف الأرض وما فيها من ماء وكنوز ومعادن وغير ذلك، وما يخرج منها كالحيوان والنبات ومياه الآبار والعيون، وما ينزل من السماء وما يصعد فيها ويرقى اليها، كالملائكة وأعمالِ العباد والأرواح والأبخرة والدخان وكل ما يطير ويحلّق في الأجواء‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ لا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة مما يحصل في هذا الكون الواسع العجيب‏.‏ وهو مع كثرة نِعمه وفضله، واسع الرحمة عظيم الغفران، بابُه مفتوح لكل تائب أواب‏.‏

ومع كل هذا فقد أنكر الذين كفروا مجيء يوم القيامة، فقلْ لهم أيها الرسول‏:‏ ستأتيكم الساعة وحقِّ ربي، عالمِ الغيب الذي لا يغيب عن علمه مقدارُ ذرَة في السموات والارض، ولا أصغرُ من ذلك ولا اكبر‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وكل ذلك مسطور في كتاب مبين‏.‏

والحكمةُ من البعث وإعادة الناس يوم القيامة أن يجزيَ الله الذين آمنوا وعملوالصالحات ويثيبهم خيراً ومغفرة ورزقاً كريما، ويثْبت للذين كفروا وسعَوا في الأرض فسادا انهم كانوا خاطئين، وانهم في العذاب الأليم مخلدون‏.‏

وهذا هو العدل من الله تعالى‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ينعُم السعداءُ المؤمنون ويعذَّب الاشقياء الكافرون‏.‏ إن الذين منّ الله عليهم بالعلم من اهل الكتاب وغيرهم يعلمون ان القرآن الذي أنزله عليك ربك يا محمد هو الحق الذي لا مرية فيه، وانه يهدي الى صراط العزيز الحميد وهو الاسلام، الدين القويم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ علاّم الغيب، وقرأ أهل المدينة وابن عامر ورويس‏:‏ عالِمُ الغيب برفع الميم‏.‏ والباقون‏:‏ عالِمِ الغيب بكسر الميم‏.‏ وقرأ ابن كثير ويعقوب وحفص‏:‏ من رجز أليمٌ برفع الميم صفة لعذاب، والباقون‏:‏ بكسرها‏.‏ وقرأ الكسائي وحده‏:‏ لا يعزِب بكسر الزاي والباقون‏:‏ يعزب بضم الزاي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏7‏)‏ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ‏(‏8‏)‏ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

اذا مُزقتم كل ممزق‏:‏ متُّم وتفرقت اجسامكم في التراب‏.‏ لفي خلْق جديد‏:‏ يوم البعث في القيامة‏.‏ افترى على الله‏؟‏‏:‏ هل اختلق هذا الكلام من عنده‏.‏ ام به جِنة‏:‏ جنون‏.‏ كسفا من السماء‏:‏ قطعا من السماء نعذبكم بها‏.‏ لعبد منيب‏:‏ تائب راجع الى ربه‏.‏

قال بعض الذين كفروا تعجباً واستهزاءً‏:‏ هل ندلكم على رجل يخبركم أنكم إذا متم وتمزقتْ اجسامكم وتفرقت في ذرات التراب ستبعثون من جديد‏!‏

أكذبَ على الله ام به جنون جعله يتوهم ذلك ويتكلم بما لا يدري‏!‏‏؟‏ ليس الأمر كما زعموا، بل الحقيقة ان الذين لا يؤمنون بالآخرة في ضلال كبير سيؤدي بهم الى جهنم‏.‏

أفلَمْ ينظر هؤلاء المكذّبون بالمعاد الى ما حولهم من السماء والأرض ليعلمواقدرتنا على فعل ما نشاء‏؟‏ فنحن إن نشأ نخسفْ بهم الارض، او نسقطْ عيلهم قطعاً من السماء تسحقهم‏.‏ وفي ذلك دليل كاف لكل عبد تواب راجع الى ربه‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ان يشأ يخسف بهم بالياء، والباقون‏:‏ ان نشأ نخسف بهم بالنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 14‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ‏(‏10‏)‏ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏11‏)‏ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏12‏)‏ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ‏(‏13‏)‏ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

فضلا‏:‏ نعمة واحسانا‏.‏ أوّبي معه‏:‏ سبّحي معه‏.‏ أَلنّا له الحديد‏:‏ سهّلنا له العمل به‏.‏ سابغات‏:‏ جمع سابغ، الدروع الكاملات‏.‏ قدِّر في السرد‏:‏ احكم نسجها وصنعها‏.‏ غدوّها شهر‏:‏ سيرها في الغداة اول النهار مدة شهر‏.‏ ورواحها‏:‏ رجوعها عشيا مدة شهر‏.‏ القطر‏:‏ بكسر القاف، النحاس الذائب‏.‏ عين القطر‏:‏ معدن القطر‏.‏ يزغ‏:‏ ينحرف‏.‏ محاريب‏:‏ مفردها محراب‏:‏ المعبد، وكل بناء مرتفع‏.‏ وتماثيل‏:‏ مفردها تمثال، الصور المجسمة‏.‏ وجفان‏:‏ جمع جفنة، وهي القصعة التي يوضع فيها الطعام‏.‏ كالجوابي‏:‏ كالاحواض الكبيرة، مفردها جابية‏.‏ وقدروا راسيات‏:‏ قدور كبيرة ثابتة في مكانها لعِظمها‏.‏ اعملوا آل داود شكرا‏:‏ اعملوا يا آل داود عملا تشكرون به الله‏.‏ قضينا عليه الموت‏:‏ حكمنا عليه بالموت‏.‏ دابة الارض‏:‏ الأَرَضَة وهي حشرة تأكل الخشب‏.‏ منسأته‏:‏ عصاه‏.‏ خرّ‏:‏ سقط‏.‏ ما لبثوا في العذاب المهين‏:‏ ما مكثوا في العذاب الشاق المذل‏.‏

ولقد آتينا داود منّا فضلاً على سائر الناس في وقته، وهو النبوّة والزبورُ والملك والصوت الحسن، وقلنا للجبال رجِّعي معه التسبيح، كما مرنا الطيرَ بالتسبيح معه، وجعلنا الحديد ليِّناً بين يديه‏.‏ وفي عصر داودَ اكتشف الحديد‏.‏

وأوحينا اليه ان يعمل دروعا سابغات طويلة تامة، ثم امرناه ان يعمل هو وآله وكل من يلوذ بهأعمالا صالحة، ‏{‏إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏‏.‏

وسخّرنا لسليمان الريح، ذهابُها صباحاً مدة شهر ورجوعُها شهر، يرسلها الى حيث يشاء، وسهّلنا له إذابة معدن النحاس، وسخّرنا له الجنّ يعملون له ما يريد من شتى المصنوعات والقصورَ الشامخة، والمحاريب، والتماثيل، والجِفان الكبيرة التي تشبه الأحواض، والقدورَ الضخمة الثابتة لا تتحرك لعظمها‏.‏ ‏{‏اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور‏}‏‏.‏

روى الترمذي قال‏:‏ «صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فتلا هذه الآية ثم قال ثلاثٌ من أوتيهنّ فقد أوتيَ مثلَ ما أوتي آل داود‏:‏ العدْل في الرضا والغضب، والقصد والغنى، وخشية الله في السر والعلانية»

فلما حكمنا على سليمان بالموت لم يدلَّ الجن على موته الا دابةُ الأرض، إذا اكلت عصاه التي كان متكئاً عليها فسقط، فلما سقط علمت الجنُّ انه مات، وانهم لا يعلمون الغيب‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع‏:‏ منسأته بغير همزة‏.‏ والباقون‏:‏ منسأته بالهمزة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 21‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ‏(‏15‏)‏ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ‏(‏16‏)‏ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ‏(‏17‏)‏ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ ‏(‏18‏)‏ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏19‏)‏ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏20‏)‏ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

سبأ‏:‏ منطقة واسعة شرقي اليمن كان بها مملكة مدينتُها مأرب‏.‏ آية‏:‏ علامة‏.‏ جنتان‏:‏ بستانان‏.‏ سيل العرم‏:‏ سيل المطر الشديد، والعرم‏:‏ السد الذي يمسك الماء‏.‏ الأكُل‏:‏ الثمر، والرزق الواسع‏.‏ الخَمط‏:‏ المُر من كل شيء، ونوع من شجر الأراك‏.‏ الأثل‏:‏ الطفراء لا ثمر له‏.‏ السِدر‏:‏ شجر بري يحمل ثمراً يقال له النبق، يؤكل‏.‏ القرى التي باركنا فيها‏:‏ هي قرى بلاد الشام‏.‏ مزّقناهم كل ممزق‏:‏ فرقناهم في البلاد‏.‏ سلطان‏:‏ تسلُّط‏.‏

لقد كان لأهل سبأ في مسكنهم بالمين علامة دالة على قدرتنا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ كان لهم حديقتان واسعتان تحفّان ببلدهم عن اليمين والشمال، وقد أرسل الله اليهم الرسل تأمرهم ان يأكلوا من رزق ربهم ويشكروه على هذه النعم الجليلة، ففعلوا الى حين‏.‏ ثم إنهم اعرضوا، فعاقبهم الله بإرسال سيل العرِم عليهم، فهدم السدَّ وخرّبه وذهب بالجنتين والبساتين، واهلك الحرثَ والنسل، وبدلهم بجنتيهم المثمرتين بساتين فيها من الشجر البرّي الذي لا ثمر له، وشيئاً قليلاً من السدر يثمر النبق لا غناء فيه‏.‏

ذلك هو الجزاء الذي جازاهم اياه الله بكفرهم النعمة وعدم شكرها ‏{‏وَهَلْ نجزي إِلاَّ الكفور‏}‏‏.‏

كان سد مأرب من أعظم السدود التي تجمع المياء في المين، وكان يسقي مساحة كبيرة قرها المؤرخون والخبراء بنحو ثلاثمئة ميل مربع‏.‏

وكانت مدينة مأرب أغنى المدن القديمة في جنوب شبه الجزيرة العربية ومن أهم المراكز لحضارةٍ وثقافة قديمتين، يرجع تاريخهما الى ما قبل ثلاثة آلاف عام مضت‏.‏ وكانت محطةَ استراحة لرحلات طويلة لقوافل التصدير التي كانت تنقل المنتجاتِ الزراعيةَ والصناعية كالبخور واللبان والدارصيني والمُرَ والقرنفل والبلسم وسائر العطور، وكذا الصمغ والقرفة ثم الاحجار الكريمة، والمعادن‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وعلى مسافة كيلومترين الى الجنوب من مدينة مأرب يقول احد روائع الفن اليمني القديم وهو معبد «المقه»، ومعناه في لغة سبأ «الإله القمر»، ويطلق عليه المؤرخون‏:‏ عرش بلقيس‏.‏ وهو بناء ضخم على شكل مثلث لا يزال محتفظا برونقه الزاهي ومظهره المصقول، ويبلغ قُطره نحو الف قدم، ولا تزال بعض أعمدته قائمة حتى اليوم‏.‏

ولا تزال آثار السد باقيةً الى الآن، ويرجع تاريخ بنائه الى ما قبل 2700 عام، وقد بناه سبأ الأكبر حفيد جد العرب‏:‏ يعرب بن قحطان‏.‏ «ملخص عن اليمن عبر التاريخ»‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

وجعلنا بين مسكنهم بالمين والقرى التي باركنا فيها قرىً متقاربة متراصّة، وكانوا في نعمة وغبطة عيش هنيء في بلاد مرضيّة مع كثرة اشجارها وزروعها وخيراتها، حتى إن المسافر لا يحتاج الى حملِ زادٍ ولا ماء، حيث نَزَلَ وجَدَ ماء وثمرا، وقلنا لهم‏:‏

‏{‏سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ‏}‏ متمتعين بهذه النعم‏.‏

فبطروا وملّوا تلك النعم،

‏{‏فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وظلموا أَنفُسَهُمْ‏}‏

اذ عرّضوها للسخط والعذاب، بنكران النعمة وعدم الوفاء بشكرها، فجلعناهم احاديث للناس، وفرقناهم مشتتين في البلاد حتى صار يضرب بهم المثل فيقال‏:‏ «تفرّقوا أيدي سبأ» أي‏:‏ متفرقين كأهل سبأ، وأيدي‏:‏ تعني طُرقا، ومن معاني اليد‏:‏ الطريق‏.‏

ونزلت قبيلة غسان في حوران وأنشأت دولة الغساسنة، وكانت عاصمتهم بُصرى، وعدد ملوكهم 32 ملكا أولهم جفنة بن عمرو وآخرهم جَبَلَة بن الأيهم‏.‏ «اولاد جفنة بالزمان الأول»‏.‏ ونزلت قبيلة لَخْم في الحِيرة من ارض العراق واقامت دولة المناذرة‏.‏ ونزلت قبيلة كِندة في نجد، وبعضهم ذهب الى حضرموت، واسسوا دويلات اليمن عبر التاريخ‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏

ان فيما حلّ بهؤلاء من النعمة والعذاب عظاتٍ لكل صبّار على البلاء، شكور على النعم والعطاء‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين‏}‏

ولقد حقق ابليس ظنه عليهم فأطاعه من كفر، وعصاه قليل من المؤمنين‏.‏ فبقوا في بلادهم آمنين‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالآخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ‏}‏‏.‏

ما كان لإبليسَ عليهم من سلطاة وقوة يخضعهم بها، ولكن الله امتحنَهم ليَظْهَرَ من يصدّق بالآخرة ممن هو في شك منها، وربك ايها الرسول حفيظٌ على كل شيء، لا يعزُب عن علمه صغير ولا كبير‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابو عمر‏:‏ ذواتَي أكلِ خمطٍ بالاضافة‏.‏ الباقون‏:‏ ذواتي أكلٍ خمط بالتنوين‏.‏ قرأ حمزة ويعقوب والكسائي وحفص‏:‏ هل نجازي الا الكفورَ، نجازي بالنون، وبنصب الكفور‏.‏ والباقون‏:‏ هل يجازي الا الكفورُ، يجازى بالياء مبني للمجهور والكفور مرفوع‏.‏ وقرأ أبوعمرو وابن كثير وهشام‏:‏ ربنا بعّد بين اسفارنا، وقرأ يعقوب‏:‏ باعدَ فعل ماضي، والباقون‏:‏ باعدْ بين اسفارنا‏.‏ وقرأ اهل الكوفة‏:‏ ولقد صدّق ابليس‏:‏ بتشديد الدال المفتوحة، والباقون صدَق بفتح الدال من غير تشديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 30‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ‏(‏22‏)‏ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏23‏)‏ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏24‏)‏ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏25‏)‏ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ‏(‏26‏)‏ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏27‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏28‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏29‏)‏ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

ادعوا‏:‏ نادوا‏.‏ من شِرك‏:‏ من شركة‏.‏ من ظهير‏:‏ معين‏.‏ فزع عن قلوبهم‏:‏ ذهب الخوف من قلوبهم‏.‏ اجرمنا‏:‏ اذنبنا‏.‏ يفتح بيننا‏:‏ يحكم بيننا‏.‏ الفتّاح‏:‏ الحاكم‏.‏

قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين‏:‏ ادعوا هؤلاء الأصنام فليجلبوا إليكم نفعاً او يدفعوا عنكم ضرا، إنهم لا يملكون وزن ذرةٍ من الهباء في السموات ولا الارض، وما لهم فيهما من شِركة، وليس لله من هؤلاء الآلهة المزعومة من يعينه على تدبير شئون خلقه‏.‏

ولا تنفع الشفاعة عند الله الا لمن يأذَن له ان يشفع عنده، فالشفاعة مرهونةٌ بإذن الله، والله لا يأذن في الشفاعة في غير المؤمنين‏.‏

اما الذين جحدوا وأشركوا بالله فليسوا أهلاً لان يأذن بالشفاعة فيهم‏.‏

ثم بعد ذلك بيَّن المشهد الذي تقع فيه الشهادة فقال‏:‏

‏{‏حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق وَهُوَ العلي الكبير‏}‏‏.‏

وهذا يوم القيامة، اذ يقف الناس وينتظر الشفعاء والمشفعوع فيهم ان يأذن الله بالشفاعة لمن ينالون هذا المقام، حتى اذا ذهب الفزع عن قلوبهم قال بعضهم لبعض‏:‏ ماذا قال ربكم في الشفاعة‏؟‏ قالوا‏:‏ قالاو الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى، وهم المؤمنون‏.‏

‏{‏وَهُوَ العلي الكبير‏}‏ صاحب العلو والكبرياء، يأذن ويمنع من يشاء كما يشاء‏.‏

قل ايها النبي‏:‏ من يأتيكم برزقكم من السماء والأرض، فان قالوا‏:‏ لا ندري، قل لهم‏:‏ الله وحده هو الذي يرزق الجميع، وإنا معشرَ المؤمنين او أنتم معشر المشركين- لعلى أحدِ الأمرين من الهدى او الضلال الواضح المبين‏.‏

ثم قل لهم ايها الرسول‏:‏ إنكم لا تُسألون عما ارتكبناه من ذنوب، ونحن لا نُسأل عما تعملون‏.‏ وقل لهم‏:‏ الله يجمع بيننا وبينكم يوم القيامة ويقضي بيننا بالحق، وهو الحاكم في كل أمرٍ، العليم بحقيقة ما كان منا ومنكم، وهو خير الحاكمين‏.‏

وقل لهم ايها الرسول‏:‏ أروني هؤلاء الذي عبدتموهم وجعلتموهم شركاءَ مع الله وهم لا يستحقون‏!‏

‏{‏كَلاَّ بَلْ هُوَ الله العزيز الحكيم‏}‏

ليس الأمر كما وصفتم، فلا نظيرَ له تعالى والذين عبدتموهم لا يستحقون العبادة فهو ذو العزّة المنفر بها، والحكيم في تدبيره للأمور وتصريفه‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابو عمرو وحمزة والكسائي‏:‏ لمن أُذن له بضم الهمزة‏.‏ والباقون‏:‏ أَذن بفتح الهمزة‏.‏ وقرأ ابن عامر ويعقوب‏:‏ اذا فَزَع بفتح الفاء والزاي، والباقون‏:‏ اذا فُزع بضم الفاء وكسر الزاي‏.‏

‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً‏}‏

في هذه الآيات الكريمة يبيّن الله ان رسالة سيدنا محمد عامةٌ للناس أجمعين، جاء مبشراً من أطاع بالثواب العظيم، ومنذِرا من عصا بالعذاب الأليم‏.‏

‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏، وهذا الجهل يحملهم على الإصرار على ما هم فيه من الضلال‏.‏

‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏

تقدمت هذه الآية بالنص في سورة يونس 48‏.‏

قل لهم ايها الرسول‏:‏ لا تستعجِلوا، ان لكم ميعاد يوم عظيم، لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون‏.‏ وان هذا اليوم كائنٌ لا محالة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 33‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ‏(‏32‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

يرجع بعضهم الى بعض القولَ‏:‏ يتحاورون ويرد بعضهم على بعض‏.‏ أندادا‏:‏ نظراء، جمع ند‏.‏ يقال هو نده ونديده‏:‏ مماثل له‏.‏ وأسرّوا‏:‏ أخفوا‏.‏ الاغلال‏:‏ قيود الاعناق‏.‏

وقال المشركون‏:‏ لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالكتب التي سبقته‏.‏ ولو ترى ايها الرسول موقفَ هؤلاء الظالمين يوم القيامة، ففيه يتحاور المشركون ويكذّب بعضهم بعضا، ويتلاومون على ما كان بينهم‏.‏

يقول الأتباع لسادتِهم وكبرائهم‏:‏ لولا أنّكم صددتمونا عن الهدى لكنا مؤمنين بما جاء به الرسول‏.‏ فيرد عليهم الذين استكبروا في الدنيا وكانوا رؤوس الكفر والضلال‏:‏ أنحنُ منعناكم من اتّباع الحق‏!‏ بل انتم أجرمتم وآثرتم الكفر على الايمان‏.‏

ثم يقول المستضعَفون‏:‏ ما صدَّنا عن الإيمان الا مكركم ايها الرؤساء بالليل والنهار، اذ تأمروننا بالكفر بالله وان نجعل له شركاء وامثالاً‏.‏

وعند ذلك يندمون على ما عملوا ولا ينفعهم الندم ‏{‏وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ‏}‏، وهذا جزاء الظالمين الجاحدين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 42‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏34‏)‏ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏35‏)‏ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏36‏)‏ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ ‏(‏37‏)‏ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ‏(‏38‏)‏ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏39‏)‏ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ‏(‏40‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ‏(‏41‏)‏ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

مترفوها‏:‏ المتنعمون الذين أبطرتهم النعمة‏.‏ يبسط الرزق‏:‏ يوسعه‏.‏ ويقدر‏:‏ يضيق‏.‏ زُلفى‏:‏ قربى، زلف يزلف زلفا‏:‏ تقرب‏.‏ فأولئك لهم جزاء الضعفِ‏:‏ الجزاء المضاعف‏.‏ الغرفات‏:‏ جمع غرفة في أعالي الجنان‏.‏ معاجزين‏:‏ جمع معاجز وهو الذي يحاول تعجيز الانبياء‏.‏

يسلّي الله تعالى رسوله الكريم على ما ابتلي به من مخالفة مترفي قومه له، وعداوتهم إياه، بالتأسي بمن قبله من الرسل، فهو ليس بدعاً من بينهم، فما من نبيّ بُعث في مكان الا كذّبه المتنعمون واتَّبعه ضعفاؤهم‏.‏ وهو هنا يبيِّن حجتهم وتبجّحهم بقولهم إنهم لا حاجة لهم الى الايمان بالله، فما هم فيه من مال وما عندهم من اولاد برهانٌ على محبة الله لهم‏.‏ فيرد عليهم بأن بَسْطَ الرزق وتقتيره ليس دليلا على رضا الله او غضبه، وان ذلك مرتبط سننٍ قدّرها الله في هذه الحياة، فمن احسنَ استعمالها استفاد منها‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وأن كثرة الأموال والاولاد لا تقربهم الى الله اذا لم يؤمنوا، وان الذين آمنوا وعملوا الصالحات يضاعَفُ لهم الجزاء ويتمتّعون بغُرف الجنان، ‏{‏وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ‏}‏‏.‏ أما الذين يصدّون عن سبيل الله فإنهم ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الرازقين‏}‏‏.‏

ثم يحثّ المؤمنين على الانفاق وبذل المال واللهُ يخلُفه عليهم ويعوضهم بأكثر منه ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الرازقين‏}‏‏.‏

روى البخاري ومسلم عن ابي هريرة رضي الله عنه «ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال» ما من يومٍ يصبح العباد فيه الا مَلَكان ينزلان، فيقول احدهما‏:‏ اللهمّ أعطِ منِفقاً خَلَفا، ويقول الآخر اللهم أعطِ ممسِكاً تلفا «

ثم بين بعد ذلك كيف يسأل الله الملائكة يوم القيامة ويقول لهم‏:‏

‏{‏‏{‏أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ‏؟‏ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ‏}‏

فيتنصل الملائكة من ذلك ويقولون‏:‏ إننا برآء من عبادتهم والرضا بهم، بل كانوا يعبدون الجن وكانوا لتأثيرهم خاضعين‏.‏

ثم بين بعد ذلك أنهم لا ناصرَ لهم ولا ينفع بعضهم بعضا، إذ يقال للظالمين ‏{‏ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ‏}‏ في الدنيا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة وحده‏:‏ في الغرفة بالافراد، والباقون‏:‏ في الغرفات بالجمع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 50‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏43‏)‏ وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ‏(‏44‏)‏ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏45‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ‏(‏46‏)‏ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏47‏)‏ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏48‏)‏ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ‏(‏49‏)‏ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

تتلى‏:‏ تقرأ‏.‏ بينات‏:‏ واضحات‏.‏ يصدكم‏:‏ يمنعكم‏.‏ افك‏:‏ كذب، واختلاق‏.‏ معشار‏:‏ عشر‏.‏ نكيري‏:‏ انكاي‏.‏ مثنى‏:‏ اثنين اثنين‏.‏ فرادى‏:‏ واحدا واحدا‏.‏ ما بصاحبكم من جنة‏:‏ ليس صاحبكم مجنونا‏.‏ بين يدي عذاب‏:‏ امام عذاب‏.‏ يقذف بالحق‏:‏ يلقي بالحق‏.‏ ما يبتدئ الباطل‏:‏ ما يبتدئ الباطل‏.‏ وما يعيد‏:‏ وما يكرره‏.‏

بعد ان ذكر الله ان المشركين هم أهل النار يوم القيامة حيث قال لهم‏:‏ ذوقوا عذابها الذي كنتم به تكذّبون- أعقب ذلك بذكرِ ما لأجله استحقوا العذاب، وهو صدّهم الناس عن دعوة الرسول الكريم، وأنهم إذا قرأ الرسول عليهم آياتنا واضحات، قالوا‏:‏ هذا رجل يريد ان يمنعكم عبادة ما كان يعبد آباؤكم من الاصنام، فقولُه كذبٌ مفترى، وسحر مبين، وخِداع ظاهر، واننا لم نؤتهم كتبا قبل القرآن يدرسونها، وما ارسلنا اليهم قبلك من نذير‏.‏

‏{‏وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏‏.‏

لقد كذّب الرسلَ قبلكم كثير من الأمم، وكانوا اكثر منكم قوة ومالا، ولم تبلُغوا أيها المشركون معشار ما منحنا أولئك من القوة والمنعة، ومع ذلك أخذهم الله بظُلْمِهم وتمردهم، وأهلكهم أجمعين‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ‏}‏

قل لهم ايها الرسلو‏:‏ إنما أعظُكم بخصلة واحدة هي‏:‏ ان تقوموا مخلِصين لله بعيدين عن التقاليد والأهواء، وفكِّروا بجِدٍّ مجتمعين ومتفرقين بأن صاحبكم ليس مجنونا، وما هو الا نذير لكم أما عذابٍ شديد قادم عليكم‏.‏

وقل ايها الرسول‏:‏ ما سألتكم أجراً على هذه الرسالة التي أحملها اليكم لإصلاح أمركم، خذوا انتم الأجر، وما أجريَ الا على الله وهو كل شيء رقيب مطلع‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق عَلاَّمُ الغيوب‏}‏

قل ايها الرسول‏:‏ ان- الله يلقي بالحق على من يصطفيه، وهو يرمي بهذا الحق في وجه الباطل فيمحقه‏.‏ إنه هو علام الغيوب، لا يخفى عليه هدف، ولا تغيب عنه غاية‏.‏

‏{‏قُلْ جَآءَ الحق وَمَا يُبْدِئ الباطل وَمَا يُعِيدُ‏}‏

قل ايها لارسول‏:‏ لقد جاء هذا الحق في الرسالة والقرآن وفي منهجهما المستقيم، وقد انتهى أمرُ الباطل، وهلك الشِرك وما عادت له حياة ولم تبقَ منه بقية تبدي شيئاً او تعيده‏.‏

‏{‏قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ على نَفْسِي وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ‏}‏

قل ايها الرسول‏:‏ ان ضلَلتُ وانحرفت عن الهدى فإنما ضرر ذلك يعود على نفسي، وان اهتديتُ فبإرشاد ربي، وبوحيه وتوفيقه، غنه سميع لقولي وقولكم، قريبٌ مني ومنكم، والخير كله منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 54‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ‏(‏51‏)‏ وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

اذ فزعوا‏:‏ اذ خافوا‏.‏ فلا فوت‏:‏ فلا مهرب‏.‏ ويقذفون بالغيب‏:‏ ويرجّحون بالظنون‏.‏ أنى لهم التناوش‏:‏ من اين لهم التناول، يقال ناشه‏:‏ تناوله‏.‏ بأشياعهم‏:‏ بأشباههم وأمثالهم من كفرة الأمم‏.‏ مريبٍ‏:‏ مُوقعٍ في الريبة‏.‏

في ختام السورة يبين الله حالة الجاحدين وكيف يتولاهم الفزعُ والخوف الرهيب في ذلك اليوم العصيب‏.‏ ولو ترى ايها الرسول هؤلاء المكذّبين اذ تملّكهم الفزعُ يوم القيامة عندما يرون العذاب الشديد- لرأيتَ ما يعجز القول عن وصفه، فلا مهربَ لهم من العذاب، وأُخذوا الى النار من مكان قريب‏.‏

وقالوا عندما شاهدوا العذاب‏:‏ آمنا بالحق، لكنْ أنى لهم تناولُ الايمان بسهولة من مكان بعيد هو الدنيا، وقد خرجوا منها وانقضى وقتها‏!‏ لقد كفروا بالله ورسوله وملائكته من قبل‏.‏

‏{‏وَيَقْذِفُونَ بالغيب مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏

ذلك حين أنكروا هذا اليومَ، وكذّبوا بالبعث والنشور والحساب والجزاء، واليوم يحاولون تناول الايمان، وذلك بعيد عنهم‏.‏

‏{‏وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ‏}‏

فلا رجوعَ الى الدنيا، ولا ينفع يمانُهم، كما قال تعالى ايضا‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 84، 85‏]‏‏.‏

‏{‏كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مُّرِيبِ‏}‏

لقد كان لهم أِباهٌ ونظائر من الأمم السابقة، أعرضوا عن ربهم في الحياة الدنيا فتمنَّوا الرجوع الى الدنيا حين رأوا بأس الله‏:‏ لأنهم كانوا في حياتهم السابقة شاكّين فيما أخبرتْ به الرسلُ من البعث والجزاء‏.‏

وهكذا ختمت هذه السورة الكريمة بهذا العنف، وبتصويرٍ حيّ لمشهد من مشاهد القيامة، وعندها يظهر اليقينُ بعد الشك المريب‏.‏

سورة فاطر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

فاطر السموات والأرض‏:‏ خالقهما، فَطَرَ الشيءَ أوجده على غير مثال‏:‏ رسلا‏:‏ وسائط بينه وبين انبيائه يبلّغون عنه رسالاته‏.‏ مثنى وثلاث ورباع‏:‏ اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة اربعة، ما يفتح الله‏:‏ ما يعطي الله‏.‏ انى تؤفكون‏:‏ كيف تُصرفون عن توحيد الخالق، وعن الحق الى الضلال‏.‏

الثناء الجميل والشكر لله تعالى، منشئ هذا الكون وما فيه من خلائق على غير مثال سابق، جاعل الملائكة رسُلا الى خلقه، ذوي اجنحة متعددة مختلفة‏.‏ فهو ‏{‏يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ‏}‏ ان يزيدَ من الأعضاء، لا يعجزه شيء ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

ولأول مرة يأتي وصف للملائكة بأنهم أشكال، لهم اجنحة متعددة‏.‏ وليس هذا بغريب، فان بعض المخلوقات لها عدد من الأرجل والاشكال‏.‏ وفيما نشهده ونراه اشكال لا تحصى من الخلق، وما لا نعلم اكثرُ بكثيرٍ مما نعلم، ولا نعرف إلا القليل القليل عما هو موجود في هذا الكون‏:‏ ‏{‏وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الاسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏

وبعد ان يقرر الله تعالى انه على كل شيء قدير- يوضح هنا ان كل شيء في هذا الكون بيده، يتصرف فيه كيف يشاء، فحين يفتح الله أبواب رحمته للناس لا يستطيع أحدٌ إغلاقها، ومتى أَمسكها فلا احد يستطع فتحها، فمفاتيحُ الخير ومغاليقه كلها بيده سبحانه وتعالى، ‏{‏وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ صاحب العزة والسلطان والحكمة‏.‏

روى ابن المنذر عن عامر بن عبد القيس قال‏:‏ اربع يات من كتاب الله اذا قرأتُهن فما أبالي ما أُصبح عليه وأمسي‏:‏

1- ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل لها من بعده‏.‏

2- وان يمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو، وإن يردْك بخير فلا رادّ لفضله‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ يونس‏:‏ 107

3- سيجعل اللهُ بعد عسرٍ يسراً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الطلاق 7‏.‏

4- وما من دابةٍ في الأرض الا على الله رزقها‏.‏‏.‏‏.‏ هود 6

وهذا يعني ان عامر بن عبد القيس كان يقرأ هذه الآيات ويستأنس بها ويعمل بها‏.‏

ثم يؤكد الله تعالى في الآية الثالثة أنه الخالقُ الوحيد الذي يرزق عبادَه من السماء والارض، وانه لا اله الا هو، لذلك يجب على الناس جميعاً ان يذكروا نعمة الله عليهم ويحمدوه ويشكروه، ليحفظوا هذه النعم ويؤدوا حقها‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ هل من خالق غير الله بجرّ غيرِ، والباقون‏:‏ غير بالرفع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 8‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏4‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏7‏)‏ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

الغرور‏:‏ بفتح الغين‏:‏ الشيطان، وقد فسره في الآية التي بعدها‏.‏ السعير‏:‏ نار جهنم‏.‏

بعد ان قرر الله التوحيدَ وهو أصلُ الأصول في الايمان- ذكر هنا الأصلَ الثاني وهو الرسالة، وسلّى رسوله الكريم عن تكذيب قومه له بأنه ليس ببدعٍ بين الرسل، فقد كُذِّب كثيرٌ منهم قبله، فعليه ان يتأسّى بهم ويصبر على أذى قومه، والى الله مرجعُ الجميع‏.‏

ثم ذكر الأصل الثالث وهو البعثُ والنشور، وانه حق لا شك فيه‏.‏‏.‏‏.‏ فلا تغرَّنكم الحياة الدنيا، فيذهلكم التمتعُ بها وبزخرفها عن طلب الآخرة، ولا يخدعنّكم الشيطان عن اتّباع الرسول، ان الشيطان لكم عدوٌّ قديم فلا تنخدعوا بوعوده، واحذروا منه واتخذوه عدوا حقيقيا‏.‏

‏{‏الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏

الذين كفروا من أتباعِ الشيطان واغتروا به هم أصحابُ النار، يقابلهم الذين آمنوا فلم ينخدعوا باقوال الشيطان، بل آمنوا بالله وعزّروا إيمانهم بالعمل الصالح‏.‏‏.‏‏.‏ وهؤلاء اصحاب الجنة ‏{‏لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏ من الله‏.‏

ثم بيّن البعدَ بين الفريقين‏:‏ الضالين والمهتدين، واختلاف حالهم فقال‏:‏

‏{‏أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً‏}‏

أفمن زين له الشيطان عمله السيّء فرآه حسنا هو في الواقع كمن هداه الله فرأى الحسنَ حسنا والسيء سيئا‏؟‏ انهما لا يستويان أبدا‏.‏

‏{‏فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ‏}‏

يضلّ من يشاء من الجاحدين الذين ارتضوا سبيل الضلال، ويهدي من يشاء ممن اختاروا سبيل الهداية‏.‏

ثم يخاطب الرسولَ الكريم حتى يسليه فيقول‏:‏

‏{‏فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ‏}‏

فلا تُهلك نفسَك حزناً على الضالين الذين لم يؤمنوا وحسرةً عليهم، ان الله محيط علمه بما يصنعون من شر فيجزيهم به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ‏(‏9‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ‏(‏10‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

ارسل الرياح‏:‏ أطلقها‏.‏ تثير‏:‏ تحرك‏.‏ بلد ميت‏:‏ لا نبات فيه‏.‏ النشور‏:‏ إحياء الاموات يوم القيامة‏.‏ العزة‏:‏ الشرف والمنعة‏.‏ يبور‏:‏ يفسد ويهلك من البوار وهو الهلاك‏.‏ ازواجا‏:‏ اصنافا، ذكورا واناثا‏.‏ يعمّر‏:‏ يمد في عمره‏:‏ طال عمره‏.‏

الله الذي يرسل الرياحَ فتحرّك سحاباً كان ساكنا، فيسوقه الى بلدٍ ميتٍ لا نبات فيه، فيحيي به أرضَها بعد جدْبها ويبسها، كذلك يحيي الامواتَ ويبعثهم للحشر يوم القيامة‏.‏

من كان يريد الشرف والمَنَعة فإنهما لله جميعا يَهبُهما لمن يطيعه، إليه يرتفع الكلام الطّيب والعملُ الصالح فيقبلهما ويثيب عليهما، وللذين يمكرون ويدبّرون المكائد للمؤمنين عذابٌ شديد، أما تدبيرهم ومكرهم فهو فاسد لا قيمة له ولا يحقق غرضاً‏.‏

والله تعالى خلقكم ايها البشَر من تراب، ثم خَلَقَكم من نطفة هي الماء الذي يصبّ في الأرحام، ثم جعلكم ذكوراً واناثا‏.‏ وما تحمل انثى ولا تضع حَملها الا بعلمه تعالى، وما يمد في عمرِ أحدٍ ولا ينقص من عمره الا مسجَّلٌ في كتاب، ومقرر في علم الله القديم‏.‏

‏{‏إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير والكسائي‏:‏ الريح بالافراد‏.‏ والباقون‏:‏ الرياح بالجمع‏.‏ وقرأ نافع وحمزة اولكسائي وحفص‏:‏ الى بلد ميّت بتشديد الياء‏.‏ والباقون ميت بسكون الياء‏.‏ وقرأ يعقوب وحده‏:‏ ولا ينقص بفتح الياء‏.‏ وضم القاف‏.‏ والباقون‏:‏ ولا ينقص بضم الياء وفتح القاف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 18‏]‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ‏(‏13‏)‏ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ‏(‏14‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏15‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

العذب‏:‏ الطيب السائغ من الماء والشرب والطعام والكلام‏.‏ الفرات‏:‏ الوافر والشديد العذوبة‏.‏ سائغ‏:‏ سهل المرور في الحلق‏.‏ أُجاج‏:‏ شديد الملوحة‏.‏ حلية‏:‏ كل ما يتحلى به الانسان من لؤلؤ ومرجان وغير ذلك‏.‏ مواخر‏:‏ جمع ماخرة تشق الماء حين جريانها‏.‏ يولج‏:‏ يدخل‏.‏ القطمير‏:‏ القشرة الرقيقة التي على نواة التمرة‏.‏ يكفرون بشرككم‏:‏ يجحدون باشراككم وعبادتكم لهم‏.‏ ولا ينبئك مثل خبير‏:‏ ولا يخبرك بالأمر مثل الخيبر به‏.‏ ولا تزر وازرة وزر اخرى‏:‏ لا تحمل نفس آثمة اثم نفس اخرى، يعني لا يحمل احد ذنب الآخر، الوزر‏:‏ الذنب‏.‏ المثقلة‏:‏ النفس التي أثقلتها الذنوب‏.‏ تزكى‏:‏ تطهر من دنس الأوزار‏.‏

وما يستوي البحران‏:‏ أحدُهما ماؤه عذْب شرابه سائغ يجري في الانهار المفيدة للناس فيحي الاقاليم والامصار، والثاني مالح ساكن تسير فيه السفن‏.‏ ومن كلٍ منها تأكلون السمك الطري فضلا من الله، كما تستخرجون حلياً، كالدرّ والأصداف والمرجان وغيرها، وتجري السفن في كل منهما تشقه شقا لتطلبوا من فضل الله ما تحصلونه بالتجارة‏.‏ ولعلّكم تشكرون لربكم هذه النعم‏.‏

إنه يُدخل الليلَ في النهار ويدخلُ النهارَ في الليل، وسخَّر الشمس والقمر كلٌّ يجري الى موعدٍ مقرر‏.‏ والذي يصنع هذا كلَّه هو الله ربكم، له الملك التام والسلطان الملطق، أما لاذين تعبدونهم من الأصنام والأوثان فإنهم لا يملكون شيئا مهما كان صغيرا تافها‏.‏

وهذه الآلهة لا يسمعون ولا ينفعون ولا يضرّون، وان تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم، ولو سمعوا دعاءَكم ما أجابوكم بشيء مما تطلبون‏.‏ وهم ينكرون اشراككم لهم مع الله يوم القيامة‏.‏

‏{‏وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ‏}‏

ولا يخبرك الحقيقة الا الخبير العليم، الله تعالى‏:‏

يا ايها الناس‏:‏ انتم الفقراء المحتاجون إلى الله في كل شيء والله هو الغني عن خلقه المستحق للحمد على كل حال‏.‏

والله إن شاءَ يهلككم ويأتي بخلْقٍ جديد يطيعونه ويؤمنون به، وليس هذا على الله بمستحيل‏.‏

ثم أخبرَ عن أحوال يوم القيامة فقال‏:‏

‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏

في ذلك اليوم العصيب يكون كلُّ انسان مسئولا عن اعماله وعن نفسه، فلا تحمل نفسٌ مذنبةٌ ذَنْبَ نفس اخرى‏.‏

وان تسأل نفسٌ ذاتُ حَملٍ ثقيل أحداً أن يحمل عنها بعض ذنوبها لن تجد من يجيبها أو يحمل عنها شيئا، وذلك لانشغال كل انسان بنفسه‏.‏ ‏{‏لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 37‏]‏ ثم سلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدم قبولهم دعوتَه وإصرارهم على عنادهم فقال‏:‏

‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَأَقَامُواْ الصلاة وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله المصير‏}‏

لا تحزن ايها النبي لعنادِ قومك، انماينفع تحذيرُك الذين يخافون ربهم ويقيمون الصلاة، ومن تطهَّرَ فانما يتطهر لنفسه، والى الله المرجع في النهاية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 28‏]‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ‏(‏19‏)‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ‏(‏20‏)‏ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ‏(‏21‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏22‏)‏ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ‏(‏23‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ‏(‏24‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏26‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ‏(‏27‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

استوى هذا وذاك‏:‏ تساويا‏.‏ الظل‏:‏ الفيء جمعه ظلال‏.‏ الحرور‏:‏ الريح الحارة، السموم‏.‏ خلا‏:‏ سلف ومضى‏.‏ الزُّبُر‏:‏ مفردها زبور‏:‏ الكتب‏.‏ نكيري‏:‏ انكاري لعملهم‏.‏ جدد‏:‏ واحدها جدة، وهي الطرق المختلفة الألوان في الجبل ونحوه‏.‏ غرابيب‏:‏ واحدها غربيب وهو شديد السواد‏.‏

ليس يتساوى الأعمى الذي لا يهتدي والبصيرُ الذي آمن واهتدى، ولا ظلمات الكفر مع نور الايمان، وما يستوي أحياءُ القلوب بالإيمان بالله ورسوله مع أمواتِ القلوب بالكفر والعناد‏.‏ ‏{‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا‏؟‏‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 126‏]‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ‏}‏ ان الهداية والتوفيق بيده سبحانه‏.‏ ‏{‏وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور‏}‏ جعل الله المشركين كالأموات الذين في القبور لا يسمعون‏.‏ وما انت ايها لرسول الا نذير تبلّغ وتنذر‏.‏

إنا أرسلناك أيها الرسول بالإيمان بي وحدي مبشراً بالجنة من صدَّقك، ومنذرا بالعقاب من كذَّبك، وما من أمة من الأمم الماضية الا جاءها من عند الله من ينذرها‏.‏ وإن يكذَّبْك قومك فقد كذّب الذين من قبلهم رسُلهم حين ‏{‏جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير‏}‏‏.‏

ثم أخذتُ الذين كفروا أخذاً شديدا، فانظر كيف كان إنكاري لعملهم وغضبي عليهم‏!‏‏!‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا‏}‏

الم تشاهد أيها الرائي أنا خلقنا الاشياءَ المختلفة من الشيء الواحد، فأنزلنا من السماءِ ماءً وأخرجنا به ثمراتٍ مختلفةً ألوانُها وطعمها ورائحتها‏.‏

‏{‏وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ‏}‏

وخلق في الجبال طرقاً بيضاً وحمرا وذات الوان اخرى، وجعل منها جبالاً سودا حالكة‏.‏

هذا كما خلق من الناس والدوابّ والإبل والبقر والغنم الواناً مختلفة كذلك في الشكل والحجم واللون‏.‏

ولم عدّد الله آياتِه وأعلامَ قدرته وآثارَ صنعه بيّن انه لا يعرف ذلك حقَّ المعفرة الا العلماءُ بأسرار الكون، العالمون بدقائق صنعه، فهم الذين يخشون ربهم حقَّ الخشية‏:‏

‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 35‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ‏(‏29‏)‏ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏30‏)‏ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏31‏)‏ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏32‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏33‏)‏ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ‏(‏35‏)‏‏}‏

يتلون كتاب الله‏:‏ يقرأونه ويتّبعونه‏.‏ يرجون تجارةً لن تبور‏:‏ مغفرة من الله لن تكسد‏.‏ الكتاب‏:‏ القرآن‏.‏ مقتصد‏:‏ عاملٌ به تارةً ومخالف له اخرى‏.‏ سابق‏:‏ متقدم الى ثواب الله‏.‏ جنات عدْن‏:‏ جنات الاقامة‏.‏ أذهَبَ عنا الحزن‏:‏ الخوف‏.‏ دار المقام‏:‏ دار الاقامة، دار الخلود، وهي الجنة‏.‏ النصَب‏:‏ التعب‏.‏ اللغوب‏:‏ الفتور والكلال‏.‏

ان الذين يقرأون كتاب الله، فيعملون به، قد أقاموا الصلاة على وجهها، وانفقوا مما رزقناهم على المحتاجين والمصالح العامة وفي سبيل الله، سرا وجهرا يتاجرون تجارة رابحة عند الله لا تكسد، وسيوفّيهم الله أجورهم ويزيدهم من فضله ‏{‏إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ‏}‏‏.‏

ثم اشار الى طبيعة الكتاب، وما فيه من الحق، تمهيداً للحديث عن ورثة هذا الكتاب‏:‏

‏{‏والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب هُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ أي لما سبقه في العصور من الكتب المنزلة على الرسل قبلك، أنها من نبع واحد، ‏{‏إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ‏}‏‏.‏

ثم جعلْنا هذا الكتابَ ميرثاً للذين اخترناهم من عبادنا، فكانوا فئات ثلاثاً‏:‏ فمنهم ظالمٌ لنفسه بغَلَبة سيئاته على حسناته، ومنه مقتصد لم يسرف في السيئات ولم يكثر من الحسنات، ومنهم سابقٌ بالخيرات بإذن الله‏.‏

‏{‏ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير‏}‏ ذلك الميراث والاصطفاء فضل عظيم من الله لا يقدَّر قدره‏.‏

ثم بين جزاءهم ومآلهم بقوله‏:‏ ‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ‏}‏‏.‏

ويقولون عند دخولهم الجنة‏:‏ الحمدُ لله الذي أذهبَ عنا الخوفَ من كل ما نحذر‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ‏}‏ أنزَلَنا دار النعيم الدائم من فضله لا يصيبنا فيه تعبٌ ولا يمسّنا فيها إعياءٌ ولا فتور‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابو عمرو‏:‏ يدخَلونها بضم الياء وفتح الخاء، والباقون يدخلونها بفتح الياء وضم الخاء‏.‏